الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **
{ وما تلك بيمينك يا موسى . قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى . قال ألقها يا موسى . فألقاها فإذا هي حية تسعى . قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى } هذا برهان من اللّه تعالى لموسى عليه السلام، ومعجزة عظيمة وخرق للعادة باهر دال على أنه لا يقدر على مثل هذا إلا اللّه عزَّ وجلَّ، وأنه لا يأتي به إلا نبي مرسل، وقوله: {وما تلك بيمينك يا موسى} قال بعض المفسرين إنما قال له ذلك على سبيل الإيناس له؛ وقيل وإنما قال له ذلك على وجه التقرير، أي أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها؟ فسترى ما نصنع بها الآن، {وما تلك بيمينك يا موسى}؟ استفهام تقرير، {قال هي عصاي أتوكأ عليها} أي اعتمد عليها، في حال المشي، {وأهش بها على غنمي} أي أهز بها الشجرة ليتساقط ورقها لترعاه غنمي، قال الإمام مالك: الهش أن يضع الرجل المحجن في الغصن ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره ولا يكسر العود، فهذا الهش ولا يخبط، وقوله: {ولي فيها مآرب أخرى} أي مصالح ومنافع وحاجات أُخر غير ذلك. وقوله تعالى: {ألقها يا موسى} أي هذه العصا التي في يدك يا موسى ألقها، {فألقاها فإذا هي حية تسعى} أي صارت في الحال حية عظيمة، ثعباناً طويلاً يتحرك حركة سريعة، فإذا هي تهتز كأنها جان، وهو أسرع الحيات حركة، ولكنه صغير، فهذه في غاية الكبر، وفي غاية سرعة الحركة، {تسعى} أي تمشي وتضطرب. عن ابن عباس {فألقاها فإذا هي حية تسعى}، ولم تكن قبل ذلك حية، فمرت بشجرة فأكلتها، ومرت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها، فولى مدبراً، ونودي أن يا موسى خذها، ثم نودي الثانية أن خذها ولا تخف، فقيل له في الثالثة إنك من الآمنين، فأخذها. وقال وهب بن منبه: ألقاها على وجه الأرض، ثم حانت منه نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون، يدب يلتمس كأنه يبتغي شيئاً يريد أخذه، يمر بالصخرة فيلتقمها، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها، عيناه تتقدان ناراً، وقد عاد المحجن منها عرفاً، فلما عاين ذلك موسى ولَّى مدبراً ولم يعقب، فذهب حتى أمعن، ورأى أنه قد أعجز الحية، ثم ذكر به فوقف استحياء منه، ثم نودي يا موسى أن ارجع حيث كنت، فرجع موسى وهو شديد الخوف، فقال {خذها} بيمينك {ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى}، وعلى موسى حينئذ مدرعة من صوف، فدخلها بخلال من عيدان، فلما أمره بأخذها لف طرف المدرعة على يده، ثم وضعها على فم الحية حتى سمع حس الأضراس والأنياب، ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها، إذا توكأ بين الشعبتين ولهذا قال تعالى: {سنعيدها سيرتها الأولى} أي إلى حالها التي تعرف قبل ذلك. { واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى . لنريك من آياتنا الكبرى . اذهب إلى فرعون إنه طغى . قال رب اشرح لي صدري . ويسر لي أمري . واحلل عقدة من لساني . يفقهوا قولي . واجعل لي وزيرا من أهلي . هارون أخي . اشدد به أزري . وأشركه في أمري . كي نسبحك كثيرا . ونذكرك كثيرا . إنك كنت بنا بصيرا } وهذا برهان ثان لموسى عليه السلام، وهو أن اللّه أمره أن يدخل يده في جيبه، كما صرح به في الآية الأخرى. وههنا عبر عن ذلك بقوله: {واضمم يدك إلى جناحك}، وقال في مكان آخر: {قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري} هذا سؤال من موسى عليه السلام لربه عزّ وجلّ، أن يشرح له صدره فيما بعثه به، فإنه قد أمره بأمر عظيم، وخطب جسيم، بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك، وأجبرهم وأشدهم كفراً وأكثرهم جنوداً، وأبلغهم تمرداً، هذا وقد مكث موسى في داره مدة وليداً عندهم في حجر فرعون على فراشه، ثم قتل منهم نفساً فخافهم أن يقتلوه فهرب منهم، هذه المدة بكمالها، ثم بعد هذا بعثه ربه عزَّ وجلَّ إليهم نذيراً يدعوهم إلى اللّه عزَّ وجلَّ أن يعبدوه وحده لا شريك له، ولهذا قال: {رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري} أي إن لم تكن أنت عوني ونصيري وعضدي وظهيري وإلا فلا طاقة لي بذلك {واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي}. وما سأل أن يزول ذلك بالكلية، بل بحيث يزول العي ويحصل لهم فهم ما يريد منه، وهو قدر الحاجة، ولو سأل الجميع لزال ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة، ولهذا بقيت. قال اللّه تعالى إخباراً عن فرعون أنه قال ولو سأل أكثر من ذلك أعطي، وقال ابن عباس: شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل، وعقدة لسانه فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون، يكون له ردءاً ويتكلم عنه بكثير مما يفصح به لسانه، فآتاه سؤله، فحل عقدة من لسانه. وقوله تعالى: {واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي}، وهذا أيضاً سؤال من موسى عليه السلام في أمر خارجي عنه، وهو مساعدة أخيه هارون له، { قال قد أوتيت سؤلك يا موسى . ولقد مننا عليك مرة أخرى . إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى . أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني . إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا } هذه إجابة من اللّه لرسوله موسى عليه السلام، فيما سأل من ربه عزّ وجلّ، وتذكير له بنعمه السالفة عليه، فيما كان من أمر أمه، حين كانت ترضعه وتحذر عليه، من فرعون وملئه أن يقتلوه، حيث كانوا يقتلون الغلمان من بني إسرائيل حذراً من وجود موسى، فحكم اللّه - وله السلطان العظيم والقدرة التامة - أن لا يربى إلا على فراش فرعون ويغذى بطعامه وشرابه، مع محبته وزوجته له، ولهذا قال تعالى: {يأخذه عدو لي وعدو له * وألقيت عليك محبة مني} أي عدوك جعلته يحبك، قال سلمة بن كهبل {وألقيت عليك محبة مني} قال: حببتك إلى عبادي، {ولتصنع على عيني}: تربى بعين اللّه، وقال قتادة: تغذى على عيني، وقال ابن أسلم: يعني أجعله في بيت الملك ينعم ويترف، وغذاؤه عندهم غذاء الملك، فتلك الصنعة. وقوله: {إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها}، وذلك أنه لما استقر عند آل فرعون، وعرضوا عليه المراضع فأباها، قال اللّه تعالى: حديث الفتون : روى الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي في سننه، فأوحى اللّه إليها أن لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين، فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم، فلما ولدت فعلت ذلك، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان، فقالت في نفسها: ما فعلت يا بني لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إليَّ من أن
ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه، فانتهى الماء به حتى أوفى به عند مرفعه مستقى جواري امرأة فرعون، فلما رأينه أخذته فأردن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهن إن في هذا مالاً، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امراة الملك بما وجدنا فيه، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئاً، حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه غلاماً، فألقى اللّه عليه منها محبة لم يلق على أحد قط، وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جبير. فقالت لهم: أقرّوه فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل، حتى آتي فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم، فأتت فرعون فقالت: قرة عين لي ولك، فقال فرعون: يكون لك فأما لي فلا حاجة لي فيه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (والذي يُحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه اللّه كما هداها، ولكن حرمه ذلك). فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها، لأن تختار له ظئراً، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس، ترجو أن تجد له ظئراً تأخذه منها، فلم يقبل، واصبحت أم موسى والهاً فقالت لأخته: قصي أثره واطلبيه، هل تسمعين له ذكراً، حي ابني أم قد أكلته الدواب؟ ونسيت ما كان اللّه وعدها فيه، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون، والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد، وهو إلى جنبه، وهو لا يشعر به، فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤرات: أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فأخذوها فقالوا: وما يدرك نصحهم له، هل تعرفينه؟ حتى شكوا في ذلك، وذلك من الفتون يا ابن جبير.
فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه ورغبتهم في صهر الملك، ورجاء منفعة الملك، فتركوها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها، فمصه حتى امتلأ جنباه رياً، وانطلق البشير إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئراً، فأرسلت إليها فأتت بها وبه، فلما رأت ما يصنع بها، قالت: امكثي ترضعي ابني هذا، فإني لم أحب شيئاً حبه قط، قالت أم موسى: لا أستطيع أن أجع بيتي وولدي فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيراً، فإني غير تاركة بيتي وولدي، وذكرت أم موسى ما كان اللّه وعدها فيه، فتعاسرت على امرأة فرعون، وايقنت أن اللّه منجز وعده، فرجعت به إلى بيتها من يومها، وأنبته اللّه نباتاً حسناً، وحفظه لما قد قضى فيه. فلم يزل بنو إسرائيل، وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم وما كان فيهم.
فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أزيريني ابني، فوعدتها يوماً تزيرها إياه فيه، وقالت امرأة فرعون لخزانها وظؤرها وقهارمتها: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة، لأرى ذلك، وأنا باعثة أميناً يحصي ما يصنع كل إنسان منكم، فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها
بجلته وأكرمته وفرحت به، ونحلت أمه لحسن أثرها عليه، ثم قالت: لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه، فلما دخلت به عليه جعله في حجره، فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض، فقال الغواة من أعداء اللّه لفرعون: ألا ترى ما وعد اللّه إبراهيم نبيه أنه زعم أن يرثك ويعلوك ويصرعك، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جبير. بعد كل بلاء ابتلي به، وأريد به فتوناً، فجاءت امرأة فرعون فقالت: ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي؟ فقال: ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني، فقالت: اجعل بيني وبينك أمراً يعرف الحق به، ائت بجمرتين ولؤلؤتين، فقدمهن إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين علمت أن أحداً لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين، وهو يعقل، فقرب إليه الجمرتين واللؤلؤتين فتناول الجمرتين، فاتنزعهما منه مخافة أن يحرقا يده، فقالت المرأة: ألا ترى؟ فصرفه اللّه عنه بعد ما كان قد هم به، وكان اللّه بالغاً فيه أمره.
فلما بلغ أشده، وكان من الرجال، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع، فبينما كان موسى عليه السلام يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان، أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فغضب موسى غضباً شديداً لأنه تناوله، وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل وحفظه لهم، لا يعلم الناس إلا إنما ذلك من الرضاع، إلا أم موسى، إلا أن يكون اللّه أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره، فوكز موسى الفرعوني فقتله، وليس يراهما أحد إلا اللّه عزَّ وجلَّ والإسرائيلي، فقال موسى حين قتل الرجل: هذا من عمل الشيطان إنه عدّو مضل مبين، ثم قال: فخرج موسى متوجهاً نحو مدين لم يلق بلاء قبل ذلك، وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه عزَّ وجلَّ، فإنه قال: فاما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص اللّه عليك في القرآن، فشكا إلى اللّه تعالى ما يحذر من آل فرعون في القتل، وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءاً يتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فآتاه اللّه سؤله وحل عقدة من لسانه، وأوحى اللّه إلى هارون وأمره أن يلقاه، فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليه السلام، فانطلقا جميعاً إلى فرعون فأقاما على بابه حيناً لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد، فقالا: قال سعيد بن جبير: فحدثني ابن عباس: أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر اللّه فيه موسى على فرعون والسحرة هو يوم عاشوراء. فلما اجتمعوا في صعيد واحد، قال الناس بعضهم لبعض: انطلقوا فلنحضر لهذا الأمر فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة، كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا مضت أخلف موعده، وقال: هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل اللّه على قومه: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، آيات مفصلات، كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كف ذلك عنه أخلف موعده ونكث عهده، حتى أمر اللّه موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلاً، فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة، وأوحى اللّه إلى البحر إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه، ثم التقي على من بقي بعد من فرعون وأشياعه، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى إلى البحر وله قصيف، مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصياً للّه. فلما تراءى الجمعان وتقاربا، قال أصحاب موسى: إنا لمدركون، افعل ما أمرك به ربك فإنه لم يكذب ولم تكذب. قال وعدني ربي إذا أتيت البحر انفلق اثنتي عشرة فرقة، حتى أجاوزه، ثم ذكر بعد ذلك العصا، فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى، فانفرق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى، فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم البحر ودخل فرعون وأصحابه، التقى عليهم البحر كما أمر؛ فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه، فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه.
ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم ومضى فأنزلهم موسى منزلاً، وقال: أطيعوا هارون فإني قد استخلفته عليكم فإني ذاهب إلى ربي، وأجلهم ثلاثين يوماً أن يرجع إليهم فيها، فلما أتى ربه وأراد أن يكلمه ثلاثين يوماً وقد صامهن ليلهن ونهارهن، وكره أن يكلم ربه وريح فيه، ريح فم الصائم، فتناول موسى من نبات الأرض شيئاً فمضغه، فقال له ربه حين أتاه: لم أفطرت؟ وهو أعلم بالذي كان! قال: يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح، قال: أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، ارجع فصم عشراً. ثم ائتني. ففعل موسى عليه السلام ما أمر به، فلما رأى قومه أنه لم يرجع إليهم في الأجل سائهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم، وقال: إنكم قد خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عوار وودائع ولكم فيهم مثل ذلك، فإني أرى أنكم تحتسبون ما لكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية، ولسنا برادين إليهم شيئاً من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا، فحفر حفيراً وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلي أن يقذفوه في ذلك الحفير، ثم أوقد عليه النار فأحرقته، فقال: لا يكون لنا ولا لهم. وكان السامري من قوم يعبدون البقر، جيران لبني إسرائيل، ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا. فقضي له أن رأى أثراً فقبض منه قبضة فمر بهارون، فقال له هارون عليه السلام: يا سامري إلا تلقي ما في يدك وهو قابض عليه لا يراه أحد طول ذلك، فقال: هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، لا ألقيها لشيء إلا أن تدعو اللّه إذا ألقيتها أن يجعلها ما أريد، فألقاها ودعا له هارون، فقال: أريد أن يكون عجلاً، فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد، فصار عجلاً أجوف ليس فيه روح وله خوار! قال ابن عباس: لا واللّه ما كان له صوت قط إنما كانت الريح تدخل في دبره وتخرج من فيه، وكان ذلك الصوت من ذلك، فتفرق بنو إسرائيل فرقاً، فقالت فرقة: يا سامري ما هذا وأنت أعلم به؟ قال هذا ربكم، ولكن موسى أضل الطريق، فقالت فرقة: لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأينا، وإن لم يكن ربنا، فإنا نتبع قول موسى، وقالت فرقة: هذا من عمل الشيطان، وليس بربنا، ولا نؤمن ولا نصدق، واشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل، وأعلنوا التكذيب به، فقال لهم هارون: فلما كلم اللّه موسى وقال له ما قال، أخبره بما لقي قومه من بعده، ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجهاً نحو الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمرهم به أن يبلغهم من الوظائف. فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها، فنتق اللّه عليهم الجبل كأنه ظلة ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم، فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون، ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم، ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون، خلقهم خلق منكر، وذكروا من ثمارهم أمراً عجيباً من عظمها، فقالوا: يا موسى! إن فيها قوماً جبارين لا طاقة لنا بهم ولا ندخلها ما داموا فيها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون، قال رجلان من الذين يخافون: قيل ليزيد هكذا قرأت؟ قال: نعم من الجبارين آمنا بموسى، وخرجا إليه، قالوا: نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما
تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم، فادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون. ويقول أناس: إنهم من قوم موسى، فقال الذين يخافون بني إسرائيل: { فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى . واصطنعتك لنفسي . اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري . اذهبا إلى فرعون إنه طغى . فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } يقول تعالى مخاطباً لموسى عليه السلام: إنه لبث مقيماً في أهل مدين فاراً من فرعون وملئه، يرعى على صهره حتى انتهت المدة وانقضى الأجل، ثم جاء موافقاً لقدر اللّه وإرادته من غير ميعاد، والأمر كله للّه تبارك وتعالى، وهو المسيّر عباده وخلقه فيما يشاء، ولهذا قال: {ثم جئت على قدر يا موسى} قال مجاهد: أي على موعد، وقال قتادة: على قدر الرسالة والنبوة، وقوله: {واصطنعتك لنفسي} أي اصطفيتك واجتبيتك رسولاً لنفسي، أي كما أريد وأشاء، روى البخاري عند تفسيرها عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: فرعون في غاية العتو والاسكتبار، وموسى صفوة اللّه من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين، وعن الحسن البصري {فقولا له قولا لينا} أعذرا إليه، قولا له: إن لك رباً ولك معاداً، وإن بين يديك جنة وناراً، والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق، لين سهل رفيق، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع، كما قال تعالى: { قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى . قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى . فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى . إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى } يقول تعالى إخباراً عن موسى وهارون عليهما السلام: أنهما قالا مستجيرين باللّه تعالى شاكيين إليه {إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} يعنيان أن يبدر إليهما بعقوبة، أو يعتدي عليهما فيعاقبهما وهما لا يستحقان منه ذلك، قال عبد الرحمن بن زيد {أن يفرط} يعجل، وقال مجاهد: يسلط علينا، وقال ابن عباس {أو أن يطغى} يعتدي {قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} أي لا تخافا منه فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه، وأرى مكانكما ومكانه، لا يخفى عليّ من أمركم شيء، واعلما أن ناصيته بيدي فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش إلا بإذني، وأنا معكم بحفظي ونصري، وتأييدي. {فأتياه فقولا إنا رسولا ربك} قد تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس، أنه قال: مكثا على بابه حيناً لا يؤذن لهما، حتى أذن لهما بعد حجاب شديد. وقوله: {قد جئناك بآية من ربك} أي بدلالة ومعجزة من ربك، {والسلام على من اتبع الهدى} أي والسلام عليك إن اتبعت الهدى، ولهذا لما كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم كتاباً كان أوله { قال فمن ربكما يا موسى . قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . قال فما بال القرون الأولى . قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } يقول تعالى مخبراً عن فرعون، أنه قال لموسى منكراً وجود الصانع الخالق {قال فمن ربكما يا موسى} أي الذي بعثك وأرسلك من هو؟ فإني لا أعرفه وما علمت لكم من إله غيري {قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} قال ابن عباس: يقول خلق لكل شيء زوجه، وعنه: جعل الإنسان إنساناً والحمار حماراً والشاة شاة. وقال مجاهد: أعطى كل شيء صورته، وسوّى خلق كل دابة. وقال سعيد بن جبير في قوله: {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} قال: أعطى كل ذي خلق ما يصلحه من خلقه، ولم يجعل للإنسان من خلق الدابة، ولا للدابة من خلق الكلب، ولا للكلب من خلق الشاة، وأعطى كل شيء ما ينبغي له من النكاح، وهيأ كل شيء على ذلك، ليس شيء منها يشبه شيئاً من أفعاله في الخلق والرزق والنكاح، {قال فما بال القرون الأولى}؟ أصح الأقوال في معنى ذلك؛ أن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله، هو الذي خلق ورزق وقدر فهدى، شرع يحتج بالقرون الأولى، أي الذين لم يعبدوا اللّه، أي فما بالهم إذا كان الأمر كذلك، لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره، فقال له موسى في جواب ذلك: هم وإن لم يعبدوا فإن عملهم عند اللّه مضبوط عليهم، وسيجزيهم بعملهم في كتاب اللّه وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمار، {لا يضل ربي ولا ينسى} أي لا يشذ عنه شيء ولا يفوته صغير ولا كبير ولا ينسى شيئاً، يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط، وأنه لا ينسى شيئاً تبارك وتقدس، فإن علم المخلوق يعتريه نقصانان (أحدهما عدم الإحاطة بالشيء، والآخر نسيانه بعد علمه، فنزه نفسه عن ذلك. { الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى . كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى . منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى . ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى } هذا من تمام كلام موسى فيما وصف به ربه عزَّ وجلَّ، حين سأله فرعون عنه فقال: {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}، ثم اعترض الكلام بين ذلك، ثم قال: {الذي جعل لكم الأرض مهدا} أي قراراً تستقرون عليها وتقومون وتنامون عليها، وتسافرون على ظهرها، {وسلك لكم فيها سبلا} أي جعل لكم طرقاً تمشون في مناكبها كما قال تعالى: { قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى . فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى . قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى } يقول تعالى مخبراً عن فرعون: أنه قال لموسى حين أراه الآية الكبرى وهي إلقاء عصاه فصارت ثعباناً عظيماً، ونزع يده من تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء، فقال: هذا سحر جئت به لتسحرنا وتستولي به على الناس فيتبعونك وتكاثرنا بهم، ولا يتم هذا معك، فإن عندنا سحراً مثل سحرك فلا يغرنك ما أنت فيه {فاجعل بيننا وبينك موعدا} أي يوماً نجتمع نحن وأنت فيه، فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر، في مكان معين ووقت معين، فعند ذلك {قال} لهم موسى {موعدكم يوم الزينة} "روي عن ابن عباس أنه يوم عاشوراء، أخرجه ابن أبي حاتم}، وهو يوم عيدهم وتفرغهم من أعمالهم، واجتماع جميعهم، ليشاهد الناس قدرة اللّه على ما يشاء، ومعجزات الأنبياء، وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية، ولهذا قال: {وأن يحشر الناس} أي جميعهم {ضحى} أي ضحوة من النهار ليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح، وهكذا شأن الأنبياء، كل أمرهم بيّن واضح ليس فيه خفاء ولا ترويج، ولهذا لم يقل: ليلاً، ولكن نهاراً، ضحى، قال ابن عباس: وكان يوم الزينة، يوم عاشوراء، وقال السدي: كان يوم عيدهم. قلت: وفي مثله أهلك اللّه فرعون وجنوده. كما ثبت في الصحيح، وقال وهب بن منبه، قال فرعون: يا موسى اجعل بيننا وبينك أجلاً ننظر فيه، قال موسى: لم أؤمر بهذا، إنما أمرت بمناجزتك إن أنت لم تخرج دخلت إليك، فأوحى اللّه إلى موسى: أن اجعل بينك وبينه أجلاً، وقل له أن يجعل هو، قال فرعون اجعله إلى أربعين يوماً ففعل، وقال مجاهد وقتادة {مكانا سوى} منصفاً، وقال السدي عدلاً، وقال عبد الرحمن بن زيد: مستوٍ بين الناس، وما فيه لا يكون صوت ولا شيء، يتغيب بعض ذلك عن بعض، مستوٍ حين يرى. { فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى . قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى . فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى . قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى . فأجمعوا كيدكم ثم أتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى } يقول تعالى مخبراً عن فرعون: أنه لما تواعد هو وموسى عليه السلام إلى وقت ومكان معلومين، تولى: أي شرع في جمع السحرة من مدائن مملكته، كل من ينسب إلى السحر في ذلك الزمان، وقد كان السحر فيهم كثيراً نافقاً جداً، كما قال تعالى: { قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى . قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى . فأوجس في نفسه خيفة موسى . قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى . وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى . فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى } يقول تعالى مخبراً عن السحرة حين توافقوا هم وموسى عليه السلام أنهم قالوا لموسى {إما أن تلقي }أي أنت أولاً، {وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا}: أي أنتم أولاً لنرى ماذا تصنعون من السحر، وليظهر للناس جلية أمرهم، {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى}، وفي الآية الأخرى أنهم لما ألقوا {قالوا بعزة فرعون إنا لغالبون}، وقال تعالى: وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه، وتضطرب وتميد بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها، وإنما كانت حيلة، وكانوا جماً غفيراً وجمعاً كثيراً، فألقى كل منهم عصا وحبلاً حتى صار الوادي ملآن حيات يركب بعضها بعضاً، وقوله: {فأوجس في نفسه خيفة موسى} أي خاف على الناس أن يفتنوا بسحرهم، ويغتروا بهم قبل أن يلقي ما في يمنيه، فأوحى اللّه تعالى إليه في الساعة الراهنة، أن ألق ما في يمينك يعني عصاك فإذا هي تلقف ما صنعوا، وذلك أنها صارت تنيناً عظيماً هائلاً ذا قوائم وعنق ورأس وأضراس، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق منها شيئاً إلا تلقفته وابتلعته، والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عياناً جهرة نهاراً صحوة، فقامت المعجزة واتضح البرهان ووقع الحق وبطل السحر، ولهذا قال تعالى: {إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى}، فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه، ولهم خبره بفنون السحر وطرقه ووجوهه، علموا علم اليقين أن هذا الذي فعله موسى ليس من قبيل السحر والحيل، وأنه حق لا مرية فيه، ولا يقدر على هذا إلا الذي يقول للشيء كن فيكون، فعند ذلك وقعوا سجداً للّه، وقالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون، ولهذا قال ابن عباس: كانوا أول النهار سحرة وفي آخره شهداء بررة، قال محمد بن كعب: كانوا ثمانين الفاً، وقال السدي: بضعة وثلاثين ألفاً، وقال محمد بن إسحاق: كانوا خمسة عشر ألفاً، وقال كعب الأحبار: كانوا اثني عشر ألفاً. قال الأوزاعي: لما خر السحرة سجداً رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها. قال وذكر عن سعيد بن جبير قوله {فألقي السحرة سجدا} قال: رأوا منازلهم تبين لهم وهم في سجودهم. { قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى . قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا . إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى } يقول تعالى مخبراً عن كفر فرعون وعناده وبغيه، ومكابرته الحق بالباطل حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة، والآية العظيمة، ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس كلهم، وغلب كل الغلب، شرع في المكابرة والبهت، وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في السحرة فتهددهم وتوعدهم، وقال {آمنتم له} أي صدقتموه {قبل أن آذن لكم} أي وما أمرتكم بذلك، واتفقتم عليّ في ذلك، وقال قولاً يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بهت وكذب {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} أي أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى، واتفقتم أنتم وإياه عليّ وعلى رعيتي لتظهروه، كما قال تعالى في الآية الأخرى: ويبقى فيه، فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم، هانت عليهم أنفسهم في اللّه عزَّ وجلَّ {قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات} أي لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين {والذي فطرنا} يعنون لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم، المبتدئ خلقنا من الطين، فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت {فاقض ما أنت قاض} أي فافعل ما شئت، وما وصلت إليه يدك {إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} أي إنما لك تسلط في هذه الدار، وهي دار الزوال، ونحن قد رغبنا في دار القرار، {إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا} أي ما كان منا من الآثام، خصوصاً ما أكرهتنا عليه من السحر، لتعارض به آية اللّه تعالى ومعجزة نبيّه. عن ابن عباس في قوله تعالى: {وما أكرهتنا عليه من السحر} قال: أخذ فرعون أربعون غلاماً من بني إسرائيل، فأمر أن يعلموا السحر بالفرماء، وقال علموهم تعليماً لا يعلمه أحد في الأرض، قال ابن عباس: فهم من الذين آمنوا بموسى، وهم من الذين قالوا: {آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر} "رواه ابن أبي حاتم". وقوله: {واللّه خير وأبقى} أي خير لنا منك {وأبقى} أي أدوم ثواباً مما كنت وعدتنا ومنيتنا، وقال محمد بن كعب القرظي {واللّه خير}: أي لنا منك إن أطيع {وأبقى}: أي منك عذاباً إن عصي، والظاهر أن فرعون لعنه اللّه صمم على ذلك وفعله بهم رحمة لهم من اللّه؛ ولهذا قال ابن عباس وغيره من السلف: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة. { إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى . ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى . جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى } الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون، يحذرونه من نقمة اللّه وعذابه الدائم السرمدي، ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد، فقالوا {إنه من يأت ربه مجرما} أي يلقى اللّه يوم القيامة وهو مجرم {فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى}، كقوله: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور}. عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ومنها تخرج الأنهار الأربعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم اللّه فسألوه الفردوس) "الحديث أخرجه الإمام أحمد والترمزي"وفي الصحيحين: (إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء، لتفاضل ما بينهم - قالوا: يا رسول اللّه تلك منازل الأنبياء؟ قال: بلى والذي نفسي بيده رجال أمنوا باللّه وصدقوا المرسلين) وفي السنن وإن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما، وقوله: {جنات عدن} أي إقامة وهي بدل من الدرجات العلى {تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} أي ماكثين أبداً {وذلك جزاء من تزكى} أي طهر نفسه من الدنس والخبث والشرك وعبد اللّه وحده لا شريك له، وأتبع المرسلين فيما جاؤوا به منخير وطلب. { ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى . فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم . وأضل فرعون قومه وما هدى } يقول تعالى مخبراً: أنه أمر موسى عليه السلام حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل إن يسري بهم في الليل، ويذهب بهم من قبضة فرعون، وذلك أن موسى لما خرج ببني إسرائيل أصبحوا وليس منهم بمصر لا داع ولا مجيب، فغضب فرعون غضباً شديداً، وأرسل من يجمعون له الجند من بلدانه، ثم لما جمع جنده واستوثق له جيشه، ساق في طلبهم فاتبعوهم مشرقين، أي عند طلوع الشمس، { يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى . كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى . وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى } يذكر تعالى نعمه - على بني إسرائيل - العظام، ومننه الجسام، حيث أنجاهم من عدوهم فرعون، وأقر عينهم منه وهم ينظرون إليه، وإلى جنده قد غرقوا في صبيحة واحدة، لم ينج منهم أحد، كما قال: { وما أعجلك عن قومك يا موسى . قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى . قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري . فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي . قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري . فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي . أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا } لما سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون، وواعد ربه ثلاثين ليلة ثم أتبعها عشراً فتمت أربعين ليلة، أي يصومها ليلاً ونهاراً، وقد تقدم في حديث الفتون بيان ذلك، فسارع موسى عليه السلام مبادراً إلى الطور، واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون، ولهذا قال تعالى: {وما أعجلك عن قومك يا موسى * قال هم أولاء على أثري} أي قادمون ينزلون قريباً من الطور، {وعجلت إليك رب لترضى} أي لتزداد عني رضا، {قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري}، أخبر تعالى نبيّه موسى بما كان بعده من الحدث في بني إسرائيل، وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري، وقوله: {فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا} أي رجع بعد ما أخبره تعالى بذلك في غاية الغضب والحنق عليهم، والأسف: شدة الغضب، وقال مجاهد {غضبان أسفا}، أي جزعاً، وقال قتادة والسدي: أسفاً حزيناً على ما صنع قومه من بعده، {قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا} أي أما وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة وحسن العاقبة كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم وإظهاركم عليه، وغير ذلك من أيادي اللّه، {أفطال عليكم العهد} أي في انتظار ما وعدكم اللّه ونسيان ما سلف من نعمه {أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم} أم ههنا بمعنى بل، هي للإضراب عن الكلام الأول، وعدول إلى الثاني، كأنه يقول: بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي، قالوا - أي بنو إسرائيل، في جواب ما أنبهم موسى وقرّعهم - {ما أخلفنا موعدك بملكنا} أي عن قدرتنا واختيارنا، ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد، يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم حين خرجوا من مصر، {فقذفناها} أي ألقيناها عنا، ودعا السامري أن يكون عجلاً، فكان عجلاً {له خوار} أي صوت، استدراجاً وإمهالاً ومحنة واختباراً ولهذا قال: {فكذلك ألقى السامري * فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار}. عن ابن عباس، أن هارون مر بالسامري وهو ينحت العجل، فقال له: ما تصنع؟ فقال: اصنع ما يضر ولا ينفع، فقال هارون: اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه، ومضى هارون وقال السامري: اللهم إني أسألك أن يخور، فخار، فكان إذا خار سجدوا له، وإذا خار رفعوا رؤوسهم، وقال السدي: كان يخور ويمشي، فقالوا: أي الضُلاّل منهم الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه {هذا إلهكم وإله موسى فنسي} أي نسيه ههنا وذهب يتطلبه، وعن ابن عباس {فنسي} أي نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم، فعكفوا عليه وأحبوه حباً لم يحبوا شيئاً قط، قال اللّه تعالى رداً عليهم وتقريعاً لهم وبياناً لفضحيتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه: {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا} أي العجل، فلا يرون أنه لا يجيبهم إذا سألوه، ولا إذا خاطبوه، ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، أي في ديناهم ولا في أخراهم، قال ابن عباس: لا واللّه ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره فيخرج من فمه فيسمع له صوت، وحاصل ما أعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم، وعبدوا العجل فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد اللّه بن عمر، أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب، يعني هل يصلي فيه أم لا؟ فقال ابن عمر رضي اللّه عنهما: انظروا إلى أهل العراق! قتلوا ابن بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، يعني الحسين، وهم يسألون عن دم البعوضة. { ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري . قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى } يخبر تعالى عما كان من نهي هارون عليه السلام لهم عن عبادتهم العجل، وإخباره إياهم إنما هذا فتنة لكم، وإن ربكم الرحمن الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً. ذو العرش المجيد الفعّال لما يريد، {فاتبعوني وأطيعوا أمري}: أي فيما آمركم به واتركوا ما أنهاكم عنه، {قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى}: أي لا نترك عبادته حتى نسمع كلام موسى فيه وخالفوا هارون في ذلك، وحاربوه وكادوا أن يقتلوه. { قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا . ألا تتبعن أفعصيت أمري . قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي } يخبر تعالى عن موسى عليه السلام حين رجع إلى قومه، فرأى ما قد حدث فيهم من الأمر العظيم، فامتلأ عند ذلك غضباً، وألقى ما كان في يده من الألواح الإلهية، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، فقال: {ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن} أي فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع {أفعصيت أمري}: أي فيما كنت قدمت إليك، وهو قوله: { قال فما خطبك يا سامري . قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي . قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا . إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما } يقول موسى عليه السلام للسامري: ما حملك على ما صنعت؟ وما الذي عرض لك حتى فعلت ما فعلت؟ عن ابن عباس قال: كان السامري رجلاً من أهل باجر، وكان من قوم يعبدون البقر وكان حب عبادة البقر في نفسه، وكان قد أظهر الإسلام مع بني إسرائيل، وكان اسمه موسى بن ظفر ، وفي رواية عن ابن عباس أنه كان من كرمان، وقال قتادة: كان من قرية سامرا، {قال بصرت بما لم يبصروا به}: أي رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون {فقبضت قبضة من أثر الرسول} أي من أثر فرسه، هذا هو المشهور عند كثير من المفسرين، أو أكثرهم، وقال مجاهد: من تحت حافر فرس جبريل، قال والقبضة ملء الكف، والقبضة بأطراف الأصابع، قال مجاهد: نبذ السامري، أي ألقى ما في يده على حلية بني إسرائيل، فانسبك عجلاً جسداً له خوار، حفيف الريح فيه خواره. وقال ابن أبي حاتم، عن عكرمة: إن السامري رأى الرسول فألقى في روعه أنك إن أخذت من أثر هذا الفرس قبضة فألقيتها في شيء فقلت له كن فكان، فقبض قبضة من أثر الرسول فيبست أصابعه على القبضة، فلما ذهب موسى للميقات، وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حلي آل فرعون، فقال لهم السامري: إن ما أصابكم من أجل هذا الحلي، فاجمعوه فجمعوه، فأوقدوا عليه فذاب، فرآه السامري، فألقي في روعة: أنك لو قذفت هذه القبضة في هذه، فقلت كن فكان، فقذف القبضة وقال: كن فكان عجلاً جسداً له خوار، فقال: {هذا إلهكم وإله موسى}، ولهذا قال {فنبذتها} أي ألقيتها مع من ألقى، {وكذلك سولت لي نفسي}: أي حسنته وأعجبها إذ ذاك {قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس}: أي كما أحذت ومسست ما لم يكن لك أخذه ومسه من أثر الرسول، فعقوبتك في الدنيا أن تقول لا مساس، أي لا تماس الناس ولا يمسونك، {وإن لك موعدا} أي يوم القيامة {لن تخلفه} أي لا محيد لك عنه. وقال قتادة {أن تقول لا مساس} قال: عقوبة لهم، وبقاياهم اليوم يقولون لا مساس وقوله: {وإن لك موعدا لن تخلفه} قال الحسن: لن تغيب عنه. وقوله: {وانظر إلى إلهك} أي معبودك {الذي ظلت عليه عاكفا} أي أقمت على عبادته يعني العجل، {لنحرقنه} قال السدي: سحله بالمبارد وألقاه على النار، وقال قتادة: استحال العجل من الذهب لحماً ودماً، فحرقه بالنار، ثم ألقى رماده في البحر، ولهذا قال: {ثم لننسفنه في اليم نسفا}. وقوله تعالى: {إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما} يقول لهم موسى عليه السلام: ليس هذا إلهكم إنما إلهكم اللّه الذي لا يستحق ذلك على العباد إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له، فإن كل شيء فقير إليه عبد له، وقوله: {وسع كل شيء علما} أي هو عالم بكل شيء، أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً، فلا يغرب عنه مثقال ذرة، كما قال تعالى:
|