الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} في هذا الشوط يدع مقولات المشركين وجدالهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم ليبدأ جولة في مشاهد الكون ومجاليه، يوجه إليها قلب الرسول ويصل بها مشاعره. وهذا الاتصال كاف وحده ليدفع خاطره عن مضايقات المشركين الصغيرة؛ ويفتح قلبه على تلك الآفاق الوسيعة التي يتضاءل معها كيد الكائدين وعداوة المجرمين.. والقرآن يوجه القلوب والعقول دائماً إلى مشاهد هذا الكون؛ ويربط بينهما وبين العقول والقلوب. ويوقظ المشاعر لاستقبالها بحس جديد متفتح، يتلقى الأصداء والأضواء، وينفعل بها ويستجيب، ويسير في هذا الكون ليلتقط الآيات المبثوثة في تضاعيفه، المنثورة في أرجائه، المعروضة في صفحاته، ويرى فيها يد الصانع المدبر، ويستشعر آثار هذه اليد في كل ما تقع عليه عينه، وكل ما يلمسه حسه، وكل ما يلتقطه سمعه؛ ويتخذ من هذا كله مادة للتدبر والتفكر، والاتصال بالله، عن طريق الاتصال بما صنعت يداه. وحين يعيش الإنسان في هذا الكون مفتوح العين والقلب، مستيقظ الحس والروح، موصول الفكر والخاطر؛ فإن حياته ترتفع عن ملابسات الأرض الصغيرة، وشعوره بالحياة يتسامى ويتضاعف معاً. وهو يحس في كل لحظة أن آفاق الكون أفسح كثيراً من رقعة هذه الأرض؛ وأن كل ما يشهده صادر عن إرادة واحدة، مرتبط بناموس واحد، متجه إلى خالق واحد؛ وإن هو إلا واحد من هذه المخلوقات الكثيرة المتصلة بالله؛ ويد الله في كل ما حوله، وكل ما تقع عليه عينه، وكل ما تلمسه يداه. إن شعوراً من التقوى، وشعوراً من الأنس، وشعوراً من الثقة لتمتزج في حسه، وتفيض على روحه، وتعمر عالمه، فتطبعه بطابع خاص من الشفافية والمودة والطمأنينة في رحلته على هذا الكوكب حتى يلقى الله. وهو يقضي هذه الرحلة كلها في مهرجان من صنع الله وعلى مائدة من يد الصانع المدبر الجميل التنسيق. وفي هذا الدرس يتنقل السياق من مشهد الظل اللطيف، ويد الله تمده ثم تقبضه في يسر ولطف. إلى مشهد الليل وما فيه من نوم وسبات، والنهار وما فيه من حركة وانبعاث. إلى مشهد الرياح تبشر بالرحمة ثم يعقبها الماء المحيي للموات. إلى مشهد البحرين الفرات والأجاج وبينهما برزخ يمنعهما ويحجز بينهما فلا يختلطان. ومن ماء السماء إلى ماء النطفة، وإذا هو بشر يصرف الحياة. إلى مشهد خلق السماوات والأرض في ستة أيام. إلى مشهد البروج في السماء وما فيها من سراج مضيء وقمر منير. إلى مشهد الليل والنهار يتعاقبان على مدار الزمان. وفي خلال هذه المشاهد الموحية يوقظ القلب وينبه العقل إلى تدبر صنع الله فيها؛ ويذكر بقدرته وتدبيره؛ ويعجب معه إشراك المشركين، وعبادتهم مالا ينفعهم ولا يضرهم، وجهلهم بربهم وتطاولهم عليه، وتظاهرهم على الكفر والجحود والنكران. فإذا هو تصرف عجيب مريب في وسط هذا الحشد المعروض من آيات الله، ومشاهد الكون الذي خلقه الله. فلنعش نحن لحظات في ذلك المهرجان الذي يدعونا الخالق البارئ المصور إليه في طول الحياة. {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً}.. إن مشهد الظل الوريف اللطيف ليوحي إلى النفس المجهودة المكدودة بالراحة والسكن والأمان. وكأنما هو اليد الآسية الرحيمة تنسم على الروح والبدن، وتمسح على القرح والألم، وتهدهد القلب المتعب المكدود.. أفهذا الذي يريده الله سبحانه وهو يوجه قلب عبده إلى الظل بعدما ناله من استهزاء ولأواء؟ وهو يمسح على قلبه المتعب في هذه المعركة الشاقة، وهو في مكة يواجه الكفر والكبر والمكر والعناد، في قلة من المؤمنين وكثرة من المشركين؛ ولم يؤذن له بعد في مقابلة الاعتداء بمثله وفي رد الأذى والتهجم والاستهزاء؟! إن هذا القرآن الذي كان يتنزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو البلسم المريح، والظل الظليل، والروح المحيي في هجير الكفر والجحود والعصيان. وإن الظل وبخاصة في هجير الصحراء المحرق لهو المشهد الذي يتناسق مع روح السورة كلها وما فيها من أنداء وظلال. والتعبير يرسم مشهد الظل ويد الله الخفية التدبير تمده في رفق، وتقبضه في لطف: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل؟}.. {ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً}.. والظل هو ما تلقيه الأجرام من الظلمة الخفيفة حين تحجب أشعة الشمس في النهار. وهو يتحرك مع حركة الأرض في مواجهة الشمس، فتتغير أوضاعه وامتداداته وأشكاله؛ والشمس تدل عليه بضوئها وحرارتها، وتميز مساحته وامتداده وارتداده. ومتابعة خطوات الظل في مده وانقباضه يشيع في النفس نداوة وراحة كما يثير فيها يقظة لطيفة شفيفة، وهي تتتبع صنع البارئ اللطيف القدير.. وإن مشهد الظلال والشمس مائلة للمغيب، وهي تطول وتطول، وتمتد وتمتد. ثم في لحظة. لحظة واحدة ينظر الإنسان فلا يجدها جميعاً. لقد اختفى قرص الشمس وتوارت معه الظلال. أين تراها ذهبت؟ لقد قبضتها اليد الخفية التي مدتها. لقد انطوت كلها في الظل الغامر الطامي. ظل الليل والظلام! إنها يد القدرة القوية اللطيفة. التي يغفل البشر عن تتبع آثارها في الكون من حولهم وهي تعمل دائبة لا يدركها الكلال. {ولو شاء لجعله ساكناً}.. فبناء الكون المنظور على هذا النسق، وتنسيق المجموعة الشمسية هذا التنسيق هو الذي جعل الظل متحركاً هذه الحركة اللطيفة. ولو اختلف ذلك النسق أقل اختلاف لاختلفت آثاره في الظل الذي نراه. لو كانت الأرض ثابتة لسكن الظل فوقها لا يمتد ولا يقبض. ولو كانت سرعتها أبطأ أو أسرع مما هي عليه لكان الظل في امتداده وقبضه أبطأ أو أسرع. فتنسيق الكون المنظور على ناموسه هذا هو الذي يسمح بظاهرة الظل، ويمنحها خواصها التي نراها. وهذا التوجيه إلى تلك الظاهرة التي نراها كل يوم، ونمر بها غافلين، هو طرف من منهج القرآن في استحياء الكون دائماً في ضمائرنا، وفي إحياء شعورنا بالكون من حولنا، وفي تحريك خوامد إحساسنا التي افقدها طول الألفة إيقاع المشاهد الكونية العجيبة. وطرف من ربط العقول والقلوب بهذا الكون الهائل العجيب. ومن مشهد الظل إلى مشهد الليل الساتر، والنوم الساكن، والنهار وما فيه من حركة ونشور: {وهو الذي جعل لكم الليل لباساً، والنوم سباتاً، وجعل النهار نشوراً}.. والليل يستر الأشياء والأحياء فتبدو هذه الدنيا وكأنها تلبس الليل وتتشح بظلامه فهو لباس. وفي الليل تنقطع الحركة ويسكن الدبيب وينام الناس وكثير من الحيوان والطيور والهوام. والنوم انقطاع عن الحس والوعي والشعور. فهو سبات. ثم يتنفس الصبح وتنبعث الحركة، وتدب الحياة في النهار. فهو نشور من ذلك الموت الصغير، الذي يتداول الحياة على هذه الأرض مع البعث والنشور مرة في كل دورة من دورات الأرض الدائبة التي لا يصيبها الكلال. وهي تمر بالبشر وهم غافلون عما فيها من دلالة على تدبير الله، الذي لا يغفل لحظة ولا ينام. ثم ظاهرة الرياح المبشرة بالمطر وما يبثه من حياء: {وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماء طهوراً، لنحيي به بلدة ميتاً، ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً}.. والحياة على هذه الأرض كلها تعيش على ماء المطر إما مباشرة، وإما بما ينشئه من جداول وأنهار على سطح الأرض. ومن ينابيع وعيون وآبار من المياه الجوفية المتسربة إلى باطن الأرض منه، ولكن الذين يعيشون مباشرة على المطر هم الذين يدركون رحمة الله الممثلة فيه إدراكاً صحيحاً كاملاً. وهم يتطلعون إليه شاعرين بأن حياتهم كلها متوقفة عليه، وهم يترقبون الرياح التي يعرفونها تسوق السحب، ويستبشرون بها؛ ويحسون فيها رحمة الله إن كانوا ممن شرح الله صدورهم للإيمان. والتعبير يبرز معنى الطهارة والتطهير: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} وهو بصدد ما في الماء من حياة. {لنحيي به بلدة ميتاً، ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً} فيلقي على الحياة ظلاً خاصاً. ظل الطهارة. فالله سبحانه أراد الحياة طاهرة نقية وهو يغسل وجه الأرض بالماء الطهور الذي ينشئ الحياة في الموات ويسقي الأناسي والأنعام. وعند هذا المقطع من استعراض المشاهد الكونية يلتفت إلى القرآن النازل من السماء كذلك لتطهير القلوب والأرواح؛ وكيف يستبشرون بالماء المحيي للأجسام ولا يستبشرون بالقرآن المحيي للأرواح: {ولقد صرفناه بينهم ليذكروا، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً، ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً. فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً}. {ولقد صرفناه بينهم ليذكروا}.. فعرضناه عليهم في صور شتى، وأساليب متعددة، ولفتات متنوعة؛ وخاطبنا به مشاعرهم ومداركهم، وأرواحهم وأذهانهم؛ ودخلنا عليهم به من كل باب من أبواب نفوسهم، وبكل وسيلة تستجيش ضمائرهم.. {ليذكروا}.. فما يحتاج الأمر إلى أكثر من التذكر. والحقيقة التي يحاول القرآن ردهم إليها مركوزة في فطرتهم، أنساهم إياها الهوى الذي اتخذوا منه إلهاً.. {فأبى أكثر الناس إلا كفوراً}. ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم إذن ضخمة شاقة؛ وهو يواجه البشرية كلها وأكثرها أضله الهوى، وأبى إلا الكفر ودلائل الإيمان حاضرة.. {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً}.. فتوزع المشقة، وتخف المهمة. ولكن الله اختار لها عبداً واحداً، هو خاتم الرسل؛ وكلفه إنذار القرى جميعاً، لتتوحد الرسالة الأخيرة، فلا تتفرق على ألسنة الرسل في القرى المتفرقة، وأعطاه القرآن ليجاهدهم به: {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً}.. وإن في هذا القرآن من القوة والسلطان، والتأثير العميق، والجاذبية التي لا تقاوم، ما كان يهز قلوبهم هزاً، ويزلزل أرواحهم زلزالاً شديداً؛ فيغالبون أثره بكل وسيلة فلا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً. ولقد كان كبراء قريش يقولون للجماهير: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} وكانت هذه المقالة تدل على الذعر الذي تضطرب به نفوسهم ونفوس أتباعهم من تأثير هذا القرآن؛ وهم يرون هؤلاء الأتباع كأنما يسحرون بين عشية وضحاها من تأثير الآية والآيتين، والسورة والسورتين، يتلوهما محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فتنقاد إليه النفوس، وتهوى إليه الأفئدة. ولم يقل رؤساء قريش لأتباعهم وأشياعهم هذه المقالة، وهم في نجوة من تأثير هذا القرآن. فلولا أنهم أحسوا في أعماقهم هزة روعتهم ما أمروا هذا الأمر، وما أشاعوا في قومهم بهذا التحذير، الذي هو أدل من كل قول على عمق التأثير! قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حُدِّث: أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل ابن هشام، والأخنس بن شريق بن عمر بن وهب الثقفي حليف بني زهرة.. خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل في بيته. فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً! ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة! ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود! فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا. «فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه. ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها؛ وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به. قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه!! قال: فقام عنه الأخنس وتركه». فهكذا كانوا يغالبون أنفسهم أن تهفو إلى هذا القرآن فتغلبهم، لولا أن يتعاهدوا وهم يحسون ما يتهدد زعامتهم، لو اطلع عليهم الناس، وهم مأخوذون شبه مسحورين! وإن في القرآن من الحق الفطري البسيط، لما يصل القلب مباشرة بالنبع الأصيل، فيصعب أن يقف لهذا النبع الفوار، وأن يصد عنه تدفق التيار. وأن فيه من مشاهد القيامة، ومن القصص، ومن مشاهد الكون الناطقة، ومن مصارع الغابرين، ومن قوة التشخيص والتمثيل، لما يهز القلوب هزاً لا تملك معه قراراً. وإن السورة الواحدة لتهز الكيان الإنساني في بعض الأحيان، وتأخذ على النفس أقطارها ما لا يأخذه جيش ذو عدة وعتاد!! فلا عجب مع ذلك أن يأمر الله نبيه أن لا يطيع الكافرين، وألا يتزحزح عن دعوته وأن يجاهدهم بهذا القرآن. فإنما يجاهدهم بقوة لا يقف لها كيان البشر، ولا يثبت لها جدال أو محال. وبعد هذه اللفتة يعود إلى مشاهد الكون، فيعقب على مشهد الرياح المبشرة والماء الطهور، بمشهد البحار العذبة والملحة وما بينهما من حجاز: {وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات، وهذا ملح أجاج؛ وجعل بينهما برزخاً، وحجراً محجوراً}.. وهو الذي ترك البحرين، الفرات العذب والملح المر، يجريان ويلتقيان، فلا يختلطان ولا يمتزجان؛ إنما يكون بينهما برزخ وحاجز من طبيعتهما التي فطرها الله. فمجاري الأنهار غالباً أعلى من سطح البحر، ومن ثم فالنهر العذب هو الذي يصب في البحر الملح، ولا يقع العكس إلا شذوذاً. وبهذا التقدير الدقيق لا يطغى البحر وهو أضخم وأغزر على النهر الذي منه الحياة للناس والأنعام والنبات. ولا يكون هذا التقدير مصادفة عابرة وهو يطرد هذا الاطراد. إنما يتم بإرادة الخالق الذي أنشأ هذا الكون لغاية تحققها نواميسه في دقة وإحكام. وقد روعي في نواميس هذا الكون ألا تطغى مياه المحيطات الملحة لا على الأنهار ولا على اليابسة حتى في حالات المد والجزر التي تحدث من جاذبية القمر للماء الذي على سطح الأرض، ويرتفع بها الماء ارتفاعاً عظيماً. يقول صاحب كتاب: الإنسان لا يقوم وحده (العلم يدعو إلى الإيمان): «يبعد القمر عنا مسافة مائتين وأربعين ألفاً من الأميال، ويذكرنا المد الذي يحدث مرتين تذكيراً لطيفاً بوجود القمر. والمد الذي يحدث بالمحيط قد يرتفع إلى ستين قدماً في بعض الأماكن. بل إن قشرة الأرض تنحني مرتين نحو الخارج مسافة عدة بوصات بسبب جاذبية القمر. ويبدو لنا كل شيء منتظماً لدرجة أننا لا ندرك القوة الهائلة التي ترفع مساحة المحيط كلها عدة أقدام، وتنحني قشرة الأرض التي تبدو لنا صلبة للغاية». «والمريخ له قمر. قمر صغير. لا يبعد عنه سوى ستة آلاف من الأميال. ولو كان قمرنا يبعد عنا خمسين ألف ميل مثلاً، بدلاً من المسافة الشاسعة التي يبعد بها عنا فعلاً، فإن المد كان يبلغ من القوة بحيث أن جميع الأراضي التي تحت منسوب الماء كانت تغمر مرتين في اليوم بماء متدفق يزيح بقوته الجبال نفسها. وفي هذه الحالة ربما كانت لا توجد الآن قارة قد ارتفعت من الأعماق بالسرعة اللازمة، وكانت الكرة الأرضية تتحطم من هذا الاضطراب، وكان المد الذي هو في الهواء يُحدث أعاصير كل يوم». «وإذا فرضنا أن القارات قد اكتسحت، فإن معدل عمق الماء فوق الكرة الأرضية كلها يكون نحو ميل ونصف. وعندئذ ما كانت الحياة لتوجد إلا في أعماق المحيط السحيقة على وجه الاحتمال؟». ولكن اليد التي تدبر هذا الكون مرجت البحرين وجعلت بينهما برزخاً وحاجزاً من طبيعتهما ومن طبيعة هذا الكون المتناسق الذي تجري مقاديره بيد الصانع المدبر الحكيم، هذا الجري المقدر المنسق المرسوم. ومن ماء السماء وماء البحر والنهر إلى ماء النطفة الذي تنشأ منه الحياة البشرية المباشرة: {وهو الذي خلق من الماء بشراً، فجعله نسباً وصهراً، وكان ربك قديراً}.. فمن هذا الماء يتخلق الجنين: ذكراً فهو نسب، وأنثى فهو صهر، بما أنها موضع للصهر. وهذه الحياة البشرية الناشئة من هذا الماء أعجب وأضخم من تلك الحياة الناشئة من ماء السماء. فمن خلية واحدة (من عشرات الألوف الكامنة في نقطة واحدة من ماء الرجل) تتحد ببويضة المرأة في الرحم، ينشأ ذلك الخلق المعقد المركب.. الإنسان.. أعجب الكائنات الحية على الإطلاق! ومن الخلايا المتشابهة والبويضات المتشابهة ينشأ ذكور وإناث بطريقة عجيبة، لا يدرك البشر سرها، ولا يستطيع علم البشر ضبطها أو تعليلها. فما من خلية من آلاف الخلايا يمكن أن تلحظ فيها مميزات معروفة هي التي تؤهلها لأن تنتج ذكراً أو أنثى، وما من بويضة كذلك لوحظ فيها مثل هذه الميزات. . ومع ذلك تصير هذه إلى أن تكون رجلاً، وهذه إلى أن تكون امرأة، في نهاية المطاف! {وكان ربك قديراً}.. وها هي ذي القدرة تكشف عن طرف منها في هذا العجب العجاب! ولو راح الإنسان يدقق في هذا الماء الذي يخلق منه الإنسان، لأدركه الدوار وهو يبحث عن خصائص الإنسان الكاملة الكامنة في الأجسام الدقيقة البالغة الدقة، التي تحمل عناصر الوراثة للجنس كله، وللأبوين وأسرتيهما القريبتين، لتنقلها إلى الجنين الذكر والجنين الأنثى كل منهما بحسب ما ترسم له يد القدرة من خلق واتجاه في طريق الحياة. وهذه لمحات من كتاب: «الإنسان لا يقوم وحده» عن خصائص الوراثة الكامنة في تلك الذريرات الصغيرة: «كل خلية ذكراً أو أنثى. تحتوي على كروموزومات وجينات (وحدات الوراثة) والكروموزومة تكون النوية (نواة صغيرة) المعتمة التي تحتوي الجينة. والجينات هي العامل الرئيسي الحاسم فيما يكون عليه كل كائن حي أو إنسان. والسيتوبلازم هي تلك التركيبات الكيماوية العجيبة التي تحيط بالاثنتين. وتبلغ الجينات (وحدات الوراثة) من الدقة أنها وهي المسؤولة عن المخلوقات البشرية جميعاً، التي على سطح الأرض من حيث خصائصها الفردية وأحوالها النفسية وألوانها وأجناسها لو جمعت كلها ووضعت في مكان واحد، لكان حجمها أقل من حجم» الكستبان «!» «وهذه الجينات الميكروسكوبية البالغة الدقة هي المفاتيح المطلقة لخواص جميع البشر والحيوانات والنباتات.» والكستبان «الذي يسع الصفات الفردية لبليونين من البشر هو بلا ريب مكان صغير الحجم. ومع ذلك فإن هذه هي الحقيقة التي لا جدال فيها». «وإن الجنين وهو يخلص في تطوره التدريجي من النطفة (البروتوبلازم) إلى الشبه الجنسي، إنما يقص تاريخاً مسجلاً، قد حفظ وعبر عنه بالتنظيم الذري في الجينات والسيتوبلازم». ... «لقد رأينا أن الجينات متفق على كونها تنظيمات أصغر من الميكروسكوبية للذرات، في خلايا الوراثة بجميع الكائنات الحية. وهي تحفظ التصميم، وسجل السلف، والخواص التي لكل شيء حي. وهي تتحكم تفصيلاً في الجذر والجذع والورق والزهر والثمر لكل نبات. تماماً كما تقرر الشكل، والقشر، والشعر، والأجنحة لكل حيوان بما فيه الإنسان». وبهذا القدر نكتفي من عجائب الحياة، التي أودعتها إياها القدرة الخالقة المدبرة. {وكان ربك قديراً}.. وفي مثل هذا الجو. جو الخلق والتقدير. وأمام تلك الحياة الناشئة من ماء السماء وماء النطفة. المزودة بتلك الخصائص، التي تجعل من خلية ذكراً بمميزاته كلها ووراثاته، وتجعل من خلية أنثى بمميزاتها كذلك ووراثاتها.. في مثل هذا الجو تبدو عبادة غير الله شيئاً مستغرباً مستنكراً تشمئز منه الفطرة. . وهنا يعرض عباداتهم من دون الله. {ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم. وكان الكافر على ربه ظهيراً}.. {وكان الكافر على ربه ظهيراً}.. كل كافر ومشركو مكة من ضمنهم! إنما هو حرب على ربه الذي خلقه وسواه. فكيف ذلك، وهو صغير ضئيل لا يبلغ أن يكون حرباً ولا ضداً على الله؟ إنه حرب على دينه. وحرب على منهجه الذي أراده للحياة. إنما يريد التعبير أن يفظع جريمته ويبشعها، فيصوره حرباً على ربه ومولاه! فهو يحارب ربه حين يحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته، فلا على الرسول منه، فإنما الحرب مع الله، وهو به كفيل. ثم يطمئن الله عبده، ويخفف العبء عن عاتقه، ويشعره أنه حين يؤدي واجبه في التبشير والإنذار، وجهاد الكفار بما معه من قرآن فلا عليه من عداء المجرمين له ولا عناد الكافرين. والله يتولى عنه المعركة مع أعدائه الذين إنما يعادون الله. فليتوكل على ربه. والله أعلم بذنوب عباده! {وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً. قل: ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً. وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده، وكفى به بذنوب عباده خبيراً}.. وبهذا يحدد واجب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو التبشير والإنذار. ولم يكن بعد مأموراً بقتال المشركين وهو في مكة لضمان حرية التبشير والإنذار كما أمر به بعد ذلك في المدينة. وذلك لحكمة يعلمها الله. نحدس منها أنه كان في هذه الفترة يعد الرجال الذين ترتكز إليهم هذه العقيدة الجديدة، وتعيش في نفوسهم، وتترجم في حياتهم، وتتمثل في سلوكهم، لكي يكونوا نواة المجتمع المسلم الذي يحكمه الإسلام ويهيمن عليه. ولكي لا يدخل في خصومات وثارات دموية تصد قريشاً عن الإسلام، وتغلق قلوبهم دونه؛ والله يقدر أنهم سيدخلون فيه بعضهم قبل الهجرة وسائرهم بعد الفتح، ويكون منهم نواة صلبة للعقيدة الخالدة بإذن الله. على أن لب الرسالة بقي في المدينة كما كان في مكة هو التبشير والإنذار. إنما جعل القتال لإزالة الموانع المادية دون حرية الدعوة، ولحماية المؤمنين حتى لا تكون فتنة؛ فالنص صادق في مكة وفي المدينة على السواء: {وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً}.. {قل: ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً}.. فليس للرسول صلى الله عليه وسلم من مطمع في أجر ولا عرض من أعراض الحياة الدنيا يناله ممن يهتدون إلى الإسلام. ليست هناك إتاوة. ولا نذر ولا قربان يقدمه المسلم. وهو يدخل في الجماعة المسلمة بكلمات ينطق بها لسانه ويعتقد بها قلبه. وهذه ميزة الإسلام. ميزته أن ليس هناك كاهن يتقاضى ثمن كهانته، ولا وسيط يقبض ثمن وساطته؛ ليس هنالك «رسم دخول» ولا ثمن لتناول سر ولا بركة ولا استقبال! هذه هي بساطة هذا الدين وبراءته من كل ما يحول بين القلب والإيمان؛ ومن كل ما يقف بين العبد وربه من وسطاء وكهان. . ليس هنالك سوى أجر واحد للرسول صلى الله عليه وسلم هو اهتداء المهتدي إلى الله وتقربه إلى ربه بما يراه! {إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً}.. هذا وحده هو أجره.. يرضي قلبه الطاهر ويستريح وجدانه النبيل أن يرى عبداً من عباد الله قد اهتدى إلى ربه، فهو يبتغي رضاه، ويتحرى طريقه، ويتجه إلى مولاه. {وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده}.. وكل ما عدا الله ميت، لأنه صائر إلى موت، فلا يبقى إلا الحي الذي لا يموت. والتوكل على ميت، تفارقه الحياة يوماً طال عمره أم قصر، هو ارتكان إلى ركن ينهار، وإلى ظل يزول. إنما التوكل على الحي الدائم الذي لا يزول.. {وسبح بحمده} ولا يحمد إلا الله المنعم الوهاب.. ودع أمر الكفار الذين لا ينفعهم التبشير والإنذار إلى الحي الذي لا يموت فهو يعلم ذنوبهم ولا يخفى عليه منها شيء: {وكفى به بذنوب عباده خبيراً}. وفي معرض الخبرة المطلقة والقدرة على الجزاء يذكر خلق الله للسماوات والأرض، واستعلاءه على العرش: {الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، الرحمن، فاسأل به خبيراً}.. وأيام الله التي خلق فيها السماوات والأرض غير أيامنا الأرضية قطعاً. فإنما أيامنا هذه ظل للنظام الشمسي، ومقياس لدورة فلكية وجدت بعد خلق السماوات والأرض. وهي مقيسة بقدر دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس. والخلق لا يقتضي إلا توجه الإرادة الإلهية المرموز له بلفظة: «كن» فتتم الكينونة «فيكون». ولعل هذه الأيام الستة من أيام الله التي لا يعلم مقدارها إلا هو إنما تمت فيها أطوار متباعدة في السماوات والأرض حتى انتهت إلى وضعها الحالي. أما الاستواء على العرش فهو معنى الاستعلاء والسيطرة ولفظ {ثم} لا يدل على الترتيب الزمني إنما يدل على بعد الرتبة. رتبة الاستواء والاستعلاء. ومع الاستعلاء والسيطرة الرحمة الكبيرة الدائمة: {الرحمن}.. ومع الرحمة الخبرة: {فاسأل به خبيراً} الخبرة المطلقة التي لا يخفى عليها شيء. فإذا سألت الله، فإنما تسأل خبيراً، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. ومع هذا فإن أولئك المتبجحين المتطاولين، يقابلون الدعوة إلى عبادة الرحمن باستخفاف واستنكار: {وإذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن: قالوا: وما الرحمن؟ أنسجد لما تأمرنا؟ وزادهم نفوراً} ! وهي صورة كريهة من صور الاستهتار والتطاول؛ تذكر هنا للتهوين من وقع تطاولهم على الرسول صلى الله عليه وسلم فهم لا يوقرون ربهم، فيتحدثون بهذه اللهجة عن ذاته العلية، فهل يستغرب من هؤلاء أن يقولوا عن الرسول ما قالوا؟ وهم ينفرون من اسم الله الكريم، ويزعمون أنهم لا يعرفون اسم {الرحمن} ويسألون عنه بما، زيادة في الاستهتار.
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)} هذا الشوط الأخير في السورة يبرز فيه {عباد الرحمن} بصفاتهم المميزة، ومقوماتهم الخاصة؛ وكأنما هم خلاصة البشرية في نهاية المعركة الطويلة بين الهدى والضلال. بين البشرية الجاحدة المشاقة والرسل الذين يحملون الهدى لهذه البشرية. وكأنما هم الثمرة الجنية لذلك الجهاد الشاق الطويل، والعزاء المريح لحملة الهدى فيها لاقوه من جحود وصلادة وإعراض!. وقد سبق في الدرس الماضي تجاهل المشركين واستنكارهم لاسم {الرحمن} فهاهم أولاء عباد الرحمن، الذين يعرفون الرحمن، ويستحقون أن ينسبوا إليه، وأن يكونوا عباده. ها هم أولاء بصفاتهم المميزة ومقومات نفوسهم وسلوكهم وحياتهم. ها هم أولاء مثلاً حية واقعية للجماعة التي يريدها الإسلام، وللنفوس التي ينشئها بمنهجه التربوي القويم. وهؤلاء هم الذين يستحقون أن يعبأ بهم الله في الأرض، ويوجه إليهم عنايته؛ فالبشر كلهم أهون على الله من أن يعبأ بهم، لولا أن هؤلاء فيهم، ولولا أن هؤلاء يتوجهون إليه بالتضرع والدعاء. {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاماً}.. ها هي ذي السمة الأولى من سمات عباد الرحمن: أنهم يمشون على الأرض مشية سهلة هينة، ليس فيها تكلف ولا تصنع، وليس فيها خيلاء ولا تنفج، ولا تصعير خد ولا تخلع أو ترهل. فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية، وعما يستكن فيها من مشاعر. والنفس السوية المطمئنة الجادة القاصدة، تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها، فيمشي مشية سوية مطمئنة جادة قاصدة. فيها وقار وسكينة، وفيها جد وقوة. وليس معنى: {يمشون على الأرض هوناً} أنهم يمشون متماوتين منكسي الرؤوس، متداعي الأركان، متهاوي البنيان؛ كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح! وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى تكفأ تكفياً، وكان أسرع الناس مشية، وأحسنها وأسكنها، قال أبو هريرة: ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث. وقال على بن أبي طالب رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفياً كأنما ينحط من صبب. وقال مرة إذا تقلع قلت والتقلع الارتفاع من الأرض بجملته كحال المنحط من الصبب، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة. وهم في جدهم ووقارهم وقصدهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة، لا يتلفتون إلى حماقة الحمقى وسفه السفهاء، ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى في جدل أو عراك، ويترفعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاماً} لا عن ضعف ولكن عن ترفع؛ ولا عن عجز إنما عن استعلاء، وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع. هذا نهارهم مع الناس فأما ليلهم فهو التقوى ومراقبة الله، والشعور بجلاله، والخوف من عذابه. {والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً. والذين يقولون: ربنا اصرف عنا عذاب جهنم. إن عذابها كان غراماً. إنها ساءت مستقراً ومقاماً}.. والتعبير يبرز من الصلاة السجود والقيام لتصوير حركة عباد الرحمن، في جنح الليل والناس نيام. فهؤلاء قوم يبيتون لربهم سجداً وقياماً، يتوجهون لربهم وحده، ويقومون له وحده، ويسجدون له وحده. هؤلاء قوم مشغولون عن النوم المريح اللذيذ، بما هو أروح منه وأمتع، مشغولون بالتوجه إلى ربهم، وتعليق أرواحهم وجوارحهم به، ينام الناس وهم قائمون ساجدون؛ ويخلد الناس إلى الأرض وهم يتطلعون إلى عرش الرحمن، ذي الجلال والإكرام. وهم في قيامهم وسجودهم وتطلعهم وتعلقهم تمتلئ قلوبهم بالتقوى، والخوف من عذاب جهنم. يقولون: {ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً. إنها ساءت مستقراً ومقاماً «.. وما رأوا جهنم، ولكنهم آمنوا بوجودها، وتمثلوا صورتها مما جاءهم في القرآن الكريم وعلى لسان رسول الله الكريم. فهذا الخوف النبيل إنما هو ثمرة الإيمان العميق، وثمرة التصديق. وهم يتوجهون إلى ربهم في ضراعة وخشوع ليصرف عنهم عذاب جهنم. لا يطمئنهم أنهم يبيتون لربهم سجداً وقياماً؛ فهم لما يخالج قلوبهم من التقوى يستقلون عملهم وعبادتهم، ولا يرون فيها ضماناً ولا أماناً من النار، إن لم يتداركهم فضل الله وسماحته وعفوه ورحمته، فيصرف عنهم عذاب جهنم. والتعبير يوحي كأنما جهنم متعرضة لكل أحد، متصدية لكل بشر، فاتحة فاها، تهم أن تلتهم، باسطة أيديها تهم أن تقبض على القريب والبعيد! وعباد الرحمن الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً، يخافونها ويخشونها، ويتضرعون إلى ربهم أن يصرف عنهم عذابها، وأن ينجيهم من تعرضها وتصديها! ويرتعش تعبيرهم وهم يتضرعون إلى ربهم خوفاً وفزعاً: {إِن عذابها كان غراماً}: أي ملازماً لا يتحول عن صاحبه ولا يفارقه ولا يقيله؛ فهذا ما يجعله مروعاً مخيفاً شنيعاً.. {إِنها ساءت مستقراً ومقاماً} وهل أسوأ من جهنم مكاناً يستقر فيه الإنسان ويقيم. وأين الاستقرار وهي النار؟ وأين المقام وهو التقلب على اللظى ليل نهار! وهم في حياتهم نموذج القصد والاعتدال والتوازن: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قواماً}.. وهذه سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات؛ ويتجه إليها في التربية والتشريع، يقيم بناءه كله على التوازن والاعتدال. والمسلم مع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية المقيدة ليس حراً في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء كما هو الحال في النظام الرأسمالي، وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان. إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين الإسراف والتقتير. فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع؛ والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية. والإسراف والتقتير يحدثان اختلالاً في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي، وحبس الأموال يحدث أزمات ومثله إطلاقها بغير حساب. ذلك فوق فساد القلوب والأخلاق. والإسلام وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس الفرد، فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان: {وكان بين ذلك قواماً}.. وسمة عباد الرحمن بعد ذلك أنهم لا يشركون بالله، ويتحرجون من قتل النفس، ومن الزنا. تلك الكبائر المنكرات التي تستحق أليم العذاب: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون. ومن يفعل ذلك يلق أثاماً. يضاعف له العذاب يوم القيامة، ويخلد فيه مهاناً. إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً، فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، وكان الله غفوراً رحيماً. ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً}. وتوحيد الله أساس هذه العقيدة، ومفرق الطريق بين الوضوح والاستقامة والبساطة في الاعتقاد؛ والغموض والالتواء والتعقيد، الذي لا يقوم على أساسه نظام صالح للحياة. والتحرج من قتل النفس إلا بالحق مفرق الطريق بين الحياة الاجتماعية الآمنة المطمئنة التي تحترم فيها الحياة الإنسانية ويقام لها وزن؛ وحياة الغابات والكهوف التي لا يأمن فيها على نفسه أحد ولا يطمئن إلى عمل أو بناء. والتحرج من الزنا هو مفرق الطريق بين الحياة النظيفة التي يشعر فيها الإنسان بارتفاعه عن الحس الحيواني الغليظ، ويحس بأن لالتقائه بالجنس الآخر هدفاً أسمى من إرواء سعار اللحم والدم، والحياة الهابطة الغليظة التي لا هم للذكران والإناث فيها إلا إرضاء ذلك السعار. ومن أجل أن هذه الصفات الثلاثة مفرق الطريق بين الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله؛ والحياة الرخيصة الغليظة الهابطة إلى درك الحيوان.. من أجل ذلك ذكرها الله في سمات عباد الرحمن. أرفع الخلق عند الله وأكرمهم على الله. وعقب عليها بالتهديد الشديد: {ومن يفعل ذلك يلق أثاماً} أي عذاباً. وفسر هذا العذاب بما بعده {يضاعف له العذاب يوم القيامة. ويخلد فيه مهاناً}.. فليس هو العذاب المضاعف وحده، وإنما هي المهانة كذلك، وهي أشد وأنكى. ثم يفتح باب التوبة لمن أراد أن ينجو من هذا المصير المسيء بالتوبة والإيمان الصحيح والعمل الصالح: {إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً} ويعد التائبين المؤمنين العاملين أن يبدل ما عملوه من سيئات قبل التوبة حسنات بعدها تضاف إلى حسناتهم الجديدة: {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات}. وهو فيض من عطاء الله لا مقابل له من عمل العبد إلا أنه اهتدى ورجع عن الضلال، وثاب إلى حمى الله، ولاذ به بعد الشرود والمتاهة. {وكان الله غفوراً رحيماً}.. وباب التوبة دائماً مفتوح، يدخل منه كل من استيقظ ضميره، وأراد العودة والمآب. لا يصد عنه قاصد، ولا يغلق في وجه لاجئ، أياً كان، وأياً ما ارتكب من الآثام. روى الطبراني من حديث أبي المغيرة عن صفوان بن عمر عن عبد الرحمن بن جبير «عن أبي فروة، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها ولم يترك حاجة ولا داجة، فهل له من توبة؟ فقال:» أسلمت؟ «فقال: نعم. قال:» فافعل الخيرات واترك السيئات، فيجعلها الله لك خيرات كلها «قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال:» نعم «. فما زال يكبر حتى توارى». ويضع قاعدة التوبة وشرطها: {ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً}.. فالتوبة تبدأ بالندم والإقلاع عن المعصية، وتنتهي بالعمل الصالح الذي يثبت أن التوبة صحيحة وأنها جدية. وهو في الوقت ذاته ينشئ التعويض الإيجابي في النفس للإقلاع عن المعصية. فالمعصية عمل وحركة، يجب ملء فراغه بعمل مضاد وحركة، وإلا حنت النفس إلى الخطيئة بتأثير الفراغ الذي تحسه بعد الإقلاع. وهذه لمحة في منهج التربية القرآني عجيبة، تقوم على خبرة بالنفس الإنسانية عميقة. ومن أخبر من الخالق بما خلق؟ سبحانه وتعالى! وبعد هذا البيان المعترض يعود إلى سمات {عباد الرحمن}: {والذين لا يشهدون الزور، وإذا مروا باللغو مروا كراماً}.. وعدم شهادة الزور قد تكون على ظاهر اللفظ ومعناه القريب، أنهم لا يؤدون شهادة زور، لما في ذلك من تضييع الحقوق، والإعانة على الظلم. وقد يكون معناها الفرار من مجرد الوجود في مجلس أو مجال يقع فيه الزور بكل صنوفه وألوانه، ترفعاً منهم عن شهود مثل هذه المجالس والمجالات. وهو أبلغ وأوقع. وهم كذلك يصونون أنفسهم واهتماماتهم عن اللغو والهذر: {وإذا مروا باللغو مروا كراماً} لا يشغلون أنفسهم به، ولا يلوثونها بسماعه؛ إنما يكرمونها عن ملابسته ورؤيته بله المشاركة فيه! فللمؤمن ما يشغله عن اللغو والهذر، وليس لديه من الفراغ والبطالة ما يدفعه إلى الشغل باللغو الفارغ، وهو من عقيدته ومن دعوته ومن تكاليفها في نفسه وفي الحياة كلها في شغل شاغل. ومن سماتهم أنهم سريعو التذكر إذا ذكروا، قريبو الاعتبار إذا وعظوا، مفتوحو القلوب لآيات الله، يتلقونها بالفهم والاعتبار: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً}. وفي التعبير تعريض بالمشركين الذين ينكبون على آلهتهم وعقائدهم وأباطيلهم كالصم والعميان؛ لا يسمعون ولا يبصرون، ولا يتطلعون إلى هدى أو نور. وحركة الانكباب على الوجوه بلا سمع ولا بصر ولا تدبر حركة تصور الغفلة والانطماس والتعصب الأعمى. فأما عباد الرحمن، فهم يدركون إدراكاً واعياً بصيراً ما في عقيدتهم من حق، وما في آيات الله من صدق، فيؤمنوا إيماناً واعياً بصيراً، لا تعصباً أعمى ولا انكباباً على الوجوه! فإذا تحمسوا لعقيدتهم فإنما هي حماسة العارف المدرك البصير. وأخيراً فإن عباد الرحمن لا يكفيهم أنهم يبيتون لربهم سجداً وقياماً؛ وأنهم يتسمون بتلك السمات العظيمة كلها، بل يرجون أن تعقبهم ذرية تسير على نهجهم، وأن تكون لهم أزواج من نوعهم؛ فتقر بهم عيونهم، وتطمئن بهم قلوبهم، ويتضاعف بهم عدد {عباد الرحمن} ويرجون أن يجعل الله منهم قدوة طيبة للذين يتقون الله ويخافونه: {والذين يقولون: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً}.. وهذا هو الشعور الفطري الإيماني العميق: شعور الرغبة في مضاعفة السالكين في الدرب إلى الله. وفي أولهم الذرية والأزواج، فهم أقرب الناس تبعة وهم أول أمانة يسأل عنها الرجال. والرغبة كذلك في أن يحس المؤمن أنه قدوة للخير، يأتم به الراغبون في الله. وليس في هذا من أثرة ولا استعلاء فالركب كله في الطريق إلى الله. فأما جزاء عباد الرحمن فيختم به هذا البيان: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا، ويلقون فيها تحية وسلاماً، خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً}.. والغرفة ربما كان المقصود بها الجنة، أو المكان الخاص في الجنة، كما أن الغرفة أكرم من البهو فيما اعتاد الناس في البيوت في هذه الأرض، عندما يستقبلون الأضياف. وأولئك الكرام الذين سبقت صفاتهم وسماتهم، يستقبلون في الغرفة بالتحية والسلام، جزاء ما صبروا على تلك الصفات والسمات. وهو تعبير ذو دلالة. فهذه العزائم تحتاج إلى الصبر على شهوات النفس، ومغريات الحياة، ودوافع السقوط. والاستقامة جهد لا يقدر عليه إلا بالصبر. الصبر الذي يستحق أن يذكره الله في هذا الفرقان. وفي مقابل جهنم التي يتضرعون إلى ربهم أن يصرفها عنهم لأنها ساءت مستقراً ومقاماً، يجزيهم الله الجنة {خالدين فيها. حسنت مستقراً ومقاماً} فلا مخرج لهم إلا أن يشاء الله. وهم فيها على خير حال من الاستقرار والمقام. والآن وقد صور عباد الرحمن. تلك الخلاصة الصافية للبشرية. يختم السورة بهوان البشرية على الله لولا هؤلاء الذين يتطلعون إلى السماء. فأما المكذبون فالعذاب حتم عليهم لزام. {قل: ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً}.. وهو ختام يناسب موضوع السورة كلها؛ ومساقها للتسرية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزيته عما يلاقي من عناد قومه وجحودهم، وتطاولهم عليه، وهم يعرفون مقامه؛ ولكنهم في سبيل الإبقاء على باطلهم يعاندون ويصرون.. فما قومه؟ وما هذه البشرية كلها، لولا القلة المؤمنة التي تدعو الله. وتتضرع إليه.
{طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)} موضوع هذه السورة الرئيسي هو موضوع السور المكية جميعاً.. العقيدة.. ملخصة في عناصرها الأساسية: توحيد الله: {فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين} والخوف من الآخرة: {ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} والتصديق بالوحي المنزل على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وإنه لتنزيل رب العالمين؛ نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين} ثم التخويف من عاقبة التكذيب، إما بعذاب الدنيا الذي يدمر المكذبين؛ وإما بعذاب الآخرة الذي ينتظر الكافرين: {فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون}.. {وَسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} ذلك إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتعزيته عن تكذيب المشركين له وللقرآن: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} وإلى طمأنة قلوب المؤمنين وتصبيرهم على ما يلقون من عنت المشركين؛ وتثبيتهم على العقيدة مهما أوذوا في سبيلها من الظالمين؛ كما ثبت من قبلهم من المؤمنين. وجسم السورة هو القصص الذي يشغل ثمانين ومائة آية من مجموع آيات السورة كلها. والسورة هي هذا القصص مع مقدمة وتعقيب. والقصص والمقدمة والتعقيب تؤلف وحدة متكاملة متجانسة، تعبر عن موضوع السورة وتبرزه في أساليب متنوعة، تلتقي عند هدف واحد.. ومن ثم تعرض من كل قصة الحلقة أو الحلقات التي تؤدي هذه الأغراض. ويغلب على القصص كما يغلب على السورة كلها جو الإنذار والتكذيب، والعذاب الذي يتبع التكذيب. ذلك أن السورة تواجه تكذيب مشركي قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستهزاءهم بالنذر، وإعراضهم عن آيات الله، واستعجالهم بالعذاب الذي يوعدهم به؛ مع التقول على الوحي والقرآن؛ والادعاء بأنه سحر أو شعر تتنزل به الشياطين! والسورة كلها شوط واحد مقدمتها وقصصها وتعقيبها في هذا المضمار. لذلك نقسمها إلى فقرات أو جولات بحسب ترتيبها. ونبدأ بالمقدمة قبل القصص المختار: {طسم. تلك آيات الكتاب المبين}.. طا. سين. ميم.. الأحرف المقطعة للتنبيه إلى أن آيات الكتاب المبين ومنها هذه السورة مؤلفة من مثل هذه الأحرف؛ وهي في متناول المكذبين بالوحي؛ وهم لا يستطيعون أن يصوغوا منها مثل هذا الكتاب المبين. والحديث عن هذا الكتاب متداول في السورة. في مقدمتها ونهايتها. كما هو الشأن في السور المبدوءة بالأحرف المقطعة في القرآن. وبعد هذا التنبيه يبدأ في مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يهمه أمر المشركين ويؤذيه تكذيبهم له وللقرآن الكريم؛ فيسليه ويهون عليه الأمر؛ ويستكثر ما يعانيه من أجلهم؛ وقد كان الله قادراً على أن يلوي أعناقهم كرهاً إلى الإيمان، بآية قاهرة تقسرهم عليه قسراً: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين! إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين}. وفي التعبير ما يشبه العتب على شدة ضيقه صلى الله عليه وسلم وهمه بعدم إيمانهم: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين}.. وبخع النفس قتلها. وهذا يصور مدى ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاني من تكذيبهم، وهو يوقن بما ينتظرهم بعد التكذيب، فتذوب نفسه عليهم وهم أهله وعشيرته وقومه ويضيق صدره. فربه يرأف به، وينهنهه عن هذا الهم القاتل، ويهون عليه الأمر، ويقول له: إن إيمانهم ليس مما كلفت؛ ولو شئنا أن نكرههم عليه لأكرهناهم، ولأنزلنا من السماء آية قاهرة لا يملكون معها جدالاً، ولا انصرافاً عن الإيمان. ويصور خضوعهم لهذه الآية صورة حسية: {فظلت أعناقهم لها خاضعين} ملوية محنية حتى لكأن هذه هيئة لهم لا تفارقهم، فهم عليها مقيمون! ولكنه سبحانه لم يشأ أن يجعل مع هذه الرسالة الأخيرة آية قاهرة. لقد جعل آيتها القرآن. منهاج حياة كاملة. معجزاً في كل ناحية: معجزاً في بنائه التعبيري وتنسيقه الفني، باستقامته على خصائص واحدة، في مستوى واحد، لا يختلف ولا يتفاوت، ولا تتخلف خصائصه؛ كما هي الحال في أعمال البشر. إذ يبدو الارتفاع والانخفاض والقوة والضعف في عمل الفرد الواحد، المتغير الحالات. بينما تستقيم خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد، ومستوى واحد، ثابت لا يتخلف، يدل على مصدره الذي لا تختلف عليه الأحوال. معجزاً في بنائه الفكري، وتناسق أجزائه وتكاملها، فلا فلتة فيه ولا مصادفة. كل توجيهاته وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل؛ وتحيط بالحياة البشرية، وتستوعبها، وتلبيها وتدفعها، دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهاج الشامل الضخم مع جزئية أخرى؛ ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانية أو تقصر عن تلبيتها.. وكلها مشدودة إلى محور واحد، وإلى عروة واحدة، في اتساق لا يمكن أن تفطن إليه خبرة الإنسان المحدودة. ولا بد أن تكون هناك خبرة مطلقة، غير مقيدة بقيود الزمان والمكان. هي التي أحاطت به هذه الإحاطة، ونظمته هذا التنظيم. معجزاً في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس، ولمس مفاتيحها، وفتح مغاليقها، واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها؛ وعلاجه لعقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين؛ وفي تربيتها وتصريفها وفق منهجه بأيسر اللمسات، دون تعقيد ولا التواء ولا مغالطة. لقد شاء الله أن يجعل هذا القرآن هو معجزة هذه الرسالة ولم يشأ أن ينزل آية قاهرة مادية تلوي الأعناق وتخضعها وتضطرها إلى التسليم ذلك أن هذه الرسالة الأخيرة رسالة مفتوحة للأمم كلها، وللأجيال كلها. وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان. فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للبعيد والقريب. لكل أمة ولكل جيل. والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها؛ ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى، لا واقعاً يشهد.. فأما القرآن فها هو ذا بعد أكثر من ثلاثة عشر قرناً كتاب مفتوح ومنهج مرسوم، يستمد منه أهل هذا الزمان ما يقوم حياتهم لوهدوا إلى اتخاذه إمامهم ويلبي حاجاتهم كاملة؛ ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل، وأفق أعلى، ومصير أمثل. وسيجد فيه من بعدنا كثيراً مما لم نجده نحن؛ ذلك أنه يعطي كل طالب بقدر حاجته؛ ويبقى رصيده لا ينفد، بل يتجدد. ولكن لم يكونوا يفطنون إلى هذه الحكمة الكبرى. فكانوا يعرضون عما يتنزل عليهم من هذا القرآن العظيم حيناً بعد حين: {وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين}.. ويذكر اسم الرحمن هنا للإشارة إلى عظيم رحمته بتنزيل هذا الذكر، فيبدو إعراضهم عنه مستقبحاً كريهاً؛ وهم يعرضون عن الرحمة التي تتنزل عليهم، ويرفضونها، ويحرمون أنفسهم منها، وهم أحوج ما يكونون إليها! ويعقب على هذا الإعراض عن ذكر الله ورحمته بالتهديد بعقابه وعذابه: {فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون}.. وهو تهديد مضمر مجمل مهول. وفي التعبير سخرية تناسب استهزاءهم بالوعيد. {فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون}.. ستأتيهم أخبار العذاب الذي يستهزئون به! وهم لن يتلقوا أخباراً. إنما سيذوقون العذاب ذاته، ويصبحون هم أخباراً فيه، يتناقل الناس ما حل بهم منه. ولكنهم يستهزئون فيستهزأ بهم مع التهديد المرهوب! وإنهم يطلبون آية خارقة؛ ويغفلون عن آيات الله الباهرة فيما حولهم؛ وفيها الكفاية للقلب المفتوح والحس البصير؛ وكل صفحة من صفحات هذا الكون العجيب آية تطمئن بها القلوب. {أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتا فيها من كل زوج كريم؟ إن في ذلك لآية، وما كان أكثرهم مؤمنين}.. ومعجزة إخراج النبات الحي من الأرض، وجعله زوجاً ذكراً وأنثى، إما منفصلين كما في بعض فصائل النبات، وإما مجتمعين كما هو الغالب في عالم النبات، حيث تجتمع أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث في عود واحد.. هذه المعجزة تتكرر في الأرض حولهم في كل لحظة: {أو لم يروا!} والأمر لا يحتاج إلى أكثر من الرؤية؟ والمنهج القرآني في التربية يربط بين القلب ومشاهد هذا الكون؛ وينبه الحس الخامد، والذهن البليد، والقلب المغلق، إلى بدائع صنع الله المبثوثة حول الإنسان في كل مكان؛ كي يرتاد هذا الكون الحي بقلب حي؛ يشاهد الله في بدائع صنعه، ويشعر به كلما وقعت عينه على بدائعه؛ ويتصل به في كل مخلوقاته؛ ويراقبه وهو شاعر بوجوده في كل لحظة من لحظات الليل والنهار. ويشعر أنه هو واحد من عباده، متصل بمخلوقاته، مرتبط بالنواميس التي تحكمهم جميعاً. وله دوره الخاص في هذا الكون، وبخاصة هذه الأرض التي استخلف فيها: {أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم}.
{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)} هذه الحلقة من قصة موسى عليه السلام تجيء في هذه السورة متناسقة مع موضوع السورة، ومع اتجاهها إلى بيان عاقبة المكذبين بالرسالة؛ وإلى طمأنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعزيته عما يلقاه من إعراض المشركين وتكذيبهم؛ وإلى رعاية الله لدعوته والمؤمنين بها ولو كانوا مجردين من القوة وأعداؤهم أقوياء جبارون في الأرض مسلطون عليهم بالأذى والتنكيل وهو الموقف الذي كان فيه المسلمون بمكة عند نزول هذه السورة وقد كان القصص إحدى وسائل التربية القرآنية في القرآن الكريم. وقد وردت حلقات من قصة موسى عليه السلام حتى الآن في سورة البقرة، وسورة المائدة، وسورة الأعراف، وسورة يونس، وسورة الإسراء، وسورة الكهف، وسورة طه. عدا إشارات إليها في سور أخرى. وفي كل مرة كانت الحلقات التي تعرض منها أو الإشارات متناسقة مع موضوع السورة، أو السياق الذي تعرض فيه، على نحو ما هي في هذه السورة؛ وكانت تشارك في تصوير الموضوع الذي يهدف إليه السياق. والحلقة المعروضة هنا هي حلقة الرسالة والتكذيب وما كان من غرق فرعون وملئه جزاء على هذا التكذيب، وعقاباً على ائتماره بموسى ومن معه من المؤمنين. ونجاة موسى وبني إسرائيل من كيد الظالمين. وفي هذا تصديق قول الله سبحانه في هذه السورة عن المشركين: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} وقوله: {فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} وهذه الحلقة مقسمة إلى مشاهد استعراضية، بينها فجوات بمقدار ما يسدل الستار على المشهد، ثم يرفع عن المشهد الذي يليه. وهي ظاهرة فنية ملحوظة في طريقة العرض القرآنية للقصة. وهنا سبعة مشاهد: أولها مشهد النداء والبعثة والوحي والمناجاة بين موسى عليه السلام وربه. وثانيها مشهد مواجهة موسى لفرعون وملئه برسالته وآيتي العصا واليد البيضاء. وثالثها مشهد التآمر وجمع السحرة وحشد الناس للمباراة الكبرى. ورابعها مشهد السحرة بحضرة فرعون يطمئنون على الأجر والجزاء! وخامسها مشهد المباراة ذاته وإيمان السحرة وتهديد فرعون ووعيده. وسادسها مشهد ذو شقين: الشق الأول مشهد إيحاء الله لموسى أن يسري بعباده ليلاً، والثاني مشهد إرسال فرعون في المدائن حاشرين يجمعون الجنود لملاحقة بني إسرائيل. وسابعها مشهد المواجهة أمام البحر ونهايته من انفلاق البحر وغرق الظالمين ونجاة المؤمنين. وقد عرضت هذه المشاهد في سورة الأعراف، وفي سورة يونس، وفي سورة طه. ولكنها عرضت في كل موضع من الجانب الذي يناسب ذلك الموضع، وبالطريقة التي تتفق مع اتجاهه، وكان التركيز فيها على نقط معينة هنا وهناك. ففي الأعراف مثلاً بدأ بمشهد المواجهة بين موسى وفرعون مختصراً، ومر بمشهد السحرة ونهايته سريعاً، بينما وسع في عرض مؤامرات فرعون وملئه بعد ذلك، وعرض آيات موسى مدة إقامته في مصر بعد المباراة قبل مشهد الغرق والنجاة. واستطرد بعد ذلك مع بني إسرائيل بعد مجاوزتهم البحر في حلقات كثيرة.. واختصر هذا هنا فلم يشر إليه. بينما وسع في مشهد الجدال بين موسى وفرعون حول وحدانية الله سبحانه ووحيه إلى رسوله؛ وهو موضوع الجدل في هذه السورة بين المشركين والنبي صلى الله عليه وسلم. وفي يونس بدأ بمشهد المواجهة مختصراً لم يعرض فيه آيتي العصا واليد، واختصر كذلك في مشهد المباراة. بينما توسع هنا في كليهما. وفي سورة طه توسع في مشهد المناجاة الأول بين موسى وربه. واستطرد بعد مشهدي المواجهة والمباراة فصاحب بني إسرائيل في رحلتهم طويلاً. ولم يجاوز هنا مشهد الغرق والنجاة. وكذلك لا نجد تكراراً في عرض القصة أبداً على كثرة ما عرضت في سور القرآن. لأن هذا التنويع في اختيار الحلقات التي تعرض، ومشاهد كل حلقة، والجانب الذي يختار من كل مشهد، وطريقة عرضه.. كل أولئك يجعلها جديدة في كل موضع. متناسقة مع هذا الموضع. {وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين. قوم فرعون. ألا يتقون؟ قال: رب إني أخاف أن يكذبون. ويضيق صدري ولا ينطلق لساني، فأرسل إلى هارون. ولهم عليَّ ذنب فأخاف أن يقتلون. قال: كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون. فأتيا فرعون فقولا: إنا رسول رب العالمين. أن أرسل معنا بني إسرائيل}.. الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القصص، بعدما قال له في مطلع السورة: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين. إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين، وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين. فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} ثم أخذ يقص عليه أنباء المكذبين المعرضين المستهزئين، وما حاق بهم من العذاب الأليم. {وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين. قوم فرعون. ألا يتقون؟}.. وهذا هو المشهد الأول: مشهد التكليف بالرسالة لموسى عليه السلام وهو يبدأ بإعلان صفة القوم: {القوم الظالمين} فقد ظلموا أنفسهم بالكفر والضلال، وظلموا بني إسرائيل بما كانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ويعذبونهم بالسخرة والنكال.. لذلك يقدم صفتهم ثم يعينهم {قوم فرعون} ثم يعجب موسى من أمرهم ويعجب كل إنسان: {ألا يتقون؟} ألا يخشون ربهم؟ ألا يخافون مغبة ظلمهم؟ ألا يرجعون عن غيهم؟ ألا إن أمرهم لعجيب يستحق التعجيب! وكذلك كل من كان على شاكلتهم من الظالمين! ولم يكن أمر فرعون وملئه جديداً على موسى عليه السلام فهو يعرفه، ويعرف ظلم فرعون وعتوه وجبروته، ويدرك أنها مهمة ضخمة وتكليف عظيم. ومن ثم يشكو إلى ربه ما به من ضعف وقصور لا ليتنصل أو يعتذر عن التكليف، ولكن ليطلب العون والمساعدة في هذا التكليف العسير. {قال: رب إني أخاف أن يكذبون. ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون. ولهم عليَّ ذنب فأخاف أن يقتلون}. والظاهر من حكاية قوله عليه السلام أن خوفه ليس من مجرد التكذيب، ولكن من حصوله في وقت يضيق فيه صدره ولا ينطلق لسانه فلا يملك أن يبين، وأن يناقش هذا التكذيب ويفنده. إذ كانت بلسانه حبسة هي التي قال عنها في سورة طه: {واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي} ومن شأن هذه الحبسة أن تنشئ حالة من ضيق الصدر، تنشأ من عدم القدرة على تصريف الانفعال بالكلام. وتزداد كلما زاد الانفعال، فيزداد الصدر ضيقاً.. وهكذا.. وهي حالة معروفة. فمن هنا خشي موسى أن تقع له هذه الحالة وهو في موقف المواجهة بالرسالة لظالم جبار كفرعون. فشكا إلى ربه ضعفه وما يخشاه على تبليغ رسالته، وطلب إليه أن يوحي إلى هارون أخيه، ويشركه معه في الرسالة اتقاء للتقصير في أداء التكليف، لا نكوصاً ولا اعتذاراً عن التكليف. فهارون أفصح لساناً ومن ثم هو أهدأ انفعالاً؛ فإذا أدركت موسى حبسة أو ضيق نهض هارون بالجدل والمحاجة والبيان. ولقد دعا موسى ربه كما ورد في سورة طه ليحل هذه العقدة من لسانه، ولكنه زيادة في الاحتياط للنهوض بالتكليف طلب معه أخاه هارون وزيراً ومعيناً.. وكذلك الشأن في قوله: {ولهم عليَّ ذنب فأخاف أن يقتلون}.. فإن ذكره هنا ليس للخوف من المواجهة، والتخلي عن التكليف. ولكن له علاقة بالإرسال إلى هارون. حتى إذا قتلوه قام هارون من بعده قام هارون من بعده بالرسالة، وأتم الواجب كما أمره ربه دون تعويق. فهو الاحتياط للدعوة لا للداعية. الاحتياط من أن يحتبس لسانه في الأولى وهو في موقف المنافحة عن رسالة ربه وبيانها، فتبدو الدعوة ضعيفة قاصرة. والاحتياط من أن يقتلوه في الثانية فتتوقف دعوة ربه التي كلف أداءها وهو على إبلاغها واطرادها حريص. وهذا هو الذي يليق بموسى عليه السلام الذي صنعه الله على عينه، واصطنعه لنفسه. ولما علمه ربه من حرصه هذا وإشفاقه واحتياطه أجابه إلى ما سأل، وطمأنه مما يخاف. والتعبير هنا يختصر مرحلة الاستجابة، ومرحلة الإرسال إلى هارون، ومرحلة وصول موسى إلى مصر ولقائه لهارون؛ ويبرز مشهد موسى وهارون مجتمعين يتلقيان أمر ربهما الكريم، في نفس اللحظة التي يطمئن الله فيها موسى، وينفي مخاوفه نفياً شديداً، في لفظة تستخدم أصلاً للردع وهو كلمة {كلا} ! {قال: كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون. فأتيا فرعون فقولا: إنا رسول رب العالمين. أن أرسل معنا بني إسرائيل}. كلا. لن يضيق صدرك ويحتبس لسانك. وكلا لن يقتلوك. فأبعد هذا كله عن بالك بشدة. واذهب أنت وأخوك. {فاذهبا بآياتنا} وقد شهد موسى منها العصا واليد البيضاء والسياق يختصرهما هنا لأن التركيز في هذه السورة موجه إلى موقف المواجهة وموقف السحرة وموقف الغرق والنجاة. اذهبا {إنا معكم مستمعون} فأية قوة؟ وأي سلطان؟ وأي حماية ورعاية وأمان؟ والله معهما ومع كل إنسان في كل لحظة وفي كل مكان. ولكن الصحبة المقصودة هنا هي صحبة النصر والتأييد. فهو يرسمها في صورة الاستماع، الذي هو أشد درجات الحضور والانتباه. وهذا كناية عن دقة الرعاية وحضور المعونة. وذلك على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير. اذهبا {فأتيا فرعون} فأخبراه بمهمتكما في غير حذر ولا تلجلج: {فقولا: إنا رسول رب العالمين} وهما اثنان ولكنهما يذهبان في مهمة واحدة برسالة واحدة. فهما رسول. رسول رب العالمين. في وجه فرعون الذي يدعي الألوهية، ويقول لقومه: {ما علمت لكم من إله غيري} فهي المواجهة القوية الصريحة بحقيقة التوحيد منذ اللحظة الأولى، بلا تدرج فيها ولا حذر. فهي حقيقة واحدة لا تحتمل التدرج والمداراة. {إنا رسول رب العالمين. أن أرسل معنا بني إسرائيل}.. وواضح من هذا ومن أمثاله في قصة موسى عليه السلام في القرآن، أنه لم يكن رسولاً إلى فرعون وقومه ليدعوهم إلى دينه ويأخذهم بمنهج رسالته. إنما كان رسولاً إليهم ليطلب إطلاق بني إسرائيل ليعبدوا ربهم كما يريدون. وقد كانوا أهل دين منذ أبيهم إسرائيل وهو يعقوب أبو يوسف عليهما السلام فبهت هذا الدين في نفوسهم، وفسدت عقائدهم فأرسل الله إليهم موسى لينقذهم من ظلم فرعون ويعيد تربيتهم على دين التوحيد. وإلى هنا نحن أمام مشهد البعثة والوحي والتكليف. ولكن الستار يسدل. لنجدنا أمام مشهد المواجهة. وقد اختصر ما هو مفهوم بين المشهدين على طريقة العرض القرآنية الفنية: {قال ألم نُرَبِّكَ فِينا وليداً، ولبثت فينا من عمرك سنين؟ وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين؟ قال: فعلتها إذن وأنا من الضالين. ففررت منكم لما خفتكم، فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين. وتلك نعمه تمنها علي أن عَبَّدتَّ بني إسرائيل}. ويعجب فرعون وهو يرى موسى يواجه بهذه الدعوى الضخمة: {إنا رسول رب العالمين}. ويطلب إليه ذلك الطلب الضخم! {أن أرسل معنا بني إسرائيل}. فإن آخر عهده بموسى أنه كان ربيباً في قصره منذ أن التقطوا تابوته. وأنه هرب بعد قتله للقبطي الذي وجده يتعارك مع الإسرائيلي. وقيل: إن هذا القبطي كان من حاشية فرعون. فما أبعد المسافة بين آخر عهد فرعون بموسى إذن وهذه الدعوى الضخمة التي يواجهه بها بعد عشر سنين! ومن ثم بدأ فرعون متهكماً مستهزئاً مستعجباً: {قال: ألم نربك فينا وليداً، ولبثت فينا من عمرك سنين؟ وفعلت فعلتك التي فعلت، وأنت من الكافرين}. فهل هذا جزاء التربية والكرامة التي لقيتها عندنا وأنت وليد؟ أن تأتي اليوم لتخالف ما نحن عليه من ديانة؟ ولتخرج على الملك الذي نشأت فيه بيته، وتدعو إلى إله غيره؟! وما بالك وقد لبثت فينا من عمرك سنين لم تتحدث بشيء عن هذه الدعوى التي تدعيها اليوم؛ ولم تخطرنا بمقدمات هذا الأمر العظيم؟! ويذكره بحادث مقتل القبطي في تهويل وتجسيم: {وفعلت فعلتك التي فعلت}.. فعلتك البشعة الشنيعة التي لا يليق الحديث عنها بالألفاظ المفتوحة! فعلتها {وأنت من الكافرين} برب العالمين الذي تقول به اليوم، فإنك لم تكن وقتها تتحدث عن رب العالمين! وهكذا جمع فرعون كل ما حسبه رداً قاتلاً لا يملك موسى عليه السلام معه جواباً، ولا يستطيع مقاومة. وبخاصة حكاية القتل، وما يمكن أن يعقبها من قصاص، يتهدده به من وراء الكلمات! ولكن موسى وقد استجاب الله دعاءه فأزال حبسة لسانه انطلق يجيب: {قال: فعلتها إذن وأنا من الضالين. ففررت منكم لما خفتكم، فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين. وتلك نعمة تمنها عليّ أن عبدت بني إسرائيل!}.. فعلت تلك الفعلة وأنا بعد جاهل، أندفع اندفاع العصبية لقومي، لا اندفاع العقيدة التي عرفتها اليوم بما أعطاني ربي من الحكمة. {ففررت منكم لما خفتكم} على نفسي. فقسم الله لي الخير: ووهب لي الحكمة {وجعلني من المرسلين} فلست بدعاً من الأمر، إنما أنا واحد من الرعيل {من المرسلين}. ثم يجيبه تهكماً بتهكم. ولكن بالحق. {وتلك نعمة تمنها عليَّ أن عبدت بني إسرائيل}.. فما كانت تربيتي في بيتك وليداً إلا من جراء استعبادك لبني إسرائيل، وقتلك أبناءهم، مما اضطر أمي أن تلقيني في التابوت، فتقذف بالتابوت في الماء، فتلتقطونني، فأربى في بيتك، لا في بيت أبويّ. فهل هذا هو ما تمنه علي، وهل هذا هو فضلك العظيم؟! عندئذ عدل فرعون عن هذه المسألة، وراح يسأله عن صميم دعواه. ولكن في تجاهل وهزء وسوء أدب في حق الله الكريم: {قال فرعون: وما رب العالمين؟}.. إنه قبحه الله يسأل: أي شيء يكون رب العالمين الذي تقول: إنك من عنده رسول؟ وهو سؤال المتنكر للقول من أساسه، المتهكم على القول والقائل، المستغرب للمسألة كلها حتى ليراها غير ممكنة التصور، غير قابلة لأن تكون موضوع حديث! فيجيبه موسى عليه السلام بالصفة المشتملة على ربوبيته تعالى للكون المنظور كله وما فيه: {قال: رب السماوات والأرض وما بينهما. إن كنتم موقنين}.. وهو جواب يكافئ ذلك التجاهل ويغطيه.. إنه رب هذا الكون الهائل الذي لا يبلغ إليه سلطانك يا فرعون ولا علمك. وقصارى ما ادعاه فرعون أنه إله هذا الشعب وهذا الجزء من وادي النيل. وهو ملك صغير ضئيل، كالذرة أو الهباءة في ملكوت السماوات والأرض وما بينهما. وكذلك كان جواب موسى عليه السلام يحمل استصغار ما يدعيه فرعون مع بطلانه، وتوجيه نظره إلى هذا الكون الهائل، والتفكير فيمن يكون ربه.. فهو رب العالمين!.. ثم عقب على هذا التوجيه بما حكايته: {إن كنتم موقنين} فهذا وحده هو الذي يحسن اليقين به والتصديق. والتفت فرعون إلى من حوله، يعجبهم من هذا القول، أو لعله يصرفهم عن التأثر به، على طريقة الجبارين الذين يخشون تسرب كلمات الحق البسيطة الصريحة إلى القلوب: {قال لمن حوله: ألا تستمعون؟}.. ألا تستمعون إلى هذا القول العجيب الغريب، الذي لا عهد لنا به، ولا قاله أحد نعرفه! ولم يلبث موسى أن هجم عليه وعليهم بصفة أخرى من صفات رب العالمين. {قال: ربكم ورب أبائكم الأولين}.. وهذه أشد مساساً بفرعون ودعواه وأوضاعه، فهو يجبهه بأن رب العالمين هو ربه، فما هو إلا واحد من عبيده. لا إله كما يدعي بين قومه! وهو رب قومه، فليس فرعون ربهم كما يزعم عليهم! وهو رب آبائهم الأولين. فالوراثة التي تقوم عليها ألوهية فرعون دعوى باطلة. فما كان من قبل إلا الله ربا للعالمين! وإنها للقاصمة لفرعون. فما يطيق عليها سكوتا والملأ حوله يستمعون. ومن ثم يرمي قائلها في تهكم بالجنون: {قال: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون}.. إن رسولكم الذي أرسل إليكم.. يريد أن يتهكم على مسألة الرسالة في ذاتها، فيبعد القلوب عن تصديقها بهذا التهكم، لا أنه يريد الإقرار بها والاعتراف بإمكانها. ويتهم موسى عليه السلام بالجنون، ليذهب أثر مقالته التي تطعن وضع فرعون السياسي والديني في الصميم. وترد الناس إلى الله ربهم ورب آبائهم الأولين. ولكن هذا التهكم وهذا القذف لا يفت في عضد موسى، فيمضي في طريقه يصدع بكلمة الحق التي تزلزل الطغاة والمتجبرين: {قال: رب المشرق والمغرب وما بينهما. إن كنتم تعقلون}.. والمشرق والمغرب مشهدان معروضان للأنظار كل يوم؛ ولكن القلوب لا تنتبه إليهما لكثرة تكرارهما، وشدة ألفتهما. واللفظ يدل على الشروق والغروب. كما يدل على مكاني الشروق والغروب. وهذان الحدثان العظيمان لا يجرؤ فرعون ولا غيره من المتجبرين أن يدعي تصريفهما. فمن يصرفهما إذن ومن ينشئهما بهذا الاطراد الذي لا يتخلف مرة ولا يبطئ عن أجله المرسوم؟ إن هذا التوجيه يهز القلوب البليدة هزا، ويوقظ العقول الغافية إيقاظاً. وموسى عليه السلام يثير مشاعرهم، ويدعوهم إلى التدبر والتفكير: {إن كنتم تعقلون}.. والطغيان لا يخشى شيئاً كما يخشى يقظة الشعوب، وصحوة القلوب؛ ولا يكره أحداً كما يكره الداعين إلى الوعي واليقظة؛ ولا ينقم على أحد كما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية. ومن ثم ترى فرعون يهيج على موسى ويثور، عندما يمس بقوله هذا أوتار القلوب. فينهي الحوار معه بالتهديد الغليظ بالبطش الصريح، الذي يعتمد عليه الطغاة عندما يسقط في أيديهم وتخذلهم البراهين: {قال: لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين}.. هذه هي الحجة وهذا هو الدليل: التهديد بأن يسلكه في عداد المسجونين. فليس السجن عليه ببعيد. وما هو بالإجراء الجديد! وهذا هو دليل العجز، وعلامة الشعور بضعف الباطل أمام الحق الدافع. وتلك سمة الطغاة وطريقهم في القديم والجديد! غير أن التهديد لم يفقد موسى رباطة جأشه.. وكيف وهو رسول الله؟ والله معه ومع أخيه؟ فإذا هو يفتح الصفحة التي أراد فرعون أن يغلقها ويستريح. يفتحها بقول جديد، وبرهان جديد: {قال: أولو جئتك بشيء مبين؟}.. وحتى لو جئتك ببرهان واضح على صدق رسالتي فإنك تجعلني من المسجونين؟ وفي هذا إحراج لفرعون أمام الملأ الذين استمعوا لما سبق من قول موسى؛ ولو رفض الإصغاء إلى برهانه المبين لدل على خوفه من حجته، وهو يدعي أنه مجنون. ومن ثم وجد نفسه مضطراً أن يطلب منه الدليل: {قال: فأت به إن كنت من الصادقين}.. إن كنت من الصادقين في دعواك؛ أو إن كنت من الصادقين في أن لديك شيئاً مبيناً. فهو ما يزال يشكك في موسى، خيفة أن تترك حجته في نفوس القوم شيئاً. هنا كشف موسى عن معجزتيه الماديتين؛ وقد أخرهما حتى بلغ التحدي من فرعون أقصاه: {فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين. ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين}.. والتعبير يدل على أن العصا تحولت فعلاً إلى ثعبان تدب فيه الحياة، وأن يده حين نزعها كانت بيضاء فعلا. يدل على هذا بقوله: {فإذا هي} فلم يكن الأمر تخييلا، كما هو الحال في السحر الذي لا يغير طبائع الأشياء، إنما يخيل للحواس بغير الحقيقة. ومعجزة الحياة التي تدب من حيث لا يعلم البشر، معجزة تقع في كل لحظة، ولكن الناس لا يلقون لها بالا، لطول الألفة والتكرار، أو لأنهم لا يشهدون التحول على سبيل التحدي فاما في مثل هذا المشهد. وموسى عليه السلام يلقي في وجه فرعون بهاتين الخارقتين فالأمر يزلزل ويرهب. وقد أحس فرعون بضخامة المعجزة وقوتها؛ فأسرع يقاومها ويدفعها؛ وهو يحس ضعف موقفه، ويكاد يتملق القوم من حوله؛ ويهيج مخاوفهم من موسى وقومه، ليغطي على وقع المعجزة المزلزلة: {قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره، فماذا تأمرون؟}.. وفي قولة فرعون هذه يبدو إقراره بعظمة المعجزة وإن كان يسميها سحراً؛ فهو يصف صاحبها بأنه ساحر {عليم}. ويبدو ذعره من تأثر القوم بها فهو يغريهم به: {يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره}. ويبدو تضعضعه وتهاويه وتواضعه للقوم الذين يجعل نفسه لهم إلها، فيطلب أمرهم ومشورتهم: {فماذا تأمرون؟} ومتى كان فرعون يطلب أمر أتباعه وهم له يسجدون! وتلك شنشنة الطغاة حينما يحسون أن الأرض تتزلزل تحت أقدامهم. عندئذ يلينون في القول بعد التجبر. ويلجأون إلى الشعوب وقد كانوا يدوسونها بالأقدام. ويتظاهرون بالشورى في الأمر وهم كانوا يستبدون بالهوى. ذلك إلى أن يتجاوزوا منطقة الخطر، ثم إذا هم هم جبابرة مستبدون ظالمون! وأشار عليه الملأ؛ وقد خدعتهم مكيدته، وهم شركاء فرعون في باطله، وأصحاب المصلحة في بقاء الأوضاع التي تجعلهم حاشية مقربة ذات نفوذ وسلطان؛ وقد خافوا أن يغلبهم موسى وبنو إسرائيل على أرضهم لو اتبعتهم الجماهير، حين ترى معجزتي موسى وتسمع إلى ما يقول.. أشاروا عليه أن يلقى سحره بسحر مثله، بعد التهيئة والاستعداد: {قالوا: أرجه وأخاه: وابعث في المدائن حاشرين، يأتوك بكل سحار عليم}.. أي أمهله وأخاه إلى أجل؛ وابعث رسلك إلى مدائن مصر الكبرى، يجمعون السحرة المهرة، لإقامة مباراة للسحر بينهم وبينه. وهنا يسدل الستار على هذا المشهد ليرفع على مشهد السحرة يحشدون، والناس يجمعون للمباراة، وتبث فيهم الحماسة للسحرة ومن خلفهم من أصحاب السلطان؛ وتهيأ أرض المباراة بين الحق والباطل، أو بين الإيمان والطغيان. {فجمع السحرة لميقات يوم معلوم. وقيل للناس: هل أنتم مجتمعون، لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين؟}.. وتظهر من التعبير حركة الإهاجة والتحميس للجماهير: {هل أنتم مجتمعون، لعلنا نتبع السحرة؟} هل لكم في التجمع وعدم التخلف عن الموعد، ليترقب فوز السحرة وغلبتهم على موسى الإسرائيلي! والجماهير دائماً تتجمع لمثل هذه الأمور، دون أن تفطن إلى أن حكامها الطغاة يلهون بها ويعبثون، ويشغلونها بهذه المباريات والاحتفالات والتجمعات، ليلهوها عما تعاني من ظلم وكبت وبؤس. وهكذا تجمع المصريون ليشهدوا المباراة بين السحرة وموسى عليه السلام! ثم يجيء مشهد السحرة بحضرة فرعون قبل المباراة؛ يطمئنون على الأجر والمكافأة إن كانوا هم الغالبين؛ ويتلقون من فرعون الوعد بالأجر الجزيل والقربى من عرشه الكريم! {فلما جاء السحرة قالوا لفرعون: أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين؟ قال: نعم، وإنكم إذن لم المقربين}.. وهكذا ينكشف الموقف عن جماعة مأجورة يستعين بها فرعون الطاغية؛ تبذل مهارتها في مقابل الأجر الذي تنتظره؛ ولا علاقة لها بعقيدة ولا صلة لها بقضية، ولا شيء سوى الأجر والمصلحة. وهؤلاء هم الذين يستخدمهم الطغاة دائماً في كل مكان وفي كل زمان. وها هم أولاء يستوثقون من الجزاء على تعبهم ولعبهم وبراعتهم في الخداع. وها هو ذا فرعون يعدهم بما هو أكثر من الأجر. يعدهم أن يكونوا من المقربين إليه. وهو بزعمه الملك والإله! ثم إذا مشهد المباراة الكبرى وأحداثه الجسام: {قال لهم موسى: ألقوا ما أنتم ملقون. فألقوا حبالهم وعصيهم، وقالوا: بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون: فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، فألقي السحرة ساجدين. قالوا: آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون. قال: آمنتم له قبل أن آذن لكم! إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون. لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم أجمعين. قالوا: لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون. إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين}.. ويبدأ المشهد هادئاً عادياً. إلا أنه يشي منذ البدء باطمئنان موسى إلى الحق الذي معه؛ وقلة أكتراثه لجموع السحرة المحشودين من المدائن، المستعدين لعرض أقصى ما يملكون من براعة، ووراءهم فرعون وملؤه، وحولهم تلك الجماهير المضللة المخدوعة.. يتجلى هذا الاطمئنان في تركه إياهم يبدأون: {قال لهم موسى: ألقوا ما أنتم ملقون}.. وفي التعبير ذاته ما يشي بالاستهانة: {ألقوا ما أنتم ملقون}.. بلا مبالاة ولا تحديد ولا اهتمام. وحشد السحرة أقصى مهارتهم وأعظم كيدهم وبدأوا الجولة باسم فرعون وعزته: {فألقوا حبالهم وعصيهم؛ وقالوا: بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون}.. ولا يفصل السياق هنا ما كان من أمر حبالهم وعصيهم، كما فصله في سورة الأعراف وطه، ليبقى ظل الطمأنينة والثبات للحق، وينتهي مسارعاً إلى عاقبة المباراة بين الحق والباطل؛ لأن هذا هو هدف السورة الأصيل. {فألقى موسى عصاه، فإذا هي تلقف ما يأفكون}.. ووقعت المفاجأة المذهلة التي لم يكن يتوقعها كبار السحرة؛ فلقد بذلوا غاية الجهد في فنهم الذي عاشوا به وأتقنوه؛ وجاءوا بأقصى ما يملك السحرة أن يصنعوه. وهم جمع كثير. محشود من كل مكان. وموسى وحده، وليس معه إلا عصاه. ثم إذا هي تلقف ما يأفكون؛ واللقف أسرع حركة للأكل. وعهدهم بالسحر أن يكون تخييلاً، ولكن هذه العصا تلقف حبالهم وعصيهم حقاً. فلا تبقي لها أثراً. ولو كان ما جاء به موسى سحراً، لبقيت حبالهم وعصيهم بعد أن خيل لهم وللناس أن حية موسى ابتلعتها. ولكنهم ينظرون فلا يجدونها فعلاً! عندئذ لا يملكون أنفسهم من الإذعان للحق الواضح الذي لا يقبل جدلاً. وهم أعرف الناس بأنه الحق: {فألقي السحرة ساجدين. قالوا: آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون}.. وهم قد كانوا منذ لحظة مأجورين ينتظرون الجزاء من فرعون على مهارتهم، ولم يكونوا أصحاب عقيدة ولا قضية. ولكن الحق الذي مس قلوبهم قد حولهم تحويلاً. لقد كانت هزة رجتهم رجاً، وخضتهم خضاً؛ ووصلت إلى أعماق نفوسهم وقرارة قلوبهم، فأزالت عنها ركام الضلال، وجعلتها صافية حية خاشعة للحق، عامرة بالإيمان، في لحظات قصار. فإذا هم يجدون أنفسهم ملقين سجداً، بغير إرادة منهم، تتحرك ألسنتهم، فتنطلق بكلمة الإيمان، في نصاعة وبيان: {آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون}. وإن القلب البشري لعجيب غاية العجب، فإن لمسة واحدة تصادف مكانها لتبدله تبديلاً. «وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن. إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه» وهكذا انقلب السحرة المأجورون، مؤمنين من خيار المؤمنين. على مرأى ومسمع من الجماهير الحاشدة ومن فرعون وملئه. لا يفكرون فيما يعقب جهرهم بالإيمان في وجه الطاغية من عواقب ونتائج، ولا يعنيهم ماذا يفعل أو ماذا يقول. ولا بد أن كان لهذا الانقلاب المفاجئ وقع الصاعقة على فرعون وملئه. فالجماهير حاشدة. وقد عبأهم عملاء فرعون وهم يحشدونهم لشهود المباراة. عبأوهم بأكذوبة أن موسى الإسرائيلي، ساحر يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره، ويريد أن يجعل الحكم لقومه؛ وأن السحرة سيغلبونه ويفحمونه.. ثم هاهم أولاء يرون السحرة يلقون ما يلقون باسم فرعون وعزته. ثم يغلبون حتى ليقرون بالغلب؛ ويعترفون بصدق موسى في رسالته من عند الله، ويؤمنون برب العالمين الذي أرسله، ويخلعون عنهم عبادة فرعون، وهم كانوا منذ لحظة جنوده الذين جاءوا لخدمته، وانتظروا أجره، واستفتحوا بعزته! وإنه لانقلاب يتهدد عرش فرعون، إذ يتهدد الأسطورة الدينية التي يقوم عليها هذا العرش. أسطورة الألوهية، أو بنوته للآلهة كما كان شائعاً في بعض العصور وهؤلاء هم السحرة. والسحر كان حرفة مقدسة لا يزاولها إلا كهنة المعابد في طول البلاد وعرضها. ها هم أولاء يؤمنون برب العالمين، رب موسى وهارون، والجماهير تسير وراء الكهنة في معتقداتهم التي يلهونهم بها. فماذا يبقى لعرش فرعون من سند إلا القوة؟ والقوة وحدها بدون عقيدة لا تقيم عرشاً ولا تحمي حكماً. إن لنا أن نقدر ذعر فرعون لهذه المفاجأة، وذعر الملأ من حوله، إذا نحن تصورنا هذه الحقيقة؛ وهي إيمان السحرة الكهنة هذا الإيمان الصريح الواضح القاهر الذي لا يملكون معه إلا أن يلقوا سجداً معترفين منيبين. عندئذ جن جنون فرعون، فلجأ إلى التهديد البغيض بالعذاب والنكال. بعد أن حاول أن يتهم السحرة بالتآمر عليه وعلى الشعب مع موسى! {قال: آمنتم له قبل أن آذن لكم! إنه لكبيركم الذي علمكم السحر. فلسوف تعلمون. لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم أجمعين}.. {آمنتم له قبل أن آذن لكم}.. لم يقل آمنتم به. إنما عده استسلاماً له قبل إذنه. على طريقة المناورات التي يدبرها صاحبها وهو مالك لإرادته، عارف بهدفه، مقدر لعاقبته. ولم يشعر قلبه بتلك اللمسة التي مست قلوبهم. ومتى كان للطغاة قلوب تشعر بمثل هذه اللمسات الوضيئة؟ ثم سارع في اتهامهم لتبرير ذلك الانقلاب الخطير: {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} وهي تهمة عجيبة لا تفسير لها إلا أن بعض هؤلاء السحرة وهم من الكهنة كانوا يتولون تربية موسى في قصر فرعون أيام أن تبناه، أو كان يختلف إليهم في المعابد. فارتكن فرعون إلى هذه الصلة البعيدة، وقلب الأمر فبدلاً من أن يقول: إنه لتلميذكم قال: إنه لكبيركم. ليزيد الأمر ضخامة وتهويلاً في أعين الجماهير! ثم جعل يهدد بالعذاب الغليظ بعد التهويل فيما ينتظر المؤمنين: {فلسوف تعلمون. لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين}.. إنها الحماقة التي يرتكبها كل طاغية، حينما يحس بالخطر على عرشه أو شخصه، يرتكبها في عنف وغلظة وبشاعة، بلا تحرج من قلب أو ضمير.. وإنها لكلمة فرعون الطاغية المتجبر الذي يملك تنفيذ ما يقول.. فما تكون كلمة الفئة المؤمنة التي رأت النور! إنها كلمة القلب الذي وجد الله فلم يعد يحفل ما يفقد بعد هذا الوجدان. القلب الذي اتصل بالله فذاق طعم العزة فلم يعد يحفل الطغيان. القلب الذي يرجو الآخرة فلا يهمه من أمر هذه الدنيا قليل ولا كثير: {قالوا: لا ضير. إنا إلى ربنا منقلبون. إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين}.. لا ضير. لا ضير في تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف. لا ضير في التصليب والعذاب. لا ضير في الموت والاستشهاد.. لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون.. وليكن في هذه الأرض ما يكون: فالمطمع الذي نتعلق به ونرجوه {أن يغفر لنا ربنا خطايانا} جزاء {أن كنا أول المؤمنين}.. وأن كنا نحن السابقين.. يا لله! يا لروعة الإيمان إذ يشرق في الضمائر. وإذ يفيض على الأرواح. وإذ يسكب الطمأنينة في النفوس. وإذ يرتفع بسلالة الطين إلى أعلى عليين. وإذ يملأ القلوب بالغنى والذخر والوفر، فإذا كل ما في الأرض تافه حقير زهيد. هنا يسدل السياق الستار على هذه الروعة الغامرة. لا يزيد شيئاً. ليبقى للمشهد جلاله الباهر وإيقاعه العميق. وهو يربي به النفوس في مكة وهي تواجه الأذى والكرب والضيق ويربي به كل صاحب عقيدة يواجه بها الطغيان والعسف والتعذيب. فأما بعد ذلك فالله يتولى عباده المؤمنين. وفرعون يتآمر ويجمع جنوده أجمعين: {وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون.. فأرسل فرعون في المدائن حاشرين. إن هؤلاء لشرذمة قليلون. وإنهم لنا لغائظون. وإنا لجميع حاذرون}.. وهنا فجوة في الوقائع والزمن لا تذكر في هذا الموضع. فقد عاش موسى وبنو إسرائيل فترة بعد المباراة، وقعت فيها الآيات الأخرى المذكورة في سورة الأعراف قبل أن يوحي الله لموسى بالرحيل بقومه. ولكن السياق هنا يطويها ليصل إلى النهاية المناسبة لموضوع السورة واتجاهها الأصيل. لقد أوحى الله إلى موسى إذن أن يسري بعباده، وأن يرحل بهم ليلاً، بعد تدبير وتنظيم. ونبأه أن فرعون سيتبعهم بجنده؛ وأمره أن يقود قومه إلى ساحل البحر (وهو في الغالب عند التقاء خليج السويس بمنطقة البحيرات). وعلم فرعون بخروج بني إسرائيل خلسة، فأمر بما يسمى «التعبئة العامة» وأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له الجنود، ليدرك موسى وقومه؛ ويفسد عليهم تدبيرهم؛ وهو لا يعلم أنه تدبير صاحب التدبير! وانطلق عملاء فرعون يجمعون الجند. . ولكن هذا الجمع قد يشي بانزعاج فرعون، وبقوة موسى ومن معه وعظم خطرهم، حتى ليحتاج الملك الإله بزعمه! إلى التعبئة العامة. ولا بد إذن من التهوين من شأن المؤمنين: {إِن هؤلاء لشرذمة قليلون} ! ففيم إذن ذلك الاهتمام بأمرهم، والاحتشاد لهم، وهم شرذمة قليلون! {وإنهم لنا لغائظون}.. فهم يأتون من الأفعال والأقوال ما يغيظ ويغضب ويثير! وإذن فلهم شأن وخطر على كل حال! فليقل العملاء: إن هذا لا يهم فنحن لهم بالمرصاد: {وإنا لجميع حاذرون}.. مستيقظون لمكائدهم، محتاطون لأمرهم، ممسكون بزمام الأمور! إنها حيرة الباطل المتجبر دائماً في مواجهة أصحاب العقيدة المؤمنين! وقبل أن يعرض المشهد الأخير، يعجل السياق بالعاقبة الأخيرة من إخراج فرعون وملئه مما كانوا فيه من متاع. ووراثة بني إسرائيل المستضعفين. {فأخرجناهم من جنات وعيون. وكنوز ومقام كريم. كذلك، وأورثناها بني إسرائيل}.. لقد خرجوا يتبعون خطا موسى وقومه ويقفون أثرهم. فكانت خرجتهم هذه هي الأخيرة. وكانت إخراجاً لهم من كل ما هم فيه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم؛ فلم يعودوا بعدها لهذا النعيم! لذلك يذكر هذا المصير الأخير عقب خروجهم يقفون أثر المؤمنين. تعجيلاً بالجزاء على الظلم والبطر والبغي الوخيم. {وأورثناها بني إسرائيل}.. ولا يعرف أن بني إسرائيل عادوا إلى مصر بعد خروجهم إلى الأرض المقدسة؛ وورثوا ملك مصر وكنوز فرعون ومقامه. لذلك يقول المفسرون: إنهم ورثوا مثل ما كان لفرعون وملئه. فهي وراثة لنوع ما كانوا فيه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم. وبعد هذا الاعتراض يجيء المشهد الحاسم الأخير: {فأتبعوهم مشرقين. فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى: إنا لمدركون. قال: كلا إن معي ربي سيهدين. فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق. فكان كل فرق كالطود العظيم. وأزلفنا ثم الآخرين. وأنجينا موسى ومن معه أجمعين. ثم أغرقنا الآخرين.}.. لقد أسرى موسى بعباد الله، بوحي من الله وتدبير. فأتبعهم جنود فرعون في الصباح بمكر من فرعون وبطر. ثم ها هو ذا المشهد يقترب من نهايته. والمعركة تصل إلى ذروتها.. إن موسى وقومه أمام البحر ليس معهم سفين ولا هم يملكون خوضه وما هم بمسلحين. وقد قاربهم فرعون بجنوده شاكي السلاح يطلبونهم ولا يرحمون! وقالت دلائل الحال كلها: أن لا مفر والبحر أمامهم والعدو خلفهم: {قال أصحاب موسى: إنا لمدركون}.. وبلغ الكرب مداه، وإن هي إلا دقائق تمر ثم يهجم الموت ولا مناص ولا معين! ولكن موسى الذي تلقى الوحي من ربه، لا يشك لحظة وملء قلبه الثقة بربه، واليقين بعونه، والتأكد من النجاة، وإن كان لا يدري كيف تكون.
|