الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***
{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)} قوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا} هذا من جملة ما عدّده الله سبحانه من النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل، ومعنى {بوّأنا}: أسكنا، يقال بوّأت زيداً منزلاً: أسكنته فيه، والمبوأ اسم مكان أو مصدر، وإضافته إلى الصدق على ما جرت عليه قاعدة العرب، فإنهم كانوا إذا مدحوا شيئاً أضافوه إلى الصدق، والمراد به هنا: المنزل المحمود المختار، قيل: هو أرض مصر. وقيل: الأردن وفلسطين. وقيل: الشام {وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات} أي: المستلذات من الرزق {فَمَا اختلفوا} في أمر دينهم، وتشعبوا فيه شعباً بعد ما كانوا على طريقة واحدة غير مختلفة {حتى جَاءهُمُ العلم} أي: لم يقع منهم الاختلاف في الدين إلا بعد ما جاءهم العلم بقراءتهم التوراة، وعلمهم بأحكامها، وما اشتملت عليه من الأخبار بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: المعنى: أنهم لم يختلفوا حتى جاءهم العلم، وهو القرآن النازل على نبينا صلى الله عليه وسلم، فاختلفوا في نعته وصفته، وآمن به من آمن منهم، وكفر به من كفر. فيكون المراد بالمختلفين على القول الأوّل هم: اليهود بعد أن أنزلت عليهم التوراة وعلموا بها، وعلى القول الثاني هم: اليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، والمحقّ بعمله بالحق، والمبطل بعمله بالباطل. {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} الشك في أصل اللغة: ضم الشيء بعضه إلى بعض، ومنه شك الجوهر في العقد، والشاك كأنه يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه، فيتردّد ويتحير، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره، كما ورد في القرآن في غير موضع. قال أبو عمر، محمد بن عبد الواحد، الزاهد: سمعت الإمامين ثعلباً والمبرد يقولان: معنى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ} أي: قل يا محمد للكافر: فإن كنت في شك {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ} يعني: مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأمثاله، وقد كان عبدة الأوثان يعترفون لليهود بالعلم، ويقرّون بأنهم أعلم منهم، فأمر الله سبحانه نبيه أن يرشد الشاكين فيما أنزله الله إليه من القرآن أن يسألوا أهل الكتاب الذين قد أسلموا، فإنهم سيخبرونهم بأنه كتاب الله حقاً، وأن هذا رسوله، وأن التوراة شاهدة بذلك ناطقة به، وفي هذا الوجه مع حسنه مخالفة للظاهر. وقال القتيبي: المراد بهذه الآية: من كان من الكفار غير قاطع بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بتصديقه، بل كان في شك. وقيل: المراد بالخطاب: النبي صلى الله عليه وسلم لا غيره. والمعنى: لو كنت ممن يلحقه الشك فيما أخبرناك به فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشك. وقيل: الشك هو ضيق الصدر: أي إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء، فاصبر واسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك يخبروك بصبر من قبلك من الأنبياء على أذى قومهم. وقيل: معنى الآية: الفرض والتقدير، كأنه قال له: فإن وقع لك شك مثلاً وخيل لك الشيطان خيالاً منه تقديراً. فاسأل الذين يقرءون الكتاب، فإنهم سيخبرونك عن نبوّتك وما نزل عليك، ويعترفون بذلك، لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم، وقد زال فيمن أسلم منهم ما كان مقتضياً للكتم عندهم. قوله: {لَقَدْ جَاءكَ الحق مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} في هذا بيان ما يقلع الشك من أصله ويذهب به بجملته، وهو شهادة الله سبحانه بأن هذا الذي وقع الشك فيه على اختلاف التفاسير في الشاك هو الحق الذي لا يخالطه باطل، ولا تشوبه شبهة، ثم عقبه بالنهي للنبي صلى الله عليه وسلم عن الامتراء فيما أنزل الله عليه، بل يستمر على ما هو عليه من اليقين وانتفاء الشك. ويمكن أن يكون هذا النهي له تعريضاً لغيره، كما في مواطن من الكتاب العزيز، وهكذا القول في نهيه صلى الله عليه وسلم عن التكذيب بآيات الله، فإن الظاهر فيه التعريض، ولا سيما بعد تعقيبه بقوله: {فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين} وفي هذا التعريض من الزجر للممترين والمكذبين ما هو أبلغ وأوقع من النهي لهم أنفسهم؛ لأنه إذا كان بحيث ينهى عنه من لا يتصوّر صدوره عنه، فكيف بمن يمكن منه ذلك. قوله: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} قد تقدّم مثله في هذه السورة، والمعنى: أنه حق عليهم قضاء الله وقدره بأنهم يصرّون على الكفر، ويموتون عليه، لا يقع منهم الإيمان بحال من الأحوال، وإن وقع منهم ما صورته صورة الإيمان، كمن يؤمن منهم عند معاينة العذاب، فهو في حكم العدم {وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ} من الآيات التكوينية والتنزيلية، فإن ذلك لا ينفعهم، لأن الله سبحانه قد طبع على قلوبهم، وحق منه القول عليهم {حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} فيقع منهم ما صورته صورة الإيمان، وليس بإيمان، ولا يترتب عليه شيء من أحكامه. قوله: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} " لولا " هذه هي التحضيضية التي بمعنى هلا، كما قال الأخفش والكسائي وغيرهما، ويدل على ذلك ما في مصحف أبيّ وابن مسعود «فهلا قرية»، والمعنى: فهلا قرية واحدة من هذه القرى التي أهلكناها آمنت إيماناً معتدّاً به، وذلك بأن يكون خالصاً لله قبل معاينة عذابه، ولم يؤخره كما أخره فرعون، والاستثناء بقوله: {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} منقطع، وهو استثناء من القرى لأن المراد أهلها: والمعنى: لكن قوم يونس {لَمَّا ءامَنُواْ} إيماناً معتدّاً به قبل معاينة العذاب، أو عند أوّل المعاينة قبل حلوله بهم {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزى} وقد قال بأن هذا الاستثناء منقطع: جماعة من الأئمة منهم: الكسائي، والأخفش، والفراء؛ وقيل: يجوز أن يكون متصلاً، والجملة في معنى النفي، كأنه قيل: ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس، وانتصابه على أصل الاستثناء، وقرئ بالرفع على البدل. وقال الزجاج في توجيه الرفع: يكون المعنى: غير قوم يونس، ولكن حملت إلا عليها وتعذر جعل الإعراب عليها، فأعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غيره. قال ابن جرير: خص قوم يونس من بين الأمم بأن تيب عليهم من بعد معاينة العذاب. وحكى ذلك عن جماعة من المفسرين. وقال الزجاج: إنه لم يقع العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان، وهذا أولى من قول ابن جرير. والمراد بعذاب الخزي الذي كشفه الله عنهم، وهو: العذاب الذي كان قد وعدهم يونس أنه سينزل عليهم ولم يروه. أو الذي قد رأوا علاماته دون عينه {وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} أي: بعد كشف العذاب عنهم، متعهم الله في الدنيا إلى حين معلوم، قدره لهم. ثم بين سبحانه أن الإيمان وضده كلاهما بمشيئة الله وتقديره، فقال: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الارض كُلُّهُمْ} بحيث لا يخرج عنهم أحد {جَمِيعاً} مجتمعين على الإيمان، لا يتفرّقون فيه ويختلفون، ولكنه لم يشأ ذلك لكونه مخالفاً للمصلحة التي أرادها الله سبحانه، وانتصاب جميعاً على الحال كما قال سيبويه. قال الأخفش: جاء بقوله {جميعاً} بعد {كلهم} للتأكيد كقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} [النحل: 51] ولما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم حريصاً على إيمان جميع الناس، أخبره الله بأن ذلك لا يكون؛ لأن مشيئته الجارية على الحكمة البالغة، والمصالح الراجحة، لا تقتضي ذلك، فقال: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} فإن ذلك ليس في وسعك يا محمد، ولا داخل تحت قدرتك، وفي هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم، ودفع لما يضيق به صدره من طلب صلاح الكل، الذي لو كان لم يكن صلاحاً محققاً بل يكون إلى الفساد أقرب، ولله الحكمة البالغة. ثم بين سبحانه ما تقدم بقوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي: ما صح، وما استقام لنفس من الأنفس أن تؤمن بالله إلا بإذنه: أي بتسهيله وتيسيره ومشيئته؛ لذلك فلا يقع غير ما يشاؤه كائناً ما كان {وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} أي: العذاب، أو الكفر، أو الخذلان الذي هو سبب العذاب. وقرأ الحسن وأبو بكر والمفضل «ونجعل» بالنون. وفي الرجس لغتان: ضم الراء وكسرها، والمراد بالذين لا يعقلون: هم الكفار الذين لا يتعقلون حجج الله، ولا يتفكرون في آياته، ولا يتدبرون فيما نصبه لهم من الأدلة. وقد أخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن عساكر، عن قتادة، في قوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إسراءيل مُبَوَّأَ صِدْقٍ} قال: بوّأهم الله الشام وبيت المقدس. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الضحاك قال: منازل صدق مصر والشام. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن زيد، في قوله: {فَمَا اختلفوا حتى جَاءهُمُ العلم} قال: العلم: كتاب الله الذي أنزله، وأمره الذي أمرهم به. وقد ورد في الحديث أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، وأن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، وهو في السنن والمسانيد، والكلام فيه يطول. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والضياء في المختارة، عن ابن عباس، في قوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ} الآية، قال: لم يشك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يسأل. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن رسول الله قال: «لا أشك ولا أسأل» وهو مرسل. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ} قال: التوراة والإنجيل الذين أدركوا محمداً من أهل الكتاب وآمنوا به، يقول: سلهم إن كنت في شك بأنك مكتوب عندهم. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} قال: حق عليهم سخط الله بما عصوه. وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك، في قوله: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ} يقول: فما كانت قرية آمنت. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في الآية قال: لم يكن هذا في الأمم قبل قوم يونس لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين عاينت العذاب إلا قوم يونس، فاستثنى الله قوم يونس. قال: وذكر لنا أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل. فلما فقدوا نبيهم قذف الله في قلوبهم التوبة، فلبسوا المسوح وأخرجوا المواشي، وفرّقوا بين كل بهيمة وولدها، فعجوا إلى الله أربعين صباحاً، فلما عرف الله الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى منهم، كشف عنهم العذاب بعد ما تدلّى عليهم لم يكن بينهم وبين العذاب إلا ميل. وأخرج ابن مردويه، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إن يونس دعا قومه، فلما أبوا أن يجيبوه وعدهم العذاب. فقال: إنه يأتيكم يوم كذا وكذا، ثم خرج عنهم، وكانت الأنبياء إذا وعدت قومها العذاب خرجت، فلما أظلهم العذاب خرجوا، ففرقوا بين المرأة وولدها، وبين السخلة وولدها. وخرجوا يعجون إلى الله، وعلم الله منهم الصدق فتاب عليهم، وصرف عنهم العذاب، وقعد يونس في الطريق يسأل عن الخبر، فمرّ به رجل فقال: ما فعل قوم يونس؟ فحدّثه بما صنعوا، فقال: لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم، وانطلق مغاضبا: يعني مراغماً. وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، قال: غشى قوم يونس العذاب كما يغشى القبر بالثوب إذا دخل فيه صاحبه ومطرت السماء دماً. وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير، عن ابن عباس، أن العذاب كان هبط على قوم يونس لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل، فلما دعوا كشفه الله عنهم. وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي الجلد، قال: لما غشى قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم. فقالوا له ما ترى؟ قال: قولوا: يا حيّ حين لا حيّ، ويا حيّ محيى الموتى، ويا حيّ لا إله إلا أنت، فقالوا فكشف عنهم العذاب. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وَيَجْعَلُ الرجس} قال: السخط. وأخرج أبو الشيخ، عن قتادة، قال: الرجس: الشيطان، والرجس: العذاب.
{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)} قوله: {قُلِ انظروا مَاذَا فِى السموات والأرض}: لما بين سبحانه أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله، أمر بالنظر والاستدلال بالدلائل السماوية والأرضية، والمراد بالنظر: التفكر والاعتبار، أي قل يا محمد للكفار: تفكروا واعتبروا بما في السموات والأرض من المصنوعات الدالة على الصانع ووحدته، وكمال قدرته. و{ماذا} مبتدأ، وخبره {في السموات والأرض}. أو المبتدأ " ما "، و" ذا " بمعنى الذي، و{في السموات والأرض} صلته، والموصول وصلته خبر المبتدأ، أي: أيّ شيء الذي في السموات والأرض، وعلى التقديرين فالجملة في محل نصب بالفعل الذي قبلها. ثم ذكر سبحانه أن التفكر والتدبر في هذه الدلائل لا ينفع في حق من استحكمت شقاوته، فقال: {وَمَا تُغْنِى الآيات والنذر} أي: ما تنفع على أن ما نافية، ويجوز أن تكون استفهامية: أي: أيّ شيء ينفع، والآيات هي التي عبر عنها بقوله: {مَاذَا فِى السموات والأرض} والنذر: جمع نذير، وهم: الرسل أو جمع إنذار، وهو المصدر {عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} في علم الله سبحانه؛ والمعنى: أن من كان هكذا لا يجدى فيه شيء، ولا يدفعه عن الكفر دافع. قوله: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ} أي: فهل ينتظر هؤلاء الكفار المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم إلا مثل وقائع الله سبحانه بالكفار الذين خلوا من قبل هؤلاء، فقد كان الأنبياء المتقدّمون يتوعدون كفار زمانهم بأيام مشتملة على أنواع العذاب، وهم يكذبونهم ويصممون على الكفر، حتى ينزل الله عليهم عذابه، ويحلّ بهم انتقامه، ثم قال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء الكفار المعاصرين لك {فانتظروا} أي: تربصوا لوعد ربكم، إني معكم من المتربصين لوعد ربي، وفي هذا تهديد شديد، ووعيد بالغ بأنه سينزل بهؤلاء ما نزل بأولئك من الإهلاك، وثم في قوله: {ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا} للعطف على مقدّر يدلّ عليه ما قبله، كأنه قيل أهلكنا الأمم ثم نجينا رسلنا المرسلين إليهم. وقرأ يعقوب ثم «ننجى» مخففاً. وقرأ كذلك أيضاً في {حَقّا عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين}. وروي كذلك عن الكسائي وحفص في الثانية. وقرأ الباقون بالتشديد، وهما لغتان فصيحتان: أنجى ينجى إنجاء، ونجى ينجى تنجية بمعنى واحد {والذين ءامَنُواْ} معطوف على رسلنا: أي: نجيناهم ونجينا الذين آمنوا، والتعبير بلفظ الفعل المستقبل لاستحضار صورة الحال الماضية تهويلاً لأمرها {كَذَلِكَ حَقّا عَلَيْنَا} أي: حق ذلك علينا حقاً، أو إنجاء مثل ذلك الانجاء حقاً {نُنجِ المؤمنين} من عذابنا للكفار، والمراد بالمؤمنين: الجنس، فيدخل في ذلك الرسل وأتباعهم، أو يكون خاصاً بالمؤمنين، وهم أتباع الرسل؛ لأن الرسل داخلون في ذلك بالأولى. قوله: {قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الناس إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى} أمر سبحانه رسوله بأن يظهر التباين بين طريقته وطريقة المشركين، مخاطباً لجميع الناس، أو للكفار منهم، أو لأهل مكة على الخصوص بقوله: إن كنتم في شك من ديني الذي أنا عليه، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ولم تعلموا بحقيقته ولا عرفتم صحته، وأنه الدين الحق الذي لا دين غيره، فاعلموا أني بريء من أديانكم التي أنتم عليها {فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} في حال من الأحوال {ولكن أَعْبُدُ الله الذى يَتَوَفَّاكُمْ} أي أخصه بالعبادة، لا أعبد غيره من معبوداتكم من الأصنام وغيرها، وخصّ صفة المتوفى من بين الصفات لما في ذلك من التهديد لهم: أي: أعبد الله الذي يتوفاكم فيفعل بكم ما يفعل من العذاب الشديد، ولكونه يدل على الخلق أوّلاً، وعلى الإعادة ثانياً، ولكونه أشدّ الأحوال مهابة في القلوب، ولكونه قد تقدّم ذكر الإهلاك، والوقائع النازلة بالكفار من الأمم السابقة، فكأنه قال: أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم. ولما ذكر أنه لا يعبد إلا الله، بين أنه مأمور بالإيمان فقال: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين} أي: بأن أكون من جنس من آمن بالله، وأخلص له الدين. وجملة: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ} معطوفة على جملة {أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين} ولا يمنع من ذلك كون المعطوف بصيغة الأمر؛ لأن المقصود من «أن» الدلالة على المصدر، وذلك لا يختلف بالخبرية والإنشائية، أو يكون المعطوف عليه في معنى الإنشاء؛ كأنه قيل: كن مؤمناً ثم أقم؛ والمعنى: أن الله سبحانه أمره بالاستقامة في الدين والثبات فيه، وعدم التزلزل عنه بحال من الأحوال. وخص الوجه؛ لأنه أشرف الأعضاء، أو أمره باستقبال القبلة في الصلاة، وعدم التحوّل عنها. و{حنيفاً} حال من الدين، أو من الوجه: أي مائلاً عن كل دين من الأديان إلى دين الإسلام. ثم أكد الأمر المتقدّم للنهي عن ضدّه، فقال: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} وهو معطوف على {أقم}، وهو من باب التعريض لغيره صلى الله عليه وسلم. قوله: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} معطوف على {قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الناس} غير داخل تحت الأمر، وقيل: معطوف على {ولا تكونن} أي: لا تدع من دون الله على حال من الأحوال ما لا ينفعك ولا يضرّك بشيء من النفع والضرّ إن دعوته، ودعاء من كان هكذا لا يجلب نفعاً، ولا يقدر على ضرّ ضائع لا يفعله عاقل على تقدير أنه لا يوجد من يقدر على النفع والضرّ غيره، فكيف إذا كان موجوداً؟ فإن العدول عن دعاء القادر إلى دعاء غير القادر أقبح وأقبح {فَإِن فَعَلْتَ} أي: فإن دعوت، ولكنه كنى عن القول بالفعل {فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظالمين} هذا جزاء الشرط، أي فإن دعوت من دون الله مالا ينفعك ولا يضرّك، فإنك في عداد الظالمين لأنفسهم. والمقصود من هذا الخطاب التعريض لغيره صلى الله عليه وسلم. وجملة {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ} إلى آخرها مقرّرة لمضمون ما قبلها. والمعنى: أن الله سبحانه هو الضار النافع. فإن أنزل بعبده ضراً لم يستطع أحد أن يكشفه كائناً من كان، بل هو المختص بكشفه كما اختصّ بإنزاله {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} أيّ: خير كان لم يستطع أحد أن يدفعه عنك، ويحول بينك وبينه كائناً من كان، وعبر بالفضل مكان الخير للإرشاد إلى أنه يتفضل على عباده بمالا يستحقونه بأعمالهم. قال الواحدي: إن قوله: {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} هو من القلب، وأصله وإن يرد بك الخير، ولكن لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز أن يكون كل واحد منهما مكان لآخر. قال النيسابوري: وفي تخصيص الإرادة بجانب الخير، والمسّ بجانب الشرّ دليل على أن الخير يصدر عنه سبحانه بالذات، والشرّ بالعرض. قلت: وفي هذا نظر، فإن المسّ هو أمر وراء الإرادة، فهو مستلزم لها، والضمير في {يصيب به} راجع إلى فضله: أي يصيب بفضله من يشاء من عباده. وجملة: {وَهُوَ الغفور الرحيم} تذييلية. ثم ختم هذه السورة بما يستدل به على قضائه وقدره، فقال: {قُلْ ياأَيُّهَا الناس قَدْ جَاءكُمُ الحق مِن رَّبّكُمْ} أي: القرآن {فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي: منفعة اهتدائه مختصة به، وضرر كفره مقصور عليه لا يتعدّاه، وليس لله حاجة في شيء من ذلك، ولا غرض يعود إليه {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي: بحفيظ يحفظ أموركم، وتوكل إليه، إنما أنا بشير ونذير. ثم أمره الله سبحانه أن يتبع ما أوحاه إليه من الأوامر والنواهي التي يشرعها الله له، ولأمته، ثم أمره بالصبر على أذى الكفار، وما يلاقيه من مشاقّ التبليغ، وما يعانيه من تلوّن أخلاق المشركين وتعجرفهم، وجعل ذلك الصبر ممتداً إلى غاية هي قوله: {حتى يَحْكُمَ الله وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} أي: يحكم الله بينه وبينهم في الدنيا بالنصر له عليهم، وفي الآخرة بعذابهم بالنار، وهم يشاهدونه صلى الله عليه وسلم هو وأمته، المتبعون له المؤمنون به، العاملون بما يأمرهم به، المنتهون عما ينهاهم عنه، يتقلبون في نعيم الجنة الذي لا ينفد، ولا يمكن وصفه، ولا يوقف على أدنى مزاياه. وقد أخرج أبو الشيخ، عن السديّ في قوله: {وَمَا تُغْنِى الآيات والنذر عَن قَوْمٍ} يقول: عند قوم {لاَ يُؤْمِنُونَ} نسخت قوله: {حِكْمَةٌ بالغة فَمَا تُغْنِى النذر} [القمر: 5]. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ} قال: وقائع الله في الذين خلوا من قبلهم، قوم نوح، وعاد، وثمود. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن الربيع في الآية قال: خوّفهم عذابه ونقمته وعقوبته، ثم أخبرهم أنه إذا وقع من ذلك أمر نجى الله رسله والذين آمنوا، فقال: {ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ} الآية. وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ، في قوله: {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} يقول: بعافية. وأخرج البيهقي في الشعب، عن عامر بن قيس، قال: ثلاث آيات في كتاب الله اكتفيت بهنّ عن جميع الخلائق: أوّلهنّ: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ}، والثانية: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ} [فاطر: 2]، والثالثة: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6]. وأخرج أبو الشيخ، عن الحسن، نحوه. وأخرج أبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} قال: هو الحق المذكور في قوله: {قَدْ جَاءكُمُ الحق مِن رَّبّكُمْ}. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، في قوله: {واصبر حتى يَحْكُمَ الله} قال: هذا منسوخ، أمره بجهادهم والغلظة عليهم.
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)} قوله: {الر}: إن كان مسروداً على سبيل التعديد كما في سائر فواتح السور فلا محل له، وإن كان اسماً للسورة فهو في محل رفع على أنه مبتدأ خبره ما بعده أو خبر مبتدأ محذوف، و{كِتَابٌ} يكون على هذا الوجه خبراً لمبتدأ محذوف: أي هذا كتاب، وكذا على تقدير أن {الر} لا محل له، ويجوز أن يكون {الر} في محل نصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو: اذكر، أو اقرأ، فيكون {كتاب} على هذا الوجه خبر مبتدأ محذوف، والإشارة في المبتدأ المقدّر إما إلى بعض القرآن أو إلى مجموع القرآن، ومعنى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُه} صارت محكمة متقنة، لا نقص فيها ولا نقض لها كالبناء المحكم، وقيل معناه: إنها لم تنسخ بخلاف التوراة والإنجيل، وعلى هذا فيكون هذا الوصف للكتاب باعتبار الغالب، وهو المحكم الذي لم ينسخ؛ وقيل معناه: أحكمت آياته بالأمر والنهي، ثم فصلت بالوعد والوعيد، والثواب والعقاب. وقيل: أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها بالحلال والحرام. وقيل: أحكمت جملته، ثم فصلت آياته. وقيل: جمعت في اللوح المحفوظ، ثم فصلت بالوحي. وقيل: أيّدت بالحجج القاطعة الدالة على كونها من عند الله؛ وقيل معنى إحكامها: أن لا فساد فيها، أخذاً من قولهم أحكمت الدابة: إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح، و{ثُمَّ فُصّلَتْ} معطوف على {أحكمت}، ومعناه ما تقدّم، والتراخي المستفاد من «ثم» إما زماني إن فسر التفصيل بالتنجيم على حسب المصالح، وإما رتبيّ إن فسر بغيره مما تقدّم، والجمل في محل رفع على أنها صفة لكتاب، أو خبر آخر للمبتدأ أو خبر لمبتدأ محذوف، وفي قوله: {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} لف ونشر، لأن المعنى: أحكمها حكيم، وفصلها خبير عالم بمواقع الأمور. قوله: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} مفعول له حذف منه اللام: كذا في الكشاف، وفيه أنه ليس بفعل لفاعل الفعل المعلل. وقيل: «أن» هي المفسرة لما في التفصيل من معنى القول. وقيل: هو كلام مبتدأ منقطع عما قبله، محكياً على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال الكسائي والفراء: التقدير أحكمت بأن لا تعبدوا إلا الله. وقال الزجاج: أحكمت ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله، ثم أخبرهم رسول الله بأنه نذير وبشير، فقال: {إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} أي: ينذرهم ويخوّفهم من عذابه لمن عصاه، ويبشرهم بالجنة والرضوان لمن أطاعه، والضمير في {منه} راجع إلى الله سبحانه. أي إنني لكم نذير وبشير من جهة الله سبحانه؛ وقيل: هو من كلام الله سبحانه كقوله: {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]. قوله: {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ} معطوف على ألا تعبدوا، والكلام في أن هذه كالكلام في التي قبلها. وقوله: {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} معطوف على {استغفروا}، وقدم الإرشاد إلى الاستغفار على التوبة، لكونه وسيلة إليها. وقيل: إن التوبة من متممات الاستغفار؛ وقيل معنى {استغفروا}: توبوا. ومعنى {توبوا}: أخلصوا التوبة واستقيموا عليها. وقيل: استغفروا من سالف الذنوب، ثم توبوا من لاحقها. وقيل: استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطاعة. قال الفراء: «ثم» هاهنا بمعنى الواو: أي وتوبوا إليه، لأن الاستغفار هو: التوبة، والتوبة هي: الاستغفار؛ وقيل: إنما قدم ذكر الاستغفار لأن المغفرة هي الغرض المطلوب، والتوبة. هي: السبب إليها، وما كان آخراً في الحصول، كان أوّلاً في الطلب. وقيل: استغفروا في الصغائر، وتوبوا إليه في الكبائر؛ ثم رتب على ما تقدّم أمرين الأول: {يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا} أصل الإمتاع: الإطالة، ومنه أمتع الله بك؛ فمعنى الآية: يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية من سعة الرزق ورغد العيش {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى وقت مقدّر عند الله، وهو: الموت؛ وقيل: القيامة؛ وقيل: دخول الجنة؛ والأوّل: أولى. والأمر الثاني قوله: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أي: يعط كل ذي فضل في الطاعة والعمل فضله: أي جزاء فضله، إما في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما جميعاً، والضمير في {فضله} راجع إلى كل ذي فضل. وقيل: راجع إلى الله سبحانه على معنى أن الله يعطي كل من فضلت حسناته فضله الذي يتفضل به على عباده. ثم توعدهم على مخالفة الأمر فقال: {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: تتولوا وتعرضوا عن الإخلاص في العبادة، والاستغفار، والتوبة {فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} وهو: يوم القيامة، ووصفه بالكبر، لما فيه من الأهوال. وقيل: اليوم الكبير يوم بدر. ثم بين سبحانه عذاب اليوم الكبير بقوله: {إلى الله مَرْجِعُكُمْ} أي: رجوعكم إليه بالموت، ثم البعث، ثم الجزاء، لا إلى غيره {وَهُوَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ} ومن جملة ذلك عذابكم على عدم الامتثال، وهذه الجملة مقرّرة لما قبلها. ثم أخبر الله سبحانه بأن هذا الإنذار والتحذير والتوعد لم ينجع فيهم، ولا لانت له قلوبهم، بل هم مصرّون على العناد مصممون على الكفر، فقال مصدراً لهذا الإخبار بكلمة التنبيه الدالة على التعجب من حالهم، وأنه أمر ينبغي أن يتنبه له العقلاء ويفهموه {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} يقال: ثني صدره عن الشيء: إذا ازورّ عنه وانحرف منه، فيكون في الكلام كناية عن الإعراض؛ لأن من أعرض عن الشيء ثنى عنه صدره، وطوى عنه كشحه. وقيل معناه: يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر والإعراض عن الحق، فيكون في الكلام كناية عن الإخفاء لما يعتقدونه من الكفر، كما كان دأب المنافقين. والوجه الثاني أولى، ويؤيده قوله: {لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} أي: ليستخفوا من الله، فلا يطلع عليه رسوله والمؤمنين، أو ليستخفوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثم كرّر كلمة التنبيه مبيناً للوقت الذي يثنون فيه صدورهم، فقال: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} أي: يستخفون في وقت استغشاء الثياب، وهو التغطي بها، وقد كانوا يقولون: إذا أغلقنا أبوابنا، واستغشينا ثيابنا، وثنينا صدورنا على عداوة محمد فمن يعلم بنا؟ وقيل: معنى {حين يستغشون}: حين يأوون إلى فراشهم، ويتدثرون بثيابهم. وقيل: إنه حقيقة: وذلك أن بعض الكفار كان إذا مرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثنى صدره، وولى ظهره، واستغشى ثيابه، لئلا يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجملة: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} مستأنفة لبيان أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء؛ لأن الله سبحانه يعلم ما يسرّونه في أنفسهم، أو في ذات بينهم وما يظهرونه؛ فالظاهر والباطن عنده سواء، والسرّ والجهر سيان، وجملة: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} تعليل لما قبلها وتقرير له، و{ذات الصدور} هي: الضمائر التي تشتمل عليها الصدور. وقيل: هي القلوب، والمعنى: إنه عليم بجميع الضمائر، أو عليم بالقلوب وأحوالها في الإسرار والإظهار، فلا يخفى عليه شيء من ذلك. ثم أكد كونه عالماً بكل المعلومات بما فيه غاية الامتنان، ونهاية الإحسان، فقال: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} أي: الرزق الذي تحتاج إليه من الغذاء اللائق بالحيوان، على اختلاف أنواعه تفضلاً منه وإحساناً، وإنما جيء به على طريق الوجوب، كما تشعر به كلمة «على» اعتباراً بسبق الوعد به منه، و" من " زائدة للتأكيد، ووجه اتصال هذا الكلام بما قبله: أن الله سبحانه لما كان لا يغفل عن كل حيوان باعتبار ما قسمه له من الرزق، فكيف يغفل عن أحواله، وأقواله، وأفعاله. والدابة: كل حيوان يدب {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} أي: محل استقرارها في الأرض، أو محل قرارها في الأصلاب {وَمُسْتَوْدَعَهَا} موضعها في الأرحام، وما يجري مجراها كالبيضة ونحوها. وقال الفراء: مستقرها: حيث تأوي إليه ليلاً ونهاراً، ومستودعها: موضعها الذي تموت فيه، وقد مرّ تمام الأقوال في سورة الأنعام، ووجه تقدّم المستقر على المستودع على قول الفراء ظاهر. وأما على القول الأوّل: فلعل وجه ذلك أن المستقر أنسب باعتبار ما هي عليه حال كونها دابة. والمعنى: وما من دابة في الأرض إلا يرزقها الله حيث كانت من أماكنها بعد كونها دابة، وقبل كونها دابة، وذلك حيث تكون في الرحم ونحوه. ثم ختم الآية بقوله: {كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ} أي: كل من ما تقدّم ذكره من الدوّاب، ومستقرّها ومستودعها، ورزقها في كتاب مبين، وهو اللوح المحفوظ: أي مثبت فيه. ثم أكد دلائل قدرته بالتعرّض لذكر خلق السموات والأرض، وكيف كان الحال قبل خلقها فقال: {وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} قد تقدّم بيان هذا في الأعراف، قيل: والمراد بالأيام: الأوقات: أي في ستة أوقات، كما في قوله: {وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] وقيل: مقدار ستة أيام، ولا يستقيم أن يكون المراد بالأيام هنا الأيام هنا الأيام المعروفة، وهي المقابلة لليالي، لأنه لم يكن حينئذ لا أرض ولا سماء، وليس اليوم إلا عبارة عن مدّة كون الشمس فوق الأرض، وكان خلق السموات في يومين، والأرضين في يومين، وما عليهما من أنواع الحيوان والنبات والجماد، في يومين، كما سيأتي في حم السجدة. قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} أي: كان قبل خلقهما عرشه على الماء، وفيه بيان تقدّم خلق العرش والماء على السموات والأرضين. قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} اللام متعلقة بخلق: أي خلق هذه المخلوقات ليبتلي عباده بالاعتبار والتفكر والاستدلال، على كمال قدرته، وعلى البعث والجزاء أيهم أحسن عملاً فيما أمر به ونهى عنه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويوفر الجزاء لمن كان أحسن عملاً من غيره، ويدخل في العمل الاعتقاد، لأنه من أعمال القلب. وقيل: المراد بالأحسن عملاً: الأتمّ عقلاً، وقيل: الأزهد في الدنيا. وقيل: الأكثر شكراً، وقيل: الأتقى لله. قوله: {وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ثم لما كان الابتلاء يتضمن حديث البعث أتبع ذلك بذكره، والمعنى: لئن قلت لهم يا محمد على ما توجبه قضية الابتلاء، إنكم مبعوثون من بعد الموت، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ليقولن الذين كفروا من الناس إن هذا الذي تقوله يا محمد إلا باطل كبطلان السحر، وخدع كخدعه. ويجوز أن تكون الإشارة ب {هذا} إلى القرآن؛ لأنه المشتمل على الإخبار بالبعث. وقرأ حمزة والكسائي «إِنْ هذا إِلاَّ ساحر» يعنون النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت «إنّ» من قوله: {إِنَّكُمْ} لأنها بعد القول. وحكى سيبويه الفتح على تضمين {قلت} معنى: ذكرت، أو على «أن» بمعنى: علّ: أي ولئن قلت لعلكم مبعوثون، على أن الرجاء باعتبار باعتبار حال المخاطبين: أي توقعوا ذلك، ولا تبتوا القول بإنكاره. {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُم العذاب} أي: الذي تقدّم ذكره في قوله: {عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} وقيل: عذاب يوم القيامة وما بعده، وقيل يوم بدر {إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} أي: إلى طائفة من الأيام قليلة؛ لأن ما يحصره العدّ قليل، والأمة اشتقاقها من الأم: وهو القصد، وأراد بها الوقت المقصود لإيقاع العذاب. وقيل: هي في الأصل الجماعة من الناس، وقد يسمى الحين باسم مايحصل فيه، كقولك: كنت عند فلان صلاة العصر: أي في ذلك الحين، فالمراد على هذا: إلى حين تنقضى أمة معدودة من الناس {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} أي أيّ شيء يمنعه من النزول استعجالا له على جهة الاستهزاء والتكذيب، فأجابهم الله بقوله: {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم} أي: ليس محبوساً عنهم، بل واقع بهم لا محالة، و{يوم} منصوب ب {مصروفاً} {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} أي: أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه استهزاء منهم، ووضع يستهزءون مكان يستعجلون، لأن استعجالهم كان استهزاء منهم، وعبر بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه، فكأنه قد حاق بهم. وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد، أنه قرأ: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته} قال: هي كلها محكمة، يعني سورة هود {ثُمَّ فُصّلَتْ} قال: ثم ذكر محمداً صلى الله عليه وسلم، فحكم فيها بينه وبين من خالفه، وقرأ: {مثل الفريقين...} الآية كلها [هود: 24]، ثم ذكر قوم نوح ثم هود، فكان هذا تفصيل ذلك، وكان أوّله محكماً قال: وكان أبي يقول ذلك، يعني: زيد بن أسلم. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحسن، في قوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته} قال: أحكمت بالأمر والنهي، وفصلت بالوعد والوعيد، وأخرج هؤلاء عن مجاهد {فُصّلَتْ} قال: فسرت. وأخرج هؤلاء أيضاً عن قتادة في الآية قال: أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها بعلمه، فبين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته، وفي قوله: {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ} يعني من عند حكيم، وفي قوله: {يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا} قال: فأنتم في ذلك المتاع، فخذوه بطاعة الله ومعرفة حقه، فإن الله منعم يحبّ الشاكرين، وأهل الشكر في مزيد من الله، وذلك قضاؤه الذي قضاه. وفي قوله: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} يعني: الموت، وفي قوله: {يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أي: في الآخرة. وأخرج هؤلاء أيضاً عن مجاهد في قوله: {يؤت كل ذي فضل فضله}: أي في الآخرة. وأخرج أبو الشيخ، عن الحسن قال: يؤت كل ذي فضل في الإسلام فضل الدرجات في الآخرة. وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود، في قوله: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} قال: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات، فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة، وبقيت له تسع حسنات، ثم يقول: هلك من غلب آحاده أعشاره. وأخرج البخاري وغيره، عن ابن عباس، في قوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} الآية قال: كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنزل ذلك فيهم. قال البخاري، وعن ابن عباس: {يَسْتَغْشُونَ} يغطون رؤوسهم. وروى البخاري أيضاً عن ابن عباس في تفسير هذه الآية، يعني به الشك في الله، وعمل السيئات، وكذا روي عن مجاهد والحسن وغيرهما: أي أنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئاً أو عملوه، فيظنون أنهم يستخفون من الله بذلك، فأعلمهم سبحانه أنه حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} من القول {وَمَا يُعْلِنُونَ}. وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، في قوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} قال: كان المنافقون إذا مرّ أحدهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ثنى صدره، وتغشى ثوبه، لكيلا يراه، فنزلت. وأخرج ابن جرير، عن الحسن، في قوله: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} قال: في ظلمة الليل في أجواف بيوتهم. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي رزين في الآية قال: كان أحدهم يحني ظهره ويستغشى بثوبه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في الآية قال: كانوا يخبون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله، قال تعالى: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} وذلك أخفى ما يكون ابن آدم إذا أحنى ظهره، واستغشى بثوبه، وأضمر همه في نفسه، فإن الله لا يخفى عليه ذلك. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال في الآية: يكتمون ما في قلوبهم ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما عملوا بالليل والنهار. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وَمَا مِن دَابَّةٍ} الآية قال: يعني كل دابة. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {وَمَا مِن دَابَّةٍ} الآية قال: يعني ما جاءها من رزق فمن الله، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعاً، ولكن ما كان لها من رزق لها فمن الله. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} قال: حيث تأوى، و{مستودعها} قال: حيث تموت. وأخرج ابن أبي حاتم، عنه {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} قال: يأتيها رزقها حيث كانت. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود، قال: مستقرّها في الأرحام، ومستودعها حيث تموت. ويؤيد هذا التفسير الذي ذكره ابن مسعود ما أخرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان أجل أحدكم بأرض أتيحت له إليها حاجة، حتى إذا بلغ أقصى أثره منها فيقبض، فتقول الأرض يوم القيامة: هذا ما استودعتني». وأخرج عبد الرزاق في المصنف، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس، أنه سئل عن قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} على أيّ شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح. وقد وردت أحاديث كثيرة في صفة العرش، وفي كيفية خلق السموات والأرض ليس هذا موضع ذكرها. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم في التاريخ، وابن مردويه، عن ابن عمر، قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فقال: ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: «ليبلوكم أيكم أحسن عقلاً»، ثم قال: «وأحسنكم عقلاً أورعكم عن محارم الله، وأعملكم بطاعة الله» وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة، قال: إنكم أتمّ عقلاً. وأخرج أيضاً عن سفيان قال: أزهدكم في الدنيا. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة، قال: لما نزلت {اقترب لِلنَّاسِ حسابهم} [الأنبياء: 1] قال ناس: إن الساعة قد اقتربت فتناهوا، فتناهى القوم قليلاً ثم عادوا إلى أعمالهم أعمال السوء، فأنزل الله: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] فقال ناس من أهل الضلال: هذا أمر الله قد أتى، فتناهى القوم ثم عادوا إلى مكرهم، مكر السوء، فأنزل الله هذه الآية: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، عن ابن عباس، في قوله: {إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} قال: إلى أجل معدود. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} يعني أهل النفاق. وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله: {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} يقول: وقع بهم العذاب الذي استهزءوا به.
{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)} اللام في: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان} هي الموطئة للقسم، والإنسان الجنس، فيشمل المؤمن والكافر، ويدل على ذلك الاستثناء بقوله: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} وقيل: المراد: جنس الكفار، ويؤيده أن اليأس والكفران والفرح والفخر، هي أوصاف أهل الكفر لا أهل الإسلام في الغالب. وقيل المراد بالإنسان: الوليد بن المغيرة. وقيل: عبد الله بن أمية المخزومي. والمراد بالرحمة هنا: النعمة من توفير الرزق والصحة والسلامة من المحن {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} أن سلبناه إياها {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ} أي: آيس من الرحمة، شديد القنوط من عودها، وأمثالها، والكفور: عظيم الكفران، وهو الجحود بها قاله ابن الأعرابي؛ وفي إيراد صيغتي المبالغة في {لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} ما يدلّ على أن الإنسان كثير اليأس، وكثير الجحد عند أن يسلبه الله بعض نعمه، فلا يرجو عودها، ولا يشكر ما قد سلف له منها. وفي التعبير بالذوق ما يدل على أنه يكون منه ذلك عند سلب أدنى نعمة ينعم الله بها عليه، لأن الإذاقة والذوق: أقلّ ما يوجد به الطعم، والنعماء: إنعام يظهر أثره على صاحبه، والضرّاء: ظهور أثر الإضرار على من أصيب به. والمعنى: أنه إن أذاق الله سبحانه العبد نعماءه من الصحة والسلامة، والغنى بعد أن كان في ضرّ من فقر أو مرض أو خوف، لم يقابل ذلك بما يليق به من الشكر لله سبحانه، بل يقول ذهب السيئات: أي المصائب التي ساءته من الضرّ والفقر والخوف والمرض عنه وزال أثرها، غير شاكر لله، ولا مثن عليه بنعمه {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} أي: كثير الفرح بطراً وأشراً، كثير الفخر على الناس، والتطاول عليهم بما يتفضل الله به عليه من النعم، وفي التعبير عن ملابسة الضرّ له بالمس مناسبة للتعبير في جانب النعماء بالإذاقة، فإن كلاهما لأدنى ما يطلق عليه اسم الملاقاة، كما تقدّم {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} فإن عادتهم الصبر عند نزول المحن، والشكر عند حصول الممن. قال الأخفش: هو استثناء ليس من الأوّل: أي ولكن الذين صبروا وعملوا الصالحات في حالتي النعمة والمحنة. وقال الفراء؛ هو استثناء من لئن أذقناه: أي من الإنسان، فإن الإنسان بمعنى الناس، والناس: يشمل الكافر والمؤمن، فهو استثناء متصل، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الموصول باعتبار اتصافه بالصبر وعمل الصالحات {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَأَجْرٌ} يؤجرون به لأعمالهم الحسنة {كَبِيرٌ} متناه في الكبر. ثم سلَّى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} أي: فلعلك لعظم ما تراه منهم من الكفر والتكذيب، واقتراح الآيات التي يقترحونها عليه على حسب هواهم، وتعنتهم تارك بعض ما يوحى إليك مما أنزله الله عليك وأمرك بتبليغه، مما يشق عليهم سماعه أو يستشقون العمل به، كسبّ آلهتهم وأمرهم بالإيمان بالله وحده. قيل: وهذا الكلام خارج مخرج الاستفهام: أي هل أنت تارك؟ وقيل: هو في معنى النفي مع الاستبعاد: أي لا يكون منك ذلك، بل تبلغهم جميع ما أنزل الله عليك، أحبوا ذلك أم كرهوه، شاءوا أم أبوا {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} معطوف على {تارك}، والضمير في «به» راجع إلى «ما» أو إلى {بعض}، وعبر بضائق دون ضيق لأن اسم الفاعل فيه معنى الحدوث والعروض والصفة المشبهة فيها معنى اللزوم {أَن يَقُولُواْ} أي: كراهة أن يقولوا، أو مخافة أن يقولوا أو لئلا يقولوا {لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} أي: هلا أنزل عليه كنز: أي مال مكنوز مخزون ينتفع به {أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} يصدّقه ويبين لنا صحة رسالته. ثم بيّن سبحانه أن حاله صلى الله عليه وسلم مقصور على النذارة، فقال: {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ} ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك، وليس عليك حصول مطلوبهم وإيجاد مقترحاتهم {والله على كُلّ شَئ وَكِيلٌ} يحفظ ما يقولون، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل. قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} «أم» هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة، وأضرب عما تقدّم من تهاونهم بالوحي، وعدم قنوعهم بما جاء به من المعجزات الظاهرة، وشرع في ذكر ارتكابهم لما هو أشدّ من ذلك، وهو افتراؤهم عليه بأنه افتراه، والاستفهام للتوبيخ والتقريع، والضمير المستتر في {افتراه} للنبي صلى الله عليه وسلم، والبارز إلى ما يوحى. ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بما يقطعهم ويبين كذبهم ويظهر به عجزهم، فقال: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ} أي: مماثلة له في البلاغة، وحسن النظم، وجزالة اللفظ، وفخامة المعاني. ووصف السور بما يوصف به المفرد، فقال: مثله، ولم يقل أمثاله، لأن المراد مماثلة كل واحد من السور، أو لقصد الإيماء إلى وجه الشبه، ومداره المماثلة في شيء واحد، وهو البلاغة البالغة إلى حدّ الإعجاز، وهذا إنما هو على القول بأن المطابقة في الجمع والتثنية، والإفراد شرط، ثم وصف السور بصفة أخرى، فقال: {مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا} للاستظهار على المعارضة بالعشر السور {مَنِ استطعتم} دعاءه، وقدرتم على الاستعانة به، من هذا النوع الإنساني، وممن تعبدونه وتجعلونه شريكاً لله سبحانه. وقوله: {مِن دُونِ الله} متعلق ب {ادعوا}: أي ادعوا من استطعتم متجاوزين الله تعالى: {إِن كُنتُمْ صادقين} فيما تزعمون من افترائي له. {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} أي: فإن لم يفعلوا ما طلبته منهم، وتحدّيتهم به من الإتيان بعشر سور مثله، ولا استجابوا إلى المعارضة المطلوبة منهم، ويكون الضمير في «لكم» لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، أو للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، وجمع تعظيماً وتفخيماً {فاعلموا} أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أو للرسول صلى الله عليه وسلم وحده على التأويل الذي سلف قريباً. ومعنى أمرهم بالعلم، أمرهم بالثبات عليه؛ لأنهم عالمون بذلك من قبل عجز الكفار عن الإتيان بعشر سور مثله، أو المراد بالأمر بالعلم: الأمر بالازدياد منه، إلى حدّ لا يشوبه شك، ولا تخالطه شبهة، وهو علم اليقين. والأوّل: أولى. ومعنى: {أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ الله} أنه أنزل متلبساً بعلم الله المختص به، الذي لا تطلع على كنهه العقول، ولا تستوضح معناه الأفهام، لما اشتمل عليه من الإعجاز الخارج عن طوق البشر {وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} أي: واعلموا أن الله هو المتفرد بالألوهية لا شريك له، ولا يقدره غيره على ما يقدر عليه. ثم ختم الآية بقوله: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} أي: ثابتون على الإسلام، مخلصون له، مزدادون من الطاعات، لأنه قد حصل لكم بعجز الكفار عن الإتيان بمثل عشر سور من هذا الكتاب طمأنينة فوق ما كنتم عليه، وبصيرة زائدة، وإن كنتم مسلمين من قبل هذا فإن الثبوت عليه وزيادة البصيرة فيه والطمأنينة به مطلوب منكم. وقيل: إن الضمير في {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ} للموصول في {من استطعتم}، وضمير {لكم}، للكفار، الذين تحدّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ضمير {فاعلموا} والمعنى: فإن لم يستجب لكم من دعوتموهم للمعاضدة والمناصرة على الإتيان بعشر سور من سائر الكفار ومن يعبدونهم، ويزعمون أنهم يضرّون وينفعون، فاعلموا أن هذا القرآن الذي أنزله الله على هذا الرسول، خارج عن قدرة غيره سبحانه وتعالى، لما اشتمل عليه من الإعجاز الذي تتقاصر دونه قوّة المخلوقين، وأنه أنزل بعلم الله الذي لا تحيط به العقول، ولا تبلغه الأفهام، واعلموا أنه المنفرد بالألوهية لا شريك له، فهل أنتم بعد هذا مسلمون؟ أي: داخلون في الإسلام، متبعون لأحكامه، مقتدون بشرائعه. وهذا الوجه أقوى من الوجه الأوّل من جهة، وأضعف منه من جهة، فأما جهة قوّته. فلا تساق الضمائر وتناسبها، وعدم احتياج بعضها إلى تأويل، وأما ضعفه، فَلِما في ترتيب الأمر بالعلم على عدم الاستجابة ممن دعوهم واستعانوا بهم من الخفاء واحتياجه إلى تكلف، وهو أن يقال: إن عدم استجابة من دعوهم واستعانوا بهم من الكفار والآلهة مع حرصهم على نصرهم، ومعاضدتهم، ومبالغتهم في عدم إيمانهم واستمرارهم على الكفر، يقيد حصول العلم لهؤلاء الكفار، بأن هذا القرآن من عند الله، وأن الله سبحانه هو الإله وحده لا شريك له، وذلك يوجب دخولهم في الإسلام، واعلم أنه قد اختلف التحدّي للكفار بمعارضة القرآن، فتارة وقع بمجموع القرآن، كقوله: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] وبعشر سور كما في هذه الآية، وذلك لأن العشرة أوّل عقد من العقود، وبسورة منه كما تقدّم، وذلك لأن السورة أقلّ طائفة منه. ثم إن الله سبحانه توعد من كان مقصور الهمة على الدنيا لا يطلب غيرها ولا يريد سواها، فقال: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} قال الفراء: إن {كان} هذه زائدة، ولهذا جزم الجواب. وقال الزجاج: {من كان} في موضع جزم بالشرط، وجوابه {نوفّ إليهم}: أي من يكن يريد. واختلف أهل التفسير في هذه الآية، فقال الضحاك: نزلت في الكفار، واختاره النحاس بدليل الآية التي بعدها {أُوْلَئِكَ الذين لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخرة إِلاَّ النار}. وقيل: الآية واردة في الناس على العموم، كافرهم ومسلمهم. والمعنى: أن من كان يريد بعمله حظّ الدنيا يكافأ بذلك، والمراد بزينتها: ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن، والسعة في الرزق، وارتفاع الحظّ، ونفاذ القول، ونحو ذلك. وإدخال {كان} في الآية يفيد أنهم مستمرّون على إرادة الدنيا بأعمالهم، لا يكادون يريدون الآخرة، ولهذا قيل: إنهم مع إعطائهم حظوظ الدنيا يعذّبون في الآخرة، لأنهم جرّدوا قصدهم إلى الدنيا، ولم يعملوا للآخرة. وظاهر قوله: {نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أن من أراد بعمله الدنيا حصل له الجزاء الدنيوي ولا محالة، ولكن الواقع في الخارج يخالف ذلك، فليس كل متمنّ ينال من الدنيا أمنيته، وإن عمل لها وأرادها، فلا بد من تقييد ذلك بمشيئة الله سبحانه. قال القرطبي: ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآية مطلقة، وكذلك الآية التي في الشورى {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20]. وكذلك {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آل عمران: 145] قيدتها وفسرتها التي في سبحان {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 18] قوله: {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} أي: وهؤلاء المريدون بأعمالهم الدنيا هم فيها: أي في الدنيا لا يبخسون: أي لا ينقصون من جزائهم فيها بحسب أعمالهم لها، وذلك في الغالب، وليس بمطرد، بل إن قضت به مشيئته سبحانه، ورجحته حكمته البالغة. وقال القاضي: معنى الآية: من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها، نوفّ إليهم أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا، وهو ما ينالون من الصحة والكفاف، وسائر اللذات والمنافع، فخصّ الجزاء بمثل ما ذكره، وهو حاصل لكل عامل للدنيا، ولو كان قليلاً يسيراً. قوله: {أُوْلَئِكَ الذين لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخرة إِلاَّ النار} الإشارة إلى المريدين المذكورين، ولا بدّ من تقييد هذا بأنهم لم يريدوا الآخرة بشيء من الأعمال المعتدّ بها، الموجبة للجزاء الحسن في الدار الآخرة، أو تكون الآية خاصة بالكفار، كما تقدّم {وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ} أي: ظهر في الدار الآخرة حبوط ما صنعوه من الأعمال التي كانت صورتها صورة الطاعات الموجبة للجزاء الأخروي، لولا أنهم أفسدوها بفساد مقاصدهم، وعدم الخلوص، وإرادة ما عند الله في دار الجزاء، بل قصروا ذلك على الدنيا وزينتها؛ ثم حكم سبحانه ببطلان عملهم فقال: {وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: أنه كان عملهم في نفسه باطلاً غير معتدّ به، لأنه لم يعمل لوجه صحيح يوجب الجزاء، ويترتب عليه ما يترتب على العمل الصحيح. قوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} بيّن سبحانه أن بين من كان طالباً للدنيا فقط، ومن كان طالباً للآخرة تفاوتاً عظيماً، وتبايناً بعيداً. والمعنى: أفمن كان على بينة من ربه في اتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالله، كغيره ممن يريد الحياة الدنيا وزينتها. وقيل: المراد بمن كان على بينة من ربه: النبي صلى الله عليه وسلم: أي أفمن كان معه بيان من الله، ومعجزة كالقرآن، ومعه شاهد كجبريل، وقد بشرت به الكتب السالفة، كمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها. ومعنى البينة: البرهان الذي يدلّ على الحق، والضمير في قوله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ} راجع إلى البينة باعتبار تأويلها بالبرهان، والضمير في منه راجع إلى القرآن، لأن قد تقدّم ذكره في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} [يونس: 38] أو راجع إلى الله تعالى. والمعنى: ويتلو البرهان الذي هو البينة شاهد يشهد بصحته من القرآن، أو من الله سبحانه. والشاهد: هو الإعجاز الكائن في القرآن، أو المعجزات التي ظهرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك من الشواهد التابعة للقرآن. وقال الفراء قال بعضهم: {ويتلوه شاهد منه}: الإنجيل، وإن كان قبله فهو يتلو القرآن في التصديق، والهاء في {منه} لله عزّ وجلّ؛ وقيل المراد بمن كان على بينة من ربه: هم مؤمنو أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وأضرابه. قوله: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} معطوف على {شاهد}. والتقدير: ويتلو الشاهد شاهد آخر من قبله هو كتاب موسى، فهو وإن كان متقدّماً في النزول، فهو يتلو الشاهد في الشهادة، وإنما قدم الشاهد على كتاب موسى، مع كونه متأخراً في الوجود، لكونه وصفاً لازماً غير مفارق، فكان أغرق في الوصفية من كتاب موسى. ومعنى شهادة كتاب موسى، وهو التوراة أنه بشّر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأخبر بأنه رسول من الله. قال الزجاج: والمعنى ويتلوه من قبله كتاب موسى، لأن النبي موصوف في كتاب موسى، يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل. وحكى أبو حاتم، عن بعضهم، أنه قرأ: «ومن قبله كتاب موسى» بالنصب، وحكاه المهدوي، عن الكلبي، فيكون معطوفاً على الهاء في {يتلوه}. والمعنى: ويتلو كتاب موسى جبريل، وانتصاب {إماماً ورحمة} على الحال. والإمام: هو الذي يؤتمّ به في الدين ويقتدى به، والرحمة: النعمة العظيمة التي أنعم الله بها على من أنزله عليهم، وعلى من بعدهم باعتبار ما اشتمل عليه من الأحكام الشرعية الموافقة لحكم القرآن، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى المتصفين بتلك الصفة الفاضلة، وهو الكون على البينة من الله. واسم الإشارة مبتدأ وخبره {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: يصدّقون بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، أو بالقرآن {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب} أي: بالنبيّ أو بالقرآن. والأحزاب المتحزّبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة وغيرهم، أو المتحزّبون من أهل الأديان كلها {فالنار مَوْعِدُهُ} أي: هو من أهل النار لا محالة، وفي جعل النار موعداً إشعار بأن فيها ما لا يحيط به الوصف من أفانين العذاب، ومثله قول حسان: أوردتموها حياض الموت صاحية *** فالنار موعدها والموت لاقيها {فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ} أي: لا تك في شك من القرآن، وفيه تعريض بغيره صلى الله عليه وسلم؛ لأنه معصوم عن الشك في القرآن، أو من الموعد {إِنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ} فلا مدخل للشك فيه بحال من الأحوال {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} بذلك مع وجوب الإيمان به، وظهور الدلائل الموجبة له، ولكنهم يعاندون مع علمهم بكونه حقاً، أو قد طبع على قلوبهم فلا يفهمون أنه الحق أصلاً. وقد أخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} قال: لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن أنس، في قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} قال: نزلت في اليهود والنصارى. وأخرج ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن معبد، قال: قام رجل إلى عليّ فقال: أخبرنا عن هذه الآية {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا} إلى قوله: {وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قال: ويحك، ذاك من كان يريد الدنيا لا يريد الآخرة. وأخرج النحاس عن ابن عباس {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا} أي: ثوابها {وَزِينَتَهَا} مالها {نُوَفّ إِلَيْهِمْ} نوفر لهم بالصحة والسرور في الأهل، والمال، والولد {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} لا ينقصون. ثم نسخها: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء} [الإسراء: 18] الآية. وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ، مثله. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في الآية قال: من عمل صالحاً: التماس الدنيا صوماً أو صلاة، أو تهجداً بالليل، لا يعمله إلا التماس الدنيا، يقول الله أو فيه الذي التمس في الدنيا وحبط عمله الذي كان يعمل، وهو في الآخرة من الخاسرين. وأخرج ابن جرير، عن الضحاك، قال: نزلت هذه الآية في أهل الشرك. وأخرج أبو الشيخ، عن الحسن، في قوله: {نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} قال: طيباتهم. وأخرج أبو الشيخ، عن ابن جريج، نحوه. وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ، في قوله: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا} قال: حبط ما عملوا من خير، وبطل في الآخرة، ليس لهم فيها جزاء. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في الآية، قال: هم أهل الرياء. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة، عن عليّ بن أبي طالب، قال: ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن، فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أما تقرأ سورة هود {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ} رسول الله صلى الله عليه وسلم بينة من ربه، وأنا شاهد منه. وأخرج ابن عساكر، وابن مردويه من وجه آخر، عنه، قال: قال رسول الله: «أفمن كان على بينة من ربه: أنا، ويتلوه شاهد منه: عليّ» وأخرج أبو الشيخ، عن أبي العالية، في قوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} قال: ذاك محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج أبو الشيخ، عن إبراهيم، نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ، عن محمد بن عليّ بن أبي طالب، قال: قلت لأبي: إن الناس يزعمون في قول الله سبحانه {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ} أنك أنت التالي، قال: وددت أني أنا هو، ولكنه لسان محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج أبو الشيخ، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن الشاهد جبريل ووافقه سعيد بن جبير. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه من طرق، عن ابن عباس، قال: جبريل فهو شاهد من الله بالذي يتلوه من كتاب الله الذي أنزل على محمد {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} قال: ومن قبله التوراة على لسان موسى، كما تلا القرآن على لسان محمد. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن عساكر، عن الحسن بن عليّ، في قوله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ} قال: محمد هو الشاهد من الله. وأخرج أبو الشيخ، عن إبراهيم {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} قال: ومن قبله جاء الكتاب إلى موسى. وأخرج عبد الرزاق، وأبو الشيخ، عن قتادة {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب} قال: الكفار أحزاب كلهم على الكفر. وأخرج أبو الشيخ، عن قتادة، قال: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب} قال: من اليهود والنصارى.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)} قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} أي: لا أحد أظلم منهم لأنفسهم؛ لأنهم افتروا على الله كذباً بقولهم لأصنامهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وقولهم: الملائكة بنات الله، وأضافوا كلامه سبحانه إلى غيره، واللفظ وإن كان لا يقتضي إلا نفي وجود من هو أظلم منهم كما يفيده الاستفهام الإنكاري، فالمقام يفيد نفي المساوي لهم في الظلم. فالمعنى على هذا: لا أحد مثلهم في الظلم فضلاً عن أن يوجد من هو أظلم منهم، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الموصوفين بالظلم المتبالغ، وهو مبتدأ، وخبره {يعرضون على ربهم} فيحاسبهم على أعمالهم، أو المراد بعرضهم: عرض أعمالهم {وَيَقُولُ الأشهاد هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ} الأشهاد: هم الملائكة الحفظة، وقيل: المرسلون. وقيل: الملائكة والمرسلون والعلماء الذين بلغوا ما أمرهم الله بإبلاغه، وقيل جميع الخلائق. والمعنى: أنه يقول هؤلاء الأشهاد عند العرض: هؤلاء المعرضون أو المعروضة أعمالهم الذين كذبوا على ربهم بما نسبوه إليه ولم يصرّحوا بما كذبوا به، كأنه كان أمراً معلوماً عند أهل ذلك الموقف. قوله: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} هذا من تمام كلام الأشهاد أي: يقولون هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ويقولون: ألا لعنة الله على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالافتراء، ويجوز أن يكون من كلام الله سبحانه، قاله بعدما قال الأشهاد {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم}. والأشهاد جمع شهيد، ورجحه أبو عليّ بكثرة ورود شهيد في القرآن كقوله: {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً} [النساء: 41]، وقيل: هو جمع شاهد كأصحاب وصاحب، والفائدة في قول الأشهاد بهذه المقالة المبالغة في فضيحة الكفار، والتقريع لهم على رؤوس الأشهاد. ثم وصف هؤلاء الظالمين الذين لعنوا بأنهم {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي: يمنعون من قدروا على منعه عن دين الله والدخول فيه {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي: يصفونها بالاعوجاج تنفيراً للناس عنها، أو يبغون أهلها أن يكونوا معوجين بالخروج عنها إلى الكفر، يقال بغيتك شرّاً: أي طلبته لك والحال أنهم {بالآخرة هُمْ كافرون} أي: يصفونها بالعوج، والحال أنهم بالآخرة غير مصدّقين، فكيف يصدّون الناس عن طريق الحق، وهم على الباطل البحت؟ وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به، حتى كأن كفر غيرهم غير معتدّ به بالنسبة إلى عظيم كفرهم {أولئك} الموصوفون بتلك الصفات {لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأرض} أي: ما كانوا يعجزون الله في الدنيا إن أراد عقوبتهم {وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} يدفعون عنهم ما يريده الله سبحانه من عقوبتهم، وإنزال بأسه بهم، وجملة {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} مستأنفة لبيان أن تأخير العذاب والتراخي عن تعجيله لهم، ليكون عذاباً مضاعفاً. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويزيد ويعقوب «يضعف» مشدّداً {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} أي: أفرطوا في إعراضهم عن الحق، وبغضهم له، حتى كأنهم لا يقدرون على السمع ولا يقدرون على الإبصار، لفرط تعاميهم عن الصواب. ويجوز أن يراد بقوله: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} أنهم جعلوا آلهتهم أولياء من دون الله، ولا ينفعهم ذلك، فما كان هؤلاء الأولياء يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون، فكيف ينفعونهم فيجلبون لهم نفعاً أو يدفعون عنهم ضرراً، ويجوز أن تكون «ما» هي المدية. والمعنى: أنه يضاعف لهم العذاب مدّة استطاعتهم السمع والبصر. قال الفراء: ما كانوا يستطيعون السمع، لأن الله أضلهم في اللوح المحفوظ. وقال الزجاج: لبغضهم النبي صلى الله عليه وسلم. وعداوتهم له لا يستطيعون أن يسمعوا منه ولا يفهموا عنه. قال النحاس: هذا معروف في كلام العرب، يقال: فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان: إذا كان ثقيلاً عليه {أولئك} المتصفون بتلك الصفات {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} بعبادة غير الله. والمعنى: اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله، فكان خسرانهم في تجارتهم أعظم خسران {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي: ذهب وضاع ما كانوا يفترون من الآلهة التي يدّعون أنها تشفع لهم، ولم يبق بأيديهم إلا الخسران. قوله: {لاَ جَرَمَ} قال الخليل وسيبويه: «لا جرم» بمعنى حق فهي عندهما بمنزلة كلمة واحدة، وبه قال الفراء. وروي عن الخليل والفراء أنها: بمنزلة قولك: لا بدّ ولا محالة، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقاً. وقال الزجاج: إن جرم بمعنى كسب: أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وفاعل كسب مضمر، وأنّ منصوبة بجزم. قال الأزهري: وهذا من أحسن ما نقل في هذه اللغة. وقال الكسائي: معنى لا جرم: لا صدّ ولا منع عن أنهم في الآخرة هم الأخسرون. وقال جماعة من النحويين: إن معنى لا جرم لا قطع قاطع {أَنَّهُمْ فِى الآخرة هُمُ الأخسرون} قالوا: والجرم: القطع، وقد جرم النخل واجترمه: أي قطعه، وفي هذه الآية بيان أنهم في الخسران قد بلغوا إلى حدّ يتقاصر عنه غيرهم، ولا يبلغ إليه، وهذه الآيات مقرّرة لما سبق من نفي المماثلة بين من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها، وبين من كان على بينة من ربه {إِنَّ الذين ءامَنُواْ} أي: صدقوا بكل ما يجب التصديق به من كون القرآن من عند الله، وغير ذلك من خصال الإيمان {وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَخْبَتُواْ إلى رَبّهِمْ} أي: أنابوا إليه، وقيل: خشعوا. وقيل: خضعوا. قيل: وأصل الإخبات: الاستواء في الخبث: وهو الأرض المستوية الواسعة فيناسب معنى الخشوع والاطمئنان. قال الفراء: إلى ربهم، ولربهم واحد {أولئك} الموصوفون بتلك الصفات الصالحة {أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون}. قوله: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع} ضرب للفريقين مثلاً وهو تشبيه فريق الكافرين بالأعمى والأصمّ، وتشبيه فريق المؤمنين بالبصير والسميع، على أن كل فريق شبه بشيئين، أو شبه بمن جمع بين الشيئين، فالكافر شبه بمن جمع بين العمى والصمم، والمؤمن شبّه بمن جمع بين السمع والبصر، وعلى هذا تكون الواو في {والأصمّ}، وفي {والسميع} لعطف الصفة على الصفة، كما فى قول الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام *** والاستفهام في قوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} للإنكار: يعني الفريقين، وهذه الجملة مقرّرة لما تقدّم من قوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} وانتصاب مثلاً على التمييز من فاعل يستويان: أي هل يستويان حالاً وصفة {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} في عدم استوائهما، وفيما بينهما من التفاوت الظاهر الذي لا يخفى على من له تذكر، وعنده تفكر وتأمل، والهمزة لإنكار عدم التذكر واستبعاد صدوره عن المخاطبين. وقد أخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ} قال: الكافر والمنافق {أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ على رَبّهِمْ} فيسألهم عن أعمالهم {وَيَقُولُ الأشهاد} الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا {هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ} شهدوا به عليهم يوم القيامة. وأخرج ابن جرير، عن مجاهد، قال: «الأشهاد: الملائكة». وأخرج أبو الشيخ، عن قتادة، نحوه، وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يدني المؤمن حتى يضع كنفه ويستره من الناس ويقرّره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: ربّ أعرف، حتى إذا قرّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطي كتاب حسناته. وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين}» وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ، في قوله: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} قال: هو محمد يعني سبيل الله، صدّت قريش عنه الناس. وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك، في قوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} يعني: يرجون بمكة غير الإسلام ديناً. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأرض} الآية قال: أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا، فإنه قال: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} وأما في الآخرة فإنه قال {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ * خاشعة} [القلم: 42، 43]. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} قال: ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا خيراً فينتفعوا به، ولا يبصروا خيراً فيأخذوا به. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {*أخبتوا} قال: خافوا. وأخرج ابن جرير، عنه، قال: الإخبات: الإنابة. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وأبو الشيخ، قال الإخبات: الخشوع والتواضع. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن مجاهد، قال: اطمأنوا. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم} قال: الكافر {والبصير والسميع} قال: المؤمن.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)} لما أورد سبحانه على الكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم أنواع الدلائل التي هي أوضح من الشمس، أكد ذلك بذكر القصص على طريقة التفنن في الكلام، ونقله من أسلوب إلى أسلوب لتكون الموعظة أظهر والحجة أبين، والقبول أتمّ، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} قرأ ابن كثيرة، وأبو عمرو، والكسائي بفتح الهمزة على تقدير حرف الجر: أي أرسلناه بأنى: أي أرسلناه متلبساً بذلك الكلام، وهو أني لكم نذير مبين. وقرأ الباقون بالكسر على إرادة القول: أي قائلاً إني لكم، والواو في {ولقد} للابتداء، واللام هي الموطئة للقسم، واقتصر على النذارة دون البشارة، لأن دعوته كانت لمجرد الإنذار، أو لكونهم لم يعملوا بما بشرهم به، وجملة {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} بدل من إني لكم نذير مبين: أي أرسلناه بأن لا تعبدوا إلا الله، أو تكون أن مفسرة متعلقة بأرسلنا، أو بنذير، أو بمبين، وجملة: {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} تعليلية. والمعنى: نهيتكم عن عبادة غير الله لأني أخاف عليكم، وفيها تحقيق لمعنى الإنذار، واليوم الأليم: هو يوم القيامة، أو يوم الطوفان؛ ووصفه بالأليم من باب الإسناد المجازي مبالغة. ثم ذكر ما أجاب به قومه عليه، وهذا الجواب يتضمن الطعن منهم في نبوّته من ثلاث جهات، فقال: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قومِهِ} والملأ: الأشراف، كما تقدم غير مرة، ووصفهم بالكفر ذماً لهم، وفيه دليل على أن بعض أشراف قومه لم يكونوا كفرة {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا} هذه الجهة الأولى من جهات طعنهم في نبوّته: أي: نحن وأنت مشتركون في البشرية، فلم يكن لك علينا مزية تستحق بها النبوّة دوننا، والجهة الثانية: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} ولم يتبعك أحد من الأشراف، فليس لك مزية علينا باتباع هؤلاء الأراذل لك. والأراذل: جمع أرذل، وأرذل جمع رذل، مثل: أكالب وأكلب وكلب. وقيل: الأراذل جمع الأرذل، كالأساود جمع أسود، وهم: السفلة. قال النحاس: الأراذل: الفقراء والذين لا حسب لهم، والحسب: الصناعات. قال الزجاج: نسبوهم إلى الحياكة، ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة. وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: السفلة هو الذي يصلح الدنيا بدينه، قيل له: فمن سفلة السفلة؟ قال: الذي يصلح دنيا غيره بفساد دينه. والظاهر من كلام أهل اللغة: أن السفلة هو الذي يدخل في الحرف الدنية، والرؤية في الموضعين إن كانت القلبية ف {بشرا} في الأوّل، و{اتبعك} في الثاني هما المفعول الثاني، وإن كانت البصرية فهما منتصبان على الحال، وانتصاب {بادي الرأي} على الظرفية، والعامل فيه {اتبعك}. والمعنى: في ظاهر الرأي من غير تعمق، يقال بدا يبدو: إذا ظهر. قال الأزهري: معناه فيما يبدو لنا من الرأي. والوجه الثالث: من جهات قدحهم في نبوّته {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} خاطبوه في الوجهين الأولين، منفرداً وفي هذا الوجه خاطبوه مع متبعيه أي: ما نرى لك ولمن اتبعك من الأراذل علينا من فضل يتميزون به، وتستحقون ما تدّعونه، ثم أضربوا عن الثلاثة المطاعن، وانتقلوا إلى ظنهم المجرّد عن البرهان الذي لا مستند له إلا مجرد العصبية، والحسد، واستبقاء ما هم فيه من الرياسة الدنيوية، فقالوا: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين} فيما تدّعونه، ويجوز أن يكون هذا خطاباً للأراذل وحدهم، والأوّل: أولى؛ لأن الكلام مع نوح لا معهم إلا بطريق التبعية له. ثم ذكر سبحانه ما أجاب به نوح عليهم، فقال: {قَالَ يَاقَوْمٌ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} أي: أخبروني إن كنت على برهان من ربي في النبوّة يدل على صحتها ويوجب عليكم قبولها، مع كون ما جعلتموه قادحاً ليس بقادح في الحقيقة، فإن المساواة في صفة البشرية لا تمنع المفارقة في صفة النبوّة، واتباع الأراذل كما تزعمون ليس مما يمنع من النبوّة، فإنهم مثلكم في البشرية والعقل والفهم، فاتباعهم لي حجة عليكم لا لكم، ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} هي: النبوّة، وقيل: الرحمة: المعجزة، والبينة: النبوّة. قيل: ويجوز أن تكون الرحمة هي: البينة نفسها، والأولى تفسير الرحمة بغير ما فسرت البينة، والإفراد في {فَعُمّيَتْ} على إرادة كل واحدة منهما، أو على إرادة البينة، لأنها هي التي تظهر لمن تفكر، وتخفى على من لم يتفكر، ومعنى عميت: خفيت؛ وقيل: الرحمة هي على الخلق، وقيل: هي الهداية إلى معرفة البرهان، وقيل: الإيمان، يقال عميت عن كذا، وعمي عليّ كذا: إذا لم أفهمه. قيل وهو من باب القلب، لأن البينة أو الرحمة لا تعمى وإنما يعمى عنها فهو كقولهم: أدخلت القلنسوة رأسي. وقرأ الأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص {فعميت} بضم العين وتشديد الميم على البناء للمفعول: أي فعماها الله عليكم، وفي قراءة أبيّ «فعماها عليكم» والاستفهام في {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} للإنكار: أي لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها، والحال أنكم {لها كارهون}، والمعنى: أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة نبوّتي إلا أنها خافية عليكم أيمكنننا أن نضطركم إلى العلم بها، والحال أنكم لها كارهون غير متدبرين فيها، فإن ذلك لا يقدر عليه إلا الله عزّ وجلّ. وحكى الكسائي والفراء إسكان الميم الأولى في {أنلزمكموها} تخفيفاً كما في قول الشاعر: فاليوم أشرب غير مستحقب *** إثماً من الله ولا واغل فإن إسكان الباء في أشرب للتخفيف. وقد قرأ أبو عمرو كذلك. قوله: {وياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله} فيه التصريح منه عليه السلام بأنه لا يطلب على تبليغ الرسالة مالاً حتى يكون بذلك محلاً للتهمة، ويكون لقول الكافرين مجال بأنه إنما ادّعى ما ادعى طلباً للدنيا، والضمير في عليه راجع إلى ما قاله لهم، فيما قبل هذا. وقوله: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ} كالجواب عما يفهم من قولهم {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} من التلميح منهم إلى إبعاد الأراذل عنه. وقيل: إنهم سألوه طردهم تصريحاً لا تلميحاً، ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ} أي: لا أطردهم، فإنهم ملاقون يوم القيامة ربهم فهو يجازيهم على إيمانهم لأنهم طلبوا ما عنده سبحانه، وكأنه قال هذا على وجه الإعظام لهم، ويحتمل أنه قاله خوفاً من مخاصمتهم له عند ربهم بسبب طرده لهم؛ ثم بين لهم ما هم عليه في هذه المطالب التي طلبوها منه، والعلل التي اعتلوا بها عن إجابته فقال: {ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} كل ما ينبغي أن يعلم، ومن ذلك استرذالهم للذين اتبعوه وسؤالهم له أن يطردهم. ثم أكد عدم جواز طردهم بقوله: {وياقوم مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ} أي: من يمنعني من عذاب الله وانتقامه إن طردتهم؟ فإن طردهم بسبب سبقهم إلى الإيمان والإجابة إلى الدعوة التي أرسل الله رسوله لأجلها ظلم عظيم، لا يقع من أنبياء الله المؤيدين بالعصمة، ولو وقع ذلك منهم فرضاً وتقديراً لكان فيه من الظلم مالا يكون لو فعله غيرهم من سائر الناس. وقوله: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} معطوف على مقدّر؛ كأنه قيل: أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل بما ذكر، أفلا تذكرون من أحوالهم ما ينبغي تذكره، وتتفكرون فيه، حتى تعرفوا ما أنتم عليه من الخطأ، وما هم عليه من الصواب. قوله: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله} بين لهم أنه كما لا يطلب منهم شيئاً من أموالهم على تبليغ الرسالة، كذلك لا يدّعي أن عنده خزائن الله حتى يستدلوا بعدمها على كذبه، كما قالوا: {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} والمراد بخزائن الله: خزائن رزقه {وَلا أَعْلَمُ الغيب} أي: ولا أدّعي أني أعلم بغيب الله، بل لم أقل لكم إلا أني نذير مبين، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم {وَلا أَقُولُ} لكم {إِنّى مَلَكٌ} تقولوا ما نراك إلا بشراً مثلنا. وقد استدلّ بهذا من قال: إن الملائكة أفضل من الأنبياء، والأدلة في هذه المسألة مختلفة، وليس لطالب الحق إلى تحقيقها حاجة، فليست مما كلفنا الله بعلمه {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ} أي: تحتقر، والازدراء مأخوذ من أزرى عليه: إذا عابه، وزري عليه: إذا احتقره، وأنشد الفراء: يباعده الصديق وتزدريه *** خليلته وينهره الصغير والمعنى: إني لا أقول لهؤلاء المتبعين لي المؤمنين بالله الذين تعيبونهم وتحتقرونهم {لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا} بل قد آتاهم الخير العظيم بالإيمان به واتباع نبيه؛ فهو مجازيهم بالجزاء العظيم في الآخرة، ورافعهم في الدنيا إلى أعلى محل، ولا يضرّهم احتقاركم لهم شيئاً {الله أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ} من الإيمان به، والإخلاص له، فمجازيهم على ذلك، ليس لي ولا لكم من أمرهم شيء {إِنّى إِذًا لَّمِنَ الظالمين} لهم إن فعلت ما تريدونه بهم، أو من الظالمين لأنفسهم إن فعلت ذلك بهم، ثم جاوبوه بغير ما تقدّم من كلامهم وكلامه عجزاً عن القيام بالحجة، وقصوراً عن رتبة المناظرة، وانقطاعاً عن المباراة بقولهم: {يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} أي: خاصمتنا بأنواع الخصام، ودفعتنا بكل حجة لها مدخل في المقام، ولم يبق لنا في هذا الباب مجال، فقد ضاقت علينا المسالك، وانسدّت أبواب الحيل {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب الذي تخوّفنا منه، وتخافه علينا {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} فيما تقوله لنا، فأجاب بأن ذلك ليس إليه وإنما هو بمشيئة الله وإرادته، و{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء} فإن قضت مشيئته وحكمته بتعجيله عجله لكم، وإن قضت مشيئته وحكمته بتأخيره أخره {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} بفائتين عما أراده الله بكم بهرب أو مدافعة. {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى} الذي أبذله لكم، وأستكثر منه قياماً مني بحق النصيحة لله بإبلاغ رسالته، ولكم بإيضاح الحق وبيان بطلان ما أنتم عليه {إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ} وجواب هذا الشرط محذوف، والتقدير: إن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي، كما يدل عليه ما قبله: {إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} أي: إن كان الله يريد إغواءكم، فلا ينفعكم النصح مني، فكان جواب هذا الشرط محذوفاً كالأوّل، وتقديره ما ذكرنا، وهذا التقدير إنما هو على مذهب من يمنع من تقدّم الجزاء على الشرط، وأما على مذهب من يجيزه، فجزاء الشرط الأوّل، {ولا ينفعكم نصحي}، وجزاء الشرط الثاني الجملة الشرطية الأولى وجزاؤها. قال ابن جرير: معنى {يغويكم} يهلككم بعذابه، وظاهر لغة العرب أن الإغواء: الإضلال؛ فمعنى الآية: لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يضلكم عن سبيل الرشاد، ويخذلكم عن طريق الحق. وحكى عن طيّ: أصبح فلان غاوياً: أي مريضاً، وليس هذا المعنى هو المراد في الآية. وقد ورد الإغواء بمعنى الإهلاك، ومنه: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} [مريم: 59] وهو غير ما في هذه الآية {هُوَ رَبُّكُمْ} فإليه الإغواء وإليه الهداية {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ. وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرأى} قال: فيما ظهر لنا. وأخرج أبو الشيخ، عن عطاء، مثله. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله: {إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} قال: قد عرفتها وعرفت بها أمره، وأنه لا إله إلا هو، {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِه} قال: الإسلام الهدى والإيمان، والحكم والنبوّة. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} قال: أما والله لو استطاع نبيّ الله لألزمها قومه، ولكنه لم يستطع ذلك ولم يمكنه. وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ «أنلزمكموها من شطر أنفسنا وأنتم لها كارهون». وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية، قال في قراءة أبيّ: «أنلزمكموها من شطر أنفسنا وأنتم لها كارهون». وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن أبيّ بن كعب، أنه قرأ: «أنلزمكموها من شطر قلوبنا». وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ}، قال: قالوا له: يا نوح، إن أحببت أن نتبعك فاطردهم، وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأرض سواء، وفي قوله: {إِنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ} قال: فيسألهم عن أعمالهم {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله} التي لا يفنيها شيء، فأكون إنما دعوتكم لتتبعوني عليها، لا أعطيكم بملكه لي عليها {وَلا أَعْلَمُ الغيب} لا أقول: اتبعوني على علمي بالغيب {وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ} نزلت من السماء برسالة، ما أنا إلا بشر مثلكم. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ}. قال: حقرتموهم. وأخرج أبو الشيخ، عن السدي، في قوله: {لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا} قال: يعني: إيماناً. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} قال: تكذيباً بالعذاب، وأنه باطل.
|