الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***
{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} لما ذكر سبحانه في هذه السورة الإحسان إلى النساء، وإيصال صدقاتهنّ إليهنّ، وميراثهنّ مع الرجال، ذكر التغليظ عليهنّ فيما يأتين به من الفاحشة لئلا يتوهمن أنه يسوغ لهنّ ترك التعفف {واللاتى} جمع التي بحسب المعنى دون اللفظ، وفيه لغات: اللاتي بإثبات التاء، والياء، واللات بحذف الياء، وإبقاء الكسرة لتدل عليها، واللائي بالهمزة والياء، واللاء بكسر الهمزة، وحذف الياء، ويقال في جمع الجمع اللواتي، واللوائي، واللوات، واللواء. والفاحشة: الفعلة القبيحة، وهي مصدر كالعافية، والعاقبة، وقرأ ابن مسعود: «بالفاحشة». والمراد بها هنا: الزنا خاصة، وإتيانها فعلها، ومباشرتها. والمراد بقوله: {مّن نِّسَائِكُمُ} المسلمات، وكذا {مّنكُمْ} المراد به المسلمون. قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى البيوت} كان هذا في أول الإسلام، ثم نسخ بقوله تعالى: {الزانية والزانى فاجلدوا} [النور: 2] وذهب بعض أهل العلم إلى أن الحبس المذكور، وكذلك الأذى باقيان مع الجلد، لأنه لا تعارض بينها بل الجمع ممكن. قوله: {أو يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} هو ما في حديث عبادة الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» الحديث. قوله: {واللذان يأتيانها مِنكُمْ} اللذان تثنية الذي، وكان القياس أن يقال اللذيان كرحيان. قال سيبويه: حذفت الياء ليفرق بين الأسماء الممكنة، وبين الأسماء المبهمة. وقال أبو علي: حذفت الياء تخفيفاً. وقرأ ابن كثير: «اللذان» بتشديد النون، وهي لغة قريش، وفيه لغة أخرى، وهي: «اللذا» بحذف النون. وقرأ الباقون بتخفيف النون. قال سيبويه: المعنى، وفيما يتلى عليكم اللذان يأتيانها: أي: الفاحشة منكم ودخلت الفاء في الجواب، لأن في الكلام معنى الشرط. والمراد باللذان هنا: الزاني، والزانية تغليباً، وقيل: الآية الأولى في النساء خاصة محصنات وغير محصنات، والثانية في الرجال خاصة، وجاء بلفظ التثنية لبيان صنفي الرجال من أحصن، ومن لم يحصن، فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال الأذى، واختار هذا النحاس، ورواه عن ابن عباس، ورواه القرطبي، عن مجاهد، وغيره، واستحسنه. وقال السدي، وقتادة، وغيرهما الآية الأولى في النساء المحصنات، ويدخل معهنّ الرجال المحصنون، والآية الثانية في الرجل والمرأة البكرين، ورجحه الطبري، وضعفه النحاس وقال: تغليب المؤنث على المذكر بعيد. وقال ابن عطية: إن معنى هذا القول تام إلا أن لفظ الآية يقلق عنه وقيل: كان الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل، فخصت المرأة بالذكر في الإمساك، ثم جمعاً في الإيذاء، قال قتادة: كانت المرأة تحبس ويؤذيان جميعاً. واختلف المفسرون في تفسير الأذى، فقيل التوبيخ، والتعيير، وقيل: السبّ، والجفاء من دون تعيير، وقيل: النيل باللسان، والضرب بالنعال، وقد ذهب قوم إلى أن الأذى منسوخ كالحبس. وقيل: ليس بمنسوخ كما تقدّم في الحبس. قوله: {فَإِن تَابَا} أي: من الفاحشة {وَأَصْلَحَا} العمل فيما بعد {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} أي: اتركوهما وكفوا عنهما الأذى وهذا كان قبل نزول الحدود على ما تقدّم من الخلاف. قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} استئناف لبيان أن التوبة ليست بمقبولة على الاطلاق، كما ينبئ عنه قوله: {تَوَّاباً رَّحِيماً} بل إنما تقبل من البعض دون البعض، كما بينه النظم القرآني ها هنا، فقوله: {إِنَّمَا التوبة} مبتدأ خبره قوله: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء بجهالة}. وقوله: {عَلَى الله} متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، أو متعلق بمحذوف وقع حالاً عند من يجوز تقديم الحال التي هي ظرف على عاملها المعنوي. وقيل: المعنى: إنما التوبة على فضل الله ورحمته بعباده. وقيل: المعنى: إنما التوبة واجبة على الله، وهذا على مذهب المعتزلة؛ لأنهم يوجبون على الله عز وجل واجبات من جملتها قبول توبة التائبين. وقيل: على هنا بمعنى عند، وقيل: بمعنى من. وقد اتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين لقوله تعالى: {وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون} [النور: 31] وذهب الجمهور إلى أنها تصح من ذنب دون ذنب خلافاً للمعتزلة، وقيل: إن قوله: {عَلَى الله} هو الخبر. وقوله: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ} متعلق بما تعلق به الخبر، أو بمحذوف وقع حالاً. والسوء هنا: العمل السيئ. وقوله: {بِجَهَالَةٍ} متعلق بمحذوف وقع صفة أو حالاً، أي: يعملونها متصفين بالجهالة، أو جاهلين. وقد حكى القرطبي، عن قتادة أنه قال: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية، فهي بجهالة عمداً كانت أو جهلاً. وحكى عن الضحاك، ومجاهد أن الجهالة هنا: العمد، وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36] وقال الزجاج: معناه بجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية. وقيل معناه: أنهم لا يعلمون كنه العقوبة، ذكره ابن فورك، وضعفه ابن عطية. قوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} معناه قبل أن يحضرهم الموت، كما يدل عليه قوله: {حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت} وبه قال أبو مجلز، والضحاك، وعكرمة، وغيرهم، والمراد قيل: المعاينة للملائكة، وغلبة المرء على نفسه، و«من» في قوله: {مِن قَرِيبٍ} للتبعيض، أي: يتوبون بعض زمان قريب، وهو ما عدا وقت حضور الموت. وقيل معناه: قبل المرض، وهو ضعيف، بل باطل لما قدمنا، ولما أخرجه أحمد، والترمذي، وحسنه، وابن ماجه، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " وقيل معناه: يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار. قوله: {فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ} هو وعد منه سبحانه بأنه يتوب عليهم بعد بيانه أن التوبة لهم مقصورة عليهم. وقوله: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} تصريح بما فهم من حصر التوبة فيما سبق على من عمل السوء بجهالة، ثم تاب من قريب. قوله: {حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت} «حتى» حرف ابتداء، والجملة المذكورة بعدها غاية لما قبلها، وحضور الموت حضور علاماته، وبلوغ المريض إلى حالة السياق، ومصيره مغلوباً على نفسه مشغولاً بخروجها من بدنه، وهو وقت الغرغرة المذكورة في الحديث السابق، وهي بلوغ روحه حلقومه، قاله الهروي. وقوله: {قَالَ إِنّى تُبْتُ الآن} أي: وقت حضور الموت. قوله: {وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} معطوف على الموصول في قوله: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} أي: ليست التوبة لأولئك، ولا للذين يموتون، وهم كفار مع أنه لا توبة لهم رأساً، وإنما ذكروا مبالغة في بيان عدم قبول توبة من حضرهم الموت، وأن وجودها كعدمها. وقد أخرج البزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، عن ابن عباس في قوله: {واللاتى يَأْتِينَ الفاحشة} قال: كانت المرأة إذا فجرت حبست في البيوت، فإن ماتت ماتت، وإن عاشت عاشت، حتى نزلت الآية في سورة النور: {الزانية والزانى فاجلدوا} [النور: 2] فجعل الله لهنّ سبيلاً. فمن عمل شيئاً جلد وأرسل، وقد روى هذا عنه من وجوه، وأخرج أبو داود في سننه عنه، والبيهقي في قوله: {واللاتى يَأْتِينَ الفاحشة مِن نّسَائِكُمْ} إلى قوله: {سَبِيلاً} ثم جمعهما جميعاً، فقال: {واللذان يأتيانها مِنكُمْ فَئَاذُوهُمَا} ثم نسخ ذلك بآية الجلد، وقد قال بالنسخ جماعة من التابعين، أخرجه أبو داود، والبيهقي، عن مجاهد، وأخرجه عبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة. وأخرجه البيهقي في سننه، عن الحسن. وأخرجه ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير. وأخرجه ابن جرير عن السدي. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس في قوله: {واللذان يأتيانها مِنكُمْ} قال: كان الرجل إذا زنا أوذي بالتعيير، وضرب بالنعال، فأنزل الله بعد هذه الآية: {الزانية والزانى فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فإن كانا محصنين رجما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد: {واللذان يأتيانها مِنكُمْ} قال: الرجلان الفاعلان. وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير: {واللذان يأتيانها مِنكُمْ} يعني البكرين. وأخرج ابن جرير، عن عطاء قال: الرجل، والمرأة. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} الآية قال: هذه للمؤمنين وفي قوله: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} قال: هذه لأهل النفاق {وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} قال: هذه لأهل الشرك. وأخرج ابن جرير، عن الربيع مثله. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة قال: اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصى به، فهو جهالة عمداً كان أو غيره. وأخرج عبد ابن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن أبي العالية أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد، فهو جهالة. وأخرج ابن جرير من طريق الكلبي، عن أبي عن صالح، عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} الآية، قال: من عمل السوء، فهو جاهل من جهالته عمل السوء {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} قال: في الحياة، والصحة. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه قال: القريب ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي في الشعب، عن الضحاك قال: كل شيء قبل الموت، فهو قريب له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت، فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت، فليس له ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن قال: القريب: ما لم يغرغر. وقد وردت أحاديث كثيرة في قبول توبة العبد ما لم يغرغر، ذكرها ابن كثير في تفسيره، ومنها الحديث الذي قدّمنا ذكره.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)} هذا متصل بما تقدم من ذكر الزوجات، والمقصود نفي الظلم عنهنّ، والخطاب للأولياء، ومعنى الآية يتضح بمعرفة سبب نزولها، وهو ما أخرجه البخاري، وغيره، عن ابن عباس في قوله: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت. وفي لفظ لأبي داود عنه في هذه الآية: كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته، فيعضلها حتى يموت، أو تردّ إليه صداقها. وفي لفظ لابن جرير، وابن أبي حاتم عنه: فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت، فيرثها. وقد روي هذا السبب بألفاظ، فمعنى قوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} أي: لا يحل لكم أن تأخذوهن بطريق الإرث، فتزعمون أنكم أحق بهن من غيركم، وتحبسونهن لأنفسكم {وَلاَ} يحل لكم أن {تَعْضُلُوهُنَّ} عن أن يتزوجن غيركم لتأخذوا ميراثهن إذا متن، أو ليدفعن إليكم صداقهن إذا أذنتم لهن بالنكاح. قال الزهري، وأبو مجلز: كان من عاداتهم إذا مات الرجل، وله زوجة ألقى ابنه من غيرها، أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة، فيصير أحق بها من نفسها، ومن أوليائها، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من غيره، وأخذ صداقها، ولم يعطها شيئاً، وإن شاء عضلها لتفتدي منه بما ورثت من الميت، أو تموت، فيرثها، فنزلت الآية. وقيل: الخطاب لأزواج النساء إذا حبسوهنّ مع سوء العشرة طمعاً في إرثهنّ، أو يفتدين ببعض مهورهنّ، واختاره ابن عطية. قال: ودليل ذلك قوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} إذا أتت بفاحشة، فليس للوليّ حبسها حتى تذهب بمالها إجماعاً من الأمة، وإنما ذلك للزوج. قال الحسن: إذا زنت البكر، فإنها تجلد مائة وتنفى، وتردّ إلى زوجها ما أخذت منه. وقال أبو قلابة: إذا زنت امرأة الرجل، فلا بأس أن يضارّها، ويشقّ عليها حتى تفتدى منه. وقال السدي: إذا فعلن ذلك، فخذوا مهورهنّ. وقال قوم: الفاحشة البذاءة باللسان، وسوء العشرة قولاً وفعلاً. وقال مالك، وجماعة من أهل العلم: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك. هذا كله على أن الخطاب في قوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} للأزواج، وقد عرفت مما قدمنا في سبب النزول أن الخطاب في قوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} لمن خوطب بقوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} فيكون المعنى: ولا يحلّ لكم أن تمنعوهنّ من الزواج: {لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ} أي: ما آتاهنّ من ترثونه: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} جاز لكم حبسهنّ عن الأزواج، ولا يخفى ما في هذا من التعسف مع عدم جواز حبس من أتت بفاحشة عن أن تتزوج، وتستعفّ من الزنا، وكما أن جعل قوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} خطاباً للأولياء فيه هذا التعسف، كذلك جعل قوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} خطاباً للأزواج فيه تعسف ظاهر مع مخالفته لسبب نزول الآية الذي ذكرناه، والأولى أن يقال إن الخطاب في قوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ} للمسلمين، أي: لا يحل لكم معاشر المسلمين أن ترثوا النساء كرهاً، كما كانت تفعله الجاهلية، ولا يحلّ لكم معاشر المسلمين أن تعضلوا أزواجكم، أي: تحبسوهن عندكم مع عدم رغوبكم فيهنّ، بل لقصد أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ من المهر يفتدين به من الحبس، والبقاء تحتكم، وفي عقدتكم مع كراهتكم لهنّ: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} جاز لكم مخالعتهنّ ببعض ما آتيتموهنّ. قوله: {مُّبَيّنَةٍ} قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص، وحمزة، والكسائي بكسر الياء. وقرأ الباقون بفتحها. وقرأ ابن عباس: «مُّبِيْنَةٍ» بكسر الباء، وسكون الياء من أبان الشيء، فهو مبين. قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} أي: بما هو معروف في هذه الشريعة، وبين أهلها من حسن المعاشرة، وهو خطاب للأزواج، أو لما هو أعم، وذلك يختلف باختلاف الأزواج في الغنى، والفقر، والرفاعة، والوضاعة: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} لسبب من الأسباب من غير ارتكاب فاحشة، ولا نشوز {فَعَسَى} أن يؤول الأمر إلى ما تحبونه من ذهاب الكراهة، وتبدلها بالمحبة، فيكون في ذلك خير كثير من استدامة الصحبة، وحصول الأولاد، فيكون الجزاء على هذا محذوفاً مدلولاً عليه بعلته، أي: فإن كرهتموهنّ، فاصبروا: {فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}. قوله: {وآتيتم إحداهن قنطاراً} قد تقدم بيانه في آل عمران، والمراد به هنا: المال الكثير، فلا تأخذوا منه شيئاً. قيل: هي محكمة، وقيل: هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة: {ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألاَّ يقيما حدود الله} [البقرة: 229] والأولى أن الكل محكم، والمراد هنا: غير المختلعة لا يحل لزوجها أن يأخذ مما آتاها شيئاً. قوله: {أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً} الاستفهام للإنكار والتقريع. والجملة مقررة للجملة الأولى المشتملة على النهي. وقوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} إنكار بعد إنكار مشتمل على العلة التي تقتضي منع الأخذ، وهي: الإفضاء. قال الهروي: وهو إذا كانا في لحاف واحد، جامع، أو لم يجامع، وقال الفراء: الإفضاء، أن يخلو الرجل والمرأة، وإن لم يجامعها. وقال ابن عباس، ومجاهد، والسدي: الإفضاء في هذه الآية: الجماع وأصل الإفضاء في اللغة: المخالطة، يقال للشيء المختلط فضاً، ويقال القوم فوضى وفضاً، أي: مختلطون لا أمير عليهم. قوله: {وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً} معطوف على الجملة التي قبله، أي: والحال أن قد أفضى بعضكم إلى بعض، وقد أخذن منكم ميثاقاً غليظاً، وهو عقد النكاح، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله» وقيل: هو قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} [البقرة: 229] وقيل: هو الأولاد. قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نكح ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء} نهى عما كانت عليه الجاهلية من نكاح نساء آبائهم إذا ماتوا، وهو شروع في بيان من يحرم نكاحه من النساء ومن لا يحرم. ثم بين سبحانه وجه النهي عنه، فقال: {إِنَّهُ كَانَ فاحشة وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً} هذه الصفات الثلاث تدل على أنه من أشدّ المحرمات وأقبحها، وقد كانت الجاهلية تسميه نكاح المقت. قال ثعلب: سألت ابن الأعرابي، عن نكاح المقت، فقال: هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها، أو مات عنها، ويقال لهذا الضيزن، وأصل المقت البغض، من مقته يمقته مقتاً، فهو ممقوت، ومقيت. قوله: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} هو استثناء منقطع أي: لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه، وقيل: إلا بمعنى بعد، أي: بعد ما سلف. وقيل: المعنى: ولا ما سلف، وقيل: هو استثناء متصل من قوله: {مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ} يفيد المبالغة في التحريم بإخراج الكلام مخرج التعلق بالمحال، يعني: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف، فانكحوا، فلا يحلّ لكم غيره. قوله: {وَسَاء سَبِيلاً} هي جارية مجرى بئس في الذم، والعمل، والمخصوص بالذم محذوف، أي: ساء سبيلاً سبيل ذلك النكاح. وقيل: إنها جارية مجرى سائر الأفعال، وفيها ضمير يعود إلى ما قبلها. وقد أخرج النسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وقد كان لهم ذلك في الجاهلية، فأنزل الله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً}. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في كبيشة بنت معمر بن معن بن عاصم من الأوس كانت عند أبي قيس بن الأسلت، فتوفي عنها، فجنح عليها ابنه، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تركت، فأنكح، فنزلت هذه الآية. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن عبد الرحمن بن البيلماني في قوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} قال: نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية، والأخرى في أمر الإسلام. قال ابن المبارك: {أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} في الجاهلية، {ولا تعضلوهنّ} في الإسلام. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي مالك في قوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} قال: لا تضر بامرأتك لتفتدي منك. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} يعني: أن ينكحن أزواجهن كالعضل في سورة البقرة. وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد قال: كان العضل في قريش بمكة: ينكح الرجل المرأة الشريفة، فلعلها لا توافقه، فيفارقها على ألا تتزوج إلا بإذنه، فيأتي بالشهود، فيكتب ذلك عليها، ويشهد، فإذا خطبها خاطب، فإن أعطته، وأرضته أذن لها، وإلا عضلها، وقد قدمنا عن ابن عباس في بيان السبب ما عرفت. وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} قال: البغض، والنشوز، فإذا فعلت ذلك، فقد حل له منها الفدية. وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير، عن الضحاك نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير، عن الحسن قال الفاحشة هنا: الزنا. وأخرج ابن جرير، عن أبي قلابة، وابن سيرين نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي، في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} قال: خالطوهنّ. قال ابن جرير: صحفه بعض الرواة، وإنما هو: خالقوهنّ. وأخرج ابن المنذر، عن عكرمة قال: حقها عليك الصحبة الحسنة، والكسوة، والرزق المعروف. وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} يعني: صحبتهن بالمعروف {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً} فيطلقها، فتتزوج من بعده رجلاً، فيجعل الله له منها ولداً، ويجعل الله في تزويجها خيراً كثيراً. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: الخير الكثير أن يعطف عليها، فترزق ولدها، ويجعل الله في ولدها خيراً كثيراً. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي نحوه. وأخرج عبد بن حميد، عن الحسن نحو ما قال مقاتل. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ} الآية، قال: إن كرهت امرأتك، وأعجبك غيرها، فطلقت هذه، وتزوجت تلك، فأعط هذه مهرها، وإن كان قنطاراً. وأخرج سعيد بن منصور، وأبو يعلى. قال السيوطي بسند جيد: أن عمر نهى الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فاعترضت له امرأة من قريش فقالت: أما سمعت ما أنزل الله يقول: {وآتيتم إحداهن قنطاراً} فقال: اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر، فركب المنبر، فقال: يا أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهنّ على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحبّ. قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه، فليفعل. قال ابن كثير: إسناده جيد قويّ، وقد رويت هذه القصة بألفاظ مختلفة، هذا أحدها. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: الإفضاء هو الجماع، ولكن الله يكني. وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: {وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً} قال: الغليظ: إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة نحوه، وقال: وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح: آلله عليك لتمسكنّ بمعروف، أو لتسرحنّ بإحسان. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن ابن أبي مليكة أن ابن عمر: كان إذا نكح قال: أنكحتك على ما أمر الله به، إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. وأخرج ابن أبي شيبة، عن أنس بن مالك نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة، عن عكرمة، ومجاهد في قوله: {وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً} قال: أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: هو قول الرجل ملكت. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: كلمة النكاح التي تستحلّ بها فروجهن. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في سننه في قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء} أنها نزلت لما أراد ابن أبي قيس بن الأسلت أن يتزوج امرأة أبيه بعد موته. وأخرج ابن المنذر، عن الضحاك: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} إلا ما كان في الجاهلية. وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وأحمد، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن البراء قال: لقيت خالي، ومعه الراية قلت: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده، فأمرني أن أضرب عنقه، وآخذ ماله.
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} أي: نكاحهنّ، وقد بين الله سبحانه في هذه الآية ما يحلّ، وما يحرم من النساء، فحرّم سبعاً من النسب، وستاً من الرضاع، والصهر، وألحقت السنة المتواترة تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، ووقع عليه الإجماع. فالسبع المحرمات من النسب الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت. والمحرمات بالصهر، والرضاع: الأمهات من الرضاعة، والأخوات من الرضاعة، وأمهات النساء، والربائب، وحلائل الأبناء، والجمع بين الأختين، فهؤلاء ست، والسابعة منكوحات الآباء، والثامنة الجمع بين المرأة وعمتها. قال الطحاوي: وكل هذا من المحكم المتفق عليه، وغير جائز نكاح واحدة منهنّ بالإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهنّ أزواجهنّ، فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة، ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم. وقال بعض السلف: الأم، والربيبة سواء لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى. قالوا: ومعنى قوله: {وأمهات نِسَائِكُمْ} أي: اللاتي دخلتم بهن، وزعموا أن قيد الدخول راجع إلى الأمهات، والربائب جميعاً، رواه خلاس عن عليّ بن أبي طالب. وروى عن ابن عباس، وجابر، وزيد بن ثابت، وابن الزبير، ومجاهد، قال القرطبي: ورواية خلاس عن عليّ لا تقوم بها حجة، ولا تصح روايته عند أهل الحديث، والصحيح عنه مثل قول الجماعة. وقد أجيب عن قولهم إن قيد الدخول راجع إلى الأمهات، والربائب بأن ذلك لا يجوز من جهة الإعراب، وبيانه أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحداً، فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك، وهويت نساء زيد الظريفات، على أن يكون الظريفات نعتاً للجميع، فكذلك في الآية لا يجوز أن يكون اللاتي دخلتم بهنّ نعتاً لهما جميعاً؛ لأن الخبرين مختلفان. قال ابن المنذر: والصحيح قول الجمهور لدخول جميع أمهات النساء في قوله: {وأمهات نِسَائِكُمْ}. ومما يدل على ما ذهب إليه الجمهور ما أخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في سننه من طريقين عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جدّه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نكح الرجل المرأة، فلا يحلّ له أن يتزوج أمها دخل بالإبنة أو لم يدخل، وإذا تزوج الأم، فلم يدخل بها، ثم طلقها، فإن شاء تزوج الإبنة» قال ابن كثير في تفسيره مستدلاً للجمهور: وقد روي في ذلك خبر غير أن في إسناده نظراً، فذكر هذا الحديث، ثم قال، وهذا الخبر، وإن كان في إسناده ما فيه، فإن إجماع الحجة على صحة القول به يغني عن الاستشهاد على صحته بغيره، قال في الكشاف: وقد اتفقوا على أن تحريم أمهات النساء مبهم دون تحريم الربائب على ما عليه ظاهر كلام الله تعالى. انتهى. ودعوى الإجماع مدفوعة بخلاف من تقدم. واعلم أنه يدخل في لفظ الأمهات أمهاتهنّ، وجداتهنّ، وأمّ الأب، وجدّاته، وإن علون؛ لأن كلهن أمهات لمن ولده من ولدته، وإن سفل. ويدخل في لفظ البنات بنات الأولاد، وإن سفلن، والأخوات تصدق على الأخت لأبوين، أو لأحدهما، والعمة اسم لكل أنثى شاركت أباك، أو جدّك في أصليه، أو أحدهما. وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أب الأمّ. والخالة اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما، وقد تكون الخالة من جهة الأب، وهي أخت أم أبيك، وبنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة ومباشرة وإن بعدت، وكذلك بنت الأخت. قوله {وأمهاتكم الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ} هذا مطلق مقيد بما ورد في السنة من كون الرضاع في الحولين إلا في مثل قصة إرضاع سالم مولى أبي حذيفة، وظاهر النظم القرآني أنه يثبت حكم الرضاع بما يصدق عليه مسمى الرضاع لغة وشرعاً، ولكنه قد ورد تقييده بخمس رضعات في أحاديث صحيحة، والبحث عن تقرير ذلك، وتحقيقه يطول، وقد استوفيناه في مصنفاتنا، وقررنا ما هو الحق في كثير من مباحث الرضاع. قوله: {وأخواتكم مّنَ الرضاعة} الأخت من الرضاع هي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك سواء أرضعتها معك، أو مع من قبلك، أو بعدك من الإخوة والأخوات، والأخت من الأم هي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر. قوله: {وأمهات نِسَائِكُمْ} قد تقدم الكلام على اعتبار الدخول، وعدمه. والمحرمات بالمصاهرة أربع: أمّ المرأة، وابنتها، وزوجة الأب، وزوجة الابن. قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ} الربيبة بنت امرأة الرجل من غيره؛ سميت بذلك؛ لأنه يربيها في حجره، فهي: مربوبة فعيلة بمعنى مفعولة. قال القرطبي: واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم، وإن لم تكن الربيبة في حجره، وشذّ بعض المتقدمين، وأهل الظاهر، فقالوا: لا تحرم الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج، فلو كانت في بلد آخر، وفارق الأم، فله أن يتزوج بها؛ وقد روي ذلك عن عليّ. قال ابن المنذر، والطحاوي: لم يثبت ذلك عن عليّ؛ لأن راويه إبراهيم بن عبيد، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عليّ، وإبراهيم هذا لا يعرف. وقال ابن كثير في تفسيره بعد إخراج هذا عن علي: وهذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم. والحجور جمع حجر. والمراد: أنهنّ في حضانة أمهاتهنّ تحت حماية أزواجهن، كما هو الغالب. وقيل المراد بالحجور: البيوت، أي: في بيوتكم، حكاه الأثرم عن أبي عبيدة. قوله: {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي: في نكاح الربائب، وهو: تصريح بما دلّ عليه مفهوم ما قبله. وقد اختلف أهل العلم في معنى الدخول الموجب لتحريم الربائب: فروي عن ابن عباس أنه قال: الدخول الجماع، وهو قول طاوس، وعمرو بن دينار، وغيرهما. وقال مالك، والثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والليث، والزيدية: إن الزوج إذا لمس الأمّ لشهوة حرّمت عليه ابنتها، وهو أحد قولي الشافعي. قال ابن جرير الطبري: وفي إجماع الجميع أن خلوة الرجل بامرأته لا تحرّم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها، ومباشرتها، وقبل النظر إلى فرجها بالشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع. انتهى. وهكذا حكى الاجماع القرطبي، فقال: وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها، أو ماتت قبل أن يدخل بها حلّ له نكاح ابنتها. واختلفوا في النظر، فقال مالك: إذا نظر إلى شعرها، أو صدرها، أو شيء من محاسنها للذة حرمت عليه أمها، وابنتها. وقال الكوفيون: إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة، وكذا قال الثوري، ولم يذكر الشهوة. وقال ابن أبي ليلى: لا تحرم بالنظر حتى يلمس، وهو قول الشافعي. والذي ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الخلاف هو: النظر في معنى الدخول شرعاً أو لغة، فإن كان خاصاً بالجماع، فلا وجه لإلحاق غيره به من لمس، أو نظر، أو غيرهما، وإن كان معناه أوسع من الجماع بحيث يصدق على ما حصل فيه نوع استمتاع كان مناط التحريم هو ذلك. وأما الربيبة في ملك اليمين، فقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كره ذلك. وقال ابن عباس: أحلتهما آية، وحرمتهما آية، ولم أكن لأفعله. وقال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة، وابنتها من ملك اليمين؛ لأن الله حرّم ذلك في النكاح قال: {وأمهات نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِى حُجُورِكُمْ مّن نِّسَائِكُمُ} وملك اليمين عندهم تبع للنكاح إلا ما روي عن عمر، وابن عباس، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى، ولا من تبعهم. انتهى. قوله: {وحلائل أَبْنَائِكُمُ} الحلائل: جمع حليلة، وهي الزوجة، سميت بذلك؛ لأنها تحلّ مع الزوج حيث حلّ، فهي فعيلة بمعنى فاعلة. وذهب الزجاج، وقوم إلى أنها من لفظة الحلال، فهي حليلة بمعنى محللة. وقيل: لأن كل واحد منهما يحلّ إزار صاحبه. وقد أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء، وما عقد عليه الأبناء على الآباء سواء كان مع العقد وطء، أو لم يكن، لقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء} وقوله: {وحلائل أَبْنَائِكُمُ}. واختلف الفقهاء في العقد إذا كان فاسداً هل يقتضي التحريم أم لا؟ كما هو مبين في كتب الفروع. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم من علماء الأمصار أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه، وابنه، وعلى أجداده. وأجمع العلماء: على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرّمها على أبيه وابنه، فإذا اشترى جارية فلمس، أو قبل حرمت على أبيه، وابنه لا أعلمهم يختلفون فيه، فوجب تحريم ذلك تسليماً لهم. ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم قال: ولا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلناه. قوله: {الذين مِنْ أصلابكم} وصف للأبناء، أي: دون من تبنيتم من أولاد غيركم، كما كانوا يفعلونه في الجاهلية، ومنه قوله تعالى {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زوجناكها لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً} [الأحزاب: 37] ومنه قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ} [الأحزاب: 4] ومنه: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] وأما زوجة الابن من الرضاع، فقد ذهب الجمهور إلى أنها تحرم على أبيه، وقد قيل: إنه إجماع مع أن الابن من الرضاع ليس من أولاد الصلب. ووجهه ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " ولا خلاف أن أولاد الأولاد، وإن سفلوا بمنزلة أولاد الصلب في تحريم نكاح نسائهم على آبائهم. وقد اختلف أهل العلم في وطء الزنا هل يقتضي التحريم أم لا؟ فقال أكثر أهل العلم: إذا أصاب رجل امرأة بزنا لم يحرم عليه نكاحها بذلك، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنا بأمها، أو بابنتها، وحسبه أن يقام عليه الحدّ، وكذلك يجوز له عندهم أن يتزوّج بأم من زنى بها، وبابنتها. وقالت طائفة من أهل العلم: إن الزنا يقتضي التحريم. حكي ذلك عن عمران بن حصين، والشعبي، وعطاء، والحسن، وسفيان الثوري، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وحكي ذلك عن مالك، والصحيح عنه كقول الجمهور. احتج الجمهور بقوله تعالى: {وأمهات نِسَائِكُمْ} وبقوله: {وحلائل أَبْنَائِكُمُ} والموطوءة بالزنا لا يصدق عليها أنها من نسائهم، ولا من حلائل أبنائهم. وقد أخرج الدارقطني عن عائشة قالت: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة، فأراد أن يتزوّجها، أو ابنتها، فقال: " لا يحرّم الحرام الحلال " واحتج المحرّمون بما روي في قصة جريج الثابتة في الصحيح أنه قال: يا غلام من أبوك؟ فقال: فلان الراعي، فنسب الابن نفسه إلى أبيه من الزنا، وهذا احتجاج ساقط، واحتجوا أيضاً بقوله: " لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة، وابنتها " ولم يفصل بين الحلال والحرام. ويجاب عنه بأن هذا مطلق مقيد بما ورد من الأدلة الدالة على أن الحرام لا يحرّم الحلال. واختلفوا في اللواط هل يقتضي التحريم أم لا؟ فقال الثوري: إذا لاط بالصبيّ حرمت عليه أمه، وهو: قول أحمد بن حنبل قال: إذا تلوّط بابن امرأته، أو أبيها، أو أخيها حرمت عليه امرأته. وقال الأوزاعي: إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها؛ لأنها بنت من قد دخل به. ولا يخفى ما في قول هؤلاء من الضعف، والسقوط النازل، عن قول القائلين بأن وطء الحرام يقتضي التحريم بدرجات لعدم صلاحية ما تمسك به أولئك من الشبه على ما زعمه هؤلاء من اقتضاء اللواط للتحريم. قوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين} أي: وحرّم عليكم أن تجمعوا بين الأختين، فهو في محل رفع عطفاً على المحرمات السابقة، وهو يشمل الجمع بينهما بالنكاح، والوطء بملك اليمين. وقيل: إن الآية خاصة بالجمع في النكاح لا في ملك اليمين، وأما في الوطء بالملك، فلا حق بالنكاح، وقد أجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد نكاح. واختلفوا في الأختين بملك اليمين، فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما في الوطء بالملك، وأجمعوا على أنه يجوز الجمع بينهما في الملك فقط. وقد توقف بعض السلف في الجمع بين الأختين في الوطء بالملك، وسيأتي بيان ذلك. واختلفوا في جواز عقد النكاح على أخت الجارية التي توطأ بالملك. فقال الأوزاعي: إذا وطئ جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوّج أختها. وقال الشافعي: ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت. وقد ذهبت الظاهرية إلى جواز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء، كما يجوز الجمع بينهما في الملك. قال ابن عبد البرّ بعد أن ذكر ما روي عن عثمان بن عفان من جواز الجمع بين الأختين في الوطء بالملك: وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عباس، ولكنه اختلف عليهم، ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز، ولا بالعراق، ولا ما وراءها من المشرق، ولا بالشام، ولا المغرب إلا من شذّ، عن جماعتهم باتباع الظاهر، ونفي القياس. وقد ترك من تعمد ذلك. وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحلّ الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء، كما لا يحلّ ذلك في النكاح. وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم} إلى آخر الآية، أن النكاح بملك اليمين في هؤلاء كلهنّ سواء. فكذلك يجب أن يكون قياساً ونظراً الجمع بين الأختين، وأمهات النساء، والربائب، وكذا هو عند جمهورهم، وهي: الحجة المحجوج بها من خالفها، وشذ عنها، والله المحمود. انتهى. وأقول: ها هنا إشكال، وهو أنه قد تقرّر أن النكاح يقال على العقد فقط، وعلى الوطء فقد، والخلاف في كون أحدهما حقيقة والآخر مجازاً، أو كونهما حقيقتين معروف، فإن حملنا هذا التحريم المذكور في هذه الآية، وهي قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} إلى آخرها، على أن المراد تحريم العقد عليهنّ لم يكن في قوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين} دلالة على تحريم الجمع بين المملوكتين في الوطء بالملك، وما وقع من إجماع المسلمين على أن قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم} إلى آخره، يستوي فيه الحرائر والإماء والعقد، والملك لا يستلزم أن يكون محل الخلاف، وهو الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين مثل محل الإجماع، ومجرد القياس في مثل هذا الموطن لا تقوم به الحجة لما يرد عليه من النقوض، وإن حملنا التحريم المذكور في الآية على الوطء فقط لم يصح ذلك للإجماع على تحريم عقد النكاح على جميع المذكورات من أوّل الآية إلى آخرها، فلم يبق إلا حمل التحريم في الآية على تحريم عقد النكاح، فيحتاج القائل بتحريم الجمع بين الأختين في الوطء بالملك إلى دليل، ولا ينفعه أن ذلك قول الجمهور، فالحق لا يعرف بالرجال، فإن جاء به خالصاً عن شوب الكدر فبها ونعمت، وإلا كان الأصل الحل، ولا يصح حمل النكاح في الآية على معنييه جميعاً أعني العقد والوطء؛ لأنه من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو ممنوع، أو من باب الجمع بين معنى المشترك، وفيه الخلاف المعروف في الأصول فتدبر هذا. وقد اختلف أهل العلم إذا كان الرجل يطأ مملوكته بالملك، ثم أراد أن يطأ أختها بالملك، فقال عليّ، وابن عمر، والحسن البصري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق: لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرّم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق، أو بأن يزوّجها. قال ابن المنذر: وفيه قول ثان لقتادة، وهو أنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وأن لا يقربها، ثم يمسك عنهما حتى تستبرئ المحرمة، ثم يغشى الثانية. وفيه قول ثالث، وهو أنه لا يقرب واحدة منهما، هكذا قال الحكم، وحماد. وروي معنى ذلك عن النخعي. وقال مالك: إذا كان عنده أختان بملك فله أن يطأ أيتهما شاء، والكفّ عن الأخرى موكول إلى أمانته، فإن أراد وطء الأخرى، فيلزمه أن يحرّم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك أو تزويج أو بيع أو عتق أو كتابة أو إخدام طويل، فإن كان يطأ إحداهما، ثم وثب على الأخرى دون أن يحرّم الأولى وقف عنهما، ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرّم الأخرى، ولم يوكل ذلك إلى أمانته، لأنه متهم. قال القرطبي: وقد أجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقاً يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدّة التى طلق. روي ذلك عن عليّ، وزيد بن ثابت، ومجاهد، وعطاء، والنخعي، والثوري، وأحمد بن حنبل، وأصحاب الرأي. وقالت طائفة: له أن ينكح أختها، وينكح الرابعة لمن كان تحته أربع، وطلق واحدة منهنّ طلاقاً بائناً. روي ذلك عن سعيد بن المسيب، والحسن، والقاسم، وعروة بن الزبير، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأبي ثور، وأبي عبيد. قال ابن المنذر: ولا أحسبه إلا قول مالك. وهو أيضاً إحدى الروايتين عن زيد بن ثابت، وعطاء. قوله: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} يحتمل أن يكون معناه معنى ما تقدّم من قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} ويحتمل معنى آخر، وهو جواز ما سلف وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحاً، وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين. والصواب الاحتمال الأوّل. قوله: {والمحصنات مِنَ النساء} عطف على المحرّمات المذكورات. وأصل التحصن التمنع، ومنه قوله تعالى: {لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80] أي: لتمنعكم، ومنه الحصان بكسر الحاء للفرس؛ لأنه يمنع صاحبه من الهلاك. والحصان بفتح الحاء: المرأة العفيفة لمنعها نفسها، ومنه قول حسان: حصان رزان ما تزنّ بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل والمصدر الحصانة بفتح الحاء. والمراد بالمحصنات هنا: ذوات الأزواج. وقد ورد الإحصان في القرآن لمعان، هذا أحدها. والثاني يراد به الحرّة، ومنه قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات} [النساء: 25] وقوله: {والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]. والثالث يراد به: العفيفة ومنه قوله تعالى: {محصنات غَيْرَ مسافحات} [النساء: 25]، {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين} [النساء: 24، المائدة: 5]. والرابع المسلمة، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ}. وقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية، أعني قوله: {والمحصنات مِنَ النساء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} فقال ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وأبو قلابة، ومكحول، والزهري: المراد بالمحصنات هنا: المسبيات ذوات الأزواج خاصة، أي: هنّ محرّمات عليكم إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من أرض الحرب، فإن تلك حلال، وإن كان لها زوج، وهو قول الشافعي: أي: أن السباء يقطع العصمة، وبه قال ابن وهب، وابن عبد الحكم، وروياه عن مالك، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. واختلفوا في استبرائها بماذا يكون؟ كما هو مدوّن في كتب الفروع. وقالت طائفة: المحصنات في هذه الآية العفائف، وبه قال أبو العالية، وعبيدة السلماني، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعطاء، ورواه عبيدة، عن عمر. ومعنى الآية عندهم: كل النساء حرام إلا ما ملكت أيمانكم، أي: تملكون عصمتهنّ بالنكاح، وتملكون الرقبة بالشراء. وحكى ابن جرير الطبري أن رجلاً قال لسعيد بن جبير: أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية، فلم يقل فيها شيئاً؟ فقال: كان ابن عباس لا يعلمها. وروى ابن جرير أيضاً عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل. انتهى. ومعنى الآية، والله أعلم واضح لا سترة به، أي: وحرّمت عليكم المحصنات من النساء، أي: المزوجات أعمّ من أن يكنّ مسلمات، أو كافرات إلا ما ملكت أيمانكم منهنّ، أما بسبي، فإنها تحلّ، ولو كانت ذات زوج، أو بشراء، فإنها تحلّ، ولو كانت متزوجة، وينفسخ النكاح الذي كان عليها بخروجها عن ملك سيدها الذي زوّجها. وسيأتي ذكر سبب نزول الآية إن شاء الله، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد قرئ: {المحصنات} بفتح الصاد وكسرها، فالفتح على أن الأزواج أحصنوهنّ؛ والكسر على أنهنّ أحصنّ فروجهن من غير أزواجهنّ، أو أحصنّ أزواجهنّ. قوله: {كتاب الله عَلَيْكُمْ} منصوب على المصدرية، أي: كتب الله ذلك عليكم كتاباً. وقال الزجاج، والكوفيون: إنه منصوب على الإغراء، أي: الزموا كتاب الله، أو عليكم كتاب الله، واعترضه أبو عليّ الفارسي بأن الإغراء لا يجوز فيه تقديم المنصوب، وهذا الاعتراض إنما يتوجه على قول من قال: إنه منصوب بعليكم المذكور في الآية، وروي عن عبيدة السلماني أنه قال: إن قوله: {كتاب الله عَلَيْكُمْ} إشارة إلى قوله تعالى: {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} [النساء: 3] وهو بعيد، بل هو إشارة إلى التحريم المذكور في قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ} إلى آخر الآية. قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص، {وأحلّ} على البناء للمجهول، وقرأ الباقون على البناء للمعلوم عطفاً على الفعل المقدّر في قوله: {كتاب الله عَلَيْكُمْ} وقيل على قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ} ولا يقدح في ذلك اختلاف الفعلين، وفيه دلالة على أنه يحل لهم نكاح ما سوى المذكورات، وهذا عام مخصوص بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من تحريم الجمع بين المرأة، وعمتها، وبين المرأة وخالتها. وقد أبعد من قال: إن تحريم الجمع بين المذكورات مأخوذ من الآية هذه؛ لأنه حرّم الجمع بين الأختين، فيكون ما في معناه في حكمه، وهو الجمع بين المرأة، وعمتها، وبين المرأة، وخالتها، وكذلك تحريم نكاح الأمة لمن يستطيع نكاح حرّة، كما سيأتي، فإنه يخصص هذا العموم. قوله: {أَن تَبْتَغُواْ بأموالكم} في محل نصب على العلة، أي: حرّم عليكم ما حرّم، وأحلّ لكم ما أحلّ لأجل أن تبتغوا بأموالكم النساء اللاتي أحلهنّ الله لكم، ولا تبتغوا بها الحرام، فتذهب حال كونكم: {مُّحْصِنِينَ} أي: متعففين عن الزنا: {غَيْرَ مسافحين} أي: غير زانين. والسفاح: الزنا، وهو مأخوذ من سفح الماء، أي: صبه وسيلانه، فكأنه سبحانه أمرهم بأن يطلبوا بأمولهم النساء على وجه النكاح، لا على وجه السفاح وقيل: إن قوله: {أَن تَبْتَغُواْ بأموالكم} بدل من «ما» في قوله: {مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} أي: وأحلّ لكم الابتغاء بأموالكم. والأوّل أولى، وأراد سبحانه بالأموال المذكورة ما يدفعونه في مهور الحرائر وأثمان الإماء. قوله: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} «ما» موصولة فيها معنى الشرط، والفاء في قوله: {فَئَاتُوهُنَّ} لتضمن الموصول معنى الشرط، والعائد محذوف، أي: فآتوهنّ أجورهنّ عليه. وقد اختلف أهل العلم في معنى الآية: فقال الحسن، ومجاهد، وغيرهما: المعنى فما انتفعتم، وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الشرعي {فآتوهن أجورهن} أي: مهورهنّ. وقال الجمهور: إن المراد بهذه الآية: نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام، ويؤيد ذلك قراءة أبيّ بن كعب، وابن عباس، وسعيد بن جبير: " فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فآتوهن أجورهن} ثم نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، كما صحّ ذلك من حديث عليّ قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم، عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، وهو في الصحيحين وغيرهما، وفي صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال يوم فتح مكة " يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، والله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهنّ شيء، فليخلّ سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً " وفي لفظ لمسلم أن ذلك كان في حجة الوداع، فهذا هو الناسخ. وقال سعيد بن جبير: نسختها آيات الميراث إذ المتعة لا ميراث فيها. وقالت عائشة، والقاسم بن محمد: تحريمها، ونسخها في القرآن، وذلك قوله تعالى: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5، 6] وليست المنكوحة بالمتعة من أزواجهم، ولا مما ملكت أيمانهم، فإن من شأن الزوجة أن ترث، وتورث، وليست المستمتع بها كذلك. وقد روي عن ابن عباس أنه قال بجواز المتعة، وأنها باقية لم تنسخ. وروي عنه أنه رجع عن ذلك عند أن بلغه الناسخ. وقد قال بجوازها جماعة من الروافض، ولا اعتبار بأقوالهم. وقد أتعب نفسه بعض المتأخرين بتكثير الكلام على هذه المسألة، وتقوية ما قاله المجوّزون لها، وليس هذا المقام مقام بيان بطلان كلامه. وقد طوّلنا البحث، ودفعنا الشبه الباطلة التي تمسك بها المجوّزون لها في شرحنا للمنتقي، فليرجع إليه. قوله: {فَرِيضَةً} منتصب على المصدرية المؤكدة، أو على الحال، أي: مفروضة. قوله: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة} أي: من زيادة، أو نقصان في المهر، فإن ذلك سائغ عند التراضي، هذا عند من قال بأن الآية في النكاح الشرعي، وأما عند الجمهور القائلين بأنها في المتعة، فالمعنى التراضي في زيادة مدّة المتعة، أو نقصانها، أو في زيادة ما دفعه إليها إلى مقابل الاستمتاع بها، أو نقصانه. قوله: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات} الطول: الغنى والسعة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والسدّي، وابن زيد، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وجمهور أهل العلم. ومعنى الآية: فمن لم يستطع منكم غنى، وسعة في ماله يقدر بها على نكاح المحصنات المؤمنات، فلينكح من فتياتكم المؤمنات، يقال طال يطول طولاً في الإفضال والقدرة، وفلان ذو طول، أي: ذو قدرة في ماله. والطول بالضم: ضد القِصَر. وقال قتادة، والنخعي، وعطاء، والثوري: إن الطول الصبر. ومعنى الآية عندهم أن من كان يهوى أمة حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها، فإن له أن يتزوجها إذا لم يملك نفسه، وخاف أن يبغي بها، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة. وقال أبو حنيفة، وهو مرويّ عن مالك: إن الطول المرأة الحرّة، فمن كان تحته حرة لم يحل له أن ينكح الأمة، ومن لم يكن تحته حرة جاز له أن يتزوج أمة، ولو كان غنياً، وبه قال أبو يوسف، واختاره ابن جرير، واحتج له. والقول الأوّل هو المطابق لمعنى الآية، ولا يخلو ما عداه عن تكلف، فلا يجوز للرجل أن يتزوج بالأمة إلا إذا كان لا يقدر على أن يتزوج بالحرة لعدم وجود ما يحتاج إليه في نكاحها من مهر وغيره. وقد استدلّ بقوله: {مّن فتياتكم المؤمنات} على أنه لا يجوز نكاح الأمة الكتابية، وبه قال أهل الحجاز، وجوّزه أهل العراق، ودخلت الفاء في قوله: {فمن مَا مَلَكَتْ أيمانكم} لتضمن المبتدأ معنى الشرط. وقوله: {مّن فتياتكم المؤمنات} في محل نصب على الحال، فقد عرفت أنه لا يجوز للرجل الحرّ أن يتزوج بالمملوكة إلا بشرط عدم القدرة على الحرّة. والشرط الثاني ما سيذكره الله سبحانه آخر الآية من قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ} فلا يحلّ للفقير أن يتزوج بالمملوكة إلا إذا كان يخشى على نفسه العنت. والمراد هنا: الأمة المملوكة للغير، وأما أمة الإنسان نفسه، فقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز له أن يتزوجها، وهي تحت ملكه لتعارض الحقوق واختلافها. والفتيات جمع فتاة، والعرب تقول للمملوك فتى، وللمملوكة فتاة. وفي الحديث الصحيح: «لا يقولنّ أحدكم عبدي، وأمتي، ولكن ليقل فتاي، وفتاتي» قوله: {والله أَعْلَمُ بإيمانكم} فيه تسلية لمن ينكح الأمة إذا اجتمع فيه الشرطان المذكوران، أي: كلكم بنو آدم، وأكرمكم عند الله أتقاكم، فلا تستنكفوا من الزواج بالإماء عند الضرورة. فربما كان إيمان بعض الإماء أفضل من إيمان بعض الحرائر. والجملة اعتراضية. وقوله: {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ} مبتدأ وخبر، ومعناه: أنهم متصلون في الأنساب؛ لأنهم جميعاً بنو آدم، أو متصلون في الدين؛ لأنهم جميعاً أهل ملة واحدة، وكتابهم واحد ونبيهم واحد. والمراد بهذا: توطئة نفوس العرب؛ لأنهم كانوا يستهجنون أولاد الإماء، ويستصغرونهم، ويغضون منهم: {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} أي: بإذن المالكين لهنّ؛ لأن منافعهنّ لهم لا يجوز لغيرهم أن ينتفع بشيء منها إلا بإذن من هي له. قوله: {وآتوهن أجورهن بالمعروف} أي: أدّوا إليهنّ مهورهنّ بما هو بالمعروف في الشرع، وقد استدل بهذا من قال: إن الأمة أحقّ بمهرها من سيدها، وإليه ذهب مالك، وذهب الجمهور إلى أن المهر للسيد، وإنما أضافها إليهنّ؛ لأن التأدية إليهنّ تأدية إلى سيدهن لكونهنّ ماله. قوله: {محصنات} أي: عفائف. وقرأ الكسائي «محصنات» بكسر الصاد في جميع القرآن إلا في قوله: {والمحصنات مِنَ النساء} وقرأ الباقون بالفتح في جميع القرآن. قوله: {غَيْرَ مسافحات} أي: غير معلنات بالزنا. والأخدان: الأخلاء، والخدن، والخدين المخادن، أي: المصاحب، وقيل ذات الخدن: هي التي تزني سرّاً، فهو مقابل للمسافحة وهي التي تجاهر بالزنا، وقيل: المسافحة، المبذولة، وذات الخدن، التي تزني بواحد. وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنا، ولا تعيب اتخاذ الأخدان، ثم رفع الإسلام جميع ذلك، قال الله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151]. قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بفتح الهمزة، وقرأ الباقون بضمها. والمراد بالإحصان هنا: الإسلام. روي ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وأنس، والأسود بن يزيد، وزرّ بن حبيش، وسعيد بن جبير، وعطاء، وإبراهيم النخعي، والشعبي، والسديّ، وروي عن عمر بن الخطاب، بإسناد منقطع، وهو الذي نص عليه الشافعي، وبه قال الجمهور. وقال ابن عباس، وأبو الدرداء، ومجاهد، وعكرمة، وطاوس، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، وغيرهم: إنه التزويج. وروي عن الشافعي. فعلى القول الأوّل لا حدّ على الأمة الكافرة. وعلى القول الثاني لا حدّ على الأمة التي لم تتزوج. وقال القاسم وسالم: إحصانها: إسلامها، وعفافها. وقال ابن جرير: إن معنى القراءتين مختلف، فمن قرأ {أحصنّ} بضم الهمزة، فمعناه التزويج، ومن قرأ بفتح الهمزة، فمعناه الإسلام. وقال قوم: إن الإحصان المذكور في الآية هو: التزوج، ولكن الحدّ واجب على الأمة المسلمة إذا زنت قبل أن تتزوّج بالسنة، وبه قال الزهري. قال ابن عبد البر: ظاهر قول الله عزّ وجل يقتضي أنه لا حدّ على الأمة، وإن كانت مسلمة إلا بعد التزويج، ثم جاءت السنة بجلدها، وإن لم تحصن، وكان ذلك زيادة بيان. قال القرطبي: ظهر المسلم حمى لا يستباح إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف لولا ما جاء في صحيح السنة من الجلد. قال ابن كثير في تفسيره: والأظهر، والله أعلم أن المراد بالإحصان هنا: التزويج؛ لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} إلى قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} فالسياق كله في الفتيات المؤمنات، فتعين أن المراد بقوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} أي: تزوجن، كما فسره به ابن عباس، ومن تبعه، قال: وعلى كلّ من القولين إشكال على مذهب الجمهور؛ لأنهم يقولون إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة سواء كانت مسلمة، أو كافرة مزوجة، أو بكراً، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة من الإماء. وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك، ثم ذكر أن منهم من أجاب، وهم الجمهور بتقديم منطوق الأحاديث على هذا المفهوم، ومنهم من عمل على مفهوم الآية، وقال: إذا زنت، ولم تحصن، فلا حدّ عليها، وإنما تضرب تأديباً. قال: وهو المحكي عن ابن عباس، وإليه ذهب طاوس، وسعيد بن جبير، وأبو عبيد، وداود الظاهري في رواية عنه، فهؤلاء قدموا مفهوم الآية على العموم، وأجابوا عن مثل حديث أبي هريرة، وزيد بن خالد في الصحيحين، وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة: إذا زنت، ولم تحصن، قال: " إن زنت، فاجلدوها، ثم إن زنت، فاجلدوها، ثم إن زنت، فاجلدوها، ثم بيعوها، ولو بضفير " بأن المراد بالجلد هنا: التأديب، وهو تعسف، وأيضاً قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا زنت أمة أحدكم، فليجلدها الحدّ، ولا يثرّب عليها. ثم إن زنت، فليجلدها الحد " الحديث. ولمسلم من حديث علي قال: «يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحدّ من أحصن، ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها» الحديث. وأما ما أخرجه سعيد بن منصور، وابن خزيمة، والبيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس على الأمة حدّ حتى تحصن بزوج، فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات من العذاب " فقد قال ابن خزيمة، والبيهقي: إن رفعه خطأ، والصواب وقفه. قوله: {فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة} الفاحشة هنا الزنا: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} أي: الحرائر الأبكار؛ لأن الثيب عليها الرجم، وهو لا يتبعض، وقيل المراد بالمحصنات هنا: المزوّجات؛ لأن عليهنّ الجلد، والرجم، والرجم لا يتبعض، فصار عليهنّ نصف ما عليهنّ من الجلد. والمراد بالعذاب هنا: الجلد، وإنما نقص حدّ الإماء عن حدّ الحرائر؛ لأنهنّ أضعف. وقيل: لأنهنّ لا يصلن إلى مرادهنّ، كما تصل الحرائر؛ وقيل: لأن العقوبة تجب على قدر النعمة، كما في قوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] ولم يذكر الله سبحانه في هذه الآية العبيد، وهم لاحقون بالإماء بطريق القياس. وكما يكون على الإماء، والعبيد نصف الحدّ في الزنا، كذلك يكون عليهم نصف الحدّ في القذف والشرب. والإشارة بقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ} إلى نكاح الإماء. والعنت: الوقوع في الإثم، وأصله في اللغة انكسار العظم بعد الجبر، ثم استعير لكل مشقة {وَأَن تَصْبِرُواْ} عن نكاح الإماء {خَيْرٌ لَّكُمْ} من نكاحهنّ، أي: صبركم خير لكم؛ لأن نكاحهنّ يفضي إلى إرقاق الولد، والغضّ من النفس. قوله: {يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ} اللام هنا هي لام كي التي تعاقب: أن. قال الفراء: العرب تعاقب بين لام كي وأن، فتأتي باللام التي على معنى كي في موضع أن في أردت، وأمرت، فيقولون أردت أن تفعل، وأردت لتفعل، ومنه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم} [الصف: 8] {وَأُمِرْتُ لاِعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ العالمين} [الأنعام: 71] ومنه: أريد لأنسى ذكرها فكأنما *** تمثل لي ليلى بكل سبيل وحكى الزجاج هذا القول وقال: لو كانت اللام بمعنى أن لدخلت عليها لام أخرى، كما تقول: جئت كي تكرمني، ثم تقول: جئت لكي تكرمني، وأنشد: أردت لكيما يعلم الناس أنها *** سراويل قيس والوفود شهود وقيل اللام زائدة لتأكيد معنى الاستقبال، أو لتأكيد إرادة التبيين، ومفعول يبين محذوف، أي: ليبين لكم ما خفي عليكم من الخير، وقيل: مفعول يريد محذوف، أي: يريد الله هذا ليبين لكم، وبه قال البصريون، وهو مرويّ، عن سيبويه. وقيل: اللام بنفسها ناصبة للفعل من غير إضمار أن، وهي وما بعدها مفعول للفعل المتقدّم، وهو مثل قول الفراء السابق. وقال بعض البصريين: إن قوله: {يُرِيدُ} مؤول بالمصدر مرفوع بالابتداء مثل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. ومعنى الآية: يريد الله ليبين لكم مصالح دينكم، وما يحلّ لكم، وما يحرم عليكم: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ} أي: طرقهم، وهم الأنبياء، وأتباعهم لتقتدوا بهم: {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} أي: ويريد أن يتوب عليكم فتوبوا إليه، وتلافوا ما فرط منكم بالتوبة يغفر لكم ذنوبكم. {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} هذا تأكيد لما قد فهم من قوله: {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} المتقدّم. وقيل: الأوّل معناه للإرشاد إلى الطاعات، والثاني فعل أسبابها. وقيل: إن الثاني لبيان كمال منفعة إرادته سبحانه، وكمال ضرر ما يريده الذين يتبعون الشهوات، وليس المراد به: مجرد إرادة التوبة حتى يكون من باب التكرير للتأكيد. قيل: هذه الإرادة منه سبحانه في جميع أحكام الشرع. وقيل: في نكاح الأمة فقط. واختلف في تعيين المتبعين للشهوات، فقيل: هم الزناة، وقيل: اليهود والنصارى. وقيل: اليهود خاصة. وقيل هم المجوس؛ لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب. والأوّل أولى. والميل: العدول عن طريق الاستواء. والمراد بالشهوات هنا: ما حرّمه الشرع دون ما أحله. ووصف الميل بالعظم بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئة نادراً. قوله: {يُرِيدُ اللهُ يُخَفّفَ عَنْكُمْ} بما مرّ من الترخيص لكم، أو بكل ما فيه تخفيف عليكم: {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} عاجزاً غير قادر على ملك نفسه، ودفعها عن شهواتها، وفاء بحق التكليف، فهو محتاج من هذه الحيثية إلى التخفيف، فلهذا أراد الله سبحانه التخفيف عنه. وقد أخرج البخاري، وغيره عن ابن عباس قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع، ثم قرأ: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} إلى قوله: {وَبَنَاتُ الأخت} هذا من النسب. وباقي الآية من الصهر، والسابعة: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء}. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي، عن عمران بن حصين في قوله: {وأمهات نِسَائِكُمْ} قال: هي مبهمة. وأخرج هؤلاء، عن ابن عباس قال: هي مبهمة إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها، أو ماتت لم تحلّ له أمها. وأخرج هؤلاء إلا البيهقي، عن علي في الرجل يتزوج المرأة ثم يطلقها، أو ماتت قبل أن يدخل بها هل تحل له أمها؟ قال: هي بمنزلة الربيبة. وأخرج هؤلاء عن زيد بن ثابت أنه كان يقول: إذا ماتت عنده، فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها، وإذا طلقها قبل أن يدخل بها، فلا بأس أن يتزوج أمها. وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد قال في قوله: {وأمهات نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِى حُجُورِكُمْ} اللاتي أريد بهما الدخول جميعاً. وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن عبد الله بن الزبير قال: الربيبة والأم سواء لا بأس بها إذا لم يدخل بالمرأة. وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، بسند صحيح، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: كانت عندي امرأة، فتوفيت، وقد ولدت لي فوجدت عليها، فلقيني عليّ بن أبي طالب، فقال: مالك؟ فقلت: توفيت المرأة، فقال عليّ: لها ابنة؟ قلت: نعم، وهي بالطائف، قال: كانت في حجرك؟ قلت لا، قال: فانكحها، قلت: فأين قول الله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِى حُجُورِكُمْ}؟ قال: إنها لم تكن في حجرك. وقد قدّمنا قول من قال: إنه إسناد ثابت على شرط مسلم. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس قال: الدخول الجماع. وأخرج عبد الرزاق في المصنف، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عطاء قال: كنا نتحدث أن محمداً صلى الله عليه وسلم لما نكح امرأة زيد قال المشركون بمكة في ذلك، فأنزل الله: {وحلائل أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم} ونزلت: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ} [الأحزاب: 4] ونزلت: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40]. وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين} قال يعني في النكاح. وأخرج عبد بن حميد عنه في الآية قال: ذلك في الحرائر، فأما المماليك، فلا بأس. وأخرج ابن المنذر عنه نحوه من طريق أخرى. وأخرج مالك، والشافعي، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد ابن حميد، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن عثمان بن عفان: أن رجلاً سأله عن الأختين في ملك اليمين هل يجمع بينهما؟ قال: أحلتهما آية وحرّمتهما آية، وما كنت لأصنع ذلك، فخرج من عنده، فلقي رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أراه علي بن أبي طالب، فسأله عن ذلك، فقال: لو كان لي من الأمر شيء، ثم وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، والبيهقي عن علي: أنه سئل عن رجل له أمتان أختان، وطئ إحداهما، وأراد أن يطأ الأخرى، فقال: لا حتى يخرجها من ملكه. وقيل: فإن زوجها عبده؟ قال: لا حتى يخرجها من ملكه. وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والطبراني، عن ابن مسعود أنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين الأمتين، فكرهه، فقيل: يقول الله: {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} فقال: وبعيرك أيضاً مما ملكت يمينك. وأخرج ابن أبي شيبة، والبيهقي، من طريق أبي صالح، عن عليّ بن أبي طالب قال في الأختين المملوكتين: أحلتهما آية، وحرّمتهما آية، ولا آمر، ولا أنهى، ولا أحلّ، ولا أحرّم، ولا أفعل أنا، وأهل بيتي. وأخرج أحمد عن قيس قال: قلت لابن عباس: أيقع الرجل على المرأة، وابنتها مملوكتين له؟ فقال: أحلتهما آية، وحرّمتهما آية، ولم أكن لأفعله. وأخرج عبد الرزاق، والبيهقي عنه في الأختين من ملك اليمين: أحلتهما آية، وحرّمتهما آية. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبيهقي، عن ابن عمر قال: إذا كان للرجل جاريتان أختان، فغشى إحداهما، فلا يقرب الأخرى حتى يخرج التي غشى من ملكه. وأخرج البيهقي، عن مقاتل بن سليمان قال: إنما قال الله في نساء الآباء: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} لأن العرب كانوا ينكحون نساء الآباء، ثم حرم النسب والصهر، فلم يقل إلا ما قد سلف؛ لأن العرب كانت لا تنكح النسب، والصهر. وقال في الأختين: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} لأنهم كانوا يجمعون بينهما، فحرم جمعهما جميعاً إلا ما قد سلف قبل التحريم: {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} لما كان من جماع الأختين قبل التحريم. وأخرج أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم، عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين جيشاً إلى أوطاس، فلقوا عدواً، فقاتلوهم، فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا، فكأن ناساً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله في ذلك: {والمحصنات مِنَ النساء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} يقول: إلا ما أفاء الله عليكم. وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن ذلك سبب نزول الآية. وأخرج ابن أبي شيبة، عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي عن ابن عباس في قوله: {والمحصنات مِنَ النساء} قال: كل ذات زوج إتيانها زنا إلا ما سبيت. وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، والطبراني، عن عليّ، وابن مسعود في قوله: {والمحصنات مِنَ النساء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} قال: على المشركات إذا سبين حلت له. وقال ابن مسعود: المشركات والمسلمات. وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود قال: إذا بيعت الأمة، ولها زوج، فسيدها أحق ببضعها. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {والمحصنات مِنَ النساء} قال: ذوات الأزواج. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن أنس بن مالك مثله. وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن مسعود مثله. وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: {والمحصنات} قال: العفيفة العاقلة من مسلمة، أو من أهل الكتاب. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عنه في الآية قال: لا يحل له أن يتزوج فوق الأربع، فما زاد، فهو عليه حرام، كأمه وأخته. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن أبي العالية في قوله: {والمحصنات مِنَ النساء} قال: يقول انكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى، وثلاث، ورباع، ثم حرّم ما حرّم من النسب، والصهر، ثم قال: {والمحصنات مِنَ النساء} فرجع إلى أول السورة، فقال: هنّ حرام أيضاً، إلا لمن نكح بصداق وسنة وشهود. وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن جرير، عن عبيدة قال: أحلّ الله لك أربعاً في أوّل السورة، وحرّم نكاح كل محصنة بعد الأربع إلا ما ملكت يمينك. وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإحصان إحصانان: إحصان نكاح، وإحصان عفاف» فمن قرأها والمحصنات بكسر الصاد، فهن العفائف، ومن قرأها والمحصنات بالفتح، فهنّ المتزوجات. قال ابن أبي حاتم: قال أبيّ هذا حديث منكر. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} قال: ما وراء هذا النسب. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدّي قال: ما دون الأربع. وأخرج ابن جرير، عن عطاء قال: ما وراء ذات القرابة. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} قال: ما ملكت أيمانكم. وأخرج ابن أبي حاتم، عن عبيدة السلماني نحوه. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين} قال غير زانين. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {فآتوهن أجورهن} يقول: إذا تزوج الرجل منكم المرأة، ثم نكحها مرة واحدة، فقد وجب صداقها كله، والاستمتاع هو: النكاح، وهو قوله: {وَءاتُواْ النساء صدقاتهن} [النساء: 4]. وأخرج الطبراني، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس قال: كانت المتعة في أوّل الإسلام، وكانوا يقرءون هذه الآية: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [النساء: 24] الآية، فكان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج بقدر ما يرى أنه يفرغ من حاجته؛ ليحفظ متاعه، ويصلح شأنه. حتى نزلت هذه الآية: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} فنسخت الأولى، فحرّمت المتعة، وتصديقها من القرآن: {إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} [المؤمنون: 6] وما سوى هذا الفرج فهو حرام. وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن الأنباري في المصاحف، والحاكم وصححه: أن ابن عباس قرأ: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [النساء: 24] وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن أبيّ بن كعب أنه قرأها كذلك. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد، أن هذه الآية في نكاح المتعة، وكذلك أخرج ابن جرير، عن السدّي، والأحاديث في تحليل المتعة، ثم تحريمها، وهل كان نسخها مرة، أو مرّتين؟ مذكورة في كتب الحديث. وقد أخرج ابن جرير في تهذيبه، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: ماذا صنعت؟ ذهبت الركاب بفتياك، وقالت فيها الشعراء قال: وما قالوا؟ قلت: قالوا: أقول للشيخ لما طال مجلسه *** يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس هل لك في رحضة الأعطاف آنسة *** تكون مثواك حتى مصدر الناس فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لا والله ما بهذا أفتيت، ولا هذا أردت، ولا أحللتها إلا للمضطر وفي لفظ، ولا أحللت منها إلا ما أحل الله من الميتة، والدم، ولحم الخنزير. وأخرج ابن جرير، عن حضرمي أن رجالاً كانوا يفرضون المهر، ثم عسى أن تدرك أحدهم العسرة، فقال الله: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة}. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ} قال: الراضي أن يوفى لها صداقها، ثم يخيرها. وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد في الآية قال: إن وضعت لك منه شيئاً، فهو سائغ. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} يقول: من لم يكن له سعة {أَن يَنكِحَ المحصنات} يقول الحرائر: {فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} فلينكح من إماء المؤمنين {محصنات غَيْرَ مسافحات} يعني عفائف غير زواني في سرّ. ولا علانية {وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} يعني أخلاء {فَإِذَا أُحْصِنَّ} ثم إذا تزوجت حراً، ثم زنت {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} قال: من الجلد {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ} هو: الزنا، فليس لأحد من الأحرار أن ينكح أمة إلا أن لا يقدر على حرة، وهو يخشى العنت {وَأَن تَصْبِرُواْ} عن نكاح الإماء {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي، عن مجاهد {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} يعني من لا يجد منكم غنى {أَن يَنكِحَ المحصنات} يعني: الحرائر، فلينكح الأمة المؤمنة {وَأَن تَصْبِرُواْ} عن نكاح الإماء {خَيْرٌ لَّكُمْ} وهو حلال. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عنه قال مما وسع الله به على هذه الأمة، نكاح الأمة النصرانية واليهودية وإن كان موسراً. وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبيهقي عنه قال: لا يصلح نكاح إماء أهل الكتاب؛ لأن الله يقول: {مّن فتياتكم المؤمنات}. وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، عن الحسن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح الأمة على الحرّة، والحرّة على الأمة، ومن وجد طولاً لحرّة، فلا ينكح أمة. وأخرج ابن أبي شيبة، والبيهقي عن ابن عباس قال: لا يتزوج الحرّ من الإماء إلا واحدة. وأخرج ابن أبي شيبة، عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل في قوله: {والله أَعْلَمُ بإيمانكم بَعْضُكُمْ مّن بَعْضٍ} يقول: أنتم إخوة بعضكم من بعض. وأخرج ابن المنذر، عن السدّي: {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} قال: بإذن مواليهن: {وآتوهن أجورهن} قال: مهورهنّ. وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال: المسافحات المعلنات بالزنا، والمتخذات أخدان: ذات الخليل الواحد. قال: كان أهل الجاهلية يحرّمون ما ظهر من الزنا، ويستحلون ما خفي، فأنزل الله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151]. وأخرج ابن أبي حاتم، عن عليّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} قال: «إحصانها إسلامها» وقال عليّ: اجلدوهنّ. قال ابن أبي حاتم، حديث منكر، وقال ابن كثير في إسناده ضعف، ومبهم لم يسم، ومثله لا تقوم به حجة. وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، عن ابن عباس قال: حدّ العبد يفتري على الحرّ أربعون. وأخرج ابن جرير عنه قال: العنت الزنا. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدّي: {وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات} قال: هم اليهود، والنصارى. وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس: {وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات} قال: الزنا. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد: {يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ} يقول: في نكاح الأمة، وفي كل شيء فيه يسر. وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد: {يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ} قال: رخص لكم في نكاح الإماء {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} قال: لو لم يرخص له فيها. وأخرج ابن جرير، والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس قال: ثماني آيات نزلت في سورة النساء هنّ خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس، وغربت: أوّلهنّ: {يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26]، والثانية: {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عظيماً} [النساء: 27]، والثالثة: {عَظِيماً يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} [النساء: 28]، والرابعة: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً} [النساء: 31]، والخامسة: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] الآية، والسادسة: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله} [النساء: 110] الآية، والسابعة: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 116] الآية، والثامنة: {والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ الله} للذين عملوا من الذنوب {غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 152].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} الباطل: ما ليس بحق، ووجوه ذلك كثيرة، ومن الباطل البيوعات التي نهى عنها الشرع. والتجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة، وهذا الاستثناء منقطع، أي: لكن تجارة عن تراض منكم جائزة بينكم، أو لكن كون تجارة عن تراض منكم حلالاً لكم. وقوله: {عَن تَرَاضٍ} صفة لتجارة، أي: كائنة عن تراض، وإنما نص الله سبحانه على التجارة دون سائر أنواع المعاوضات لكونها أكثرها وأغلبها، وتطلق التجارة على جزاء الأعمال من الله على وجه المجاز، ومنه قوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10]. وقوله: {يَرْجُونَ تجارة لَّن تَبُورَ} [فاطر: 29]. واختلف العلماء في التراضي، فقالت طائفة: تمامه وجوبه بافتراق الأبدان بعد عقد البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه: اختر كما في الحديث الصحيح: «البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر» وإليه ذهب جماعة من الصحابة، والتابعين، وبه قال الشافعي، والثوري، والأوزاعي، والليث، وابن عيينة، وإسحاق وغيرهم. وقال مالك، وأبو حنيفة: تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة، فيرتفع بذلك الخيار، وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته. وقد قرئ «تجارة» بالرفع على أن كان تامة، وتجارة بالنصب على أنها ناقصة. قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} أي: لا يقتل بعضكم أيها المسلمون بعضاً إلا بسبب أثبته الشرع، أو لا تقتلوا أنفسكم باقتراف المعاصي، أو المراد النهي عن أن يقتل الإنسان نفسه حقيقة. ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني. ومما يدل على ذلك احتجاج عمرو بن العاص بها حين لم يغتسل بالماء البارد حين أجنب في غزاة ذات السلاسل، فقرّر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه، وهو في مسند أحمد، وسنن أبي داود وغيرهما. قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي: القتل خاصة، أو أكل أموال الناس ظلماً، والقتل عدواناً وظلماً، وقيل: هو إشارة إلى كل ما نهى عنه في هذه السورة. وقال ابن جرير: إنه عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد وهو قوله تعالى: {أَلِيماً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} [النساء: 19] لأن كل ما نهى عنه من أوّل السورة قرن به وعيد إلا من قوله: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ} فإنه لا وعيد بعده إلا قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عدوانا وَظُلْماً} والعدوان: تجاوز الحدّ. والظلم: وضع الشيء في غير موضعه. وقيل: إن معنى العدوان، والظلم واحد، وتكريره لقصد التأكيد، كما في قول الشاعر: وألفى قولها كذباً ومينا *** وخرج بقيد العدوان والظلم ما كان من القتل بحق كالقصاص، وقتل المرتد، وسائر الحدود الشرعية، وكذلك قتل الخطأ. قوله: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً} جواب الشرط، أي: ندخله ناراً عظيمة: {وَكَانَ ذلك} أي: إصلاؤه النار {عَلَى الله يَسِيراً} لأنه لا يعجزه بشيء. وقرئ: «نصليه» بفتح النون، روي ذلك عن الأعمش، والنخعي، وهو: على هذه القراءة منقول من صلى، ومنه شاة مصلية. قوله: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم} أي: إن تجتنبوا كبائر الذنوب التي نهاكم الله عنها: {نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم} أي: ذنوبكم التي هي صغائر، وحمل السيئات على الصغائر هنا متعين لذكر الكبائر قبلها، وجعل اجتنابها شرطاً لتكفير السيئات. وقد اختلف أهل الأصول في تحقيق معنى الكبائر، ثم في عددها، فأما في تحقيقها، فقيل: إن الذنوب كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: الزنا صغيرة بالإضافة إلى الكفر، والقبلة المحرّمة صغيرة بالإضافة إلى الزنا، وقد روي نحو هذا عن الإسفراييني، والجويني، والقشيري، وغيرهم قالوا: والمراد بالكبائر التي يكون اجتنابها سبباً لتكفير السيئات هي: الشرك، واستدلوا على ذلك بقراءة من قرأ: {إِن تَجْتَنِبُواْ كبائر مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} وعلى قراءة الجمع، فالمراد أجناس الكفر، واستدلوا على ما قالوه بقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 116] قالوا: فهذه الآية مقيدة لقوله: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} وقال ابن عباس: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب. وقال ابن مسعود: الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية. وقال سعيد بن جبير: كل ذنب نسبه الله إلى النار فهو كبيرة. وقال جماعة من أهل الأصول: الكبائر كل ذنب رتب الله عليه الحدّ، أو صرح بالوعيد فيه. وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره. وأما الاختلاف في عددها، فقيل: إنها سبع، وقيل: سبعون، وقيل: سبعمائة، وقيل: غير منحصرة، ولكن بعضها أكبر من بعض، وسيأتي ما ورد في ذلك إن شاء الله. قوله: {وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً} أي: مكان دخول، وهو الجنة: {كَرِيماً} أي: حسناً مرضياً، وقد قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وابن عامر، والكوفيون {مُّدْخَلاً} بضم الميم. وقرأ أهل المدينة بفتح الميم، وكلاهما اسم مكان، ويجوز أن يكون مصدراً. وقد أخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، قال السيوطي بسند صحيح، عن ابن مسعود في قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل} قال: إنها محكمة ما نسخت، ولا تنسخ إلى يوم القيامة. وأخرج ابن جرير، عن عكرمة، والحسن في الآية قال: كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية، فنسخ ذلك الآية التي في النور: {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] الآية. وأخرج ابن ماجه، وابن المنذر، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما البيع عن تراض» وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي صالح، وعكرمة في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} قالا: نهاهم عن قتل بعضهم بعضاً. وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير، عن عطاء بن أبي رباح نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن السدي: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} قال: أهل دينكم. وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عدوانا وَظُلْماً} يعني: متعمداً اعتداء بغير حق: {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} يقول: كان عذابه على الله هيناً. وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت قوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عدوانا وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} في كل ذلك أم في قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ}؟ قال: بل في قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ}. وأخرج عبد بن حميد، عن أنس بن مالك قال: هان ما سألكم ربكم: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم}. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس قال: كل ما نهى الله عنه، فهو كبيرة، وقد ذكرت الطرفة: يعني النظرة. وأخرج ابن جرير، عنه قال: كل شيء عصى الله فيه، فهو كبيرة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: كل ما وعد الله عليه النار كبيرة. وأخرج ابن جرير، والبيهقي في الشعب عنه قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب. وأخرج ابن جرير، عن سعيد بن جبير ما قدّمنا عنه. وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس: أنه سئل عن الكبائر أسبع هي؟ قال: هي إلى السبعين أقرب. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه: أن رجلاً سأله كم الكبائر أسبع هي؟ قال: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار. وأخرج البيهقي في الشعب عنه: كل ذنب أصر عليه العبد كبيرة، وليس بكبيرة ما تاب عنه العبد. وقد ثبت في الصحيحين، وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات،» قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: «الشرك بالله، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " قلنا: بلى يا رسول الله، قال: " الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً، فجلس، فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، " فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ". وأخرج البخاري، وغيره عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس «شك شعبة» واليمين الغموس " وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، " قالوا: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: " يسبّ أبا الرجل، فيسبّ أباه، ويسبّ أمه، فيسبّ أمه " والأحاديث في تعداد الكبائر، وتعيينها كثيرة جداً، فمن رام الوقوف على ما ورد في ذلك، فعليه بكتاب الزواجر في الكبائر، فإنه قد جمع، فأوعى. واعلم أنه لا بد من تقييد ما في هذه الآية من تكفير السيئات بمجرد اجتناب الكبائر بما أخرجه النسائي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن أبي هريرة، وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر، ثم قال: " والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويؤدي الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة حتى إنها لتصفق، ثم تلا: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم} " وأخرج أبو عبيد في فضائله، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم، والبيهقي في الشعب، عن ابن مسعود قال: إن في سورة النساء خمس آيات ما يسرّني أن لي بها الدنيا، وما فيها، ولقد علمت أن العلماء إذا مرّوا بها يعرفونها: قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] الآية، وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] الآية، وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48، 116] الآية، وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ} [النساء: 64] الآية، وقوله: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء: 110] الآية.
|