الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير **
أي هذا باب الأحاديث المبدوءة بحرف الهمزة، وابتدأه بحرف الهمزة مع الألف وجعل مطلعه حديث إتيان باب الجنة إشارة إلى أن الغاية المطلوبة من تأليفه هذا الكتاب التقرب إلى الله الموصل إلى الفوز بإتيان باب الجنة تفاؤلاً بكون أول ما يقرع الأسماع منه ذكر الجنة وإتيانها ولأن جميع ما يأتي بعده في أحكام العبادة ومتعلقاتها ودخول الجنة أفضل من جميع العبادات كما أفتى به السبكي أي أشرف وأرفع. ووجهه الولي العراقي بأن ثواب الله تعالى أشرف من أفعالنا فقال: 2 - (آتي) بالمد (باب الجنة) أي أجيء بعد الانصراف من الحشر للحساب إلى أعظم المنافذ التي يتوصل منها إلى دار الثواب وهو باب الرحمة أو هو باب التوبة كما في النوادر: فإن قلت هل لتعبيره بالإتيان دون المجيء من [ص 36] نكتة؟ قلت: نعم وهي الإشارة إلى أن مجيئه يكون بصفة من ألبس خلع الرضوان فجاء على تمهل وأمان من غير نصب في الإتيان، إذ الإتيان كما قال الراغب مجيء بسهولة. قال: والمجيء أعم ففي إيثاره عليه مزية زهية. وفي الكشاف وغيره: إن أهل الجنة لا يذهب بهم إليها إلا راكبين فإذا كان هذا في آحاد المؤمنين فما بالك بإمام المرسلين؟ قال الراغب: والباب يقال لمدخل الشيء وأصله مداخل الأمكنة كباب الدار والمدينة ومنه يقال في العلم باب كذا وهذا العلم باب إلى كذا أي منه يتوصل إليه ومنه خبر: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها" أي به يتوصل وقد يقال أبواب الجنة وأبواب جهنم للأسباب الموصلة إليها انتهى. والجنة في الأصل المرة من الجنّ مصدر جنه ستره ومدار التركيب على ذلك سمي به الشجر المظلل لالتفاف أغصانه وسترها ما تحته ثم البستان لما فيه من الأشجار المتكاثفة المظللة ثم دار الثواب لما فيها من الجنان مع أن فيها ما لا يوصف من القصور لأنها مناط نعيمها ومعظم ملاذها. وقال الزمخشري: الجنة اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنات كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاق العاملين لكل طبقة منهم جنة منها، قال ابن القيم: ولها سبعة عشر اسماً وكثرة الأسماء آية شرف المسمى، أولها هذا اللفظ العام المتناول لتلك الدار وما اشتملت عليه من أنواع النعيم، والبهجة، والسرور، وقرة العين، ثم دار السلام: أي السلامة من كل بلية، ودار الله، ودار الخلد، ودار الإقامة، وجنة المأوى، وجنة عدن، والفردوس وهو يطلق تارة على جميع الجنان وأخرى على أعلاها، وجنة النعيم، والمقام الأمين، ومقعد صدق، وقدم صدق، وغير ذلك مما ورد به القرآن، (يوم القيامة) فعالة تقحم فيها التاء للمبالغة والغلبة وهي قيام مستعظم والقيام هو الاستقلال بأعباء ثقيلة، ذكره الحراني (فأستفتح) السين للطلب وآثر التعبير بها إيماء إلى القطع بوقوع مدخولها وتحققه أي أطلب انفراجه وإزالة غلقه يعني بالقرع لا بالصوت كما يرشد إليه خبر أحمد: "آخذ بحلقة الباب فأقرع" وخبر البخاري عن أنس: "أنا أول من يقرع باب الجنة" والفاء سببية أي يتسبب عن الإتيان الاستفتاح ويحتمل جعلها للتعقيب بل هو القريب. فإن قلت ما وجهه؟ قلت: الإشارة إلى أنه قد أذن له من ربه بغير واسطة أحد لا خازن ولا غيره، وذلك أن من ورد باب كبير فالعادة أن يقف حتى ينتهي خبره إليه ويستأمر فإن أذن في إدخاله فتح له. فالتعقيب إشارة إلى أنه قد صانه ربه عن ذل الوقوف وأذن له في الدخول قبل الوصول بحيث صار الخازن مأموره منتظراً لقدومه (فيقول الخازن) أي الحافظ وهو المؤتمن على الشيء الذي استحفظه، والخزن حفظ الشيء في الخزانة، ثم عبر به عن كل حفظ، ذكره الراغب، سمي الموكل بحفظ الجنة خازناً لأنها خزانة الله تعالى أعدها لعباده، وأل فيه عهدية والمعهود رضوان وظاهره أن الخازن واحد وهو غير مراد بدليل خبر أبي هريرة: "من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب هلم" فهو صريح في تعدد الخزنة إلا أن رضوان أعظمهم ومقدمهم، وعظيم الرسل إنما يتلقاه عظيم الحفظة (من أنت) أجاب بالاستفهام وأكده بالخطاب تلذذاً بمناجاته وإلا فأبواب الجنة شفافة وهو العلم الذي لا يشتبه والمتميز الذي لا يلتبس وقد رآه رضوان قبل ذلك وعرفه ومن ثم اكتفى بقوله (فأقول محمد) وإن كان المسمى به كثيراً. فإن قلت ينافي كون أبواب الجنة شفافة خبر أبي يعلى عن أنس "أقرع باب الجنة فيفتح لي باب من ذهب وحلقه من فضة" قلت: ما في الجنة لا يشبه ما في الدنيا إلا في مجرد الاسم كما في خبر يأتي، فلا مانع من كون ذهب الجنة شفافاً فتدبر. ثم إنه لم يقل أنا لإيهامه مع ما فيه من الإشعار بتعظيم المرء نفسه وهو سيد المتواضعين، وهذه الكلمة جارية على ألسنة الطغاة المتجبرين إذا ذكروا مفاخرهم وزهوا بأنفسهم، قال في المطامح: وعادة العارفين المتقين أن يذكر أحدهم اسمه بدل قوله: "أنا" إلا في نحو إقرار بحق فالضمير أولى. وقال ابن الجوزي: أنا لا يخلو عن نوع تكبر كأنه يقول أنا لا أحتاج إلى ذكر اسمي ولا نسبي لسمو مقامي. وقال بعض المحققين: ذهب طائفة من العلماء وفرقة من الصوفية إلى كراهة إخبار الرجل عن نفسه بقوله أنا تمسكاً بظاهر الحديث حتى قالوا كلمة أنا لم تزل مشئومة على أصحابها وأرادوا أن إبليس اللعين إنما لعن [ص 37] بقولها وليس كما أطلقوا بل المنهي عنه ما صحبه النظر إلى نفسه بالخيرية كما نقرر. ولا ننكر إصابة الصوفية في دقائق علومهم وإشاراتهم في التبرئ من الدعاوى الوجودية لكنا نقول إن الذي أشاروا إليه بهذا راجع إلى معان تتعلق بأحوالهم دون ما فيه التعلق بالقول، كيف وقد ناقض قولهم نصوص كثيرة وهم أشد الناس فراراً عن مخالفتها كقوله تعالى حكاية عنه عليه الصلاة والسلام: "إنما أنا بشر مثلكم"، "وأنا أول المسلمين"، "وما أنا من المتكلفين" وخبر "أنا سيد ولد آدم": قال بعض العارفين، والحاصل أن ذلك يتفاوت بتفاوت المقامات والأحوال فالمتردد في الأحوال المتجول في الفناء والتكوين ينافي حاله أن يقول أنا ومن رقى إلى مقام البقاء بالله وتصاعد إلى درجات التمكين فلا يضره. انتهى. وأما من ليس من هذه الطائفة فقد قال النووي: لا بأس بقوله أنا الشيخ فلان أو القاضي فلان إذا لم يحصل التمييز إلا به وخلا عن الخيلاء والكبر والزهو، والقول عبارة عن جملة ما يتكلم به المتكلم على وجه الحكاية. ذكره جمع. وقال القاضي: هو التلفظ بما يفيد ويقال للمعنى المتصور في النفس المعبر عنه باللفظ ويقال للمذهب والرأي مجازاً وأصله قول الزمخشري من المجاز هذا قول فلان أي ورأيه ومذهبه (فيقول بك) قيل الباء متعلقة بالفعل بعدها ثم هي سببية قدمت للتخصيص أي بسببك (أمرت) بالبناء للمفعول والفاعل هو الله (أن لا أفتح) كذا في نسخة المؤلف بخطه وهكذا ذكره في جامعه الكبير والذي وقفت عليه في نسخ مسلم الصحيحة المقروءة "لا أفتح" بإسقاط أن (لأحد) من الخلائق (قبلك) لا بسبب آخر وقبل الباء صلة للفعل: "وأن لا أفتح" بدل من الضمير المجرور أي أمرت بفتح الباب لك قبل غيرك من الأنبياء وفي رواية: "ولا أقوم لأحد بعدك" وذلك لآن قيامه إليه خاصة إظهاراً لمرتبته ومزيته ولا يقوم في خدمة أحد غيره بل خزنة الجنة يقومون في خدمته وهو كالملك عليهم وقد أقامه الله في خدمته صلى الله عليه وسلم حتى مشى إليه وفتح له "وأحد" يستعمل في النفي فيكون لاستغراق جنس الناطقين وتناول القليل والكثير على طريق الاجتماع والافتراق. وعلم من السياق أن طلب الفتح إنما هو من الخازن وإلا لما كان هو المجيب. فإن قلت ورد عن الحسن وقتادة وغيرهما أن أبواب الجنة يرى ظاهرها من باطنها وعكسه وتتكلم وتعقل ما يقال لها انفتحي انغلقي كما نقله ابن القيم وغيره فلم طلب الفتح من الخازن ولم يطلبه منها بلا واسطة؟ قلت: الظاهر أنها مأمورة بعدم الاستقلال بالفتح والغلق وأنها لا تستطيع ذلك إلا بأمر عريفها المالك لأمرها بإذن ربها وإنما يطالب بما يراد من القوم عرفاؤهم. فإن قلت: ما فائدة جعل الخازن للجنات مع أن الخزن إنما يكون في المتعارف حفظاً لما يخاف ضياعه أو تلفه أو تطرق النقص إليه فيفوت كله أو بعضه على صاحبه والجنة لا يمكن فيها ذلك؟ قلت: إن خزن ملائكة الجنة نعيمها إنما يكون لأهلها فكل منهم يجعل إليه مراعاة قسط معلوم من تلك النعم لمن أعد له حتى إذا وافى الجنة كان الخازن هو الممكن له منه فخزنه إياه قبل التسليم هو مقامه على ملاحظة ما جعل سبيله وانتظار من أهل له وإيصاله إليه فهذا هو المراد لا حفظها من أحد يخاف منه عليها ذكره الحليمي. فإن قلت: ما ذكر من أن رضوان هو متولي الفتح يعارضه خبر أبي نعيم والديلمي: "أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة فيفتحها الله عز وجل لي" قلت: لا معارضة فإن الله تعالى هو الفاتح الحقيقي وتولي رضوان ذلك إنما هو بإقداره وتمكينه. ثم إن ظاهر الحديث استشكل بأن الزمخشري والقاضي ذكرا أن أبواب الجنة تفتح لأهلها قبل مجيئهم بدليل: ثم إن الأولية في الحديث لا تشكل بإدريس حيث أدخل الجنة بعد موته وهو فيها كما ورد لآن المراد الدخول التام يوم القيامة وإدريس يحضر الموقف للسؤال عن التبليغ ولا بأن السبعين ألفاً الداخلين بغير حساب يدخلون قبله لأن دخولهم بشفاعته فينسب إليه، واعترض بأن التعبير بسبعين ألفاً فيه قصور لثبوت الزيادة هو القصور لأن العرب تريد به المبالغة في التكثير ومثله غير كثير، ألا ترى إلى ما ذكره المفسرون: - (حم م) في كتاب الإيمان (عن أنس) بن مالك. [ص 39] 3 - (آخر من يدخل الجنة) أي من الموحدين لأن الكفار مخلدون لا يخرجون من النار أبداً، ولم يصب من قال من أمة محمد إذ الموحدون الذين يعذبون ثم يدخلونها لا ينحصرون في أمة محمد. وفي عدة أخبار إن هذه الأمة يخفف عن عصاتها ويخرجون قبل عصاة غيرها كخبر الدارقطني: "إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي" قال ابن القيم فهذه الأمة أسبق الأمم خروجاً من الأرض وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف وأسبقهم إلى ظل العرش وأسبقهم إلى فصل القضاء وأسبقهم إلى الجواز على الصراط وأسبقهم إلى دخول الجنة. ووقع في النوادر للحكيم من حديث أبي هريرة "إن أطول أهل النار فيها مكثاً من يمكث سبعة آلاف سنة" قال ابن حجر وسنده واه (رجل) يختص بالذكر من الناس ويقال الرجلة للمرأة إذا كانت متشبهة به في بعض الأحوال ذكره الراغب (يقال له) أي يدعى (جهينة) بالتصغير: اسم قبيلة سمي به الرجل (فيقول أهل الجنة) أي يقول بعضهم لبعض والمراد بأهلها سكانها من البشر والملائكة والحور العين وغيرهم لكن في السياق إيماء إلى أن القائل من البشر (عند) بتثليث العين (جهينة) بجيم ثم هاء، ووقع في التذكرة الحمدونية أنه روى أيضاً حنيفة بالفاء ولم أقف على هذه الرواية (الخبر اليقين) أي الجازم الثابت المطابق للواقع من أنه هل بقي أحد في النار يعذب أو لا. وهذه الآخرية لا يعارضها حديث مسلم: "آخر من يدخل الجنة رجل يمشي على الصراط فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة فإذا جاوزها التفت إليها فقال تبارك الذي نجاني منك" الحديث لإمكان الجمع بأن جهينة آخر من يدخل الجنة ممن دخل النار وعذب فيها مدة ثم أخرج وهذا آخر من يدخل الجنة ممن ينصرف فيمر على الصراط في ذهابه إلى الجنة ولم يقض بدخوله النار أصلاً ولا ينافيه قوله وتسفعه النار مرة لأن المراد أنه يصل إليه لهبها وهو خارج عن حدودها. ثم رأيت ابن أبي جمرة جمع بنحوه فقال: هذا آخر من يخرج منها بعد أن يدخلها حقيقة وذاك آخر من يدخل ممن يمر على الصراط، فيكون التعبير بأنه خرج من النار بطريق المجاز لأنه أصابه من حرها وكربها ما يشاركه فيه بعض من دخلها. وما ذكر من أن اسمه جهينة هو ما وقع في هذا الخبر. قال القرطبي والسهيلي: وجاء أن اسمه هناد وجمع بأن أحد الاسمين لأحد المذكورين والآخر للآخر. ومن الأمثال عند العرب قبل الإسلام: عند جهينة الخبر اليقين. قال ابن حمدون: ولذلك خبر مشهور متداول وهو رجل كان اسمه جهينة عنده خبر من قتيل قد خفي أمره فذكروا ذلك فصار مثلاً مستعملاً بينهم، قال الراغب وآخر: يقابل الأول وآخر يقابل به الواحد والتأخير يقابل التقديم والدخول ضد الخروج ويستعمل في الزمان والمكان والأعمال والاستخبار والسؤال عن الخبر .
|