الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)} في هذه الموجة من موجات السياق المتدفق في السورة، يتجه الحديث إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يطيب الله- سبحانه- خاطره في أوله، مما يلاقيه من تكذيب قومه له، وهو الصادق الأمين، فإنهم لا يظنون به الكذب، إنما هم مصرون على الجحود بآيات الله وعدم الاعتراف بها وعدم الإيمان، لأمر آخر غير ظنهم به الكذب! كما يواسيه بما وقع لإخوانه الرسل قبله من التكذيب والأذى، وما وقع منهم من الصبر والاحتمال، ثم ما انتهى إليه أمرهم من نصر الله لهم. وفق سنته التي لا تتبدل.. حتى إذا انتهى من المواساة والتسرية والتطمين، التفت إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- يقرر له الحقيقية الكبرى في شأن هذه الدعوة.. إنها تجري بقدر الله وفق سنته، وليس للداعية فيها إلا التبليغ والبيان.. إن الله هو الذي يتصرف في الأمر كله، فليس على الداعية إلا أن يمضي وفق هذا الأمر، لا يستعجل خطوة ولا يقترح على الله شيئاً. حتى ولو كان هو النبي الرسول! ولا يستمع إلى مقترحات المكذبين- ولا الناس عامة- في منهج الدعوة، ولا في اقتراح براهين وآيات معينة عليه.. والأحياء الذين يسمعون سيستجيبون، أما موتى القلوب فهم موتى لا يستجيبون، والأمر إلى الله إن شاء أحياهم وإن شاء أبقاهم موتى حتى يرجعوا إليه يوم القيامة. وهم يطلبون آية خارقة على نحو ما كان يقع للأقوام من قبلهم، والله قادر على أن ينزل آية. ولكنه سبحانه لا يريد- لحكمة يراها- فإذا كبر على الرسول إعراضهم فليحاول هو إذن بجهده البشري أن يأتيهم بآية!.. إن الله- سبحانه- هو خالق الخلائق جميعاً، وعنده أسرار خلقهم، وحكمة اختلاف خصائصهم وطباعهم. وهو يترك المكذبين من البشر صماً وبكماً في الظلمات، ويضل من يشاء ويهدي من يشاء وفق ما يعلمه من حكمة الخلق والتنويع.. {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون. فإنهم لا يكذبونك. ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}.. إن مشركي العرب في جاهليتهم- وخاصة تلك الطبقة التي كانت تتصدى للدعوة من قريش- لم يكونوا يشكون في صدق محمد- صلى الله عليه وسلم- فلقد عرفوه صادقاً أميناً، ولم يعلموا عنه كذبة واحدة في حياته الطويلة بينهم قبل الرسالة، كذلك لم تكن تلك الطبقة التي تتزعم المعارضة لدعوته تشك في صدق رسالته، وفي أن هذا القرآن ليس من كلام البشر، ولا يملك البشر أن يأتوا بمثله.. ولكنهم- على الرغم من ذلك- كانوا يرفضون إظهار التصديق، ويرفضون الدخول في الدين الجديد! إنهم لم يرفضوا لأنهم يكذبون النبي- صلى الله عليه وسلم- ولكن لأن في دعوته خطراً على نفوذهم ومكانتهم. . وهذا هو السبب الذي من أجله قرروا الجحود بآيات الله، والبقاء على الشرك الذي كانوا فيه.. والأخبار التي تقرر الأسباب الحقيقية لموقف قريش هذا وحقيقة ظنهم بهذا القرآن كثيرة: قال ابن اسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري: أنه حُدِّث، أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه. وكل لا يعلم بمكان صاحبة. فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الصبح تفرقوا، فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائهم لأوقعتم في نفسه شيئاً. ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة. ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له. حتى إذا طلع الفجر تفرقوا. فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود. فتعاهدوا على ذلك.. ثم تفرقوا.. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه في بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف.. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه! قال: فقام عنه الأخنس وتركه.. وروى ابن جرير- من طريق أسباط عن السدي- في قوله: {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}.. لما كان يوم بدر، قال الأخنس بن شريق لبني زهرة: يا بني زهرة إن محمداً ابن أختكم، فأنتم أحق من ذب عن ابن أخته، فإن كان نبياً لم تقاتلوه اليوم، وإن كان كاذباً كنتم أحق من كف عن ابن أخته. قفوا حتى ألقى أبا الحكم، فإن غَلب محمد رجعتم سالمين، وإن غُلب محمد فإن قومكم لن يصنعوا بكم شيئاً- فيومئذ سمي الأخنس وكان اسمه أُبي- فالتقى الأخنس بأبي جهل، فخلا به، فقال: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد: أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ها هنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا! فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}. ونلاحظ: أن السورة مكية، وهذه الآية مكية لا شك في ذلك؛ بينما الحادثة المذكورة كانت في المدينة يوم بدر.. ولكن إذا عرفنا أنهم كانوا يقولون أحياناً عن آية ما: «فذلك قوله: كذا..» ويقرنون إليها حادثاً ما لا للنص على أنها نزلت بسبب الحادث الذي يذكرونه؛ ولكن بسبب انطباق مدلولها على الحادث، بغض النظر عما إذا كان سابقاً أو لاحقاً.. فإننا لا نستغرب هذه الرواية.. وقال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن زياد، «عن محمد بن كعب القرظي، قال: حُدِّثت أن عتبة بن ربيعة- وكان سيداً- قال يوماً وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟- وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه، ورأوا أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يزيدون ويكثرون- فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا ابن أخي. إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة، والمكان في النسب. وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم. فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:» قل: يا أبا الوليد أسمع «قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء، وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه.. أو كما قال.. حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستمع منه- قال:» أفرغت يا أبا الوليد؟ «قال: نعم. قال:» فاستمع مني «. قال: أفعل. قال:» بسم الله الرحمن الرحيم: حم. تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون. بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون.. «ثم مضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيها وهو يقرؤها عليه. فلما سمع عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره، معتمداً عليهما، يستمع منه، حتى انتهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السجدة منها فسجد. ثم قال:» قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك «.. فقام عتبة إلى أصحابه» فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به! فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي.. خلوا بين الرجل وما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه! قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم! وقد روى البغوي في تفسيره حديثاً- بإسناده- «عن جابر بن عبدالله- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مضى في قراءته إلى قوله: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود..} فأمسك عتبة على فيه، وناشده الرحم، ورجع إلى أهله، ولم يخرج إلى قريش، واحتبس عنهم.. إلى آخره.. ثم لما حدثوه في هذا قال: فأمسكت بفيه، وناشدته الرحم أن يكف. وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخشيت أن ينزل بكم العذاب». وقال ابن اسحاق: إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش- وكان ذا سن فيهم- وقد حضر الموسم. فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فاجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً. قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل، وأقم لنا رأياً نقل به، قال: بل أنتم فقولوا: أسمع. قالوا: نقول: كاهن! قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه! قالوا: فنقول: مجنون! قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته! قالوا: فنقول: شاعر! قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر! قالوا: فنقول: ساحر! قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم! قالوا: فما نقول يا أبا عبد الشمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل! وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: هو ساحر، جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. . فتفرقوا عنه بذلك. فجعلوا يجلسون بسبل الناس- حين قدموا الموسم- لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا له أمره! وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثورة، عن معمر، عن عبادة بن منصور، عن عكرمة: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له. فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام. فأتاه فقال له: أي عم! إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً! قال: لم؟ قال: يعطونكه، فإنك أتيت محمداً تتعرض لما قبله! (يريد الخبيث أن يثير كبرياءه من الناحية التي يعرف أنه أشد بها اعتزازاً!) قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالاً! قال: فقل فيه قولاً يعلم قومك أنك منكر لما قال، وأنك كاره له! قال: فماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن! والله ما يشبه الذي يقوله شيئاً من هذا. والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليحطم ما تحته. وإنه ليعلو وما يعلى. قال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه.. قال: فدعني حتى أفكر فيه.. فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثر. يؤثره عن غيره. فنزلت: {ذرني ومن خلقت وحيداً..} حتى بلغ: {عليها تسعة عشر} وفي رواية أخرى أن قريشاً قالت: لئن صبأ الوليد لتصبون قريش كلها! فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه! ثم دخل عليه.. وأنه قال- بعد التفكير الطويل- إنه سحر يؤثر. أما ترون أنه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه. فهذه الروايات كلها تبين أن هؤلاء المكذبين لم يكونوا يعتقدون أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يكذبهم فيما يبلغه لهم. وإنما هم كانوا مصرين على شركهم لمثل هذه الأسباب التي وردت بها الروايات، وما وراءها من السبب الرئيسي، وهو ما يتوقعونه من وراء هذه الدعوة من سلب السلطان المغتصب، الذي يزاولونه، وهو سلطان الله وحده. كما هو مدلول شهادة أن لا إله إله إلا الله التي يقوم عليها الإسلام. وهم كانوا يعرفون جيداً مدلولات لغتهم؛ وكانوا لا يريدون أن يسلموا بمدلول هذه الشهادة. وهو إنما يمثل ثورة كاملة على كل سلطان غير سلطان الله في حياة العباد.. وصدق الله العظيم: {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون. فإنهم لا يكذبونك، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}.. والظالمون في هذا الموضع هم المشركون. كما يغلب في التعبير القرآني الكريم. ويستطرد من تطييب خاطر الرسول- صلى الله عليه وسلم- وبيان الأسباب الحقيقية لموقف المكذبين منه ومن دعوته، ومن آيات الله الناطقة بصدقه وصدق ما جاء به.. يستطرد من هذا إلى تذكيره بما وقع لإخوانه الرسل قبله- وقد جاءه من أخبارهم في هذا القرآن- ثم ما كان منهم من الصبر والمضي في الطريق، حتى جاءهم نصر الله. ليقرر أن هذه هي سنة الدعوات التي لا تتبدل، ولا يغير منها اقتراحات المقترحين، كما أنها لا تستعجل مهما ينزل بالدعاة من الأذى والتكذيب والضيق: {ولقد كذبت رسل من قبلك، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا، ولا مبدل لكلمات الله، ولقد جاءك من نبأ المرسلين}.. إن موكب الدعوة إلى الله موغل في القدم، ضارب في شعاب الزمن، ماض في الطريق اللاحب، ماض في الخط الواصب.. مستقيم الخطى، ثابت الأقدام. يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل، ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعون، ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة، وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء.. والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد.. والعاقبة هي العاقبة، مهما طال الزمن ومهما طال الطريق.. إن نصر الله دائماً في نهاية الطريق: {ولقد كذبت رسل من قبلك، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا، ولا مبدل لكلمات الله، ولقد جاءك من نبأ المرسلين}.. كلمات يقولها الله- سبحانه- لرسوله- صلى الله عليه وسلم-.. كلمات للذكرى، وللتسرية وللمواساة، والتأسية.. وهي ترسم للدعاة إلى الله من بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طريقهم واضحاً، ودورهم محدداً، كما ترسم لهم متاعب الطريق وعقباته، ثم ما ينتظرهم بعد ذلك كله في نهاية الطريق... إنها تعلمهم أن سنة الله في الدعوات واحدة. كما أنها كذلك وحدة. وحدة لا تتجزأ.. دعوة تتلقاها الكثرة بالتكذيب، وتتلقى أصحابها بالأذى.. وصبر من الدعاة على التكذيب وصبر كذلك على الأذى.. وسنة تجري بالنصر في النهاية.. ولكنها تجيء في موعدها. لا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة الأبرياء الطيبين المخلصين يتلقون الأذى والتكذيب، ولا أن المجرمين الضالين والمضلين يقدرون على أذى المخلصين الأبرياء الطيبين! ولا يعجلها كذلك عن موعدها أن صاحب الدعوة المخلص المتجرد من ذاته ومن شهواته إنما يرغب في هداية قومه حباً في هدايتهم، ويأسى على ما هم فيه من ضلال وشقوة، وعلى ما ينتظرهم من دمار وعذاب في الدنيا والأخرة. . لا يعجلها عن موعدها شيء من ذلك كله. فإن الله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه. ولا مبدل لكلماته. سواء تعلقت هذه الكلمات بالنصر المحتوم، أم تعلقت بالأجل المرسوم. إنه الجد الصارم، والحسم الجازم، إلى جانب التطمين والتسرية والمواساة والتسلية.. ثم يبلغ الجد الصارم مداه، في مواجهة ما عساه يعتمل في نفس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الرغبة البشرية، المشتاقة إلى هداية قومه، المتطلعة إلى الاستجابة لما يطلبونه من آية لعلهم يهتدون. وهي الرغبة التي كانت تجيش في صدور بعض المسلمين في ذلك الحين، والتي تشير إليها آيات أخرى في السورة آتية في السياق. وهي رغبة بشرية طبيعية. ولكن في صدد الحسم في طبيعة هذه الدعوة ومنهجها ودور الرسل فيها، ودور الناس أجمعين، تجيء تلك المواجهة الشديدة في القرآن الكريم: {وإن كان كبر عليك إعراضهم، فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض، أو سلماً في السماء، فتأتيهم بآية! ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين. إنما يستجيب الذين يسمعون. والموتى يبعثهم الله، ثم إليه يرجعون}.. وإنه للهول الهائل ينسكب من خلال الكلمات الجليلة.. وما يملك الإنسان أن يدرك حقيقة هذا الأمر، إلا حين يستحضر في كيانه كله: أن هذه الكلمات موجهة من رب العالمين إلى نبيه الكريم.. النبي الصابر من أولي العزم من الرسل.. الذي لقي ما لقي من قومه صابراً محتسباً، لم يدع عليهم دعوة نوح- عليه السلام- وقد لقي منهم سنوات طويلة، ما يذهب بحلم الحليم! ... تلك سنتنا- يا محمد- فإن كان قد كبر عليك إعراضهم، وشق عليك تكذيبهم، وكنت ترغب في إتيانهم بآية.. إذن.. فإن استطعت فابتغ لك نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء، فأتهم بآية! ... إن هداهم لا يتوقف على أن تأتيهم بآية. فليس الذي ينقص هو الآية التي تدلهم على الحق فيما تقول.. ولو شاء الله لجمعهم على الهدى: إما بتكوين فطرتهم من الأصل على أن لا تعرف سوى الهدى- كالملائكة- وإما بتوجيه قلوبهم وجعلها قادرة على استقبال هذا الهدى والاستجابة إليه. وإما بإظهار خارقة تلوي أعناقهم جميعاً. وإما بغير هذه من الوسائل وكلها يقدر الله عليها. ولكنه سبحانه- لحكمته العليا الشاملة في الوجود كله- خلق هذا الخلق المسمى بالإنسان، لوظيفة معينة، تقتضي- في تدبيره العلوي الشامل- أن تكون له استعدادات معينة غير استعدادات الملائكة. من بينها التنوع في الاستعدادات، والتنوع في استقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان، والتنوع في الاستجابة لهذه الدلائل والموحيات. في حدود من القدرة على الاتجاه، بالقدر الذي يكون عدلاً معه تنوع الجزاء على الهدى والضلال.. لذلك لم يجمعهم الله على الهدى بأمر تكويني من عنده، ولكنه أمرهم بالهدى وترك لهم اختيار الطاعة أو المعصية، وتلقي الجزاء العادل في نهاية المطاف. . فاعلم ذلك ولا تكن مما يجهلونه. {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى. فلا تكونن من الجاهلين}. يا لهول الكلمة! ويا لحسم التوجيه! ولكنه المقام الذي يقتضي هول الكلمة وحسم التوجيه.. وبعد ذلك بيان للفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولمواقفهم المختلفة في مواجهة الهدى، الذي لا تنقصه البينة ولا ينقصه الدليل: {إنما يستجيب الذين يسمعون. والموتى يبعثهم الله. ثم إليه يرجعون}.. إن الناس يواجهون هذا الحق الذي جاءهم به الرسول من عند الله وهم فريقان: فريق حي، أجهزة الاستقبال الفطرية فيه حية، عاملة، مفتوحة.. وهؤلاء يستجيبون للهدى. فهو من القوة والوضوح والاصطلاح مع الفطرة والتلاقي معها إلى الحد الذي يكفي أن تسمعه، فتستجيب له: {إنما يستجيب الذين يسمعون}.. وفريق ميت، معطل الفطرة، لا يسمع ولا يستقبل، ومن ثم لا يتأثر ولا يستجيب.. ليس الذي ينقصه أن هذا الحق لا يحمل دليله- فدليله كامن فيه، ومتى بلغ إلى الفطرة وجدت فيها مصداقه، فاستجابت إليه حتماً- إنما الذي ينقص هذا الفريق من الناس هو حياة الفطرة، وقيام أجهزة الاستقبال فيها بمجرد التلقي! وهؤلاء لا حيلة فيهم للرسول، ولا مجال معهم للبرهان. إنما يتعلق أمرهم بمشيئة الله. إن شاء بعثهم إن علم منهم ما يستحق أن يحييهم، وإن شاء لم يبعثهم في هذه الحياة الدنيا، وبقوا أمواتاً بالحياة حتى يرجعوا إليه في الآخرة. {والموتى يبعثهم الله. ثم إليه يرجعون}.. هذه هي قصة الاستجابة وعدم الاستجابة! تكشف حقيقة الموقف كله، وتحدد واجب الرسول وعمله، وتترك الأمر كله لصاحب الأمر يقضي فيه بما يريد. ومن خطاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بهذه الحقيقة، ينتقل السياق إلى حكاية ما يطلبه المشركون من إنزال خارقة، وإلى بيان ما في هذا الطلب من الجهالة بسنة الله، ومن سوء إدراك لرحمته بهم ألا يستجيب لهذا الاقتراح الذي في أعقابه التدمير لهم لو أجيبوا إليه! ويعرض جانباً من دقة التدبير الإلهي وإحاطته بالأحياء جميعاً، يوحي بحكمة السنة الشاملة للأحياء جميعاً. وينتهي بتقرير ما وراء الهدى والضلال من أسرار وسنن تجري بها مشيئة الله طليقة. {وقالوا: لولا نزل عليه آية من ربه! قل: إن الله قادر على أن ينزل آية، ولكن أكثرهم لا يعلمون. وما من دابة في الأرض، ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء، ثم إلى ربهم يحشرون. والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات. من يشأ الله يضلله، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم}.. لقد كانوا يطلبون آية خارقة كالخوارق المادية التي صاحبت الرسالات السابقة، ولا يقنعون بآية القرآن الباقية، التي تخاطب الإدراك البشري الراشد، وتعلن عهد الرشد الإنساني، وتحترم هذا الرشد فتخاطبه هذا الخطاب الراقي؛ والتي لا تنتهي بانتهاء الجيل الذي يرى الخارقة المادية؛ بل تظل باقية تواجه الإدراك البشري بإعجازها إلى يوم القيامة. وكانوا يطلبون خارقة، ولا يفطنون إلى سنة الله في أخذ المكذبين بالدعوة بعد مجيء الخارقة، وإهلاكهم في الدنيا. ولا يدركون حكمة الله في عدم مجيئهم بهذه الخارقة، وهو يعلم أنهم سيجحدون بها بعد وقوعها- كما وقع في الأقوام قبلهم- فيحق عليهم الهلاك، بينما يريد الله أن يمهلهم ليؤمن منهم من يؤمن. فمن لم يؤمن استخرج الله من ظهره ذرية مؤمنة. ولا يشكرون نعمة الله عليهم في إمهالهم، وذلك بعدم الاستجابة لاقتراحهم، الذي لا يعلمون جرائره! والقرآن يذكر اقتراحهم هذا، ويعقب عليه بأن أكثرهم لا يعلمون ما وراءه ولا يعلمون حكمة الله في عدم الاستجابة، ويقرر قدرة الله على تنزيل الآية، ولكن حكمته هي التي تقتضي، ورحمته التي كتبها على نفسه هي التي تمنع البلاء: {وقالوا: لولا نزل عليه آية من ربه! قل: إن الله قادر على أن ينزل أية. ولكن أكثرهم لا يعلمون}. ويأخذ السياق القرآني طريقه إلى قلوبهم من مدخل آخر لطيف. ويوقظ فيها قوى الملاحظة والتدبر لما في الوجود حولهم من دلائل الهدى وموحيات الإيمان، لو تدبروه وعقلوه: {وما من دابة في الأرض، ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم، ما فرطنا في الكتاب من شيء، ثم إلى ربهم يحشرون}.. إن الناس ليسوا وحدهم في هذا الكون، حتى يكون وجودهم مصادفة، وحتى تكون حياتهم سدى! إن حولهم أحياء أخرى، كلها ذات أمر منتظم، يوحي بالقصد والتدبير والحكمة، ويوحي كذلك بوحدة الخالق، ووحدة التدبير الذي يأخذ به خلقه كله.. إنه ما من دابة تدب على الأرض- وهذا يشمل كل الأحياء من حشرات وهوام وزواحف وفقاريات- وما من طائر يطير بجناحيه في الهواء- وهذا يشمل كل طائر من طير أو حشرة غير ذلك من الكائنات الطائرة.. ما من خلق حي في هذه الأرض كلها إلا وهو ينتظم في أمة، ذات خصائص واحدة، وذات طريقة في الحياة واحدة كذلك.. شأنها في هذا شأن أمة الناس.. ما ترك الله شيئاً من خلقه بدون تدبير يشمله، وعلم يحصيه.. وفي النهاية تحشر الخلائق إلى ربها.. فيقضي في أمرها بما يشاء.. إن هذه الآية القصيرة- فوق تقريرها الحاسم في حقيقة الحياة والأحياء- لتهز القلب بما ترسم من آفاق الإشراف الشامل، والتدبير الواسع، والعلم المحيط، والقدرة القادرة، لله ذي الجلال.. وكل جانب من هذه الجوانب لا نملك التوسع في الحديث عنه حتى لا نخرج عن منهج الظلال، فنجاوزه إذن لنتمشى مع السياق. . إذ المقصود الأول هنا هو توجيه القلوب والعقول، إلى أن وجود هذه الخلائق بهذا النظام، وشمولها بهذا التدبير، وإحصاءها في علم الله، ثم حشرها إلى ربها في نهاية المطاف.. توجيه القلوب والعقول إلى ما في هذه الحقيقة الهائلة الدائمة من دلائل وأمارات، أكبر من الآيات والخوارق التي يراها جيل واحد من الناس! وتختم هذه الجولة- أو هذه الموجة- بتقرير ما وراء الهدى والضلال من مشيئة الله وسنته، وما يدلان عليه من فطرة الناس في حالات الهدى وحالات الضلال: {والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات. من يشأ الله يضلله، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم}.. وهو إعادة لتقرير الحقيقة التي مضت في هذه الجولة عن استجابة الذين يسمعون، وموت الذين لا يستجيبون. ولكن في صورة أخرى ومشهد آخر.. إن الذين كذبوا بآيات الله هذه المبثوثة في صفحات الوجود، وآياته الأخرى المسجلة في صفحات هذا القرآن، إنما كذبوا لأن أجهزة الاستقبال فيهم معطلة.. إنهم صم لا يسمعون، بكم لا يتكلمون، غارقون في الظلمات لا يبصرون! إنهم كذلك لا من ناحية التكوين الجثماني المادي. فإن لهم عيوناً وآذاناً وأفواهاً.. ولكن إدراكهم معطل، فكأنما هذه الحواس لا تستقبل ولا تنقل!.. وإنه لكذلك فهذه الآيات تحمل في ذاتها فاعليتها وإيقاعها وتأثيرها، لو أنها استقبلت وتلقاها الإدراك! وما يعرض عنها معرض إلا وقد فسدت فطرته، فلم يعد صالحاً لحياة الهدى، ولم يعد أهلاً لذلك المستوى الراقي من الحياة. ووراء ذلك كله مشيئة الله.. المشيئة الطليقة التي قضت أن يكون هذا الخلق المسمى بالإنسان على هذا الاستعداد المزدوج للهدى والضلال، عن اختيار وحكمة، لا عن اقتضاء أو إلزام.. وكذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم. بمشيئته تلك، التي تعين من يجاهد، وتضل من يعاند. ولا تظلم أحداً من العباد.. إن اتجاه الإنسان إلى طلب الهدى، أو اتجاهه إلى الضلال، كلاهما ينشأ من خلقته التي فطره الله عليها بمشيئته. فهذا الاتجاه وذاك مخلوق ابتداء بمشيئة الله. والنتائج التي تترتب على هذا الاتجاه وذاك من الاهتداء والضلال إنما ينشئها الله بمشيئته كذلك. فالمشيئة فاعلة ومطلقة. والحساب والجزاء إنما يقومان على اتجاه الإنسان. الذي يملكه، وإن كان الاستعداد للاتجاه المزدوج هو في الأصل من مشيئة الله.. والآن بعد الانتهاء من استعراض هذه الموجة من السياق، نقف وقفة قصيرة لاستخلاص عبرة التوجيه فيها لكافة أصحاب الدعوة إلى هذا الدين في كل جيل، فإن مدى التوجيه فيها يتجاوز المناسبة التاريخية الخاصة، وينسحب على جميع الأجيال، وجميع الدعاة، ويرسم منهجاً للدعوة إلى هذا الدين، لا يتقيد بالزمان والمكان. ونحن لا نملك هنا أن نفصل كل جوانب هذا المنهج، فنقف منه إذن عند معالم الطريق: إن طريق الدعوة إلى الله شاق، محفوف بالمكاره، ومع أن نصر الله للحق آت لا ريب فيه، إلا أن هذا النصر إنما يأتي في موعده الذي يقدره الله، وفق علمه وحكمته، وهو غيب لا يعلم موعده أحد- حتى ولا الرسول- والمشقة في هذا الطريق تنشأ من عاملين أساسيين: من التكذيب والإعراض اللذين تقابل بهما الدعوة في أول الأمر، والحرب والأذى اللذين يعلنان على الدعاة. . ثم من الرغبة البشرية في نفس الداعية في هداية الناس إلى الحق الذي تذوقه، وعرف طعمه، والحماسة للحق والرغبة في استعلانه! وهذه الرغبة لا تقل مشقة عن التكذيب والإعراض والحرب والأذى. فكلها من دواعي مشقة الطريق! والتوجيه القرآني في هذه الموجة من السياق يعالج هذه المشقة من جانبيها.. ذلك حين يقرر أن الذين يكذبون بهذا الدين أو يحاربون دعوته، يعلمون علم اليقين أن ما يدعون إليه هو الحق، وأن الرسول الذي جاء به من عندالله صادق. ولكنهم مع هذا العلم لا يستجيبون، ويستمرون في جحودهم عناداً وإصراراً، لأن لهم هوى في الإعراض والتكذيب! وأن هذا الحق يحمل معه دليل صدقه، وهو يخاطب الفطرة فتستجيب له، متى كانت هذه الفطرة حية، وأجهزة الاستقبال فيها صالحة: {إنما يستجيب الذين يسمعون}.. فأما الذين يجحدون فإن قلوبهم ميتة وهم موتى وهو صم وبكم في الظلمات. والرسول لا يسمع الموتى ولا يسمع الصم الدعاء. والداعية ليس عليه أن يبعث الموتى. فذلك من شأن الله.. هذا كله من جانب، ومن الجانب الآخر، فإن نصر الله آت لا ريب فيه.. كل ما هنالك أنه يجري وفق سنة الله وبقدر الله، وكما أن سنة الله لا تستعجل، وكلماته لا تتبدل، من ناحية مجيء النصر في النهاية، فكذلك هي لا تتبدل ولا تستعجل من ناحية الموعد المرسوم.. والله لا يعجل لأن الأذى والتكذيب يلحق بالدعاة- ولو كانوا هم الرسل- فإن استسلام صاحب الدعوة نفسه لقدر الله بلا عجلة، وصبره على الأذى بلا تململ، ويقينه في العاقبة بلا شك.. كلها مطلوبة من وراء تأجيل النصر إلى موعده المرسوم. ويحدد هذا التوجيه القرآني دور الرسول في هذا الدين- ودور الدعاة بعده في كل جيل- إنه التبليغ، والمضي في الطريق، والصبر على مشاق الطريق.. أما هدى الناس أو ضلالهم فهو خارج عن حدود واجبه وطاقته.. والهدى والضلال إنما يتبعان سنة إلهية لا تتبدل، ولا يغير منها رغبة الرسول في هداية من يحب، كما لا يغير منها ضيقه ببعض من يعاند ويحارب.. إن شخصه لا اعتبار له في هذه القضية، وحسابه ليس على عدد المهتدين، إنما حسابه على ما أدى وما صبر وما التزم، وما استقام كما أمر.. وأمر الناس بعد ذلك إلى رب الناس. . {من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم}.. {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى}.. {إنما يستجيب الذين يسمعون} وقد بينا من قبل علاقة مشيئة الله الطليقة في الهدى والضلال باتجاه الناس وجهادهم. بما فيه الكفاية. من هنا لا ينبغي لصاحب الدعوة إلى هذا الدين، أن يستجيب لاقتراحات المقترحين ممن يوجه إليهم الدعوة، في تحوير منهج دعوته عن طبيعته الربانية؛ ولا أن يحاول تزيين هذا الدين لهم وفق رغباتهم وأهوائهم وشهواتهم.. ولقد كان المشركون يطلبون الخوارق- وفق مألوف زمانهم ومستوى مداركهم كما حكى عنهم القرآن في مواضع منه شتى، منها في هذه السورة {وقالوا: لولا أنزل عليه ملك!} {وقالوا: لولا نزل عليه آية من ربه}.. {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها} وفي السور الأخرى ما هو أشد إثارة للعجب من هذه الاقتراحات. ذلك كالذي حكاه عنهم في سورة الإسراء: {وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً. أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً. أو تسقط السماء- كما زعمت- علينا كسفاً، أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً. أو يكون لك بيت من زخرف، أو ترقى في السماء. ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه!}. وكالذي حكاه عنهم في سورة الفرقان: {وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، لولا أنزل إليه ملك، فيكون معه نذيراً. أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها!} والتوجيه القرآني المباشر في هذه الموجة من السورة نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين أن يرغبوا في إتيانهم بآية- أية آية- مما يطلبون. وقيل للرسول- صلى الله عليه وسلم-: {وإن كان كبر عليك إعراضهم، فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، فلا تكونن من الجاهلين. إنما يستجيب الذين يسمعون، والموتى يبعثهم الله، ثم إليه يرجعون}.. وقيل للمؤمنين الذين رغبت نفوسهم في الاستجابة للمشركين في طلبهم آية عندما أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها! قيل لهم: {قل: إنما الآيات عندالله، وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون. ونقلب افئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة، ونذرهم في طغيانهم يعمهون}. ليعلموا أولاً أن الذي ينقص المكذبين ليس هو الآية والدليل على الحق، ولكن الذي ينقصهم أنهم لا يسمعون، وأنهم موتى، وأن الله لم يقسم لهم الهدى- وفق سنة الله في الهدى والضلال كما أسلفنا- ثم ليعلموا كذلك أن هذا الدين يجري وفق سنة لاتتبدل، وأنه أعز من أن يصبح تحت رغبات المقترحين وأهوائهم! وهذا يقودنا إلى المجال الأشمل لهذا التوجيه القرآني. . إنه ليس خاصاً بزمن، ولا محصوراً في حادث، ولا مقيداً باقتراح معين. فالزمن يتغير، وأهواء الناس تتمثل في اقتراحات أخرى. وأصحاب الدعوة إلى دين الله ينبغي ألا تستخفهم أهواء البشر.. إن الرغبة في الاستجابة لمقترحات المقترحين هي التي تقود بعض أصحاب الدعوة الإسلامية اليوم إلى محاولة بلورة العقيدة الإسلامية في صورة «نظرية مذهبية» على الورق كالذي يجدونه في النظريات المذهبية الأرضية الصغيرة، التي يصوغها البشر لفترة من الفترات؛ ثم يمضي الزمن فإذا كلها عورات وشطحات ومتناقضات!.. وهي التي تقود بعض أصحاب هذه الدعوة إلى محاولة بلورة النظام الإسلامي في صورة مشروع نظام- على الورق- أو صورة تشريعات مفصلة- على الورق أيضاً- تواجه ما عليه أهل الجاهلية الحاضرة من أوضاع لا علاقة لها بإلاسلام (لأن أهل هذه الجاهلية يقولون: إن الإسلام عقيدة ولا علاقة له بالنظام العام الواقعي للحياة!) وتنظم لهم هذه الأوضاع؛ بينما هم باقون على جاهليتهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ولا يحكمون أو يتحاكمون إلى شريعة الله.. وكلها محاولات ذليلة، لا يجوز للمسلم أن يحاولها استجابة لأزياء التفكير البشري المتقلبة، التي لا تثبت على حال. باسم تطور وسائل الدعوة إلى الله! وأذل من هذه المحاولة محاولة من يضعون على الإسلام أقنعة أخرى، ويصفونه بصفات من التي تروج عند الناس في فترة من الفترات.. كالاشتراكية.. والديمقراطية.. وما إليها.. ظانين أنهم إنما يخدمون الإسلام بهذه التقدمة الذليلة!.. إن «الاشتراكية» مذهب اجتماعي اقتصادي من صنع البشر؛ قابل للصواب والخطأ. وإن «الديمقراطية» نظام للحياة أو للحكم من صنع البشر كذلك، يحمل صنع البشر من القابلية للصواب والخطأ أيضاً.. والإسلام منهج حياة يشمل التصور الاعتقادي، والنظام الاجتماعي الاقتصادي، والنظام التنفيذي والتشكيلي.. وهو من صنع الله المبرأ من النقص والعيب.. فأين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لمنهج الله- سبحانه- عند البشر بوصفه بصفة من أعمال البشر؟ بل أين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لله- سبحانه- عند العبيد بقول من أقوال هؤلاء العبيد؟!.. لقد كان كل شرك المشركين في الجاهلية العربية أنهم يستشفعون عند الله ببعض خلقه.. يتخذونهم أولياء: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى..} فهذا هو الشرك! فما الوصف الذي يطلق إذن على الذين لا يستشفعون لأنفسهم عند الله بأولياء من عبيده، ولكنهم- ويا للنكر والبشاعة!- يستشفعون لله- سبحانه- عند العبيد بمذهب أو منهج من مذاهب العبيد ومناهجهم؟! إن الإسلام هو الإسلام. والاشتراكية هي الاشتراكية. والديمقراطية هي الديمقراطية.. ذلك منهج الله ولا عنوان له ولا صفة إلا العنوان الذي جعله الله له، والصفة التي وصفه بها.. وهذه وتلك من مناهج البشر. ومن تجارب البشر.. وإذا اختاروها فليختاروها على هذا الأساس.. ولا ينبغي لصاحب الدعوة إلى دين الله، أن يستجيب لإغراء الزي الرائج من أزياء الهوى البشري المتقلب. وهو يحسب أنه يحسن إلى دين الله! على أننا نسأل هؤلاء الذين هان عليهم دينهم، ولم يقدروا الله حق قدره.. إذا كنتم تقدمون الإسلام اليوم للناس باسم الاشتراكية، وباسم الديمقراطية، لأن هذين زيان من أزياء الاتجاهات المعاصرة.. فلقد كانت الرأسمالية في فترة من الفترات هي الزي المحبوب عند الناس وهم يخرجون بها من النظام الإقطاعي! كما كان الحكم المطلق في فترة من الفترات هو الزي المطلوب في فترة التجميع القومي للولايات المتناثرة كما في ألمانيا وإيطاليا أيام بسمرك وماتزيني مثلاً! وغدا من يدري ماذا يكون الزي الشائع من الأنظمة الاجتماعية الأرضية وأنظمة الحكم التي يضعها العبيد للعبيد، فكيف يا ترى ستقولون غداً عن الإسلام؟ لتقدموه للناس في الثوب الذي يحبه الناس؟! إن التوجيه القرآني في هذه الموجة التي نحن بصددها- وفي غيرها كذلك- يشمل هذا كله.. إنه يريد أن يستعلي صاحب الدعوة بدينه؛ فلا يستجيب لاقتراحات المقترحين؛ ولا يحاول تزيين هذا الدين بغير اسمه وعنوانه؛ ولا مخاطبة الناس به بغير منهجه ووسيلته.. إن الله غني عن العالمين. ومن لم يستجب لدينه عبودية له، وانسلاخاً من العبودية لسواه، فلا حاجة لهذا الدين به، كما أنه لا حاجة لله- سبحانه- بأحد من الطائعين أو العصاة. ثم إنه إذا كان لهذا الدين أصالته من ناحية مقوماته وخصائصه، التي يريد الله أن تسود البشرية. فإن له كذلك أصالته في منهجه في العمل، وفي أسلوبه في خطاب الفطرة البشرية.. إن الذي نزل هذا الدين بمقوماته وخصائصه، وبمنهجه الحركي وأسلوبه، هو- سبحانه- الذي خلق الإنسان، ويعلم ما توسوس به نفسه.. وفي هذه الموجة من السورة نموذج من مخاطبته للفطرة الإنسانية.. نموذج من نماذج متنوعة شتى.. فهو يربط الفطرة البشرية بالوجود الكوني، ويدع الإيقاعات الكونية تواجه الفطرة البشرية، ويثير انتباه الكينونة البشرية لتلقي هذه الإيقاعات.. وهو يعلم أنها تستجيب لها متى بلغتها بعمقها وقوتها: {إنما يستجيب الذين يسمعون}.. والنموذج الذي يواجهنا في هذه الموجة هو: {وقالوا: لولا نزل عليه آية من ربه! قل: إن الله قادر على أن ينزل آية. ولكن أكثرهم لا يعلمون}.. وفي هذه الآية يحكي قول الذين يكذبون ويعارضون ويطلبون خارقة يراها جيلهم وتنتهي.. ثم يلمس قلوبهم بما يكمن وراء هذا الاقتراح لو أجيب! إنه الأخذ والتدمير! والله قادر على أن ينزل الآية.. ولكن رحمته هي التي اقتضت ألا ينزلها، وحكمته هي التي اقتضت ألا يستجيب لهم فيها.. وفجأة ينقلهم من هذا الركن الضيق في التصور والتفكير، إلى الكون الواسع. إلى الآيات الكبرى من حولهم. الآيات التي تتضاءل دونها تلك الآية التي يطلبونها. الآيات الباقية في صلب الكون للأجيال كلها من قبلهم ومن بعدهم تراها: {وما من دابة في الأرض، ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم. ما فرطنا في الكتاب من شيء. ثم إلى ربهم يحشرون}.. وهي حقيقة هائلة.. هي حقيقة تستطيع ملاحظتهم وحدها حينذاك- حيث لم يكن لهم علم منظم- أن تشهد بها.. حقيقة تجمع الحيوان والطير والحشرات من حولهم في أمم.. لها سماتها وخصائصها وتنظيماتها كذلك.. وهي الحقيقة التي تتسع مساحة رؤيتها كلما تقدم علم البشر، ولكن علمهم لا يزيد شيئاً على أصلها! وإلى جانبها الحقيقة الغيبية الموصولة بها، وهي إحاطة علم الله اللدني بكل شيء، وتدبير الله لكل شيء.. وهي الحقيقة التي تشهد بها تلك الحقيقة المشهودة.. فأين تذهب الخارقة المادية التي كانوا يطلبون، أمام الخارقة الكبرى التي يرونها حيثما امتدت أبصارهم وملاحظتهم وقلوبهم فيما كان وفيما سيكون؟ إن المنهج القرآني- في هذا النموذج- لا يزيد على أن يربط الفطرة بالوجود، وأن يفتح النوافذ بين الوجود والفطرة، وأن يدع هذا الوجود الهائل العجيب يوقع إيقاعاته الهائلة العميقة في الكيان الإنساني.. إنه لا يقدم للفطرة جدلاً لاهوتياً ذهنياً نظرياً. ولا يقدم لها جدلاً كلامياً (كعلم التوحيد) الغريب على المنهج الإسلامي. ولا يقدم لها فلسفة عقلية أو حسية، إنما يقدم لها هذا الوجود الواقعي- بعالميه عالم الغيب وعالم الشهادة- ويدعها تتفاعل معه وتتجاوب، وتتلقى عنه وتستجيب، ولكن في ظل منهج ضابط لا يدعها- وهي تتلقى من الوجود- تضل في المتاهات والدروب. ثم يختم الفقرة بالتعقيب على موقف المكذبين بهذه الآيات الكبرى: {والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات. من يشأ الله يضلله، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم}.. فيقرر حقيقة حالة المكذبين وطبيعتهم.. إنهم صم وبكم في الظلمات.. ويقرر سنة الله في الهدى والضلال.. إنها تعلق مشيئة الله بهذا أو ذاك، وفق الفطرة التي فطر الله عليها العباد. بذلك تلتئم جوانب التصور الإسلامي للأمر كله. إلى جانب وضوح المنهج في الدعوة، وتقرير موقف صاحب الدعوة، وهو يتحرك بهذه العقيدة، ويواجه النفوس البشرية في كل حال وفي كل جيل.. ولعل هذه اللمسات- إلى جانب ما تقدم في مقدمة السورة- عن المنهج يكون فيها ما ينير الطريق. وبالله التوفيق..
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)} هنا- في هذه الموجة- يواجه السياق القرآني فطرة المشركين ببأس الله. بل يواجههم بفطرتهم ذاتها حين تواجه بأس الله.. حين تتعرى من الركام في مواجهة الهول، وحين يهزها الهول فيتساقط عنها ذلك الركام! وتنسى حكاية الآلهة الزائفة؛ وتتجه من فورها إلى ربها الذي تعرفه في قرارتها تسأله وحده الخلاص والنجاة! ثم يأخذ بأيديهم ليوقفهم على مصارع الغابرين من أسلافهم، وفي الطريق يريهم كيف تجري سنة الله، وكيف يعمل قدر الله. ويكشف لأبصارهم وبصائرهم عن استدراج الله لهم، بعد تكذيبهم برسل الله، وكيف قدم لهم الابتلاء بعد الابتلاء- الابتلاء بالبأساء والضراء، ثم الابتلاء بالرخاء والنعماء- وأتاح لهم الفرصة بعد الفرصة، لينتبهوا من الغفلة، حتى إذا استنفدوا الفرص كلها، وغرتهم النعمة بعد أن لم توقظهم الشدة، جرى قدر الله، وفق سنته الجارية وجاءهم العذاب بغتة: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين}. وما يكاد هذا المشهد الذي يهز القلوب هزاً يتوارى، حتى يجيء في أعقابه مشهد آخر وهم يتعرضون لبأس الله أيضاً، فيأخذ سمعهم وأبصارهم، ويختم على قلوبهم، ثم لا يجدون إلهاً غير الله يرد عليهم سمعهم وأبصارهم وإدراكهم. وفي مواجهة هذين المشهدين الرائعين الهائلين يتحدث إليهم عن وظيفة الرسل.. إنها البشارة والنذارة.. ليس وراء ذلك شيء.. ليس لهم أن يأتوا بالخوارق، ولا أن يستجيبوا لمقترحات المقترحين! إنما هم يبلغون. يبشرون وينذرون. ثم يؤمن فريق من الناس ويعمل صالحاً فيأمن الخوف وينجو من الحزن. ويكذب فريق ويعرض فيمسه العذاب بهذا الإعراض والتكذيب. فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر.. فهذا هو المصير.. {قل: أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة، أغير الله تدعون- إن كنتم صادقين- بل إياه تدعون، فيكشف ما تدعون إليه- إن شاء- وتنسون ما تشركون}.. هذا طرف من وسائل المنهج الرباني في خطاب الفطرة الإنسانية بهذه العقيدة يضم إلى ذلك الطرف الذي سبق بيانه في الفقرة السابقة وفيما قبلها وما بعدها كذلك في سياق السورة. لقد خاطبها هناك بما في عوالم الأحياء من آثار التدبير الإلهي والتنظيم؛ وبما في علم الله من إحاطة وشمول. وهو هنا يخاطبها ببأس الله؛ وبموقف الفطرة إزاءه حين يواجهها في صورة من صوره الهائلة، التي تهز القلوب، فيتساقط عنها ركام الشرك؛ وتتعرى فطرتها من هذا الركام الذي يحجب عنها ما هو مستقر في أعماقها من معرفتها بربها، ومن توحيدها له أيضاً: {قل: أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة.. أغير الله تدعون.. إن كنتم صادقين}.. إنها مواجهة الفطرة بتصور الهول.. عذاب الله في الدنيا عذابَ الهلاك والدمار؛ أو مجيء الساعة على غير انتظار. . والفطرة حين تلمس هذه اللمسة؛ وتتصور هذا الهول؛ تدرك- ويعلم الله سبحانه أنها تدرك- حقيقة هذا التصور، وتهتز له؛ لأنه يمثل حقيقة كامنة فيها، يعلم بارئها سبحانه أنها كامنة فيها ويخاطبها بها على سبيل التصور؛ فتهتز لها وترتجف وتتعرى! وهو يسألهم ويطلب إليهم الجواب بالصدق من ألسنتهم؛ ليكون تعبيراً عن الصدق في فطرتهم: {أغير الله تدعون.. إن كنتم صادقين}. ثم يبادر فيقرر الجواب الصادق، المطابق لما في فطرتهم بالفعل، ولو لم تنطق به ألسنتهم: {بل إياه تدعون.. فيكشف ما تدعون إليه إن شاء.. وتنسون ما تشركون}. بل تدعونه وحده؛ وتنسون شرككم كله!.. إن الهول يعرّي فطرتكم- حينئذ- فتتجه بطلب النجاة إلى الله وحده. وتنسى أنها أشركت به أحداً. بل تنسى هذا الشرك ذاته.. إن معرفتها بربها هي الحقيقة المستقرة فيها؛ فأما هذا الشرك فهو قشرة سطحية طارئة عليها، بفعل عوامل أخرى. قشرة سطحية في الركام الذي ران عليها. فإذا هزها الهول تساقط هذا الركام، وتطايرت هذه القشرة، وتكشفت الحقيقة الأصيلة، وتحركت الفطرة حركتها الفطرية نحو بارئها، ترجوه أن يكشف عنها الهول الذي لا يد لها به، ولا حيلة لها فيه.. هذا شأن الفطرة في مواجهة الهول؛ يواجه السياق القرآني به المشركين.. فأما شأن الله- سبحانه- فيقرره في ثنايا المواجهة. فهو يكشف ما يدعونه إليه- إن شاء- فمشيئته طليقة، لا يرد عليها قيد. فإذا شاء استجاب لهم فكشف عنهم ما يدعون كله أو بعضه؛ وإن شاء لم يستجب، وفق تقديره وحكمته وعلمه. هذا هو موقف الفطرة من الشرك الذي تزاوله أحياناً، بسبب ما يطرأ عليها من الانحراف، نتيجة عوامل شتى، تغطي على نصاعة الحقيقة الكامنة فيها.. حقيقة اتجاهها إلى ربها ومعرفتها بوحدانيته.. فما هو موقفها من الإلحاد وإنكار وجود الله أصلاً؟ نحن نشك شكاً عميقاً- كما قلنا من قبل- في أن أولئك الذين يمارسون الإلحاد في صورته هذه صادقون فيما يزعمون أنهم يعتقدونه. نحن نشك في أن هناك خلقاً أنشأته يد الله، ثم يبلغ به الأمر حقيقة أن ينطمس فيه تماماً طابع اليد التي أنشأته؛ وفي صميم كينونته هذا الطابع، مختلطاً بتكوينه متمثلاً في كل خلية وفي كل ذرة! إنما هو التاريخ الطويل من العذاب البشع، ومن الصراع الوحشي مع الكنيسة، ومن الكبت والقمع، ومن أنكار الكنيسة للدوافع الفطرية للناس مع استغراقها هي في اللذائذ المنحرفة.. إلى آخر هذا التاريخ النكد الذي عاشته أوربا قروناً طويلة.. هو الذي دفع الأوربيين في هذه الموجة من الإلحاد في النهاية.. فراراً في التيه، من الغول الكريه. ذلك إلى استغلال اليهود لهذا الواقع التاريخي؛ ودفع النصارى بعيداً عن دينهم؛ ليسلس لهم قيادهم، ويسهل عليهم إشاعة الانحلال والشقاء فيهم، وليتيسر لهم استخدامهم- كالحمير- على حد تعبير «التلمود» و«بروتوكولات حكماء صهيون». . وما كان اليهود ليبلغوا من هذا كله شيئاً إلا باستغلال ذلك التاريخ الأوربي النكد، لدفع الناس إلى الإلحاد هرباً من الكنيسة. ومع كل هذا الجهد الناصب، المتمثل في محاولة «الشيوعية»- وهي إحدى المنظمات اليهودية- لنشر الإلحاد، خلال أكثر من نصف قرن، بمعرفة كل أجهزة الدولة الساحقة، فإن الشعب الروسي نفسه لم يزل في أعماق فطرته الحنين إلى عقيدة في الله.. ولقد اضطر «ستالين» الوحشي- كما يصوره خلفه خروشوف!- أن يهادن الكنسية، في أثناء الحرب العالمية الثانية، وأن يفرج عن كبير الأساقفة، لأن ضغط الحرب كان يلوي عنقه للاعتراف للعقيدة في الله بأصالتها في فطرة الناس.. مهما يكن رأيه ورأي القليلين من الملحدين من ذوي السلطان حوله. ولقد حاول اليهود- بمساعدة «الحمير» الذين يستخدمونهم من الصليبيين- أن ينشروا موجة من الإلحاد في نفوس الأمم التي تعلن الإسلام عقيدة لها وديناً. ومع أن الإسلام كان قد بهت وذبل في هذه النفوس.. فإن الموجة التي أطلقوها عن طريق «البطل» أتاتورك في تركيا.. انحسرت على الرغم من كل ما بذلوه لها- وللبطل- من التمجيد والمساعدة. وعلى كل ما ألفوه من الكتب عن البطل والتجربة الرائدة التي قام بها.. ومن ثم استداروا في التجارب الجديدة يستفيدون من تجربة أتاتورك، ألا يرفعوا على التجارب الرائدة راية الإلحاد. إنما يرفعون عليها راية الإسلام. كي لا تصدم الفطرة، كما صدمتها تجربة أتاتورك. ثم يجعلون تحت هذه الراية ما يريدون من المستنقعات والقاذورات والانحلال الخلقي، ومن أجهزة التدمير للخامة البشرية بجملتها في الرقعة الإسلامية. غير أن العبرة التي تبقى من وراء ذلك كله، هي أن الفطرة تعرف ربها جيداً، وتدين له بالوحدانية، فإذا غشي عليها الركام فترة، فإنها إذا هزها الهول تساقط عنها ذلك الركام كله وتعرت منه جملة، وعادت إلى بارئها كما خلقها أول مرة.. مؤمنة طائعة خاشعة.. أما ذلك الكيد كله فحسبه صيحة حق تزلزل قوائمه، وترد الفطرة إلى بارئها سبحانه. ولن يذهب الباطل ناجياً، وفي الأرض من يطلق هذه الصيحة. ولن يخلوا وجه الأرض مهما جهدوا ممن يطلق هذه الصيحة. {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك، فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون. فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا، ولكن قست قلوبهم، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون. فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون. فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين}. إنها المواجهة بنموذج من بأس الله سبحانه. نموذج من الواقع التاريخي. نموذج يعرض ويفسر كيف يتعرض الناس لبأس الله، وكيف تكون عاقبة تعرضهم له، وكيف يمنحهم الله الفرصة بعد الفرصة، ويسوق إليهم التنبيه بعد التنبيه؛ فإذا نسوا ما ذكروا به، ولم توجههم الشدة إلى التوجه إلى الله والتضرع له، ولم توجههم النعمة إلى الشكر والحذر من الفتنة، كانت فطرتهم قد فسدت الفساد الذي لا يرجى معه صلاح، وكانت حياتهم قد فسدت الفساد الذي لا تصلح معه للبقاء. فحقت عليهم كلمة الله. ونزل بساحتهم الدمار الذي لا تنجو منه ديار.. {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك، فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون. فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون}.. ولقد عرف الواقع البشري كثيراً من هذه الأمم، التي قص القرآن الكريم على الإنسانية خبر الكثير منها، قبل أن يولد «التاريخ» الذي صنعه الإنسان! فالتاريخ الذي سجله بنو الإنسان حديث المولد، صغير السن، لا يكاد يعي إلا القليل من التاريخ الحقيقي للبشر على ظهر هذه الأرض! وهذا التاريخ الذي صنعه البشر حافل- على قصره- بالأكاذيب والأغاليط؛ وبالعجز والقصور عن الإحاطة بجميع العوامل المنشئة والمحركة للتاريخ البشري؛ والتي يكمن بعضها في أغوار النفس، ويتوارى بعضها وراء ستر الغيب، ولا يبدو منها إلا بعضها. وهذا البعض يخطئ البشر في جمعه، ويخطئون في تفسيره، ويخطئون أيضاً في تمييز صحيحه من زائفة- إلا قليلاً- ودعوى أي بشر أنه أحاط بالتاريخ البشري علماً، وأنه يملك تفسيره تفسيراً «علمياً»، وأنه يجزم بحتمياته المقبلة أيضاً.. هي أكبر أكذوبة يمكن أن يدعيها بشر! ومن عجب أن بعضهم يدعيها! والأشد إثارة للعجب أن بعضهم يصدقها! ولو قال ذلك المدعي: إنه يتحدث عن (توقعات) لا عن (حتميات) لكان ذلك مستساغاً.. ولكن إذا وجد المفتري من المغفلين من يصدقه فلماذا لا يفتري؟! والله يقول الحق؛ ويعلم ماذا كان، ولماذا كان. ويقص على عبيده- رحمة منه وفضلاً- جانباً من أسرار سنته وقدره؛ ليأخذوا حذرهم ويتعظوا؛ وليدركوا كذلك ما وراء الواقع التاريخي من عوامل كامنة وأسباب ظاهرة؛ يفسرون بها هذا الواقع التاريخي تفسيراً كاملاً صحيحاً. ومن وراء هذه المعرفة يمكن أن يتوقعوا ما سيكون، استناداً إلى سنة الله التي لا تتبدل.. هذه السنة التي يكشف الله لهم عنها.. وفي هذه الآيات تصوير وعرض لنموذج متكرر في أمم شتى.. أمم جاءتهم رسلهم. فكذبوا. فأخذهم الله بالبأساء والضراء. في أموالهم وفي أنفسهم. في أحوالهم وأوضاعهم.. البأساء والضراء التي لا تبلغ أن تكون «عذاب الله» الذي تحدثت عنه الآية السابقة، وهو عذاب التدمير والاستئصال.. وقد ذكر القرآن نموذجاً محدداً من هذه الأمم، ومن البأساء والضراء التي أخذها بها. . في قصة فرعون وملئه: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون. فإذا جاءتهم الحسنة قالوا: لنا هذه، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه. ألا إنما طائرهم عند الله، ولكن أكثرهم لا يعلمون. وقالوا: مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين. فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، آيات مفصلات، فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين} وهو نموذج من نماذج كثيرة تشير إليها الآية.. لقد أخذهم الله بالبأساء والضراء ليرجعوا إلى أنفسهم؛ وينقبوا في ضمائرهم وفي واقعهم، لعلهم تحت وطأة الشدة يتضرعون إلى الله، ويتذللون له، وينزلون عن عنادهم واستكبارهم، ويدعون الله أن يرفع عنهم البلاء بقلوب مخلصة، فيرفع الله عنهم البلاء، ويفتح لهم أبواب الرحمة.. ولكنهم لم يفعلوا ما كان حرياً أن يفعلوا. لم يلجأوا إلى الله، ولم يرجعوا عن عنادهم، ولم ترد إليهم الشدة وعيهم، ولم تفتح بصيرتهم، ولم تلين قلوبهم. وكان الشيطان من ورائهم يزين لهم ما هم فيه من الضلال والعناد: {ولكن قست قلوبهم، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون}.. والقلب الذي لا ترده الشدة إلى الله قلب تحجر فلم تعد فيه نداوة تعصرها الشدة! ومات فلم تعد الشدة تثير فيه الإحساس! وتعطلت أجهزة الاستقبال الفطرية فيه، فلم يعد يستشعر هذه الوخزة الموقظة، التي تنبه القلوب الحية للتلقي والاستجابة. والشدة ابتلاء من الله للعبد؛ فمن كان حياً أيقظته، وفتحت مغاليق قلبه، وردته إلى ربه؛ وكانت رحمة له من الرحمة التي كتبها الله على نفسه.. ومن كان ميتاً حسبت عليه، ولم تفده شيئاً، وإنما أسقطت عذره وحجته، وكانت عليه شقوة، وكانت موطئة للعذاب! وهذه الأمم التي يقص الله- سبحانه- من أنبائها على رسوله- صلى الله عليه وسلم- ومن وراءه من أمته.. لم تفد من الشدة شيئاً. لم تتضرع إلى الله، ولم ترجع عما زينه لها الشيطان من الإعراض والعناد.. وهنا يملي لها الله- سبحانه- ويستدرجها بالرخاء: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء. حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة، فإذا هم مبلسون. فقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين}.. إن الرخاء ابتلاء آخر كابتلاء الشدة. وهو مرتبة أشد وأعلى من مرتبة الشدة! والله يبتلي بالرخاء كما يبتلي بالشدة. يبتلي الطائعين والعصاة سواء. بهذه وبذاك سواء.. والمؤمن يبتلى بالشدة فيصبر، ويبتلى بالرخاء فيشكر. ويكون أمره كله خيراً.. وفي الحديث: «عجباً للمؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له» (رواه مسلم). فأما هذه الأمم التي كذبت بالرسل، والتي يقص الله من أنبائها هنا. فإنهم لما نسوا ما ذكروا به، وعلم الله- سبحانه- أنهم مهلكون، وابتلاهم بالبأساء والضراء فلم يتضرعوا.. فأما هؤلاء فقد فتح عليهم أبواب كل شيء للاستدراج بعد الابتلاء.. والتعبير القرآني: {فتحنا عليهم أبواب كل شيء}.. يصور الأرزاق والخيرات، والمتاع، والسلطان.. متدفقة كالسيول؛ بلا حواجز ولا قيود! وهي مقبلة عليهم بلا عناء ولا كد ولا حتى محاولة! إنه مشهد عجيب؛ يرسم حالة في حركة؛ على طريقة التصوير القرآني العجيب. {حتى إذا فرحوا بما أوتوا}.. وغمرتهم الخيرات والأرزاق المتدفقة؛ واستغرقوا في المتاع بها والفرح لها- بلا شكر ولا ذكر- وخلت قلوبهم من الاختلاج بذكر المنعم ومن خشيته وتقواه؛ وانحصرت اهتماماتهم في لذائذ المتاع واستسلموا للشهوات، وخلت حياتهم من الاهتمامات الكبيرة كما هي عادة المستغرقين في اللهو والمتاع. وتبع ذلك فساد النظم والأوضاع، بعد فساد القلوب والأخلاق؛ وجر هذا وذلك إلى نتائجه الطبيعية من فساد الحياة كلها.. عندئذ جاء موعد السنة التي لا تتبدل: {أخذناهم بغتة، فإذا هم مبلسون}.. فكان أخذهم على غرة؛ وهم في سهوة وسكرة. فإذا هم حائرون منقطعو الرجاء في النجاة عاجزون عن التفكير في أي اتجاه. واذا هم مهلكون بجملتهم حتى آخر واحد منهم. {فقطع دابر القوم الذين ظلموا}.. ودابر القوم هو آخر واحد منهم يدبرهم أي يجيء على أدبارهم فإذا قطع هذا فأوائلهم أولى!.. و{الذين ظلموا} تعني هنا الذين أشركوا.. كما هو التعبير القرآني في أغلب المواضع عن الشرك بالظلم وعن المشركين بالظالمين.. {والحمد لله رب العالمين}.. تعقيب على استئصال الظالمين (المشركين) بعد هذا الاستدراج الإلهي والكيد المتين.. وهل يحمد الله على نعمة، أجل من نعمة تطهير الأرض من الظالمين، أو على رحمة أجل من رحمته لعباده بهذا التطهير؟ لقد أخذ الله قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط، كما أخذ الفراعنة والإغريق والرومان وغيرهم بهذه السنة؛ ووراء ازدهار حضارتهم ثم تدميرها، ذلك السر المغيب من قدر الله؛ وهذا القدر الظاهر من سنته؛ وهذا التفسير الرباني لهذا الواقع التاريخي المعروف. ولقد كان لهذه الأمم من الحضارة؛ وكان لها من التمكين في الأرض؛ وكان لها من الرخاء والمتاع؛ ما لا يقل- إن لم يزد في بعض نواحيه- عما تتمتع به اليوم أمم؛ مستغرقة في السلطان والرخاء والمتاع؛ مخدوعة بما هي فيه؛ خادعة لغيرها ممن لا يعرفون سنة الله في الشدة والرخاء.. هذه الأمم لا تدرك أن هناك سنة، ولا تشعر أن الله يستدرجها وفق هذه السنة. والذين يدورون في فلكها يبهرهم اللألاء الخاطف، ويتعاظمهم الرخاء والسلطان، ويخدعهم إملاء الله لهذه الأمم، وهي لا تعبد الله أو لا تعرفه، وهي تتمرد على سلطانه، وهي تدعي لأنفسها خصائص ألوهيته، وهي تعيث في الأرض فساداً، وهي تظلم الناس بعد اعتدائها على سلطان الله. ولقد كنت- في أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأمريكية- أرى رأي العين مصداق قول الله سبحانه: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء}.. فإن المشهد الذي ترسمه هذه الآية.. مشهد تدفق كل شيء من الخيرات والأرزاق بلا حساب!.. لا يكاد يتمثل في الأرض كلها كما يتمثل هناك! وكنت أرى غرور القوم بهذا الرخاء الذي هم فيه، وشعورهم بأنه وقف على «الرجل الأبيض» وطريقة تعاملهم مع الملونين في عجرفة مرذولة، وفي وحشية كذلك بشعة! وفي صلف على أهل الأرض كلهم لا يقاس إليه صلف النازية الذي شهر به اليهود في الأرض كلها حتى صار علماً على الصلف العنصري. بينما الأمريكي الأبيض يزاوله تجاه الملونين في صورة أشد وأقسى! وبخاصة إذا كان هؤلاء الملونون من المسلمين.. كنت أرى هذا كله فأذكر هذه الآية، وأتوقع سنة الله، وأكاد أرى خطواتها وهي تدب إلى الغافلين: {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون. فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين}.. وإذا كان الله قد رفع عذاب الاستئصال بعد بعثة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فهناك ألوان من العذاب باقية. والبشرية- وبخاصة الأمم التي فتحت عليها أبواب كل شيء- تذوق منها الكثير. على الرغم من هذا النتاج الوفير، ومن هذا الرزق الغزير! إن العذاب النفسي، والشقاء الروحي، والشذوذ الجنسي، والانحلال الخلقي.. الذي تقاسي منه هذه الأمم اليوم، ليكاد يغطي على الإنتاج والرخاء والمتاع؛ وليكاد يصبغ الحياة كلها بالنكد والقلق والشقاء! ذلك إلى جانب الطلائع التي تشير إليها القضايا الأخلاقية السياسية، التي تباع فيها أسرار الدولة، وتقع فيها الخيانة للأمة، في مقابل شهوة أو شذوذ.. وهي طلائع لا تخطئ على نهاية المطاف! وليس هذا كله إلا بداية الطريق.. وصدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا- على معاصيه- ما يحب. فإنما هو استدراج». ثم تلا {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء. حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون}.. (رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم). غير أنه ينبغي، مع ذلك، التنبيه إلى أن سنة الله في تدمير (الباطل) أن يقوم في الأرض (حق) يتمثل في (أمة).. ثم يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذاهو زاهق.. فلا يقعدنّ أهل الحق كسالى يرتقبون أن تجري سنة الله بلا عمل منهم ولا كد. فإنهم حينئذ لا يمثلون الحق، ولا يكونون أهله.. وهم كسالى قاعدون.. والحق لا يتمثل إلا في أمة تقوم لتقر حاكمية الله في الأرض، وتدفع المغتصبين لها من الذين يدعون خصائص الألوهية. . هذا هو الحق الأول، والحق الأصيل.. {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} بعد ذلك يقف السياق القرآني المشركين بالله، أمام بأس الله، في ذوات أنفسهم، في أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم، وهم عاجزون عن رده، وهم لا يجدون كذلك إلهاً غير الله، يرد عليهم أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم إن أخذها الله منهم: {قل: أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم، من إله غير الله يأتيكم به؟ انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون!}.. وهو مشهد تصويري يجسم لهم عجزهم أمام بأس الله من جانب، كما يصور لهم حقيقة ما يشركون به من دون الله في موقف الجد من جانب.. ولكن هذا المشهد يهزهم من الأعماق.. إن خالق الفطرة البشرية يعلم أنها تدرك ما في هذا المشهد التصويري من جد، وما وراءه من حق.. أنها تدرك أن الله قادر على أن يفعل بها هذا. قادر على أن يأخذ الأسماع والأبصار، وأن يختم على القلوب، فلا تعود هذه الأجهزة تؤدي وظائفها. وأنه- إن فعل ذلك- فليس هناك من إله غيره يرد بأسه.. وفي ظلال هذا المشهد، الذي يبعث بالرجفة في القلوب والأوصال، ويقرر في الوقت ذاته تفاهة عقيدة الشرك، وضلال اتخاذ الأولياء من دون الله.. في ظلال هذا المشهد يعجب من أمر هؤلاء الذين يصرف لهم الآيات، وينوعها، ثم هم يميلون عنها كالبعير الذي يصدف أي يميل بخفه إلى الجانب الوحشي الخارجي من مرض يصيبه! {انظر كيف نصرّف الآيات، ثم هم يصدفون!}.. وهو تعجيب مصحوب بمشهد الصدوف! المعروف عند العرب، والذي يذكرهم بمشهد البعير المؤوف! فيثير في النفس السخرية والاستخفاف والعزوف! وقبل أن يفيقوا من تأثير ذلك المشهد المتوقع يتلقاهم بتوقع جديد، ليس على الله ببعيد، يريهم فيه مصارعهم- وهم الظالمون: أي المشركون- وهو يرسم مصارع الظالمين حين يباغتهم عذاب الله أو يواجههم؛ وحين يأتيهم على غرة أو وهم مستيقظون: {قل: أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة، هل يهلك إلا القوم الظالمون؟}.. إن عذاب الله يأتي في أية صورة وفي أية حالة. وسواء جاءهم العذاب بغتة وهم غارون لا يتوقعونه، أو جاءهم جهرة وهم صاحون متأهبون. فإن الهلاك سيحل بالقوم الظالمين- أي المشركين كغالبية التعبير في القرآن الكريم- وسينالهم هم دون سواهم. ولن يدفعوه عن أنفسهم سواء جاءهم بغتة أو جهرة. فهم أضعف من أن يدفعوه ولو واجهوه! ولن يدفعه عنهم أحد ممن يتولونهم من الشركاء. فكلهم من عبيدالله الضعفاء! وهو توقع يعرضه السياق عليهم ليتقوه، ويتقوا أسبابه قبل أن يجيء. والله- سبحانه- يعلم أن عرض هذا التوقع في هذا المشهد يخاطب الكينونة البشرية خطاباً تعرفه في قرارتها، وتعرف ما وراءه من حقيقة ترجف لها القلوب! وحين تبلغ الموجة أقصى مدها، بعرض هذه المشاهد المتوالية، والتعقيبات الموحية، والإيقاعات التي تحمل الإنذار إلى أعماق السرائر. . تختم ببيان وظيفة الرسل، الذين تطالبهم أقوامهم بالخوارق، وإن هم إلا مبلغين، مبشرين ومنذرين، ثم يكون بعد ذلك من أمر الناس ما يكون، وفق ما يتخذونه لأنفسهم من مواقف يترتب عليها الجزاء الأخير: {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين. فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كذبوا بآياتنا يمسّهم العذاب بما كانوا يفسقون}.. لقد كان هذا الدين يعد البشرية للرشد العقلي، ويؤهلها لاستخدام هذه الأداة العظيمة التي وهبها الله للإنسان استخداماً كاملاً في إدراك الحق الذي تنبث آياته في صفحات الوجود، وفي أطوار الحياة، وفي أسرار الخلق؛ والذي جاء هذا القرآن لكشفه وتجليته وتوجيه الإدراك البشري إليه.. وكان هذا كله يقتضي الانتقال بالبشرية من عهد الخوارق الحسية؛ التي تلوي الأعناق وتجبر المنكرين على الإذعان، أمام القهر بالخارقة المادية البادية للعيان! إلى توجيه الإدراك البشري لملاحظة بدائع الصنعة الإلهية في الوجود كله. وهي في ذاتها خوارق معجزة.. ولكنها خوارق دائمة يقوم عليها كيان الوجود، ويتألف منها قوامه وإلى مخاطبة هذا الإدراك بكتاب من عند الله باهر معجز في تعبيره ومعجز في منهجه ومعجز في الكيان الاجتماعي العضوي الحركي الذي يرمي إلى إنشائه على غير مثال. والذي لم يلحق به من بعده أي مثال! وقد اقتضى هذا الأمر تربية طويلة، وتوجيهاً طويلاً، حتى يألف الإدراك البشري هذا اللون من النقلة، وهذا المدى من الرقي؛ وحتى يتجه الإنسان إلى قراءة سفر الوجود بإدراكه البشري، في ظل التوجيه الرباني، والضبط القرآني، والتربية النبوية.. قراءة هذا السفر قراءة غيبية واقعية إيجابية في آن واحد، بعيدة عن منهج التصورات الذهنية التجريدية التي كانت سائدة في قسم من الفلسفة الإغريقية واللاهوت المسيحي؛ وعن منهج التصورات الحسية المادية التي كانت سائدة في قسم من تلك الفلسفة وفي بعض الفلسفة الهندية والمصرية والبوذية والمجوسية كذلك، مع الخروج من الحسية الساذجة التي كانت سائدة في العقائد الجاهلية العربية! وجانب من تلك التربية وهذا التوجيه يتمثل في بيان وظيفة الرسول، وحقيقة دوره في الرسالة على النحو الذي تعرضه هاتان الآيتان- كما ستعرضه الموجة التالية في سياق السورة- فالرسول بشر، يرسله الله ليبشر وينذر، وهنا تنتهي وظيفته، وتبدأ استجابة البشر، ويمضي قدر الله ومشيئته من خلال هذه الاستجابة، وينتهي الأمر بالجزاء الإلهي وفق هذه الاستجابة.. فمن آمن وعمل صالحاً يتمثل فيه الإيمان، فلا خوف عليه مما سيأتي ولا هو يحزن على ما أسلف. فهناك المغفرة على ما أسلف، والثواب على ما أصلح. . ومن كذب بآيات الله التي جاءه بها الرسول، والتي لفته إليها في صفحات هذا الوجود. يمسهم العذاب بسبب كفرهم، الذي يعبر عنه هنا بقوله: {بما كانوا يفسقون} حيث يعبر القرآن غالباً عن الشرك والكفر بالظلم والفسق في معظم المواضع.. تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض. وبيان محكم عن الرسول ووظيفته وحدود عمله في هذا الدين.. تصور يفرد الله سبحانه بالألوهية وخصائصها؛ ويرد إلى مشيئة الله وقدره الأمر كله، ويجعل للإنسان- من خلال ذلك- حرية اتجاهه وتبعة هذا الاتجاه، ويبين مصائر الطائعين لله والعصاة بياناً حاسماً؛ وينفي كل الأساطير والتصورات الغامضة عن طبيعة الرسول وعمله، مما كان سائداً في الجاهليات.. وبذلك ينقل البشرية إلى عهد الرشد العقلي؛ دون أن يضرب بها في تيه الفلسفات الذهنية، والجدل اللاهوتي، الذي استنفذ طاقة الإدراك البشري أجيالاً بعد أجيال!!!
|