الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*2*كِتَاب الْأَدَبِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الشرح: قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الأدب) . حذف بعضهم لفظ البر والصلة وبعضهم البسملة، واقتصر النسفي على قوله كتاب البر والصلة الخ. ووقع في أول " الأدب المفرد للبخاري " باب ما جاء في قول الله تعالى والأدب استعمال ما يحمد قولا وفعلا، وعبر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع المستحسنات، وقيل: هو تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك. وقيل: إنه مأخوذ من المأدبة وهي الدعوة إلى الطعام، سمي بذلك لأنه يدعى إليه. *3* الشرح: قوله: (باب البر والصلة، وقول الله سبحانه وتعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) كذا للأكثر، وحذف بعضهم لفظ البر والصلة وبعضهم البسملة، واقتصر النسفي على قوله كتاب البر والصلة الخ. ووقع في أول " الأدب المفرد للبخاري " باب ما جاء في قول الله تعالى والأدب استعمال ما يحمد قولا وفعلا، وعبر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع المستحسنات، وقيل: هو تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك. وقيل: إنه مأخوذ من المأدبة وهي الدعوة إلى الطعام، سمي بذلك لأنه يدعى إليه؛ وهذه الآية وقعت بهذا اللفظ في العنكبوت وفي الأحقاف لكن المراد هنا التي في العنكبوت. وقال ابن بطال: ذكر أهل التفسير أن هذه الآية التي في لقمان نزلت في سند بن أبي وقاص، كذا قال إنها التي في لقمان وليس كذلك، وقد أخرج مسلم من طريق مصعب بن سعد عن أبيه قال حلفت أم سعد لا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه. قالت: زعمت أن الله أوصاك بوالديك، فأنا أمك، وأنا آمرك بهذا، فنزلت (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفا) كذا وقع عنده، وفيه انتقال من آية إلى آية، فإن في آية العنكبوت (وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما - إلى - مرجعكم) والمذكور عنده بعد قوله: (وإن جاهداك على الخ) إنما هو في لقمان. وقد وقع عند الترمذي إلى قوله: (حسنا) الآية، فقط، ومثله عند أحمد لكن لم يقل " الآية"، ووقع في أخرى لأحمد (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن - وقرأ حتى بلغ - بما كنتم تعملون) وهذا القدر الأخير إنما هو في آية العنكبوت وأوله من آية لقمان، ويظهر لي أن الآيتين مما كانتا في الأصل ثابتتين فسقط بعضهما على بعض الرواة، والله أعلم. واسم أم سعد بن أبي وقاص حمنة - بفتح المهملة وسكون الميم بعدها نون - بنت سفيان بن أمية، وهي ابنة عم أبي سفيان بن حرب بن أمية، ولم أر في شيء من الأخبار أنها أسلمت. واقتضت الآية الوصية بالوالدين والأمر بطاعتهما ولو كانا كافرين، إلا إذا أمرا بالشرك فتجب معصيتهما في ذلك، ففيها بيان ما أجمل في غيرها، وكذا في حديث الباب، من الأمر ببرهما. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عَيْزَارٍ أَخْبَرَنِي قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ يَقُولُ أَخْبَرَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي بِهِنَّ وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي الشرح: قوله: (قال الوليد بن عيزار أخبرني) هو من تقديم اسم الراوي على الصيغة وهو جائز، وكان شعبة يستعمله كثيرا، ووقع لبعضهم " العيزار " بزيادة ألف ولام في أوله، وكذا تقدم في أوائل الصلاة مع كثير من فوائد الحديث ولله الحمد. وقال ابن التين: تقديم البر على الجهاد يحتمل وجهين: أحدهما: التعدية إلى نفع الغير، والثاني: أن الذي يفعله يرى أنه مكافأة على فعلهما، فكأنه يرى أن غيره أفضل منه، فنبهه على إثبات الفضيلة فيه. قلت: والأول ليس بواضح، ويحتمل أنه قدم لتوقف الجهاد عليه، إذ من بر الوالدين استئذانهما في الجهاد لثبوت النهي عن الجهاد بغير إذنهما كما يأتي قريبا. *3* الشرح: قوله: (باب من أحق الناس بحسن الصحبة) الصحبة والصحابة مصدران بمعنى، وهو المصاحبة أيضا. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ شُبْرُمَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي قَالَ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أَبُوكَ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ مِثْلَهُ الشرح: قوله: (حدثنا جرير) هو ابن عبد الحميد. قوله: (عمارة بن القعقاع بن شبرمة) بضم المعجمة والراء بينهما موحدة كذا للأكثر ووقع عند النسفي وكذا لأبي ذر عن الحموي والمستملي " عن عمارة بن القعقاع وابن شبرمة " بزيادة واو والصواب حذفها فإن رواية ابن شبرمة قد علقها المصنف عقب رواية عمارة وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق زهير بن حرب عن جرير عن عمارة حسب. قوله: (جاء رجل) يحتمل أنه معاوية بن حيدة بفتح المهملة وسكون التحتانية، وهو جد بهز بن حكيم، فقد أخرج المصنف في " الأدب المفرد " من حديثه " قال قلت: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك " الحديث. وأخرجه أبو داود والترمذي. قوله: (فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي) ؟ في رواية محمد بن فضيل عن عمارة عند مسلم " بحسن الصحبة " وعنده في رواية شريك عن عمارة وابن شبرمة جميعا عن أبي زرعة قال مثل رواية جرير، وزاد " فقال نعم وأبيك لتنبأن " وقد أخرجه ابن ماجه من هذا الوجه مطولا وزاد فيه حديث " أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح " وأخرجه أحمد من طريق شريك فقال في أوله: " يا رسول الله نبئني بأحق الناس مني صحبة " ووجدته في النسخة بلفظ " فقال نعم والله " بدل " وأبيك " فلعلها تصحفت، وقوله: " وأبيك " لم يقصد به القسم وإنما هي كلمة تجري لإرادة تثبيت الكلام، ويحتمل أن يكون ذلك وقع قبل النهي عن الحلف بالآباء. قوله: (قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك) كذا للجميع بالرفع ووقع عند مسلم من هذا الوجه وعند المصنف في " الأدب المفرد " من وجه آخر بالنصب، وفي آخر " ثم أباك " والأول ظاهر ويخرج الثاني على إضمار فعل. ووقع صريحا عند المصنف في " الأدب المفرد " كما سأنبه عليه، وهكذا وقع تكرار الأم ثلاثا وذكر الأب في الرابعة، وصرح بذلك في الرواية يحيى بن أيوب ولفظه " ثم عاد الرابعة فقال: بر أباك " وكذا وقع في رواية بهز بن حكيم وزاد في آخره ثم " الأقرب فالأقرب " وله شاهد من حديث خداش أبي سلامة رفعه " أوصي امرءا بأمه، أوصى امرءا بأمه، أوصي امرءا بأمه، أوصي امرءا بأبيه، أوصي امرءا بمولاه الذي يليه، وإن كان عليه فيه أذى يؤذيه " أخرجه ابن ماجه والحاكم، قال ابن بطال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية. وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: قال القرطبي: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة. وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب، وقيل يكون برهما سواء، ونقله بعضهم عن مالك والصواب الأول. قلت: إلى الثاني ذهب بعض الشافعية، لكن نقل الحارث المحاسبي الإجماع على تفضيل الأم في البر وفيه نظر، والمنقول عن مالك ليس صريحا في ذلك فقد ذكره ابن بطال قال: سئل مالك طلبني أبي فمنعتني أمي، قال: أطع أباك ولا تعص أمك قال ابن بطال: هذا يدل على أنه يرى برهما سواء، كذا قال وليست الدلالة على ذلك بواضحة، قال: وسئل الليث يعني عن المسألة بعينها فقال: أطع أمك فإن لها ثلثي البر، وهذا يشير إلى الطريق التي لم يتكرر ذكر الأم فيه إلا مرتين. وقد وقع كذلك في رواية محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عند مسلم في الباب، ووقع كذلك في حديث المقدام بن معدي كرب فيما أخرجه المصنف في " الأدب المفرد " وأحمد وابن ماجه وصححه الحاكم ولفظه " إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب " وكذا وقع في حديث بهز بن حكيم كما تقدم، وكذا في آخر رواية محمد بن فضيل المذكورة عند مسلم بلفظ " ثم أدناك فأدناك " وفي حديث أبي رمثة بكسر الراء وسكون الميم بعدها مثلثة " انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: أمك وأباك، ثم أختك وأخاك، ثم أدناك أدناك " أخرجه الحاكم هكذا، وأصله عند أصحاب السنن الثلاثة وأحمد وابن حبان، والمراد بالدنو القرب إلى البار. قال عياض: تردد بعض العلماء في الجد والأخ، والأكثر على تقديم الجد. قلت: وبه جزم الشافعية، قالوا: يقدم الجد ثم الأخ، ثم يقدم من أدلى بأبوين على من أدلى بواحد، ثم تقدم القرابة من ذوي الرحم، ويقدم منهم المحارم على من ليس بمحرم، ثم سائر العصبات، ثم المصاهرة ثم الولاء، ثم الجار. وسيأتي الكلام على حكمه بعد. وأشار ابن بطال إلى أن الترتيب حيث لا يمكن إيصال البر دفعة واحدة وهو واضح، وجاء ما يدل على تقديم الأم في البر مطلقا، وهو ما أخرجه أحمد والنسائي وصححه الحاكم من حديث عائشة " سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال: زوجها. قلت: فعلى الرجل؟ قال: أمه " ومؤيد تقديم الأم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده " أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال: أنت أحق به ما لم تنكحي " كذا أخرجه الحاكم وأبو داود. فتوصلت لاختصاصها به وباختصاصه بها في الأمور الثلاثة. قوله: (وقال ابن شبرمة ويحيى بن أيوب حدثنا أبو زرعة مثله) أما ابن شبرمة فهو عبد الله الفقيه المشهور الكوفي، وهو ابن عم عمارة بن القعقاع المذكور قبل، وطريقه هذه وصلها المؤلف في " الأدب المفرد " قال: " حدثنا سليمان بن حرب حدثنا وهيب بن خالد عن ابن شبرمة سمعت أبا زرعة " فذكر بلفظ " قيل: يا رسول الله من أبر " والباقي مثل رواية جرير سواء لكن على سياق مسلم، وأما يحيى بن أيوب فهو حفيد أبي زرعة بن عمرو بن جرير شيخه في هذا الحديث ولهذا يقال له الجريري، وطريقه هذه وصلها المؤلف أيضا في " الأدب المفرد " وأحمد كلاهما من طريق عبد الله هو ابن المبارك " أنبأنا يحيى بن أيوب حدثنا أبو زرعة " فذكره بلفظ " أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تأمرني؟ فقال: بر أمك ثم عاد " الحديث وكذا هو في " كتاب البر والصلة لابن المبارك " ونقل المحاسبي الإجماع على أن الأم مقدمة في البر على الأب. *3* الشرح: قوله: (باب لا يجاهد إلا بإذن الأبوين) ذكر فيه حديث عبد الله بن عمرو وقد تقدم شرحه في كتاب الجهاد. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ وَشُعْبَةَ قَالَا حَدَّثَنَا حَبِيبٌ قَالَ ح و حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُجَاهِدُ قَالَ لَكَ أَبَوَانِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ الشرح: حبيب المذكور في السند هو حبيب بن أبي ثابت، وسفيان في الطريقين هو الثوري، وترجم له هناك في الجهاد بإذن الأبوين، ووقع عند أحمد من حديث أبي سعيد " هاجر رجل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هل باليمن أبواك؟ قال: نعم قال: أذنا لك؟ قال: لا قال: ارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك وإلا فبرهما " وقوله: " ففيهما فجاهد " أي إن كان لك أبوان فابلغ جهدك في برهما والإحسان إليهما، فإن ذلك يقوم لك مقام قتال العدو. *3* الشرح: قوله: (باب لا يسب الرجل والديه) أي ولا أحدهما، أي لا يتسبب إلى ذلك. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالَ يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ الشرح: قوله: (إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه) سيأتي بعد باب عد العقوق في أكبر الكبائر، والمذكور هنا فرد من أفراد العقوق، وإن كان التسبب إلى لعن الوالد من أكبر الكبائر فالتصريح بلعنه أشد، وترجم بلفظ السب وساقه بلفظ اللعن إشارة إلى ما وقع في بقية الحديث، وقد وقع أيضا في بعض طرقه وهو في " الأدب المفرد " من طريق عروة بن عياض سمع عبد الله بن عمرو يقول: " من الكبائر عند الله أن يسب الرجل والده " وقد أخرجه المصنف في " الأدب المفرد " من طريق سفيان الثوري ومسلم من طريق يزيد بن الهاد كلاهما عن سعد بن إبراهيم بلفظ " من الكبائر شتم الرجل " وفي رواية المصنف " أن يشتم الرجل والديه". قوله: (قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه) ؟ هو استبعاد من السائل، لأن الطبع المستقيم يأبى ذلك، فبين في الجواب أنه وإن لم يتعاط السب بنفسه في الأغلب الأكثر لكن قد يقع منه التسبب فيه وهو مما يمكن وقوعه كثيرا. قال ابن بطال هذا الحديث أصل في سد الذرائع ويؤخذ منه أن من آل فعله إلى محرم يحرم عليه ذلك الفعل وإن لم يقصد إلى ما يحرم، والأصل في هذا الحديث قوله تعالى: واستنبط منه الماوردي منع بيع الثوب الحرير ممن يتحقق أنه يلبسه، والغلام الأمرد ممن يتحقق أنه يفعل به الفاحشة، والعصير ممن يتحقق أنه يتخذه خمرا. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: فيه دليل على عظم حق الأبوين. وفيه العمل بالغالب لأن الذي يسب أبا الرجل يجوز أن يسب الآخر أباه ويجوز أن لا يفعل لكن الغالب أن يجيبه بنحو قوله. وفيه مراجعة الطالب لشيخه فيما يقوله مما يشكل عليه وفيه إثبات الكبائر وسيأتي البحث فيه قريبا، وفيه أن الأصل يفضل الفرع بأصل الوضع ولو فضله الفرع ببعض الصفات. *3* الشرح: قوله: (باب إجابة دعاء من بر والديه) ذكر فيه قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم فم الغار حتى ذكروا أعمالهم الصالحة ففرج عنهم، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الإجارة. الحديث: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشَوْنَ أَخَذَهُمْ الْمَطَرُ فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِي الْجَبَلِ فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ انْظُرُوا أَعْمَالاً عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ صَالِحَةً فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا لَعَلَّهُ يَفْرُجُهَا فَقَالَ أَحَدُهُمْ اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ فَحَلَبْتُ بَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ وَلَدِي وَإِنَّهُ نَاءَ بِيَ الشَّجَرُ فَمَا أَتَيْتُ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ فَجِئْتُ بِالْحِلَابِ فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا وَأَكْرَهُ أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ فَفَرَجَ اللَّهُ لَهُمْ فُرْجَةً حَتَّى يَرَوْنَ مِنْهَا السَّمَاءَ وَقَالَ الثَّانِي اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ أُحِبُّهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ فَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَسَعَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ فَلَقِيتُهَا بِهَا فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفْتَحْ الْخَاتَمَ فَقُمْتُ عَنْهَا اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فَفَرَجَ لَهُمْ فُرْجَةً وَقَالَ الْآخَرُ اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيراً بِفَرَقِ أَرُزٍّ فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ أَعْطِنِي حَقِّي فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ فَتَرَكَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَراً وَرَاعِيَهَا فَجَاءَنِي فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَظْلِمْنِي وَأَعْطِنِي حَقِّي فَقُلْتُ اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَهْزَأْ بِي فَقُلْتُ إِنِّي لَا أَهْزَأُ بِكَ فَخُذْ ذَلِكَ الْبَقَرَ وَرَاعِيَهَا فَأَخَذَهُ فَانْطَلَقَ بِهَا فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ مَا بَقِيَ فَفَرَجَ اللَّهُ عَنْهُمْ الشرح: قوله في هذه: " على فم غارهم " في رواية الكشميهني " باب " بدل " فم " وقوله: " فأطبقت " تقدم توجيهه في أواخر أحاديث الأنبياء. ووقع هنا في رواية الكشميهني " فتطابقت". وقوله: " نأى " أي بعد، والشجر بمعجمة وجيم للأكثر وفي رواية الكشميهني بالمهملتين، والأول أولى فإن في الخبر أنه رجع بعد أن ناما ينتظر استيقاظهما إلى الصباح حتى انتبها من قبل أنفسهما، وإنما قال: " بعد بي الشجر " أي لطلب المرعى. وقوله: " فرجة يرون منها السماء " في رواية " حتى رأوا " ووقع هنا للحموي: وقص الحديث بطوله، وساقه الباقون. وقوله: يحب الرجال النساء، في رواية الكشميهني " الرجل " بالإفراد. وقوله: " تلك البقر " في رواية الكشميهني " ذلك البقر " في الموضعين، والإشارة فيه إلى الجنس. *3* قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (باب) بالتنوين. قوله: (عقوق الوالدين من الكبائر، قاله ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم) كذا في رواية أبي ذر " عمر " بضم العين، وللأصيلي عمرو بفتحها، وكذا هو في بعض النسخ عن أبي ذر وهو المحفوظ، وسيأتي في كتاب الأيمان والنذور موصولا من رواية الشعبي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس " ولابن عمر حديث في العاق أخرجه النسائي والبزار وصححه ابن حبان والحاكم بلفظ " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان " وأخرج أحمد والنسائي وصححه الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أيضا نحو حديث ابن عمر هذا لكن قال: " الديوث " بدل " المنان " والديوث بمهملة ثم تحتانية وآخره مثلثة بوزن فروج وقع تفسيره في نفس الخبر أنه الذي يقر الخبث في أهله، والعقوق بضم العين المهملة مشتق من العق وهو القطع، والمراد به صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل إلا في شرك أو معصية ما لم يتعنت الوالد، وضبطه ابن عطية بوجوب طاعتهما في المباحات فعلا وتركا واستحبابها في المندوبات، وفروض الكفاية كذلك، ومنه تقديمهما عبد تعارض الأمرين وهو كمن دعته أمه ليمرضها مثلا بحيث يفوت عليه فعل واجب إن استمر عندها ويفوت ما قصدته من تأنيسه لها وغير ذلك لو تركها وفعله وكان مما يمكن تداركه مع فوات الفضيلة كالصلاة أول الوقت أو في الجماعة. الحديث: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْمُسَيَّبِ عَنْ وَرَّادٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَمَنْعاً وَهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ الشرح: حديث المغيرة بن شعبة. قوله: (عن منصور) هو ابن المعتمر، والمسيب هو ابن رافع، ووراد هو كاتب المغيرة بن شعبة، والسند كله كوفيون. ووقع التصريح بسماع منصور له من المسيب في الدعوات، وقد تقدم في الاستقراض من رواية عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور كالذي هنا، وذكر المزي في " الأطراف " أن في رواية منصور عن المسيب عند البخاري ذكر عقوق الأمهات فقط، وليس كما قال بل هو بتمامه في الموضعين، لكنه في الأصل طرف من حديث مطول سيأتي في القدر من طريق عبد الملك بن عمير. وفي الرقاق من طريق الشعبي كلاهما عن وراد أن معاوية كتب إلى المغيرة أن اكتب إلي بحديث سمعته، فذكر الحديث في التهليل عقب الصلوات، قال: وكان ينهى، فذكر ما هنا، وسيأتي في الدعوات أوله فقط من رواية قتيبة عن جرير دون ما في آخره. والحاصل أنه فرقه من حديث جرير عن منصور في موضعين، ويحتمل أنه كان عند شيخه هكذا، وتقدم في الزكاة من طريق أخرى عن الشعبي مقتصرا على الذي هنا أيضا. قوله: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات) تقدم في الاستقراض الإشارة إلى حكمة اختصاص الأم بالذكر، وهو من تخصيص الشيء بالذكر إظهارا لعظم موقعه. والأمهات جمع أمهة وهي لمن يعقل، بخلاف لفظ الأم فإنه أعم. قوله: (ومنعا وهات) وقع في رواية غير أبي ذر وفي الاستقراض " ومنع " بغير تنوين، وهي في الموضعين بسكون النون مصدر منع يمنع، وسيأتي ما يتعلق به في الكلام على " قيل وقال " وأما هات فبكسر المثناة فعل أمر من الإيتاء قال الخليل: أصل هات آت فقلبت الألف هاء. والحاصل من النهي منع ما أمر بإعطائه وطلب ما لا يستحق أخذه، ويحتمل أن يكون النهي عن السؤال مطلقا كما سيأتي بسط القول فيه قريبا، ويكون ذكره هنا مع ضده ثم أعيد تأكيدا للنهي عنه، ثم هو محتمل أن يدخل في النهي ما يكون خطابا لاثنين كما ينهى الطالب عن طلب ما لا يستحقه وينهى المطلوب منه عن إعطاء ما لا يستحقه الطالب لئلا يعينه على الإثم. قوله: (ووأد البنات) بسكون الهمزة هو دفن البنات بالحياة، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك كراهة فيهن، ويقال إن أول من فعل ذلك قيس بن عاصم التميمي، وكان بعض أعدائه أغار عليه فأسر بنته فاتخذها لنفسه ثم حصل بينهم صلح فخير ابنته فاختارت زوجها. فآلى قيس على نفسه أن لا تولد له بنت إلا دفنها حية، فتبعه العرب في ذلك، وكان من العرب فريق ثان يقتلون أولادهم مطلقا، إما نفاسة منه على ما ينقصه من ماله، وإما من عدم ما ينفقه عليه، وقد ذكر الله أمرهم في القرآن في عدة آيات، وكان صعصعة بن ناجية التميمي أيضا وهو جد الفرزدق همام بن غالب بن صعصعة أول من فدى الموءودة، وذلك أنه كان يعمد إلى من يريد أن يفعل ذلك فيفدي الولد منه بمال يتفقان عليه، وإلى ذلك أشار الفرزدق بقوله: وجدي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم يوأد وهذا محمول على الفريق الثاني، وقد بقي كل من قيس وصعصعة إلى أن أدركا الإسلام ولهما صحبة، وإنما خص البنات بالذكر لأنه كان الغالب من فعلهم، لأن الذكور مظنة القدرة على الاكتساب. وكانوا في صفة الوأد على طريقين: أحدهما أن يأمر امرأته إذا قرب وضعها أن تطلق بجانب حفيرة، فإذا وضعت ذكرا أبقته وإذا وضعت أنثى طرحتها في الحفيرة، وهذا أليق بالفريق الأول. ومنهم من كان إذا صارت البنت سداسية قال لأمها: طيبيها وزينيها لأزور بها أقاربها، ثم يبعد بها في الصحراء حتى يأتي البئر فيقول لها انظري فيها ويدفعها من خلفها ويطمها، وهذا اللائق بالفريق الثاني، والله أعلم. قوله: (وكره لكم قيل وقال) في رواية الشعبي " وكان ينهى عن قيل وقال " كذا للأكثر في جميع المواضع بغير تنوين، ووقع في رواية الكشميهني هنا " قيلا وقالا " والأول أشهر، وفيه تعقب على من زعم أنه جائز ولم تقع به الرواية، قال الجوهري: قيل وقال اسمان، يقال كثير القيل والقال، كذا جزم بأنهما اسمان، وأشار إلى الدليل على ذلك بدخول الألف واللام عليهما. وقال ابن دقيق العيد: لو كانا اسمين بمعنى واحد كالقول لم يكن لعطف أحدهما على الآخر فائدة، فأشار إلى ترجيح الأول. وقال المحب الطبري في قيل وقال ثلاثة أوجه: أحدها: أنهما مصدران للقول، تقول قلت قولا وقيلا وقالا والمراد في الأحاديث الإشارة إلى كراهة كثرة الكلام لأنها تؤول إلى الخطأ، قال: وإنما كرره للمبالغة في الزجر عنه، ثانيها: إرادة حكاية أقاويل الناس والبحث عنها ليخبر عنها فيقول: قال فلان كذا وقيل كذا، والنهي عنه إما للزجر عن الاستكثار منه، وإما لشيء مخصوص منه وهو ما يكرهه المحكي عنه. ثالثها: أن ذلك في حكاية الاختلاف في أمور الدين كقوله: قال فلان كذا وقال فلان كذا، ومحل كراهة ذلك أن يكثر من ذلك بحيث لا يؤمن مع الإكثار من الزلل، وهو مخصوص بمن ينقل ذلك من غير تثبت، ولكن يقلد من سمعه ولا يحتاط له. قلت: ويؤيد ذلك الحديث الصحيح " كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع " أخرجه مسلم، وفي " شرح المشكاة " قوله: قيل وقال من قولهم قيل كذا وقال كذا، وبناؤهما على كونهما فعلين محكيين متضمنين للضمير والإعراب على إجرائهما مجرى الأسماء خلوهن من الضمير، ومنه قوله: " إنما الدنيا قيل وقال " وإدخال حرف التعريف عليهما في قوله: ما يعرف القال القيل لذلك. قوله: (وكثرة السؤال) تقدم في كتاب الزكاة بيان الاختلاف في المراد منه وهل هو سؤال المال، أو السؤال عن المشكلات والمعضلات، أو أعم من ذلك؟ وأن الأولى حمله على العموم. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد به كثرة السؤال عن أخبار الناس وأحداث الزمان، أو كثرة سؤال إنسان بعينه عن تفاصيل حاله، فإن ذلك مما يكره المسئول غالبا. وقد ثبت النهي عن الأغلوطات أخرجه أبو داود من حديث معاوية. وثبت عن جمع من السلف كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة أو يندر جدا، وإنما كرهوا ذلك لما فيه من التنطع والقول بالظن، إذ لا يخلو صاحبه من الخطأ وأما ما تقدم في اللعان فكره النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، وكذا في التفسير في قوله تعالى: قال: واختلف أصحابنا في سؤال القادر على الكسب على وجهين أصحهما التحريم لظاهر الأحاديث. والثاني: يجوز مع الكراهة بشروط ثلاثة: أن لا يلح ولا يذل نفسه زيادة على ذل نفس السؤال، ولا يؤذي المسئول. فإن فقد شرط من ذلك حرم. وقال الفكهاني: يتعجب ممن قال بكراهة السؤال مطلقا مع وجود السؤال في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ثم السلف الصالح من غير نكير، فالشارع لا يقر على مكروه. قلت: لعل من كره مطلقا أراد أنه خلاف الأولى، ولا يلزم من وقوعه أن تتغير صفته ولا من تقريره أيضا، وينبغي حمل حال أولئك على السداد؛ وأن السائل منهم غالبا ما كان يسأل إلا عند الحاجة الشديدة. وفي قوله: " من غير نكير " نظر ففي الأحاديث الكثيرة الواردة في ذم السؤال كفاية في إنكار ذلك. (تنبيه) : جميع ما تقدم فيما سأل لنفسه، وأما إذا سأل لغيره فالذي يظهر أيضا أنه يختلف باختلاف الأحوال. قوله: (وإضاعة المال) تقدم في الاستقراض أن الأكثر حملوه على الإسراف في الإنفاق، وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام، والأقوى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعا سواء كانت دينية أو دنيوية فمنع منه، لأن الله تعالى جعل المال قياما لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح، إما في حق مضيعها وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل ثواب الآخرة ما لم يفوت حقا أخرويا أهم منه. والحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه: الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعا فلا شك في منعه، والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعا فلا شك في كونه مطلوبا بالشرط المذكور، والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذ النفس، فهذا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف. والثاني: ما لا يليق به عرفا، وهو ينقسم أيضا إلى قسمين: أحدهما: ما يكون لدفع مفسدة إما ناجزة أو متوقعة، فهذا ليس بإسراف، والثاني: ما لا يكون في شيء من ذلك فالجمهور على أنه إسراف، وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف قال: لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية فهو مباح له. قال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال ا هـ. وقد صرح بالمنع القاضي حسين فقال في كتاب قسم الصدقات: هو حرام، وتبعه الغزالي، وجزم به الرافعي في الكلام على المغارم، وصحح في باب الحجر من الشرح وفي المحرر أنه ليس بتبذير، وتبعه النووي، والذي يترجح أنه ليس مذموما لذاته، لكنه يفضي غالبا إلى ارتكاب المحذور كسؤال الناس، وما أدى إلى المحذور فهو محذور. وقد تقدم في كتاب الزكاة البحث في جواز التصدق بجميع المال وأن ذلك يجوز لمن عرف من نفسه الصبر على المضايقة، وجزم الباجي من المالكية بمنع استيعاب جميع المال بالصدقة قال: ويكره كثرة إنفاقه في مصالح الدنيا، ولا بأس به إذا وقع نادرا لحادث يحدث كضيف أو عيد أو وليمة. ومما لا خلاف في كراهته مجاوزة الحد في الإنفاق على البناء زيادة على قدر الحاجة، ولا سيما إن أضاف إلى ذلك المبالغة في الزخرفة ومنه احتمال الغبن الفاحش في البياعات بغير سبب. وأما إضاعة المال في المعصية فلا يختص بارتكاب الفواحش، بل يدخل فيها سوء القيام على الرقيق والبهائم حتى يهلكوا، ودفع مال من لم يؤنس منه الرشد إليه، وقسمه ما لا ينتفع بجزئه كالجوهرة النفيسة. وقال السبكي الكبير في " الحلبيات ": الضابط في إضاعة المال أن لا يكون لغرض ديني ولا دنيوي، فإن انتفيا حرم قطعا، وإن وجد أحدهما وجودا له بال وكان الإنفاق لائقا بالحال ولا معصية فيه جاز قطعا. وبين الرتبتين وسائط كثيرة لا تدخل تحت ضابط. فعلى المفتي أن يرى فيما تيسر منها رأيه، وأما ما لا يتيسر فقد تعرض له؛ فالإنفاق في المعصية حرام كله، ولا نظر إلى ما يحصل في مطلوبه من قضاء شهوة ولذة حسنة. وأما إنفاقه في الملاذ المباحة فهو موضع الاختلاف، فطاهر قوله تعالى: ثم قال: ومن بذل مالا كثيرا في غرض يسير تافه عده العقلاء مضيعا، بخلاف عكسه، والله أعلم. قال الطيبي: هذا الحديث أصل في معرفة حسن الخلق، وهو تتبع جميع الأخلاق الحميدة والخلال الجميلة. الحديث: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْوَاسِطِيُّ عَنْ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئاً فَجَلَسَ فَقَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ لَا يَسْكُتُ الشرح: قوله: (حدثني إسحاق) هو ابن شاهين الواسطي، وخالد هو ابن عبد الله الطحان، والجريري بضم الجيم هو سعيد بن إياس، وهو ممن اختلط ولم أر من صرح بأن سماع خالد منه قبل الاختلاط ولا بعده، لكن تقدم في الشهادات من طريق بشر بن المفضل ويأتي في استتابة المرتدين من رواية إسماعيل بن علية كلاهما عن الجريري، وإسماعيل ممن سمع من الجريري قبل اختلاطه، وبين في الشهادات تصريح الجريري في رواية إسماعيل عنه بتحديث عبد الرحمن بن أبي بكرة له به. قوله: (ألا أنبئكم) في رواية بشر بن المفضل عن الجريري في الاستئذان " ألا أخبركم". قوله: (بأكبر الكبائر ثلاثا) أي قالها ثلاث مرات على عادته في تكرير الشيء ثلاث مرات تأكيدا لينبه السامع على إحضار قلبه وفهمه للخبر الذي يذكره وفهم بعضهم منه أن المراد بقوله: " ثلاثا " عدد الكبائر وهو بعيد، ويؤيد الأول أن أول رواية إسماعيل بن علية في استتابة المرتدين " أكبر الكبائر الإشراك، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور ثلاثا " وقد اختلف السلف فذهب الجمهور إلى أن من الذنوب كبائر، ومنها صغائر، وشذت طائفة منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني فقال: ليس في الذنوب صغيرة بل كل ما نهى الله عنه كبيرة، ونقل ذلك عن ابن عباس، وحكاه القاضي عياض عن المحققين، واحتجوا بأن كل مخالفة لله فهي بالنسبة إلى جلاله كبيرة ا هـ. ونسبه ابن بطال إلى الأشعرية فقال: انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر هو قول عامة الفقهاء، وخالفهم من الأشعرية أبو بكر بن الطيب وأصحابه فقالوا: المعاصي كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال القبلة المحرمة صغيرة بإضافتها إلى الزنا وكلها كبائر، قالوا: ولا ذنب عندنا يغفر واجبا باجتناب ذنب آخر بل كل ذلك كبيرة، ومرتكبه في المشيئة غير الكفر، لقوله تعالى: وأجابوا عن الآية التي احتج أهل القول الأول بها وهي قوله تعالى: وقد قال الفراء: من قرأ " كبائر " فالمراد بها كبير، وكبير الإثم هو الشرك، وقد يأتي لفظ الجمع والمراد به الواحد كقوله تعالى: قال النووي: قد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة إلى القول الأول. وقال الغزالي في " البسيط " إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه. قلت: قد حقق إمام الحرمين المنقول عن الأشاعرة واختاره وبين أنه لا يخالف ما قاله الجمهور. فقال في " الإرشاد ": المرضي عندنا أن كل ذنب يعصى الله به كبيرة، فرب شيء يعد صغيرة بالإضافة إلى الأقران ولو كان في حق الملك لكان كبيرة، والرب أعظم من عصي، فكل ذنب بالإضافة إلى مخالفته عظيم، ولكن الذنوب وإن عظمت فهي متفاوتة في رتبها. وظن بعض الناس أن الخلاف لفظي فقال: التحقيق أن للكبيرة اعتبارين: فبالنسبة إلى مقايسة بعضها لبعض فهي تختلف قطعا، وبالنسبة إلى الآمر الناهي فكلها كبائر ا هـ. والتحقيق أن الخلاف معنوي، وإنما جرى إليه الأخذ بظاهر الآية، والحديث الدال على أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر كما تقدم، والله أعلم. وقال القرطبي: ما أظنه يصح عن ابن عباس أن كل ما نهى الله عز وجل عنه كبيرة لأنه مخالف لظاهر القرآن في الفرق بين الصغائر والكبائر في قوله: وقال الطيبي: الصغيرة والكبيرة أمران نسبيان، فلا بد من أمر يضافان إليه وهو أحد ثلاثة أشياء: الطاعة أو المعصية أو الثواب. فأما الطاعة فكل ما تكفره الصلاة مثلا هو من الصغائر، وكل ما يكفره الإسلام أو الهجرة فهو من الكبائر. وأما المعصية فكل معصية يستحق فاعلها بسببها وعيدا أو عقابا أزيد من الوعيد أو العقاب المستحق بسبب معصية أخرى فهي كبيرة وأما الثواب ففاعل المعصية إذا كان من المقربين فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة، فقد وقعت المعاتبة في حق بعض الأنبياء على أمور لم تعد من غيرهم معصية ا هـ. وكلامه فيما يتعلق بالوعيد والعقاب يخصص عموم من أطلق أن علامة الكبيرة ورود الوعيد أو العقاب في حق فاعلها. لكن يلزم منه أن مطلق قتل النفس مثلا ليس كبيرة، كأنه وإن ورد الوعيد فيه أو العقاب لكن ورد الوعيد والعقاب في حق قاتل ولده أشد، فالصواب ما قاله الجمهور وأن المثال المذكور وما أشبهه ينقسم إلى كبيرة وأكبر، والله أعلم. قال النووي: واختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافا كثيرا منتشرا، فروي عن ابن عباس أنها كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، قال: وجاء نحو هذا عن الحسن البصري. وقال آخرون: هي ما أوعد الله عليه بنار في الآخرة أو أوجب فيه حدا في الدنيا. قلت: وممن نص على هذا الأخير الإمام أحمد فيما نقله القاضي أبو يعلى، ومن الشافعية الماوردي ولفظه: الكبيرة ما وجبت فيه الحدود، أو توجه إليها الوعيد. والمنقول عن ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم بسند لا بأس به، إلا أن فيه انقطاعا. وأخرج من وجه آخر متصل لا بأس برجاله أيضا عن ابن عباس قال: كل ما توعد الله عليه بالنار كبيرة. وقد ضبط كثير من الشافعية الكبائر بضوابط أخرى، منها قول إمام الحرمين: كل جريمة تؤذن بقلة اكثراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة. وقول الحليمي: كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه. وقال الرافعي: هي ما أوجب الحد. وقيل: ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة. هذا أكثر ما يوجد للأصحاب وهم إلى ترجيح الأول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر ا هـ كلامه. وقد استشكل بأن كثيرا مما وردت النصوص بكونه كبيرة لا حد فيه كالعقوق، وأجاب بعض الأئمة بأن مراد قائله ضبط ما لم يرد فيه نص بكونه كبيرة. وقال ابن: عبد السلام في " القواعد ": لم أقف لأحد من العلماء على ضابط للكبيرة لا يسلم من الاعتراض، والأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعارا دون الكبائر المنصوص عليها. قلت: وهو ضابط جيد. وقال القرطبي في " المفهم ": الراجح أن كل ذنب نص على كبره أو عظمه أو توعد عليه بالعقاب أو علق عليه حد أو شدد النكير عليه فهو كبيرة، وكلام ابن الصلاح يوافق ما نقل أولا عن ابن عباس، وزاد إيجاب الحد، وعلى هذا يكثر عدد الكبائر. فأما ما ورد النص الصريح بكونه كبيرة فسيأتي القول فيه في الكلام على حديث أبي هريرة " اجتنبوا السبع الموبقات " في كتاب استتابة المرتدين، ونذكر هناك ما ورد في الأحاديث زيادة على السبع المذكورات مما نص على كونها كبيرة أو موبقة. وقد ذهب آخرون إلى أن الذنوب التي لم ينص على كونها كبيرة مع كونها كبيرة لا ضابط لها، فقال الواحدي: ما لم ينص الشارع على كونه كبيرة فالحكمة في إخفائه أن يمتنع العبد من الوقوع فيه خشية أن يكون كبيرة، كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والاسم الأعظم، والله أعلم. (فصل) قوله: " أكبر الكبائر " ليس على ظاهره من الحصر بل " من " فيه مقدرة، فقد ثبت في أشياء أخر أنها من أكبر الكبائر، منها حديث أنس في قتل النفس وسيأتي بيانه في الذي بعده، وحديث ابن مسعود " أي الذنب أعظم " فذكر فيه الزنا بحليلة الجار وسيأتي بعد أبواب، وحديث عبد الله بن أنيس الجهني مرفوعا قال: " من أكبر الكبائر - فذكر منها - اليمين الغموس " أخرجه الترمذي بسند حسن، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد، وحديث أبي هريرة رفعه " إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم " أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن، وحديث بريدة رفعه " من أكبر الكبائر - فذكر منها - منع فضل الماء ومنع الفحل " أخرجه البزار بسند ضعيف، وحديث ابن عمر رفعه " أكبر الكبائر سوء الظن بالله " أخرجه ابن مردويه بسند ضعيف، ويقرب منه حديث أبي هريرة مرفوعا " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي " الحديث وقد تقدم قريبا في كتاب اللباس، وحديث عائشة " أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " أخرجه الشيخان، وتقدم قريبا حديث عبد الله بن عمرو " من أكبر الكبائر أن يسب الرجل أباه " ولكنه من جملة العقوق، قال ابن دقيق العيد: يستفاد من قوله: " أكبر الكبائر " انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر، ويستنبط منه أن في الذنوب صغائر، لكن فيه نظر، لأن من قال كل ذنب كبيرة فالكبائر والذنوب عنده متواردان على شيء واحد، فكأنه قيل: ألا أنبئكم بأكبر الذنوب؟ قال ولا يلزم من كون الذي ذكر أنه أكبر الكبائر استواؤها فإن الشرك بالله أعظم من جميع ما ذكر معه. قوله: (الإشراك بالله) قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يراد به مطلق الكفر، ويكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود، لا سيما في بلاد العرب، فذكر تنبيها على غيره من أصناف الكفر. ويحتمل أن يراد به خصوصه إلا أنه يرد على هذا الاحتمال أنه قد يظهر أن بعض الكفر أعظم من الشرك وهو التعطيل فيترجح الاحتمال الأول على هذا. قوله: (وعقوق الوالدين) تقدم الكلام عليه قريبا، وذكر قبله في حديث أنس الآتي بعده قتل النفس والمراد قتلها بغير حق، . قوله: (وكان متكئا فجلس) في رواية بشر بن المفضل عن الجريري في الشهادات " وجلس وكان متكئا " وأما في الاستئذان فكالأول. قوله: (فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يقولها حتى قلت لا يسكت) هكذا في هذه الطريق، ووقع في رواية بشر بن المفضل " فقال ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " أي تمنيناه يسكت إشفاقا عليه لما رأوا من انزعاجه في ذلك. وقال ابن دقيق العيد: اهتمامه صلى الله عليه وسلم بشهادة الزور يحتمل أن يكون لأنها أسهل وقوعا على الناس، والتهاون بها أكثر، ومفسدتها أيسر وقوعا، لأن الشرك ينبو عنه المسلم، والعقوق ينبو عنه الطبع، وأما قول الزور فإن الحوامل عليه كثيرة فحسن الاهتمام بها، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها. قال: وأما عطف الشهادة على القول فينبغي أن يكون تأكيدا للشهادة لأنا لو حملناه على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقا كبيرة وليس كذلك، وإذا كان بعض الكذب منصوصا على عظمه كقوله تعالى: وفي الجملة فمراتب الكذب متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده، قال: وقد نص الحديث الصحيح على أن الغيبة والنميمة كبيرة، والغيبة تختلف بحسب القول المغتاب به، فالغيبة بالقذف كبيرة ولا تساويها الغيبة بقبح الخلقة أو الهيئة مثلا، والله أعلم. وقال غيره: يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام، لأن كل شهادة زور قول زور بغير عكس، ويحتمل قول الزور على نوع خاص منه. قلت: والأولى ما قاله الشيخ، ويؤيده وقوع الشك في ذلك في حديث أنس الذي بعده، فدل على أن المراد شيء واحد. وقال القرطبي. شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفس أو أخذ مال أو تحليل حرام أو تحريم حلال، فلا شيء من الكبائر أعظم ضررا منها ولا أكثر فسادا بعد الشرك بالله. وزعم بعضهم أن المراد بشهادة الزور في هذا الحديث الكفر. فإن الكافر شاهد بالزور وهو ضعيف، وقيل: المراد من يستحل شهادة الزور وهو بعيد، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَبَائِرَ أَوْ سُئِلَ عَنْ الْكَبَائِرِ فَقَالَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ فَقَالَ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قَالَ قَوْلُ الزُّورِ أَوْ قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ قَالَ شُعْبَةُ وَأَكْثَرُ ظَنِّي أَنَّهُ قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ الشرح: قوله: (عبيد الله بن أبي بكر) أي ابن أنس بن مالك، ووقع كذلك في الشهادات من رواية وهب بن جرير وعبد الملك بن إبراهيم عن شعبة. قوله: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر) كذا في هذه الرواية بالشك، وجزم في الرواية التي في الشهادات بالثاني قال: سئل الخ. ووقع في الديات عن عمر وهو ابن مرزوق عن شعبة عن ابن أبي بكر " سمع أنسا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله " الحديث وكذا رويناه في " كتاب الإيمان لابن منده " وفي " كتاب القضاة للنقاش " من طريق أبي عامر العقدي عن شعبة وقد علق البخاري في الشهادات طريق أبي عامر ولم يسق لفظه، وهذا موافق لحديث أبي بكرة في أن المذكورات من أكبر الكبائر لا من الكبائر المطلقة. قوله: (فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزور الخ) هذا ظاهره أنه خص أكبر الكبائر بقول الزور، ولكن الرواية التي أشرت إليها قبل تؤذن بأن الأربعة المذكورات مشتركات في ذلك. قوله: (أو قال شهادة الزور، قال شعبة وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور) قلت: ووقع الجزم بذلك في رواية وهب بن جرير وعبد الملك بن إبراهيم في الشهادات، قال قتيبة " وشهادة الزور " ولم يشك. ولمسلم من رواية خالد بن الحارث عن شعبة " وقول الزور " ولم يشك أيضا. وفي هذا الحديث والذي قبله استحباب إعادة الموعظة ثلاثا لتفهم، وانزعاج الواعظ في وعظه ليكون أبلغ في الوعي عنه والزجر عن فعل ما ينهى عنه، وفيه غلظ أمر شهادة الزور لما يترتب عليها من المفاسد وإن كانت مراتبها متفاوتة، وقد تقدم بيان شيء من أحكامها في كتاب الشهادات، وضابط الزور وصف الشيء على خلاف ما هو به، وقد يضاف إلى القول فيشمل الكذب والباطل؛ وقد يضاف إلى الشهادة فيختص بها، وقد يضاف إلى الفعل ومنه " لابس ثوبي زور " ومنه تسمية الشعر الموصول زورا كما تقدم في اللباس، وتقدم بيان الاختلاف في المراد بقوله تعالى: *3* الشرح: قوله: (باب صلة الوالد المشرك) ذكر فيه حديث أسماء بنت أبي بكر " أتتني أمي وهي راغبة " وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الهبة. الحديث: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي أَبِي أَخْبَرَتْنِي أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَةً فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آصِلُهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ الشرح: حديث أسماء بنت أبي بكر " أتتني أمي وهي راغبة " وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الهبة، وتقدم بيان الاختلاف في قوله: " راغبة " هل هو بالميم أو الموحدة، قال الطيبي: الذي تحرر أن قولها: " راغبة " إن كان بلا قيد فالمراد راغبة في الإسلام لا غير، وإذا قرنت بقوله مشركة أو في عهد قريش فالمراد راغبة في صلتي، وإن كانت الرواية " راغمة " بالميم فمعناه كارهة للإسلام. قلت: أما التي بالموحدة فيتعين حمل المطلق فيه على المقيد فإنه حديث واحد في قصة واحدة، ويتعين القيد من جهة أخرى، وهي أنها لو جاءت راغبة في الإسلام لم تحتج أسماء أن تستأذن في صلتها لشيوع التألف على الإسلام من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره فلا يحتاج إلى استئذانه في ذلك. *3* وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَ قَدِمَتْ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَمُدَّتِهِمْ إِذْ عَاهَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ابْنِهَا فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا قَالَ نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ الشرح: قوله: (باب صلة المرأة أمها ولها زوج) ذكر فيه حديثين: حديث أسماء بنت أبي بكر المشار إليه في الباب قبله أورده معلقا فقال: " وقال الليث حدثني هشام " وهو ابن عروة، وقد وقع لنا موصولا في " مستخرج أبي نعيم " إلى الليث، ووقع لنا بعلو في " جزء أبي الجهم العلاء بن موسى " عن الليث. قال ابن بطال: فقه الترجمة من حديث أسماء أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح لأسماء أن تصل أمها ولم يشترط في ذلك مشاورة زوجها، قال: وفيه حجة لمن أجاز للمرأة أن تتصرف في مالها بدون إذن زوجها كذا قال، ولا يخفى أن القول بالاشتراط إن ثبت فيه دليل خاص يقدم على ما دل عليه عدم التقييد في حديث أسماء. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ الشرح: حديث أبي سفيان في قصة هرقل، أورد منها طرفا وهو قول أبي سفيان " يأمرنا يعني النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة " وقد تقدم شرحه مستوفى في أول الصحيح، وذكرت كثيرا من فوائده أيضا في تفسير آل عمران، والمراد منه هنا ذكر الصلة فيؤخذ حكم الترجمة من عمومها. *3* الشرح: قوله (باب صلة الأخ المشرك) ذكر فيه حديث ابن عمر " رأى عمر حلة سيراء تباع " الحديث، وقد تقدم شرحه في كتاب اللباس. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ رَأَى عُمَرُ حُلَّةَ سِيَرَاءَ تُبَاعُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ وَالْبَسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَإِذَا جَاءَكَ الْوُفُودُ قَالَ إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا بِحُلَلٍ فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ بِحُلَّةٍ فَقَالَ كَيْفَ أَلْبَسُهَا وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ قَالَ إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهَا لِتَلْبَسَهَا وَلَكِنْ تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ الشرح: حديث ابن عمر " رأى عمر حلة سيراء تباع " الحديث، وقد تقدم شرحه في كتاب اللباس. وقوله فيه: " ولكن تبيعها " وقع في رواية الكشميهني " لتبيعها".
|