الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)} {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله} إن الله كان بكل شيء عليما. ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون. والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم. إن الله كان على كل شيء شهيداً..} والنص عام في النهي عن تمني ما فضل الله بعض المؤمنين على بعض.. من أي أنواع التفضيل، في الوظيفة والمكانة، وفي الاستعدادات والمواهب، وفي المال والمتاع.. وفي كل ما تتفاوت فيه الأنصبة في هذه الحياة.. والتوجه بالطلب إلى الله، وسؤاله من فضله مباشرة؛ بدلاً من إضاعة النفس حسرات في التطلع إلى التفاوت؛ وبدلاً من المشاعر المصاحبة لهذا التطلع من حسد وحقد؛ ومن حنق كذلك ونقمة، أو من شعور بالضياع والحرمان، والتهاوي والتهافت أمام هذا الشعور.. وما قد ينشأ عن هذا كله من سوء ظن بالله؛ وسوء ظن بعدالة التوزيع.. حيث تكون القاصمة، التي تذهب بطمأنينة النفس، وتورث القلق والنكد؛ وتستهلك الطاقة في وجدانات خبيثة، وفي اتجاهات كذلك خبيثة. بينما التوجه مباشرة إلى فضل الله، هو ابتداء التوجه إلى مصدر الإنعام والعطاء، الذي لا ينقص ما عنده بما أعطى، ولا يضيق بالسائلين المتزاحمين على الأبواب! وهو بعد ذلك موئل الطمأنينة والرجاء؛ ومبعث الإيجابية في تلمس الأسباب، بدل بذل الجهد في التحرق والغيظ أو التهاوي والانحلال! النص عام في هذا التوجيه العام. ولكن موضعه هنا من السياق، وبعض الروايات عن سبب النزول، قد تخصص من هذا المعنى الشامل تفاوتاً معيناً، وتفضيلاً معيناً، هو الذي نزل هذا النص يعالجه.. هو التفاضل في أنصبة الرجال وأنصبة النساء.. كما هو واضح من سياق الآية في عمومها بعد ذلك.. وهذا الجانب- على أهميته الكبرى في تنظيم العلاقة بين شطري النفس البشرية وإقامتها على الرضا وعلى التكامل؛ وإشاعة هذا الرضا- من ثم- في البيوت وفي المجتمع المسلم كله؛ إلى جانب إيضاح الوظائف المنوعة فيه بين الجنسين والمهام.. هذا الجانب على أهميته هذه لا ينفي عموم النص مع خصوص السبب.. ولهذا روت التفاسير المأثورة، هذا المعنى وذاك: قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان؛ عن أبى نجيح، عن مجاهد، قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله، تغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث.. فأنزل الله: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض}. ورواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن مردويه، والحاكم في مستدركه. من حديث الثوري، عن أبي نجيح، عن مجاهد. قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله لا نقاتل فنستشهد، ولا نقطع الميراث.. فنزلت الآية.. ثم أنزل الله: {أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى}.. الآية. وقال السدي في الآية: إن رجالاً قالوا: إنا نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء، كما لنا في السهام سهمان! وقالت النساء: إنا نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الشهداء، فإننا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا! فأبى الله ذلك، ولكن قال لهم: سلوني من فضلي. قال ليس بعرض الدنيا.. وروي مثل ذلك عن قتادة.. كذلك وردت روايات أخرى بإطلاق معنى الآية: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية، قال: «ولا يتمنى الرجل فيقول: ليت لي مال فلان وأهله. فنهى الله عن ذلك. ولكن يسأل من فضله.. وقال الحسن ومحمد بن سيرين وعطاء والضحاك نحو هذا.. ونجد في الأقوال الأولى ظلالاً من رواسب الجاهلية في تصور ما بين الرجال والنساء من روابط؛ كما نجد روائح للتنافس بين الرجال والنساء، لعلها قد أثارتها تلك الحريات والحقوق الجديدة التي علمها الإسلام للمرأة تمشياً مع نظريته الكلية في تكريم الإنسان بجنسيه، وفي إنصاف كل جنس فيه وكل طبقة وكل أحد.. إنصافه حتى من نفسه التي بين جنبيه.. ولكن الإسلام إنما كان يستهدف من هذا كله تحقيق منهجه المتكامل بكل حذافيره. لا لحساب الرجال، ولا لحساب النساء! ولكن لحساب» الإنسان «ولحساب» المجتمع المسلم «ولحساب الخلق والصلاح والخير في إطلاقه وعمومه. وحساب العدل المطلق المتكامل الجوانب والأسباب. إن المنهج الإسلامي يتبع الفطرة في تقسيم الوظائف؛ وتقسيم الأنصبة بين الرجال والنساء. والفطرة ابتداء جعلت الرجل رجلاً والمرأة امرأة؛ وأودعت كلاً منهما خصائصه المميزة؛ لتنوط بكل منهما وظائف معينة.. لا لحسابه الخاص. ولا لحساب جنس منهما بذاته. ولكن لحساب هذه الحياة الإنسانية التي تقوم، وتنتظم، وتستوفي خصائصها، وتحقق غايتها- من الخلافة في الأرض وعبادة الله بهذه الخلافة- عن طريق هذا التنوع بين الجنسين؛ والتنوع في الخصائص والتنوع في الوظائف.. وعن طريق تنوع الخصائص؛ وتنوع الوظائف، ينشأ تنوع التكاليف، وتنوع الأنصبة، وتنوع المراكز.. لحساب تلك الشركة الكبرى والمؤسسة العظمى.. المسماة بالحياة.. وحين يدرس المنهج الإسلامي كله ابتداء، ثم يدرس الجانب الخاص منه بالارتباطات بين شطري النفس الواحدة، لا يبقى مجال لمثل ذلك الجدل القديم الذي ترويه هذه الروايات، ولا كذلك للجدل الحديث، الذي يملأ حياة الفارغين والفارغات في هذه الأيام. ويطغى أحياناً على الجادين والجادات بحكم الضجيج العام! إنه عبث تصوير الموقف كما لو كان معركة حادة بين الجنسين، تسجل فيه المواقف والانتصارات.. ولا يرتفع على هذا العبث محاولة بعض الكتاب الجادين تنقص» المرأة «وثلبها، وإلصاق كل شائنة بها.. سواء كان ذلك باسم الإسلام أو باسم البحث والتحليل.. فالمسألة ليست معركة على الإطلاق! إنما هي تنويع وتوزيع. وتكامل. وعدل بعد ذلك كامل في منهج الله. يجوز أن تكون هناك معركة في المجتمعات الجاهلية؛ التي تنشى ء أنظمتها من تلقاء نفسها؛ وفق هواها ومصالحها الظاهرة القريبة. أو مصالح طبقات غالبة فيها، أوبيوت، أو أفراد. ومن ثم تنتقص من حقوق المرأة لأسباب من الجهالة بالإنسان كله، وبوظيفة الجنسين في الحياة، أو لأسباب من المصالح الاقتصادية في حرمان المرأة العاملة من مثل أجر الرجل العامل في نفس مهنتها. أو في توزيع الميراث، أو حقوق التصرف في المال- كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية الحديثة! فأما في المنهج الإسلامي فلا.. لا ظل للمعركة. ولا معنى للتنافس على أعراض الدنيا. ولا طعم للحملة على المرأة أو الحملة على الرجل؛ ومحاولة النيل من أحدهما، وثلبه، وتتبع نقائصه!.. ولا مكان كذلك للظن بأن هذا التنوع في التكوين والخصائص، لا مقابل له من التنوع في التكليف والوظائف، ولا آثار له في التنوع في الاختصاصات والمراكز.. فكل ذلك عبث من ناحية وسوء فهم للمنهج الإسلامي ولحقيقة وظيفة الجنسين من ناحية! وننظر في أمر الجهاد والاستشهاد ونصيب المرأة منه ومن ثوابه.. وهو ما كان يشغل بال الصالحات من النساء في الجيل الصالح، الذي يتجه بكليته إلى الآخرة؛ وهو يقوم بشئون هذه الدنيا.. وفي أمر الإرث ونصيب الذكر والأنثى منه. وقد كان يشغل بعض الرجال والنساء قديماً.. وما يزال هو وأمثاله يشغل رجالاً ونساء في هذه الأيام.. إن الله لم يكتب على المرأة الجهاد ولم يحرمه عليها؛ ولم يمنعها منه- حين تكون هناك حاجة إليها، لا يسدها الرجال- وقد شهدت المغازي الإسلامية آحاداً من النساء- مقاتلات لا مواسيات ولا حاملات أزواد- وكان ذلك على قلة وندرة بحسب الحاجة والضرورة؛ ولم يكن هو القاعدة.. وعلى أية حال، فإن الله لم يكتب على المرأة الجهاد كما كتبه على الرجال. إن الجهاد لم يكتب على المرأة، لأنها تلد الرجال الذين يجاهدون. وهي مهيأة لميلاد الرجال بكل تكوينها، العضوي والنفسي؛ ومهيأة لإعدادهم للجهاد وللحياة سواء. وهي- في هذا الحقل- أقدر وأنفع.. هي أقدر لأن كل خلية في تكوينها معدة من الناحية العضوية والناحية النفسية لهذا العمل؛ وليست المسألة في هذا مسألة التكوين العضوي الظاهر؛ بل هي- وعلى وجه التحديد- كل خلية منذ تلقيح البويضة، وتقرير أن تكون أنثى أو ذكراً من لدن الخالق- سبحانه- ثم يلي ذلك تلك الظواهر العضوية، والظواهر النفسية الكبرى.. وهي أنفع- بالنظر الواسع إلى مصلحة الأمة على المدى الطويل- فالحرب حين تحصد الرجال وتستبقي الإناث؛ تدع للأمة مراكز إنتاج للذرية تعوض الفراغ. والأمر ليس كذلك حين تحصد النساء والرجال- أو حتى حين تحصد النساء وتستبقي الرجال! فرجل واحد- في النظام الإسلامي- وعند الحاجة إلى استخدام كل رخصه وإمكانياته- يمكن أن يجعل نساء أربعاً ينتجن، ويملأن الفراغ الذي تتركه المقتلة بعد فترة من الزمان. ولكن ألف رجل لا يملكون أن يجعلوا امرأة تنتج أكثر مما تنتج من رجل واحد، لتعويض ما وقع في المجتمع من اختلال. وليس ذلك إلا باباً واحداً من أبواب الحكمة الإلهية في إعفاء المرأة من فريضة الجهاد... ووراءه أبواب شتى في أخلاق المجتمع وطبيعة تكوينه، واستبقاء الخصائص الأساسية لكلا الجنسين، لا يتسع لها المجال هنا، لأنها تحتاج إلى بحث خاص.. وأما الأجر والثواب، فقد طمأن الله الرجال والنساء عليه، فحسب كل إنسان أن يحسن فيما وكل إليه ليبلغ مرتبة الإحسان عند الله على الإطلاق.. والأمر في الميراث كذالك.. ففي الوهلة الأولى يبدو أن هناك إيثاراً للرجل في قاعدة: {فللذكر مثل حظ الأنثيين}.. ولكن هذه النظرة السطحية لا تفتأ أن تتكشف عن وحدة متكاملة في أوضاع الرجل والمرأة وتكاليفهما.. فالغنم بالغرم، قاعدة ثابتة متكاملة في المنهج الإسلامي.. فالرجل يؤدي للمرأة صداقها ابتداء ولا تؤدي هي له صداقاً. والرجل ينفق عليها وعلى أولادها منه. وهي معفاة من هذا التكليف، ولو كان لها مال خاص- وأقل ما يصيب الرجل من هذا التكليف أن يحبس فيه إذا ماطل!!- والرجل عليه في الديات والأرش (التعويض عن الجراحات) متكافلاً مع الأسرة، والمرأة منها معفاة. والرجل عليه في النفقة على المعسرين والعاجزين والعواجز عن الكسب في الأسرة- الأقرب فالأقرب- والمرأة معفاة من فريضة التكافل العائلي العام.. حتى أجر رضاع طفلها من الرجل وحضانته عند افتراقهما في المعيشة، أو عند الطلاق، يتحملها الرجل، ويؤديها لها كنفقتها هي سواء بسواء.. فهو نظام متكامل توزيع التبعات فيه هو الذي يحدد توزيع الميراث. ونصيب الرجل من التبعات أثقل من نصيبه في الميراث. ومنظور في هذا إلى طبيعته وقدرته على الكسب؛ وإلى توفير الراحة والطمأنينة الكاملة للمرأة، لتقوم على حراسة الرصيد البشري الثمين؛ الذي لا يقوّم بمال، ولا يعد له إنتاج أية سلعة أو أية خدمة أخرى للصالح العام! وهكذا نجد معالم التوازن الشامل، والتقدير الدقيق في المنهج الإسلامي الحكيم، الذي شرعه الحكيم العليم.. ونسجل هنا ما منحه الإسلام للمرأة في هذا النص من حق الملكية الفردية: {للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن}.. وهو الحق الذي كانت الجاهلية العربية- كغيرها من الجاهليات القديمة- تحيف عليه؛ ولا تعترف به للمرأة- إلا في حالات نادرة- ولا تفتأ تحتال للاعتداء عليه. إذ كانت المرأة ذاتها مما يستولى عليه بالوراثة، كالمتاع! وهو الحق الذي ظلت الجاهليات الحديثة- التي تزعم أنها منحت المرأة من الحقوق والاحترام ما لم يمنحه لها منهج آخر- تتحيفه؛ فبعضها يجعل الميراث لأكبر وارث من الذكور. وبعضها يجعل إذن الولي ضرورياً لتوقيع أي تعاقد للمرأة بشأن المال؛ ويجعل إذن الزوج ضرورياً لكل تصرف مالي من الزوجة في مالها الخاص! وذلك بعد ثورات المرأة وحركاتها الكثيرة؛ وما نشأ عنها من فساد في نظام المرأة كله، وفي نظام الأسرة، وفي الجو الأخلاقي العام. فأما الإسلام فقد منحها هذا الحق ابتداء؛ وبدون طلب منها، وبدون ثورة، وبدون جمعيات نسوية، وبدون عضوية برلمان!! منحها هذا الحق تمشياً مع نظرته العامة إلى تكريم الإنسان جملة؛ وإلى تكريم شِقَّيْ النفس الواحدة؛ وإلى إقامة نظامه الاجتماعي كله على أساس الأسرة؛ وإلى حياطة جو الأسرة بالود والمحبة والضمانات لكل فرد فيها على السواء. ومن هنا كانت المساواة في حق التملك وحق الكسب بين الرجال والنساء من ناحية المبدأ العام. وقد أورد الدكتور عبد الواحد وافي في كتاب «حقوق الإنسان» لفتة دقيقة إلى وضع المرأة في الإسلام ووضعها في الدول الغربية جاء فيه: «وقد سوى الإسلام كذلك بين الرجل والمرأة أمام القانون، وفي جميع الحقوق المدنية سواء في ذلك المرأة المتزوجة وغير المتزوجة. فالزواج في الإسلام يختلف عن الزواج في معظم أمم الغرب المسيحي، في أنه لا يفقد المرأة اسمها ولا شخصيتها المدنية، ولا أهليتها في التعاقد، ولا حقها في التملك. بل تظل المرأة المسلمة بعد زواجها محتفظة باسمها واسم أسرتها، وبكامل حقوقها المدنية؛ وبأهليتها في تحمل الالتزامات، وإجراء مختلف العقود، من بيع وشراء ورهن وهبة ووصية؛ وما إلى ذلك؛ ومحتفظة بحقها في التملك تملكاً مستقلاً عن غيرها. فللمرأة المتزوجة في الإسلام شخصيتها المدنية الكاملة، وثروتها الخاصة المستقلة عن شخصية زوجها وثروته. ولا يجوز للزوج أن يأخذ شيئاً من مالها- قل ذلك أو كثر- قال تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج، وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً. أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً؟ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض، وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً؟} وقال: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً}. وإذا كان لا يجوز للزوج أن يأخذ شيئاً مما سبق أن آتاه لزوجته فلا يجوز له من باب أولى أن يأخذ شيئاً من ملكها الأصيل إلا أن يكون هذا أو ذاك برضاها، وعن طيب نفس منها. وفي هذا يقول الله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً، فكلوه هنيئاً مريئاً} ولا يحل للزوج كذلك أن يتصرف في شيء من أموالها، إلا إذا أذنت له بذلك، أو وكلته في إجراء عقد بالنيابة عنها. وفي هذه الحالة يجوز أن تلغي وكالته، وتوكل غيره إذا شاءت. » وهذه المنزلة من المساواة لم يصل إلى مثلها- بعد- أحدث القوانين في أرقى الأمم الديمقراطية الحديثة. فحالة المرأة في فرنسا كانت إلى عهد قريب- بل لا تزال إلى الوقت الحاضر- أشبه شيء بحالة الرق المدني. فقد نزع منها القانون صفة الأهلية في كثير من الشئون المدنية، كما تنص على ذلك المادة السابعة عشرة بعد المائتين من القانون المدني الفرنسي. إذ تقرر أن: «المرأة المتزوجة- حتى ولو كان زواجها قائماً على أساس الفصل بين ملكيتها وملكية زوجها- لا يجوز لها أن تهب، ولا أن تنقل ملكيتها، ولا أن ترهن، ولا أن تمتلك بعوض أو بغير عوض، بدون اشتراك زوجها في العقد، أو موافقته عليه موافقة كِتَابِيَّة!».. وأورد نصها الفرنسي... «ومع ما أدخل على هذه المادة من قيود وتعديلات، فيما بعد، فإن كثيراً من آثارها لا يزال ملازماً لوضع المرأة الفرنسية من الناحية القانونية إلى الوقت الحاضر.. وتوكيداً لهذا الرق المفروض على المرأة الغربية تقرر قوانين الأمم الغربية، ويقضي عرفها، أن المرأة بمجرد زواجها تفقد اسمها واسم اسرتها، فلا تعود تسمى فلانة؛ بنت فلان ; بل تحمل اسم زوجها وأسرته؛ فتدعى» مدام فلان «أو تتبع اسمها باسم زوجها وأسرته، بدلاً من أن تتبعه باسم أبيها وأسرتها.. وفقدان اسم المرأة، وحملها لاسم زوجها، كل ذلك يرمز إلى فقدان الشخصية المدنية للزوجة، واندماجها في شخصية الزوج. » ومن الغريب أن الكثير من سيداتنا يحاولن أن يتشبهن بالغربيات- حتى في هذا النظام الجائر- ويرتضين لأنفسهن هذه المنزلة الوضيعة؛ فتسمي الواحدة منهن نفسها باسم زوجها؛ أو تتبع اسمها باسم زوجها وأسرته، بدلاً من أن تتبعه باسم أبيها وأسرتها، كما هو النظام الإسلامي، وهذا هو أقصى ما يمكن أن تصل إليه المحاكاة العمياء! وأغرب من هذا كله أن اللاتي يحاكين هذه المحاكاة! هن المطالبات بحقوق النساء، ومساواتهن بالرجال؛ ولا يدرين أنهن بتصرفهن هذا يفرطن في أهم حق منحه الإسلام لهن؛ ورفع به شأنهن، وسواهن فيه بالرجال «. والآن نجيء إلى النص الأخير في هذه الفقرة؛ وهو ينظم التصرف في عقود الولاء التي سبقت أحكام الميراث. هذه الأحكام التي حصرت الميراث في القرابة. بينما عقود الولاء كانت تجعلها كذلك في غير القرابة على ما سيأتي بيانه: {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون؛ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم. إن الله كان على كل شيء شهيداً}.. بعد أن ذكر أن للرجال نصيباً مما اكتسبوا، وللنساء نصيباً مما اكتسبن.. وبين- فيما سلف- أنصبة الذكور والإناث في الميراث.. ذكر أن الله جعل لكل موالي من قرابته يرثونه. يرثونه مما آل إليه من الوالدين والأقربين.. فالمال يظل يتداول بهذا الإرث جيلاً بعد جيل. يرث الوارثون ثم يضمون إلى ميراثهم ما يكتسبون؛ ثم يرثهم من يلونهم من الأقربين.. وهي صورة تمثل دورة المال في النظام الإسلامي؛ وأنها لا تقف عند جيل؛ ولا تتركز في بيت ولا فرد. . إنما هو التوارث المستمر، والتداول المستمر، وحركة التوزيع الدائبة؛ وما يتبعها من تعديل في المالكين، وتعديل في المقادير، بين الحين والحين.. ثم عطف على العقود، التي أقرتها الشريعة الإسلامية؛ والتي تجعل الإرث يذهب أحياناً إلى غير الأقرباء.. وهي عقود الموالاة.. وقد عرف المجتمع الإسلامي أنواعاً من هذه العقود: الأول عقد ولاء العتق، وهو النظام الذي يصبح بمقتضاه الرقيق- بعد عتقه- بمنزلة العضو في أسرة مولاه (مولى العتق) فيدفع عنه المولى الدية، إذا ارتكب جناية توجب الدية- كما يفعل ذلك حيال أقربائه من النسب- ويرثه إذا مات ولم يترك عصبة.. والثاني عقد الموالاة. وهو النظام الذي يبيح لغير العربي- إذا لم يكن له وارث من أقاربه- أن يرتبط بعقد مع عربي هو (مولى الموالاة). فيصبح بمنزلة عضو في أسرة مولاه. يدفع عنه المولى الدية- إذا ارتكب جناية توجب الدية- ويرثه إذا مات. والنوع الثالث، هو الذي عقده النبي- صلى الله عليه وسلم- أول العهد بالمدينة، بين المهاجرين والأنصار. فكان المهاجر يرث الأنصاري، مع أهله- كواحد منهم- أو دون أهله إن كانوا مشركين فصلت بينهم وبينه العقيدة.. والنوع الرابع.. كان في الجاهلية، يعاقد الرجل الرجل، ويقول: «وترثني وأرثك».. وقد جعل الإسلام يصفي هذه العقود؛ وبخاصة النوعين الثالث والرابع. بتقرير أن الميراث سببه القرابة. والقرابة وحدها. ولكنه لم يبطل العقود التي سبق عقدها. فأمضاها على ألا يجدد سواها. وقال الله سبحانه: {والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم}. وشدد في هذا وأشهد الله على العقد وعلى التصرف فيه: {إن الله كان على كل شيء شهيداً}.. وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا حلف في الإسلام. وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة» (رواه أحمد ومسلم). وقد سار الإسلام في تصفية هذه العقود سيرته في كل ما يتعلق بالأنظمة المالية، في علاجه لها- بدون أثر رجعي- فهكذا صنع في الربا حين أبطله. أبطله منذ نزول النص، وترك لهم ما سلف منه؛ ولم يأمر برد الفوائد الربوية. وإن كان لم يصحح العقود السابقة على النص، ما لم يكن قد تم قبض تلك الفوائد. فأما هنا فقد احترم تلك العقود؛ على ألا ينشأ منها جديد. لما يتعلق بها- فوق الجانب المالي- من ارتباطات أخذت طابع العضوية العائلية بتشابكاتها الكثيرة المعقدة. فترك هذه العقود القائمة تنفذ؛ وشدد في الوفاء بها؛ وقطع الطريق على الجديد منها؛ قبل أن تترتب عليه أية آثار تحتاج إلى علاج! وفي هذا التصرف يبدو التيسير، كما يبدو العمق والإحاطة والحكمة والشمول، في علاج الأمور في المجتمع. حيث كان الإسلام يصوغ ملامح المجتمع المسلم يوماً بعد يوم؛ ويمحو ويلغي ملامح الجاهلية في كل توجيه وكل تشريع. والموضوع الأخير في هذا الدرس، هو تنظيم مؤسسة الأسرة؛ وضبط الأمور فيها؛ وتوزيع الاختصاصات، وتحديد الواجبات؛ وبيان الإجراءات التي تتخذ لضبط أمور هذه المؤسسة؛ والمحافظة عليها من زعازع الأهواء والخلافات؛ واتقاء عناصر التهديم فيها والتدمير، جهد المستطاع: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم، فالصالحات قانتات، حافظات للغيب بما حفظ الله. واللاتي تخافون نشوزهن، فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن. فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً. إن الله كان علياً كبيراً. وإن خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما. إن الله كان عليماً خبيراً}.. ولا بد- قبل الدخول في تفسير هذه النصوص القرآنية، وبيان أهدافها النفسية والاجتماعية- من بيان مجمل لنظرة الإسلام إلى مؤسسة الأسرة، ومنهجه في بنائها والمحافظة عليها، وأهدافه منها.. بيان مجمل بقدر الإمكان، إذ أن التفصيل فيه يحتاج إلى بحث مطول خاص: إن الذي خلق هذا الإنسان جعل من فطرته «الزوجية» شأنه شأن كل شيء خلقه في هذا الوجود: {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون}. ثم شاء أن يجعل الزوجين في الإنسان شطرين للنفس الواحدة: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها}. وأراد بالتقاء شطري النفس الواحدة- بعد ذلك- فيما أراد، أن يكون هذا اللقاء سكناً للنفس، وهدوءاً للعصب، وطمأنينة للروح، وراحة للجسد.. ثم ستراً وإحصاناً وصيانة.. ثم مزرعة للنسل وامتداد الحياة، مع ترقيها المستمر، في رعاية المحضن الساكن الهادئ المطمئن المستور المصون: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة}. {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن}. {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، وقدموا لأنفسكم، واتقوا الله}. {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة}. {والذين آمنوا، واتبعتهم ذريتهم بإيمان، ألحقنا بهم ذريتهم، وما ألتناهم من عملهم من شيء} ومن تساوي شطري النفس الواحدة في موقفهما من الله، ومن تكريمه للإنسان، كان ذلك التكريم للمرأة، وتلك المساواة في حقوق الأجر والثواب عند الله، وفي حقوق التملك والإرث، وفي استقلال الشخصية المدنية.. التي تحدثنا عنها في الصفحات السابقة من هذا الدرس. ومن أهمية التقاء شطري النفس الواحدة، لإنشاء مؤسسة الأسرة. ومن ضخامة تبعة هذه المؤسسة أولاً: في توفير السكن والطمأنينة والستر والإحصان للنفس بشطريها، وثانياً: في إمداد المجتمع الإنساني بعوامل الامتداد والترقي... كانت تلك التنظيمات الدقيقة المحكمة التي تتناول كل جزئية من شئون المؤسسة.. وقد احتوت هذه السورة جانباً من هذه التنظيمات هو الذي استعرضناه في الصفحات السابقة من أول هذا الجزء؛ تكملة لما استعرضناه منها في الجزء الرابع. . واحتوت سورة البقرة جانباً آخر، هو الذي استعرضناه في الجزء الثاني. واحتوت سور أخرى من القرآن، وعلى الأخص سورة النور في الجزء الثامن عشر وسورة الأحزاب في الجزءين الحادي والعشرين والثاني والعشرين وسورة الطلاق وسورة التحريم في الجزء الثامن والعشرين.. ومواضع أخرى متفرقة في السور، جوانب أخرى تؤلف دستوراً كاملاً شاملاً دقيقاً لنظام هذه المؤسسة الإنسانية؛ وتدل بكثرتها وتنوعها ودقتها وشمولها، على مدى الأهمية التي يعقدها المنهج الإسلامي للحياة الإنسانية على مؤسسة الأسرة الخطيرة! ونرجو أن يكون قارئ هذه الصفحة على ذكر مما سبق في صفحات هذا الجزء نفسه؛ عن طفولة الطفل الإنساني، وطولها، وحاجته في خلالها إلى بيئة تحميه أولاً حتى يستطيع أن يكسب رزقه للمعاش؛ وأهم من هذا أن تؤهله، بالتربية، إلى وظيفته الاجتماعية؛ والنهوض بنصيبه في ترقية المجتمع الإنساني، وتركه خيراً مما تسلمه، حين جاء إليه! فهذا الكلام ذو أهمية خاصة في بيان قيمة مؤسسة الأسرة؛ ونظرة المنهج الإسلامي إلى وظائفها، والغاية منها؛ واهتمامه بصيانتها، وحياطتها من كل عوامل التدمير من قريب ومن بعيد.. وفي ظل هذه الإشارات المجملة إلى طبيعة نظرة الإسلام للأسرة وأهميتها؛ ومدى حرصه على توفير ضمانات البقاء والاستقرار والهدوء في جوها.. إلى جانب ما أوردناه من تكريم هذا المنهج للمرأة؛ ومنحها استقلال الشخصية واحترامها؛ والحقوق التي أنشأها لها إنشاء- لا محاباة لذاتها ولكن لتحقيق أهدافه الكبرى من تكريم الإنسان كله ورفع الحياة الإنسانية- نستطيع أن نتحدث عن النص الأخير في هذا الدرس، الذي قدمنا للحديث عنه بهذا الإيضاح: إن هذا النص- في سبيل تنظيم المؤسسة الزوجية وتوضيح الاختصاصات التنظيمية فيها لمنع الاحتكاك فيها بين أفرادها، بردهم جميعاً إلى حكم الله لا حكم الهوى والانفعالات والشخصيات- يحدد أن القوامة في هذه المؤسسة للرجل؛ ويذكر من أسباب هذه القوامة: تفضيل الله للرجل بمقومات القوامة، وما تتطلبه من خصائص ودربة، و.. تكليف الرجل الإنفاق على المؤسسة. وبناء على إعطاء القوامة للرجل، يحدد كذلك اختصاصات هذه القوامة في صيانة المؤسسة من التفسخ؛ وحمايتها من النزوات العارضة؛ وطريقة علاج هذه النزوات- حين تعرض- في حدود مرسومة- وأخيراً يبين الإجراءات- الخارجية- التي تتخذ عندما تفشل الإجراءات الداخلية، ويلوح شبح الخطر على المؤسسة، التي لا تضم شطري النفس الواحدة فحسب، ولكن تضم الفراخ الخضر، الناشئة في المحضن. المعرضة للبوار والدمار. فلننظر فيما وراء كل إجراء من هذه الإجراءات من ضرورة، ومن حكمة، بقدر ما نستطيع: {الرجال قوامون على النساء. بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم}.. إن الأسرة- كما قلنا- هي المؤسسة الأولى في الحياة الإنسانية. الأولى من ناحية أنها نقطة البدء التي تؤثر في كل مراحل الطريق. والأولى من ناحية الأهمية لأنها تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني، وهو أكرم عناصر هذا الكون، في التصور الإسلامي. وإذا كانت المؤسسات الأخرى الأقل شأناً، والأرخص سعراً: كالمؤسسات المالية والصناعية والتجارية... وما إليها... لا يوكل أمرها- عادة- إلا لأكفأ المرشحين لها؛ ممن تخصصوا في هذا الفرع علمياً، ودربوا عليه عملياً، فوق ما وهبوا من استعدادات طبيعية للإدارة والقوامة... إذا كان هذا هو الشأن في المؤسسات الأقل شأناً والأرخص سعراً.. فأولى أن تتبع هذه القاعدة في مؤسسة الأسرة، التي تنشئ أثمن عناصر الكون.. العنصر الإنساني.. والمنهج الرباني يراعي هذا. ويراعي به الفطرة، والاستعدادات الموهوبة لشطري النفس لأداء الوظائف المنوطة بكل منهما وفق هذه الاستعدادات، كما يراعي به العدالة في توزيع الأعباء على شطري النفس الواحدة. والعدالة في اختصاص كل منهما بنوع الأعباء المهيأ لها، المعان عليها من فطرته واستعداداته المتميزة المتفردة.. والمسلم به ابتداء أن الرجل والمرأة كلاهما من خلق الله. وأن الله- سبحانه- لا يريد أن يظلم أحداً من خلقه، وهو يهيئه ويعده لوظيفة خاصة، ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة! وقد خلق الله الناس ذكراً وأنثى.. زوجين على أساس القاعدة الكلية في بناء هذا الكون.. وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وترضع وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل.. وهي وظائف ضخمة أولاً وخطيرة ثانياً. وليست هينة ولا يسيرة، بحيث تؤدَّى بدون إعداد عضوي ونفسي وعقلي عميق غائر في كيان الأنثى! فكان عدلاً كذلك أن ينوط بالشطر الثاني- الرجل- توفير الحاجات الضرورية. وتوفير الحماية كذلك للأنثى؛ كي تتفرغ لوظيفتها الخطيرة؛ ولا يحمل عليها أن تحمل وتضع وترضع وتكفل.. ثم تعمل وتكد وتسهر لحماية نفسها وطفلها في آن واحد! وكان عدلاً كذلك أن يمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينه على أداء وظائفه هذه. وأن تمنح المرأة في تكوينها العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينها على أداء وظيفتها تلك. وكان هذا فعلاً.. ولا يظلم ربك أحداً.. ومن ثم زودت المرأة- فيما زودت به من الخصائص- بالرقة والعطف، وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة- بغير وعي ولا سابق تفكير- لأن الضرورات الإنسانية العميقة كلها- حتى في الفرد الواحد- لم تترك لأرجحة الوعي والتفكير وبطئه، بل جعلت الاستجابة لها غير إرادية! لتسهل تلبيتها فوراً وفيما يشبه أن يكون قسراً. ولكنه قسر داخلي غير مفروض من الخارج؛ ولذيذ ومستحب في معظم الأحيان كذلك، لتكوين الاستجابة سريعة من جهة ومريحة من جهة أخرى- مهما يكن فيها من المشقة والتضحية! صنع الله الذي أتقن كل شيء. وهذه الخصائص ليست سطحية. بل هي غائرة في التكوين العضوي والعصبي والعقلي والنفسي للمرأة.. بل يقول كبار العلماء المختصين: إنها غائرة في تكوين كل خلية. لأنها عميقة في تكوين الخلية الأولى، التي يكون من انقسامها وتكاثرها الجنين، بكل خصائصه الأساسية! وكذلك زود الرجل- فيما زود به من الخصائص- بالخشونة والصلابة، وبطء الانفعال والاستجابة؛ واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة. لأن وظائفه كلها من أول الصيد الذي كان يمارسه في أول عهده بالحياة إلى القتال الذي يمارسه دائماً لحماية الزوج والأطفال. إلى تدبير المعاش.. إلى سائر تكاليفه في الحياة.. لأن وظائفه كلها تحتاج إلى قدر من التروي قبل الإقدام؛ وإعمال الفكر، والبطء في الاستجابة بوجه عام!.. وكلها عميقة في تكوينه عمق خصائص المرأة في تكوينها.. وهذه الخصائص تجعله أقدر على القوامة، وأفضل في مجالها.. كما أن تكليفه بالإنفاق- وهو فرع من توزيع الاختصاصات- يجعله بدوره أولى بالقوامة، لأن تدبير المعاش للمؤسسة ومن فيها داخل في هذه القوامة؛ والإشراف على تصريف المال فيها أقرب إلى طبيعة وظيفته فيها.. وهذان هما العنصران اللذان أبرزهما النص القرآني، وهو يقرر قوامة الرجال على النساء في المجتمع الإسلامي. قوامة لها أسبابها من التكوين والاستعداد. ولها أسبابها من توزيع الوظائف والاختصاصات. ولها أسبابها من العدالة في التوزيع من ناحية؛ وتكليف كل شطر- في هذا التوزيع- بالجانب الميسر له، والذي هو معان عليه من الفطرة. وأفضليته في مكانها.. في الاستعداد للقوامة والدربة عليها.. والنهوض بها بأسبابها.. لأن المؤسسة لا تسير بلا قوامة- كسائر المؤسسات الأقل شأناً والأرخص سعراً- ولأن أحد شطري النفس البشرية مهيأ لها، معان عليها، مكلف تكاليفها. وأحد الشطرين غير مهيأ لها، ولا معان عليها.. ومن الظلم أن يحملها ويحمل تكاليفها إلى جانب أعبائه الأخرى.. وإذا هو هيئ لها بالاستعدادات الكامنة، ودرب عليها بالتدريب العلمي والعملي، فسد استعداده للقيام بالوظيفة الأخرى.. وظيفة الأمومة.. لأن لها هي الأخرى مقتضياتها واستعداداتها. وفي مقدمتها سرعة الانفعال، وقرب الاستجابة. فوق الاستعدادات الغائرة في التكوين العضوي والعصبي؛ وآثارها في السلوك والاستجابة! إنها مسائل خطيرة.. أخطر من أن تتحكم فيها أهواء البشر.. وأخطر من أن تترك لهم يخبطون فيها خبط عشواء.. وحين تركت لهم ولأهوائهم في الجاهليات القديمة والجاهليات الحديثة، هددت البشرية تهديداً خطيراً في وجودها ذاته؛ وفي بقاء الخصائص الإنسانية، التي تقوم بها الحياة الإنسانية وتتميز. ولعل من الدلائل التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكمها؛ ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكرون لها.. لعل من هذه الدلائل ما أصاب الحياة البشرية من تخبط وفساد، ومن تدهور وانهيار؛ ومن تهديد بالدمار والبوار، في كل مرة خولفت فيها هذه القاعدة. فاهتزت سلطة القوامة في الأسرة. أو اختلطت معالمها. أو شذت عن قاعدتها الفطرية الأصلية! ولعل من هذه الدلائل توقان نفس المرأة ذاتها إلى قيام هذه القوامة على أصلها الفطري في الأسرة. وشعورها بالحرمان والنقص والقلق وقلة السعادة؛ عندما تعيش مع رجل، لا يزاول مهام القوامة؛ وتنقصه صفاتها اللازمة؛ فيكل إليها هي القوامة! وهي حقيقة ملحوظة تسلم بها حتى المنحرفات الخابطات في الظلام! ولعل من هذه الدلائل أن الأطفال- الذين ينشأون في مؤسسة عائلية القوامة فيها ليست للأب. إما لأنه ضعيف الشخصية، بحيث تبرز عليه شخصية الأم وتسيطر. وإما لأنه مفقود: لوفاته- أو لعدم وجود أب شرعي!- قلما ينشأون أسوياء. وقل ألا ينحرفوا إلى شذوذ ما، في تكوينهم العصبي والنفسي، وفي سلوكهم العملي والخلقي.. فهذه كلها بعض الدلائل، التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكمها، ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكرون لها! ولا نستطيع أن نستطرد أكثر من هذا- في سياق الظلال- عن قوامة الرجال ومقوماتها ومبرراتها، وضرورتها وفطريتها كذلك.. ولكن ينبغي أن نقول: إن هذه القوامة ليس من شأنها إلغاء شخصية المرأة في البيت ولا في المجتمع الإنساني؛ ولا إلغاء وضعها «المدني»- كما بينا ذلك من قبل- وإنما هي وظيفة- داخل كيان الأسرة- لإدارة هذه المؤسسة الخطيرة، وصيانتها وحمايتها. ووجود القيم في مؤسسة ما، لا يلغي وجود ولا شخصية ولا حقوق الشركاء فيها، والعاملين في وظائفها. فقد حدد الإسلام في مواضع أخرى صفة قوامة الرجل وما يصاحبها من عطف ورعاية، وصيانة وحماية، وتكاليف في نفسه وماله، وآداب في سلوكه مع زوجه وعياله. وبعد بيان واجب الرجل وحقه والتزاماته وتكاليفه في القوامة، يجيء بيان طبيعة المرأة المؤمنة الصالحة وسلوكها وتصرفها الإيماني في محيط الأسرة: {فالصالحات قانتات، حافظات للغيب بما حفظ الله}.. فمن طبيعة المؤمنة الصالحة، ومن صفتها الملازمة لها، بحكم إيمانها وصلاحها، أن تكون.. قانتة.. مطيعة. والقنوت: الطاعة عن إرادة وتوجه ورغبة ومحبة، لا عن قسر وإرغام وتفلت ومعاظلة! ومن ثم قال: قانتات. ولم يقل طائعات. لأن مدلول اللفظ الأول نفسي، وظلاله رخية ندية.. وهذا هو الذي يليق بالسكن والمودة والستر والصيانة بين شطري النفس الواحدة. في المحضن الذي يرعى الناشئة، ويطبعهم بجوه وأنفاسه وظلاله وإيقاعاته! ومن طبيعة المؤمنة الصالحة، ومن صفتها الملازمة لها، بحكم إيمانها وصلاحها كذلك، أن تكون حافظة لحرمة الرباط المقدس بينها وبين زوجها في غيبته- وبالأولى في حضوره- فلا تبيح من نفسها في نظرة أو نبرة- بله العرض والحرمة- مالا يباح إلا له هو- بحكم أنه الشطر الآخر للنفس الواحدة. وما لا يباح، لا تقرره هي، ولا يقرره هو: إنما يقرره الله سبحانه: {بما حفظ الله}. فليس الأمر أمر رضاء الزوج عن أن تبيح زوجته من نفسها- في غيبته أو في حضوره- ما لا يغضب هو له. أو ما يمليه عليه وعليها المجتمع! إذا انحرف المجتمع عن منهج الله.. إن هنالك حكماً واحداً في حدود هذا الحفظ؛ فعليها أن تحفظ نفسها {بما حفظ الله}.. والتعبير القرآني لا يقول هذا بصيغة الأمر. بل بما هو أعمق وأشد توكيداً من الأمر. إنه يقول: إن هذا الحفظ بما حفظ الله، هو من طبيعة الصالحات، ومن مقتضى صلاحهن! وعندئذ تتهاوى كل أعذار المهزومين والمهزومات من المسلمين والمسلمات. أمام ضغط المجتمع المنحرف. وتبرز حدود ما تحفظه الصالحات بالغيب: {بما حفظ الله} مع القنوت الطائع الراضي الودود.. فأما غير الصالحات.. فهن الناشزات. (من الوقوف على النشز وهو المرتفع البارز من الأرض) وهي صورة حسية للتعبير عن حالة نفسية. فالناشز تبرز وتستعلي بالعصيان والتمرد.. والمنهج الإسلامي لا ينتظر حتى يقع النشوز بالفعل، وتعلن راية العصيان؛ وتسقط مهابة القوامة؛ وتنقسم المؤسسة إلى معسكرين.. فالعلاج حين ينتهي الأمر إلى هذا الوضع قلما يجدي. ولا بد من المبادرة في علاج مبادئ النشوز قبل استفحاله. لأن مآله إلى فساد في هذه المنظمة الخطيرة، لا يستقر معه سكن ولا طمأنينة، ولا تصلح معه تربية ولا إعداد للناشئين في المحضن الخطير. ومآله بعد ذلك إلى تصدع وانهيار ودمار للمؤسسة كلها؛ وتشرد للناشئين فيها؛ أو تربيتهم بين عوامل هدامة مفضية إلى الأمراض النفسية والعصبية والبدنية... وإلى الشذوذ.. فالأمر إذن خطير. ولا بد من المبادرة باتخاذ الإجراءات المتدرجة في علاج علامات النشوز منذ أن تلوح من بعيد.. وفي سبيل صيانة المؤسسة من الفساد، أو من الدمار، أبيح للمسئول الأول عنها أن يزاول بعض أنواع التأديب المصلحة في حالات كثيرة.. لا للانتقام، ولا للإهانة، ولا للتعذيب.. ولكن للإصلاح ورأب الصدع في هذه المرحلة المبكرة من النشوز: {واللاتي تخافون نشوزهن، فعظوهن. واهجروهن في المضاجع. واضربوهن. فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا. إن الله كان علياً كبيراً}.. واستحضار ما سبق لنا بيانه من تكريم الله للإنسان بشطريه. ومن حقوق للمرأة نابعة من صفتها الإنسانية.. ومن احتفاظ للمرأة المسلمة بشخصيتها المدنية بكامل حقوقها.. بالإضافة إلى أن قوامة الرجل عليها لا تفقدها حقها في اختيار شريك حياتها؛ والتصرف في أمر نفسها والتصرف في أمر مالها.. إلى آخر هذه المقومات البارزة في المنهج الإسلامي.. استحضار هذا الذي سبق كله؛ واستحضار ما قيل عن أهمية مؤسسة الأسرة كذلك.. يجعلنا نفهم بوضوح- حين لا تنحرف القلوب بالهوى والرءوس بالكبر!- لماذا شرعت هذه الإجراءات التأديبية أولاً. والصورة التي يجب أن تؤدى بها ثانياً. إنها شرعت كإجراء وقائي- عند خوف النشوز- للمبادرة بإصلاح النفوس والأوضاع، لا لزيادة إفساد القلوب، وملئها بالبغض والحنق، أو بالمذلة والرضوخ الكظيم! إنها.. أبداً.. ليست معركة بين الرجل والمرأة. يراد لها بهذه الإجراءات تحطيم رأس المرأة حين تهم بالنشوز؛ وردها إلى السلسلة كالكلب المسجور! إن هذا قطعاً.. ليس هو الإسلام.. إنما هو تقاليد بيئية في بعض الأزمان. نشأت مع هوان «الإنسان» كله. لا هوان شطر منه بعينه.. فأما حين يكون هو الإسلام، فالأمر مختلف جداً في الشكل والصورة. وفي الهدف والغاية.. {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن}.. هذا هو الإجراء الأول.. الموعظة.. وهذا هو أول واجبات القيم ورب الأسرة. عمل تهذيبي. مطلوب منه في كل حالة: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة}. ولكنه في هذه الحالة بالذات، يتجه اتجاهاً معيناً لهدف معين. هو علاج أعراض النشوز قبل أن تستفحل وتستعلن. ولكن العظة قد لا تنفع. لأن هناك هوى غالباً، أو انفعالاً جامحاً، أو استعلاء بجمال. أو بمال. أو بمركز عائلي.. أو بأي قيمة من القيم. تنسي الزوجة أنها شريكة في مؤسسة، وليست نداً في صراع أو مجال افتخار!.. هنا يجيء الإجراء الثاني.. حركة استعلاء نفسية من الرجل على كل ما تدل به المرأة من جمال وجاذبية أو قيم أخرى، ترفع بها ذاتها عن ذاته، أو عن مكان الشريك في مؤسسة عليها قوامة. {واهجروهن في المضاجع}.. والمضجع موضع الإغراء والجاذبية، التي تبلغ فيها المرأة الناشز المتعالية قمة سلطانها. فإذا استطاع الرجل أن يقهر دوافعه تجاه هذا الإغراء، فقد أسقط من يد المرأة الناشز أمضى أسلحتها التي تعتز بها. وكانت- في الغالب- أميل إلى التراجع والملاينة، أمام هذا الصمود من رجلها، وأمام بروز خاصية قوة الإرادة والشخصية فيه، في أحرج مواضعها!.. على أن هناك أدباً معيناً في هذا الإجراء.. إجراء الهجر في المضاجع.. وهو ألا يكون هجراً ظاهراً في غير مكان خلوة الزوجين.. لا يكون هجراً أمام الأطفال، يورث نفوسهم شراً وفساداً.. ولا هجراً أمام الغرباء يذل الزوجة أو يستثير كرامتها، فتزداد نشوزًا. فالمقصود علاج النشوز لا إذلال الزوجة؛ ولا إفساد الأطفال! وكلا الهدفين يبدو أنه مقصود من هذا الإجراء.. ولكن هذه الخطوة قد لا تفلح كذلك.. فهل تترك المؤسسة تتحطم؟ إن هناك إجراء- ولو أنه أعنف- ولكنه أهون وأصغر من تحطيم المؤسسة كلها بالنشوز: {واضربوهن}.. واستصحاب المعاني السابقة كلها؛ واستصحاب الهدف من هذه الإجراءات كلها يمنع أن يكون هذا الضرب تعذيباً للانتقام والتشفي. ويمنع أن يكون إهانة للإذلال والتحقير. ويمنع أن يكون أيضاً للقسر والإرغام على معيشة لا ترضاها.. ويحدد أن يكون ضرب تأديب، مصحوب بعاطفة المؤدب المربي؛ كما يزاوله الأب مع أبنائه وكما يزاوله المربي مع تلميذه. ومعروف- بالضرورة- أن هذه الإجراءات كلها لا موضع لها في حالة الوفاق بين الشريكين في المؤسسة الخطيرة. وإنما هي لمواجهة خطر الفساد والتصدع. فهي لا تكون إلا وهناك انحراف ما هو الذي تعالجه هذه الإجراءات.. وحين لا تجدي الموعظة، ولا يجدي الهجر في المضاجع.. لا بد أن يكون هذا الانحراف من نوع آخر، ومن مستوى آخر، لا تجدي فيه الوسائل الأخرى.. وقد تجدي فيه هذه الوسيلة! وشواهد الواقع، والملاحظات النفسية، على بعض أنواع الانحراف، تقول: إن هذه الوسيلة تكون أنسب الوسائل لإشباع انحراف نفسي معين، وإصلاح سلوك صاحبه.. وإرضائه.. في الوقت ذاته! على أنه من غير أن يكون هناك هذا الانحراف المرضي، الذي يعينه علم النفس التحليلي بالاسم؛ إذ نحن لا نأخذ تقريرات علم النفس مسلمات «علمية»، فهو لم يصبح بعد «علماً» بالمعنى العلمي، كما يقول الدكتور «ألكسيس كاريل»، فربما كان من النساء من لا تحس قوة الرجل الذي تحب نفسها أن تجعله قيماً وترضى به زوجاً، إلا حين يقهرها عضلياً! وليست هذه طبيعة كل امرأة. ولكن هذا الصنف من النساء موجود. وهو الذي قد يحتاج إلى هذه المرحلة الأخيرة.. ليستقيم. ويبقي على المؤسسة الخطيرة.. في سلم وطمأنينة! وعلى أية حال، فالذي يقرر هذه الإجراءات، هو الذي خلق. وهو أعلم بمن خلق. وكل جدال بعد قول العليم الخبير مهاترة؛ وكل تمرد على اختيار الخالق وعدم تسليم به، مفض إلى الخروج من مجال الإيمان كله.. وهو- سبحانه- يقررها، في جو وفي ملابسات تحدد صفتها، وتحدد النية المصاحبة لها، وتحدد الغاية من ورائها. بحيث لا يحسب على منهج الله تلك المفهومات الخاطئة للناس في عهود الجاهلية؛ حين يتحول الرجل جلاداً- باسم الدين! وتتحول المرأة رقيقاً- باسم الدين!- أو حين يتحول الرجل امرأة؛ وتتحول المرأة رجلاً؛ أو يتحول كلاهما إلى صنف ثالث مائع بين الرجل والمرأة- باسم التطور في فهم الدين- فهذه كلها أوضاع لا يصعب تمييزها عن الإسلام الصحيح ومقتضياته في نفوس المؤمنين! وقد أبيحت هذه الإجراءات لمعالجة أعراض النشوز- قبل استفحالها- وأحيطت بالتحذيرات من سوء استعمالها، فور تقريرها وإباحتها. وتولى الرسول- صلى الله عليه وسلم- بسنته العملية في بيته مع أهله، وبتوجيهاته الكلامية علاج الغلو هنا وهناك، وتصحيح المفهومات في أقوال كثيرة: ورد في السنن والمسند: «عن معاوية بن حيدة القشيري، أنه قال: يا رسول الله ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت. ولا تضرب الوجه. ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت». وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه: «قال النبي- صلى الله عليه وسلم-» لا تضربوا إماء الله «.. فجاء- عمر رضي الله عنه- إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: ذئرت النساء على أزواجهن! فرخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ضربهن. فأطاف بآل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نساء كثير يشتكين أزواجهن! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن.. ليس أولئك بخياركم» «وقال- صلى الله عليه وسلم- لا يضرب أحدكم امرأته كالعير يجلدها أول النهار. ثم يضاجعها آخره» وقال «خيركم خيركم لأهله. وأنا خيركم لأهلي». ومثل هذه النصوص والتوجيهات؛ والملابسات التي أحاطت بها؛ ترسم صورة لصراع الرواسب الجاهلية مع توجيهات المنهج الإسلامي، في المجتمع المسلم، في هذا المجال. وهي تشبه صورة الصراع بين هذه الرواسب وهذه التوجيهات في شتى مجالات الحياة الأخرى. قبل أن تستقر الأوضاع الإسلامية الجديدة، وتعمق جذورها الشعورية في أعماق الضمير المسلم في المجتمع الإسلامي.. وعلى أية حال فقد جعل لهذه الإجراءات حد تقف عنده- متى تحققت الغاية- عند مرحلة من مراحل هذه الإجراءات. فلا تتجاوز إلى ما وراءها: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً}.. فعند تحقق الغاية تقف الوسيلة. مما يدل على أن الغاية- غاية الطاعة- هي المقصودة. وهي طاعة الاستجابة لا طاعة الإرغام. فهذه ليست طاعة تصلح لقيام مؤسسة الأسرة، قاعدة الجماعة. ويشير النص إلى أن المضي في هذه الإجراءات بعد تحقق الطاعة بغي وتحكم وتجاوز. {فلا تبغوا عليهن سبيلاً}.. ثم يعقب على هذا النهي بالتذكير بالعلي الكبير.. كي تتطامن القلوب، وتعنو الرؤوس، وتتبخر مشاعر البغي والاستعلاء، إن طافت ببعض النفوس: على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب. {إن الله كان علياً كبيراً}.. ذلك حين لا يستعلن النشوز، وإنما تتقى بوادره. فأما إذا كان قد استعلن. فلا تتخذ تلك الإجراءات التي سلفت. إذا لا قيمة لها إذن ولا ثمرة. وإنما هي إذن صراع وحرب بين خصمين ليحطم أحدهما رأس الآخر! وهذا ليس المقصود، ولا المطلوب.. وكذلك إذا رئي أن استخدام هذه الإجراءات قد لا يجدي، بل سيزيد الشقة بعداً، والنشوز استعلاناً؛ ويمزق بقية الخيوط التي لا تزال مربوطة. أو إذا أدى استخدام تلك الوسائل بالفعل إلى غير نتيجة.. في هذه الحالات كلها يشير المنهج الإسلامي الحكيم بإجراء أخير؛ لإنقاذ المؤسسة العظيمة من الانهيار. قبل أن ينفض يديه منها ويدعها تنهار: {وإن خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها. إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما. إن الله كان عليماً خبيراً}. وهكذا لا يدعو المنهج الإسلامي إلى الاستسلام لبوادر النشوز والكراهية؛ ولا إلى المسارعة بفصم عقدة النكاح، وتحطيم مؤسسة الأسرة على رؤوس من فيها من الكبار والصغار- الذين لا ذنب لهم ولا يد ولا حيلة- فمؤسسة الأسرة عزيزة على الإسلام؛ بقدر خطورتها في بناء المجتمع، وفي إمداده باللبنات الجديدة، اللازمة لنموه ورقيه وامتداده. إنه يلجأ إلى هذه الوسيلة الأخيرة- عند خوف الشقاق- فيبادر قبل وقوع الشقاق فعلاً.. ببعث حكم من أهلها ترتضيه، وحكم من أهله يرتضيه. يجتمعان في هدوء. بعيدين عن الانفعالات النفسية، والرواسب الشعورية، والملابسات المعيشية، التي كدرت صفو العلاقات بين الزوجين. طليقين من هذه المؤثرات التي تفسد جو الحياة، وتعقد الأمور، وتبدو- لقربها من نفسي الزوجين- كبيرة تغطي على كل العوامل الطيبة الأخرى في حياتهما. حريصين على سمعة الأسرتين الأصليتين. مشفقين على الأطفال الصغار. بريئين من الرغبة في غلبة أحدهما على الآخر- كما قد يكون الحال مع الزوجين في هذه الظروف- راغبين في خير الزوجين وأطفالهما ومؤسستهما المهددة بالدمار... وفي الوقت ذاته هما مؤتمنان على أسرار الزوجين، لأنهما من أهلهما: لا خوف من تشهيرهما بهذه الأسرار. إذ لا مصلحة لهما في التشهير بها، بل مصلحتهما في دفنها ومداراتها! يجتمع الحكمان لمحاولة الإصلاح. فإن كان في نفسي الزوجين رغبة حقيقية في الإصلاح، وكان الغضب فقط هو الذي يحجب هذه الرغبة، فإنه بمساعدة الرغبة القوية في نفس الحكمين، يقدر الله الصلاح بينهما والتوفيق: {إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما}.. فهما يريدان الإصلاح، والله يستجيب لهما ويوفق.. وهذه هي الصلة بين قلوب الناس وسعيهم، ومشيئة الله وقدره.. إن قدر الله هو الذي يحقق ما يقع في حياة الناس. ولكن الناس يملكون أن يتجهوا وأن يحاولوا؛ وبقدر الله- بعد ذلك- يكون ما يكون. ويكون عن علم بالسرائر وعن خبرة بالصوالح: {إن الله كان عليماً خبيراً}. وهكذا نرى- في هذا الدرس- مدى الجدية والخطورة في نظرة الإسلام إلى المرأة وعلاقات الجنسين ومؤسسة الأسرة، وما يتصل بها من الروابط الاجتماعية.. ونرى مدى اهتمام المنهج الإسلامي بتنظيم هذا الجانب الخطير من الحياة الإنسانية. ونطلع على نماذج من الجهد الذي بذله هذا المنهج العظيم، وهو يأخذ بيد الجماعة المسلمة- التي التقطها من سفح الجاهلية- في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة على هدى الله. الذي لا هدى سواه..
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)} هناك أكثر من مناسبة واحدة، تربط بين مطلع هذا الدرس؛ وبين محور السورة كلها، وموضوعاتها الأساسية من ناحية؛ وبينه وبين موضوعات الدرس السابق في هذا الجزء من ناحية أخرى. فهذا الدرس بدء جولة في تنظيم حياة المجتمع المسلم؛ وتخليصه من رواسب الجاهلية، وتثبيت الملامح الإسلامية الجديدة؛ والتحذير من أهل الكتاب- وهم اليهود بالمدينة- وما جبلوا عليه من شر ونكر؛ وما ينفثونه في المجتمع المسلم، وما يبذلونه من جهود لتعويق نموه وتكامله- وبخاصة من الناحية الأخلاقية، وناحية التكافل والتعاون، اللتين هما موضع القوة النامية في هذا المجتمع الجديد.. ولأن الدرس الجديد جولة جديدة، فقد بدأ بالقاعدة الأولية التي يقوم عليها المجتمع المسلم- قاعدة التوحيد الخالص- التي تنبثق منها حياته؛ وينبثق منها منهج هذه الحياة، في كل جانب، وفي كل اتجاه. وقد سبق هذا الدرس أشواط منوعة في التنظيم العائلي، والتنظيم الاجتماعي. وكان الحديث في الدرس السابق عن الأسرة وتنظيمها ووسائل صيانتها؛ والروابط التي تشدها وتوثق بناءها.. فجاء هذا الدرس يتناول علاقات إنسانية- في المجتمع المسلم- أوسع مدى من علاقات الأسرة؛ ومتصلة بها كذلك. متصلة بها بالحديث عن الوالدين. ومتصلة بها في توسعها بعد علاقة الوالدين، لتشمل علاقات أخرى؛ ينبع الشعور بها من المشاعر الودود الطيبة التي تنشأ في جو الأسرة المتحابة؛ حتى تفيض على جوانب الإنسانية الأخرى؛ ويتعلمها الإنسان- أول من يتعلمها- في جو الأسرة الحاني ومحضنها الرفيق. ومن هناك يتوسع في علاقاته بأسرة الإنسانية كلها؛ بعدما بذرت بذورها في حسه أسرته الخاصة القريبة. ولأن في الدرس الجديد توجيهات إلى رعاية الأسرة القريبة- العائلة- والأسرة الكبيرة- الإنسانية- وإقامة قيم وموازين في هذا الحقل، للباذلين وللباخلين.. فقد ابتدأ الدرس بالقاعدة الأساسية التي تنبثق منها كل القيم والموازين- كما ينبثق منها منهج الحياة كله في المجتمع المسلم- وهي قاعدة التوحيد.. وربط كل حركة وكل نشاط، وكل خالجة وكل انفعال بمعنى العبادة لله. التي هي غاية كل نشاط إنساني، في ضمير المسلم وفي حياته.. وبسبب من الحديث عن عبادة الله وحده- في محيطها الشامل- جاءت الفقرة الثانية في الدرس؛ تبين بعض أحكام الصلاة والطهارة؛ وتتخذ خطوة في طريق تحريم الخمر- ولم تكن قد حرمت بعد- باعتبار هذه الخطوة جزءاً من برنامج التربية الإسلامية العامة الدائبة الخطى في المجتمع الوليد. وباعتبار علاقتها بالعبادة والصلاة والتوحيد.. حلقات متماسكة بعضها مع بعض. ومع الدرس السابق. ومع محور السورة كذلك. {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً. وبالوالدين إحساناً، وبذي القربى واليتامى والمساكين، والجار ذي القربي والجار الجنب والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم. . إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً، الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله، وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً. والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً! وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله، وكان الله بهم عليماً، إن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها، ويؤت من لدنه أجراً عظيماً. فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً؟ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض، ولا يكتمون الله حديثاً «.. هذه الفقرة تبدأ بالأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن إشراك شيء به.. تبدأ بحرف عطف يربط بين هذا الأمر، وهذا النهي، والأوامر السابقة الخاصة بتنظيم الأسرة في أواخر الدرس الماضي. فيدل هذا الربط بين الموضوعين على الوحدة الكلية الشاملة المتكاملة في هذا الدين. فليس هو مجرد عقيدة تستكن في الضمير؛ ولا مجرد شعائر تقام وعبادات؛ ولا مجرد تنظيم دنيوي منقطع الصلة بالعقيدة وبالشعائر التعبدية.. إنما هو منهج يشمل هذا النشاط كله، ويربط بين جوانبه، ويشدها جميعاً إلى الأصل الأصيل. وهو توحيد الله. والتلقي منه وحده- في هذا النشاط كله- دون سواه. توحيده إلهاً معبوداً. وتوحيده مصدراً للتوجيه والتشريع لكل النشاط الإنساني أيضاً. لا ينفك هذا التوحيد عن ذاك- في الإسلام- وفي دين الله الصحيح على الإطلاق. ويلي الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، الأمر بالإحسان إلى تلك المجموعات من الأسرة الخاصة، والأسرة الإنسانية؛ وتقبيح البخل والخيلاء والفخر وأمر الناس بالبخل؛ وكتمان فضل الله- من أي نوع سواء كان من المال أم من العلم والدين- والتحذير من اتباع الشيطان؛ والتلويح بعذاب الآخرة؛ وما فيه من خزي وافتضاح.. لربط هذا كله بالتوحيد؛ وتحديد المصدر الذي يتلقى منه من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً. وهو مصدر كذلك واحد لا يتعدد ولا يشاركه أحد في التوجيه والتشريع؛ كما لا يشاركه أحد في الألوهية وعبادة الناس له بلا شريك. {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً. وبالوالدين إحساناً. وبذي القربى واليتامى والمساكين، والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب. وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم...}. إن التشريعات والتوجيهات- في منهج الله- إنما تنبثق كلها من أصل واحد، وترتكز على ركيزة واحدة. إنها تنبثق من العقيدة في الله، وترتكز على التوحيد المطلق سمة هذه العقيدة.. ومن ثم يتصل بعضها ببعض؛ ويتناسق بعضها مع بعض؛ ويصعب فصل جزئية منها عن جزئية؛ وتصبح دراسة أي منها ناقصة بدون الرجوع إلى أصلها الكبير الذي تلتقي عنده؛ ويصبح العمل ببعضها دون البعض الآخر غير واف بتحقيق صفة الإسلام؛ كما أنه غير واف بتحقيق ثمار المنهج الإسلامي في الحياة. من العقيدة في الله تنبع كل التصورات الأساسية للعلاقات الكونية والحيوية والإنسانية. تلك التصورات التي تقوم عليها المناهج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والعالمية. والتي تؤثر في علاقات الناس بعضهم ببعض، في كل مجالي النشاط الإنساني في الأرض؛ والتي تكيف ضمير الفرد وواقع المجتمع؛ والتي تجعل المعاملات عبادات- بما فيها من اتباع لمنهج الله ومراقبة الله- والعبادات قاعدة للمعاملات- بما فيها من تطهير للضمير والسلوك- والتي تحيل الحياة في النهاية وحدة متماسكة؛ تنبثق من المنهج الرباني، وتتلقى منه وحده دون سواه، وتجعل مردها في الدنيا والآخرة إلى الله. هذه السمة الأساسية في العقيدة الإسلامية، وفي المنهج الإسلامي، وفي دين الله الصحيح كله، تبرز هنا في تصدير آية الإحسان إلى الوالدين والأقربين، وغيرهم من طوائف الناس. بعبادة الله وتوحيده- كما أسلفنا- ثم في الجمع بين قرابة الوالدين، وقرابة هذه الطوائف من الناس، متصلة هذه وتلك بعبادة الله وتوحيده- كذلك- وذلك بعد أن جعل هذه العبادة وهذا التوحيد واسطة ما بين دستور الأسرة القريبة في نهاية الدرس الماضي، ودستور العلاقات الإنسانية الواسعة في هذا الدرس- على النحو الذي بينا من قبل- ليصلها جميعاً بتلك الآصرة التي تضم الأواصر جميعاً؛ وليوحد المصدر الذي يشرع ويوجه في شأن هذه الأواصر جميعاً.. {واعبدوا الله.. ولا تشركوا به شيئاً}.. الأمر الأول بعبادة الله.. والنهي الثاني لتحريم عبادة أحد- معه- سواه. نهياً باتاً، شاملاً، لكل أنواع المعبودات التي عرفتها البشرية: {ولا تشركوا به شيئاً}.. شيئاً كائناً ما كان، من مادة أو حيوان أو إنسان أو ملك أو شيطان.. فكلها مما يدخل في مدلول كلمة شيء، عند إطلاق التعبير على هذا المنوال.. ثم ينطلق إلى الأمر بالإحسان إلى الوالدين- على التخصيص- ولذوي القربى- على التعميم- ومعظم الأوامر تتجه إلى توصية الذرية بالوالدين- وإن كانت لم تغفل توجيه الوالدين إلى الذرية؛ فقد كان الله أرحم بالذراري من آبائهم وأمهاتهم في كل حال. والذرية بصفة خاصة أحوج إلى توجيهها للبر بالوالدين. بالجيل المدبر المولي. إذ الأولاد- في الغالب- يتجهون بكينونتهم كلها، وبعواطفهم ومشاعرهم واهتماماتهم إلى الجيل الذي يخلفهم؛ لا الجيل الذي خلفهم! وبينما هم مدفوعون في تيار الحياة إلى الأمام، غافلون عن التلفت إلى الوراء، تجيئهم هذه التوجيهات من الرحمن الرحيم، الذي لا يترك والداً ولا مولوداً، والذي لا ينسى ذرية ولا والدين؛ والذي يعلم عباده الرحمة بعضهم ببعض، ولو كانوا ذرية أو والدين! كذلك يلحظ في هذه الآية- وفي كثير غيرها- أن التوجيه إلى البر يبدأ بذوي القربى- قرابة خاصة أو عامة- ثم يمتد منها ويتسع نطاقه من محورها، إلى بقية المحتاجين إلى الرعاية من الأسرة الإنسانية الكبيرة. وهذا المنهج يتفق- أولاً- مع الفطرة ويسايرها. فعاطفة الرحمة، ووجدان المشاركة، يبدآن أولاً في البيت. في الأسرة الصغيرة. وقلما ينبثقان في نفس لم تذق طعم هذه العاطفة ولم تجد مسّ هذا الوجدان في المحضن الأول. والنفس كذلك أميل إلى البدء بالأقربين- فطرة وطبعاً- ولا بأس من ذلك ولا ضير؛ ما دامت توجه دائماً إلى التوسع في الدائرة من هذه النقطة ومن هذا المحور.. ثم يتفق المنهج- ثانياً- مع طريقة التنظيم الاجتماعي الإسلامية: من جعل الكافل يبدأ في محيط الأسرة؛ ثم ينساح في محيط الجماعة. كي لا يركز عمليات التكافل في يد الأجهزة الحكومية الضخمة- إلا عندما تعجز الأجهزة الصغيرة المباشرة- فالوحدات المحلية الصغيرة أقدر على تحقيق هذا التكافل: في وقته المناسب وفي سهولة ويسر. وفي تراحم وود يجعل جو الحياة لائقاً ببني الإنسان! وهنا يبدأ بالإحسان إلى الوالدين. ويتوسع منهما إلى ذوي القربى. ومنهم إلى اليتامى والمساكين- ولو أنهم قد يكونون أبعد مكاناً من الجار. ذلك أنهم أشد حاجة وأولى بالرعاية- ثم الجار ذو القرابة. فالجار الأجنبي- مقدمين على الصاحب المرافق- لأن الجار قربه دائم، أما الصاحب فلقاؤه على فترات- ثم الصاحب المرافق- وقد ورد في تفسيره أنه الجليس في الحضر، الرفيق في السفر- ثم ابن السبيل. العابر المنقطع عن أهله وماله. ثم الرقيق الذين جعلتهم الملابسات «ملك اليمين» ولكنهم يتصلون بآصرة الإنسانية الكبرى بين بني آدم أجمعين. ويعقب على الأمر بالإحسان، بتقبيح الاختيال والفخر، والبخل والتبخيل، وكتمان نعمة الله وفضله، والرياء في الإنفاق؛ والكشف عن سبب هذا كله، وهو عدم الإيمان بالله واليوم الآخر، واتباع الشيطان وصحبته: {إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً. الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله. وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً. والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً!} وهكذا تتضح مرة أخرى تلك اللمسة الأساسية في المنهج الإسلامي. وهي ربط كل مظاهر السلوك وكل دوافع الشعور، وكل علاقات المجتمع بالعقيدة. فإفراد الله- سبحانه- بالعبادة والتلقي، يتبعه الإحسان إلى البشر، ابتغاء وجه الله ورضاه، والتعلق بثوابه في الآخرة؛ في أدب ورفق ومعرفة بأن العبد لا ينفق إلا من رزق الله. فهو لا يخلق رزقه، ولا ينال إلا من عطاء الله.. والكفر بالله وباليوم الآخر يصاحبه الاختيال والفخر، والبخل والأمر بالبخل، وكتمان فضل الله ونعمته بحيث لا تظهر آثارها في إحسان أو عطاء؛ أو الإنفاق رياء وتظاهراً طلباً للمفخرة عند الناس؛ إذ لا إيمان بجزاء آخر غير الفخر والخيلاء بين العباد! وهكذا تتحدد «الأخلاق». . أخلاق الإيمان. وأخلاق الكفر.. فالباعث على العمل الطيب، والخلق الطيب، هو الإيمان بالله واليوم الآخر، والتطلع إلى رضاء الله.. وجزاء الآخرة. فهو باعث رفيع لا ينتظر صاحبه جزاء من الناس، ولا يتلقاه ابتداء من عرف الناس! فإذا لم يكن هناك إيمان باله يبتغي وجهه، وتتحدد بواعث العمل بالرغبة في رضاه. وإذا لم يكن هناك اعتقاد بيوم آخر يتم فيه الجزاء.. اتجه هم الناس إلى نيل القيم الأرضية المستمدة من عرف الناس. وهذه لا ضابط لها في جيل واحد في رقعة واحدة، فضلاً عن أن يكون لها ضابط ثابت في كل زمان وفي كل مكان! وكانت هذه هي بواعثهم للعمل. وكان هناك التأرجح المستمر كتأرجح أهواء الناس وقيمهم التي لا تثبت على حال! وكان معها تلك الصفات الذميمة من الفخر والخيلاء، والبخل والتبخيل، ومراءاة الناس لا التجرد والإخلاص! والتعبير القرآني يقول: إن الله {لا يحب} هؤلاء.. والله- سبحانه- لا ينفعل انفعال الكره والحب. إنما المقصود ما يصاحب هذا الانفعال في مألوف البشر من الطرد والأذى وسوء الجزاء: {وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً}.. والإهانة هي الجزاء المقابل للفخر والخيلاء. ولكن التعبير القرآني يلقي ظلاله- إلى جوار المعنى المقصود- وهي ظلال مقصودة؛ تثير في النفوس الكره لهذه الصفات، ولهذه التصرفات؛ كما تثير الاحتقار والاشمئزاز. وبخاصة حين يضم إليها أن الشيطان هو قرينهم: {ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً} ! وقد ورد أن هذه النصوص نزلت في جماعة من يهود المدينة.. وهي صفات تنطبق على اليهود، كما تنطبق على المنافقين.. وكلاهما كان موجوداً في المجتمع المسلم في ذلك الحين.. وقد تكون الإشارة إلى كتمانهم ما آتاهم الله من فضله، تعني كذلك كتمانهم للحقائق التي يعرفونها في كتبهم عن هذا الدين، وعن رسوله الأمين.. ولكن النص عام، والسياق بصدد الإحسان بالمال وبالمعاملة. فأولى أن نترك مفهومه عاماً. لأنه الأقرب إلى طبيعة السياق. وحين ينتهي من عرض سوءات نفوسهم؛ وسوءات سلوكهم؛ ومن عرض أسبابها من الكفر بالله واليوم الآخر، وصحبة الشيطان واتباعه؛ ومن الجزاء المعد المهيأ لأصحاب هذه السوءات، وهو العذاب المهين.. عندئذ يسأل في استنكار: {وماذا عليهم لو آمنوا بالله، واليوم الآخر، وأنفقوا مما رزقهم الله؟ وكان الله بهم عليماً. إن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها، ويؤت من لدنه أجراً عظيماً}.. أجل! ماذا عليهم؟ ما الذي يخشونه من الإيمان بالله واليوم الآخر، والإنفاق من رزق الله. والله عليم بهم بما أنفقوا وبما استقر في قلوبهم من بواعث، والله لا يظلم مثقال ذرة فلا خشية من الجهل بإيمانهم وإنفاقهم. ولا خوف من الظلم في جزائهم.. بل هناك الفضل والزيادة، بمضاعفة الحسنات، والزيادة من فضل الله بلا حساب؟ إن طريق الإيمان أضمن وأكسب- على كل حال وعلى كل احتمال- وحتى بحساب الربح المادي والخسارة المادية، فإن الإيمان- في هذه الصورة- يبدو هو الأضمن وهو الأربح! فماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر؛ وأنفقوا مما رزقهم الله؟ إنهم لا ينفقون من شيء خلقوه لأنفسهم خلقاً؛ إنما هو رزق الله لهم. ومع ذلك يضاعف لهم الحسنة؛ ويزيدهم من فضله، وهم من رزقه ينفقون ويعطون! فياله من كرم! وياله من فيض! ويالها من صفقة لا يقعد عنها إلا جاهل خسران! ثم يختم الأوامر والنواهي، والتحضيض والترغيب، بمشهد من مشاهد القيامة؛ يجسم موقفهم فيه، ويرسم حركة النفوس والمشاعر كأنها شاخصة متحركة.. على طريقة القرآن في مشاهد القيامة: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً! يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض، ولا يكتمون الله حديثاً}.. إنه يمهد لمشهد القيامة، بأن الله لا يظلم مثقال ذرة.. وإذن فهو العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه قيد شعرة.. وأنه يضاعف الحسنات ويؤتي فضلاً عنها أجراً من لدنه عظيماً.. فهي الرحمة إذن لمن يستحقون الرحمة؛ والفضل المطلق لمن كانوا يرجون الفضل، بالإيمان والعمل.. فأما هؤلاء. هؤلاء الذين لم يقدموا إيماناً، ولم يقدموا عملاً.. هؤلاء الذين لم يقدموا إلا الكفر وسوء العمل.. فكيف يكون حالهم يومذاك؟ كيف يكون الحال، إذا جئنا من كل أمة بشهيد- هو نبيها الذي يشهد عليها- وجئنا بك على هؤلاء شهيداً؟ وعندئذ يرتسم المشهد شاخصاً.. ساحة العرض الواسعة. وكل أمة حاضرة. وعلى كل أمة شهيد بأعمالها.. وهؤلاء الكافرون المختالون الفخورون الباخلون المبخلون، الكاتمون لفضل الله، المراءون الذين لم يبتغوا وجه الله.. هؤلاء هم نكاد نراهم من خلال التعبير! واقفين في الساحة وقد انتدب الرسول صلى الله عليه وسلم للشهادة! هؤلاء هم بكل ما أضمروا وأظهروا. بكل ما كفروا وما أنكروا. بكل ما اختالوا وما افتخروا. بكل ما بخلوا وبخلوا. بكل ما راءوا وتظاهروا.. هؤلاء هم في حضرة الخالق الذي كفروا به، الرازق الذي كتموا فضله وبخلوا بالإنفاق مما أعطاهم. في اليوم الآخر الذي لم يؤمنوا به. في مواجهة الرسول الذي عصوه.. فكيف؟! إنها المهانة والخزي، والخجل والندامة.. مع الاعتراف حيث لا جدوى من الإنكار.. والسياق القرآني لا يصف هذا كله من الظاهر. إنما يرسم «صورة نفسية» تتضح بهذا كله؛ وترتسم حواليها تلك الظلال كلها. ظلال الخزي والمهانة، والخجل والندامة: {يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض، ولا يكتمون الله حديثاً «! ومن خلال اللمسات المعبرة في الصورة الحية، نحس بكل تلك المعاني، وبكل تلك الانفعالات، وهي تتحرك في هذه النفوس. . نحس بها عميقة حية مؤثرة. كما لا نحس من خلال أي تعبير آخر.. وصفي أو تحليلي.. وتلك طريقة القرآن في مشاهد القيامة، وفي غيرها من مواضع التعبير بالتصوير. وقد بدأ الدرس بالأمر بعبادة الله والنهي عن إشراك شيء به.. والصلاة أمس الشعائر بمعنى العبادة. وفي الآية التالية بيان لبعض أحكامها، وأحكام الطهارة الممهدة لها: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى- حتى تعلموا ما تقولون- ولا جنباً- إلا عابري سبيل- حتى تغتسلوا. وإن كنتم مرضى أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء، فتيمموا صعيداً طيباً، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم. إن الله كان عفواً غفوراً «.. إنها حلقة في سلسلة التربية الربانية للجماعة المسلمة- التي التقطها المنهج الإسلامي من سفح الجاهلية- وكانت الخمر إحدى تقاليد المجتمع الجاهلي الأصلية الشاملة؛ وإحدى الظواهر المميزة لهذا المجتمع. كما أنها تكاد تكون ظاهرة مميزة لكل جاهلية في القديم والحديث أيضاً.. الخمر كانت ظاهرة مميزة للمجتمع الروماني في أوج جاهليته؛ وللمجتمع الفارسي أيضاً. وكذلك هي اليوم ظاهرة مميزة للمجتمع الأوربي والمجتمع الأمريكي في أوج جاهليته! والشأن أيضاً كذلك في جاهلية المجتمع الإفريقي المتخلفة من الجاهلية الأولى! في السويد- وهي أرقى أو من أرقى أمم الجاهلية الحديثة- كانت كل عائلة في النصف الأول من القرن الماضي تعد الخمر الخاصة بها. وكان متوسط ما يستهلكه الفرد، حوالي عشرين لتراً. وأحست الحكومة خطورة هذه الحال، وما ينشره من إدمان؛ فاتجهت إلى سياسة احتكار الخمور، وتحديد الاستهلاك الفردي، ومنع شرب الخمور في المحال العامة، ولكنها عادت فخففت هذه القيود منذ أعوام قليلة! فأبيح شرب الخمر في المطاعم بشرط تناول الطعام. ثم أبيحت الخمر في عدد محدود من المحال العامة، حتى منتصف الليل فقط! وبعد ذلك يباح شرب» النبيذ والبيرة «فحسب! وإدمان الخمر عند المراهقين يتضاعف.. ! أما في أمريكا، فقد حاولت الحكومة الأمريكية مرة القضاء على هذه الظاهرة فسنت قانوناً في سنة 1919 سمي قانون» الجفاف «! من باب التهكم عليه، لأنه يمنع» الري «بالخمر! وقد ظل هذا القانون قائماً مدة أربعة عشر عاماً، حتى اضطرت الحكومة إلى إلغائه في سنة1933. وكانت قد استخدمت جميع وسائل النشر والإذاعة والسينما والمحاضرات للدعاية ضد الخمر. ويقدرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليوناً من الدولارات. وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على عشرة بلايين صفحة. وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم في مدة أربعة عشر عاما لا يقل عن250 مليون جنيه وقد أعدم فيها نفس 300 وسجن كذلك 532335 نفسا وبلغت الغرامات 16 مليون جنيه وصادرت من الأملاك ما يبلغ 400 مليون وأربعة بلايين جنيه وبعد ذلك كله اضطرت إلى التراجع وإلغاء القانون فأما الإسلام فقضى على هذه الظاهرة العميقة في المجتمع الجاهلي ببضع آيات من القرآن وهذا هو الفرق في علاج النفس البشرية وفي علاج المجتمع الإنساني بين منهج الله ومناهج الجاهلية قديما وحديثا على السواء ولكي ندرك تغلغل هذه الظاهرة في المجتمع الجاهلي يجب أن نعود إلى الشعر الجاهلي ; حيث نجد الخمر عنصرا أساسيا من عناصر المادة الأدبية ; كما أنه عنصر أساسي من عناصر الحياة كلها لقد بلغ من شيوع تجارة الخمر أن أصبحت كلمة التجارة مرادفة لبيع الخمر يقول لبيد قد بت سامرها وغاية تاجر *** وافيت إذ رفعت وعز مدامها ويقول عمرو بن قميئة إذا أسحب الريط والمروط إلى *** أدني تجاري وأنفض اللمما ووصف مجالس الشراب والمفاخرة بها تزحم الشعر الجاهلي وتطبعه طابعا ظاهرا يقول امرؤ القيس وأصبحت ودعت الصبا غير *** أنني أراقب خلات من العيش أربعا فمنهن قولي للندامى تفرفقوا *** يداجون نشاجا من الخمر مترعا ومنهن ركض الخيل ترجم بالقنا *** يبادرن سربا آمنا أن يفزعا الخ ويقول طرفة بن العبد فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى *** وجدك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبقي العاذلات بشربة *** كميت متى ما تعل بالماء تزبد وما زال تشرابي الخمور ولذتي *** وبذلي وإنفاقي طريفي وتالدي إلى أن تحامتني العشيرة كلها *** وأفردت إفراد البعير المعبد ويقول الأعشى فقد أشرب الراح قد تعلمين *** يوم المقام ويوم الظعن وأشرب بالريف حتى يقال *** قد طال بالريف ما قد دجن ويقول المنخل اليشكري ولقد شربت من المدامة *** بالصغير وبالكبير فإذا سكرت فإنني *** رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني *** رب الشويهة والبعير وغير هذا كثير في الشعر الجاهلي ورواية الحوادث التي صاحبت مراحل تحريم الخمر في المجتمع المسلم والرجال الذين كانوا أبطال هذه الحوادث وفيهم عمر وعلي وحمزة وعبدالرحمن بن عوف وأمثال هذا الطراز من الرجال تشي بمدى تغلغل هذه الظاهرة في الجاهلية العربية وتكفي عن الوصف المطول المفصل يقول عمر رضي الله عنه في قصة إسلامه في رواية كنت صاحب خمر في الجاهلية فقلت لو أذهب إلى فلان الخمار فأشرب وظل عمر يشرب الخمر في الإسلام حتى إذا نزلت آية يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما قال اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر . واستمر.. حتى إذا نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون}.. قال: اللهم بيّن لنا بياناً شافياً في الخمر! حتى إذا نزلت آية التحريم الصريحة: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون}. قال: انتهينا انتهينا! وانتهى.. وفي سبب نزول هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} ترد روايتان يشترك في أحداثهما علي وعبد الرحمن بن عوف من المهاجرين. وسعد بن معاذ من الأنصار. روى ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود- بإسناده- عن مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال: «نزلت في أربع آيات. صنع رجل من الأنصار طعاماً فدعا أناساً من المهاجرين وأناساً من الأنصار. فأكلنا وشربنا، حتى سكرنا، ثم افتخرنا، فرفع رجل لحي بعير (عظم الفك) فغرز بها أنف سعد. فكان سعد مغروز الأنف. وذلك قبل تحريم الخمر. فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}.. والحديث بطوله عند مسلم من رواية شعبة. وروى ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار. حدثنا عبد الرحمن بن عبدالله الدشتكي أبو جعفر. عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال:» صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً، فدعانا، وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدموا فلاناً قال: فقرأ قل يا أيها الكافرون. ما أعبد ما تعبدون. ونحن نعبد ما تعبدون! فأنزل الله: {يا أيها الذين أمنوا لا تقربوا الصلاة وأنت سكارى حتى تعلموا ما تقولون}. ولا نحتاج إلى مزيد من الأمثلة والروايات؛ لندلل على تغلغل ظاهرة الخمر في المجتمع الجاهلي. فهي كانت والميسر، الظاهرتين البارزتين؛ المتداخلتين، في تقاليد هذا المجتمع.. فماذا صنع المنهج الرباني لمقاومة هذه الظاهرة المتغلغلة؟ ماذا صنع لمكافحة هذه الآفة، التي لا يقوم معها مجتمع جاد صالح مستقيم واع أبداً؟ ماذا صنع ليقف في وجه عادة أصيلة قديمة، تتعلق بها تقاليد اجتماعية؛ كما تتعلق بها مصالح اقتصادية؟ لقد عالج المنهج الرباني هذا كله ببضع آيات من القرآن؛ وعلى مراحل، وفي رفق وتؤدة. وكسب المعركة. دون حرب. ودون تضحيات. ودون إراقة دماء.. والذي أريق فقط هو دنان الخمر وزقاقها وجرعات منها كانت في أفواه الشاربين- حين سمعوا آية التحريم- فمجوها من أفواهم. ولم يبلعوها. كما سيجيء! في مكة- حيث لم يكن للإسلام دولة ولا سلطان.. إلا سلطان القرآن- وردت في القرآن المكي تلميحة سريعة إلى نظرة الإسلام للخمر. تدرك من ثنايا العبارة. وهي مجرد إشارة: جاء في سورة النحل: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً}. فوضع «السكر» وهو الشراب المسكر الذي كانوا يتخذونه من ثمرات النخيل والأعناب، وفي مقابل الرزق الحسن! ملمحا بهذا التقابل إلى أن السكر شيء. والرزق «الحسن» شيء آخر.. وكانت مجرد لمسة من بعيد؛ للضمير المسلم الوليد! ولكن عادة الشراب، أو تقليد الشراب- بمعنى أدق- فقد كان أعمق من عادة فردية. كان تقليداً اجتماعياً، له جذور اقتصادية.. كان أعمق من أن تؤثر فيه هذه اللمسة السريعة البعيدة.. وفي المدينة حيث قامت للإسلام دولة وكان له سلطان.. لم يلجأ إلى تحريم الخمر بقوة الدولة وسيف السلطان. إنما كان أولاً سلطان القرآن.. وبدأ المنهج عمله في رفق وفي يسر، وفي خبرة بالنفس البشرية، والأوضاع الاجتماعية.. بدأ بآية البقرة رداً على أسئلة تدل على فجر اليقظة في الضمير المسلم ضد الخمر والميسر: {يسألونك عن الخمر والميسر. قل: فيهما إثم كبير، ومنافع للناس.. وإثمهما أكبر من نفعهما..} وكانت هي الطرقة الأولى، ذات الصوت المسموع.. في الحس الإسلامي، وفي الضمير الإسلامي، وفي المنطق الفقهي الإسلامي.. فمدار الحل والحرمة.. أو الكراهية.. على رجحان الإثم أو رجحان الخير، في أمر من الأمور.. وإذا كان إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما.. فهذا مفرق الطريق.. ولكن الأمر كان أعمق من هذا.. وقال عمر- رضي الله عنه-: «اللهم بين لنا بياناً شافياً في الخمر».. عمر!!! وهذا وحده يكفي لبيان عمق هذا التقليد في نفس العربي! ثم حدثت أحداث- كالتي رويناها- ونزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، حتى تعلموا ما تقولون}.. وأخذ المنهج البصير الرفيق يعمل.. لقد كانت هذه هي المرحلة الوسيطة، بين التنفير من الخمر، لأن إثمها أكبر من نفعها، وبين التحريم البات، لأنها رجس من عمل الشيطان. وكانت وظيفة هذه المرحلة الوسيطة: هي «قطع عادة الشراب» أو «كسر الإدمان».. وذلك بحظر الشراب قرب أوقات الصلاة. وأوقات الصلاة موزعة على مدار النهار. وبينها فترات لا تكفي للشراب- الذي يرضي المدمنين- ثم الإفاقة من السكر الغليظ! حتى يعلموا ما يقولون! فضلاً على أن للشراب كذلك أوقاتاً ومواعيد خاصة من الصبوح والغبوق.. صباحاً ومساء.. وهذه تتخللها وتعقبها أوقات الصلاة.. وهنا يقف ضمير المسلم بين أداء الصلاة وبين لذة الشراب.. وكان هذا الضمير قد بلغ أن تكون الصلاة عنده عماد الحياة.. ومع ذلك.. فقد قال عمر رضي الله عنه- وهو عمر!!!- «اللهم بين لنا بياناً شافياً في الخمر».. ثم مضى الزمن. ووقعت الأحداث. وجاء الوعد المناسب- وفق ترتيب المنهج- للضربة الحاسمة. فنزلت الآيتان في المائدة: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان، فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟} وانتهى المسلمون كافة. وأريقت زقاق الخمر، وكسرت دنانها في كل مكان.. بمجرد سماع الأمر.. ومج الذين كان في أفواههم جرعات من الخمر ما في أفواههم- حين سمعوا ولم يبلعوها وهي في أفواههم. وهم شاربون.. لقد انتصر القرآن. وأفلح المنهج. وفرض سلطانه- دون أن يستخدم السلطان!!! ولكن كيف كان هذا؟ كيف تمت هذه المعجزة، التي لا نظير لها في تاريخ البشر؛ ولا مثيل لها في تاريخ التشريعات والقوانين والإجراءات الحكومية في أي مكان، ولا في أي زمان؟ لقد تمت المعجزة، لأن المنهج الرباني، أخذ النفس الإنسانية، بطريقته الخاصة.. أخذها بسلطان الله وخشيته ومراقبته، وبحضور الله- سبحانه- فيها حضوراً لا تملك الغفلة عنه لحظة من زمان.. أخذها جملة لا تفاريق.. وعالج الفطرة بطريقة خالق الفطرة.. لقد ملأ فراغها باهتمامات كبيرة لا تدع فيها فراغاً تملؤه بنشوة الخمر، وخيالات السكر، وما يصاحبها من مفاخرات وخيلاء.. في الهواء.. ملأ فراغها باهتمامات. منها: نقل هذه البشرية الضالة الشاردة كلها، من تيه الجاهلية الأجرد، وهجيرها المتلظي، وظلامها الدامس، وعبوديتها المذلة، وضيقها الخانق، إلى رياض الإسلام البديعة، وظلاله الندية، ونوره الوضيء، وحريته الكريمة، وسعته التي تشمل الدنيا والآخرة! وملأ فراغها- وهذا هو الأهم- بالإيمان. بهذا الإحساس الندي الرضي الجميل البهيج. فلم تعد في حاجة إلى نشوة الخمر، تحلق بها في خيالات كاذبة وسمادير! وهي ترف بالإيمان المشع إلى الملأ الأعلى الوضيء.. وتعيش بقرب الله ونوره وجلاله.. وتذوق طعم هذا القرب، فتمج طعم الخمر ونشوتها؛ وترفض خمارها وصداعها؛ وتستقذر لوثتها وخمودها في النهاية! إنه استنقذ الفطرة من ركام الجاهلية؛ وفتحها بمفتاحها، الذي لا تفتح بغيره؛ وتمشى في حناياها وأوصالها؛ وفي مسالكها ودروبها.. ينشر النور، والحياة، والنظافة، والطهر، واليقظة، والهمة، والاندفاع للخير الكبير والعمل الكبير، والخلافة في الأرض، على أصولها، التي قررها العليم الخبير، وعلى عهد الله وشرطه، وعلى هدى ونور.. إن الخمر- كالميسر. كبقية الملاهي. كالجنون بما يسمونه «الألعاب الرياضية» والإسراف في الاهتمام بمشاهدها.. كالجنون بالسرعة.. كالجنون بالسينما.. كالجنون «بالمودات» «والتقاليع».. كالجنون بمصارعة الثيران.. كالجنون ببقية التفاهات التي تغشى حياة القطعان البشرية في الجاهلية الحديثة اليوم، جاهلية الحضارة الصناعية! إن هذه كلها ليست إلا تعبيراً عن الخواء الروحي.. من الإيمان أولاً.. ومن الاهتمامات الكبيرة التي تستنفد الطاقة ثانياً.. وليست إلا إعلاناً عن إفلاس هذه الحضارة في إشباع الطاقات الفطرية بطريقة سوية.. ذلك الخواء وهذا الإفلاس هما اللذان يقودان إلى الخمر والميسر لملء الفراغ، كما يقودان إلى كل أنواع الجنون التي ذكرنا. . وهما بذاتهما اللذان يقودان إلى «الجنون» المعروف، وإلى المرض النفسي والعصبي.. وإلى الشذوذ.. إنها لم تكن كلمات.. هي التي حققت تلك المعجزة الفريدة.. إنما كان منهج. منهج هذه الكلمات متنه وأصله. منهج من صنع رب الناس. لا من صنع الناس! وهذا هو الفارق الأصيل بينه وبين كل ما يتخذه البشر من مناهج، لا تؤدي إلى كثير! إنه ليست المسألة أن يقال كلام! فالكلام كثير. وقد يكتب فلان من الفلاسفة. أو فلان من الشعراء. أو فلان من المفكرين. أو فلان من السلاطين! قد يكتب كلاماً منمقاً جميلاً يبدو أنه يؤلف منهجاً، أو مذهباً، أو فلسفة.. الخ.. ولكن ضمائر الناس تتلقاه، بلا سلطان. لأنه «ما أنزل الله به من سلطان»! فمصدر الكلمة هو الذي يمنحها السلطان.. وذلك فوق ما في طبيعة المنهج البشري ذاته من ضعف ومن هوى ومن جهل ومن قصور! فمتى يدرك هذه الحقيقة البسيطة من يحاولون أن يضعوا لحياة الناس مناهج، غير منهج العليم الخبير؟ وأن يشرعوا للناس قواعد غير التي شرعها الحكيم البصير؟ وأن يقيموا للناس معالم لم يقمها الخلاق القدير؟ متى؟ متى ينتهون عن هذا الغرور؟! ونعود من هذا الاستطراد إلى الآية الكريمة: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى- تعلموا ما تقولون- ولا جنباً- إلا عابري سبيل- حتى تغتسلوا...} كما منعت الآية- الذين آمنوا- أن يقربوا الصلاة وهم سكارى- حتى يعلموا ما يقولون- كذلك منعتهم من الصلاة وهم جنب- إلا عابري سبيل- حتى يغتسلوا... وتختلف الأقوال في المقصود من «عابري سبيل» كما تختلف في معنى قرب الصلاة المنهي عنه.. فقول: إن المقصود هو عدم قرب المساجد، أو المكث فيها، لمن كان جنباً، حتى يغتسل. إلا أن يكون عابراً بالمسجد مجرد عبور. وقد كان جماعة من الصحابة أبواب بيوتهم تفتح في مسجد الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو طريقهم من وإلى هذه البيوت. فرخص لهم في المرور- وهم جنب- لا بالمكث في المسجد- ولا الصلاة بطبيعة الحال- إلا بعد الاغتسال. وقول: إن المقصود هو الصلاة ذاتها. والنهي عن أدائها للجنب- إلا بعد الاغتسال- مالم يكن مسافراً. فيحل له عندئذ أن يقصد المسجد وأن يصلي- بلا اغتسال- ولكن بالتيمم. الذي يسد مسد الغسل- عندئذ- كما يسد مسد الوضوء.. والقول الأول يبدو أظهر وأوجه. لأن الحالة الثانية- حالة السفر- ذكرت في الآية نفسها بعد ذلك. فتفسير عابري سبيل- بالمسافرين، ينشئ تكراراً للحكم في الآية الواحدة، لا ضرورة له: {وإن كنتم مرضى، أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء- فلم تجدوا ماء- فتيمموا صعيداً طيباً. فامسحوا بوجوهكم وأيديكم. إن الله كان عفواً غفوراً}.. فهذا النص يشمل حالة المسافر- عندما يصيبه حدث أكبر فيكون جنباً في حاجة إلى الغسل أو حدث أصغر، فيكون في حاجة إلى الوضوء، لأداء الصلاة. والنص يسويه في هذه الحالة بمن كان مريضاً، فألم به حدث أكبر أو أصغر. أو بمن جاء من الغائط (والغائط مكان منخفض كانوا يقضون حاجتهم فيه، فكنى عن الفعل بالمجيء من مكان الفعل) فأصابه حدث أصغر يقتضي الوضوء. أو بمن لامس النساء.. وفي {لامستم النساء}.. أقوال كذلك: قول: إنه كناية عن الجماع.. فهو يستوجب الغسل. وقول إنه يعني حقيقة اللمس.. لمس أي جزء من جسم الرجل لجسم المرأة.. وهو يستوجب الوضوء في بعض المذاهب، ولا يستوجبه في بعضها. بتفصيلات تطلب في كتب الفروع نذكر منها إجمالاً: «أ» اللمس يوجب الوضوء إطلاقاً. «ب» اللمس يوجب الوضوء إذا كان اللامس ممن تثور الشهوة في نفسه باللمس. وإذا كانت الملموسة ممن تثير الشهوة باللمس. «ج» اللمس يوجب الوضوء إذا أحس اللامس نفسه- حسب تقديره في كل حالة- أن اللمسة أثارت في نفسه حركة. «د» اللمس لا يوجب الوضوء إطلاقاً، ولا العناق ولا التقبيل للزوجة.. ولكل قول سنده من أفعال أو من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم.. على طريقة الاختلافات الفقهية في الفروع. والذي نرجحه في معنى {أو لامستم النساء} أنه كناية عن الفعل الذي يستوجب الغسل. وبذلك نستغني هنا عن كل الخلافات في مسألة الوضوء.. وفي جميع هذه الحالات المذكورة، سواء كانت الحالة تستوجب الغسل أو تستوجب الوضوء للصلاة.. حين لا يوجد الماء- وكذلك حين يوجد ولكن استعماله يكون ضاراً أو غير مقدور عليه- يغني عن الغسل والوضوء: التيمم. وقد جاء اسمه من نص الآية. {فتيمموا صعيداً طيباً}.. أي فاقصدوا صعيداً طيباً.. طاهراً.. والصعيد كل ما كان من جنس الأرض من تراب. أو حجر. أو حائط. ولو كان التراب مما على ظهر الدابة. أو في الفراش من ذرات التراب المتطاير. متى كان هناك تراب يتطاير عند ضرب اليدين به. وطريقة التيمم: إما خبطة واحدة بالكفين على الصعيد الطاهر. ثم نفضهما. ثم مسح الوجه. ثم مسح اليدين إلى المرفقين بهما.. وإما خبطتان: خبطة يمسح بها الوجه، وخبطة يمسح بها الذراعان.. ولا داعي هنا لذكر الخلافات الفقهية الدقيقة فيما وراء هذا.. فهذا الدين يسر، وفي شرعية التيمم يتجلى معنى التيسير واضحاً: {إن الله كان عفواً غفوراً}.. وهو التعقيب الموحي بالتيسير. وبالعطف على الضعف، وبالمسامحة في القصور. والمغفرة في التقصير.. وقبل أن ننهي الحديث عن هذه الآية وعن هذا الدرس.. نقف أمام بضع لمسات في هذه الآية القصيرة: نقف أمام «حكمة التيمم». نحاول استيضاح ما ييسره لنا الله من حكمتها.. إن بعض الباحثين في حكمة التشريعات والعبادات الإسلامية، يندفعون أحياناً في تعليل هذه الأحكام؛ بصورة توحي بأنهم استقصوا هذه الحكمة؛ فلم يعد وراء ما استقصوه شيء! وهذا منهج غير سليم في مواجهة النصوص القرآنية والأحكام التشريعية.. ما لم يكن قد نص على حكمتها نصاً.. وأولى: أن نقول دائماً: إن هذا ما استطعنا أن نستشرفه من حكمة النص أو الحكم. وأنه قد تكون دائماً هنالك أسرار من الحكمة لم يؤذن لنا في استجلائها! وبذلك نضع عقلنا البشري- في مكانه- أمام النصوص والأحكام الإلهية. بدون إفراط ولا تفريط.. أقول هذا، لأن بعضنا- ومنهم المخلصون- يحبون أن يقدموا النصوص والأحكام الإسلامية للناس، ومعها حكمة محددة، مستقاة مما عرفه البشر من واقعهم أو مما كشف عنه «العلم الحديث»! وهذا حسن- ولكن في حدود- هي الحدود التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة. وكثيراً ما ذكر عن حكمة الوضوء- قبل الصلاة- أنها النظافة.. وقد يكون هذا المعنى مقصوداً في الوضوء. ولكن الجزم بأنه هو.. وهو دون غيره.. هو المنهج غير السليم. وغير المأمون أيضاً: فقد جاء وقت قال بعض المماحكين: لا حاجة بنا إلى هذه الطريقة البدائية: فالنظافة الآن موفورة. والناس يجعلونها في برنامج حياتهم اليومي. فإذا كانت هذه هي «حكمة الوضوء» فلا داعي للوضوء إذن للصلاة! بل.. لا داعي للصلاة أيضاً!! وكثيراً ما ذكر عن «حكمة الصلاة»... تارة أنها حركات رياضية تشغل الجسم كله وتارة بأنها تعويد على النظام: أولاً في مواقيتها. وثانياً في حركاتها. وثالثاً في نظام الصفوف والإمامة... الخ. وتارة أنها الاتصال بالله في الدعاء والقراءة.. وهذا وذاك وذلك قد يكون مقصوداً.. ولكن الجزم بأن هذا أو ذاك أو ذلك هو «حكمة الصلاة» يتجاوز المنهج السليم والحد المأمون. وقد جاء حين من الدهر قال بعضهم فيه: إنه لا حاجة بنا إلى حركات الصلاة الرياضية. فالتدريبات الرياضية المنوعة كفيلة بهذا بعد أن أصبحت الرياضة فناً من الفنون! وقال بعضهم: ولا حاجة بنا إلى الصلاة لتعود النظام. فعندنا الجندية- مجال النظام الأكبر. وفيها غناء! وقال بعضهم: لا حاجة لتحتيم شكل هذه الصلاة. فالاتصال بالله يمكن أن يتم في خلوة ونجوة بعيداً عن حركات الجوارح، التي قد تعطل الاستشراف الروحي! وهكذا.. إذا رحنا «نحدد» حكمة كل عبادة. وحكمة كل حكم. ونعلله تعليلاً وفق «العقل البشري» أو وفق «العلم الحديث» ثم نجزم بأن هذا هو المقصود. . فإننا نبعد كثيراً عن المنهج السليم في مواجهة نصوص الله وأحكامه. كما نبعد كذلك عن الحد المأمون. ونفتح الباب دائماً للمماحكات. فوق ما تحتمله تعليلاتنا من خطأ جسيم. وبخاصة حين نربطها بالعلم. والعلم قلب لا يثبت على حال. وهو كل يوم في تصحيح وتعديل! وهنا في موضوعنا الحاضر- موضوع التيمم- يبدو أن حكمة الوضوء أو الغسل، ليست هي «مجرد» النظافة. وإلا فإن البديل من أحدهما أو من كليهما، لا يحقق هذه «الحكمة»! فلا بد إذن من حكمة «أخرى» للوضوء أو الغسل. تكون متحققة كذلك في «التيمم».. ولا نريد نحن أن نقع في الغلطة نفسها فنجزم! ولكننا نقول فقط: إنها- ربما- كانت هي الاستعداد النفسي للقاء الله، بعمل ما، يفصل بين شواغل الحياة اليومية العادية، وبين اللقاء العظيم الكريم.. ومن ثم يقوم التيمم- في هذا الجانب- مكان الغسل أو مكان الوضوء.. ويبقى وراء هذا علم الله الكامل الشامل اللطيف؛ بدخائل النفوس، ومنحنياتها ودروبها، التي لا يعلمها إلا اللطيف الخبير.. ويبقى أن نتعلم نحن شيئاً من الأدب مع الجليل العظيم العلي الكبير.. ونقف مرة أخرى أمام حرص المنهج الرباني على الصلاة؛ وعلى إقامتها في وجه جميع الأعذار والمعوقات. وتذليل هذه المعوّقات. والتيسير البادي في إحلال التيمم محل الوضوء، ومحل الغسل، أو محلهما معاً، عند تعذر وجود الماء؛ أو عند التضرر بالماء (أو عند الحاجة إلى الماء القليل للشرب وضروريات الحياة) وكذلك عند السفر (حتى مع وجود الماء في أقوال).. إن هذا كله يدل- بالاضافة إلى ما سيأتي في السورة من بيان كيفية الصلاة عند الخوف- في ميدان القتال- على حرص شديد من المنهج الرباني، على الصلاة.. بحيث لا ينقطع المسلم عنها لسبب من الأسباب (ويبدو ذلك كذلك في المرض حيث تؤدى الصلاة من قعود، أو من اضطجاع، أو من نوم. وتؤدى بحركات من جفني العين عندما يشق تحريك الجسم والأطراف!) إنها هذه الصلة بين العبد والرب. الصلة التي لا يحب الله للعبد أن ينقطع عنها. لأنه- سبحانه- يعلم ضرورتها لهذا العبد. فالله سبحانه غني عن العالمين. ولا يناله من عبادة العباد شيء. إلا صلاحهم هم. وإلا ما يجدون في الصلاة والاتصال بالله، من العون على تكاليفهم، والاسترواح لقلوبهم، والاطمئنان لأرواحهم. والإشراق في كيانهم؛ والشعور بأنهم في كنف الله، وقربه، ورعايته، بالطريقة التي تصلح لفطرتهم.. والله أعلم بفطرتهم هذه، وبما يصلح لها وما يصلحها.. وهو أعلم بمن خلق. وهو اللطيف الخبير. ونقف كذلك أمام بعض التعبيرات الرائقة في هذا النص القصير: ذلك حين يعبر عن قضاء الحاجة في الغائط بقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط}. . فلا يقول: إذا عملتم كذا وكذا.. بل يكتفي بالعودة من هذا المكان، كناية عما تم فيه! ومع هذا لا يسند الفعل إلى المخاطبين. فلا يقول: أو جئتم من الغائط. بل يقول: {أو جاء أحد منكم من الغائط} زيادة في أدب الخطاب، ولطف الكناية. ليكون هذا الأدب نموذجاً للبشر حين يتخاطبون! وحين يعبر عما يكون بين الرجل والمرأة بقوله: {أو لامستم النساء} والتعبير بالملامسة أرق وأحشم وأرقى- والملامسة قد تكون مقدمة للفعل أو تعبيراً عنه- وعلى أية حال فهو أدب يضربه الله للناس، في الحديث عن مثل هذه الشؤون. عندما لا يكون هناك مقتض للتعبير المكشوف. وحين يعبر عن الصعيد الطاهر، بأنه الصعيد الطيب. ليشير إلى أن الطاهر طيب. وأن النجس خبيث.. وهو إيحاء لطيف المدخل إلى النفوس.. وسبحان خالق النفوس. العليم بهذه النفوس!
|