الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً} أي: والوهم. قال قتادة: هم المنافقون تولوا اليهود. وقال السديّ، ومقاتل: هم اليهود تولوا المنافقين، ويدلّ على الأوّل قوله: {غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} فإن المغضوب عليهم هم اليهود، ويدلّ على الثاني قوله: {مَّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ} فإن هذه صفة المنافقين، كما قال الله فيهم: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} [النساء: 143] وجملة: {مَّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ} في محل نصب على الحال، أو هي مستأنفة {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب} أي: يحلفون أنهم مسلمون، أو يحلفون أنهم ما نقلوا الأخبار إلى اليهود، والجملة عطف على تولوا داخلة في حكم التعجيب من فعلهم، وجملة: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} في محل نصب على الحال، أي: والحال أنهم يعلمون بطلان ما حلفوا عليه، وأنه كذب لا حقيقة له. {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} بسبب هذا التولي والحلف على الباطل {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الأعمال القبيحة {اتخذوا أيمانهم جُنَّةً} قرأ الجمهور: {أيمانهم} بفتح الهمزة جمع يمين، وهي ما كانوا يحلفون عليه من الكذب بأنهم من المسلمين توقياً من القتل، فجعلوا هذه الأيمان وقاية وسترة دون دمائهم، كما يجعل المقاتل الجنة وقاية له من أن يصاب بسيف أو رمح أو سهم. وقرأ الحسن، وأبو العالية (إيمانهم) بكسر الهمزة أي: جعلوها تصديقهم جنة من القتل، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل، ولم تؤمن قلوبهم {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي: منعوا الناس عن الإسلام بسبب ما يصدر عنهم من التثبيط، وتهوين أمر المسلمين، وتضعيف شوكتهم، وقيل المعنى: فصدّوا المسلمين عن قتالهم بسبب إظهارهم للإسلام {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي: يهينهم ويخزيهم، قيل: هو تكرير لقوله: {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} للتأكيد، وقيل: الأوّل عذاب القبر، وهذا عذاب الآخرة، ولا وجه للقول بالتكرار، فإن العذاب الموصوف بالشدّة غير العذاب الموصوف بالإهانة. {لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله شَيْئًا} أي: لن تغني عنهم من عذابه شيئًا من الإغناء. قال مقاتل: قال المنافقون: إن محمداً يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد شقينا إذن، فوالله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا، وأموالنا، وأولادنا إن كان قيامة، فنزلت الآية {أولئك} الموصوفون بما ذكر {أصحاب النار} لا يفارقونها {هُمْ فِيهَا خالدون} لا يخرجون منها {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً} الظرف منصوب بقوله: {مُّهِينٌ}، أو بمقدّر، أي: اذكر {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} أي: يحلفون لله يوم القيامة على الكذب كما يحلفون لكم في الدنيا، وهذا من شدّة شقاوتهم ومزيد الطبع على قلوبهم، فإن يوم القيامة قد انكشفت الحقائق وصارت الأمور معلومة بضرورة المشاهدة، فكيف يجترئون على أن يكذبوا في ذلك الموقف ويحلفون على الكذب {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَئ} أي: يحسبون في الآخرة أنهم بتلك الأيمان الكاذبة على شيء مما يجلب نفعاً، أو يدفع ضرراً، كما كانوا يحسبون ذلك في الدنيا {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} أي: الكاملون في الكذب المتهالكون عليه البالغون فيه إلى حدّ لم يبلغ غيرهم إليه بإقدامهم عليه، وعلى الأيمان الفاجرة في موقف القيامة بين يدي الرحمن. {استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان} أي: غلب عليهم واستعلى واستولى. قال المبرّد: استحوذ على الشيء: حواه وأحاط به، وقيل: قوي عليهم، وقيل: جمعهم، يقال: أحوذ الشيء، أي: جمعه وضمّ بعضه إلى بعض، والمعاني متقاربة؛ لأنه إذا جمعهم فقد قوي عليهم وغلبهم واستعلى عليهم واستولى، وأحاط بهم {فأنساهم ذِكْرَ الله} أي: أوامره والعمل بطاعاته، فلم يذكروا شيئًا من ذلك، وقيل: زواجره في النهي عن معاصيه، وقيل: لم يذكروه بقلوبهم ولا بألسنتهم، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى المذكورين الموصوفين بتلك الصفات، وهو مبتدأ، وخبره {حِزْبُ الشيطان} أي: جنوده، وأتباعه، ورهطه {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون} أي: الكاملون في الخسران حتى كأن خسران غيرهم بالنسبة إلى خسرانهم ليس بخسران لأنهم باعوا الجنة والهدى بالضلالة، وكذبوا على الله وعلى نبيه، وحلفوا الأيمان الفاجرة في الدنيا والآخرة {إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ} تقدّم معنى المحادّة لله ولرسوله في أوّل هذه السورة، والجملة تعليل لما قبلها {أُوْلَئِكَ فِى الأذلين} أي: أولئك المحادّون لله ورسوله، المتصفون بتلك الصفات المتقدّمة من جملة من أذله الله من الأمم السابقة واللاحقة؛ لأنهم لما حادّوا الله ورسوله صاروا من الذلّ بهذا المكان. قال عطاء: يريد الذلّ في الدنيا، والخزي في الآخرة. {كَتَبَ الله لأغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها مع كونهم في الأذلين، أي: كتب في اللوح المحفوظ، وقضى في سابق علمه: لأغلبنّ أنا ورسلي بالحجة والسيف. قال الزجاج: معنى غلبة الرسل على نوعين: من بعث منهم بالحرب، فهو غالب في الحرب، ومن بعث منهم بغير الحرب، فهو غالب بالحجة. قال الفراء: كتب بمعنى قال، وقوله: {أَنَاْ} توكيد، ثم ذكر مثل قول الزجاج. {إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ} فهو قويّ على نصر أوليائه غالب لأعدائه لا يغلبه أحد. {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ} الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له أي: يحبون ويوالون من عادى الله ورسوله وشاقهما، وجملة: {يُوَادُّونَ} في محل نصب على أنها المفعول الثاني لتجد إن كان متعدّياً إلى مفعولين، أو في محل نصب على الحال إن كان متعدّياً إلى مفعول واحد، أو صفة أخرى ل {قوماً}، أي: جامعون بين الإيمان والموادّة لمن حادّ الله ورسوله {وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} أي: ولو كان المحادّون لله ورسوله آباء الموادّين، إلخ، فإن الإيمان يزجر عن ذلك، ويمنع منه، ورعايته أقوى من رعاية الأبوّة والبنوّة والأخوّة والعشيرة {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان} يعني: الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله، ومعنى {كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان}: خلقه، وقيل: أثبته، وقيل: جعله، وقيل: جمعه، والمعاني متقاربة {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ} قوّاهم بنصر منه على عدوّهم في الدنيا، وسمى نصره لهم روحاً لأن به يحيا أمرهم، وقيل: هو نور القلب. وقال الربيع بن أنس: بالقرآن والحجة، وقيل: بجبريل، وقيل: بالإيمان، وقيل: برحمة. قرأ الجمهور: {كتب} مبنياً للفاعل، ونصب الإيمان على المفعولية. وقرأ زرّ بن حبيش، والمفضل عن عاصم على البناء للمفعول، ورفع الإيمان على النيابة. وقرأ زرّ بن حبيش: (عشيراتهم) بالجمع، ورويت هذه القراءة عن عاصم {وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا} على الأبد {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} أي: قبل أعمالهم، وأفاض عليهم آثار رحمته العاجلة والآجلة {وَرَضُواْ عَنْهُ} أي: فرحوا بما أعطاهم عاجلاً وآجلاً {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله} أي: جنده الذين يمتثلون أوامره، ويقاتلون أعداءه، وينصرون أولياءه، وفي إضافتهم إلى الله سبحانه تشريف لهم عظيم، وتكريم فخيم {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} أي: الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة، الكاملون في الفلاح الذين صار فلاحهم هو الفرد الكامل، حتى كان فلاح غيرهم بالنسبة إلى فلاحهم كلا فلاح. وقد أخرج أحمد، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في ظلّ حجرة من حجره، وعنده نفر من المسلمين، فقال: «إنه سيأتيكم إنسان، فينظر إليكم بعين شيطان، فإذا جاءكم، فلا تكلموه»، فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق، فقال حين رآه: «علام تشتمني أنت وأصحابك»؟ فقال: ذرني آتيك بهم، فحلفوا، واعتذروا، فأنزل الله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} الآية والتي بعدها. وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في سننه عن عبد الله بن شوذب قال: جعل والد أبي عبيدة بن الجرّاح يتقصد لأبي عبيدة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصده أبو عبيدة، فقتله، فنزلت: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله} الآية.
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} قوله: {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} قد تقدّم تفسير هذا في سورة الحديد. {هُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم لأوَّلِ الحشر} هم بنو النضير، وهم. رهط من اليهود من ذرية هارون، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظاراً منهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فغدروا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن عاهدوه، وصاروا عليه مع المشركين، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضوا بالجلاء. قال الكلبي: كانوا أوّل من أجلي من أهل الذمّة من جزيرة العرب، ثم أجلي آخرهم في زمن عمر بن الخطاب، فكان جلاؤهم أوّل حشر من المدينة، وآخر حشر إجلاء عمر لهم. وقيل: إن أوّل الحشر إخراجهم من حصونهم إلى خيبر، وآخر الحشر إخراجهم من خيبر إلى الشام، وقيل: آخر الحشر هو حشر جميع الناس إلى أرض المحشر، وهي الشام. قال عكرمة: من شك أن المحشر يوم القيامة في الشام، فليقرأ هذه الآية، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لهم: «اخرجوا»، قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى أرض المحشر» قال ابن العربي: الحشر أوّل وأوسط وآخر، فالأوّل إجلاء بني النضير، والأوسط إجلاء أهل خيبر، والآخر يوم القيامة. وقد أجمع المفسرون على أن هؤلاء المذكورين في الآية هم بنو النضير، ولم يخالف في ذلك إلاّ الحسن البصري فقال: هم بنو قريظة، وهو غلط، فإن بني قريظة ما حشروا، بل قتلوا بحكم سعد بن معاذ لما رضوا بحكمه، فحكم عليهم بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبي ذراريهم، وتغنم أموالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» واللام في {لأوّل الحشر} متعلقة ب {أخرج}، وهي لام التوقيت كقوله: {لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78]. {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ} هذا خطاب للمسلمين، أي: ما ظننتم أيها المسلمون أن بني النضير يخرجون من ديارهم؛ لعزتهم، ومنعتهم، وذلك أنهم كانوا أهل حصون مانعة، وعقار، ونخيل واسعة، وأهل عدد وعدّة {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ الله} أي: وظنّ بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من بأس الله، وقوله: {مَّانِعَتُهُمْ} خبر مقدّم، و{حصونهم} مبتدأ مؤخر، والجملة خبر {أنهم}، ويجوز أن يكون {مانعتهم} خبر {أنهم}، و{حصونهم} فاعل {مانعتهم}، ورجح الثاني أبو حيان، والأوّل أولى {فأتاهم الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} أي: أتاهم أمر الله من حيث لم يخطر ببالهم أنه يأتيهم أمره من تلك الجهة، وهو أنه سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك، وقيل: هو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف، قاله ابن جريج، والسديّ، وأبو صالح، فإنّ قتله أضعف شوكتهم. وقيل: إن الضمير في {أتاهم}، و{لم يحتسبوا} للمؤمنين، أي: فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا، والأوّل أولى لقوله: {وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب} فإن قذف الرعب كان في قلوب بني النضير، لا في قلوب المسلمين. قال أهل اللغة: الرعب: الخوف الذي يرعب الصدر، أي: يملؤه، وقذفه: إثباته فيه. وقيل: كان قذف الرعب في قلوبهم بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، والأولى عدم تقييده بذلك، وتفسيره به، بل المراد بالرعب الذي قذفه الله في قلوبهم هو الذي ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى المؤمنين} وذلك أنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم، فجعلوا يخربونها من داخل، والمسلمون من خارج. قال قتادة والضحاك: كان المؤمنون يخربون من خارج، ليدخلوا، واليهود من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم. قال الزجاج: معنى تخريبها بأيدي المؤمنين: أنهم عرضوها لذلك. قرأ الجمهور: {يخربون} بالتخفيف، وقرأ الحسن، والسلمي، ونصر بن عاصم، وأبو العالية، وأبو عمرو بالتشديد. قال أبو عمرو: إنما اخترت القراءة بالتشديد، لأن الإخراب ترك الشيء خراباً، وإنما خربوها بالهدم. وليس ما قاله بمسلم، فإن التخريب والإخراب عند أهل اللغة بمعنى واحد. قال سيبويه: إن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان نحو أخربته وخربته، وأفرحته وفرحته. واختار القراءة الأولى أبو عبيد، وأبو حاتم. قال الزهري، وابن زيد، وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما أقلت الإبل، كانوا يستحسنون الخشبة، أو العمود، فيهدمون بيوتهم، ويحملون ذلك على إبلهم، ويخرب المؤمنون باقيها. وقال الزهري أيضاً: {يخربون بيوتهم} بنقض المعاهدة، و{أيدي المؤمنين} بالمقاتلة، وقال أبو عمرو: بأيديهم في تركهم لها، وب {أيدي المؤمنين} في إجلائهم عنها، والجملة إما مستأنفة لبيان ما فعلوه، أو في محل نصب على الحال {فاعتبروا ياأولى الأبصار} أي: اتعظوا وتدبروا، وانظروا فيما نزل بهم يا أهل العقول والبصائر. قال الواحدي: ومعنى الاعتبار: النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها. {وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء لَعَذَّبَهُمْ فِى الدنيا} أي: لولا أن كتب الله عليهم الخروج من أوطانهم على ذلك الوجه، وقضى به عليهم لعذبهم بالقتل والسبي في الدنيا، كما فعل ببني قريظة. والجلاء: مفارقة الوطن، يقال: جلا بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاءً. والفرق بين الجلاء والإخراج، وإن كان معناهما في الإبعاد واحداً من جهتين: إحداهما: أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد. الثاني: أن الجلاء لا يكون إلاّ لجماعة، والإخراج يكون لجماعة ولواحد، كذا قال الماوردي. {وَلَهُمْ فِى الآخرة عَذَابُ النار} هذه الجملة مستأنفة غير متعلقة بجواب لولا متضمنة لبيان ما يحصل لهم في الآخرة من العذاب، وإن نجوا من عذاب الدنيا، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم ذكره من الجلاء في الدنيا، والعذاب في الآخرة {بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} أي: بسبب المشاقة منهم لله ولرسوله بعدم الطاعة، والميل مع الكفار، ونقض العهد {وَمَن يُشَاقّ الله فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} اقتصر هاهنا على مشاقة الله؛ لأن مشاقته مشاقة لرسوله. قرأ الجمهور: {يشاق} بالإدغام، وقرأ طلحة بن مصرف، ومحمد بن السميفع: (يشاقق) بالفك. {مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى&1648; أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله} قال مجاهد: إن بعض المهاجرين وقعوا في قطع النخل، فنهاهم بعضهم، وقالوا: إنما هي مغانم للمسلمين، وقال الذين قطعوا: بل هو غيظ للعدوّ؛ فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطع النخل، وتحليل من قطعه من الإثم فقال: {مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ} قال قتادة، والضحاك: إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات. وقال محمد بن إسحاق: إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة، فقال بنو النضير، وهم أهل كتاب: يا محمد ألست تزعم أنك نبيّ تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخل، وحرق الشجر؟، وهل وجدت، فيما أنزل عليك إباحة الفساد في الأرض، فشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجد المسلمون في أنفسهم، فنزلت الآية، ومعنى الآية: أيُّ شيء قطعتم من ذلك أو تركتم فبإذن الله، والضمير في {تركتموها} عائد إلى «ما» لتفسيرها باللينة، وكذا في قوله: {قَائِمَةً على أُصُولِهَا}، ومعنى {على أُصُولِهَا}: أنها باقية على ما هي عليه. واختلف المفسرون في تفسير اللينة، فقال الزهري، ومالك، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والخليل: إنها النخل كله إلاّ العجوة. وقال مجاهد: إنها النخل كله، ولم يستثن عجوة ولا غيرها. وقال الثوري: هي كرام النخل. وقال أبو عبيدة: إنها جميع أنواع التمر سوى العجوة والبرني. وقال جعفر بن محمد: إنها العجوة خاصة، وقيل: هي ضرب من النخل، يقال لتمره: اللون، تمره أجود التمر. وقال الأصمعي: هي الدقل. وأصل اللينة. لونة، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وجمع اللينة لين، وقيل: ليان. وقرأ ابن مسعود (ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوماً على أصولها) أي: قائمة على سوقها، وقرئ: (على أصلها)، وقرئ: (قائماً على أصوله) {وَلِيُخْزِىَ الفاسقين} أي: ليذلّ الخارجين عن الطاعة، وهم اليهود، ويغيظهم في قطعها وتركها، لأنهم إذا رأوا المؤمنين يتحكمون في أموالهم كيف شاءوا من القطع والترك ازدادوا غيظاً. قال الزجاج: {وليخزي الفاسقين} بأن يريهم أموالهم يتحكم فيها المؤمنون كيف أحبوا من قطع وترك، والتقدير: وليخزي الفاسقين أذن في ذلك، يدل على المحذوف قوله: {فَبِإِذْنِ الله}، وقد استدلّ بهذه الآية على جواز الاجتهاد، وعلى تصويب المجتهدين، والبحث مستوفى في كتب الأصول. {وَمَا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ} أي: ما ردّه عليه من أموال الكفار، يقال: فاء يفيء، إذا رجع، والضمير في {منهم} عائد إلى بني النضير {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} يقال: وجف الفرس والبعير يجف وجفاً، وهو سرعة السير، وأوجفه صاحبه: إذا حمله على السير السريع، ومنه قول تميم بن مقبل: مذ أوبد بالبيض الحديد صقالها *** عن الركب أحياناً إذا الركب أوجفوا وقال نصيب: ألا رُبَّ ركب قد قطعت وجيفهم *** إليك ولولا أنت لم يوجف الركب و«ما» في {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} نافية، والفاء جواب الشرط إن كانت «ما» في قوله: {مَّا أَفَاء الله} شرطية، وإن موصولة، فالفاء زائدة، «ومن» في قوله: {مِنْ خَيْلٍ} زائدة للتأكيد، والركاب. ما يركب من الإبل خاصة، والمعنى: أن ما ردّ الله على رسوله من أموال بني النضير لم تركبوا لتحصيله خيلاً، ولا إبلاً، ولا تجشمتم لها شقة، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، وإنما كانت من المدينة على ميلين، فجعل الله سبحانه أموال بني النضير لرسوله صلى الله عليه وسلم، خاصة لهذا السبب، فإنه افتتحها صلحاً، وأخذ أموالها، وقد كان سأله المسلمون أن يقسم لهم، فنزلت الآية: {ولكن الله يُسَلّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاء} من أعدائه، وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أصحابه لكونهم لم يوجفوا عليها بخيل، ولا ركاب، بل مشوا إليها مشياً، ولم يقاسوا فيها شيئًا من شدائد الحروب، {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} يسلط من يشاء على من أراد، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23]. {مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} هذا بيان لمصارف الفيء بعد بيان أنه لرسول الله خاصة، والتكرير لقصد التقرير والتأكيد، ووضع {أهل القرى} موضع قوله: {مِنْهُمْ} أي: من بني النضير للإشعار بأن هذا الحكم لا يختصّ ببني النضير وحدهم، بل هو حكم على كل قرية يفتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلحاً، ولم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب. قيل: والمراد بالقرى: بنو النضير، وقريظة، وفدك، وخيبر. وقد تكلم أهل العلم في هذه الآية والتي قبلها، هل معناهما متفق، أو مختلف؟ فقيل: معناهما متفق كما ذكرنا، وقيل: مختلف وفي ذلك كلام لأهل العلم طويل. قال ابن العربي: لا إشكال أنها ثلاثة معانٍ في ثلاث آيات. أما الآية الأولى، وهي قوله: {وَمَا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ} فهي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة له، وهي أموال بني النضير وما كان مثلها. وأما الآية الثانية، وهي قوله: {مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} فهذا كلام مبتدأ غير الأوّل بمستحق غير الأول، وإن اشتركت هي والأولى في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئًا أفاءه الله على رسوله، واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال، واقتضت آية الأنفال، وهي الآية الثالثة أنه حاصل بقتال، وعريت الآية الثانية، وهي قوله: {مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} عن ذكر حصوله بقتال، أو بغير قتال، فنشأ الخلاف من ها هنا؛ فطائفة قالت: هي ملحقة بالأولى، وهي مال الصلح، وطائفة قالت: هي ملحقة بالثالثة، وهي آية الأنفال. والذين قالوا: إنها ملحقة بآية الأنفال اختلفوا هل هي منسوخة، أو محكمة؟ هذا معنى حاصل كلامه. وقال مالك: إن الآية الأولى من هذه السورة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، والآية الثانية: هي في بني قريظة، ويعني: أن معناها يعود إلى آية الأنفال. ومذهب الشافعي أن سبيل خمس الفيء سبيل خمس الغنيمة، وأنّ أربعة أخماسه كانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم وهي بعده لمصالح المسلمين {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} المراد بقوله: {لِلَّهِ} أنه {يحكم فيه بما يشاء} {وَلِلرَّسُولِ} يكون ملكاً له {وَلِذِى القربى} وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، لأنهم قد منعوا من الصدقة، فجعل لهم حقاً في الفيء. قيل: تكون القسمة في هذا المال على أن يكون أربعة أخماسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وخمسه يقسم أخماساً. للرّسول خمس، ولكل صنف من الأصناف الأربعة المذكورة خمس، وقيل: يقسم أسداساً. السادس: سهم الله سبحانه، ويصرف إلى وجوه القرب، كعمارة المساجد، ونحو ذلك {كيلاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ} أي: كيلا يكون الفيء دولة بين الأغنياء دون الفقراء، والدولة: اسم للشيء يتداوله القوم بينهم، يكون لهذا مرّة ولهذا مرّة. قال مقاتل: المعنى: أنه يغلب الأغنياء الفقراء، فيقسمونه بينهم. قرأ الجمهور: {يكون} بالتحتية {دولة} بالنصب أي: كيلا يكون الفيء دولة. وقرأ أبو جعفر، والأعرج، وهشام، وأبو حيان: (تكون) بالفوقية «دولة» بالرفع، أي: كيلا تقع، أو توجد دولة، وكان تامة. وقرأ الجمهور: «دولة» بضم الدال. وقرأ أبو حيوة، والسلمي بفتحها. قال عيسى بن عمر، ويونس، والأصمعي: هما لغتان بمعنى واحد. وقال أبو عمرو بن العلاء: الدولة بالفتح الذي يتداول من الأموال، وبالضم الفعل، وكذا قال أبو عبيدة. ثم لما بيّن لهم سبحانه مصارف هذا المال أمرهم بالاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا} أي: ما أعطاكم من مال الغنيمة فخذوه، وما نهاكم عن أخذه فانتهوا عنه، ولا تأخذوه. قال الحسن، والسديّ: ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه، وما منعكم منه فلا تطلبوه. وقال ابن جريج: ما آتاكم من طاعتي فافعلوا، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه. والحقّ أن هذه الآية عامة في كل شيء يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر أو نهي، أو قول أو فعل، وإن كان السبب خاصاً، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكل شيء أتانا به من الشرع، فقد أعطانا إياه، وأوصله إلينا، وما أنفع هذه الآية وأكثر فائدتها. ثم لما أمرهم بأخذ ما أمرهم به الرّسول، وترك ما نهاهم عنه أمرهم بتقواه، وخوفهم شدّة عقوبته، فقال: {واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ} فهو معاقب من لم يأخذه ما آتاه الرّسول، ولم يترك ما نهاه عنه. وقد أخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت: كانت غزوة بني النضير،- وهم طائفة من اليهود- على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكان منزلهم، ونخلهم في ناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة، والأموال إلاّ الحلقة، يعني: السلاح، فأنزل الله فيهم {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض} إلى قوله: {لأوَّلِ الحشر مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ} فقاتلهم النبيّ حتى صالحهم على الإجلاء، وجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا، وكان الله قد كتب عليهم ذلك، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي، وأما قوله: {لأوَّلِ الحشر} فكان إجلاؤهم ذلك أوّل حشر في الدنيا إلى الشام. وأخرج البزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقيّ في البعث عن ابن عباس قال: من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية: {هُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم لأوَّلِ الحشر} قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ: «اخرجوا»، قالوا: «إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر». وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، والبيهقيّ في الدلائل، وابن عساكر عن ابن عباس قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ، فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم، وأن يسيروا إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيراً وسقاء. وفي البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير، وقطع وهي البويرة، ولها يقول حسان: لهان على سراة بني لؤيّ *** حريق بالبويرة مستطير فأنزل الله: {مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِىَ الفاسقين}. وأخرج الترمذي وحسنه، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: اللينة: النخلة {وَلِيُخْزِىَ الفاسقين} قال: استنزلوهم من حصونهم، وأمروا بقطع النخل، فحكّ في صدورهم، فقال المسلمون: قد قطعنا بعضاً وتركنا بعضاً، فلنسألنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لنا فيما قطعنا من أجر، وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله: {مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ} الآية، وفي الباب أحاديث، والكلام في صلح بني النضير مبسوط في كتب السير. وأخرج البخاريّ، ومسلم، وغيرهما عن عمر بن الخطاب قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله، ومما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدّة في سبيل الله. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} فجعل ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكم فيه ما أراد، ولم يكن يومئذٍ خيل ولا ركاب يوجف بها. قال: والإيجاف أن يوضعوا السير، وهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان من ذلك خيبر، وفدك، وقرى عرينة. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعمد لينبع، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتواها كلها، فقال ناس: هلا قسمها الله، فأنزل الله عذره فقال: {مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} الآية. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: كان ما أفاء الله على رسوله من خيبر نصف لله ورسوله، والنصف الآخر للمسلمين، فكان الذي لله ورسوله من ذلك الكثيبة، والوطيح، وسلالم، ووحدوه، وكان الذي للمسلمين الشقّ: ثلاثة عشر سهماً، ونطاة خمسة أسهم، ولم يقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر لأحد من المسلمين إلاّ لمن شهد الحديبية، ولم يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين تخلف عنه عند مخرجه إلى الحديبية أن يشهد معه خيبر إلاّ جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ. وأخرج أبو داود، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفايا في النضير، وخيبر، وفدك، فأما بنو النضير فكانت حبساً لنوائبه، وأما فدك فكانت لابن السبيل، وأما خيبر فجزأها ثلاثة أجزاء: قسم منها جزءين بين المسلمين، وحبس جزءاً لنفسه ولنفقة أهله، فما فضل عن نفقة أهله ردّها على فقراء المهاجرين. وأخرج عبد الرزاق، وابن سعد، وابن أبي شيبة، وابن زنجويه في الأموال، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن عمر بن الخطاب قال: ما على وجه الأرض مسلم إلاّ وله في هذا الفيء حقّ إلاّ ما ملكت أيمانكم. وأخرج البخاريّ، ومسلم، وغيرهما عن ابن مسعود قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات لخلق الله»، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أمّ يعقوب، فجاءت ابن مسعود، فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، قال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله؟ قالت: لقد قرأت ما بين الدّفتين، فما وجدت فيه شيئًا من هذا، قال: لئن كنت قرأته لقد وجدته، أما قرأت {ومَا آتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا} قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه.
{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} قوله: {لِلْفُقَرَاء} قيل: هو بدل من {لذى القربى} وما عطف عليه، ولا يصح أن يكون بدلاً من الرسول، وما بعده لئلا يستلزم وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر، وقيل التقدير: {كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً} ولكن يكون للفقراء، وقيل: التقدير: اعجبوا للفقراء، وقيل: التقدير: والله شديد العقاب للفقراء أي: شديد العقاب للكفار بسبب الفقراء، وقيل: هو عطف على ما مضى بتقدير الواو، كما تقول: المال لزيد لعمرو لبكر، والمراد ب {المهاجرين}: الذين هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة في الدين ونصرة له. قال قتادة: هؤلاء المهاجرون هم الذين تركوا الديار، والأموال، والأهلين، ومعنى {أُخْرِجُواْ مِن ديارهم}: أن كفار مكة أخرجوهم منها، واضطروهم إلى الخروج، وكانوا مائة رجل {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً} أي: يطلبون منه أن يتفضل عليهم بالرزق في الدنيا، وبالرضوان في الآخرة {وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ} بالجهاد للكفار، وهذه الجملة معطوفة على {يبتغون}، ومحل الجملتين النصب على الحال، الأولى مقارنة، والثانية مقدّرة، أي: ناوين لذلك، ويجوز أن تكون حالاً مقارنة؛ لأن خروجهم على تلك الصفة نصرة لله ورسوله، والإشارة بقوله: {أولئك} إليهم من حيث اتصافهم بتلك الصفات، وهو مبتدأ، وخبره: {هُمُ الصادقون} أي: الكاملون في الصدق الراسخون فيه. ثم لما فرغ من مدح المهاجرين مدح الأنصار فقال: {والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ} المراد بالدار: المدينة، وهي دار الهجرة، ومعنى تبوّئهم الدار والإيمان: أنهم اتخذوها مباءة، أي: تمكنوا منهما تمكناً شديداً، والتبوّأ في الأصل إنما يكون للمكان، ولكنه جعل الإيمان مثله لتمكنهم فيه تنزيلاً للحال منزلة المحل، وقيل: إن الإيمان منصوب بفعل غير الفعل المذكور، والتقدير: واعتقدوا الإيمان، أو وأخلصوا الإيمان كذا قال أبو علي الفارسي. ويجوز أن يكون على حذف مضاف، أي: تبوءوا الدار وموضع الإيمان، ويجوز أن يكون تبوّءوا مضمناً لمعنى لزموا، والتقدير: لزموا الدار والإيمان، ومعنى {مِن قَبْلِهِم}: من قبل هجرة المهاجرين، فلا بدّ من تقدير مضاف، لأن الأنصار إنما آمنوا بعد إيمان المهاجرين، والموصول مبتدأ، وخبره: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} وذلك لأنهم أحسنوا إلى المهاجرين، وأشركوهم في أموالهم ومساكنهم {وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً} أي: لا يجد الأنصار في صدورهم حسداً، وغيظاً، وحزازة {مّمَّا أُوتُواْ} أي: مما أوتي المهاجرون دونهم من الفيء، بل طابت أنفسهم بذلك. وفي الكلام مضاف محذوف، أي: لا يجدون في صدورهم مسّ حاجة، أو أثر حاجة، وكلّ ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة. وكان المهاجرون في دور الأنصار فلما غنم النبيّ صلى الله عليه وسلم بني النضير دعا الأنصار، وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين من إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم في أموالهم، ثم قال: " إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبين المهاجرين- وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم، والمشاركة لكم في أموالكم- وإن أحببتم أعطيتهم ذلك، وخرجوا من دياركم "، فرضوا بقسمة ذلك في المهاجرين، وطابت أنفسهم {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} الإيثار: تقديم الغير على النفس في حظوظ الدنيا رغبة في حظوظ الآخرة، يقال: آثرته بكذا، أي: خصصته به، والمعنى: ويقدّمون المهاجرين على أنفسهم في حظوظ الدنيا {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي: حاجة وفقر، والخصاصة مأخوذة من خصاص البيت، وهي الفرج التي تكون فيه، وجملة: {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} في محل نصب على الحال، وقيل: إن الخصاصة مأخوذة من الاختصاص، وهو الانفراد بالأمر، فالخصاصة الانفراد بالحاجة، ومنه قول الشاعر: إن الربيع إذا يكون خصاصة *** عاش السقيم به وأثرى المقتر {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} قرأ الجمهور: {يوق} بسكون الواو، وتخفيف القاف من الوقاية، وقرأ ابن أبي عبلة، وأبو حيوة بفتح الواو، وتشديد القاف. وقرأ الجمهور: {شحّ نفسه} بضم الشين. وقرأ ابن عمر، وابن أبي عبلة بكسرها. والشحّ: البخل مع حرص، كذا في الصحاح، وقيل: الشحّ أشدّ من البخل. قال مقاتل: شحّ نفسه: حرص نفسه. قال سعيد بن جبير: شحّ النفس هو أخذ الحرام، ومنع الزكاة. قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئًا نهاه الله عنه، ولم يمنع شيئًا أمره الله بأدائه، فقد وقى شحّ نفسه. قال طاووس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشحّ أن يشحّ بما في أيدي الناس، يحبّ أن يكون له ما في أيديهم بالحلال والحرام لا يقنع. وقال ابن عيينة: الشحّ: الظلم. وقال الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم. والظاهر من الآية أن الفلاح مترتب على عدم شحّ النفس بشيء من الأشياء التي يقبح الشحّ بها شرعاً من زكاة، أو صدقة، أو صلة رحم، أو نحو ذلك، كما تفيده إضافة الشحّ إلى النفس، والإشارة بقوله: {فَأُوْلَئِكَ} إلى «من» باعتبار معناها، وهو مبتدأ، وخبره {هُمُ المفلحون} والفلاح الفوز والظفر بكل مطلوب. ثم لما فرغ سبحانه من الثناء على المهاجرين والأنصار، ذكر ما ينبغي أن يقوله من جاء بعدهم، فقال: {والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ} وهم التابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة، وقيل: هم الذين هاجروا بعد ما قوي الإسلام، والظاهر شمول الآية لمن جاء بعد السابقين من الصحابة المتأخر إسلامهم في عصر النبوّة، ومن تبعهم من المسلمين بعد عصر النبوّة إلى يوم القيامة؛ لأنه يصدق على الكلّ أنهم جاءوا بعد المهاجرين الأوّلين والأنصار، والموصول مبتدأ، وخبره {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمان} ويجوز أن يكون الموصول معطوفاً على قوله: {والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان}، فيكون {يقولون} في محل نصب على الحال، أو مستأنف لا محل له، والمراد بالأخوّة هنا: أخوة الدّين، أمرهم الله أن يستغفروا لأنفسهم، ولمن تقدّمهم من المهاجرين والأنصار {وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ} أي: غشاً وبغضاً وحسداً. أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغلّ للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابة دخولاً أوّلياً لكونهم أشرف المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم، ويطلب رضوان الله لهم، فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية، فإن وجد في قلبه غلاً لهم، فقد أصابه نزغ من الشيطان، وحلّ به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه، وخير أمة نبيه صلى الله عليه وسلم، وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجأ إلى الله سبحانه، والاستغاثة به، بأن ينزع عن قلبه ما طرقه من الغلّ لخير القرون، وأشرف هذه الأمة، فإن جاوز ما يجده من الغلّ إلى شتم أحد منهم، فقد انقاد للشيطان بزمام، ووقع في غضب الله وسخطه، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمعلم من الرافضة، أو صاحب من أعداء خير الأمة الذين تلاعب بهم الشيطان، وزين لهم الأكاذيب المختلفة، والأقاصيص المفتراة، والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وعن سنة رسول الله، المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور، فاشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر، ومازال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة، ومن رتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداء كتاب الله وسنة رسوله، وخير أمته وصالحي عباده وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله وهجروا شعائر الدين، وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي، ورموا الدين وأهله بكلّ حجر ومدر، والله من ورائهم محيط. {رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} أي: كثير الرأفة والرحمة بليغهما لمن يستحق ذلك من عبادك. وقد أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال: أوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأوّلين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار الذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم. وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه، فلم يجد عندهنّ شيئًا فقال: «ألا رجل يضيف هذه الليلة رحمه الله» ، فقال رجل من الأنصار، وفي رواية، فقال أبو طلحة الأنصاري: أنا يا رسول الله، فذهب به إلى أهله، فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدّخريه شيئًا، قالت: والله ما عندي إلاّ قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء، فنوّميهم وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعلت، ثم غدا الضيف على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة، وأنزل فيهما {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}». وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: أهدي إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأوّل، فنزلت فيهم: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أن رجلاً قال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: إني سمعت الله يقول: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء، فقال له ابن مسعود: ليس ذاك بالشحّ، ولكنه البخل، ولا خير في البخل، وإن الشحّ الذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً. وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال: ليس الشحّ أن يمنع الرجل ماله، ولكنه البخل، وإنه لشرّ، إنما الشحّ أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له. وأخرج ابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال: من أدّى زكاة ماله، فقد وقى شحّ نفسه. وأخرج الحكيم الترمذي، وأبو يعلى، وابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله: " ما محق الإسلام محق الشحّ شيء قط " وأخرج أحمد، والبخاري في الأدب، ومسلم، والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال: " اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشحّ، فإن الشحّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم " وقد وردت أحاديث كثيرة في ذمّ الشحّ. وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: الناس على ثلاث منازل، قد مضت منزلتان، وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت، ثم قرأ: {والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ} الآية. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف، وابن مردويه عن عائشة قالت: أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبيّ، فسبوهم، ثم قرأت هذه الآية: {والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ}. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر أنه سمع رجلاً، وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه {لِلْفُقَرَاء المهاجرين} الآية، ثم قال: هؤلاء المهاجرون، أفمنهم أنت؟ قال: لا، ثم قرأ عليه {والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان} الآية. ثم قال: هؤلاء الأنصار، أفأنت منهم؟ قال: لا، ثم قرأ عليه {والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ} الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو، قال: ليس من هؤلاء من سبّ هؤلاء.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} لما فرغ سبحانه من ذكر الطبقات الثلاث من المؤمنين، ذكر ما جرى بين المنافقين واليهود من المقاولة؛ لتعجيب المؤمنين من حالهم، فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نافقوا} والخطاب لرسول الله، أو لكل من يصلح له، والذين نافقوا هم: عبد الله بن أبيّ، وأصحابه، وجملة {يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} مستأنفة؛ لبيان المتعجب منه، والتعبير بالمضارع؛ لاستحضار الصورة، أو للدلالة على الاستمرار، وجعلهم إخواناً لهم لكون الكفر قد جمعهم، وإن اختلف نوع كفرهم، فهم إخوان في الكفر، واللام في {لإخوانهم} هي لام التبليغ، وقيل: هو من قول بني النضير لبني قريظة، والأوّل أولى؛ لأن بني النضير، وبني قريظة هم يهود، والمنافقون غيرهم، واللام في قوله: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} هي الموطئة للقسم، أي: والله لئن أخرجتم من دياركم {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} هذا جواب القسم، أي: لنخرجن من ديارنا في صحبتكم {وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ} أي: في شأنكم، ومن أجلكم {أَحَدًا} ممن يريد أن يمنعنا من الخروج معكم، وإن طال الزمان، وهو معنى قوله: {أَبَدًا}. ثم لما وعدوهم بالخروج معهم، وعدوهم بالنصرة لهم، فقالوا: {وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ لا ينصرونهم} على عدوّكم. ثم كذبهم سبحانه فقال: {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون} فيما وعدوهم به من الخروج معهم والنصرة لهم. ثم لما أجمل كذبهم فيما وعدوا به فصّل ما كذبوا فيه فقال: {لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ} وقد كان الأمر كذلك، فإن المنافقين لم يخرجوا مع من أخرج من اليهود، وهم بنو النضير ومن معهم، ولم ينصروا من قوتل من اليهود، وهم بنو قريظة وأهل خيبر {وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ} أي: لو قدِّر وجود نصرهم إياهم؛ لأن ما نفاه الله لا يجوز وجوده. قال الزجاج: معناه: لو قصدوا نصر اليهود {لَيُوَلُّنَّ الادبار} منهزمين {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} يعني: اليهود لا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصرهم، وهم المنافقون، وقيل: يعني لا يصير المنافقون منصورين بعد ذلك، بل يذلهم الله، ولا ينفعهم نفاقهم، وقيل معنى الآية: لا ينصرونهم طائعين، ولئن نصروهم مكرهين ليولنّ الأدبار، وقيل: معنى {لاَ يَنصُرُونَهُمْ} لا يدومون على نصرهم، والأوّل أولى، ويكون من باب قوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28]. {لاَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِمْ مّنَ الله} أي: لأنتم يا معاشر المسلمين أشدّ خوفاً وخشية في صدور المنافقين، أو صدور اليهود، أو صدور الجميع من الله، أي: من رهبة الله، والرهبة هنا بمعنى: المرهوبية؛ لأنها مصدر من المبني للمفعول، وانتصابها على التمييز {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} أي: ما ذكر من الرهبة الموصوفة بسبب عدم فقههم لشيء من الأشياء، ولو كان لهم فقه لعلموا أن الله سبحانه هو الذي سلطكم عليهم، فهو أحقّ بالرهبة منه دونكم. ثم أخبر سبحانه بمزيد فشلهم، وضعف نكايتهم فقال: {لاَ يقاتلونكم جَمِيعاً} يعني: لا يبرز اليهود والمنافقون مجتمعين لقتالكم ولا يقدرون على ذلك {إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ} بالدروب والدور {أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ} أي: من خلف الحيطان التي يستترون بها لجبنهم ورهبتهم. قرأ الجمهور: {جدر} بالجمع، وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وابن محيصن، وابن كثير، وأبو عمرو: {جدار} بالإفراد. واختار القراءة الأولى أبو عبيد، وأبو حاتم؛ لأنها موافقة لقوله: {قُرًى مُّحَصَّنَةٍ}. وقرأ بعض المكيين: {جدر} بفتح الجيم، وإسكان الدال، وهي لغة في الجدار {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} أي: بعضهم غليظ فظ على بعض، وقلوبهم مختلفة، ونياتهم متباينة. قال السديّ: المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد. وقال مجاهد: {بأسهم بينهم شديد} بالكلام والوعيد ليفعلن كذا، والمعنى: أنهم إذا انفردوا نسبوا أنفسهم إلى الشدّة والبأس، وإذا لاقوا عدوّاً ذلوا وخضعوا، وانهزموا، وقيل: المعنى أن بأسهم بالنسبة إلى أقرانهم شديد، وإنما ضعفهم بالنسبة إليكم لما قذف الله في قلوبهم من الرعب، والأوّل أولى لقوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى} فإنه يدلّ على أن اجتماعهم إنما هو في الظاهر مع تخالف قلوبهم في الباطن، وهذا التخالف هو البأس الذي بينهم الموصوف بالشدّة، ومعنى {شتى}: متفرقة، قال مجاهد: يعني اليهود والمنافقين تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى. وروي عنه أيضاً أنه قال: المراد: المنافقون. وقال الثوري: هم المشركون، وأهل الكتاب. قال قتادة: {تحسبهم جميعاً}، أي: مجتمعين على أمر ورأي، {وقلوبهم شتى} متفرقة، فأهل الباطل مختلفة آراؤهم مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحقّ. وقرأ ابن مسعود: (وقلوبهم أشت) أي: أشد اختلافاً {ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} أي: ذلك الاختلاف والتشتت بسبب أنهم قوم لا يعقلون شيئًا، ولو عقلوا؛ لعرفوا الحقّ واتبعوه. {كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: مثلهم كمثل الذين من قبلهم، والمعنى: أن مثل المنافقين واليهود كمثل الذين من قبلهم من كفار المشركين {قَرِيبًا} يعني: في زمان قريب، وانتصاب {قريباً} على الظرفية أي: يشبهونهم في زمن قريب، وقيل: العامل فيه {ذاقوا}، أي: ذاقوا في زمن قريب، ومعنى {ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أي: سوء عاقبة كفرهم في الدنيا بقتلهم يوم بدر، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، قاله مجاهد، وغيره، وقيل: المراد بنو النضير حيث أمكن الله منهم، قاله قتادة. وقيل: قتل بني قريظة، قاله الضحاك. وقيل: هو عامّ في كل من انتقم الله منه بسبب كفره، والأوّل أولى {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: في الآخرة. ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلاً آخر فقال: {كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ للإنسان اكفر} أي: مثلهم في تخاذلهم وعدم تناصرهم، فهو إما خبر مبتدأ محذوف، أو خبر آخر للمبتدأ المقدّر قبل قوله: {كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ} على تقدير حذف حرف العطف، كما تقول: أنت عاقل، أنت عالم، أنت كريم. وقيل: المثل الأوّل خاص باليهود، والثاني خاص بالمنافقين، وقيل: المثل الثاني بيان للمثل الأوّل، ثم بيّن سبحانه وجه الشبه فقال: {إِذْ قَالَ للإنسان اكفر} أي: أغراه بالكفر، وزينه له، وحمله عليه، والمراد بالإنسان هنا: جنس من أطاع الشيطان من نوع الإنسان، وقيل: هو عابد كان في بني إسرائيل حمله الشيطان على الكفر، فأطاعه {فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِئ مّنكَ} أي: فلما كفر الإنسان مطاوعة للشيطان، وقبولاً لتزيينه قال الشيطان: إني برئ منك، وهذا يكون منه يوم القيامة، وجملة: {إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} تعليل لبراءته من الإنسان بعد كفره، وقيل: المراد بالإنسان هنا: أبو جهل، والأوّل أولى. قال مجاهد: المراد بالإنسان هنا: جميع الناس في غرور الشيطان إياهم، قيل: وليس قول الشيطان: {إِنّى أَخَافُ الله} على حقيقته، إنما هو على وجه التبرّي من الإنسان، فهو تأكيد لقوله: {إِنّى بَرِئ مّنكَ} قرأ الجمهور: {إني} بإسكان الياء. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو بفتحها {فَكَانَ عاقبتهما أَنَّهُمَا فِى النار} قرأ الجمهور {عاقبتهما} بالنصب على أنه خبر كان، واسمها {أنهما في النار}. وقرأ الحسن، وعمرو بن عبيد بالرفع على أنها اسم كان، والخبر ما بعده؛ والمعنى: فكان عاقبة الشيطان، وذلك الإنسان الذي كفر أنهما صائران إلى النار {خالدين فِيهَا} قرأ الجمهور: {خالدين} بالنصب على الحال، وقرأ ابن مسعود، والأعمش، وزيد بن عليّ، وابن أبي عبلة: {خالدان} على أنه خبر «أنّ»، والظرف متعلق به {وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين} أي: الخلود في النار جزاء الظالمين، ويدخل هؤلاء فيهم دخولاً أوّلياً. ثم رجع سبحانه إلى خطاب المؤمنين بالموعظة الحسنة فقال: {ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله} أي: اتقوا عقابه بفعل ما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} أي: لتنظر أيّ شيء قدّمت من الأعمال ليوم القيامة، والعرب تكني عن المستقبل بالغد، وقيل: ذكر الغد تنبيهاً على قرب الساعة {واتقوا الله} كرّر الأمر بالتقوى للتأكيد {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} لا تخفى عليه من ذلك خافية، فهو مجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ، {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله} أي: تركوا أمره، أو ما قدّروه حق قدره، أو لم يخافوه، أو جميع ذلك {فأنساهم أَنفُسَهُمْ} أي: جعلهم ناسين لها بسبب نسيانهم له، فلم يشتغلوا بالأعمال التي تنجيهم من العذاب، ولم يكفوا عن المعاصي التي توقعهم فيه، ففي الكلام مضاف محذوف، أي: أنساهم حظوظ أنفسهم. قال سفيان: نسوا حقّ الله، فأنساهم حق أنفسهم، وقيل: نسوا الله في الرخاء، فأنساهم أنفسهم في الشدائد {أُولَئِكَ هُمُ الفاسقون} أي: الكاملون في الخروج عن طاعة الله. {لاَ يَسْتَوِى أصحاب النار وأصحاب الجنة} في الفضل، والرتبة، والمراد الفريقان على العموم، فيدخل في فريق أهل النار من نسي الله منهم دخولاً أوّلياً، ويدخل في فريق أهل الجنة الذين اتقوا دخولاً أوّلياً؛ لأن السياق فيهم، وقد تقدّم الكلام في معنى مثل هذه الآية في سورة المائدة، وفي سورة السجدة، وفي سورة ص. ثم أخبر سبحانه وتعالى عن أصحاب الجنة بعد نفي التساوي بينهم، وبين أهل النار فقال: {أصحاب الجنة هُمُ الفائزون} أي: الظافرون بكلّ مطلوب الناجون من كلّ مكروه. وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نافقوا} قال: عبد الله بن أبيّ بن سلول، ورفاعة بن تابوت، وعبد الله بن نبتل، وأوس بن قيظي، وإخوانهم بنو النضير. وأخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وأبو نعيم في الدلائل عنه أن رهطاً من بني عوف بن الحارث منهم عبد الله بن أبيّ بن سلول، ووديعة بن مالك، وسويد وداعس، بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا، وتمنعوا، فإننا لا نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك من نصرهم، فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم، ويكفّ عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل إلاّ الحلقة، ففعل، فكان الرجل منهم يهدم بيته، فيضعه على ظهر بعير، فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في قوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى} قال: هم المشركون. وأخرج عبد الرزاق، وابن راهويه، وأحمد في الزهد، وعبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن عليّ بن أبي طالب أن رجلاً كان يتعبد في صومعة، وأن امرأة كان لها إخوة، فعرض لها شيء، فأتوه بها فزينت له نفسه فوقع عليها، فحملت، فجاءه الشيطان، فقال: اقتلها، فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت، فقتلها، ودفنها، فجاءوه، فأخذوه، فذهبوا به، فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال: إني أنا الذي زينت لك، فاسجد لي سجدة أنجيك، فسجد له، فذلك قوله: {كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ للإنسان اكفر} الآية. قلت: وهذا لا يدلّ على أن هذا الإنسان هو المقصود بالآية، بل يدلّ على أنه من جملة من تصدق عليه. وقد أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس بأطول من هذا، وليس فيه ما يدلّ على أنه المقصود بالآية. وأخرجه بنحوه ابن جرير عن ابن مسعود. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: {كَمَثَلِ الشيطان} قال: ضرب الله مثل الكفار والمنافقين الذين كانوا على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر}.
{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)} لما فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة وأهل النار، وبيّن عدم استوائهم في شيء من الأشياء ذكر تعظيم كتابه الكريم، وأخبر عن جلالته، وأنه حقيق بأن تخشع له القلوب، وترقّ له الأفئدة، فقال: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ الله} أي: من شأنه، وعظمته، وجودة ألفاظه، وقوّة مبانيه، وبلاغته، واشتماله على المواعظ التي تلين لها القلوب أنه لو أنزل على جبل من الجبال الكائنة في الأرض لرأيته مع كونه في غاية القسوة، وشدّة الصلابة، وضخامة الجرم خاشعاً متصدعاً، أي: متشققاً من خشية الله سبحانه، حذراً من عقابه، وخوفاً من أن لا يؤدي ما يجب عليه من تعظيم كلام الله، وهذا تمثيل وتخييل يقتضي علوّ شأن القرآن وقوّة تأثيره في القلوب، ويدلّ على هذا قوله: {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فيما يجب عليهم التفكر فيه؛ ليتعظوا بالمواعظ، وينزجروا بالزواجر، وفيه توبيخ، وتقريع للكفار حيث لم يخشعوا للقرآن، ولا اتعظوا بمواعظه، ولا انزجروا بزواجره، والخاشع: الذليل المتواضع. وقيل: الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أي: لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت، ولتصدّع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك، وثبتناك له، وقوّيناك عليه، فيكون على هذا من باب الامتنان على النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله سبحانه ثبته لما لا تثبت له الجبال الرواسي. ثم أخبر سبحانه بربوبيته وعظمته، فقال: {هُوَ الله الذى لاَ إله إِلاَّ هُوَ} وفي هذا تقرير للتوحيد ودفع للشرك {عالم الغيب والشهادة} أي: عالم ما غاب من الإحساس وما حضر، وقيل: عالم السرّ والعلانية، وقيل: ما كان وما يكون، وقيل: الآخرة والدنيا، وقدّم الغيب على الشهادة لكونه متقدّماً وجوداً {هُوَ الرحمن الرحيم} قد تقدّم تفسير هذين الاسمين {هُوَ الله الذى لاَ إله إِلاَّ هُوَ} كرره للتأكيد والتقرير لكون التوحيد حقيقاً بذلك {الملك القدوس} أي: الطاهر من كل عيب، المنزّه عن كل نقص، والقدس بالتحريك في لغة أهل الحجاز: السطل؛ لأنه يتطهر به، ومنه القادوس لواحد الأواني التي يستخرج بها الماء. قرأ الجمهور: {القدّوس} بضم القاف. وقرأ أبو ذرّ، وأبو السماك بفتحها، وكان سيبويه يقول: سبوح قدّوس بفتح أوّلهما، وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابياً فصيحاً يقرأ: {القدّوس} بفتح القاف. قال ثعلب: كل اسم على فعول فهو مفتوح الأوّل إلاّ السبوح والقدّوس، فإن الضم فيهما أكثر، وقد يفتحان {السلام} أي: الذي سلم من كل نقص وعيب، وقيل: المسلم على عباده في الجنة، كما قال: {سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} [ياس: 58] وقيل: الذي سلم الخلق من ظلمه، وبه قال الأكثر، وقيل: المسلم لعباده، وهو مصدر وصف به للمبالغة {المؤمن} أي: الذي وهب لعباده الأمن من عذابه، وقيل: المصدّق لرسله بإظهار المعجزات، وقيل: المصدّق للمؤمنين بما وعدهم به من الثواب، والمصدّق للكافرين بما أوعدهم به من العذاب، يقال: أمنه من الأمن وهو ضدّ الخوف، ومنه قول النابغة: والمؤمن العائذات الطير يمسحها *** ركبان مكة بين الغيل والسند وقال مجاهد: المؤمن الذي وحد نفسه بقوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18]. قرأ الجمهور: {المؤمن} بكسر الميم، اسم فاعل من آمن بمعنى: أمن. وقرأ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بفتحها بمعنى: المؤمن به على الحذف كقوله: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] وقال أبو حاتم: لا تجوز هذه القراءة؛ لأن معناه: أنه كان خائفاً فأمنه غيره {المهيمن} أي: الشهيد على عباده بأعمالهم الرقيب عليهم. كذا قال مجاهد، وقتادة، ومقاتل. يقال: هيمن يهيمن فهو مهيمن: إذا كان رقيباً على الشيء. قال الواحدي: وذهب كثير من المفسرين إلى أن أصله مؤيمن من آمن يؤمن، فيكون بمعنى المؤمن، والأوّل أولى، وقد قدّمنا الكلام على المهيمن في سورة المائدة {العزيز} الذي لا يوجد له نظير، وقيل: القاهر، وقيل: الغالب غير المغلوب، وقيل: القويّ {الجبار} جبروت الله: عظمته، والعرب تسمي الملك الجبار، ويجوز أن يكون من جبر: إذا أغنى الفقير وأصلح الكسير، ويجوز أن يكون من جبره على كذا: إذا أكرهه على ما أراد، فهو الذي جبر خلقه على ما أراد منهم، وبه قال السديّ، ومقاتل، واختاره الزجاج، والفراء، قال: هو من أجبره على الأمر، أي: قهره. قال: ولم أسمع فعالاً من أفعل إلاّ في جبار من أجبر، ودرّاك من أدرك، وقيل: الجبار: الذي لا تطاق سطوته {المتكبر} أي: الذي تكبر عن كل نقص، وتعظم عما لا يليق به، وأصل التكبر: الامتناع وعدم الانقياد، ومنه قول حميد بن ثور: عفت مثل ما يعفو الفصيل فأصبحت *** بها كبرياء الصعب وهي ذلول والكبر في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذمّ. قال قتادة: هو الذي تكبر عن كل سوء. قال ابن الأنباري: المتكبر ذو الكبرياء، وهو الملك، ثم نزه سبحانه نفسه عن شرك المشركين، فقال: {سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: عما يشركونه، أو عن إشراكهم به {هُوَ الله الخالق} أي: المقدّر للأشياء على مقتضى إرادته ومشيئته {البارئ} أي: المنشئ المخترع للأشياء الموجد لها. وقيل: المميز لبعضها من بعض {المصور} أي: الموجد للصور المركب لها على هيئات مختلفة، فالتصوير مترتب على الخلق والبراية وتابع لهما، ومعنى التصوير: التخطيط والتشكيل، قال النابغة: الخالق البارئ المصور في ال *** أرحام ماء حتى يصير دما وقرأ حاطب بن أبي بلتعة الصحابي: {المصوّر} بفتح الواو ونصب الراء على أنه مفعول به للبارئ أي: الذي برأ المصوّر، أي: ميزه {لَهُ الأسماء الحسنى} قد تقدّم بيانها، والكلام فيها عند تفسير قوله: {وَللَّهِ الاسماء الحسنى فادعوه بِهَا} [الأعراف 180] {يُسَبّحُ لَهُ مَا فِى السموات والأرض} أي: ينطق بتنزيهه بلسان الحال أو المقال كل ما فيهما {وَهُوَ العزيز الحكيم} أي: الغالب لغيره الذي لا يغالبه مغالب، الحكيم في كل الأمور التي يقضي بها. وقد أخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس، في قوله: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ} قال: يقول: لو إني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه تصدّع، وخشع من ثقله ومن خشية الله، فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع. قال: كذلك يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون. وأخرج الديلمي عن ابن مسعود وعليّ مرفوعاً في قوله: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ} إلى آخر السورة قال: هي رقية الصداع. رواه الديلمي بإسنادين لا ندري كيف حال رجالهما. وأخرج الخطيب في تاريخه بإسناده إلى إدريس بن عبد الكريم الحداد قال: قرأت على خلف، فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك، فإني قرأت على حمزة، فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك، فإني قرأت على الأعمش، ثم ساق الإسناد مسلسلاً هكذا إلى ابن مسعود فقال: فإني قرأت على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت هذه الآية قال لي: «ضع يدك على رأسك، فإن جبريل لما نزل بها قال لي: ضع يدك على رأسك، فإنها شفاء من كلّ داء إلاّ السام»، والسام: الموت. قال الذهبي: هو باطل. وأخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة، وابن مردويه عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً إذا آوى إلى فراشه أن يقرأ آخر سورة الحشر وقال: «إن متّ متّ شهيداً» وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعوّذ بالله من الشيطان ثلاث مرات، ثم قرأ آخر سورة الحشر بعث الله سبعين ملكاً يطردون عنه شياطين الإنس والجنّ إن كان ليلاً حتى يصبح، وإن كان نهاراً حتى يمسي» وأخرج أحمد، والدارمي، والترمذي وحسنه، والطبراني، وابن الضريس، والبيهقي في الشعب عن معقل بن يسار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح ثلاث مرّات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة» قال الترمذي بعد إخراجه: غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه. وأخرج ابن عديّ، وابن مردويه، والخطيب، والبيهقي في الشعب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ خواتيم الحشر في ليل أو نهار، فمات من يومه أو ليلته أوجب الله له الجنة» وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {عالم الغيب والشهادة} قال: السرّ والعلانية. وفي قوله: {المؤمن} قال: المؤمِّن خلقه من أن يظلمهم، وفي قوله: {المهيمن} قال: الشاهد.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)} قال المفسرون: نزلت {ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى مشركي قريش يخبرهم بمسير النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم، وسيأتي ذكر القصة آخر البحث إن شاء الله، وقوله: {عَدُوّى} هو المفعول الأوّل {وَعَدُوَّكُمْ} معطوف عليه، والمفعول الثاني أولياء، وأضاف سبحانه العدوّ إلى نفسه تعظيماً لجرمهم، والعدوُّ مصدر يطلق على الواحد، والاثنين، والجماعة، والآية تدلّ على النهي عن موالاة الكفار بوجه من الوجوه {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} أي: توصلون إليهم المودّة على أن الباء زائدة، أو هي سببية. والمعنى: تلقون إليهم أخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم بسبب المودّة التي بينكم وبينهم. قال الزجاج: تلقون إليهم أخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم وسرّه بالمودّة التي بينكم وبينهم، والجملة في محل نصب على الحال من ضمير تتخذوا؛ ويجوز أن تكون مستأنفة؛ لقصد الإخبار بما تضمنته، أو لتفسير موالاتهم إياهم، ويجوز أن تكون في محل نصب صفة لأولياء، وجملة {وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الحق} في محل نصب على الحال من فاعل تلقون، أو من فاعل لا تتخذوا، ويجوز أن تكون مستأنفة؛ لبيان حال الكفار. قرأ الجمهور: {بما جاءكم} بالباء الموحدة. وقرأ الجحدري، وعاصم في رواية عنه: (لما جاءكم) باللام، أي: لأجل ما جاءكم من الحق على حذف المكفور به، أي: كفروا بالله والرسول لأجل ما جاءكم من الحق، أو على جعل ما هو سبب للإيمان سبباً للكفر توبيخاً لهم {يُخْرِجُونَ الرسول وإياكم} الجملة مستأنفة لبيان كفرهم، أو في محل نصب على الحال، وقوله: {أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبّكُمْ} تعليل للإخراج، أي: يخرجونكم لأجل إيمانكم، أو كراهة أن تؤمنوا {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وابتغاء مَرْضَاتِى} جواب الشرط محذوف، أي: إن كنتم كذلك، فلا تلقوا إليهم بالمودّة، أو إن كنتم كذلك، فلا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء، وانتصاب {جهاداً} {وابتغاء} على العلة، أي: إن كنتم خرجتم لأجل الجهاد في سبيلي؛ ولأجل ابتغاء مرضاتي، وجملة: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} مستأنفة للتقريع والتوبيخ، أي: تسرّون إليهم الأخبار بسبب المودّة، وقيل: هي بدل من قوله: {تُلْقُونَ}. ثم أخبر سبحانه بأنه لا يخفى عليه من أحوالهم شيء، فقال: {وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ} والجملة في محل نصب على الحال، أي: بما أضمرتم وما أظهرتم، والباء في {بما} زائدة، يقال: علمت كذا، وعلمت بكذا، هذا على أن أعلم مضارع، وقيل: هو أفعل تفضيل، أي: أعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل} أي: من يفعل ذلك الاتخاذ لعدوّي وعدوّكم أولياء، ويلقي إليهم بالمودّة، فقد أخطأ طريق الحق والصواب، وضلّ عن قصد السبيل. {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء} أي: إن يلقوكم ويصادفوكم يظهروا لكم ما في قلوبهم من العداوة، ومنه المثاقفة، وهي طلب مصادفة الغرّة في المسابقة، وقيل المعنى: إن يظفروا بكم، ويتمكنوا منكم، والمعنيان متقاربان {وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء} أي: يبسطوا إليكم أيديهم بالضرب ونحوه، وألسنتهم بالشتم ونحوه {وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ} هذا معطوف على جواب الشرط أو على جملة الشرط والجزاء، ورجح هذا أبو حيان، والمعنى: أنهم تمنوا ارتدادهم، وودّوا رجوعهم إلى الكفر. {لَن تَنفَعَكُمْ أرحامكم وَلاَ أولادكم} أي: لا تنفعكم القرابات على عمومها، ولا الأولاد، وخصهم بالذكر مع دخولهم في الأرحام لمزيد المحبة لهم، والحنوّ عليهم، والمعنى: أن هؤلاء لا ينفعونكم حتى توالوا الكفار لأجلهم، كما وقع في قصة حاطب بن أبي بلتعة، بل الذي ينفعكم هو ما أمركم الله به من معاداة الكفار، وترك موالاتهم، وجملة: {يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} مستأنفة لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد في ذلك اليوم ومعنى {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ}: يفرّق بينكم، فيدخل أهل طاعته الجنة، وأهل معصيته النار. وقيل: المراد بالفصل بينهم أنه يفرّ كلّ منهم من الآخر من شدّة الهول، كما في قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ} الآية [عبس: 34] الآية. قيل: ويجوز أن يتعلق يوم القيامة بما قبله، أي: لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة فيوقف عليه. ويبتدأ بقوله: {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} والأولى أن يتعلق بما بعده، كما ذكرنا {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم، فهو مجازيكم على ذلك. قرأ الجمهور: {يفصل} بضم الياء، وتخفيف الفاء، وفتح الصاد مبنياً للمفعول، واختار هذه القراءة أبو عبيدة. وقرأ عاصم بفتح الياء، وكسر الصاد مبنياً للفاعل. وقرأ حمزة، والكسائي بضم الياء، وفتح الفاء، وكسر الصاد مشدّدة. وقرأ علقمة بالنون. وقرأ قتادة، وأبو حيوة بضم الياء، وكسر الصاد مخففة. وقد أخرج البخاريّ، ومسلم، وغيرهما عن عليّ بن أبي طالب قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا، والزبير، والمقداد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها فأتوني به»، فخرجنا حتى أتينا الرّوضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا أخرجي الكتاب، قالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجنّ الكتاب، أو لتلقينَّ الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبيّ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما هذا يا حاطب»؟ قال: لا تعجل عليّ يا رسول الله، إني كنت امرأ ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم، وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً، ولا ارتداداً عن ديني، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «صدق»، فقال عمر: دعني أضرب عنقه. فقال: «إنه شهد بدراً، وما يدريك لعلّ الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم» ونزلت {ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة}. وفي الباب أحاديث مسندة ومرسلة متضمنة لبيان هذه القصة، وأن هذه الآيات إلى قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إبراهيم} نازلة في ذلك.
|