الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} نحن في حاجة إلى أن نستحضر هنا كل ما قلناه من وصف هذه السورة عند التعريف بها.. في حاجة لأن نستحضر ما قلناه عن تدافع الموجات المتلاحقة في المجرى المتدفق؛ وعن الروعة الباهرة، التي يصل إليها التعبير والتصوير والإيقاع من سياقها: «وهذه السورة تعالج موضوعها الأساسي بصورة فريدة.. إنها في كل لمحة منها، وفي كل موقف، وفي كل مشهد، تمثل» الروعة الباهرة «.. الروعة التي تبده النفس، وتشده الحس، وتبهر النفس أيضاً، وهو يلاحق مشاهدها وإيقاعها وموحياتها مبهوراً! ...» وهي تشبه في سياقها المتدافع بهذه المشاهد والمواقف والموحيات والإيقاعات والصور والظلال، مجرى النهر المتدافع بالأمواج المتلاحقة. لا تكاد الموجة تصل إلى قرارها، حتى تجد الموجة التالية ملاحقة لها، ومتشابكة معها، في المجرى المتصل المتدفق. «وهي في كل موجة من هذه الموجات المتدافعة المتلاحقة المتشابكة، تبلغ حد الروعة الباهرة التي وصفنا.. مع تناسق منهج العرض في شتى المشاهد.. وتأخذ على النفس أقطارها بالروعة الباهرة، وبالحيوية الدافقة، وبالإيقاع التصويري والتعبيري والموسيقي، وبالتجمع والاحتشاد، ومواجهة النفس من كل درب ومن كل نافذة».. ... الخ... الخ... إن هذه السمات كلها تتجلى في هذا الدرس، على أتمها وأوفاها.. إن القارئ يحس كأنما المشاهد تنبثق انبثاقاً هي ومدلولاتها في التماع ولألاء. وهي تتدافع في انبثاقها أمام الحس، كما تتدافع إيقاعات التعبير اللفظي عنها لتتناسق معها. والمشاهد والتعبير يتوافيان كذلك مع المدلولات التي يعبران عنها، ويهدفان إليها! إن كل مشهد من هذه المشاهد كأنما هو انبثاقة لامعة رائعة تجيء من المجهول! وتتجلى للحواس والقلب والعقل في بهاء أخاذ.. والعبارة ذاتها كأنما هي انبثاقة كذلك! وإيقاع العبارة يتناسق في بهاء مع المشهد ومع المدلول. يتناسق معه في قوة الانبثاق، وفي شدة اللألاء. وتتدفق المدلولات والمشاهد والعبارات في موجات متلاحقة، يتابعها الحس في بهر! وما يكاد يصل مع الموجة إلى قرارها حتى يجد نفسه مندفعاً مرة أخرى مع موجة جديدة.. كالذي حاولنا أن نصف به السورة في مطالعها من قبل! وصفحة الوجود بجملتها مفتوحة. والمشاهد تتوالى- وكدت أقول: تتواثب- من هنا ومن هناك في الصفحة الفسيحة الأرجاء.. والجمال هو السمة البارزة هنا.. الجمال الذي يبلغ حد الروعة الباهرة.. المشاهد منتقاة وملتقطة من الزاوية الجمالية. والعبارات كذلك في بنائها اللفظي الإيقاعي، وفي دلالتها. والمدلولات أيضاً- على كل ما تزخر به الحقيقة الأصيلة في هذه العقيدة- تتناول هذه الحقيقة من الزاوية الجمالية.. فتبدو الحقيقة ذاتها وكأنما تتلألأ في بهاء! ومما يوحي بالسمت الجمالي السابغ ذلك التوجيه الرباني إلى تملي الجمال في ازدهار الحياة وازدهائها: {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه}. . فهو التوجيه المباشر إلى الجمال الباهر.. للنظر والتملي والاستمتاع الواعي. ثم ينتهي هذا الجمال إلى ذروته التي تروع وتبهر في ختام الاستعراض الكوني الحي، حين يصل إلى ما وراء هذا الكون الجميل البهيج الرائع.. إلى بديع السماوات والأرض الذي أودع الوجود كل هذه البدائع.. فيتحدث عنه- سبحانه- حديثاً لا تنقل روعته إلا العبارة القرآنية بذاتها: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير}.. وبعد، فنحن- في هذا الدرس- أمام كتاب الكون المفتوح، الذي يمر به الغافلون في كل لحظة. فلا يقفون أمام خوارقه وآياته، ويمر به المطموسون فلا تتفتح عيونهم على عجائبه وبدائعه.. وها هو ذا النسق القرآني العجيب يرتاد بنا هذا الوجود، كأنما نهبط إليه اللحظة، فيقفنا أمام معالمه العجيبة، ويفتح أعيننا على مشاهده الباهرة، ويثير تطلعنا إلى بدائعه التي يمر عليها الغافلون غافلين! ها هو ذا يقفنا أمام الخارقة المعجزة التي تقع في كل لحظة من الليل والنهار.. خارقة انبثاق الحياة النابضة من هذا الموات الهامد.. لا ندري كيف انبثقت، ولا ندري من أين جاءت- إلا أنها جاءت من عند الله وانبثقت بقدر من الله. لا يقدر بشر على إدراك كنهها بله ابتداعها! وها هو ذا يقف بنا أمام دورة الفلك العجيبة.. الدورة الهائلة الدائبة الدقيقة.. وهي خارقة لا يعدلها شيء مما يطلبه الناس من الخوارق.. وهي تتم في كل يوم وليلة. بل تتم في كل ثانية ولحظة.. وها هو ذا يقف بنا أمام نشأة الحياة البشرية.. من نفس واحدة.. وأمام تكاثرها بتلك الطريقة. وها هو ذا يقف بنا أمام نشأة الحياة في النبات.. وأمام مشاهد الأمطار الهاطلة، والزروع النامية، والثمار اليانعة. وهي حشد من الحيوات والمشاهد، ومجال للتأمل والريادة. لو نشاهدها بالحس المتوفز والقلب المتفتح. وها هو ذا الوجود كله، جديداً كأنما نراه أول مرة. حياً يعاطفنا ونعاطفه، متحركاً تدب الحركة في أوصاله، عجيباً يشده الحواس والمشاعر. ناطقاً بذاته عن خالقه. دالاً بآياته على تفرده وقدرته.. وعندئذ يبدو الشرك بالله- والسياق يواجه الشرك والمشركين بهذا الاستعراض- غريباً غريباً على فطرة هذا الوجود وطبيعته. وشائهاً شائهاً في ضمير من يشاهد هذا الوجود الحافل بدلائل الهدى ويتأمله. وتسقط حجة الشرك والمشركين، في مواجهة هذا الإيمان الغامر في مجالي الوجود العجيب.. والمنهج القرآني- في خطاب الكينونة البشرية بحقيقة الألوهية؛ وفي بيانه لموقف العبودية منها؛ يجعل حقيقة الخلق والإنشاء للكون، وحقيقة الخلق والإنشاء للحياة، وحقيقة كفالة الحياة بالرزق الذي ييسره لها الله في ملكه، وحقيقة السلطان الذي يخلق ويرزق ويتصرف في عالم الأسباب بلا شريك.. يجعل من هذه الحقائق مؤثراً موحياً. وبرهاناً قوياً على ضرورة ما يدعو إليه البشر: من العبودية لله وحده، وإخلاص الاعتقاد والعبادة والطاعة والخضوع له وحده. . وكذلك يجيء في السياق- بعد استعراض صفحة الوجود؛ وانكشاف حقيقة الخلق والإنشاء والرزق والكفالة والسلطان- الدعوة إلى عبادة الله وحده، أي إلى إفراده سبحانه بالألوهية وخصائصها، في حياة العباد كلها؛ وجعل الحاكمية والتحاكم إليه وحده في شؤون الحياة كافة، واستنكار ادعاء الألوهية أو إحدى خصائصها. وكذلك نجد في هذا الدرس قوله تعالى: {ذلكم الله ربكم، لا إله إلا هو، خالق كل شيء فاعبدوه، وهو على كل شيء وكيل}.. نموذجاً للمنهج القرآني في ربط العبادة الخالصة، بإفراد الألوهية لله وحده، مع تقرير أنه- سبحانه- {خالق كل شيء}.. {وهو على كل شيء وكيل}.. وفي نهاية الدرس- وبعد عرض هذه الآيات في صفحة الوجود كله- يكشف عن تفاهة طلب الخوارق، كما يكشف عن طبيعة المكذبين المعاندة، التي لا تتخلف عن الإيمان لنقص في الآيات والدلائل؛ ولكن لطبع فيها مطموس! وإلا فهذه الآيات تزحم الوجود. {إن الله فالق الحب والنوى، يخرج الحي من الميت، ومخرج الميت من الحي. ذلكم الله فأنى تؤفكون؟}.. إنها المعجزة التي لا يدري سرها أحد؛ فضلاً على أن يملك صنعها أحد! معجزة الحياة نشأة وحركة.. وفي كل لحظة تنفلق الحبة الساكنة عن نبتة نامية، وتنفلق النواة الهامدة عن شجرة صاعدة. والحياة الكامنة في الحبة والنواة، النامية في النبتة والشجرة، سر مكنون، لا يعلم حقيقته إلا الله؛ ولا يعلم مصدره إلا الله.. وتقف البشرية بعد كل ما رأت من ظواهر الحياة وأشكالها، وبعد كل ما درست من خصائصها وأطوارها.. تقف أمام السر المغيب كما وقف الإنسان الأول، تدرك الوظيفة والمظهر، وتجهل المصدر والجوهر، والحياة ماضية في طريقها. والمعجزة تقع في كل لحظة!!! ومنذ البدء أخرج الله الحي من الميت. فقد كان هذا الكون- أو على الأقل كانت هذه الأرض- ولم يكن هناك حياة.. ثم كانت الحياة.. أخرجها الله من الموات.. كيف؟ لا ندري! وهي منذ ذلك الحين تخرج من الميت؛ فتتحول الذرات الميتة في كل لحظة- عن طريق الأحياء- إلى مواد عضوية حية تدخل في كيان الأجسام الحية؛ وتتحول- وأصلها ذرات ميتة- إلى خلايا حية.. والعكس كذلك.. ففي كل لحظة تتحول خلايا حية إلى ذرات ميتة؛ إلى أن يتحول الكائن الحي كله ذات يوم إلى ذرات ميتة! {يخرج الحي من الميت، ومخرج الميت من الحي}.. ولا يقدر إلا الله أن يصنع ذلك.. لا يقدر إلا الله أن ينشئ الحياة منذ البدء من الموات. ولا يقدر إلا الله أن يجهز الكائن الحي بالقدرة على إحالة الذرات الميتة إلى خلايا حية. ولا يقدر إلا الله على تحويل الخلايا الحية مرة أخرى إلى ذرات ميتة. . في دورة لم يعلم أحد يقيناً بعد متى بدأت، ولا كيف تتم.. وإن هي إلا فروض ونظريات واحتمالات!!! لقد عجزت كل محاولة لتفسير ظاهرة الحياة، على غير أساس أنها من خلق الله.. ومنذ أن شرد الناس من الكنيسة في أوربا.. {كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة!} وهم يحاولون تفسير نشأة الكون وتفسير نشأة الحياة، بدون التجاء إلى الاعتراف بوجود الله.. ولكن هذه المحاولات كلها فشلت جميعاً.. ولم تبق منها في القرن العشرين إلا مماحكات تدل على العناد، ولا تدل على الإخلاص! وأقوال بعض «علمائهم» الذين عجزوا عن تفسير وجود الحياة إلا بالاعتراف بالله، تصور حقيقة موقف «علمهم» نفسه من هذه القضية. ونحن نسوقها لمن لا يزالون عندنا يقتاتون على فتات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من موائد الأوربيين، عازفين عن هذا الدين، لأنه يثبت «الغيب» وهم «علميون!» لا «غيبيون»!.. ونختار لهم هؤلاء العلماء من «أمريكا»!!! يقول «فرانك أللن». (ماجستير ودكتوراه من جامعة كورنل وأستاذ الطبيعة الحيوية بجامعة مانيتوبا بكندا) في مقال: نشأة العالم هل هو مصادفة أو قصد؟ من كتاب: «الله يتجلى في عصر العلم».. ترجمة الدكتور: الدمرداش عبد المجيد سرحان. .. «فإذا لم تكن الحياة قد نشأت بحكمة وتصميم سابق، فلا بد أن تكون قد نشأت عن طريق المصادفة فما هي تلك المصادفة إذن حتى نتدبرها ونرى كيف تخلق الحياة؟ » إن نظريات المصادفة والاحتمال لها الآن من الأسس الرياضية السليمة ما يجعلها تطبق على نطاق واسع حيثما انعدم الحكم الصحيح المطلق. وتضع هذه النظريات أمامنا الحكم الأقرب إلى الصواب- مع تقدير احتمال الخطأ في هذا الحكم- ولقد تقدمت دراسة نظرية المصادفة والاحتمال من الوجهة الرياضية تقدماً كبيراً، حتى أصبحنا قادرين على التنبؤ بحدوث بعض الظواهر، التي نقول: إنها تحدث بالمصادفة، والتي لا نستطيع أن نفسر ظهورها بطريقة أخرى (مثل قذف الزهر في لعبة النرد). وقد صرنا بفضل تقدم هذه الدراسات قادرين على التمييز بين ما يمكن أن يحدث بطريق المصادفة، وما يستحيل حدوثه بهذه الطريقة، وأن نحسب احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر في مدى معين من الزمان.. ولننظر الآن إلى الدور الذي تستطيع أن تلعبه المصادفة في نشأة الحياة: «إن البروتينات من المركبات الأساسية في جميع الخلايا الحية. وهي تتكون من خمسة عناصر؛ هي: الكربون، والأدروجين، والنيتروجين، والأكسجين، والكبريت.. ويبلغ عدد الذرات في الجزيء الواحد 40. 000 ذرة. ولما كان عدد العناصر الكيموية في الطبيعة 92 عنصراً، موزعة كلها توزيعاً عشوائياً، فإن احتمال اجتماع هذه العناصر الخمسة، لكي تكون جزئياً من جزيئات البروتين، يمكن حسابه لمعرفة كمية المادة التي ينبغي أن تخلط خلطاً مستمراً لكي تؤلف هذا الجزيء؛ ثم لمعرفة طول الفترة الزمنية اللازمة لكي يحدث هذا الاجتماع بين ذرات الجزيء الواحد. «وقد قام العالم الرياضي السويسري تشارلز يوجين جاي بحساب هذه العوامل جميعاً، فوجد أن الفرصة لا تتهيأ عن طريق المصادفة لتكوين جزيء بروتيني واحد، إلا بنسبة 1 إلى 10، أي بنسبة 1 إلى رقم عشرة مضروباً في نفسه160 مرة. وهو رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه بكلمات.. وينبغي أن تكون كمية المادة التي تلزم لحدوث هذا التفاعل بالمصادفة بحيث ينتج جزيء واحد أكثر مما يتسع له كل هذا الكون بملايين المرات.. ويتطلب تكوين هذا الجزيء على سطح الأرض وحدها- عن طريق المصادفة- بلايين لا تحصى من السنوات، قدرها العالم السويسري بأنها عشرة مضروبة في نفسها 243 مرة من السنين (10 سنة)». «إن البروتينات تتكون من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية. فكيف تتألف ذرات هذه الجزيئات؟ إنها إذا تآلفت بطريقة أخرى، غير التي تتآلف بها، تصير غير صالحة للحياة. بل تصير في بعض الأحيان سموماً. وقد حسب العالم الانجليزي: ج. ب. سيثر J. رضي الله عن. Seather الطرق التي يمكن أن تتآلف بها الذرات في أحد الجزيئات البسيطة من البروتينات، فوجد أن عددها يبلغ الملايين (10). وعلى ذلك فإنه من المحال عقلاً أن تتآلف كل هذه المصادفات لكي تبني جزيئاً بروتينياً واحداً». «ولكن البروتينات ليست إلا مواد كيماوية عديمة الحياة، ولا تدب فيها الحياة إلا عندما يحل فيها ذلك السر العجيب، الذي لا ندري من كنهه شيئاً، إنه العقل اللانهائي. وهو الله وحده، الذي استطاع أن يدرك ببالغ حكمته، أن مثل هذا الجزيء البروتيني يصلح لأن يكون مستقراً للحياة، فبناه وصوره، وأغدق عليه سر الحياة».. ويقول إيرفنج وليام (دكتوراه من جامعة إيوى وأخصائي في وراثة النباتات وأستاذ العلوم الطبيعية بجامعة ميتشجان) في مقال: «المادية وحدها لا تكفي» من الكتاب نفسه: «إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها والتي لا يحصيها عد، وهي التي تتكون منها جميع المواد. كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا- بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكوّن الحياة. ولا شك أن النظرية التي تدعي أن جميع صور الحياة الراقية قد وصلت إلى حالتها الراهنة من الرقي بسبب حدوث بعض الطفرات العشوائية والتجمعات والهجائن.. نقول: إن هذه النظرية لا يمكن الأخذ بها إلا عن طريق التسليم. فهي لا تقوم على أساس المنطق والإقناع!» ويقول: «ألبرت ماكومب ونشستر» (متخصص في علم الأحياء دكتوراه من جامعة تكساس. أستاذ علم الأحياء بجامعة بايلور...) في مقال: «العلوم تدعم إيماني بالله» من الكتاب نفسه: «... وقد اشتغلت بدراسة علم الأحياء. وهو من الميادين العلمية الفسيحة التي تهتم بدراسة الحياة. وليس بين مخلوقات الله أروع من الأحياء التي تسكن هذا الكون». «انظر إلى نبات برسيم ضئيل. وقد نما على أحد جوانب الطريق. فهل تستطيع أن تجد له نظيراً في روعته بين جميع ما صنعه الإنسان من تلك العدد والآلات الرائعة؟ إنه آله حية تقوم بصورة دائبة لا تنقطع آناء الليل وأطراف النهار، بآلاف من التفاعلات الكيموية والطبيعية؛ ويتم كل ذلك تحت سيطرة البروتوبلازم- وهو المادة التي تدخل في تركيب جميع الكائنات الحية». «فمن أين جاءت هذه الآلة الحية المعقدة؟ إن الله لم يصنعها هكذا وحدها، ولكنه خلق الحياة، وجعلها قادرة على صيانة نفسها، وعلى الاستمرار من جيل إلى جيل. مع الاحتفاظ بكل الخواص والمميزات التي تعيننا على التمييز بين نبات وآخر.. إن دراسة التكاثر في الأحياء تعتبر أروع دراسات علم الأحياء، وأكثرها إظهاراً لقدرة الله.. إن الخلية التناسلية التي ينتج عنها النبات الجديد، تبلغ من الصغر درجة كبرى بحيث يصعب مشاهدتها إلا باستخدام المجهر المكبر. ومن العجيب أن كل صفة من صفات النبات: كل عرق، وكل شعيرة، وكل فرع على ساق، وكل جذر أو ورقة، يتم تكوينها تحت إشراف مهندسين قد بلغوا من دقة الحجم مبلغاً كبيراً، فاستطاعوا العيش داخل الخلية التي ينشأ منها النبات.. تلك الفئة من المهندسين هي فئة الكروموسومات (ناقلات الوراثة)». وفي هذا القدر كفاية لنعود إلى الجمال المشرق في سياق القرآن: {ذلكم الله}.. مبدع هذه المعجزة المتكررة المغيبة السر.. هو الله.. وهو ربكم الذي يستحق أن تدينوا له وحده.. بالعبودية والخضوع والاتباع. {فأنى تؤفكون؟}.. فكيف تصرفون عن هذا الحق الواضح للعقول والقلوب والعيون! إن معجزة انبثاق الحياة من الموات يجيء ذكرها كثيراً في القرآن الكريم- كما يجيء ذكر خلق الكون ابتداء- في معرض التوجيه إلى حقيقة الألوهية، وآثارها الدالة على وحدة الخالق، لينتهي منها إلى ضرورة وحدة المعبود، الذي يدين له العباد؛ بالاعتقاد في ألوهيته وحده، والطاعة لربوبيته وحده، والتقدم إليه وحده بالشعائر التعبدية، والتلقي منه وحده في منهج الحياة كله، والدينونة لشريعته كذلك وحدها.. وهذه الدلائل لا تذكر في القرآن الكريم في صورة قضايا لاهوتية أو نظريات فلسفية! إن هذا الدين أكثر جدية من أن ينفق طاقة البشر في قضايا لاهوتية ونظريات فلسفية. إنما يهدف إلى تقويم تصور البشر- بإعطائهم العقيدة الصحيحة- لينتهي إلى تقويم حياة البشر الباطنة والظاهرة. وذلك لا يكون أبداً إلا بردهم إلى عبادة الله وحده وإخراجهم من عبادة العباد. وإلا أن تكون الدينونة في الحياة الدنيا، وفي شئون الحياة اليومية لله وحده، وإلا أن يخرج الناس من سلطان المتسلطين، الذين يدعون حق الألوهية، فيزاولون الحاكمية في حياة البشر، ويصبحون آلهة زائفة وأرباباً كثيرة؛ فتفسد الحياة، حين يستعبد الناس فيها لغير الله! ومن هنا نرى التعقيب على معجزة الحياة: {ذلكم الله فأنى تؤفكون}.. ذلكم الله الذي يستحق الربوبية فيكم.. والرب هو المربي والموجه والسيد والحاكم.. ومن ثم يجب ألا يكون الرب إلا الله.. {فالق الإصباح، وجعل الليل سكناً، والشمس والقمر حسباناً. ذلك تقدير العزيز العليم}.. إن فالق الحب والنوى هو فالق الإصباح أيضاً، وهو الذي جعل الليل للسكون، وجعل الشمس والقمر محسوبة حركاتهما مقدرة دوراتهما.. مقدراً ذلك كله بقدرته التي تهيمن على كل شيء، وبعلمه الذي يحيط بكل شيء. وانفلاق الإصباح من الظلام حركة تشبه في شكلها انفلاق الحبة والنواة. وانبثاق النور في تلك الحركة، كانبثاق البرعم في هذه الحركة.. وبينهما من مشابه الحركة والحيوية والبهاء والجمال سمات مشتركة، ملحوظة في التعبير عن الحقائق المشتركة في طبيعتهما وحقيقتهما كذلك.. وبين انفلاق الحب والنوى وانفلاق الإصباح وسكون الليل صلة أخرى.. إن الإصباح والإمساء، والحركة والسكون، في هذا الكون- أو في هذه الأرض- ذات علاقة مباشرة بالنبات والحياة. إن كون الأرض تدور دورتها هذه حول نفسها أمام الشمس؛ وكون القمر بهذا الحجم وبهذا البعد من الأرض؛ وكون الشمس كذلك بهذا الحجم وهذا البعد وهذه الدرجة من الحرارة.. هي تقديرات من «العزيز» ذي السلطان القادر «العليم» ذي العلم الشامل.. ولولا هذه التقديرات ما انبثقت الحياة في الأرض على هذا النحو، ولما انبثق النبت والشجر، من الحب والنوى.. إنه كون مقدر بحساب دقيق. ومقدر فيه حساب الحياة، ودرجة هذه الحياة، ونوع هذه الحياة.. كون لا مجال للمصادفة العابرة فيه- وحتى ما يسمونه المصادفة خاضع لقانون ومقدر بحساب.. والذين يقولون: إن هذه الحياة فلتة عابرة في الكون. وأن الكون لا يحفلها. بل يبدو أنه يعاديها. وأن ضآلة الكوكب الذي قام عليه هذا النوع من الحياة توحي بهذا كله. بل يقول بعضهم: إن هذه الضآلة توحي بأنه لو كان للكون إله ما عنى نفسه بهذه الحياة!... إلى آخر ذلك اللغو، الذي يسمونه أحياناً «علماً»! ويسمونه أحيانا «فلسفة»! وهو لا يستأهل حتى مناقشته! إن هؤلاء إنما يحكمون أهواء مستقرة في نفوسهم؛ ولا يحكمون حتى نتائج علمهم التي تفرض نفسها عليهم! ويقرأ لهم الإنسان فيجد كأنما هم هاربون من مواجهة حقيقة قرروا سلفاً ألا يواجهوها!.. إنهم هاربون من الله الذي تواجههم دلائل وجوده ووحدانيته وقدرته المطلقة في كل اتجاه! وكلما سلكوا طريقاً يهربون بها من مواجهة هذه الحقيقة وجدوا الله في نهايتها، فعادوا في ذعر إلى سكة أخرى. ليواجهوا الله- سبحانه- في نهايتها كذلك! إنهم مساكين! بائسون! لقد فروا ذات يوم من الكنيسة وإلهها الذي تستذل به الرقاب.. فروا {كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة} ثم ما زالوا في فرارهم التقليدي حتى أوائل هذا القرن.. دون أن يتلفتوا وراءهم ليروا إن كانت الكنيسة ما تزال تتابعهم. أم انقطعت منها- كما انقطعت منهم- الأنفاس. إنهم مساكين بائسون لأن نتائج علومهم ذاتها تواجههم اليوم أيضاً.. فإلى أين الفرار؟.. يقول «فرانك أللن» العالم الطبيعي الذي اقتطفنا فقرات من مقاله في الفقرة السابقة عن نشأة الحياة: «إن ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صوراً عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية. فالأرض كرة معلقة في الفضاء تدور حول نفسها، فيكون في ذلك تتابع الليل والنهار، وهي تسبح حول الشمس مرة في كل عام، فيكون في ذلك تتابع الفصول، الذي يؤدي بدوره إلى زيادة مساحة الجزء الصالح للسكنى من سطح كوكبنا، ويزيد من اختلاف الأنواع النباتية أكثر مما لو كانت ساكنة. ويحيط بالأرض غلاف غازي يشتمل على الغازات اللازمة للحياة، ويمتد حولها إلى ارتفاع كبير (يزيد على 500 ميل)». «ويبلغ هذا الغلاف الغازي من الكثافة درجة تحول دون وصول ملايين الشهب القاتلة يومياً إلينا، منقضة بسرعة ثلاثين ميلاً في الثانية. والغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض يحفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة، ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافات بعيدة داخل القارات، حيث يمكن أن يتكاثف مطر يحيي الأرض بعد موتها. والمطر مصدر الماء العذب، ولولاه لأصبحت الأرض صحراء جرداء خالية من كل أثر للحياة. ومن هنا نرى أن الجو والمحيطات الموجودة على سطح الأرض تمثل عجلة التوازن في الطبيعة».. إن الأدلة «العلمية» تتكاثر في وجوههم وتتجمع لتعلن عجز المصادفة عجزاً كاملاً عن تعليل نشأة الحياة، بما يلزم لهذه النشأة- وللنمو والبقاء والتنوع بعدها- من موافقات لا تحصى في تصميم الكون.. منها هذه الموافقات التي ذكرها العالم الطبيعي السابق، ووراءها من نوعها كثير. فلا يبقى إلا تقدير العزيز العليم. الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. والذي خلق كل شيء فقدره تقديراً.. {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر. قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون}.. تتمة لمشهد الفلك الدائر بشمسه وقمره ونجومه. تتمة لعرض المشهد الكوني الهائل الرائع مرتبطاً بحياة البشر ومصالحهم واهتماماتهم: {لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر}.. ومتاهات البر والبحر ظلمات يهتدي فيها البشر بالنجوم.. كانوا كذلك وما يزالون. . تختلف وسائل الاهتداء بالنجوم ويتسع مداها بالكشوف العلمية والتجارب المنوعة.. وتبقى القاعدة ثابتة: قاعدة الاهتداء بهذه الأجرام في ظلمات البر والبحر.. سواء في ذلك الظلمات الحسية أو ظلمات التصور والفكر. ويبقى النص القرآني الجامع يخاطب البشرية في مدارجها الأولى بهذه الحقيقة، فتجد مصداقها في واقع حياتها الذي تزاوله. ويخاطبها بها وقد فتح عليها ما أراد أن يفتح من الأسرار في الأنفس والآفاق. فتجدها كذلك مصداق قوله في واقع حياتها الذي تزاوله.. وتبقى مزية المنهج القرآني في مخاطبة الفطرة بالحقائق الكونية، لا في صورة «نظرية» ولكن في صورة «واقعية».. صورة تتجلى من ورائها يد المبدع، وتقديره، ورحمته، وتدبيره. صورة مؤثرة في العقل والقلب، موحية للبصيرة والوعي، دافعة إلى التدبر والتذكر، وإلى استخدام العلم والمعرفة للوصول إلى الحقيقة الكبرى المتناسقة.. لذلك يعقب على آية النجوم التي جعلها الله للناس ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر هذا التعقيب الموحي: {قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون}.. فالاهتداء بالنجوم في ظلمات البر والبحر يحتاج إلى علم بمسالكها ودوراتها ومواقعها ومداراتها.. كما يحتاج إلى قوم يعلمون دلالة هذا كله على الصانع العزيز الحكيم.. فالاهتداء- كما قلنا- هو الاهتداء في الظلمات الحسية الواقعية، وفي ظلمات العقل والضمير.. والذين يستخدمون النجوم للاهتداء الحسي، ثم لا يصلون ما بين دلالتها ومبدعها، هم قوم لم يهتدوا بها تلك الهداية الكبرى؛ وهم الذين يقطعون بين الكون وخالقه، وبين آيات هذا الكون ودلالتها على المبدع العظيم.. {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة، فمستقر ومستودع. قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون}.. إنها اللمسة المباشرة في هذه المرة.. اللمسة في ذات النفس البشرية. النفس البشرية الواحدة الموحدة الكنه والحقيقة في الذكر والأنثى. تبدأ الحياة فيها خطوتها الأولى للتكاثر بالخلية الملقحة. فنفسٌ هي مستودع لهذه الخلية في صلب الرجل، ونفس هي مستقر لها في رحم الأنثى.. ثم تأخذ الحياة في النمو والانتشار. فإذا أجناس وألوان؛ وإذا شيات ولغات؛ وإذا شعوب وقبائل؛ وإذا النماذج التي لا تحصى، والأنماط التي ما تزال تتنوع ما دامت الحياة. {قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون}.. فالفقه هنا ضروري لإدراك صنع الله في هذه النفس الواحدة، التي تنبثق منها النماذج والأنماط. ولإدراك الموافقات العجيبة الكامنة وراء اتخاذ التلاقح وسيلة للإكثار وتوفير الأعداد المناسبة دائماً من الذكور والإناث- في عالم الإنسان- لتتم عملية التزاوج التي قدر الله أن تكون هي وسيلة الإخصاب والإكثار. ووسيلة تنشئة الأطفال في ظروف تحفظ «إنسانيتهم» وتجعلهم أكفاء للحياة «الإنسانية»! ولا نملك هنا في الظلال أن نبعد في عرض هذه المسألة بكل تفصيلاتها لجلاء هذه الموافقات- فهي في حاجة إلى بحث متخصص- ولكننا نذكر فقط كيفية نشأة النطفة ذكراً أو أنثى وكيف يتم عن طريق التوزيع الغيبي الرباني إنتاج القدر الكافي من الذكور ومن الإنات دائماً لكي تتوافر الأعداد المناسبة لبقاء الحياة وامتدادها. ولقد ذكرنا من قبل عند تفسير قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} أن الذي يقرر صيرورة البويضة الملقحة ذكراً أو أنثى، هو أن يجري قدر الله بأن يكون عدد كروموسومات الحيوان المنوي الذي يلتحم بالبويضة يرجح كروموسومات التذكير على كروموسومات التأنيث أو العكس، وأن جريان القدر بهذا أو ذاك غيب من غيب الله. لا سلطان لأحد عليه إلا الله.. هذا القدَر الذي يجريه الله في كل مرة، فيهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور، يحافظ على توازن دائم في الأرض كلها بين عدد من يجري بهم ليكونوا إناثاً، وعدد من يجري بهم ليكونوا ذكوراً. فلا يقع اختلال- على مستوى البشرية كلها- في هذا التوازن. الذي عن طريقه يتم الإخصاب والإكثار، وتتم به حياة زوجية مستقرة في الوقت ذاته.. ذلك أن الإخصاب والإكثار وحده قد يتم بأقل عدد من الذكور.. ولكن الله قدر في الحياة الإنسانية أن هذا ليس هو غاية الالتقاء بين الذكر والأنثى؛ إنما الغاية- التي تميز الإنسان من الحيوان- هي استقرار الحياة الزوجية بين ذكر وأنثى.. لما وراء هذا الاستقرار من أهداف لا تتم إلا به. وأهمها استقرار الذرية في كنف أبوين في محيط أسرة، ليتم إعداد هذه الذرية لدورها «الإنساني» الخاص- فوق إعدادها لتحصيل القوت وحماية النفس كالحيوان- والدور «الإنساني» الخاص يحتاج إلى الاستقرار بين أبوين في أسرة فترة أطول جداً مما تحتاج إليه طفولة الحيوان! وهذه الموازنة الدائمة تكفي وحدها لتكون آية على تدبير الخالق وحكمته وتقديره.. ولكن لقوم يفقهون: {قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون}.. أما المطموسون المحجوبون.. وفي أولهم أصحاب «العلمية» الذين يسخرون من «الغيبية». فإنهم يمرون على هذه الآيات كلها مطموسين محجوبين: {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} ثم يمضي السياق إلى مشاهد الحياة المتفتحة في جنبات الأرض. تراها الأعين، وتستجليها الحواس، وتتدبرها القلوب. وترى فيها بدائع صنع الله.. والسياق يعرضها- كما هي في صفحة الكون- ويلفت إليها النظر في شتى أطوارها، وشتى أشكالها، وشتى أنواعها؛ ويلمس الوجدان بما فيها من حياة نامية، ودلالة على القدرة التي تبدع الحياة؛ كما يوجه القلب إلى استجلاء جمالها والاستمتاع بهذا الجمال: {وهو الذي أنزل من السماء ماء، فأخرجنا به نبات كل شيء. فأخرجنا منه خضراً نخرج منه حباً متراكباً. ومن النخل من طلعها قنوان دانية. وجنات من أعناب والزيتون والرمان، مشتبهاً وغير متشابه. انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه. إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون}.. والماء كثيراً ما يذكر في القرآن في صدد ذكر الحياة والإنبات. {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء}.. ودور الماء الظاهر في إنبات كل شيء دور واضح يعلمه البدائي والمتحضر، ويعرفه الجاهل والعالم.. ولكن دور الماء في الحقيقة أخطر وأبعد مدى من هذا الظاهر الذي يخاطب به القرآن الناس عامة. فقد شارك الماء ابتداء- بتقدير الله- في جعل تربة الأرض السطحية صالحة للإنبات (إذا صحت النظريات التي تفترض أن سطح الأرض كان في فترة ملتهباً، ثم صلباً لا توجد فيه التربة التي تنبت الزرع. ثم تم ذلك بتعاون الماء والعوامل الجوية على تحويلها إلى تربة لينة) ثم ظل الماء يشارك في إخصاب هذه التربة، وذلك بإسقاط (النتروجين- الأزوت) من الجو كلما أبرق فاستخلصت الشرارة الكهربائية، التي تقع في الجو، النتروجين الصالح للذوبان في الماء ويسقط مع المطر، ليعيد الخصوبة إلى الأرض.. وهو السماد الذي قلد الإنسان القوانين الكونية في صنعه، فأصبح يصنعه الآن بنفس الطريقة! وهو المادة التي يخلو وجه الأرض من النبات لو نفدت من التربة! {فأخرجنا منه خضراً نخرج منه حباً متراكباً. ومن النخل من طلعها قنوان دانية. وجنات من أعناب. والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه}.. وكل نبت يبدأ أخضر. واللفظ {خضراً} أرق ظلاً، وأعمق ألفة من لفظ «أخضر».. هذا النبت الخضر {يخرج منه حباً متراكباً}.. كالسنابل وأمثالها. {ومن النخل من طلعها قنوان دانية}.. وقنوان جمع قنو وهو الفرع الصغير. وفي النخلة هو العذق الذي يحمل الثمر. ولفظة {قنوان} ووصفها {دانية} يشتركان في إلقاء ظل لطيف أليف. وظل المشهد كله ظل وديع حبيب.. {وجنات من أعناب}.. {والزيتون والرمان}. هذا النبات كله بفصائله وسلالاته- {مشتبهاً وغير متشابه}- {انظروا إلى ثمرة إذا أثمر وينعه}.. انظروا بالحس البصير، والقلب اليقظ.. انظروا إليه في ازدهاره، وازدهائه، عند كمال نضجه. انظروا إليه واستمتعوا بجماله.. لا يقول هنا، كلوا من ثمره إذا أثمر، ولكن يقول: {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه} لأن المجال هنا مجال جمال ومتاع، كما أنه مجال تدبر في آيات الله، وبدائع صنعته في مجالي الحياة. {إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون}.. فالإيمان هو الذي يفتح القلب، وينير البصيرة، وينبه أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة، ويصل الكائن الإنساني بالوجود، ويدعو الوجدان إلى الإيمان بالله خالق الجميع.. وإلا فإن هناك قلوباً مغلقة، وبصائر مطموسة، وفطراً منتكسة، تمر بهذا الإبداع كله، وبهذه الآيات كلها، فلا تحس بها ولا تستجيب.. {إنما يستجيب الذين يسمعون}، وإنما يدرك هذه الآيات الذين يؤمنون! وعندما يبلغ السياق إلى هذا المقطع؛ وقد عرض على القلب البشري صفحة الوجود الحافلة بدلائل وجود الله، ووحدانيته، وقدرته، وتدبيره، وقد غمر الوجدان بتلك الظلال الكونية الموحية، وقد وصل الضمير بقلب الوجود النابض في كل حي، الناطق ببديع صنع الخلاق. . عندما يبلغ إلى هذا المقطع يعرض شرك المشركين، فإذا هو غريب غريب في هذا الجو المؤمن الموصول بمبدع الوجود. ويعرض أوهام المشركين فإذا هي سخف تشمئز منه القلوب والعقول. وسرعان ما يعقب عليها بالاستنكار. والجو كله مهيأ للاستنكار: {وجعلوا لله شركاء الجن- وخلقهم- وخرقوا له بنين وبنات بغير علم. سبحانه وتعالى عما يصفون! بديع السماوات والأرض، أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة؟ وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم}.. وقد كان بعض مشركي العرب يعبدون الجن.. وهم لا يعرفون من هم الجن! ولكنها أوهام الوثنية! والنفس متى انحرفت عن التوحيد المطلق قيد شبر انساقت في انحرافها إلى أي مدى؛ وانفرجت المسافة بينها وبين نقطة الانحراف التي بدأت صغيرة لا تكاد تلحظ! وهؤلاء المشركون كانوا على دين إسماعيل.. دين التوحيد الذي جاء به إبراهيم عليه السلام في هذه المنطقة.. ولكنهم انحرفوا عن هذا التوحيد.. ولا بد أن يكون الانحراف قد بدأ يسيراً.. ثم انتهى إلى مثل هذا الانحراف الشنيع.. الذي يبلغ أن يجعل الجن شركاء لله.. وهم من خلقه سبحانه: {وجعلوا لله شركاء الجن- وخلقهم-} ! ولقد عرفت الوثنيات المتعددة في الجاهليات المتنوعة أن هناك كائنات شريرة- تشبه فكرة الشياطين- وخافوا هذه الكائنات- سواء كانت أرواحاً شريرة أو ذوات شريرة- وقدموا لها القرابين اتقاء لشرها؛ ثم عبدوها! والوثنية العربية واحدة من هذه الوثنيات التي وجدت فيها هذه التصورات الفاسدة، في صورة عبادة للجن، واتخاذهم شركاء لله.. سبحانه.. والسياق القرآني يواجههم بسخف هذا الاعتقاد.. يواجههم بكلمة واحدة: {وخلقهم}.. وهي لفظة واحدة، ولكنها تكفي للسخرية من هذا التصور! فإذا كان الله سبحانه هو الذي {خلقهم} فكيف يكونون شركاء له في الألوهية والربوبية؟! ولم تكن تلك وحدها دعواهم. فأوهام الوثنية متى انطلقت لا تقف عند حد من الانحراف. بل كانوا يزعمون له سبحانه بنين وبنات: {وخرقوا له بنين وبنات بغير علم}. و {خرقوا} أي: اختلقوا.. وفي لفظها جرس خاص وظل خاص؛ يرسم مشهد الطلوع بالفرية التي تخرق وتشق! خرقوا له بنين: عند اليهود: عزير. وعند النصارى: المسيح: وخرقوا له بنات. عند المشركين: الملائكة. وقد زعموا أنهم إناث.. ولا يدري أحد طبعاً لماذا هم إناث! فالادعاءات كلها لا تقوم على أساس من علم.. فكلها {بغير علم}.. {سبحانه وتعالى عما يصفون!}.. ثم يواجه فريتهم هذه وتصوراتهم بالحقيقة الإلهية، ويناقشهم في هذه التصورات بما يكشف عما فيها من هلهلة: {بديع السماوات والأرض. أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة. وخلق كل شيء، وهو بكل شيء عليم}. إن الذي يبدع هذا الوجود إبداعاً من العدم ما تكون حاجته إلى الخلف!؟ والخلف إنما هو امتداد الفانين، وعون الضعفاء، ولذة من لا يبدعون! ثم هم يعرفون قاعدة التكاثر.. أن يكون للكائن صاحبة أنثى من جنسه.. فكيف يكون لله ولد- وليست له صاحبة- وهو- سبحانه- مفرد أحد، ليس كمثله شيء. فأنى يكون النسل بلا تزاوج؟! وهي حقيقة، ولكنها تواجه مستواهم التصوري؛ وتخاطبهم بالأمثلة القريبة من حياتهم ومشاهداتهم! ويتكئ السياق- في مواجهتهم- على حقيقة «الخلق» لنفي كل ظل للشرك. فالمخلوق لا يكون أبداً شريكاً للخالق. وحقيقة الخالق غير حقيقة المخلوق: كما يواجههم بعلم الله المطلق الذي لا تقابله منهم إلاّ أوهام وظنون: {وخلق كل شيء}.. {وهو بكل شيء عليم}.. وكما واجههم السياق القرآني بحقيقة أن الله «خلق كل شيء»، ليرتب عليها تهافت تصوراتهم بأن لله- سبحانه- بنين وبنات، أو أن له شركاء الجن- وهو خلقهم- فإنه يتكئ على هذه الحقيقة مرة أخرى. لتقرير أن الذي يعبد ويخضع له ويطاع، ويعترف له بالدينونة وحده هو خالق كل شيء، فلا إله إذن غيره، ولا رب إذن سواه: {ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو. خالق كل شيء؛ فاعبدوه، وهو على كل شيء وكيل}.. إن تفرد الله سبحانه بالخلق، يفرده سبحانه بالملك، والمتفرد بالخلق والملك يتفرد كذلك بالرزق. فهو خالق خلقه ومالكهم، فهو كذلك يرزقهم من ملكه الذي ليس لأحد شرك فيه. فكل ما يقتاته الخلق وكل ما يستمتعون به فإنما هو من هذا الملك الخالص لله.. فإذا تقررت هذه الحقائق.. الخلق والملك والرزق.. تقرر معها- ضرورةً وحتماً- أن تكون الربوبية له سبحانه. فتكون له وحده خصائص الربوبية- وهي القوامة والتوجيه والسلطان الذي يُخضع له ويطاع، والنظام الذي يتجمع عليه العباد- وتكون له وحده العبادة بكل مدلولاتها. ومنها الطاعة والخضوع والاستسلام. ولم يكن العرب- في جاهليتهم- ينكرون أن الله هو خالق هذا الكون، وخالق الناس، ورازقهم كذلك من ملكه، الذي ليس وراءه ملك تقتات منه العباد!.. وكذلك لم تكن الجاهليات الأخرى تنكر هذه الحقائق- على قلة من الفلاسفة الماديين من الإغريق!- ولم تكن هنالك هذه المذاهب المادية التي تنتشر اليوم بشكل أوسع مما عرف أيام الإغريق.. لذلك لم يكن الإسلام يواجه في الجاهلية العربية إلا الانحراف في التوجه بالشعائر التعبدية لآلهة- مع الله- على سبيل الزلفى والقربى من الله!- وإلا الانحراف في تلقي الشرائع والتقاليد التي تحكم حياة الناس.. أي أنه لم يكن يواجه الإلحاد في وجود الله- سبحانه- كما يقول اليوم «ناس»! أو كما يتبجحون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير! والحق أن هؤلاء الذين يجادلون في وجود الله اليوم قلة. وسيظلون قلة. إنما الانحراف الأساسي هو ذاته الذي كان في الجاهلية. وهو تلقي الشرائع في شؤون الحياة من غير الله.. وهذا هو الشرك التقليدي الأساسي الذي قامت عليه الجاهلية العربية، وكل الجاهليات أيضاً! والقلة الشاذة التي تجادل في وجود الله اليوم لا تعتمد على «العلم» وإن كانت هذه دعواها. فالعلم البشري ذاته لا يملك أن يقرر هذا الإلحاد ولا يجد عليه دليلاً لا من هذا العلم ولا من طبيعة الكون.. إنما هي لوثة سببها الأول الشرود من الكنيسة وإلهها الذي كانت تستذل به الرقاب من غير أصل من الدين.. ثم نقص في التكوين الفطري لهؤلاء المجادلين، ينشأ عنه تعطل في الوظائف الأساسية للكينونة البشرية.. كما يقع للأمساخ من المخلوقات.. ! ومع أن حقيقة الخلق والتقدير فيه- كحقيقة انبثاق الحياة أيضاً- لم تكن تساق في القرآن لإثبات وجود الله- إذ كان الجدال في وجوده تعالى سخفاً لا يستحق من جدية القرآن العناية به- إنما كانت تساق لرد الناس إلى الرشاد، كي ينفذوا في حياتهم ما تقتضيه تلك الحقيقة من ضرورة إفراد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والحاكمية في حياتهم كلها؛ وعبادته وحده بلا شريك.. مع هذا فإن حقيقة الخلق والتقدير فيه- كحقيقة انبثاق الحياة أيضاً- تقذف في وجوه الذين يجادلون في الله- سبحانه- بالحجة الدامغة التي لا يملكون بإزائها إلا المراء. وإلا التبجح الذي يصل إلى حد الاستهتار في كثير من الأحيان! «جوليان هاكسلي» مؤلف كتاب: «الإنسان يقوم وحده» وكتاب «الإنسان في العالم الحديث» من هؤلاء المتبجحين المستهترين؛ وهو يقذف بالمقررات التي لا سند لها إلا هواه وهو يقول في كتاب «الإنسان في العالم الحديث»؛ في فصل: «الدين كمسألة موضوعية» ذلك الكلام! «ولقد أوصلنا تقدم العلوم والمنطق وعلم النفس إلى طور أصبح فيه الإله فرضاً عديم الفائدة، وطردته العلوم الطبيعية من عقولنا، حتى اختفى كحاكم مدبر للكون، وأصبح مجرد» أول سبب «أو أساساً عاماً غامضاً». و «ول ديورانت» مؤلف كتاب «مباهج الفلسفة» يقول: إن الفلسفة تبحث عن الله، ولكنه ليس «إله اللاهوتيين الذين يتصورونه خارج عالم الطبيعة. بل إله الفلاسفة؛ وهو قانون العالم وهيكله، وحياته ومشيئته».. وهو كلام لا تستطيع إمساكه! ولكنه كلام يقال! ونحن لا نحاكم هؤلاء الخابطين في الظلام إلى قرآننا، ولا نحاكمهم كذلك إلى عقولنا المنضبطة بهدى هذا القرآن. إنما نكلهم إلى أندادهم من «العلماء» وإلى العلم البشري الذي يواجه هذه القضية بشيء من الجد والتعقل. يقول جون كليفلاند كوتران: (من علماء الكيمياء والرياضة. دكتوراه من جامعة كورنيل. رئيس قسم العلوم الطبيعية بجامعة دولث). من مقال: «النتيجة الحتمية» من كتاب: «الله يتجلى في عصر العلم»: «فهل يتصور عاقل، أو يفكر، أو يعتقد، أن المادة المجردة من العقل والحكمة قد أوجدت نفسها بنفسها بمحض المصادفة؟ أو أنها هي التي أوجدت هذا النظام وتلك القوانين، ثم فرضته على نفسها؟ لا شك أن الجواب سوف يكون سلبياً. بل إن المادة عندما تتحول إلى طاقة أو تتحول الطاقة إلى مادة، فإن كل ذلك يتم طبقاً لقوانين معينة. والمادة الناتجة تخضع لنفس القوانين التي تخضع لها المادة التي وجدت قبلها». «وتدلنا الكيميا على أن بعض المواد في سبيل الزوال أو الفناء؛ ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسرعة كبيرة والآخر بسرعة ضئيلة. وعلى ذلك فإن المادة ليست أبدية. ومعنى ذلك أيضاً أنها ليست أزلية. إذ أن لها بداية. وتدل الشواهد من الكيميا وغيرها من العلوم على أن بداية المادة لم تكن بطيئة أو تدريجية، بل وجدت بصورة فجائية. وتستطيع العلوم أن تحدد لنا الوقت الذي نشأت فيه هذه المواد. وعلى ذلك فإن هذا العالم المادي لا بد أن يكون مخلوقاً. وهو منذ أن خلق يخضع لقوانين وسنن كونية محددة، ليس لعنصر المصادفة بينها مكان». «فإذا كان هذا العالم المادي عاجزاً عن أن يخلق نفسه، أو يحدد القوانين التي يخضع لها، فلا بد أن يكون الخلق قد تم بقدرة كائن غير مادي. وتدل الشواهد جميعاً على أن هذا الخالق لا بد أن يكون متصفاً بالعقل والحكمة. إلا أن العقل لا يستطيع أن يعمل في العالم المادي- كما في ممارسة الطب والعلاج السيكلوجي- دون أن يكون هنالك إرادة. ولا بد لمن يتصف بالإرادة أن يكون موجوداً وجوداً ذاتياً.. وعلى ذلك فإن النتيجة المنطقية الحتمية التي يفرضها علينا العقل ليست مقصورة على أن لهذا الكون خالقاً فحسب، بل لا بد أن يكون هذا الخالق حكيماً عليماً قادراً على كل شيء، حتى يستطيع أن يخلق هذا الكون وينظمه ويدبره؛ ولا بد أن يكون هذا الخالق دائم الوجود، تتجلى آياته في كل مكان. وعلى ذلك فإنه لا مفر من التسليم بوجود الله، خالق هذا الكون وموجهه- كما أشرنا إلى ذلك في بداية المقال». «إن التقدم الذي أحرزته العلوم منذ أيام لورد كيلفن يجعلنا نؤكد بصورة لم يسبق لها مثيل، ما قاله من قبل، من أننا إذا فكرنا تفكيراً عميقاً، فإن العلوم سوف تضطرنا إلى الإيمان بالله}. ويقول فرانك أللن عالم الطبيعة البيولوجية في مقال «نشأة العالم هل هو مصادفة أو قصد» من الكتاب نفسه: «كثيرا ما يقال: إن هذا الكون المادي لا يحتاج إلى خالق. ولكننا إذا سلمنا بأن هذا الكون موجود، فكيف نفسر وجوده؟.. هنالك أربعة احتمالات للإجابة على هذا السؤال: فإما أن يكون هذا الكون مجرد وهم وخيال- وهو ما يتعارض مع القضية التي سلمنا بها حول وجوده- وإما أن يكون هذا الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم. وإما أن يكون أزلياً ليس لنشأته بداية. وإما أن يكون له خالق». أما الاحتمال الأول فلا يقيم أمامنا مشكلة سوى مشكلة الشعور والإحساس، فهو يعني أن إحساسنا بهذا الكون وإدراكنا لما يحدث فيه لا يعدو أن يكون وهماً من الأوهام، ليس له ظل من الحقيقة. ولقد عاد إلى هذا الرأي في العلوم الطبيعية أخيراً سير جيمس جينز، الذي يرى أن هذا الكون ليس له وجود فعلي، وأنه مجرد صورة في أذهاننا. وتبعاً لهذا الرأي نستطيع أن نقول: إننا نعيش في عالم من الأوهام! فمثلاً هذه القطارات التي نركبها ونلمسها ليست إلا خيالات؛ وبها ركاب وهميون، وتعبر أنهاراً لا وجود لها، وتسير فوق جسور غير مادية.. الخ. وهو رأي وهمي لا يحتاج إلى مناقشة أو جدال! «أما الرأي الثاني القائل بأن هذا العالم، بما فيه من مادة وطاقة، قد نشأ هكذا وحده من العدم، فهو لا يقل عن سابقه سخفاً وحماقة؛ ولا يستحق هو أيضاً أن يكون موضعاً للنظر أو المناقشة». «والرأي الثالث الذي يذهب إلى أن هذا الكون أزلي ليس لنشأته بداية، إنما يشترك مع الرأي الذي ينادي بوجود خالق لهذا الكون- وذلك في عنصر واحد هو الأزلية- وإذن فنحن إما أن ننسب صفة الأزلية إلى عالم ميت، وإما أن ننسبها إلى إله حي يخلق، وليس هنالك صعوبة فكرية في الأخذ بأحد هذين الاحتمالين أكثر مما في الآخر. ولكن قوانين» الديناميكا الحرارية «تدل على أن مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجياً. وأنها سائرة حتماً إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الانخفاض، هي الصفر المطلق؛ ويومئذ تنعدم الطاقة، وتستحيل الحياة. ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقات عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق، بمضي الوقت. أما الشمس المستعرة، والنجوم المتوهجة، والأرض الغنية بأنواع الحياة، فكلها دليل واضح على أن أصل الكون أو أساسه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة، فهو إذن حدث من الأحداث.. ومعنى ذلك أنه لا بد لأصل الكون من خالق أزلي، ليس له بداية، عليم محيط بكل شيء، قوي ليس لقدرته حدود، ولا بد أن يكون هذا الكون من صنع يديه». الله- سبحانه خالق كل شيء. لا إله إلا هو.. هذه هي القاعدة التي يقيم عليها السياق القرآني هنا وجوب عبادة الله وحده. ووجوب ربوبيته وحده- بكل مدلولات الربوبية من الحكم والتربية والتوجيه والقوامة: {ذلكم الله ربكم. لا إله إلا هو: خالق كل شيء. فاعبدوه. وهو على كل شيء وكيل}.. فهي القوامة لا على البشر وحدهم، ولكن على كل شيء كذلك.. بما أنه هو خالق كل شيء.. وهذا هو المقصود من تقرير تلك القاعدة، التي لم يكن المشركون- في جاهليتهم- يجحدونها. ولكنهم ما كانوا يسلمون بمقتضاها. وهو: الخضوع والطاعة لحاكمية الله وحده والدينونة لسلطانه بلا شريك.. ثم تعبير عن صفة الله سبحانه، يغشى الجوانح والحنايا بظلال ما أحسب أن لغة البشر تملك لها وصفاً، فلندعها تلقي ظلالها في شفافية ولين؛ وترسم المشهد الذي يغلف فيه ما يهول ويروع من صفة الله، بما يطمئن ويروح، ويشف شفافية النور: {لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير}.. إن الذين كانوا يطلبون في سذاجة أن يروا الله، كالذين يطلبون في سماجة دليلاً مادياً على الله! هؤلاء وهؤلاء لا يدركون ماذا يقولون! إن أبصار البشر وحواسهم وإدراكهم الذهني كذلك.. كلها إنما خلقت لهم ليزاولوا بها التعامل مع هذا الكون، والقيام بالخلافة في الأرض.. وإدراك آثار الوجود الإلهي في صفحات هذا الوجود المخلوق.. فأما ذات الله- سبحانه- فهم لم يوهبوا القدرة على إدراكها. لأنه لا طاقة للحادث الفاني أن يرى الأزلي الأبدي. فضلاً على أن هذه الرؤية لا تلزم لهم في خلافة الأرض. وهي الوظيفة التي هم معانون عليها وموهوبون ما يلزم لها.. وقد يفهم الإنسان سذاجة الأولين. ولكنه لا يملك أن يفهم سماجة الآخرين! إن هؤلاء يتحدثون عن «الذرة» وعن «الكهرب» وعن «البروتون» وعن «النيوترون».. وواحد منهم لم ير ذرة ولا كهرباً ولا بروتوناً ولا نيوترونا في حياته قط. فلم يوجد بعد الجهاز المكبر الذي يضبط هذه الكائنات.. ولكنها مسلمة من هؤلاء، كفرض، ومصداق هذا الفرض أن يقدروا آثاراً معينة تقع لوجود هذه الكائنات. فإذا وقعت هذه الآثار (جزموا) بوجود الكائنات التي أحدثتها! بينما قصارى ما تصل إليه هذه التجربة هو «احتمال» وجود هذه الكائنات على الصفة التي افترضوها!.. ولكنهم حين يقال لهم عن وجود الله- سبحانه- عن طريق آثار هذا الوجود التي تفرض نفسها فرضاً على العقول! يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ويطلبون دليلاً مادياً تراه الأعين.. كأن هذا الوجود بجملته، وكأن هذه الحياة بأعاجيبها لا تكفي لتكون هذا الدليل! وكذلك يعقب السياق القرآني على ما عرضه من آيات في صفحة الوجود وفي مكنونات النفوس. وعلى تقريره عن ذات الله سبحانه بأنه: {لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير}. يعقب السياق على هذا الوصف الذي لا تملك لغة البشر أن تشرحه أو تصفه.. بقوله: {قد جاءكم بصائر من ربكم، فمن أبصر فلنفسه، ومن عمي فعليها، وما أنا عليكم بحفيظ}.. فهذا الذي جاء من عند الله.. بصائر.. والبصائر تهتدي وتهدي.. وهذا بذاته.. بصائر.. تهدي. فمن أبصر فلنفسه فإنما يجد الهدى والنور. وليس وراء ذلك إلا العمى. فما يبقى على الضلال بعد هذه الآيات والبصائر إلا أعمى.. معطل الحواس. مغلق المشاعر. مطموس الضمير.. ويوجه النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يعلن براءته من أمرهم ومغبته: {وما أنا عليكم بحفيظ}.. ولا يفوتنا أن نلمح التناسق في الجو والظلال والعبارة بين قوله في الآية السابقة: في صفة الله سبحانه: {لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير}.. وبين قوله في الآية اللاحقة: {قد جاءكم بصائر من ربكم، فمن أبصر فلنفسه، ومن عمي فعليها}.. واستخدام الأبصار والبصائر، والبصر والعمى، في السياق المتناسق المتناغم.. بعد ذلك يلتفت السياق إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- فيتحدث عن تصريف الآيات على هذا المستوى، الذي لا يتناسب مع أمية النبي- صلى الله عليه وسلم- وبيئته؛ والذي يدل بذاته على مصدره الرباني- لمن تتفتح بصيرته- ولكن المشركين ما كانوا يريدون الاقتناع بالآيات. ومن ثم كانوا يقولون: إن محمداً درس هذه القضايا العقيدية والكونية مع أحد أهل الكتاب! وما دروا أن أهل الكتاب ما كانوا يعلمون شيئاً على هذا المستوى الذي يحدثهم محمد فيه؛ وما كان أهل الأرض جميعاً- وما يزالون- يبلغون شيئاً من هذا المستوى السامق على كل ما عرف البشر وما يعرفون. ومن ثم يوجه الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى اتباع ما أوحي إليه والإعراض عن المشركين: {وكذلك نصرف الآيات، وليقولوا: درست، ولنبينه لقوم يعلمون. اتبع ما أوحي إليك من ربك، لاإله إلا هو، وأعرض عن المشركين. ولو شاء الله ما أشركوا. وما جعلناك عليهم حفيظاً، وما أنت عليهم بوكيل}.. إن الله يصرف آياته على هذا المستوى الذي لا عهد للعرب به؛ لأنه ليس نابعاً من بيئتهم- كما أنه ليس نابعاً من البيئة البشرية على العموم- فينتهي هذا التصريف إلى نتيجتين متقابلتين في البيئة: فأما الذين لا يريدون الهدى، ولا يرغبون في العلم، ولا يجاهدون ليبلغوا الحقيقة.. فهؤلاء سيحاولون أن يجدوا تعليلاً لهذا المستوى الذي يخاطبهم به محمد- وهو منهم- وسيختلقون ما يعلمون أنه لم يقع. فما كان شيء من حياة محمد خافياً عليهم قبل الرسالة ولا بعدها.. ولكنهم يقولون: درست هذا يا محمد مع أهل الكتاب وتعلمته منهم! وما كان أحد من أهل الكتاب يعلم شيئاً على هذا المستوى.. وهذه كتب أهل الكتاب التي كانت بين أيديهم يومذاك ما تزال بين أيدينا. والمسافة شاسعة شاسعة بين هذا الذي في أيديهم وهذا القرآن الكريم.. إن ما بين أيديهم إن هو إلا روايات لا ضابط لها عن تاريخ الأنبياء والملوك مشوبة بأساطير وخرافات من صنع أشخاص مجهولين- هذا فيما يختص بالعهد القديم- فأما العهد الجديد- وهو الأناجيل- فما يزيد كذلك على أن يكون روايات رواها تلاميذ المسيح- عليه السلام- بعد عشرات السنين؛ وتداولتها المجامع بالتحريف والتبديل والتعديل على ممر السنين. وحتى المواعظ الخلقية والتوجيهات الروحية لم تسلم من التحريف والإضافة والنسيان.. وهذا هو الذي كان بين أيدي أهل الكتاب حينذاك، وما يزال.. فأين هذا كله من القرآن الكريم؟! ولكن المشركين- في جاهليتهم- كانوا يقولون هذا؛ وأعجب العجب أن جاهليين في هذا العصر من «المستشرقين» و«المتمسلمين»! يقولون هذا القول فيسمى الآن «علماً» و«بحثاً» و«تحقيقاً» لا يبلغه إلا المستشرقون! فأما الذين «يعلمون» حقاً، فإن تصريف الآيات على هذا النحو يؤدي إلى بيان الحق لهم فيعرفونه: {ولنبينه لقوم يعلمون}.. ثم تقع المفاصلة بين قوم مبصرين يعلمون، وقوم عمي لا يعلمون! ويصدر الأمر العلوي للنبي الكريم، وقد صرف الله الآيات، فافترق الناس في مواجهتها فريقين.. يصدر الأمر العلوي للنبي- صلى الله عليه وسلم- أن يتبع ما أوحي إليه، وأن يعرض عن المشركين، فلا يحفلهم ولا يحفل ما يقولون من قول متهافت، ولا يشغل باله بتكذيبهم وعنادهم ولجاجهم. فإنما سبيله أن يتبع ما أوحي إليه من ربه؛ فيصوغ حياته كلها على أساسه؛ ويصوغ نفوس أتباعه كذلك. ولا عليه من المشركين؛ فإنما هو يتبع وحي الله، الذي لا إله إلا هو، فماذا عليه من العبيد؟! {اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو، وأعرض عن المشركين}.. ولو شاء الله أن يلزمهم الهدى لألزمهم، ولو شاء أن يخلقهم ابتداء لا يعرفون إلا الهدى كالملائكة لخلقهم. ولكنه سبحانه خلق الإنسان بهذا الاستعداد للهدى وللضلال، وتركه يختار طريقه ويلقى جزاء الاختيار- في حدود المشيئة المطلقة التي لا يقع في الكون إلا ما تجري به، ولكنها لا ترغم إنساناً على الهدى أو الضلال- وخلقه على هذا النحو لحكمة يعلمها؛ وليؤدي دوره في هذا الوجود كما قدره الله له. باستعداداته هذه وتصرفاته: {ولو شاء الله ما أشركوا}. وليس الرسول- صلى الله عليه وسلم- مسؤولاً عن عملهم، وهو لم يوكل بقلوبهم فالوكيل عليها هو الله: {وما جعلناك عليهم حفيظاً، وما أنت عليهم بوكيل}.. وهذا التوجيه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحدد المجال الذي يتناوله اهتمام الرسول- صلى الله عليه وسلم- وعمله. كما يحدد هذا المجال لخلفائه وأصحاب الدعوة إلى دينه في كل أرض وفي كل جيل.. إن صاحب الدعوة لا يجوز أن يعلق قلبه وأمله وعمله بالمعرضين عن الدعوة، المعاندين، الذين لا تتفتح قلوبهم لدلائل الهدى وموحيات الإيمان.. إنما يجب أن يفرغ قلبه، وأن يوجه أمله وعمله للذين سمعوا واستجابوا. فهؤلاء في حاجة إلى بناء كيانهم كله على القاعدة التي دخلوا الدين عليها.. قاعدة العقيدة.. وفي حاجة لإنشاء تصور لهم كامل عميق عن الوجود والحياة على أساس هذه العقيدة. وفي حاجة إلى بناء أخلاقهم وسلوكهم؛ وبناء مجتمعهم الصغير على هذا الأساس نفسه. وهذا كله يحتاج إلى الجهد. ويستحق الجهد. فأما الواقفون على الشق الآخر، فجزاؤهم الإهمال والإعراض بعد الدعوة والبلاغ.. وحين ينمو الحق في ذاته فإن الله يجري سنته، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.. إن على الحق أن يوجد ومتى وجد الحق في صورته الصادقة الكاملة، فإن شأن الباطل هين، وعمره كذلك قريب! ومع أمر الرسول- صلى الله عليه وسلم- بالإعراض عن المشركين، فقد وجه المؤمنين إلى أن يكون هذا الإعراض في أدب، وفي وقار، وفي ترفع، يليق بالمؤمنين.. لقد أمروا ألا يسبوا آلهة المشركين مخافة أن يحمل هذا أولئك المشركين على سب الله سبحانه- وهم لا يعلمون جلال قدره وعظيم مقامه- فيكون سب المؤمنين لآلهتهم المهينة الحقيرة ذريعة لسب الله الجليل العظيم: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم. كذلك زينا لكل أمة عملهم. ثم إلى ربهم مرجعهم، فينبئهم بما كانوا يعملون}. إن الطبيعة التي خلق الله الناس بها، أن كل من عمل عملاً، فإنه يستحسنه، ويدافع عنه! فإن كان يعمل الصالحات استحسنها ودافع عنها. وإن كان يعمل السيئات استحسنها ودافع عنها. وإن كان على الهدى رآه حسناً، وإن كان على الضلال رآه حسناً كذلك! فهذه طبيعة في الإنسان.. وهؤلاء يدعون من دون الله شركاء.. مع علمهم وتسليمهم بأن الله هو الخالق الرازق.. ولكن إذا سب المسلمون آلهتهم هؤلاء اندفعوا وعدوا عما يعتقدونه من ألوهية الله، دفاعاً عما زين لهم من عبادتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وتقاليدهم!.. فليدعهم المؤمنون لما هم فيه: {ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون}.. وهو أدب يليق بالمؤمن، المطمئن لدينه، الواثق من الحق الذي هو عليه. الهادئ القلب، الذي لا يدخل فيما لا طائل وراءه من الأمور. فإن سب آلهتهم لا يؤدي بهم إلى الهدى ولا يزيدهم إلا عناداً. فما للمؤمنين وهذا الذي لا جدوى وراءه. وإنما قد يجرهم إلى سماع ما يكرهون. من سب المشركين لربهم الجليل العظيم؟! وأخيراً يختم هذا الدرس، الذي استعرض فيه صفحة الوجود الحافلة بالآيات والخوارق، في كل لحظة من ليل أو نهار.. يختمه بأن هؤلاء المشركين يقسمون بالله جهد أيمانهم أن لو جاءتهم آية- أي خارقة مادية كخوارق الرسل السابقة- ليؤمنن بها! الأمر الذي جعل بعض المسلمين حين سمعوا أيمانهم يقترحون على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يسأل ربه هذه الآية التي يطلبون!.. ويجيء الرد الحاسم على المؤمنين، ببيان طبيعة التكذيب في هؤلاء المكذبين: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها. قل: إنما الآيات عند الله. وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون؟ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم، كما لم يؤمنوا به أول مرة، ونذرهم في طغيانهم يعمهون. ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة، وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا- إلا أن يشاء الله- ولكن أكثرهم يجهلون}.. إن القلب الذي لا يؤمن بآيات الله المبثوثة في هذا الوجود- بعد توجيهه إليها على هذا النحو العجيب الذي تكفل به هذا الكتاب العجيب- ولا توحي آيات الله المبثوثة في الأنفس والآفاق إليه أن يبادر إلى ربه، ويثوب إلى كنفه.. إن هذالقلب هو قلب مقلوب.. والذي عاق هؤلاء عن الإيمان في أول الأمر، ما الذي يُدري المسلمين الذين يقترحون إجابة طلبهم، أن يعوقهم عن الإيمان بعد ظهور الخارقة؟ إن الله هو الذي يعلم حقيقة هذه القلوب.. وهو يذر المكذبين في طغيانهم يعمهون، لأنه يعلم منهم أنهم يستحقون جزاء التكذيب؛ كما يعلم عنهم أنهم لا يستجيبون.. لا يستجيبون ولو نزل إليهم الملائكة كما يقترحون! ولو بعث لهم الموتى يكلمونهم- كما اقترحوا كذلك!- ولو حشر الله عليهم كل شيء في هذا الوجود يواجههم ويدعوهم إلى الإيمان!.. إنهم لا يؤمنون- إلا أن يشاء الله- والله سبحانه لا يشاء، لأنهم هم لا يجاهدون في الله ليهديهم الله إليه.. وهذه هي الحقيقة التي يجهلها أكثر الناس عن طبائع القلوب.. إنه ليس الذي ينقص الذين يلجون في الضلال أنه لا توجد أمامهم دلائل وبراهين.. إنما الذي ينقصهم آفة في القلب، وعطل في الفطرة، وانطماس في الضمير.. وإن الهدى جزاء لا يستحقه إلا الذين يتجهون إليه، والذين يجاهدون فيه..
|