الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)} ابتداء من هذا الدرس في السورة، تبدأ المعركة التي يخوضها القرآن بالجماعة المسلمة، في مواجهة الجاهلية المحيطة بها- واليهود من أهل الكتاب خاصة- تلك المعركة التي شهدنا مواقعها ومجالاتها في سورتي البقرة وآل عمران من قبل.. وهي هي.. والمعسكرات المعادية هي هي كذلك! المعسكرات التي تحدثنا عنها في تقديم سورة البقرة، وفي تقديم سورة آل عمران، وفي تقديم هذه السورة كذلك. ابتداء من هذا الدرس تبدأ المعركة الخارجية. معركة الجماعة المسلمة مع المعسكرات المعادية من حولها.. ولكن هذا في الحقيقة ليس بدء المعركة. فكل ما سبق في السورة من التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والعائلية والأخلاقية؛ ومحو الملامح الجاهلية- في المجتمع المسلم الذي التقطه المنهج الرباني من سفح الجاهلية- وتخطيط وتثبيت الملامح الإسلامية الجديدة في هذا المجتمع.. كل ذلك لم يكن بعيداً عن المعركة الخارجية مع أعداء الجماعة المسلمة في المدينة خاصة؛ وفي الجزيرة عامة.. إنما كان التمهيد الحقيقي لها، والاستعداد الحقيقي لمواجهتها.. كانت تلك معركة البناء. بناء هذا المجتمع الجديد، على أسس المنهج الإسلامي الجديد؛ كي يستطيع أن يواجه المجتمعات المعادية من حوله، ويتفوق عليها. وكما رأينا في سورتي البقرة وآل عمران العناية تتجه أولاً إلى بناء هذا المجتمع من داخله. بناء عقيدته وتصوراته، وأخلاقه ومشاعره، وتشريعاته وأوضاعه، إلى جانب تعليم الجماعة المسلمة كل شيء عن طبيعة أعدائها، ووسائلهم، وتحذيرها من كيدهم ومكرهم، وتوجيهها إلى المعركة معهم بقلوب مطمئنة، وعيون مفتوحة، وإرادات محشودة، ومعرفة بطبيعة المعركة وطبيعة الأعداء.. كذلك نجد الأمر هنا في هذه السورة، سواء بسواء. لقد كان القرآن فيها جميعاً، يخوض المعركة بالجماعة المسلمة، في كل جبهة.. كان يخوضها في الضمائر والمشاعر، حيث ينشى ء فيها عقيدة جديدة، ومعرفة بربها جديدة، وتصوراً للوجود جديداً، ويقيم فيها موازين جديدة، وينشئ فيها قيماً جديدة؛ ويستنقذ فطرتها من ركام الجاهلية؛ ويمحو ملامح الجاهلية في النفس والمجتمع؛ وينشئ ويثبت ملامح الإسلام الوضيئة الجميلة.. ثم يقودها في المعركة مع أعدائها المتربصين بها في الداخل والخارج.. اليهود والمنافقين والمشركين.. وهي على أتم استعداد للقائهم، والتفوق عليهم؛ بمتانة بنائها الداخلي الجديد: الاعتقادي والأخلاقي والاجتماعي والتنظيمي سواء.. ولقد كان التفوق الحقيقي للمجتمع المسلم على المجتمعات الجاهلية من حوله- بما فيها مجتمع اليهود القائم في قلب المدينة- هو تفوقه في البناء الروحي والخلقي والاجتماعي والتنظيمي- بفضل المنهج القرآني الرباني- قبل أن يكون تفوقاً عسكرياً أو اقتصادياً أو مادياً على العموم! بل هو لم يكن قط تفوقاً عسكرياً واقتصادياً- مادياً- فقد كان أعداء المعسكر الإسلامي دائماً أكثر عدداً، وأقوى عدة، وأغنى مالاً، وأوفر مقدرات مادية على العموم! سواء في داخل الجزيرة العربية، أو في خارجها في زمن الفتوحات الكبرى بعد ذلك. . ولكن التفوق الحقيقي كان في ذلك البناء الروحي والخلقي والاجتماعي- ومن ثم السياسي والقيادي- الذي أسسه الإسلام بمنهجه الرباني المتفرد. وبهذا التفوق الساحق على الجاهلية في بنائها الروحي والخلقي والاجتماعي- ومن ثم السياسي والقيادي- اجتاح الإسلام الجاهلية.. اجتاحها أولاً في الجزيرة العربية. واجتاحها ثانياً في الإمبراطوريتين العظيمتين الممتدتين حوله: إمبراطوريتي كسرى وقيصر.. ثم بعد ذلك في جوانب الأرض الأخرى. سواء كان معه جيش وسيف، أم كان معه مصحف وأذان! ولولا هذا التفوق الساحق ما وقعت تلك الخارقة التي لم يعرف لها التاريخ نظيراً. حتى في الاكتساحات العسكرية التاريخية الشهيرة. كزحف التتار في التاريخ القديم. وزحف الجيوش الهتلرية في التاريخ الحديث.. ذلك أنه لم يكن اكتساحاً عسكرياً فحسب. ولكنه كان اكتساحاً عقيدياً. ثقافياً. حضارياً كذلك! يتجلى فيه التفوق الساحق الذي يطوي- من غير إكراه- عقائد الشعوب ولغاتها، وتقاليدها وعاداتها.. الأمر الذي لا نظير له على الإطلاق في أي اكتساح عسكري آخر، قديماً أو حديثاً! لقد كان تفوقاً «إنسانياً» كاملاً. تفوقاً في كل خصائص «الإنسانية» ومقوماتها. كان ميلاداً آخر للإنسان. ميلاد إنسان جديد غير الذي تعرفه الأرض على وجه اليقين والتأكيد. ومن ثم صبغ البلاد التي غمرها هذا المد بصبغته؛ وترك عليها طابعه الخاص؛ وطغى هذا المد على رواسب الحضارات التي عاشت عشرات القرون من قبل في بعض البلاد. كالحضارة الفرعونية في مصر. وحضارة البابليين والأشوريين في العراق، وحضارة الفينيقيين والسريان في الشام. لأنه كان أعمق جذوراً في الفطرة البشرية؛ وأوسع مجالاً في النفس الإنسانية، وأضخم قواعد وأشمل اتجاهات في حياة بني الإنسان، من كل تلك الحضارات. وغلبة اللغة الإسلامية واستقرارها في هذه البلاد، ظاهرة عجيبة، لم تستوف ما تستحقه من البحث والدراسة والتأمل، وهي في نظري أعجب من غلبة العقيدة واستقرارها. إذ أن اللغة من العمق في الكينونة البشرية ومن التشابك مع الحياة الاجتماعية. بحيث يعد تغييرها على هذا النحو معجزة كاملة! وليس الأمر في هذا هو أمر «اللغة العربية». فاللغة العربية كانت قائمة؛ ولكنها لم تصنع هذه المعجزة في أي مكان على ظهر الأرض- قبل الاسلام- ومن ثم سميتها «اللغة الإسلامية» فالقوة الجديدة التي تولدت في اللغة العربية، وأظهرت هذه المعجزة على يديها، كانت هي «الإسلام» قطعاً! وكذلك اتجهت العبقريات الكامنة في البلاد المفتوحة (المفتوحة للحرية والنور والطلاقة) اتجهت إلى التعبير عن ذاتها- لا بلغاتها الأصلية- لكن باللغة الجديدة. لغة هذا الدين. اللغة الإسلامية. وأنتجت بهذه اللغة في كل حقل من حقول الثقافة نتاجاً تبدو فيه الأصالة؛ ولا يلوح عليه الاحتباس من معاناة التعبير في لغة غريبة- غير اللغة الأم- لقد أصبحت اللغة الإسلامية هي اللغة الأم فعلاً لهذه العبقريات. . ذلك أن الرصيد الذي حملته هذه اللغة كان من الضخامة أولاً؛ ومن ملاصقة الفطرة ثانياً؛ بحيث كان أقرب إلى النفوس وأعمق فيها من ثقافاتها القديمة. ومن لغاتها القديمة أيضاً! لقد كان هذا الرصيد هو رصيد العقيدة والتصور؛ ورصيد البناء الروحي والعقلي والخلقي والاجتماعي الذي أنشاه المنهج الإسلامي في فترة وجيزة. وكان من الضخامة والعمق واللصوق بالفطرة، بحيث أمد اللغة- لغة الإسلام- بسلطان لا يقاوم. كما أمد الجيوش- جيوش الإسلام- بسلطان لا يقاوم كذلك! وبغير هذا التفسير يصعب أن نعلل تلك الظاهرة التاريخية الفريدة. وعلى أية حال فهذا موضوع يطول شرحه. فحسبنا منه هذه اللمحة في سياق الظلال.. منذ هذا الدرس في هذه السورة تبدأ المعركة مع المعسكرات المعادية المتربصة بالجماعة الإسلامية الناشئة في المدينة.. ففي هذا الدرس تعجيب من حال اليهود وتصرفاتهم في مواجهة الدين الجديد والجماعة التي تمثله.. وفي الدرس الذي يليه بيان لوظيفة الجماعة المسلمة، وطبيعة منهجها، وحد الإسلام، وشرط الإيمان، الذي يتميز به منهجها وحياتها ونظامها.. وفي الدرس الذي يليه دعوة لهذه الجماعة للذود عن منهجها ووضعها ووجودها؛ وكشف للمنافقين المندسين فيها؛ وبيان لطبيعة الموت والحياة وقدر الله الذي يجري بهما؛ وهو جزء من تربية هذه الجماعة، وإعدادها لوظيفتها وللمعركة مع أعدائها.. وفي الدرس الذي يليه مزيد من الحديث عن المنافقين؛ وتحذير للجماعة المسلمة من الانقسام في شأنهم، أو الدفاع عن تصرفاتهم. ثم تفصيل للإجراءات التي تواجه بها الجماعة المسلمة شتى المعسكرات من حولها- أي لقواعد قانون المعاملات الدولية- وفي الدرس الذي يليه نجد نموذجاً لرفعة الإسلام في معاملته ليهودي فرد في المجتمع الإسلامي!.. والدرس الذي يليه جولة مع الشرك والمشركين، وتوهين للأسس التي يقوم عليها المجتمع المشرك في الجزيرة.. ويتوسط هذه المعركة لمحة من التنظيم الداخلي، ترتبط بأوائل السورة في شأن الأسرة.. ثم يجيء الدرس الأخير- في هذا الجزء- خاصاً بالنفاق والمنافقين؛ يهبط بهم إلى الدرك الأسفل من النار! وهذه الإشارات الخاطفة تبين لنا طبيعة مجالات المعركة وجوانبها المتعددة- في الداخل والخارج.. وطبيعة التوافق والتكامل، بين المعركة الداخلية والمعركة الخارجية في حياة المجتمع الإسلامي الأول.. وهي هي بذاتها معركة الأمة المسلمة اليوم وغداً في أساسها وحقيقتها. {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، يشترون الضلالة، ويريدون أن تضلوا السبيل؟ والله أعلم بأعدائكم، وكفى بالله ولياً، وكفى بالله نصيراً. من الذين هادوا، يحرفون الكلم عن مواضعه. ويقولون: سمعنا وعصينا، واسمع- غير مسمع- وراعنا. ليّاً بألسنتهم، وطعناً في الدين. ولو أنهم قالوا: سمعنا وأطعنا، واسمع وانظرنا، لكان خيراً لهم وأقوم. ولكن لعنهم الله بكفرهم، فلا يؤمنون إلا قليلاً}.. إنه التعجيب الأول- من سلسلة التعجيبات الكثيرة- من موقف أهل الكتاب- من اليهود- يوجه الخطاب فيه إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو إلى كل من يرى هذا الموقف العجيب المستنكر: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب.. يشترون الضلالة. ويريدون أن تضلوا السبيل}.. لقد كان من شأن أن يؤتوا نصيباً من الكتاب.. الهداية.. فقد آتاهم الله التوراة، على يدي موسى عليه السلام، لتكون هداية لهم من ضلالتهم الأولى.. ولكنهم يدعون هذا النصيب. يدعون الهداية. ويشترون الضلالة! والتعبير بالشراء يعني القصد والنية في المبادلة! ففي أيديهم الهدى ولكنهم يتركونه ويأخذون الضلالة. فكأنما هي صفقة عن علم وعن قصد وعمد. لا عن جهل أو خطأ أو سهو! وهو أمر عجيب مستنكر، يستحق التعجيب منه والاستنكار. ولكنهم لا يقفون عند هذا الأمر العجيب المستنكر. بل هم يريدون أن يضلوا المهتدين. يريدون أن يضلوا المسلمين.. بشتى الوسائل وشتى الطرق. التي سبق ذكرها في سورتي البقرة وآل عمران؛ والتي سيجيء طرف منها في هذه السورة كذلك.. فهم لا يكتفون بضلال أنفسهم الذي يشترونه؛ بل يحاولون طمس معالم الهدى من حولهم؛ حتى لا يكون هناك هدى ولا مهتدون! وفي هذه اللمسة: الأولى، والثانية، تنبيه للمسلمين وتحذير؛ من ألاعيب اليهود وتدبيرهم.. ويا له من تدبير! وإثارة كذلك لنفوس المسلمين ضد الذين يريدون لهم الضلالة بعد الهدى. وقد كان المسلمون يعتزون بهذا الهدى؛ ويعادون من يحاول ردهم عنه إلى جاهليتهم التي عرفوها وعرفوا الإسلام. فكرهوها وأحبوا الإسلام! وكرهوا كل من يحاول ردهم إليها في قليل أو كثير.. وكان القرآن يخاطبهم هكذا، عن علم من الله، بما في صدورهم من هذا الأمر الكبير. ومن ثم يعقب على إبراز هذه المحاولة من اليهود، بالتصريح بأن هؤلاء أعداء للمسلمين. وبتطمين الجماعة المسلمة إلى ولاية الله ونصره، إزاء تلك المحاولة: {والله أعلم بأعدائكم. وكفى بالله ولياًَ. وكفى بالله نصيراً}.. وهكذا يصرح العداء ويستعلن، بين الجماعة المسلمة واليهود في المدينة.. وتتحدد الخطوط.. وقد كان التعجيب من أهل الكتاب عامة- وكان المفهوم أن المعنيين هم يهود المدينة- ولكن السياق لا يكتفي بهذا المفهوم. بل يمضي فيعين اليهود. ثم يصف حالهم وتصرفاتهم وسوء أدبهم مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- في هذه الفترة التي يبدو أنها كانت في أوائل سنوات الهجرة، قبل أن تخضد شوكتهم في المدينة: {من الذين هادوا، يحرفون الكلم عن مواضعه؛ ويقولون: سمعنا وعصينا. واسمع- غير مسمع- وراعنا لياً بألسنتهم وطعناً في الدين.}.. لقد بلغ من التوائهم، وسوء أدبهم مع الله عز وجل: أن يحرفوا الكلام عن المقصود به. والأرجح أن ذلك يعني تأويلهم لعبارات التوراة بغير المقصود منها. وذلك كي ينفوا ما فيها من دلائل على الرسالة الأخيرة؛ ومن أحكام كذلك وتشريعات يصدقها الكتاب الأخير؛ وتدل وحدتها في الكتابين على المصدر الواحد؛ وتبعاً لهذا على صحة رسالة النبي- صلى الله عليه وسلم. وتحريف الكلم عن المقصود به، ليوافق الأهواء ظاهرة ملحوظة في كل رجال دين ينحرفون عن دينهم، ويتخذونه حرفة وصناعة، يوافقون بها أهواء ذوي السلطان في كل زمان؛ وأهواء الجماهير التي تريد التفلت من الدين.. واليهود أبرع من يصنع ذلك. وإن كان في زماننا هذا من محترفي دين المسلمين من ينافسون- في هذه الخصلة- اليهود! ثم بلغ من التوائهم وسوء أدبهم مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يقولوا له: سمعنا يا محمد ما تقول. ولكننا عصينا! فلا نؤمن ولا نتبع ولا نطيع!- مما يدل على أن هذه الآيات نزلت في وقت مبكر، حيث كانت لليهود هذه الجرأة على مواجهة النبي- صلى الله عليه وسلم- ثم يضيفون إلى التبجح سوء الأدب والخلق والالتواء أيضاً. إذ يقولون للرسول- صلى الله عليه وسلم-: {واسمع- غير مسمع- وراعنا}.. ففي ظاهر اللفظ أنهم يقولون: اسمع- غير مأمور بالسمع وهي (صيغة تأدب)- وراعنا: أى: انظر إلينا نظرة رعاية لحالنا أو نظرة اهتمام لوضعنا. بما أنهم أهل كتاب، فلا ينبغي أن يدعوا إلى إلاسلام كالمشركين! أما في الليّ الذي يلوونه، فهم يقصدون: اسمع- لا سمعت، ولا كنت سامعاً!- (أخزاهم الله). وراعنا يميلونها إلى وصف «الرعونة»! وهكذا.. تبجح وسوء أدب، والتواء ومداهنة، وتحريف للكلم عن مواضعه وعن معانيه.. إنها يهود!!! وبعد أن يحكي القرآن هذا عنهم؛ يقرر المنهج اللائق بأهل الكتاب؛ والأدب الجدير بمن أوتوا نصيباً منه. ويطمعهم- بعد ذلك كله- في الهداية والجزاء الحسن والفضل والخير من الله. لو ثابوا إلى الطريق القويم. وذلك مع بيان حقيقة طبيعتهم. وأنها هكذا كانت وهكذا تكون: {ولو أنهم قالوا: سمعنا وأطعنا، واسمع وانظرنا، لكان خيراً لهم وأقوم، ولكن لعنهم الله بكفرهم، فلا يؤمنون إلاقليلاً «.. فهم لا يواجهون الحق بهذه الصراحة وهذه النصاعة وهذه الاستقامة. ولو أنهم واجهوه هكذا بالألفاظ الصريحة التي لا التواء فيها: {سمعنا وأطعنا، واسمع وانظرنا}. لكان هذا خيراً لهم، وأقوم لطبيعتهم وأنفسهم وحالهم. ولكن واقع الأمر أنهم- بسبب كفرهم- مطرودون من هداية. الله فلا يؤمن منهم إلا القليل. وصدق قول الله.. فلم يدخل في الإسلام- في تاريخه الطويل- إلا القليل من اليهود. ممن قسم الله لهم الخير، وأراد لهم الهدى؛ باجتهادهم للخير وسعيهم للهدى. أما كتلة اليهود، فقد ظلت طوال أربعة عشر قرناً، حرباً على الإسلام والمسلمين. منذ أن جاورهم الإسلام في المدينة إلى اللحظة الحاضرة. وكيدهم للإسلام كان هو الكيد الواصب الذي لا ينقطع، العنيد الذي لا يكف، المنوع الأشكال والألوان والفنون، منذ ذلك الحين! وما من كيد كاده أحد للإسلام في تاريخه كله- بما في ذلك كيد الصليبية العالمية والاستعمار بشتى أشكاله- إلا كان من ورائه اليهود. أو كان لليهود فيه نصيب! بعد ذلك يتجه الخطاب إلى الذين أوتوا الكتاب- اليهود- دعوة إلى الكتاب المصدق لما بين أيديهم؛ وتهديداً لهم بالمسخ واللعن المتوقعين من وراء عنادهم وأفاعيلهم. ودمغاً لهم بالشرك والانحراف عن التوحيد الخالص، الذي عليه دينهم، والله لا يغفر أن يشرك به.. وفي الوقت ذاته بيان عام لحدود المغفرة الواسعة؛ وبشاعة الشرك حتى إنه ليخرج من هذه الحدود: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا، مصدقاً لما معكم، من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها، أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت.. وكان أمر الله مفعولاً. إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك- لمن يشاء- ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً}.. إنه نداء لهم بالصفة التي كان من شأنها أن يكونوا أول المستجيبين؛ وبالسبب الذي كان من شأنه أن يكونوا أول المسلمين: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب، آمنوا بما نزلنا، مصدقاً لما معكم}.. فهم أوتوا الكتاب، فليس غريباً عليهم هذا الهدى. والله الذي آتاهم الكتاب هو الذي يدعوهم إلى الإيمان بما أنزل مصدقاً لما معهم. فليس غريباً عليهم كذلك. وهو مصدق لما معهم.. ولو كان الإيمان بالبينة. أو بالأسباب الظاهرة. لآمنت يهود أول من آمن. ولكن يهود كانت لها مصالح ومطامح. وكانت لها أحقاد وعناد. وكانت هي بطبعها منحرفة صلبة الرقبة.. كما تعبر عنهم التوراة بأنهم: «شعب صلب الرقبة!». ومن ثم لم تؤمن. ومن ثم يجيئها التهديد العنيف القاسي: {من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها. أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت. وكان أمر الله مفعولاً}.. وطمس الوجوه إزالة معالمها المميزة لآدميتها؛ وردها على أدبارها، دفعها لأن تمشي القهقرى.. وقد يكون المقصود هو التهديد بمعناه المادي؛ الذي يفقدهم آدميتهم ويردهم يمشون على أدبارهم؛ ويكون كذلك اللعن الذي أصاب أصحاب السبت (وهم الذين احتالوا على صيد السمك يوم السبت، وهو محرم عليهم في شريعتهم) هو مسخهم بالفعل قردة وخنازير.. كما قد يكون المقصود طمس معالم الهدى والبصيرة في نفوسهم، وردهم إلى كفرهم وجاهليتهم، قبل أن يؤتيهم الله الكتاب. والكفر بعد الإيمان، والهدى بعد الضلال، طمس للوجوه والبصائر، وارتداد على الأدبار دونه كل ارتداد. وسواء كان هذا هو المقصود أو ذاك.. فهو التهديد الرعيب العنيف؛ الذي يليق بطبيعة يهود الجاسية الغليظة؛ كما يليق بفعالهم اللئيمة الخبيثة! وقد كان ممن ارتدع بهذا التهديد: كعب الأحبار فأسلم: أخرج ابن أبي حاتم: حدثنا أبي. حدثنا ابن نفيل. حدثنا عمرو بن واقد، عن يونس بن جليس، عن أبى إدريس عائذ الله الخولاني، قال: كان أبو مسلم الخليلي معلم كعب. وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: فبعثه إليه ينظر: أهو هو؟ قال كعب: فركبت حتى أتيت المدينة. فإذا تال يقرأ القرآن يقول: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم، من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها...} فبادرت الماء فاغتسلت، وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس! ثم أسلمت. والتعقيب على هذا التهديد: {وكان أمر الله مفعولاً}.. فيه توكيد للتهديد، يناسب كذلك طبيعة اليهود! ثم يجيء تعقيب يتضمن تهديداً آخر في الآخرة. تهديداً بعدم المغفرة لجريمة الشرك. مع فتح أبواب الرحمة الإلهية كلها لما دون ذلك من الذنوب: {إن الله لا يغفر أن يشرك به؛ ويغفر ما دون ذلك- لمن يشاء- ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً}.. وسياق الآية هكذا يتضمن اتهام اليهود بالشرك؛ ودعوتهم إلى الإيمان الخالص والتوحيد. ولا يذكر هنا القول أو الفعل الذي يعده عليهم شركاً.. وقد ورد في مواضع أخرى تفصيل لهذا: فقد روى القرآن عنهم قولهم: {عزير ابن الله} كقول النصارى {المسيح ابن الله} وهو شرك لا شك فيه! كذلك روى عن هؤلاء وهؤلاء أنهم {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}. وهم لم يكونوا يعبدون الأحبار والرهبان. إنما كانوا- فقط- يقرون لهم بحق التشريع. حق التحليل والتحريم. الحق الخاص بالله، والذي هو من خصائص الألوهية. ومن ثم اعتبرهم القرآن مشركين.. ولهذا الاعتبار قيمة خاصة في التصور الإسلامي الصحيح لحد الإسلام وشرط الإيمان- كما سيجيء في سياق السورة بالتفصيل. وعلى أية حال فاليهود على عهد الرسالة المحمدية كانت عقائدهم في الجزيرة حافلة بالوثنيات، منحرفة عن التوحيد. والتهديد هنا موجه إليهم بأن الله يغفر ما دون الشرك- لمن يشاء- ولكنه لا يتسامح في إثم الشرك العظيم. ولا مغفرة عنده لمن لقيه مشركاً به؛ لم يرجع في الدنيا عن شركه. إن الشرك انقطاع ما بين الله والعباد. فلا يبقى لهم معه أمل في مغفرة. إذا خرجوا من هذه الدنيا وهم مشركون. مقطوعو الصلة بالله رب العالمين. وما تشرك النفس بالله، وتبقى على هذا الشرك حتى تخرج من الدنيا- وأمامها دلائل التوحيد في صفحة الكون وفي هداية الرسل- ما تفعل النفس هذا وفيها عنصر من عناصر الخير والصلاحية. إنما تفعله وقد فسدت فساداً لا رجعة فيه! وتلفت فطرتها التي برأها الله عليها، وارتدت أسفل سافلين، وتهيأت بذاتها لحياة الجحيم! أما ما وراء هذا الإثم المبين الواضح الظاهر، والظلم العظيم الوقح الجاهر.. أما ما وراء ذلك من الذنوب- والكبائر- فإن الله يغفره- لمن يشاء- فهو داخل في حدود المغفرة- بتوبة أو من غير توبة كما تقول بعض الروايات المأثورة الواردة- ما دام العبد يشعر بالله؛ ويرجو مغفرته؛ ويستيقن أنه قادر على أن يغفر له؛ وأن عفوه لا يقصر عن ذنبه.. وهذا منتهى الأمد في تصوير الرحمة التي لا تنفد ولا تحد؛ والمغفرة التي لا يوصد لها باب؛ ولا يقف عليها بوّاب! أخرج البخاري ومسلم- كلاهما- عن قتيبة، عن جرير بن عبد الحميد، عن عبد العزيز بن رفيع، عن زيد بن وهب، «عن أبي ذر، قال: خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يمشي وحده، وليس معه إنسان. قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد. قال فجعلت أمشي في ظل القمر. فالتفت فرآني. فقال:» من هذا «فقلت: أبو ذر- جعلني الله فداك- قال:» يا أبا ذر تعال! «قال: فمشيت معه ساعة. فقال لي:» إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيراً، فيجعل يبثه عن يمينه وشماله وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيراً «قال: فمشيت معه ساعة، فقال لي:» اجلس ها هنا «. فأجلسني في قاع حوله حجارة. فقال لي:» اجلس هاهنا حتى أرجع إليك «قال: فانطلق في الحرة حتى لا أراه. فلبث عني، حتى إذا طال اللبث.. ثم إني سمعته وهو مقبل يقول:» وإن زنى وإن سرق «قال فلما جاء لم أصبر حتى قلت: يا نبي الله- جعلني الله فداك- من تكلمه في جانب الحرة،؟ فإني سمعت أحداً يرجع إليك. قال:» ذلك جبريل، عرض لي جانب الحرة، فقال: «بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة». قلت أيا جبريل. وإن سرق وإن زنى؟ «. قال:» نعم «.» قلت: وإن سرق وإن زنى؟ «قال: نعم. وإن شرب الخمر». وأخرج ابن أبى حاتم- بإسناده- «عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما من نفس تموت، لا تشرك بالله شيئاً، إلا حلت لها المغفرة إن شاء الله عذبها، وإن شاء غفر لها. إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» وأخرج ابن أبي حاتم- بإسناده- عن ابن عمر قال. «كنا- أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وقاذف المحصنات، وشاهد الزور. حتى نزلت: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فأمسك أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- عن الشهادة! وروى الطبراني- بإسناده- عن عكرمة،» عن ابن عباس، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله عز وجل: من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي. ما لم يشرك بي شيئاً « وفي هذا الحديث الأخير لمحة كاشفة.. فالمهم هو شعور القلب بالله على حقيقته- سبحانه- ومن وراء هذا الشعور الخير. والرجاء. والخوف. والحياء.. فإذا وقع الذنب، فمن ورائه هذه السمات تؤهل للتقوى وتؤهل للمغفرة. ثم يمضي القرآن- وهو يخوض المعركة بالجماعة المسلمة مع اليهود في المدينة- يعجب من أمر هؤلاء الخلق؛ الذين يزعمون أنهم شعب الله المختار؛ ويثنون على أنفسهم؛ ويزكونها؛ بينما هم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويتطاولون على الله ورسوله- كما سبق- وبينما هم يؤمنون بالجبت والطاغوت- كما سيجيء- كاذبين على الله في تزكيتهم لأنفسهم، وفي زعمهم أنهم مقربون إليه مهما عملوا من السوء!: {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم؟ بل الله يزكي من يشاء، ولا يظلمون فتيلاً. انظر كيف يفترون على الله الكذب! وكفى به إثماً مبيناً}.. ودعوى اليهود أنهم شعب الله المختار هي دعواهم من قديم. وقد اختارهم الله فعلاً لحمل الأمانة وأداء الرسالة، وفضلهم على العالمين في ذلك الأوان؛ وأهلك لهم فرعون وملأه، وأورثهم الأرض المقدسة.. ولكنهم هم انحرفوا بعد ذلك عن منهج الله؛ وعتوا في الأرض عتواً كبيرا، واجترحوا السيئات التي تضج منها الأرض، وأحل لهم أحبارهم ما حرم الله وحرموا عليهم ما أحله لهم، واتبعوهم؛ ولم ينكروا عليهم حق الألوهية هذا الذي ادعوه عملياً- بهذا التحريم والتحليل- وقد بدل هؤلاء الأحبار في شريعة الله، ليرضوا ذوي السلطان والشرفاء؛ وليملقوا كذلك رغبات الجماهير وأهواءهم. وبذلك اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله. وأكلوا الربا.. ووهنت علاقتهم بدين الله وكتابة الذي أنزله عليهم.. وعلى الرغم من ذلك كله- وغيره كثير- فقد ظلوا يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه. وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة. وأنه لا يهتدي ولا يقبل عند الله إلا من كان هوداً! كأن المسألة مسألة قرابة ونسب ومحاباة بينهم وبين الله- تعالى عن ذلك علواً كبيراً- فالله لا تصل بينه وبين أحد من خلقه قرابة ولا نسب؛ إنما تربط عباده به العقيدة المستقيمة والعمل الصالح، والاستقامة على منهج الله. . فمن أخل بهذا فقد غضب الله عليه. ويشتد غضبه إذا كان قد آتى الضالين الهدى فانحرفوا عنه! وما شأن هؤلاء اليهود إلا شأن من يزعمون الإسلام اليوم، ويحسبون أنهم من أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- وأن الله لا بد ناصرهم، ومخرج لهم اليهود من أرضهم.. بينما هم ينسلخون انسلاخاً كاملاً من دين الله الذي هو منهجه للحياة؛ فينبذونه من حياتهم؛ ولا يتحاكمون إلى كتاب الله لا في أقضيتهم ولا في اقتصادهم، ولا في اجتماعهم، ولا في آدابهم، ولا في تقاليدهم. وكل ما لهم من الإسلام أسماء المسلمين! وأنهم ولدوا في أرض كان المسلمون يسكنونها ذات يوم! ويقيمون فيها دين الله، ويحكمون منهجه في الحياة! والله يعجب رسوله- صلى الله عليه وسلم- من أمر أولئك اليهود الذين يزكون أنفسهم. وأمر «المسلمين» المعاصرين أعجب، وأشد إثارة للتعجيب والتعجب!! إنه ليس الناس هم الذين يزكون أنفسهم؛ ويشهدون لها بالصلاح والقرب من الله واختيار الله. إنما الله هو الذي يزكي من يشاء. فهو أعلم بالقلوب والأعمال. ولن يظلم الناس شيئاً، وإذا هم تركوا هذا التقدير لله- سبحانه- واتجهوا إلى العمل. لا إلى الادعاء. فلئن عملوا- وهم ساكتون متواضعون في حياء من الله، وبدون تزكية ولا ادعاء- فلن يغبنوا عند الله؛ ولن ينسى لهم عمل؛ ولن يبخس لهم حق. والله- سبحانه- يشهد على اليهود أنهم- إذ يزكون أنفسهم ويدعون أن الله راض عنهم- يفترون عليه الكذب. ويشنع بفعلتهم هذه، ويوجه الأنظار إلى بشاعتها: {انظر. كيف يفترون على الله الكذب. وكفى به إثماً مبينا! «. وما أرى أننا- الذين ندعي الإسلام لأننا نحمل أسماء المسلمين، ونعيش في أرض كان يسكنها المسلمون! بينما نحن لا نجعل الإسلام في شيء من منهجنا في الحياة.. ما أحسبنا ونحن ندعي الإسلام، فنشوه الإسلام بصورتنا وواقعنا؛ ونؤدي ضده شهادة منفرة منه! ثم ونحن ندعي أن الله مختار لنا لأننا أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- بينما دين محمد ومنهجه مطرود من واقع حياتنا طرداً.. ما أحسبنا إلا في مثل هذا الموضع، الذي يعجب الله- سبحانه- منه رسوله- صلى الله عليه وسلم- ويدمغ أصحابه بافتراء الكذب على الله، وارتكاب هذا الإثم المبين! والعياذ بالله! إن دين الله منهج حياة. وطاعة الله هي تحكيم هذا المنهج في الحياة. والقرب من الله لا يكون إلا بطاعته.. فلننظر أين نحن من الله ودينه ومنهجه.. ثم لننظر أين نحن من حال هؤلاء اليهود، الذين يعجب الله من حالهم، ويدمغهم بإثم الافتراء عليه في تزكيتهم لأنفسهم! فالقاعدة هي القاعدة. والحال هي الحال. وليس لأحد عند الله نسب ولا صهر ولا محاباة!!! ويمضي السياق في التعجيب من أمر أولئك الذين يزكون أنفسهم.. بينما هم يؤمنون بالباطل وبالأحكام التي لا تستند إلى شرع الله، وليس لها ضابط منه يعصمها من الطغيان: «الجبت والطاغوت» وبينما هم يشهدون للشرك والمشركين بأنهم أهدى من المؤمنين بكتاب الله ومنهجه وشريعته، ويحمل عليهم- بعد التعجيب من أمرهم، وذكر هذه المخازي عنهم- حملة عنيفة؛ ويرذلهم ترذيلاً شديداً؛ ويظهر كامن طباعهم من الحسد والبخل؛ والأسباب الحقيقية التي تجعلهم يقفون هذا الموقف إلى جانب انحرافهم عن دين إبراهيم- الذي يفخرون بالانتساب إليه- وينهي هذه الحملة بتهديدهم بجهنم. {وكفى بجهنم سعيراً}. {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً! أولئك الذين لعنهم الله. ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً. أم لهم نصيب من الملك؟ فإذا لا يؤتون الناس نقيرا. أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؟ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة؛ وآتيناهم ملكاً عظيماً. فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه؛ وكفى بجهنم سعيراً}.. لقد كان الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، أولى الناس أن يتبعوا الكتاب؛ وأن يكفروا بالشرك الذي يعتنقه من لم يأتهم من الله هدى؛ وأن يحكموا كتاب الله في حياتهم، فلا يتبعوا الطاغوت- وهو كل شرع لم يأذن به الله، وكل حكم ليس له من شريعة الله سند- ولكن اليهود- الذين كانوا يزكون أنفسهم، ويتباهون بأنهم أحباء الله- كانوا في الوقت ذاته يتبعون الباطل والشرك باتباعهم للكهانة وتركهم الكهان والأحبار يشرعون لهم ما لم يأذن به الله. وكانوا يؤمنون بالطاغوت؛ وهو هذا الحكم الذي يقوم على غير شريعة الله.. وهو طاغوت لما فيه من طغيان- بادعاء الإنسان إحدى خصائص الألوهية- وهي الحاكمية- وبعدم انضباطه بحدود من شرع الله، تلزمه العدل والحق. فهو طغيان، وهو طاغوت؛ والمؤمنون به والمتبعون له، مشركون أو كافرون.. يعجب الله من أمرهم، وقد أوتوا نصيباً من الكتاب، فلم يلتزموا بما أوتوه من الكتاب! ولقد كانوا يضيفون إلى الإيمان بالجبت والطاغوت، موقفهم في صف المشركين الكفار، ضد المؤمنين الذين آتاهم الله الكتاب أيضاً: {ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً}.. قال ابن إسحاق. حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة- أو عن سعيد بن جبير- عن ابن عباس. قال: «كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة، حيي بن أخطب، وسلام بن الحقيق، وأبو رافع، والربيع بن الحقيق، وأبو عامر، ووحوح بن عامر، وهودة بن قيس، فأما وحوح وأبو عامر وهودة، فمن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير. . فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود، وأهل العلم بالكتاب الأول. فاسألوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم. فقالوا: دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه. فأنزل الله- عز وجل-: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب}... إلى قوله عز وجل: {وآتيناهم ملكاً عظيماً}.. وهذا لعن لهم، وإخبار بأنه لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة. لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين. وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم. وقد أجابوهم، وجاءوا معهم يوم الأحزاب؛ حتى حفر النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حول المدينة الخندق، وكفى الله شرهم {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً. وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزاً} وكان عجيباً أن يقول اليهود: إن دين المشركين خير من دين محمد ومن معه، وإن المشركين أهدى سبيلاً من الذين آمنوا بكتاب الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم- ولكن هذا ليس بالعجيب من اليهود.. إنه موقفهم دائماً من الحق والباطل، ومن أهل الحق وأهل الباطل.. إنهم ذوو أطماع لا تنتهي، وذوو أهواء لا تعتدل، وذوو أحقاد لا تزول! وهم لا يجدون عند الحق وأهله عوناً لهم في شيء من أطماعهم وأهوائهم وأحقادهم إنما يجدون العون والنصرة- دائماً- عند الباطل وأهله. ومن ثم يشهدون للباطل ضد الحق؛ ولأهل الباطل ضد أهل الحق! هذه حال دائمة، سببها كذلك قائم.. وكان طبيعياً منهم ومنطقياً أن يقولوا عن الذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً! وهم يقولونها اليوم وغداً. إنهم يشوهون بوسائل الدعاية والإعلام التي في أيديهم كل حركة إسلامية ناجحة على ظهر الأرض؛ ويعينون عليها أهل الباطل لتشويهها وتحطيمها- بالضبط كما كانوا يعينون مشركي قريش ويستنصرون بهم في الوقت ذاته- لتشويه الحركة الإسلامية الأولى وتحطيمها. ولكنهم أحياناً- لخبثهم ولتمرسهم بالحيل الماكرة ولملابسات العصر الحديث- قد لا يثنون ثناء مكشوفاً على الباطل وأهله. بل يكتفون بتشويه الحق وأهله. ليعينوا الباطل على هدمه وسحقه. ذلك أن ثناءهم المكشوف- في هذا الزمان- أصبح متهماً، وقد يثير الشبهات حول حلفائهم المستورين، الذين يعملون لحسابهم، في سحق الحركات الإسلامية في كل مكان.. بل لقد يبلغ بهم المكر والحذق أحياناً، أن يتظاهروا بعداوة وحرب حلفائهم، الذين يسحقون لهم الحق وأهله. ويتظاهروا كذلك بمعركة كاذبة جوفاء من الكلام. ليبعدوا الشبهة تماماً عن أخلص حلفائهم، الذين يحققون لهم أهدافهم البعيدة! ولكنهم لا يكفون أبداً عن تشويه الإسلام وأهله.. لأن حقدهم على الإسلام، وعلى كل شبح من بعيد لأي بعث إسلامي، أضخم من أن يداروه. . ولو للخداع والتمويه! إنها جبلة واحدة، وخطة واحدة، وغاية واحدة.. هي التي من أجلها يجبههم الله باللعنة والطرد، وفقدان النصير. والذي يفقد نصرة الله فما له من ناصر وما له من معين ولو كان أهل الأرض كلهم له ناصر وكلهم له معين: {أؤلئك الذين لعنهم الله. ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً}.. ولقد يهولنا اليوم أن نجد دول الغرب كلها نصيراً لليهود. فنسأل: وأين وعد الله بأنه لعنهم، وأن من يلعن الله فلن تجد له نصيراً؟ ولكن الناصر الحقيقي ليس هو الناس. ليس هو الدول. ولو كانت تملك القنابل الأيدروجينية والصواريخ. إنما الناصر الحق هو الله. القاهر فوق عباده: ومن هؤلاء العباد من يملكون القنابل الأيدروجينية والصواريخ! والله ناصر من ينصره.. {ولينصرن الله من ينصره} والله معين من يؤمن به حق الإيمان، ويتبع منهجه حق الاتباع؛ ويتحاكم إلى منهجه في رضى وفي تسليم.. ولقد كان الله- سبحانه- يخاطب بهذا الكلام أمة مؤمنة به، متبعة لمنهجه، محتكمة إلى شريعته. وكان يهوّن من شأن عدوها- اليهود- وناصريهم. وكان يعد المسلمين النصر عليهم لأنهم- اليهود- لا نصير لهم. وقد حقق الله لهم وعده. وعده الذى لا يناله إلا المؤمنون حقاً. والذي لا يتحقق إلا على أيدي العصبة المؤمنة حين تقوم. فلا يهولننا ما نلقاه من نصرة الملحدين والمشركين والصليبيين لليهود. فهم في كل زمان ينصرونهم على الإسلام والمسلمين.. فليست هذه هي النصرة.. ولكن كذلك لا يخدعننا هذا. فإنما يتحقق هذا الأمر للمسلمين! ويوم يكونون مسلمين! وليحاول المسلمون أن يجربوا- مرة واحدة- أن يكونوا مسلمين. ثم يروا بأعينهم إن كان يبقى لليهود نصير. أو أن ينفعهم هذا النصير! وبعد التعجيب من أمرهم وموقفهم وقولهم؛ وإعلان اللعنة عليهم والخذلان.. يأخذ في استنكار موقفهم من الرسول- صلى الله عليه وسلم- والمسلمين؛ وغيظهم من أن يمن الله عليهم هذه المنة.. منة الدين والنصر والتمكين. وحسدهم لهم على ما أعطاعهم الله من فضله. وهم لم يعطوهم من عندهم شيئاً! ويكشف في الوقت ذاته عن كزازة طبيعتهم؛ واستكثار أي عطاء يناله غيرهم؛ مع أن الله قد أفاض عليهم وعلى آبائهم، فلم يعلمهم هذا الفيض السماحة؛ ولم يمنعهم من الحسد والكنود: {أم لهم نصيب من الملك؟ فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً! أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؟ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة، وآتيناهم ملكاً عظيماً}.. يا عجباً! إنهم لا يطيقون أن ينعم الله على عبد من عباده بشيء من عنده.. فهل هم شركاؤه- سبحانه!- هل لهم نصيب في ملكه، الذي يمنح منه ويفيض؟ ولو كان لهم نصيب لضنوا- بكزازتهم وشحهم- أن يعطوا الناس نقيراً. . والنقير النقرة تكون في ظهر النواة- وهذه لا تسمح كزازة يهود وأثرتها البغيضة أن تعطيها للناس، لو كان لها في الملك نصيب! والحمد لله أن ليس لها في الملك نصيب.. وإلا لهلك الناس جميعاً وهم لا يعطون حتى النقير!!! أم لعله الحسد.. حسد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، على ما آتاهم الله من فضله.. من هذا الدين الذي أنشأهم نشأة أخرى ووهب لهم ميلاداً جديداً، وجعل لهم وجوداً إنسانيا متميزاً؛ ووهبهم النور والثقة والطمأنينة واليقين؛ كما وهبهم النظافة والطهر، مع العز والتمكين؟ وإنه فعلاً للحسد من يهود. مع تفويت أطماعها في السيادة الأدبية والاقتصادية على العرب الجاهلين المتفرقين المتخاصمين.. يوم أن لم يكن لهم دين.. ولكن لماذا يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله من النبوة والتمكين في الأرض؟ وهم غارقون في فضل الله من عهد إبراهيم.. الذي آتاه الله وآله الكتاب والحكمة- وهي النبوة- وآتاهم الملك كذلك والسيادة. وهم لم يرعوا الفضل ولم يحتفظوا بالنعمة، ولم يصونوا العهد القديم، بل كان منهم فريق من غير المؤمنين. ومن يؤت هذا الفضل كله لا يليق أن يكون منهم جاحدون كافرون! {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً. فمنهم من آمن به، ومنهم من صد عنه}. إنه لمن أَلأم الحسد: أن يحسد ذو النعمة الموهوب! لقد يحسد المحروم ويكون الحسد منه رذيلة! أما أن يحسد الواجد المغمور بالنعمة، فهذا هو الشر الأصيل العميق! شر يهود! المتميز الفريد! ومن ثم يكون التهديد بالسعير، هو الجزاء المقابل لهذا الشر النكير: {وكفى بجهنم سعيراً}.. وعندما يبلغ السياق هذا المقطع من ذكر الإيمان والصدود عن الإيمان في آل إبراهيم، يعقب بالقاعدة الشاملة للجزاء. جزاء المكذبين، وجزاء المؤمنين.. هؤلاء وهؤلاء أجمعين.. في كل دين وفي كل حين؛ ويعرض هذا الجزاء في صورة مشهد من مشاهد القيامة العنيفة الرعيبة: {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً، كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب. إن الله كان عزيزاً حكيماً. والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبداً، لهم فيها أزواج مطهرة، وندخلهم ظلاً ظليلاً}.. ... {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب}... إنه مشهد لا يكاد ينتهي. مشهد شاخص متكرر. يشخص له الخيال، ولا ينصرف عنه! إنه الهول. وللهول جاذبية آسرة قاهرة! والسياق يرسم ذلك المشهد ويكرره بلفظ واحد.. «كلما».. ويرسمه كذلك عنيفاً مفزعاً بشطر جملة.. {كلما نضجت جلودهم}.. ويرسمه عجيباً خارقاً للمألوف بتكملة الجملة.. {بدلناهم جلوداً غيرها}.. ويجمل الهول الرهيب المفزع العنيف كله في جملة شرطية واحدة لا تزيد! ذلك جزاء الكفر- وقد تهيأت أسباب الإيمان- وهو مقصود. وهو جزاء وفاق: {ليذوقوا العذاب}.. ذلك، أن الله قادر على الجزاء. حكيم في توقيعه: {إن الله كان عزيزاً حكيماً}.. وفي مقابل هذا السعير المتأجج. وفي مقابل الجلود الناضجة المشوية المعذبة.. كلما نضجت بدلت. ليعود الاحتراق من جديد. ويعود الألم من جديد. في مقابل هذا المشهد المكروب الملهوف.. نجد {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} في جنات ندية: {تجري من تحتها الأنهار}: ونجد في المشهد ثباتاً وخلوداً مطمئناً أكيداً: {خالدين فيها أبداً} ونجد في الجنات والخلد الدائم أزواجاً مطهرة: {لهم فيها أزواج مطهرة}.. ونجد روح الظلال الندية؛ يرف على مشهد النعيم: {وندخلهم ظلاً ظليلاً}.. تقابل كامل في الجزاء. وفي المشاهد. وفي الصور. وفي الإيقاع.. على طريقة القرآن في «مشاهد القيامة» ذات الإيحاء القوي النافذ العميق.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} هذا الدرس يتناول موضوعاً خطيراً.. الموضوع الأساسي في حياة الأمة المسلمة. إنه يتناول بيان شرط الإيمان وحدّه؛ متمثلاً في النظام الأساسي لهذه الأمة.. ومن الموضوع في ذاته، ومن طريقة ارتباطه وامتزاجه بالنظام الأساسي للأمة، يستمد خطورته وخطره.. إن القرآن وهو- ينشئ هذه الأمة وينشئها- وهو يخرجها إلى الوجود إخراجاً. كما قال الله تعالى في التعبير القرآني الدقيق: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} إن القرآن وهو ينشئ هذه الأمة من حيث لم تكن؛ وينشئها لتصبح أمة فريدة في تاريخ البشر: {خير أمة أخرجت للناس}. ويجب أن نؤكد هذه الحقيقة ونوضحها قبل المضي في الحديث: حقيقة إنشاء القرآن لهذه الأمة وتنشئتها معاً.. فقد كانت- على التحقيق- إنشاء وتنشئة، كانت ميلاداً جديداً للأمة؛ بل ميلاداًَ جديداً «للإنسان» في صورة جديدة! ولم تكن مرحلة في طريق النشأة؛ ولا خطوة في سبيل التطور، ولا حتى وثبة من وثبات النهضة! إنما كانت- على وجه التحديد- «نشأة»! و«ميلاداً» للأمة العربية وللإنسان كله! وحين ننظر إلى الشعر الجاهلي- والنتف الأخرى من المأثورات الجاهلية- وهو ديوان العرب، الذي تضمن أعلى وأخلد ما كان للعرب من نظرة للحياة والوجود والكون والإنسان والخلق والسلوك؛ كما تضمن معالم حياتهم، ومكنون مشاعرهم، ومجموع تصوراتهم؛ ولباب ثقافتهم وحضارتهم؛ وكينونتهم كلها بالاختصار.. حين ننظر إلى مجموعة الثقافات والتصورات والقيم التي يتضمنها هذا الديوان؛ في ظل القرآن؛ وما تضمنه من نظرة للوجود والحياة، وللكون والإنسان؛ ومن قيم في الحياة الإنسانية ; ومن نظام للمجتمع؛ ومن تصور لغاية الوجود الإنساني. ومن تنظيم واقعي يقوم على أساس هذا التصور.. ثم ننظر إلى واقع العرب قبل الإسلام وبعده.. في ظل تلك التصورات الجاهلية التي تتمثل في ديوانها. ثم في ظل هذه التصورات القرآنية التي تمثل المنهج الرباني.. حين ننظر إلى الديوان المأثور والحياة الواقعية.. في ظل القرآن وواقع الحياة الإسلامية: يتبين لنا على وجه التأكيد والتحديد.. أنها كانت نشأة ولم تكن خطوة ولا مرحلة ولا وثبة! كانت «إخراجاً» من صنع الله؛ كتعبير القرآن الدقيق.. وكانت أعجب نشأة؛ وأغرب إخراج.. فيهي المرة الأولى والأخيرة- فيما نعلم- التي تنبثق فيها أمة من بين دفتي كتاب! و«تخرج» فيها حياة من خلال الكلمات! ولكن لا عجب.. فهذه الكلمات.. كلمات الله.. ومن أراد المجادلة والمماحلة، فليقل لنا أين كانت هذه الأمة قبل أن «يخرجها» الله بكلماته؛ وقيل أن ينشئها الله بقرآنه؟ إننا نعرف أنها كانت في الجزيرة العربية! ولكن أين كانت في الوجود «الإنساني»؟ أين كانت في سجل الحضارة البشرية؟ أين كانت في التاريخ العالمي؟ أين كانت تجلس على المائدة العالمية الإنسانية؟ وماذا كانت تقدم على هذه المائدة، فيعرف باسمها ويحمل طابعها؟ لقد «نشأت» هذه الأمة نشأتها بهذا الدين؛ ونُشئت تنشئتها بهذا المنهج القويم؛ وقادت نفسها وقادت البشرية بعد ذلك بكتاب الله الذي في يدها، وبمنهجه الذي طبع حياتها. . لا بشيء آخر.. وأمامنا التاريخ! وقد صدقها الله وعده وهو يقول للعرب: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم.. أفلا تعقلون} فبسبب من هذا الكتاب ذكرت هذه الأمة في الأرض؛ وكان لها دورها في التاريخ؛ وكان لها «وجود إنساني» ابتداء، وحضارة عالمية ثانياً.. ذلك بينما يريد جماعة من الحمقى أن يرفضوا نعمة الله هذه على الأمة العربية؛ ويجحدوا فضل الله في أن جعل كلمته الأخيرة لأهل الأرض قاطبة في العرب وبلسانهم.. ومن ثم جعل لهم وجوداً وذكراً وتاريخاً وحضارة- يريدون أن يخلعوا هذا الرداء الذي ألبسهم الله إياه؛ وأن يمزقوا هذه الراية التي قادتهم إلى الذكر والمجد.. بل إلى الوجود يوم أخرج الله منهم الأمة المسلمة! نقول.. إن القرآن حين كان «ينشئ» هذه الأمة و«ينشئها».. ويخطط ويثبت ملامح الإسلام الجديدة، في الجماعة المسلمة- التي التقطها من سفح الجاهلية- ويطمس ويمحو ملامح الجاهلية في حياتها ونفوسها ورواسبها.. وينظم مجتمعها- أو يقيمه ابتداء- على أساس الميلاد الجديد.. وحين كان يخوض بالجماعة المسلمة المعركة؛ في مواجهة الجاهلية الراسبة في نفوسها وأوضاعها من مخلفات البيئة التي التقطها المنهج الرباني منها؛ وفي مواجهة الجاهلية الرابضة فيها ومن حولها- ممثلة في يهود المدينة ومنافقيها ومشركي مكة وما حولها- والمعركتان موصولتان في الزمان والمكان! حين كان القرآن يصنع ذلك كله.. كان يبدأ فيقيم للجماعة المسلمة تصورها الصحيح، ببيان شرط الإيمان وحدّ الإسلام؛ ويربط بهذا التصور- في هذه النقطة بالذات- نظامها الأساسي، الذي يميز وجودها من وجود الجاهلية حولها؛ ويفردها بخصائص الأمة التي أخرجت للناس، لتبين للناس، وتقودهم إلى الله.. نظامها الرباني.. وهذا الدرس يتولى بيان هذا النظام الأساسي، قائماً ومنبثقاً من التصور الإسلامي لشرط الإيمان وحدّ الإسلام! إنه يتولى تحديد الجهة التي تتلقى منها الأمة المسلمة منهج حياتها؛ والطريقة التي تتلقى بها؛ والمنهج الذي تفهم به ما تتلقى، وترد إليه ما يجدّ من مشكلات وأقضية لم يرد فيها نص وتختلف الأفهام فيها؛ والسلطة التي تطيعها وعلة طاعتها ومصدر سلطانها.. ويقول: إن هذا هو شرط الإيمان وحدّه الإسلام.. وعندئذ يلتقي «النظام الأساسي» لهذه الأمة؛ بالعقيدة التي تؤمن بها.. في وحدة لا تتجزأ؛ ولا تفترق عناصرها.. وهذا هو الموضوع الخطير الذي يجلوه هذا الدرس جلاء دقيقاً كاملاً. . وهذه هي القضية التي تبدو، بعد مطالعة هذا الدرس، بديهية يعجب الإنسان كيف يجادل «مسلم» فيها! إنه يقول للأمة المسلمة: إن الرسل أرسلت لتطاع- بإذن الله- لا لمجرد الإبلاغ والإقناع: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله}.. ويقول لها: إن الناس لا يؤمنون- ابتداء- إلا أن يتحاكموا إلى منهج الله؛ ممثلاً- في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم- في أحكام الرسول. وباقياً بعده في مصدريه القرآن والسنة بالبداهة؛ ولا يكفي أن يتحاكموا- إليه ليحسبوا مؤمنين- بل لا بد من أن يتلقوا حكمه مسلمين راضين: {فلا وربك.. لا يومنون.. حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}.. فهذا هو شرط الإيمان وحد الإسلام. ويقول لها: إن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت- أي إلى غير شريعة الله- لا يقبل منهم زعمهم أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول وما أنزل من قبله. فهو زعم كاذب. يكذبه أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت- وقد أمروا أن يكفروا به- ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً}. ويقول لها: إن علامة النفاق أن يصدوا عن التحاكم إلى ما أنزل الله والتحاكم إلى رسول الله: {وإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً}. ويقول لها: إن منهجها الإيماني ونظامها الأساسي، أن تطيع الله- عز وجل- في هذا القرآن- وأن تطيع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في سنته- وأولي الأمر من المؤمنين الداخلين في شرط الإيمان وحد الإسلام معكم: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول. وأولي الأمر منكم}.. ويقول لها: إن المرجع، فيما تختلف فيه وجهات النظر في المسائل الطارئة المتجددة، والأقضية التي لم ترد فيها أحكام نصية.. إن المرجع هو الله ورسوله.. أي شريعة الله وسنة رسوله: {فإن تنازعتم في شيء، فردوه إلى الله والرسول}.. وبهذا يبقى المنهج الرباني مهيمناً على ما يطرأ على الحياة من مشكلات وأقضية كذلك، أبد الدهر، في حياة الأمة المسلمة.. وتمثل هذه القاعدة نظامها الأساسي، الذي لا تكون مؤمنة إلا به، ولا تكون مسلمة إلا بتحقيقه.. إذ هو يجعل الطاعة بشروطها تلك، ورد المسائل التي تجد وتختلف فيها وجهات النظر إلى الله ورسوله.. شرط الإيمان وحد الإسلام.. شرطاً واضحاً ونصاً صريحاً: {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}.. ولا ننسَ ما سبق بيانه عند قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} من أن اليهود وصموا بالشرك بالله، لأنهم كانوا يتخذون أحبارهم أرباباً من دون الله- لا لأنهم عبدوهم- ولكن لأنهم قبلوا منهم التحليل والتحريم؛ ومنحوهم حق الحاكمية والتشريع- ابتداء من عند أنفسهم- فجعلوا بذلك مشركين.. الشرك الذي يغفر الله كل ما عداه. حتى الكبائر.. «وإن زنى وإن سرق. وإن شرب الخمر».. فرد الأمر كله إلى إفراد الله- سبحانه- بالألوهية. ومن ثم إفراده بالحاكمية. فهي أخص خصائص الألوهية. وداخل هذا النطاق يبقى المسلم مسلماً ويبقى المؤمن مؤمناً. ويطمع أن يغفر له ذنوبه ومنها كبائره.. أما خارج هذا النطاق فهو الشرك الذي لا يغفره الله أبداً.. إذ هو شرط الإيمان وحد الإسلام. {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر..} هذا هو الموضوع الخطير الذي يتناوله هذا الدرس. بالإضافة إلى بيان وظيفة الأمة المسلمة في الأرض. من إقرار مبادئ العدل والخلق على أساس منهج الله القويم السليم: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها. وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل.. إن الله نعما يعظكم به.. إن الله كان سميعاً بصيراً}.. وقد ألممنا به إجمالاً. فنأخذ في مواجهة النصوص تفصيلاً.. {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها؛ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل. إن الله نعما يعظكم به. إن الله كان سميعاً بصيراً}.. هذه هي تكاليف الجماعة المسلمة؛ وهذا هو خلقها: أداء الأمانات إلى أهلها. والحكم بين «الناس» بالعدل. على منهج الله وتعليمه. والأمانات تبدأ من الأمانة الكبرى.. الأمانة التي ناط الله بها فطرة الإنسان؛ والتي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها «الإنسان».. أمانة الهداية والمعرفة والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد واتجاه. فهذه أمانة الفطرة الإنسانية خاصة. فكل ما عدا الإنسان ألهمه ربه الإيمان به، والاهتداء إليه، ومعرفته، وعبادته، وطاعته. وألزمه طاعة ناموسه بغير جهد منه ولا قصد ولا إرادة ولا اتجاه. والإنسان وحده هو الذي وكل إلى فطرته، وإلى عقله، وإلى معرفته، وإلى إرادته، وإلى اتجاهه، وإلى جهده الذي يبذله للوصول إلى الله، بعون من الله: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وهذه أمانة حملها وعليه أن يؤديها أول ما يؤدي من الأمانات. ومن هذه الأمانة الكبرى، تنبثق سائر الأمانات، التي يأمر الله أن تؤدى: ومن هذه الأمانات: أمانة الشهادة لهذا الدين.. الشهادة له في النفس أولاً بمجاهدة النفس حتى تكون ترجمة له. ترجمة حية في شعورها وسلوكها. حتى يرى الناس صورة الإيمان في هذه النفس. فيقولوا: ما أطيب هذا الإيمان وأحسنه وأزكاه؛ وهو يصوغ نفوس أصحابه على هذا المثال من الخلق والكمال! فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون. . والشهادة له بدعوة الناس إليه، وبيان فضله ومزيته- بعد تمثل هذا الفضل وهذه المزية في نفس الداعية- فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للإيمان في ذات نفسه، إذا هو لم يدع إليها الناس كذلك، وما يكون قد أدى أمانة الدعوة والتبليغ والبيان. وهي إحدى الأمانات.. ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض؛ منهجاً للجماعة المؤمنة؛ ومنهجاً للبشرية جميعاً.. المحاولة بكل ما يملك الفرد من وسيلة، وبكل ما تملك الجماعة من وسيلة. فإقرار هذا المنهج في حياة البشر هو كبرى الأمانات؛ بعد الإيمان الذاتي. ولا يعفى من هذه الأمانة الأخيرة فرد ولا جماعة.. ومن ثم ف «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» على هذا الأساس.. أداء لإحدى الأمانات.. ومن هذه الأمانات- الداخلة في ثنايا ما سبق- أمانة التعامل مع الناس؛ ورد أماناتهم إليهم: أمانة المعاملات والودائع المادية. وأمانة النصيحة للراعي وللرعية. وأمانة القيام على الأطفال الناشئة. وأمانة المحافظة على حرمات الجماعة وأموالها وثغراتها... وسائر ما يجلوه المنهج الرباني من الواجبات والتكاليف في كل مجالي الحياة على وجه الإجمال.. فهذه من الأمانات التي يأمر الله أن تؤدى؛ ويجملها النص هذا الإجمال.. فأما الحكم بالعدل بين «الناس» فالنص يطلقه هكذا عدلاً شاملاً «بين الناس» جميعاً. لا عدلاً بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب. ولا عدلاً مع أهل الكتاب، دون سائر الناس.. وإنما هو حق لكل إنسان بوصفه «إنساناً». فهذه الصفة- صفة الناس- هي التي يترتب عليها حق العدل في المنهج الرباني. وهذه الصفة يلتقي عليها البشر جميعاً: مؤمنين وكفاراً. أصدقاء وأعداء. سوداً وبيضاً. عرباً وعجماً. والأمة المسلمة قيمة على الحكم بين الناس بالعدل- متى حكمت في أمرهم- هذا العدل الذي لم تعرفه البشرية قط- في هذه الصورة- إلا على يد الإسلام، وإلا في حكم المسلمين، وإلا في عهد القيادة الإسلامية للبشرية.. والذي افتقدته من قبل ومن بعد هذه القيادة؛ فلم تذق له طعماً قط، في مثل هذه الصورة الكريمة التي تتاح للناس جميعاً. لأنهم «ناس»! لا لأية صفة أخرى زائدة عن هذا الأصل الذي يشترك فيه «الناس»! وذلك هو أساس الحكم في الإسلام؛ كما أن الأمانة- بكل مدلولاتها- هي أساس الحياة في المجتمع الإسلامي. والتعقيب على الأمر بأداء الأمانات إلى أهلها؛ والحكم بين الناس بالعدل؛ هو التذكير بأنه من وعظ الله- سبحانه- وتوجيهه. ونعم ما يعظ الله به ويوجه: {إن الله نعما يعظكم به}.. ونقف لحظة أمام التعبير من ناحية أسلوب الأداء فيه. فالأصل في تركيب الجملة: إنه نعم ما يعظكم الله به. . ولكن التعبير يقدم لفظ الجلالة، فيجعله «اسم إن» ويجعل نعم ما «نعما» ومتعلقاتها، في مكان «خبر إن» بعد حذف الخبر.. ذلك ليوحي بشدة الصلة بين الله- سبحانه- وهذا الذي يعظهم به.. ثم إنها لم تكن «عظة» إنما كانت «أمراً».. ولكن التعبير يسميه عظة. لأن العظة أبلغ إلى القلب، وأسرع إلى الوجدان، وأقرب إلى التنفيذ المنبعث عن التطوع والرغبة الحياء! ثم يجيء التعقيب الأخير في الآية؛ يعلق الأمر بالله ومراقبته وخشيته ورجائه: {إن الله كان سميعاً بصيراً}.. والتناسق بين المأمور به من التكاليف؛ وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس؛ وبين كون الله سبحانه «سميعاً بصيراً» مناسبة واضحة ولطيفة معاً.. فالله يسمع ويبصر، قضايا العدل وقضايا الأمانة. والعدل كذلك في حاجة إلى الاستماع البصير وإلى حسن التقدير، وإلى مراعاة الملابسات والظواهر، وإلى التعمق فيما وراء الملابسات والظواهر. وأخيراً فإن الأمر بهما يصدر عن السميع البصير بكل الأمور. وبعد فالأمانة والعدل.. ما مقياسهما؟ ما منهج تصورهما وتحديدهما وتنفيذهما؟ في كل مجال في الحياة، وفي كل نشاط للحياة؟ أنترك مدلول الأمانة والعدل؛ ووسائل تطبيقها وتحقيقهما إلى عرف الناس واصطلاحهم؟ وإلى ما تحكم به عقولهم- أو أهواؤهم؟ إن للعقل البشري وزنه وقيمته بوصفه أداة من أدوات المعرفة والهداية في الإنسان: هذا حق.. ولكن هذا العقل البشري هو عقل الأفراد والجماعات في بيئة من البيئات، متأثراً بشتى المؤثرات.. ليس هناك ما يسمى «العقل البشري» كمدلول مطلق! إنما هناك عقلي وعقلك، وعقل فلان وعلان، وعقول هذه المجموعة من البشر، في مكان ما وفي زمان ما.. وهذه كلها واقعة تحت مؤثرات شتى؛ تميل بها من هنا، وتميل بها من هناك.. ولا بد من ميزان ثابت، ترجع إليه هذه العقول الكثيرة؛ فتعرف عنده مدى الخطأ والصواب في أحكامها وتصوراتها. ومدى الشطط والغلو، أو التقصير والقصور في هذه الأحكام والتصورات. وقيمة العقل البشري هنا هو أنه الأداة المهيأة للإنسان، ليعرف بها وزن أحكامه في هذا الميزان.. الميزان الثابت، الذي لا يميل مع الهوى، ولا يتأثر بشتى المؤثرات.. ولا عبرة بما يضعه البشر أنفسهم من موازين.. فقد يكون الخلل في هذه الموازين ذاتها. فتختل جميع القيم.. ما لم يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت القويم. والله يضع هذا الميزان للبشر، للأمانة والعدل، ولسائر القيم، وسائر الأحكام، وسائر أوجه النشاط، في كل حقل من حقول الحياة: {يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله؛ وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر.. منكم.. فإن تنازعتم في شيء، فردوه إلى الله والرسول. إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. ذلك خير وأحسن تأويلاً}.. وفي هذا النص القصير يبين الله- سبحانه- شرط الإيمان وحد الإسلام. في الوقت الذي يبين فيه قاعدة النظام الأساسي في الجماعة المسلمة؛ وقاعدة الحكم، ومصدر السلطان.. وكلها تبدأ وتنتهي عند التلقي من الله وحده؛ والرجوع إليه فيما لم ينص عليه نصاً، من جزيئات الحياة التي تعرض في حياة الناس على مدى الأجيال؛ مما تختلف فيه العقول والآراء والأفهام.. ليكون هنالك الميزان الثابت، الذي ترجع إليه العقول والآراء والأفهام! إن «الحاكمية» لله وحده في حياة البشر- ما جل منها وما دق، وما كبر منها وما صغر- والله قد سن شريعة أودعها قرآنه. وأرسل بها رسولاً يبينها للناس. ولا ينطق عن الهوى. فسنته- صلى الله عليه وسلم- من ثم شريعة من شريعة الله. والله واجب الطاعة. ومن خصائص ألوهيته أن يسن الشريعة. فشريعته واجبة التنفيذ. وعلى الذين آمنوا أن يطيعوا الله- ابتداء- وأن يطيعوا الرسول- بما له من هذه الصفة. صفة الرسالة من الله- فطاعته إذن من طاعة الله، الذي أرسله بهذه الشريعة، وببيانها للناس في سنته.. وسنته وقضاؤه- على هذا- جزء من الشريعة واجب النفاذ.. والإيمان يتعلق- وجوداً وعدماً- بهذه الطاعة وهذا التنفيذ- بنص القرآن: {إن كنم تؤمنون بالله واليوم الآخر}.. فأما أولو الأمر؛ فالنص يعين من هم. {وأولي الأمر.. منكم..} أي من المؤمنين.. الذين يتحقق فيهم شرط الإيمان وحد الإسلام المبين في الآية.. من طاعة الله وطاعة الرسول؛ وإفراد الله- سبحانه- بالحاكمية وحق التشريع للناس ابتداء؛ والتلقي منه وحده- فيما نص عليه- والرجوع إليه أيضاً فيما تختلف فيه العقول والأفهام والآراء، مما لم يرد فيه نص؛ لتطبيق المبادئ العامة في النصوص عليه. والنص يجعل طاعة الله أصلاً؛ وطاعة رسوله أصلاً كذلك- بما أنه مرسل منه- ويجعل طاعة أولي الأمر.. منكم.. تبعاً لطاعة الله وطاعة رسوله. فلا يكرر لفظ الطاعة عند ذكرهم، كما كررها عند ذكر الرسول- صلى الله عليه وسلم- ليقرر أن طاعتهم مستمدة من طاعة الله وطاعة رسوله- بعد أن قرر أنهم «منكم» بقيد الإيمان وشرطه.. وطاعة أولي الأمر.. منكم.. بعد هذه التقريرات كلها، في حدود المعروف المشروع من الله، والذي لم يرد نص بحرمته؛ ولا يكون من المحرم عندما يرد إلى مبادئ شريعته، عند الاختلاف فيه.. والسنة تقرر حدود هذه الطاعة، على وجه الجزم واليقين: في الصحيحين من «حديث الأعمش: إنما الطاعة في المعروف». وفيهما من «حديث يحيى القطان: السمع والطاعة على المرء المسلم. فيما أحب أو كره. ما لم يؤمر بمعصية. فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة». وأخرج مسلم من «حديث أم الحصين: ولو استعمل عليكم عبد. يقودكم بكتاب الله. اسمعوا له وأطيعوا». بهذا يجعل الإسلام كل فرد أميناً على شريعة الله وسنة رسوله. أميناً على إيمانه وهو ودينه. أميناً على نفسه وعقله. أميناً على مصيره في الدنيا والآخرة.. ولا يجعله بهيمة في القطيع؛ تزجر من هنا أو من هنا فتسمع وتطيع! فالمنهج واضح، وحدود الطاعة واضحة. والشريعة التي تطاع والسنة التي تتبع واحدة لا تتعدد، ولا تتفرق، ولا يتوه فيها الفرد بين الظنون! ذلك فيما ورد فيه نص صريح. فأما الذي لم يرد فيه نص. وأما الذي يعرض من المشكلات والأقضية، على مدى الزمان وتطور الحاجات واختلاف البيئات- ولا يكون فيه نص قاطع، أو لا يكون فيه نص على الإطلاق.. مما تختلف في تقديره العقول والآراء والأفهام- فإنه لم يترك كذلك تيهاً. ولم يترك بلا ميزان. ولم يترك بلا منهج للتشريع فيه والتفريع.. ووضع هذا النص القصير، منهج الاجتهاد كله، وحدده بحدوده؛ وأقام «الأصل» الذي يحكم منهج الاجتهاد أيضاً. {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}.. ردوه إلى النصوص التي تنطبق عليه ضمناً. فإن لم توجد النصوص التي تنطبق على هذا النحو، فردوه إلى المبادئ الكلية العامة في منهج الله وشريعته.. وهذه ليست عائمة، ولا فوضى، ولا هي من المجهلات التي تتيه فيها العقول كما يحاول بعض المخادعين أن يقول. وهناك- في هذا الدين- مبادئ أساسية واضحة كل الوضوح، تغطي كل جوانب الحياة الأساسية، وتضع لها سياجاً خرقه لا يخفى على الضمير المسلم المضبوط بميزان هذا الدين. {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}.. تلك الطاعة لله والطاعة للرسول، ولأولي الأمر المؤمنين القائمين على شريعة الله وسنة الرسول.. ورد ما يتنازع فيه إلى الله والرسول.. هذه وتلك شرط الإيمان بالله واليوم الآخر. كما أنها مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر.. فلا يوجد الإيمان ابتداء وهذا الشرط مفقود.. ولا يوجد الإيمان، ثم يتخلف عنه أثره الأكيد. وبعد أن يضع النص المسألة في هذا الوضع الشرطي، يقدمها مرة أخرى في صورة «العظة» والترغيب والتحبيب؛ على نحو ما صنع في الأمر بالأمانة والعدل ثم التحبيب فيها والترغيب: {ذلك خير وأحسن تأويلاً}.. ذلك خير لكم وأحسن مآلاً. خير في الدنيا وخير في الآخرة. وأحسن مآلاً في الدنيا وأحسن مآلاً في الآخرة كذلك.. فليست المسألة أن اتباع هذا المنهج يؤدي إلى رضاء الله وثواب الآخرة- وهو أمر هائل، عظيم- ولكنه كذلك يحقق خير الدنيا وحسن مآل الفرد والجماعة في هذه الحياة القريبة. إن هذا المنهج معناه: أن يستمتع «الإنسان» بمزايا منهج يضعه له الله.. الله الصانع الحكيم العليم البصير الخبير.. منهج بريء من جهل الإنسان وهوى الإنسان، وضعف الإنسان، وشهوة الإنسان. منهج لا محاباة فيه لفرد، ولا لطبقة، ولا لشعب، ولا لجنس، ولا لجيل من البشر على جيل.. لأن الله رب الجميع، ولا تخالجه- سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً- شهوة المحاباة لفرد، أو طبقة، أو شعب، أو جنس، أو جيل. ومنهج من مزاياه، أن صانعه هو صانع هذا الإنسان.. الذي يعلم حقيقة فطرته، والحاجات الحقيقية لهذه الفطرة، كما يعلم منحنيات نفسه ودروبها؛ ووسائل خطابها وإصلاحها، فلا يخبط- سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً- في تيه التجارب بحثاً عن منهج يوافق. ولا يكلف البشر ثمن هذه التجارب القاسية، حين يخبطون هم في التيه بلا دليل! وحسبهم أن يجربوا في ميدان الإبداع المادي ما يشاءون، فهو مجال فسيح جد فسيح للعقل البشري. وحسبهم كذلك أن يحاول هذا العقل تطبيق ذلك المنهج؛ ويدرك مواضع القياس والاجتهاد فيما تتنازع فيه العقول. ومنهج من مزاياه أن صانعه هو صانع هذا الكون، الذي يعيش فيه الإنسان. فهو يضمن للإنسان منهجاً تتلاءم قواعده مع نواميس الكون؛ فلا يروح يعارك هذه النواميس. بل يروح يتعرف إليها، ويصادقها، وينتفع بها.. والمنهج يهديه في هذا كله ويحميه. ومنهج من مزاياه أنه- في الوقت الذي يهدي فيه الإنسان ويحميه- يكرمه ويحترمه ويجعل لعقله مكاناً للعمل في المنهج.. مكان الاجتهاد في فهم النصوص الواردة. ثم الاجتهاد في رد ما لم يرد فيه نص إلى النصوص أو إلى المبادئ العامة للدين.. ذلك إلى المجال الأصيل، الذي يحكمه العقل البشري، ويعلن فيه سيادته الكاملة: ميدان البحث العلمي في الكون؛ والإبداع المادي فيه.. {ذلك خير وأحسن تأويلاً}.. وصدق الله العظيم: وحين ينتهي السياق من تقرير هذه القاعدة الكلية، في شرط الإيمان وحد الإسلام، وفي النظام الأساسي للأمة المسلمة، وفي منهج تشريعها وأصوله.. يلتفت إلى الذين ينحرفون عن هذه القاعدة؛ ثم يزعمون- بعد ذلك- أنهم مؤمنون! وهم ينقضون شرط الإيمان وحد الإسلام. إذ يريدون أن يتحاكموا إلى غير شريعة الله.. {إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به}.. يلتفت إليهم ليعجب من أمرهم ويستنكر.. وليحذرهم- وأمثالهم- من إرادة الشيطان بهم الضلال. ويصف حالهم حين يدعون إلى ما أنزل الله وإلى الرسول فيصدون. ويعتبر هذا الصدود نفاقاً. كما اعتبر إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت خروجاً من الإيمان- بل وعدم دخول فيه ابتداء- كما يصف معاذيرهم الواهية الكاذبة في اتباع هذه الخطة المستنكرة؛ حين تجر عليهم الوبال والنكال.. ومع هذا كله فهو يوجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى النصح لهم وموعظتهم.. ويختم المقطع كله ببيان ما أراده الله- سبحانه- من إرسال الرسل. . وهو أن يطاعوا.. ثم بنص صريح جازم في شرط الإيمان وحد الإسلام مرة أخرى.. {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت- وقد أمروا أن يكفروا به- ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً. وإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً. فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم، ثم جاءوك، يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً. أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم. فأعرض عنهم، وعظهم، وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً. وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله. ولو أنهم- إذ ظلموا أنفسهم- جاءوك، فاستغفروا الله، واستغفر لهم الرسول، لوجدوا الله تواباً رحيماً.. فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم. ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت؛ ويسلموا تسليماً}.. إن هذا التصوير لهذه المجموعة التي تصفها النصوص، يوحي بأن هذا كان في أوائل العهد بالهجرة. يوم كان للنفاق صولة؛ وكان لليهود- الذين يتبادلون التعاون مع المنافقين- قوة.. وهؤلاء الذين يريدون أن يتحاكموا إلى غير شريعة الله- إلى الطاغوت- قد يكونون جماعة من المنافقين- كما صرح بوصفهم في الآية الثانية من هذه المجموعة- وقد يكونون جماعة من اليهود الذين كانوا يُدعَوْن- حين تجدّ لهم أقضية مع بعضهم البعض أو أهل المدينة- إلى التحاكم إلى كتاب الله فيها.. التوراة أحياناً، وإلى حكم الرسول أحيانا- كما وقع في بعض الأقضية- فيرفضون ويتحاكمون إلى العرف الجاهلي الذي كان سائداً.. ولكننا نرجح الفرض الأول لقوله فيهم: {يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}.. واليهود لم يكونوا يسلمون أو يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول. إنما كان المنافقون هم الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله (كما هو مقتضى العقيدة الإسلامية من الإيمان بالرسل كلهم). وهذا لم يكن يقع إلا في السنوات الأولى للهجرة. قبل أن تخضد شوكة اليهود في بني قريظة وفي خيبر. وقبل أن يتضاءل شأن المنافقين بانتهاء شأن اليهود في المدينة! على أية حال نحن نجد في هذه المجموعة من الآيات، تحديداً كاملاً دقيقاً حاسماً لشرط الإيمان وحد الإسلام، ونجد شهادة من الله بعدم إيمان الذين {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت} {وقد أمروا أن يكفروا به} كما نجد قسماً من الله سبحانه- بذاته العلية- أنهم لا يدخلون في الإيمان؛ ولا يحسبون مؤمنين حتى يحكموا الرسول- صلى الله عليه وسلم- في أقضيتهم. ثم يطيعوا حكمه، وينفذوا قضاءه. طاعة الرضى، وتنفيذ الارتياح القلبي؛ الذي هو التسليم، لا عجزاً واضطراراً. ولكن طمأنينة وارتضاء.. {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت- وقد أمروا أن يكفروا به- ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً}.. ألم تر إلى هذا العجب العاجب.. قوم.. يزعمون.. الإيمان. ثم يهدمون هذا الزعم في آن؟! قوم {يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}. ثم لا يتحاكمون إلى ما أنزل إليك وما أنزل من قبلك؟ إنما يريدون أن يتحاكموا إلى شيء آخر، وإلى منهج آخر، وإلى حكم آخر.. يريدون أن يتحاكموا إلى.. الطاغوت.. الذي لا يستمد مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. ولا ضابط له ولا ميزان، مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك.. ومن ثم فهو.. طاغوت.. طاغوت بادعائه خاصية من خواص الألوهية. وطاغوت بأنه لا يقف عند ميزان مضبوط أيضاً! وهم لا يفعلون هذا عن جهل، ولا عن ظن.. إنما هم يعلمون يقيناً ويعرفون تماماً، أن هذا الطاغوت محرم التحاكم إليه: {وقد أمروا أن يكفروا به}.. فليس في الأمر جهالة ولا ظن. بل هو العمد والقصد. ومن ثم لا يستقيم ذلك الزعم. زعم أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك! إنما هو الشيطان الذي يريد بهم الضلال الذي لا يرجى منه مآب.. {ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً}.. فهذه هي العلة الكامنة وراء إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت. وهذا هو الدافع الذي يدفعهم إلى الخروج من حد الإيمان وشرطه بإرادتهم التحاكم إلى الطاغوت! هذا هو الدافع يكشفه لهم. لعلهم يتنبهون فيرجعوا. ويكشفه للجماعة المسلمة، لتعرف من يحرك هؤلاء ويقف وراءهم كذلك. ويمضي السياق في وصف حالهم إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله إلى الرسول وما أنزل من قبله.. ذلك الذي يزعمون أنهم آمنوا به: {وإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً}. يا سبحان الله! إن النفاق يأبى إلا أن يكشف نفسه! ويأبى إلا أن يناقض بديهيات المنطق الفطري.. وإلا ما كان نفاقاً.. إن المقتضى الفطري البديهي للإيمان، أن يتحاكم الإنسان إلى ما آمن به، وإلى من آمن به. فإذا زعم أنه آمن بالله وما أنزل، وبالرسول وما أنزل إليه. ثم دعي إلى هذا الذي آمن، به ليتحاكم إلى أمره وشرعه ومنهجه؛ كانت التلبية الكاملة هي البديهية الفطرية. فأما حين يصد ويأبى فهو يخالف البديهية الفطرية. ويكشف عن النفاق. وينبئ عن كذب الزعم الذي زعمه من الإيمان! وإلى هذه البديهية الفطرية يحاكم الله- سبحانه- أولئك الذين يزعمون الإيمان بالله ورسوله. ثم لا يتحاكمون إلى منهج الله ورسوله. بل يصدون عن ذلك المنهج حين يدعون إليه صدوداً! ثم يعرض مظهراً من مظاهر النفاق في سلوكهم؛ حين يقعون في ورطة أو كارثة بسبب عدم تلبيتهم للدعوة إلى ما أنزل الله وإلى الرسول؛ أو بسبب ميلهم إلى التحاكم إلى الطاغوت. ومعاذيرهم عند ذلك. وهي معاذير النفاق: {فكيف إذا أصابتهم مصيبة- بما قدمت أيديهم- ثم جاءوك يحلفون بالله: إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً}.. وهذه المصيبة قد تصيبهم بسبب انكشاف أمرهم في وسط الجماعة المسلمة- يومذاك- حيث يصبحون معرضين للنبذ والمقاطعة والازدراء في الوسط المسلم. فما يطيق المجتمع المسلم أن يرى من بينه ناساً يزعمون أنهم آمنوا بالله وما أنزل، وبالرسول وما أنزل إليه؛ ثم يميلون إلى التحاكم لغير شريعة الله؛ أو يصدون حين يدعون إلى التحاكم إليها.. إنما يقبل مثل هذا في مجتمع لا إسلام له ولا إيمان. وكل ما له من الإيمان زعم كزعم هؤلاء؛ وكل ما له من الإسلام دعوى وأسماء! أو قد تصيبهم المصيبة من ظلم يقع بهم؛ نتيجة التحاكم إلى غير نظام الله العادل؛ ويعودون بالخيبة والندامة من الاحتكام إلى الطاغوت؛ في قضية من قضاياهم. أو قد تصيبهم المصيبة ابتلاء من الله لهم. لعلهم يتفكرون ويهتدون.. وأياً ما كان سبب المصيبة؛ فالنص القرآني، يسأل مستنكراً: فكيف يكون الحال حينئذ! كيف يعودون إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم-: {يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً}.. إنها حال مخزية.. حين يعودون شاعرين بما فعلوا.. غير قادرين على مواجهة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بحقيقة دوافعهم. وفي الوقت ذاته يحلفون كاذبين: أنهم ما أرادوا بالتحاكم إلى الطاغوت- وقد يكون هنا هو عرف الجاهلية- إلا رغبة في الإحسان والتوفيق! وهي دائماً دعوى كل من يحيدون عن الاحتكام إلى منهج الله وشريعته: أنهم يريدون اتقاء الإشكالات والمتاعب والمصاعب، التي تنشأ من الاحتكام إلى شريعة الله! ويريدون التوفيق بين العناصر المختلفة والاتجاهات المختلفة والعقائد المختلفة.. إنها حجة الذين يزعمون الإيمان- وهم غير مؤمنين- وحجة المنافقين الملتوين.. هي هي دائماً وفي كل حين! والله- سبحانه- يكشف عنهم هذا الرداء المستعار. ويخبر رسوله- صلى الله عليه وسلم- أنه يعلم حقيقة ما تنطوي عليه جوانحهم. ومع هذا يوجهه إلى أخذهم بالرفق، والنصح لهم بالكف عن هذا الالتواء: {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم. فأعرض عنهم وعظهم، وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً}.. أولئك الذين يخفون حقيقة نواياهم وبواعثهم؛ ويحتجون بهذه الحجج، ويعتذرون بهذه المعاذير. والله يعلم خبايا الضمائر ومكنونات الصدور.. ولكن السياسة التي كانت متبعة- في ذلك الوقت- مع المنافقين كانت هي الإغضاء عنهم، وأخذهم بالرفق، واطراد الموعظة والتعليم.. والتعبير العجيب: {وقل لهم.. في أنفسهم. . قولاً بليغاً}. تعبير مصور.. كأنما القول يودع مباشرة في الأنفس، ويستقر مباشرة في القلوب. وهو يرغبهم في العودة والتوبة والاستقامة والاطمئنان إلى كنف الله وكنف رسوله.. بعد كل ما بدا منهم من الميل إلى الاحتكام إلى الطاغوت؛ ومن الصدود عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- حين يدعون إلى التحاكم إلى الله والرسول.. فالتوبة بابها مفتوح، والعودة إلى الله لم يفت أوانها بعد؛ واستغفارهم الله من الذنب، واستغفار الرسول لهم، فيه القبول! ولكنه قبل هذا كله يقرر القاعدة الأساسية: وهي أن الله قد أرسل رسله ليطاعوا- بإذنه- لا ليخالف عن أمرهم. ولا ليكونوا مجرد وعاظ! ومجرد مرشدين! {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله. ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك، فاستغفروا الله، واستغفر لهم الرسول، لوجدوا الله تواباً رحيماً}. وهذه حقيقة لها وزنها.. إن الرسول ليس مجرد «واعظ» يلقي كلمته ويمضي. لتذهب في الهواء- بلا سلطان- كما يقول المخادعون عن طبيعة الدين وطبيعة الرسل؛ أو كما يفهم الذين لا يفهمون مدلول «الدين». إن الدين منهج حياة. منهج حياة واقعية. بتشكيلاتها وتنظيماتها، وأوضاعها، وقيمها، وأخلاقها وآدابها. وعباداتها وشعائرها كذلك. وهذا كله يقضي أن يكون للرسالة سلطان. سلطان يحقق المنهج، وتخضع له النفوس خضوع طاعة وتنفيذ.. والله أرسل رسله ليطاعوا- بإذنه وفي حدود شرعه- في تحقيق منهج الدين. منهج الله الذي أراده لتصريف هذه الحياة. وما من رسول إلا أرسله الله، ليطاع، بإذن الله. فتكون طاعته طاعة لله.. ولم يرسل الرسل لمجرد التأثر الوجداني، والشعائر التعبدية.. فهذا وهم في فهم الدين؛ لا يستقيم مع حكمة الله من إرسال الرسل. وهي إقامة منهج معين للحياة، في واقع الحياة.. وإلا فما أهون دنيا كل وظيفة الرسول فيها أن يقف واعظاً. لا يعنيه إلا أن يقول كلمته ويمضي. يستهتر بها المستهترون، ويبتذلها المبتذلون!!! ومن هنا كان تاريخ الإسلام كما كان.. كان دعوة وبلاغاً. ونظاماً وحكماً. وخلافة بعد ذلك عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تقوم بقوة الشريعة والنظام، على تنفيذ الشريعة والنظام. لتحقيق الطاعة الدائمة للرسول. وتحقيق إرادة الله من إرسال الرسول. وليست هنالك صورة أخرى يقال لها: الإسلام. أو يقال لها: الدين. إلا أن تكون طاعة للرسول، محققة في وضع وفي تنظيم. ثم تختلف أشكال هذا الوضع ما تختلف؛ ويبقى أصلها الثابت. وحقيقتها التي لا توجد بغيرها.. استسلام لمنهج الله، وتحقيق لمنهج رسول الله. وتحاكم إلى شريعة الله. وطاعة للرسول فيما بلغ عن الله، وإفراد لله- سبحانه- بالألوهية (شهادة أن لا إله إلا الله) ومن ثم إفراده بالحاكمية التي تجعل التشريع ابتداء حقاً لله، لا يشاركه فيه سواه. وعدم احتكام إلى الطاغوت. في كثير ولا قليل. والرجوع إلى الله والرسول، فيما لم يرد فيه نص من القضايا المستجدة، والأحوال الطارئه؛ حين تختلف فيه العقول.. وأمام الذين {ظلموا أنفسهم} بميلهم عن هذا المنهج، الفرصة التي دعا الله المنافقين إليها على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم- ورغبهم فيها.. {ولو أنهم- إذ ظلموا أنفسهم- جاءوك، فاستغفروا الله، واستغفر لهم الرسول، لوجدوا الله تواباً رحيماً}.. والله تواب في كل وقت على من يتوب. والله رحيم في كل وقت على من يؤوب. وهو- سبحانه- يصف نفسه بصفته. ويعد العائدين إليه، المستغفرين من الذنب، قبول التوبة وإفاضة الرحمة.. والذين يتناولهم هذا النص ابتداء، كان لديهم فرصة استغفار الرسول- صلى الله عليه وسلم- وقد انقضت فرصتها. وبقي باب الله مفتوحاً لا يغلق. ووعده قائماً لا ينقض. فمن أراد فليقدم. ومن عزم فليتقدم.. وأخيراً يجيء ذلك الإيقاع الحاسم الجازم. إذ يقسم الله- سبحانه- بذاته العلية، أنه لا يؤمن مؤمن، حتى يحكم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في أمره كله. ثم يمضي راضياً بحكمه، مسلماً بقضائه. ليس في صدره حرج منه، ولا في نفسه تلجلج في قبوله: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم. ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت، ويسلموا تسليماً}.. ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحدّ الإسلام. يقرره الله سبحانه بنفسه. ويقسم عليه بذاته. فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحد الإسلام، ولا تأويل لمؤول. اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام.. وهي أن هذا القول مرهون بزمان، وموقوف على طائفة من الناس! وهذا قول من لا يدرك من الإسلام شيئاً؛ ولا يفقه من التعبير القرآني قليلاً ولا كثيراً. فهذه حقيقة كلية من حقائق الإسلام؛ جاءت في صورة قسم مؤكد؛ مطلقة من كل قيد.. وليس هناك مجال للوهم أو الإيهام بأن تحكيم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو تحكيم شخصه. إنما هو تحكيم شريعته ومنهجه. وإلا لم يبق لشريعة الله وسنة رسوله مكان بعد وفاته- صلى الله عليه وسلم- وذلك قول أشد المرتدين ارتداداً على عهد أبي بكر- رضي الله عنه- وهو الذي قاتلهم عليه قتال المرتدين. بل قاتلهم على ما هو دونه بكثير. وهو مجرد عدم الطاعة لله ورسوله، في حكم الزكاة؛ وعدم قبول حكم رسول الله فيها، بعد الوفاة! وإذا كان يكفي لإثبات «الإسلام» أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله.. فانه لا يكفي في «الإيمان» هذا، ما لم يصحبه الرضى النفسي، والقبول القلبي، وإسلام القلب والجنان، في اطمئنان! هذا هو الإسلام. . وهذا هو الإيمان.. فلتنظر نفس أين هي من الإسلام؛ وأين هي من الإيمان! قبل ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان! وبعد أن يقرر أن لا إيمان قبل تحكيم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقبل الرضى والتسليم بقضائه، يعود ليقول: إن هذا المنهج الذي يدعون إليه؛ وهذه الشريعة التي يقال لهم: تحاكموا إليها- لا لسواها- وهذا القضاء الذي يتحتم عليهم قبوله والرضاء به... إنه منهج ميسر، وشريعة سمحة، وقضاء رحيم.. إنه لا يكلفهم شيئاً فوق طاقتهم؛ ولا يكلفهم عنتاً يشق عليهم؛ ولا يكلفهم التضحية بعزيز عليهم.. فالله يعلم ضعف الإنسان؛ ويرحم هذا الضعف. والله يعلم أنهم لو كلفوا تكاليف شاقة، ما أداها إلا قليل منهم.. وهو لا يريد لهم العنت، ولا يريد لهم أن يقعوا في المعصية.. ومن ثم لم يكتب عليهم ما يشق، وما يدعو الكثيرين منهم للتقصير والمعصية. ولو أنهم استجابوا للتكاليف اليسيرة التي كتبها الله عليهم؛ واستمعوا للموعظة التي يعظهم الله بها؛ لنالوا خيراً عظيماً في الدنيا والآخرة؛ ولأعانهم الله بالهدى، كما يعين كل من يجاهد للهدى بالعزم والقصد والعمل والإرادة، في حدود الطاقة: {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم، أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه- إلا قليل منهم- ولو أنهم فعلوا ما يوعظون، به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتا؛ وإذن لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً؛ ولهديناهم صراطاً مستقيماً}.. إن هذا المنهج ميسر لينهض به كل ذي فطرة سوية. إنه لا يحتاج للعزائم الخارقة الفائقة، التي لا توجد عادة إلا في القلة من البشر. وهذا الدين لم يجئ لهذه القلة القليلة. إنه جاء للناس جميعاً. والناس معادن، وألوان، وطبقات. من ناحية القدرة على النهوض بالتكاليف. وهذا الدين ييسر لهم جميعاً أن يؤدوا الطاعات المطلوبة فيه، وأن يكفوا عن المعاصي التي نهى عنها. وقتل النفس، والخروج من الديار.. مثلان للتكاليف الشاقة، التي لو كتبت عليهم ما فعلها إلا قليل منهم. وهي لم تكتب لأنه ليس المراد من التكاليف أن يعجز عنها عامة الناس؛ وأن ينكل عنها عامة الناس. بل المراد أن يؤديها الجميع، وأن يقدر عليها الجميع، وأن يشمل موكب الإيمان كل النفوس السوية العادية؛ وأن ينتظم المجتمع المسلم طبقات النفوس، وطبقات الهمم، وطبقات الاستعدادات؛ وأن ينميها جميعاً ويرقيها، في أثناء سير الموكب الحافل الشامل العريض! قال ابن جريج: حدثنا المثنى إسحاق أبو الأزهر، عن إسماعيل، «عن أبي إسحاق السبيعي قال: لما نزلت: {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم}... الآية: قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا.. فبلغ ذلك النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: إن من أمتي لرجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي». وروى ابن أبي حاتم- بإسناده- عن مصعب بن ثابت. عن عمه «عامر بن عبدالله بن الزبير. قال: لما نزلت {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم} قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم». وفي رواية له- بإسناده- «عن شريح بن عبيد: قال: لما تلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم...} الآية، أشار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بيده إلى عبدالله ابن رواحة، فقال: لو أن الله كتب هذا، لكان هذا من أولئك القليل». وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعرف رجاله معرفة وثيقة عميقة دقيقة؛ ويعرف من خصائص كل منهم ما لا يعرفه كل منهم عن نفسه! وفي السيرة من هذا الكثير من الشواهد على خبرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بكل واحد من رجاله؛ وخبرته كذلك بالرجال والقبائل التي كانت تحاربه.. خبرة القائد البصير بكل ما حوله ومن حوله.. في دقة عجيبة.. لم تدرس بعد الدراسة الواجبة. وليس هذا موضوعنا. ولكن موضوعنا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يعرف أن في أمته من ينهض بالتكاليف الشاقة لو كتبت عليهم. ولكنه كان يعرف كذلك أن الدين لم يجئ لهذه القلة الممتازة في البشرية كلها. وكان الله- سبحانه- يعلم طبيعة هذا «الإنسان» الذي خلقه؛ وحدود طاقته؛ فلم يكتب على الناس في الدين الذي جاء للبشر أجمعين، إلا ما هو ميسر للجميع؛ حين تصح العزيمة، وتعتدل الفطرة، وينوي العبد الطاعة، ولا يستهتر ولا يستهين. وتقرير هذه الحقيقة ذو أهمية خاصة؛ في مواجهة الدعوات الهدامة؛ التي تدعو الإنسان إلى الانحلال والحيوانية، والتلبط في الوحل كالدود! بحجة أن هذا هو «واقع» الإنسان، وطبيعته وفطرته وحدود طاقته! وأن الدين دعوة «مثالية» لم تجئ لتحقق في واقع الأرض؛ وإذا نهض بتكاليفها فرد، فإن مائة لا يطيقون! هذه دعوى كاذبة أولاً؛ وخادعة ثانياً؛ وجاهلة ثالثاً.. لأنها لا تفهم «الإنسان» ولا تعلم منه ما يعلمه خالقه، الذي فرض عليه تكاليف الدين؛ وهو يعلم- سبحانه- أنها داخلة في مقدور الإنسان العادي. لأن الدين لم يجئ للقلائل الممتازين! وإن هي إلا العزيمة- عزيمة الفرد العادي- وإخلاص النية. والبدء في الطريق. وعندئذ يكون ما يعد الله به العاملين: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً. وإذا لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً. ولهديناهم صراطاً مستقيماً}.. فمجرد البدء، يتبعه العون من الله. ويتبعه التثبيت على المضي في الطريق. ويتبعه الأجر العظيم. وتتبعه الهداية إلى الطريق المستقيم.. وصدق الله العظيم.. فما يخدع الله- سبحانه وتعالى- عباده؛ ولا يعدهم وعداً لا يفي لهم به؛ ولا يحدثهم إلا حديث الصدق.. {ومن أصدق من الله حديثاً} في الوقت ذاته ليس اليسر- في هذا المنهج- هو الترخص. ليس هو تجميع الرخص كلها في هذا الدين وجعلها منهج الحياة. فهذا الدين عزائم ورخص. والعزائم هي الأصل والرخص للملابسات الطارئة.. وبعض المخلصين حسني النية، الذين يريدون دعوة الناس إلى هذا الدين، يعمدون إلى «الرخص» فيجمعونها ويقدمونها للناس، على أنها هي هذا الدين. ويقولون لهم: انظروا كم هو ميسر هذا الدين! وبعض الذين يتملقون شهوات السلطان أو شهوات الجماهير، يبحثون عن «منافذ» لهذه الشهوات من خلال الأحكام والنصوص؛ ويجعلون هذه المنافذ هي الدين! وهذا الدين ليس هذا وليس ذاك. إنما هو بجملته. برخصه وعزائمه. ميسر للناس يقدر عليه الفرد العادي، حين يعزم. ويبلغ فيه تمام كماله الذاتي- في حدود بشريته- كما يبلغ تمام كماله الذاتي في الحديقة الواحدة: العنب والخوخ والكمثرى والتوت والتين والقثاء.. ولا تكون كلها ذات طعم واحد.. ولا يقال عن أحدها: إنه غير ناضج- حين يبلغ نضجه الذاتي- إذا كان طعمه أقل مرتبة من النوع الآخر! في حديقة هذا الدين ينبت البقل والقثاء؛ وينبت الزيتون والرمان، وينبت التفاح والبرقوق، وينبت العنب والتين... وينضج كله؛ مختلفة طعومه ورتبه... ولكنه كله ينضج. ويبلغ كماله المقدر له.. إنها زرعة الله.. في حقل الله.. برعاية الله.. وتيسير الله.. وفي نهاية هذه الجولة، ونهاية هذا الدرس، يعود السياق إلى الترغيب؛ واستجاشة القلوب؛ والتلويح للأرواح بالمتاع الحبيب.. متاع الصحبة في الآخرة للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين. {ومن يطع الله والرسول، فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً! ذلك الفضل من الله، وكفى بالله عليماً}.. إنها اللمسة التي تستجيش مشاعر كل قلب، فيه ذرة من خير؛ وفيه بذرة من صلاح وفيه أثارة من التطلع إلى مقام كريم في صحبة كريمة، في جوار الله الكريم.. وهذه الصحبة لهذا الرهط العلوي.. إنما هي من فضل الله. فما يبلغ إنسان بعمله وحده وطاعته وحدها أن ينالها.. إنما هو الفضل الواسع الغامر الفائض العميم. ويحسن هنا أن نعيش لحظات مع صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهم يتشوقون إلى صحبته في الآخرة؛ وفيهم من يبلغ به الوجد ألا يمسك نفسه عند تصور فراقه.. وهو- صلى الله عليه وسلم- بين ظهرانيهم. فتنزل هذه الآية: فتندي هذا الوجد؛ وتبل هذه اللهفة. . الوجد النبيل. واللهفة الشفيفة: قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب السقمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، «عن سعيد بن جبير. قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو محزون فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم-:» يا فلان. ما لي أراك محزوناً؟ «فقال: يا نبي الله. شيء فكرت فيه. فقال:» ما هو؟ «قال: نحن نغدو عليك ونروح. ننظر إلى وجهك، ونجالسك. وغداً ترفع مع النبيين، فلا نصل إليك.. فلم يرد عليه النبي- صلى الله عليه وسلم- شيئاً. فأتاه جبريل بهذه الآية: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين}.. الآية، فبعث النبي- صلى الله عليه وسلم- فبشره». «وقد رواه أبو بكر بن مردويه مرفوعاً- بإسناده- عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: جاء رجل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله. إنك أحب إليّ من نفسي، وأحب إليّ من أهلي، وأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت، فأذكرك، فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك. وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلتُ الجنة خشيت ألا أراك. فلم يرد عليه النبي- صلى الله عليه وسلم- حتى نزلت: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً}..» وفي صحيح مسلم من حديث عقل بن زياد، عن الأوزاعي، عن يحيى بن كثير، عن أبى سلمة بن عبد الرحمن، «عن ربيعة بن كعب الأسلمي، أنه قال: كنت أبيت عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأتيته بوضوئه وحاجته. فقال لي:» سل «. فقلت يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة. فقال:» أو غير ذلك «. قلت: هو ذاك. قال: فأعنّي على نفسك بكثرة السجود». «وفي صحيح البخاري من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال:» المرء مع من أحب «.. قال أنس: فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث». لقد كان الأمر يشغل قلوبهم وأرواحهم.. أمر الصحبة في الآخرة.. وقد ذاقوا طعم الصحبة في الدنيا! وإنه لأمر يشغل كل قلب ذاق محبة هذا الرسول الكريم.. وفي الحديث الأخير أمل وطمأنينة ونور...
|