سورة الحشر
وكان ابن عباس يقول: سورة بني النضير
روى البخاري، عن سعيد بن جابر قال، قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: سورة بني النضير.
بسم اللّه الرحمن الرحيم.
الآية رقم (1 : 5)
{ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم . هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا . وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار . ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب . ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين }
يخبر تعالى أن جميع ما في السماوات والأرض يسبّح له ويمجِّده، ويقدسه ويوحده كقوله تعالى: {تسبح له السماوات السبع ومن فيهن إن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لاتفقهون تسبيحهم}، وقوله تعالى: {وهو العزيز} أي منيع الجناب {الحكيم} في قدره وشرعه، وقوله تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب} يعني يهود بني النضير، كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما قدم المدينة هادنهم وأعطاهم عهداً وذمة على أن لا يقاتلهم ولا يقاتلوه، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه، فأجلاهم النبي صلى اللّه عليه وسلم، وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ظنوا أنها مانعتهم من بأس اللّه، فما أغنى عنهم من اللّه شيئاً، وجاءهم من اللّه ما لم يكن ببالهم، وسيّرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأجلاهم من المدينة، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرِعات من أعالي الشام، وهي أرض المحشر والمنشر، ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر وكان قد أنزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم، فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي يمكن أن تحمل معهم، ولهذا قال تعالى: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار} أي تفكروا في عاقبة من خالف أمر اللّه وخالف رسوله، وكذب كتابه، كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم، روى أبو داود، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم: أن كفّار قريش كتبوا إلى ابن أبيّ ومن معه يعبد الأوثان والخزرج، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومئذ بالمدينة قبل رجعة بدر إنكم أدنيتم صاحبنا، وإنا نقسم باللّه لنقاتلنه أو لنخرجنكم، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونسبي نساءكم، فلما بلغ ذلك عبد اللّه بن أبيّ ومن كان معه من عبدة الأوثان أجمعوا لقتال النبي صلى اللّه عليه وسلم، فلما بلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم لقيهم فقال: (لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريد أن تكيدوا به أنفسكم، يريدون أن يقاتلوا أبناءكم وإخوانكم(، فلما سمعوا ذلك من النبي صلى اللّه عليه وسلم تفرقوا، فبلغ ذلك كفار قريش، فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود، إنكم أهل الحلقة والحصون وإنكم لتقاتلن مع صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا، ولايحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء، وهو الخلاخيل، فلما بلغ كتابهم النبي صلى اللّه عليه وسلم أيقنت بنو النضير بالغدر، فأرسلوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم: اخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك ليخرج منا ثلاثون حبراً، حتى نلتقي بمكان النصف، وليسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك، فلما كان الغد غدا عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالكتائب فحصرهم فقال لهم: (إنكم واللّه لا تؤمنون عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه)، فأبوا أن يعطوه عهداً، فقاتلهم يومهم ذلك، ثم غدا من الغد على بني قريظة بالكتائب، وترك بني النضير ودعاهم إلى أن يعاهدوه فعاهدوه، فانصرف عنهم، وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء فجلت بنو النضير، واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها، وكان نخل بني النضير لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خاصة أعطاه اللّه إياها وخصه بها، فقال تعالى: {وما أفاء اللّه على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} نقول بغير قتال، فأعطى النبي صلى اللّه عليه وسلم أكثرها للمهاجرين قسمها بينهم، وقسم منها لرجلين من الأنصار، وكانا ذوي حاجة ولم يقسم من الأنصار غيرهما، وبقي منها صدقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة.
وقوله تعالى: {ما طننتم أن يخرجوا} أي في مدة حصاركم كهم وكانت ستة أيام مع شدة حصونهم ومنعتها، ولهذا قال تعالى: {وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من اللّه فأتاهم اللّه من حيث لم يحتسبوا} أي جاءهم من أمر اللّه ما لم يكن لهم في بال كما قال تعالى في الآية الأُخْرَى {وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون}، وقوله تعالى: {وقذف في قلوبهم الرعب} أي الخوف والهلع والجزع، وكيف لا يحصل لهم ذلك وقد حاصرهم الذي نصر بالرعب مسيرة شهر صلوات اللّه وسلامه عليه، وقوله: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} هو نقض ما استحسنوه من
سقوفهم وأبوابهم وحملها على الإبل، وقال مقاتل بن حيان: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقاتلهم، فإذا ظهر على درب أو دار هدم حيطانها ليتسع المكان للقتال، وكان اليهود أذا علوا مكاناً أو غلبوا على درب أو دار نقبوا من أدبارها، ثم حصنوها ودربوها، يقول اللّه تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار}، وقوله: {ولولا أن كتب اللّه عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا} أي لولا أن كتب
عليهم هذا الجلاء وهو النفي من ديارهم وأموالهم، لكان لهم عند اللّه عذاب آخر من القتل والسبي ونحو ذلك، لأن اللّه قد كتب عليهم أنه سيعذبهم في الدار الدنيا مع ما أعد لهم في الدار الآخرة من العذاب في نار جهنم، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير قال :(ثم كانت وقعة بني النضير، وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكان منزلهم بناحية من المدينة فحاصرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء وأن لهم ما أقلت الإبل من الأموال والأمتعة إلا الحلقة وهي السلاح، فأجلاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل الشام، قال: والجلاء أنه كتب عليهم في آي من التوراة، وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء قبل ما سلط عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأنزل اللّه فيهم: {سبّح للّه ما في السماوات وما في الأرض - إلى قوله وليخزي الفاسقين} "أخرجه ابن أبي حاتم"، قال قتادة: الجلاء خروج الناس من البلد إلى البلد، وقال الضحّاك: أجلاهم إلى الشام وأعطى كل ثلاثة بعيراً وسقاء فهذا الجلاء، وقد روى الحافظ أبو بكر البيهقي، عن ابن عباس قال: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم قد
حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ، فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم ومن ديارهم وأوطانهم، وأن يسيرهم إلى أذرِعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيراً وسقاء، والجلاء إخراجهم من أرضهم إلى أرض أُخْرَى
. وعن محمد بن مسلمة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعثه إلى بني النضير، وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاثة أيام.
وقوله تعالى: {ولهم في الآخرة عذاب النار} أي حتم لازم لا بد منه، وقوله تعالى: {ذلك بأنهم شاقوا اللّه ورسوله} أي إنما فعل اللّه بهم ذلك وسلط عليهم رسوله وعباده المؤمنين، لأنهم خالفوا اللّه ورسوله وكذبوا بما أنزل اللّه على رسله المتقدمين في البشارة بمحمد صلى اللّه عليه وسلم،وهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم، ثم قال: {ومن يشاق اللّه فإن اللّه شديد العقاب}، وقوله تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن اللّه وليخزي الفاسقين} اللين نوع من التمر وهو جيد، قال أبو عبيدة: وهو ما خالف العجوة والبرني من التمر، وقال كثيرون من المفسرين: اللينة ألوان التمر سوى العجوة، قال ابن جرير: هو جميع النخل، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما حاصرهم أمر بقطع نخيلهم إهانة لهم وإرعاباً لقلوبهم، فبعث بنو قريظة يقولون لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنك تنهى عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟ فأنزل اللّه هذه الآية الكريمة، أي ما قطعتم من لينة وما تركتم من الأشجار فالجميع بإذنه ومشيئته وقدره ورضاه، وفيه نكاية بالعدو وخزي لهم، وإرغام لأنوفهم. روى الإمام أحمد، عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرّق "أخرجه أحمد ورواه الشيخان بنحوه". ولفظ البخاري، عن ابن عمر قال: حاربت النضير وقريظة فأجلى بني النضير، وأقر قريظة ومن عليهم حتى حاربت قريظة، فقتل من رجالهم وسبى وقسم نساءهم وأموالهم بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم فأمنهم وأسلموا، وأجلى يهود المدينة كلهم بني قينقاع، وهم رهط عبد اللّه بن سلام ويهود بني حارثة وكل يهود بالمدينة "أخرجه البخاري"، وفي الصحيحين عن ابن عمر: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع، وهي البويرة، فأنزل اللّه عزّ وجلَّ: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن اللّه وليخزي الفاسقين} "أخرجه الشيخان". ولها يقول حسان بن ثابت رضي اللّه عنه:
وهان على سراة بني لؤي * حريق بالبويرة مستطير
قال أبو إسحاق: كانت وقعة بني النضير بعد وقعة أُحُد وبعد بئر معونة، وحكى البخاري عن الزهري عن عروة أنه قال: كانت وقعة بني النضير بعد بدر بستة أشهر.
الآية رقم (6 : 7)
{ وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير . ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب }
الفيء كل مال أخذ من الكفار من غير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، كأموال بني النضير هذه، فإنها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، أي لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة، بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى اللّه في قلوبهم، فأفاءه اللّه على رسوله، ولهذا تصرف فيه كما يشاء فرده على المسلمين في وجوه البر والمصالح، التي ذكرها اللّه عزّ وجلَّ في هذه الآيات فقال تعالى: {وما أفاء اللّه على رسوله منهم} أي من بني النضير، {فما أوجفتم
عليه من خيل ولا ركاب} يعني الإبل، {ولكنّ اللّه يسلط رسله على من يشاء واللّه على كل شيء قدير} أي هو قدير لا يغالب ولا يمانع بل هو القاهر لكل شيء، ثم قال تعالى: {ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى} أي جميع البلدان التي تفتح هكذا فحكمها حكم بني النضير، ولهذا قال تعالى: {فللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} إلى آخرها والتي بعدها، فهذه مصارف أموال الفيء ووجوهه.
روى الإمام أحمد، عن عمر رضي اللّه عنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء اللّه على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته، وما بقي جعله في الكُرَاع والسلاح في سبيل اللّه عزّ وجلَّ. وقوله تعالى: {كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم} أي جعلنا هذه المصارف لمال الفيء، كيلا يبقى مأكلة يتغلب عليها الأغنياء، ويتصرفون فيها بمحض الشهوات والآراء، ولا يصرفون منه شيئاً إلى الفقراء.
وقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} أي مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير، وإنما ينهى عن شر. عن مسروق قال: جاءت امرأة إلى ابن مسعود فقالت: بلغني أنك تنهى عن الواشمة والواصلة أَشيء وجدته في كتاب اللّه تعالى أو عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ قال: بلى شيء وجدته في كتاب اللّه وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قالت: واللّه لقد تصفحت ما بين دفتي المصحف، فما وجدت فيه الذي تقول، قال: فما وجدتِ فيه: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}؟ قالت بلى، قال: فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينهى عن الواصلة والواشمة والنامصة، قالت: فلعله في بعض أهلك، قال: فادخلي فانظري، فدخلت فنظرت، ثم خرجت، قالت: ما رأيت بأساً، فقال لها: أما حفظت وصية العبد الصالح: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه}؟ "رواه ابن أبي حاتم". وقال الإمام أحمد، عن عبد اللّه بن مسعود قال: لعن اللّه الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحُسْن، المغيرات خلق اللّه عزّ وجلَّ. قال: فبلغ امرأة من بني أسد في البيت يقال لها أُم يعقوب، فجاءت إليه فقالت: بلغني أنك قلت كيت وكيت، قال: مالي لا ألعن من لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفي كتاب اللّه تعالى؟ فقالت: إني لأقرأ ما بين لوحيه فما وجدته، فقال: إن كنت قرأيته فقد وجدتيه، أما قرأت: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}، قالت: بلى؟ قال: فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهى عنه، قالت: إني لأظن أهلك يفعلونه، قال: اذهبي فانظري، فذهبت فلم تر من حاجتها شيئاً، فجاءت فقالت: ما رأيت شيئاً، قال: لو كان كذا لم تجامعنا "أخرجه الشيخان وأحمد". وقد ثبت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:(إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه) "أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة". وقوله تعالى: {واتقوا اللّه إن اللّه شديد العقاب} أي اتقوه في امتثال أوامره وترك زواجره، فإنه شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره وأباه، وارتكب ما عنه زجره ونهاه.
الآية رقم (8 : 10)
{ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون . والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم }
يقول تعالى مبيناً حال الفقراء المستحقين لمال الفيء أنهم {الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من اللّه ورضواناً}، أي خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة اللّه ورضوانه، {وينصرون اللّه ورسوله أولئك هم الصادقون} أي هؤلاء الذين صدقوا قولهم بفعلهم، وهؤلاء هم سادات المهاجرين. ثم قال تعالى مادحاً للأنصار ومبيناً فضلهم وشرفهم وكرمهم وعدم حسدهم وإيثارهم مع الحاجة، فقال تعالى: {والذين تبؤأوا الدار والإيمان من قبلهم} أي سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم، قال عمر:( وأوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم كرامتهم، وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبل، أن يقبل من محسنهم وأن يعفو عن مسيئهم) "رواه البخاري عند تفسير هذه الآية". وقوله تعالى: {يحبون من هاجر إليهم} أي من كرمهم وشرف أنفسهم، يحبون المهاجرين ويواسونهم بأموالهم، روى الإمام أحمد، عن أنَس قال، قال المهاجرون: يا رسول اللّه ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم، أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير، لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال:(لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم اللّه لهم) "أخرجه أحمد في المسند". ودعا النبي صلى اللّه عليه وسلم الأنصار أن يقطع لهم البحرين، قالوا: لا، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها، قال: (إما لا، فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة) "أخرجه البخاري". وقال البخاري، عن أبي هريرة قال، قالت الأنصار: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال:(لا)، فقالوا: أتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة؟ قالوا سمعنا وأطعنا، {ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} أي ولا يجدون في أنفسهم حسداً للمهاجرين، فيما فضلهم اللّه به من المنزلة والشرف والتقديم في الذكر والرتبة، قال الحسن البصري {ولا
يجدون في صدورهم حاجة} يعني الحسد {مما أوتوا} قال قتادة: يعني فيما أعطي إخوانهم، وقال عبد الرحمن بن زيد في قوله تعالى: {ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} يعني مما أوتوا المهاجرون، قال: وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم في الأنصار فعاتبهم اللّه في ذلك فقال تعالى: {وما أفاء اللّه على رسوله فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن اللّه يسلط رسله على من يشاء واللّه على كل شيء قدير} قال، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ (إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم)، فقالوا: أموالنا بيننا قطائع، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أو غير ذلك؟) قالوا: وما ذاك يا رسول اللّه؟ قال:(هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر)، فقالوا: نعم يا رسول اللّه
، وقوله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} يعني حاجة، أي يقدموا المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدأون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك. وقد ثبت في الصحيح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (أفضل الصدقة جهد المقل)، ومن هذا المقام تصدق الصدّيق رضي اللّه عنه بجميع ماله، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:(ما أبقيت لأهلك؟) فقال رضي اللّه عنه: أبقيت لهم اللّه ورسوله، وهكذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه وهو جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء، فرده الآخر إلى الثالث، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم، ولم يشربه أحد منهم رضي اللّه عنهم وأرضاهم، وقال البخاري، عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (ألا رجل يضيف هذا الليلة رحمه اللّه)، فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول اللّه، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته هذا ضيف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تدخريه شيئاً، فقالت: واللّه ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفيء السراج ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: (لقد عجب اللّه عزّ وجلَّ - أو ضحك - من فلان وفلانة)، وأنزل اللّه تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} "أخرجه البخاري، ورواه مسلم والترمذي والنسائي بنحوه". وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة رضي اللّه عنه.
وقوله تعالى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} أي من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح، عن جابر بن عبد اللّه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) "أخرجه مسلم والإمام أحمد". وعن عبد اللّه بن عمرو قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفحش فإن اللّه لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا) "أخرجه أحمد وأبو داود". وقال ابن أبي حاتم، عن الأسود بن هلال قال: جاء رجل إلى عبد اللّه فقال: يا أبا عبد الرحمن إني أخاف أن أكون قد هلكت، فقال له عبد اللّه: وما ذاك؟ قال: سمعت اللّه يقول: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يدي شيئاً، فقال عبد اللّه: ليس ذلك بالشح الذي ذكر اللّه في القرآن، إنما الشح الذي ذكر اللّه في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً، ولكن ذاك البخل، وبئس الشيء البخل "رواه ابن أبي حاتم"، وعن أبي الهياج الأسدي قال: كنت أطوف بالبيت فرأيت رجلاً يقول: اللهم قني شح نفسي، لا يزيد على ذلك، فقلت له: فقال: إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رضي اللّه عنه "رواه ابن جرير". وفي الحديث: (بريء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة) "أخرجه ابن جرير عن أنَس مرفوعاً". وقوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء، وهم المهاجرون ثم الأنصار ثم التابعون لهم بإحسان كما قال في آية براءة: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي اللّه عنهم ورضوا عنه}، فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لآثارهم الحسنة، وأوصافهم الجميلة، الداعون لهم في السر والعلانية، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون} أي قائلين {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً} أي بغضاً وحسداً {للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}، وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه اللّه من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح اللّه به هؤلاء، وقال ابن أبي حاتم، عن عائشة أنها قالت: أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم، ثم قرأت هذه الآية: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} الآية "أخرجه ابن أبي حاتم"، وقال ابن جرير: قرأ عمر بن الخطاب: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} حتى بلغ {عليم حليم}، ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن للّه خمسه وللرسول ولذي القربى} الآية، ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: {ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى فللّه وللرسول ولذي القربى} حتى بلغ {والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم - والذين جاؤوا من بعدهم} ثم قال: استوعبت هذه المسلمين عامة، وليس أحد إلا وله فيها حق، ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه فيها لم يعرق فيها جبينه "أخرجه ابن جرير".
الآية رقم (11 : 17)
{ ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون . لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون . لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون . لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون . كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم . كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين . فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين }
يخبر تعالى عن المنافقين كعبد اللّه بن أبيّ وأضرابه، حين بعثوا إلى يهود بني النضير، يعدونهم النصر من أنفسهم، فقال تعالى: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم}، قال اللّه تعالى: {واللّه يشهد إنهم لكاذبون} أي لكاذبون فيما وعدوهم به، ولهذا قال تعالى: {ولئن قوتلوا لا ينصرونهم} أي لا يقاتلون معهم، {ولئن نصروهم} أي قاتلوا معهم {ليولنّ الأدبار ثم لا ينصرون}، وهذه بشارة مستقلة بنفسها. ثم قال تعالى: {لأنتم أشد رهبة في صدورهم من اللّه} أي يخافون منكم أكثر من خوفهم من اللّه، كقوله تعالى: {إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية اللّه أو أشد خشية}، ولهذا قال تعالى: {ذلك بأنهم قوم لا يفقهون}، ثم قال تعالى: {لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر} يعني أنهم من جبنهم وهلعهم، لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام، بل إما في حصون أو من وراء جدر محاصرين، فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة، ثم قال تعالى: {بأسهم بينهم شديد} أي عداوتهم فيما بينهم شديدة كما قال تعالى: {ويذيق بعضكم بأس بعض}، ولهذا قال تعالى: {تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى} أي تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين، وهم مختلفون غاية الاختلاف، قال إبراهيم النخعي: يعني أهل الكتاب والمنافقين {ذلك بأنهم قوم لا يعقلون}، ثم قال تعالى: {كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم}، قال مجاهد والسدي: يعني كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر، وقال ابن عباس: كمثل الذين من
قبلهم يعني يهود بني قينقاع، وهذا القول أشبه بالصواب، فإن يهود بني قينقاع كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أجلاهم قبل هذا.
وقوله تعالى: {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك} يعني مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذين وعدوهم النصر من المنافقين، كمثل الشيطان إذ سوّل للإنسان الكفر ثم تبرأ منه وتنصل، وقال: {إني أخاف اللّه رب العالمين}. روى ابن جرير، عن عبد اللّه بن مسعود في هذه الآية: {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف اللّه رب العالمين} قال: كانت امرأة ترعى الغنم، وكان لها أربعة إخوة، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب، قال: فنزل الراهب ففجَر بها، فحملت، فأتاه الشيطان فقال له اقتلها ثم ادفنها، فإنك رجل مصدق يسمع قولك، فقتلها ثم دفنها، وقال: فأتى الشيطان إخوتها في المنام، فقال لهم:
إن الراهب صاحب الصومعة فجَر بأُختكم فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا، فلما أصبحوا قال رجل منهم: واللّه لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك؟ قالوا: بل قصها علينا، قال، فقصها؛ فقال الآخر: وأنا واللّه قد رأيت ذلك، فقال الآخر: وأنا واللّه رأيت ذلك، قالوا فواللّه ما هذا إلا لشيء. قال، فانطلقوا، فاستَعْدُوا ملكهم على ذلك الراهب، فأتوه فأنزلوه، ثم انطلقوا به، فلقيه الشيطان فقال: إني أنا الذي أوقعتك في هذا ولن ينجيك منه غيري، فاسجد لي واحدة وأنجيك مما أوقعتك فيه، قال، فسجد له، فلما أتوا به ملكهم تبرأ منه وأخذ فقتل، واشتهر عند كثير من الناس أن هذا العابد هو برصيصا فاللّه أعلم. وقوله تعالى: {فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها} أي فكان عاقبة الأمر بالكفر مصيرهما إلى نار جهنم خالدين فيها {وذلك جزاء الظالمين} أي جزاء كل ظالم.
الآية رقم (18 : 20)
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون . ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون . لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون }
عن جرير بن عبد اللّه قال: كنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في صدر النهار قال، فجاءه قوم حفاة عراة، مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتغّير وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لما رأى بهم من الفاقة، قال، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن، وأقام الصلاة فصلّى، ثم خطب فقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} - إلى آخر الآية، وقرأ الآية التي في الحشر - {ولتنظر نفس ما قدمت لغد} - تصدق رجل من ديناره من درهمه، من ثوبه، من صاع بر، من صاع تمرة، - حتى قال - ولو بشق تمرة. قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتهلل وجهه، كأنه مذهبة، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) "أخرجه مسلم والإمام أحمد"، فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه} أمر بتقواه وهو يشمل فعل ما به أمر، وترك ما عنه زجر، وقوله تعالى: {ولتنظر نفس ما قدمت لغد} أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم، {واتقوا اللّه} تأكيد ثان {إن اللّه خبير بما تعملون} أي اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم لا تخفى عليه منكم خافية، ولا يغيب عنه من أموركم جليل ولا حقير، وقوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم} أي لا تنسوا ذكر اللّه تعالى فينسيكم العمل لمصالح أنفسكم، فإن الجزاء من جنس العمل، ولهذا قال تعالى: {أولئك هم الفاسقون} أي الخارجون عن طاعة اللّه، الهالكون يوم القيامة، الخاسرون يوم معادهم، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر اللّه ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}.
خطب أبو بكر الصدّيق رضي اللّه عنه فقال: أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم، فمن استطاع أن يقضي الأجل، وهو في عمل اللّه عزَّ وجلَّ، فليفعل، ولن تنالوا ذلك إلا باللّه عزَّ وجلَّ، إن قوماً جعلوا آجالهم لغيرهم فنهاكم اللّه عزَّ وجلَّ أن تكونوا أمثالهم {ولا تكونوا كالذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم}، أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدموا في أيام سلفهم، وخلوا بالشقوة والسعادة، أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار، هذا كتاب اللّه لا تفنى عجائبه، فاستضيئوا منه ليوم ظلمة، واستضيئوا بسنائه وبيانه، إن اللّه تعالى أثنى على زكريا وأهل بيته فقال لهم: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين}، لا خير في قول لا يراد به وجه اللّه، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل اللّه، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه، ولا خير فيمن يخاف في اللّه لومة لائم) "أخرجه الحافظ الطبراني، قال ابن كثير: إسناده جيد ورجاله كلهم ثقات". وقوله تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} أي لا يستوي هؤلاء وهؤلاء في حكم اللّه تعالى يوم القيامة كما قال تعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون}، وقال تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجّار}، ولهذا قال تعالى ههنا: {أصحاب الجنة هم الفائزون} أي الناجون المسلَّمون من عذاب اللّه عزَّ وجلَّ.
الآية رقم (21 : 24)
{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون . هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم . هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون . هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم }
يقول تعالى معظماً لأمر القرآن، ومبيناً علو قدره، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب، وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد الحق والوعيد الأكيد: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية اللّه} أي فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته، لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف اللّه عزَّ وجلَّ، فكيف يليق بكم يا أيها البشر أن لا تلين قلوبكم، وتخشع وتتصدع من خشية اللّه، وقد فهمتم عن اللّه أمره وتدبرتم كتابه؟ ولهذا قال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} قال ابن عباس في قوله تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً} إلى آخرها، يقول: لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه لتصدع وخشع من ثقله ومن خشية اللّه، فأمر اللّه الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع، ثم قال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}، وقال الحسن البصري: إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام اللّه وفهمته لخشعت وتصدعت من خشيته، فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟ وقد قال تعالى: {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى} الآية، وقد تقدم أن المعنى ذلك أي لكان هذا القرآن، ثم قال تعالى: {هو اللّه لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم} أخبر تعالى أنه الذي لا إله إلا هو، فلا رب غيره ولا إله للوجود سواه، وكل ما يعبد من دونه فباطل، وأنه عالم الغيب والشهادة أي يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء من جليل وحقير وصغير وكبير حتى الذر في الظلمات، وقوله تعالى: {هو الرحمن الرحيم} المراد أنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، وقد قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء}، وقال تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} وقال تعالى: {قل بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}، ثم قال تعالى: {هو اللّه الذي لا إله إلا هو الملك} أي المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة.
وقوله تعالى: {القدوس} قال وهب بن منبه: أي الطاهر، وقال مجاهد وقتادة: أي المبارك، وقال ابن جريح: تقدسه الملائكة الكرام، {السلام} أي من جميع العيوب والنقائص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله، وقوله تعالى: {المؤمن} قال ابن عباس: أي أمن خلقه من أن يظلمهم، وقال قتادة: أمن بقوله أنه حق. وقال ابن زيد: صدّق عباده المؤمنين في إيمانهم به، وقوله تعالى: {المهيمن} قال ابن عباس وغير واحد: أي الشاهد على خلقه بأعمالهم، بمعنى هو رقيب عليهم، كقوله: {واللّه على كل شيء شهيد}، وقوله: {ثم اللّه شهيد على ما يفعلون}، وقوله: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} الآية، وقوله تعالى: {العزيز} أي الذي قد عز كل شيء فقهره، وغلب الأشياء فلا ينال جنابه لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه، ولهذا قال تعالى: {الجبار المتكبر} أي الذي لا تليق الجبرية إلا له، ولا التكبر إلا لعظمته كما تقدم في الصحيح: (العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما عذبته)، وقال قتادة: الجبار الذي جبر خلقه على ما يشاء، وقال ابن جرير: الجبار المصلح أُمور خلقه المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم، وقال قتادة: المتكبر يعني عن كل سوء، ثم قال تعالى: {سبحان اللّه عما يشركون}. وقوله تعالى: {هو اللّه الخالق الباريء المصور} الخلق: التقدير، والبرء: التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود، وليس كل من قدر شيئاً ورتّبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى اللّه عزَّ وجلَّ. قال الشاعر يمدح آخر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض * القوم يخلق ثم لا يفري
أي أنت تنفذ ما خلقت، أي قدرت بخلاف غيرك؛ فإنه لا يستطيع ما يريده فالخلق: التقدير، والفري: التنفيذ، ومنه يقال: قدر الجلاد ثم فرى، أي قطع على ما قدره بحسب ما يريده، وقوله تعالى: {الخالق البارئ المصور} أي الذي إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، على الصفة التي يريد، والصورة التي يختار، كقوله تعالى: {في أي صورة ما شاء ركبك}، ولهذا قال المصور أي الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها.
وقوله تعالى: {له الأسماء الحسنى} قد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف، ونذكر الحديث المروي عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إن للّه تعالى تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر، هو اللّه لا إله إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، الباريء، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الحميد، المحصي، المبديء، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المعطي، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور) "". وقوله تعالى: {يسبّح له ما في السماوات والأرض} كقوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً}، وقوله تعالى: {وهو العزيز} أي فلا يرام جنابه، {الحكيم} في شرعه وقدره، عن معقل بن يسار عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكل اللّه به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة) "رواه الترمذي والإمام أحمد".