الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ الشرح: قوله (باب لا يعضد شجر الحرم) بضم أوله وفتح الضاد المعجمة، أي لا يقطع. قوله (وقال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعضد شوكه) سيأتي موصولا بعد باب ويأتي البحث فيه هناك. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْغَدِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا لَهُ إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ مَا قَالَ لَكَ عَمْرٌو قَالَ أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخُرْبَةٍ خُرْبَةٌ بَلِيَّةٌ الشرح: قوله (عن سعيد) في رواية عبد الله بن يوسف عن الليث حدثني سعيد كما تقدم في العلم. قوله (عن أبي شريح العدوي) كذا وقع هنا، وفيه نظر لأنه خزاعي من بني كعب بن ربيعة ابن لحي، بطن من خزاعة، ولهذا يقال له الكعبي أيضا، وليس هو من بني عدي، لا عدي قريش ولا عدي مضر، فلعله كان حليفا لبني عدي بن كعب من قريش، وقيل في خزاعة بطن يقال ثم لهو بنو عدي، وقد وقع في رواية ابن أبي ذئب عن سعيد " سمعت أبا شريح " أخرجه أحمد. واختلف في اسمه فالمشهور أنه خويلد بن عمرو، وقيل ابن صخر، وقيل هانئ بن عمرو، وقيل عبد الرحمن، وقيل كعب، وقيل عمرو بن خويلد، وقيل مطر، أسلم قبل الفتح، وحمل بعض ألوية قومه، وسكن المدينة ومات بها سنة ثمان وستين، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وحديثين آخرين. قوله: (لعمرو بن سعيد) أي ابن أبي العاص بن سعيد بن العاص بن أمية المعروف بالأشدق، وقد تقدم ذلك مع شرح بعض الحديث في " باب تبليغ العلم " من كتاب العلم. ووقع عند أحمد من طريق ابن إسحاق عن سعيد المقبري زيادة في أوله توضح المقصود وهي " لما بعث عمرو بن سعيد إلى مكة بعثه لغزو ابن الزبير أتاه أبو شريح فكلمه وأخبره بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج إلى نادى قومه فجلس فيه، فقمت إليه فجلست معه فحدث قومه قال: قلت له يا هذا إنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة، فلما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك، فقام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا " فذكر الحديث. وأخرج أحمد أيضا من طريق الزهري عن مسلم بن يزيد الليثي عن أبي شريح الخزاعي أنه سمعه يقول " أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في قتال بني بكر حتى أصبنا منهم ثأرنا وهو بمكة، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع السيف، فلقي الغد رهط منا رجلا من هذيل في الحرم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان وترهم في الجاهلية وكانوا يطلبونه فقتلوه، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب غضبا شديدا ما رأيته غضب أشد منه، فلما صلى قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإن الله حرم مكة " انتهى. وقد ذكر أبو هريرة في حديثه هذه القصة مختصرة وتقدم الكلام عليها في " باب كتابة العلم " من كتاب العلم، وذكرنا أن عمرو بن سعيد كان أميرا على المدينة من قبل يزيد بن معاوية وأنه جهز إلى مكة جيشا لغزو عبد الله بن الزبير بمكة، وقد ذكر الطبري القصة عن مشايخه فقالوا: كان قدوم عمرو بن سعيد واليا علي المدينة من قبل يزيد بن معاوية في ذي القعدة سنة ستين، وقيل قدمها في رمضان منها وهي السنة التي ولى فيها يزيد الخلافة، فامتنع ابن الزبير من بيعته وأقام بمكة، فجهز إليه عمرو بن سعيد جيشا وأمر عليهم عمرو بن الزبير وكان معاديا لأخيه عبد الله، وكان عمرو بن سعيد قد ولاه شرطته ثم أرسله إلى قتال أخيه، فجاء مروان إلى عمرو بن سعيد فنهاه فامتنع، وجاء أبو شريح فذكر القصة، فلما نزل الجيش ذا طوى خرج إليهم جماعة من أهل مكة فهزموهم وأسر عمرو بن الزبير فسجنه أخوه بسجن عارم، وكان عمرو بن الزبير قد ضرب جماعة من أهل المدينة ممن اتهم بالميل إلى أخيه فأقادهم عبد الله منه حتى مات عمرو من ذلك الضرب. (تنبيه) : وقع في السيرة لابن إسحاق ومغازي الواقدي أن المراجعة المذكورة وقعت بين أبي شريح وبين عمرو بن الزبير، فإن كان محفوظا احتمل أن يكون أبو شريح راجع الباعث والمبعوث، والله أعلم. قوله (وهو يبعث البعوث) هي جمع بعث بمعنى مبعوث وهو من تسمية المفعول بالمصدر والمراد به الجيش المجهز للقتال. قوله (إيذن) أصله ائذن بهمزتين فقلبت الثانية ياء لسكونها وانكسار ما قبلها. قوله (أيها الأمير) الأصل فيه يا أيها الأمير فحذف حرف النداء، ويستفاد منه حسن التلطف في مخاطبة السلطان ليكون أدعى لقبولهم النصيحة وأن السلطان لا يخاطب إلا بعد استئذانه ولا سيما إذا كان في أمر يعترض به عليه، فترك ذلك والغلظة له قد يكون سببا لإثارة نفسه ومعاندة من يخاطبه، وسيأتي في الحدود قول والد العسيف " وائذن لي". قوله (قام به) صفة للقول، والمقول هو حمد الله تعالى الخ. وقوله "الغد " بالنصب أي ثاني يوم الفتح وقد تقدم بيانه. قوله (سمعته أذناي الخ) فيه إشارة إلى بيان حفظه له من جميع الوجوه، فقوله " سمعته " أي حملته عنه بغير واسطة، وذكر الأذنين للتأكيد، وقوله "ووعاه قلبي " تحقيق لفهمه وتثبته، وقوله "وأبصرته عيناي " زيادة في تحقيق ذلك وأن سماعه منه ليس اعتمادا على الصوت فقط بل مع المشاهدة، وقوله "حين تكلم به " أي بالقول المذكور، ويؤخذ من قوله " ووعاه قلبي " أن العقل محله القلب. قوله: (إنه حمد الله) هو بيان لقوله تكلم، ويؤخذ منه استحباب الثناء بين يدي تعليم العلم وتبيين الأحكام والخطبة في الأمور المهمة وقد تقدم من رواية ابن إسحاق أنه قال فيها " أما بعد". قوله: (إن الله حرم مكة) أي حكم بتحريمها وقضاه، وظاهره أن حكم الله تعالى في مكة أن لا يقاتل أهلها ويؤمن من استجار بها ولا يتعرض له، وهو أحد أقوال المفسرين في قوله تعالى وقال القرطبي: معناه أن الله حرم مكة ابتداء من غير سبب ينسب لأحد ولا لأحد فيه مدخل قال: ولأجل هذا أكد المعنى بقوله " ولم يحرمها الناس " والمراد بقوله ولم يحرمها الناس أن تحريمها ثابت بالشرع لا مدخل للعقل فيه، أو المراد أنها من محرمات الله فيجب امتثال ذلك، وليس من محرمات الناس يعني في الجاهلية كما حرموا أشياء من عند أنفسهم فلا يسوغ الاجتهاد في تركه. وقيل معناه أن حرمتها مستمرة من أول الخلق، وليس مما اختصت به شريعة النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (فلا يحل الخ) فيه تلبيه على الامتثال لأن من آمن بالله لزمته طاعته، ومن آمن باليوم الآخر لزمه امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه خوف الحساب عليه، وقد تعلق به من قال: إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، والصحيح عند الأكثر خلافه، وجوابهم بأن المؤمن هو الذي ينقاد للأحكام وينزجر عن المحرمات فجعل الكلام معه وليس فيه نفي ذلك عن غيره. وقال ابن دقيق العيد: الذي أراه أنه من خطاب التهييج، نحو قوله تعالى قوله (أن يسفك بها دما) تقدم ضبطه في العلم، واستدل به على تحريم القتل والقتال بمكة، وسيأتي البحث فيه بعد باب في الكلام على حديث ابن عباس. قوله (ولا يعضد بها شجرة) أي لا يقطع. قال ابن الجوزي: أصحاب الحديث يقولون " يعضد " بضم الضاد. وقال لنا ابن الخشاب هو بكسرها، والمعضد بكسر أوله الآلة التي يقطع بها. قال الخليل: المعضد الممتهن من السيوف في قطع الشجر. وقال الطبري: أصله من عضد الرجل إذا أصابه بسوء في عضده، ووقع في رواية لعمر بن شبة بلفظ " لا يخضد " بالخاء المعجمة بدل العين المهملة، وهو راجع إلى معناه فإن أصل الخضد الكسر ويستعمل في القطع. قال القرطبي: خص الفقهاء الشجر المنهي عن قطعه بما ينبته الله تعالى من غير صنع آدمي، فأما ما ينبت بمعالجة آدمي فاختلف فيه والجمهور عل الجواز. وقال الشافعي: في الجميع الجزاء، ورجحه ابن قدامة. واختلفوا في جزاء ما قطع من النوع الأول فقال مالك: لا جزاء فيه بل يأثم. وقال عطاء: يستغفر. وقال أبو حنيفة: يؤخذ بقيمته هدي. وقال الشافعي: في العظيمة بقرة وفيما دونها شاة. واحتج الطبري بالقياس على جزاء الصيد، وتعقبه ابن القصار بأنه كان يلزمه أن يجعل الجزاء على المحرم إذا قطع شيئا من شجر الحل ولا قائل به. وقال ابن العربي: اتفقوا على تحريم قطع شجر الحرم، إلا أن الشافعي أجاز قطع السواك من فروع الشجرة، كذا نقله أبو ثور عنه، وأجاز أيضا أخذ الورق والثمر إذا كان لا يضرها ولا يهلكها وبهذا قال عطاء ومجاهد وغيرهما، وأجازوا قطع الشوك لكونه يؤذي بطبعه فأشبه الفواسق، ومنعه الجمهور كما سيأتي في حديث ابن عباس بعد باب بلفظ " ولا يعضد شوكه " وصححه المتولي من الشافعية، وأجابوا بأن القياس المذكور في مقابلة النص. فلا يعتبر به، حتى ولو لم يرد النص على تحريم الشوك لكان في تحريم قطع الشجر دليل على تحريم قطع الشوك لأن غالب شجر الحرم كذلك، ولقيام الفارق أيضا فإن الفواسق المذكورة تقصد بالأذى بخلاف الشجر. قال ابن قدامة: ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقطع من الشجر بغير صنع آدمي ولا بما يسقط من الورق نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافا. قوله (فإن أحد) هو فاعل بفعل مضمر يفسره ما بعده، وقوله "ترخص " مشتق من الرخصة. وفي رواية ابن أبي ذئب عند أحمد " فإن ترخص مترخص فقال: أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله أحلها لي ولم يحلها للناس " وفي مرسل عطاء بن يزيد عند سعيد بن منصور " فلا يستن بي أحد فيقول قتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: (وإنما أذن لي) بفتح أوله والفاعل الله، ويروي بضمه على البناء للمفعول. قوله فأذن لهم حتى صلى العصر، ثم قال: كفوا السلاح، فلقي رجل من خزاعة رجلا من بني بكر من غد بالمزدلفة فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام خطيبا فقال، ورأيته مسندا ظهره إلى الكعبة " فذكر الحديث. ويستفاد منه أن قتل من أذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتلهم - كابن خطل - وقع في الوقت الذي أبيح للنبي صلى الله عليه وسلم فيه القتال، خلافا لمن حمل قوله " ساعة من النهار " على ظاهره فاحتاج إلى الجواب عن قصة ابن خطل. قوله (وقد عادت حرمتها) أي الحكم الذي في مقابلة إباحة القتال المستفادة من لفظ الإذن. وقوله (اليوم) المراد به الزمن الحاضر، وقد بين غايته في رواية ابن أبي ذئب المذكورة بقوله " ثم هي حرام إلى يوم القيامة". وكذا في حديث ابن عباس الآتي بعد باب بقوله " فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة". قوله: (فليبلغ الشاهد الغائب) قال ابن جرير: فيه دليل على جواز قبول خبر الواحد، لأنه معلوم أن كل من شهد الخطبة قد لزمه الإبلاغ، وأنه لم يأمرهم بإبلاغ الغائب عنهم إلا وهو لازم له فرض العمل بما أبلغه كالذي لزم السامع سواء، وإلا لم يكن للأمر بالتبليغ فائدة. قوله: (فقيل لأبي شريح) لم أعرف اسم القائل، وظاهر رواية ابن إسحاق أنه بعض قومه من خزاعة. قوله: (لا يعيذ) بالذال المعجمة أى لا يجير ولا يعصم. قوله: (ولا فارا) بالفاء وتثقيل الراء أي هاربا، والمراد من وجب عليه حد القتل فهرب إلى مكة مستجيرا بالحرم، وهي مسألة خلاف بين العلماء، وأغرب عمرو بن سعيد في سياقه الحكم مساق الدليل وفي تخصيصه العموم بلا مستند. قوله (بخربة) تقدم تفسيره في العلم، وأشار ابن العربي إلى ضبطه بكسر أوله وبالزاي بدل الراء والتحتانية بدل الموحدة جعله من الخزي، والمعنى صحيح لكن لا تساعد عليه الرواية. وأغرب الكرماني لما حكى هذا الوجه فأبدل الخاء المعجمة جيما جعله من الجزية، وذكر الجزية وكذا الذم بعد ذكر العصيان من الخاص بعد العام. قوله (خربة بلية) هو تفسير من الراوي، والظاهر أنه المصنف، فقد وقع في المغازي في آخره " قال أبو عبد الله: الخربة البلية " وسبق في العلم في آخره " يعني المسرقة " وهي أحد ما قيل في تأويلها، وأصلها سرقة الإبل ثم استعملت في كل سرقة. وعن الخليل: الخربة الفساد في الإبل، وقيل العيب، وقيل بضم أوله العورة وقيل الفساد، وبفتحه الفعلة الواحدة من الخرابة وهي السرقة. وقد وهم من عد كلام عمرو بن سعيد هذا حديثا واحتج بما تضمنه كلامه. قال ابن حزم: لا كرامة للطيم الشيطان يكون أعلم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأغرب ابن بطال فزعم أن سكوت أبي شريح عن جواب عمرو بن سعيد دال على أنه رجع إليه في التفصيل المذكور، ويعكر عليه ما وقع في رواية أحمد أنه قال في آخره: قال أبو شريح فقلت لعمرو قد كنت شاهدا وكنت غائبا. وقد أمرنا أن يبلغ شاهدنا غائبنا، وقد بلغتك. فهذا يشعر بأنه لم يوافقه، وإنما ترك مشاققته لعجزه عنه لما كان فيه من قوة الشوكة. وقال ابن بطال أيضا: ليس قول عمرو جوابا لأبي شريح، لأنه لم يختلف معه في أن من أصاب حدا في غير الحرم ثم لجأ إليه أنه يجوز إقامة الحد عليه في الحرم، فإن أبا شريح أنكر بعث عمرو الجيش إلى مكة ونصب الحرب عليها فأحسن في استدلاله بالحديث، وحاد عمرو عن جوابه وأجابه عن غير سؤاله. وتعقبه الطيبي بأنه لم يحد في جوابه، وإنما أجاب بما يقتضي القول بالموجب كأنه قال له: صح سماعك وحفظك، لكن المعنى المراد من الحديث الذي ذكرته خلاف ما فهمته منه، فإن ذلك الترخص كان بسبب الفتح وليس، بسبب قتل من استحق القتل خارج الحرم ثم استجار بالحرم، والذي أنا فيه من القبيل الثاني. قلت: لكنها دعوى من عمرو بغير دليل، لأن ابن الزبير لم يجب عليه حد فعاذ بالحرم فرارا منه حتى يصح جواب عمرو، نعم كان عمرو يرى وجوب طاعة يزيد الذي استنابه، وكان يزيد أمر ابن الزبير أن يبايع له بالخلافة ويحضر إليه في جامعة يعني مغلولا فامتنع ابن الزبير وعاذ بالحرم فكان يقال له بذلك عائذ الله، وكان عمرو يعتقد أنه عاص بامتناعه من امتثال أمر يزيد ولهذا صدر كلامه بقوله " إن الحرم لا يعيذ عاصيا " ثم ذكر بقية ما ذكر استطرادا، فهذه شبهة عمرو وهي واهية. وهذه المسألة التي وقع فيها الاختلاف بين أبي شريح وعمرو فيها اختلاف بين العلماء أيضا كما سيأتي بعد باب في الكلام على حديث ابن عباس. وفي حديث أبي شريح من الفوائد غير ما تقدم جواز إخبار المرء عن نفسه بما يقتضى ثقته وضبطه لما سمعه ونحو ذلك، وإنكار العالم على الحاكم ما يغيره من أمر الدين والموعظة بلطف وتدريج، والاقتصار في الإنكار على اللسان إذا لم يستطع باليد، ووقوع التأكيد في الكلام البليغ، وجواز المجادلة في الأمور الدينية، وجواز النسخ، وأن مسائل الاجتهاد لا يكون فيها مجتهد حجة على مجتهد. وفيه الخروج عن عهدة التبليغ والصبر على المكاره لمن لا يستطيع بدا من ذلك، وتمسك به من قال: إن مكة فتحت عنوة. قال النووي: تأول من قال فتحت صلحا بأن القتال كان جائزا له لو فعله لكن لم يحتج إليه، وتعقب بأنه خلاف الواقع، وسيأتي البحث فيه في المغازي. وقد تقدمت تسمية القاتل والمقتول في قصة أبي شريح في الكلام على حديث أبي هريرة. *3* الشرح: قوله (باب لا ينفر صيد الحرم) بضم أوله وتشديد الفاء المفتوحة، قيل هو كناية عن الاصطياد، وقل هو على ظاهره كما سيأتي. قال النووي: يحرم التنفير - وهو الإزعاج - عن موضعه، فإن نفره عصى سواء تلف أو لا، فإن تلف في نفاره قبل سكونه ضمن وإلا فلا. قال العلماء: يستفاد من النهي عن التنفير تحريم الإتلاف بالأولى. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ وَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا فَقَالَ إِلَّا الْإِذْخِرَ وَعَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ هَلْ تَدْرِي مَا لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا هُوَ أَنْ يُنَحِّيَهُ مِنْ الظِّلِّ يَنْزِلُ مَكَانَهُ الشرح: قوله (حدثنا عبد الوهاب) هو الثقفي، وخالد هو الحذاء. قوله (إن الله حرم مكة فلم تحل لأحد بعدي) في رواية الكشميهني " فلا تحل " وهو أليق بقصد الأمر الآتي، وقد ذكره في الباب الذي بعده بلفظ " وأنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي " وهو عند المصنف في أوائل البيع من طريق خالد الطحان عن خالد الحذاء بلفظ " فلم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي " ومثله لأحمد من طريق وهيب عن خالد. قال ابن بطال: المراد بقوله " ولا تحل لأحد بعدي " الإخبار عن الحكم في ذلك لا الإخبار بما سيقع لوقوع خلاف ذلك في الشاهد كما وقع من الحجاج وغيره. انتهى. ومحصله أنه خبر بمعنى النهي، بخلاف قوله " فلم تحل لأحد قبلي " فإنه خبر محض، أو معنى قوله " ولا تحل لأحد بعدي " أي لا يحلها الله بعدي، لأن النسخ ينقطع بعده لكونه خاتم النبيين. قوله (وعن خالد) هو بالإسناد المذكور، وسيأتي في أوائل البيوع بأوضح مما هنا. قوله: (هل تدري ما لا ينفر صيدها الخ) قيل نبه عكرمة بذلك على المنع من الإتلاف وسائر أنواع الأذى تنبيها بالأدنى على الأعلى، وقد خالف عكرمة عطاء ومجاهد فقالا: لا بأس بطرده ما لم يفض إلى قتله. أخرجه ابن أبي شيبة. وروى ابن أبي شيبه أيضا من طريق الحكم عن شيخ من أهل مكة أن حماما كان على البيت فذرق على يد عمر، فأشار عمر بيده فطار فوقع على بعض بيوت مكة، فجاءت حية فأكلته، فحكم عمر على نفسه بشاة. وروى من طريق أخرى عن عثمان نحوه. *3* وَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْفِكُ بِهَا دَمًا الشرح: قوله (باب لا يحل القتال بمكة) هكذا ترجم بلفظ القتال، وهو الواقع في حديث الباب، ووقع عند مسلم في رواية كذلك، وفي أخرى بلفظ " القتل " بدل القتال، وللعلماء في كل منهما اختلاف سنذكره. قوله (وقال أبو شريح الخ) تقدم موصولا قبل باب، ووجه الاستدلال به لتحريم القتال من جهة أن القتال يفضي إلى القتل، فقد ورد تحريم سفك الدم بها بلفظ النكرة في سياق النفي فيعم. الحديث: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا قَالَ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ قَالَ قَالَ إِلَّا الْإِذْخِرَ الشرح: قوله (عن مجاهد عن طاوس) كذا رواه منصور موصولا، وخالفه الأعمش فرواه عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا أخرجه سعيد بن منصور عن أبي معاوية عنه، وأخرجه أيضا عن سفيان عن داود بن شابور عن مجاهد مرسلا، ومنصور ثقة حافظ فالحكم لوصله. قوله (يوم افتتح مكة) هو ظرف للقول المذكور. قوله (لا هجرة) أي بعد الفتح، وأفصح بذلك في رواية علي بن المديني عن جرير في كتاب الجهاد قوله (ولكن جهاد ونية) المعنى أن وجوب الهجرة من مكة انقطع بفتحها إذ صارت دار إسلام، ولكن بقي وجوب الجهاد على حاله عند الاحتياج إليه، وفسره بقوله: (فإذا استنفرتم فانفروا) أي إذا دعيتم إلى الغزو فأجيبوا. قال الطيبي: قوله " ولكن جهاد " عطف على مدخول " لا هجرة " أي الهجرة إما فرارا من الكفار وإما إلى الجهاد وإما إلى نحو طلب العلم، وقد انقطعت الأولى فاغتنموا الأخيرتين، وتضمن الحديث بشارة من النبي صلى الله عليه وسلم بأن مكة تستمر دار إسلام، وسيأتي البحث في ذلك مستوفي في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى. قوله: (فإن هذا بلد حرم) الفاء جواب بشرط محذوف تقديره إذا علمتم ذلك فاعلموا أن هذا بلد حرام، وكأن وجه المناسبة أنه لما كان نصب القتال عليه حراما كان التنفير يقع منه لا إليه، ولما روى مسلم هذا الحديث عن إسحاق عن جرير فصل الكلام الأول من الثاني بقوله " وقال يوم الفتح إن الله حرم الخ " فجعله حديثا آخر مستقلا، وهو مقتضى صنيع من اقتصر على الكلام الأول كعلي بن المديني عن جرير كما سيأتي في الجهاد. قوله (حرمه الله) سبق مشروحا في حديث أبي شريح، ووقع في رواية غير الكشميهني " حرم الله " بحذف الهاء. قوله (وهو حرام بحرمة الله) أي بتحريمه، وقيل الحرمة الحق أى حرام بالحق المانع من تحليله، واستدل به على تحريم القتل والقتال بالحرم، فأما القتل فنقل بعضهم الاتفاق على جواز إقامة حد القتل فيها على من أوقعه فيها، وخص الخلاف بمن قتل في الحل ثم لجأ إلى الحرم، وممن نقل الإجماع على ذلك ابن الجوزي، واحتج بعضهم بقتل ابن خطل بها، ولا حجة فيه لأن ذلك كان في الوقت الذي أحلت فيه للنبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وزعم ابن حزم أن مقتضى قول ابن عمر وابن عباس وغيرهما أنه لا يجوز القتل فيها مطلقا، ونقل التفصيل عن مجاهد وعطاء. وقال أبو حنيفة: لا يقتل في الحرم حتى يخرج إلى الحل باختياره، لكن لا يجالس ولا يكلم، ويوعظ ويذكر حتى يخرج. وقال أبو يوسف: يخرج مضطرا إلى الحل، وفعله ابن الزبير، وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوس عن ابن عباس " من أصاب حدا ثم دخل الحرم لم يجالس ولم يبايع " وعن مالك والشافعي: يجوز إقامة الحد مطلقا فيها، لأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن، وأما القتال فقال الماوردي: من خصائص مكة أن لا يحارب أهلها، فلو بغوا على أهل العدل فإن أمكن ردهم بغير قتال لم يجز، وإن لم يمكن إلا بالقتال فقال الجمهور يقاتلون لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى فلا يجوز إضاعتها. وقال آخرون: لا يجوز قتالهم بل يضيق عليهم إلى أن يرجعوا إلى الطاعة. قال النووي: والأول نص عليه الشافعي، وأجاب أصحابه عن الحديث بحمله على تحريم نصب القتال بما يعم أذاه كالمنجنيق، بخلاف ما لو تحصن الكفار في بلد فإنه يجوز قتالهم على كل وجه. وعن الشافعي قول آخر بالتحريم اختاره القفال وجزم به في " شرح التلخيص " وقال به جماعة من علماء الشافعية والمالكية. قال الطبري: من أتي حدا في الحل واستجار بالحرم فللإمام إلجاؤه إلى الخروج منه، وليس للإمام أن ينصب عليه الحرب بل يحاصره ويضيق عليه حتى يذعن للطاعة، لقوله صلى الله عليه وسلم "وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس " فعلم أنها لا تحل لأحد بعده بالمعنى الذي حلت له به وهو محاربة أهلها والقتل فيها. ومال ابن العربي إلى هذا. وقال ابن المنير: قد أكد النبي التحريم بقوله " حرمه الله " ثم قال " فهو حرام بحرمة الله " ثم قال " ولم تحل لي إلا ساعة من نهار " وكان إذا أراد التأكيد ذكر الشيء ثلاثا. قال فهذا نص لا يحتمل التأويل. وقال القرطبي: ظاهر الحديث يقتضي تخصيصه صلى الله عليه وسلم بالقتال لاعتذاره عما أبيح له من ذلك مع أن أهل مكة كانوا إذ ذاك مستحقين للقتال والقتل لصدهم عن المسجد الحرام وإخراجهم أهله منه وكفرهم، وهذا الذي فهمه أبو شريح كما تقدم. وقال به غير واحد من أهل العلم. وقال ابن دقيق العيد: يتأكد القول بالتحريم بأن الحديث دال على أن المأذون للنبي صلى الله عليه وسلم فيه لم يؤذن لغيره فيه، والذي وقع له إنما هو مطلق القتال لا القتال الخاص بما يعم كالمنجنيق فكيف يسوغ التأويل المذكور؟ وأيضا فسياق الحديث يدل على أن التحريم لإظهار حرمة البقعة بتحريم سفك الدماء فيها، وذلك لا يختص بما يستأصل، واستدل به على اشتراط الإحرام على من دخل الحرم. قال القرطبي: معنى قوله حرمه الله أي يحرم على غير المحرم دخوله حتى يحرم، ويجرى هذا مجرى قوله تعالى قال: وقد دل على صحة هذا المعنى اعتذاره عن دخوله مكة غير محرم مقاتلا بقوله " لم تحل لي إلا ساعة من نهار " الحديث. قال: وبهذا أخذ مالك والشافعي في أحد قوليهما ومن تبعهما في ذلك فقالوا: لا يجوز لأحد أن يدخل مكة إلا محرما، إلا إذا كان ممن يكتر التكرار. قلت: وسيأتي بسط القول في ذلك بعد سبعة أبواب. قوله: (وأنه لا يحل القتال) الهاء في " أنه " ضمير الشأن، ووقع في رواية الكشميهني " لم يحل " بلفظ " لم " بدل " لا " وهي أشبه لقوله قبلي. قوله: (لا يعضد شوكه) تقدم البحث فيه في حديث أبي شريح. قوله (ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها) سيأتي البحث فيه في كتاب اللقطة إن شاء الله تعالى. قوله (ولا يختلي خلاها) بالخاء المعجمة، والخلا مقصور، وذكر ابن التين أنه وقع في رواية القابسي بالمد وهو الرطب من النبات واختلاؤه قطعه واحتشاشه، واستدل به على تحريم رعيه لكونه أشد من الاحتشاش، وبه قال مالك والكوفيون واختاره الطبري. وقال الشافعي: لا بأس بالرعي لمصلحة البهائم وهو عمل الناس، بخلاف الاحتشاش فإنه المنهي عنه فلا يتعدى ذلك إلى غيره. وفي تخصيص التحريم بالرطب إشارة إلى جواز رعي اليابس واختلائه، وهو أصح الوجهين للشافعية لأن النبت اليابس كالصيد الميت. قال ابن قدامة: لكن في استثناء الإذخر إشارة إلى تحريم اليابس من الحشيش، ويدل عليه أن في بعض طرق حديث أبى هريرة " ولا يحتش حشيشها " قال وأجمعوا على إباحة أخذ ما استنبته الناس في الحرم من بقل وزرع ومشموم فلا بأس برعيه واختلائه. قوله: (فقال العباس) أي ابن عبد المطلب كما وقع مبينا في المغازي من وجه آخر. قوله: (إلا الإذخر) يجوز فيه الرفع والنصب، أما الرفع فعلى البدل مما قبله، وأما النصب فلكونه استثناء واقعا بعد النفي. وقال ابن مالك: المختار النصب لكون الاستثئناء وقع متراخيا عن المستثني منه فبعدت المشاكلة بالبدلية، ولكون الاستثناء أيضا عرض في آخر الكلام ولم يكن مقصودا. والإذخر: نبت معروف عند أهل مكة طيب الريح له أصل مندفن وقضبان دقاق ينبت في السهل والحزن، وبالمغرب صنف منه فيما قاله ابن البيطار، قال: والذي بمكة أجوده، وأهل مكة يسقفون به البيوت بين الخشب ويسدون به الخلل بين اللبنات في القبور ويستعملونه بدلا من الحلفاء في الوقود، ولهذا قال العباس " فإنه لقينهم " وهو بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها نون أي الحداد. وقال الطبري: القين عند العرب كل ذي صناعة يعالجها بنفسه، ووقع في رواية المغازي " فإنه لا بد منه للقين والبيوت " وفي الرواية التي في الباب قبله " فإنه لصاغتنا وقبورنا " ووقع في مرسل مجاهد عند عمر بن شبة الجمع بين الثلاثة، ووقع عنده أيضا " فقال العباس: يا رسول الله، إن أهل مكة لا صبر لهم عن الإذخر لقينهم وبيوتهم " وهذا يدل على أن الاستثناء في حديث الباب لم يرد به أن يستثني هو وإنما أراد به أن يلقن النبي صلى الله عليه وسلم الاستثناء، وقوله صلى الله عليه وسلم في جوابه " إلا الإذخر " هو استثناء بعض من كل لدخول الإذخر في عموم ما يختلي. واستدل به على جواز النسخ قبل الفعل وليس بواضح، وعلى جواز الفصل بين المستثني والمستثنى منه، ومذهب الجمهور اشتراط الاتصال إما لفظا إما حكما لجواز الفصل بالتنفس مثلا، وقد اشتهر عن ابن عباس الجواز مطلقا، ويمكن أن يحتج له بظاهر هذه القصة. وأجابوا عن ذلك بأن هذا الاستثناء في حكم المتصل لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم أراد أن يقول إلا الإذخر فشغله العباس بكلامه فوصل كلامه بكلام نفسه فقال: إلا الإذخر، وقد قال ابن مالك: يجوز الفصل مع إضمار الاستثناء متصلا بالمستثني منه، واختلفوا هل كان قوله صلى الله عليه وسلم "إلا الإذخر " باجتهاد أو وحي؟ وقيل كان الله فوض له الحكم في هذه المسألة مطلقا، وقيل أوحى إليه قبل ذلك أنه إن طلب أحد استثناء شيء من ذلك فأجب سؤاله. وقال الطبري: ساغ للعباس أن يستثنى الإذخر لأنه احتمل عنده أن يكون المراد بتحريم مكة تحريم القتال دون ما ذكر من تحريم الاختلاء فإنه من تحريم الرسول باجتهاده فساغ له أن يسأله استثناء الإذخر، وهذا مبني على أن الرسول كان له أن يجتهد في الأحكام، وليس ما قاله بلازم بل في تقريره صلى الله عليه وسلم للعباس على ذلك دليل على جواز تخصيص العام، وحكى ابن بطال عن المهلب أن الاستثناء هنا للضرورة كتحليل أكل الميتة عند الضرورة، وقد بين العباس ذلك بأن الإذخر لا غنى لأهل مكة عنه. وتعقبه ابن المنير بأن الذي يباح للضرورة يشترط حصولها فيه، فلو كان الإذخر مثل الميتة لامتنع استعماله إلا فيمن تحققت ضرورته إليه، والإجماع على أنه مباح مطلقا بغير قيد الضرورة. انتهى. ويحتمل أن يكون مراد المهلب بأن أصل إباحته كانت للضرورة وسببها، لا أنه يريد أنه مقيد بها. قال ابن المنير: والحق أن سؤال العباس كان على معنى الضراعة، وترخيص النبي صلى الله عليه وسلم كان تبليغا عن الله إما بطريق الإلهام أو بطريق الوحي، ومن ادعى أن نزول الوحي يحتاج إلى أمد متسع فقد وهم. وفي الحديث بيان خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكر في الحديث، وجواز مراجعة العالم في المصالح الشرعية، والمبادرة إلى ذلك في المجامع والمشاهد، وعظيم منزلة العباس عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعنايته بأمر مكة لكونه كان بها أصله ومنشؤه، وفيه رفع وجوب الهجرة عن مكة إلى المدينة، وإبقاء حكمها من بلاد الكفر إلى يوم القيامة، وأن الجهاد يشترط أن يقصد به الإخلاص ووجوب النفير مع الأئمة. *3* وَكَوَى ابْنُ عُمَرَ ابْنَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَيَتَدَاوَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ الشرح: قوله: (باب الحجامة للمحرم) أي هل يمنع منها أو تباح له مطلقا أو للضرورة؟ والمراد في ذلك كله المحجوم لا الحاجم. قوله: (وكوى ابن عمر ابنه وهو محرم) هذا الابن اسمه واقد، وصل ذلك سعيد بن منصور من طريق مجاهد قال " أصاب واقد بن عبد الله بن عمر برسام في الطريق وهو متوجه إلى مكة فكواه ابن عمر " فأبان أن ذلك كان للضرورة. قوله: (ويتداوى ما لم يكن فيه طيب) هذا من تتمة الترجمة، وليس في أثر ابن عمر كما ترى. وأما قول الكرماني: فاعل " يتداوى " إما المحرم وإما ابن عمر فكلام من لم يقف على أثر ابن عمر، وقد سبق في أوائل الحج في " باب الطيب عند الإحرام " قول ابن عباس " ويتداوى بما يأكل " وهو موافق لهذا، والجامع بين هذا وبين الحجامة عموم التداوي. وروى الطبري من طريق الحسن قال " إن أصاب المحرم شجة فلا بأس بأن يأخذ ما حولها من الشعر ثم يداويها بما ليس فيه طيب". الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ لَنَا عَمْرٌو أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ حَدَّثَنِي طَاوُسٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُمَا الشرح: قوله: (قال لنا عمرو أول شيء) أي أول مرة، في رواية الحميدي عن سفيان " حدثنا عمرو وهو ابن دينار " أخرجه أبو نعيم وأبو عوانة من طريقه. قوله: (ثم سمعته) هو مقول سفيان والضمير لعمرو، وكذا قوله " فقلت لعله سمعه " وقد بين ذلك الحميدي عن سفيان فقال: حدثنا بهذا الحديث عمرو مرتين فذكره، لكن قال: فلا أدري أسمعه منهما أو كانت إحدى الروايتين وهما، زاد أبو عوانة: قال سفيان: ذكر لي أنه سمعه منهما جميعا. وأخرجه ابن خزيمة عن عبد الجبار بن العلاء عن ابن عيينة نحو رواية علي بن عبد الله وقال في آخره: فظننت أنه رواه عنهما جميعا. وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق سليمان بن أيوب عن سفيان قال عن عمرو عن عطاء فذكره. قال: ثم حدثنا عمرو عن طاوس به، فقلت لعمرو: إنما كنت حدثتنا عن عطاء، قال: اسكت يا صبي، لم أغلط، كلاهما حدثني. قلت: فإن كان هذا محفوظا فلعل سفيان تردد في كون عمرو سمعه منهما لما خشي من كون ذلك صدر منه حالة الغضب، على أنه قد حدث به فجمعهما. قال أحمد في مسنده: حدثنا سفيان قال: قال عمرو أولا فحفظناه: قال طاوس عن ابن عباس فذكره. فقال أحمد: وقد حدثنا به سفيان فقال: قال عمرو عن عطاء وطاوس عن ابن عباس. قلت: وكذا جمعهما عن سفيان مسدد عند المصنف في الطب، وأبو بكر بن أبي شيبة وأبو خيثمة وإسحاق بن راهويه عند مسلم، وقتيبة عند الترمذي والنسائي. وتابع سفيان على روايته له عن عمرو لكن عن طاوس وحده زكريا بن إسحاق، أخرجه أحمد وأبو عوانة وابن خزيمة والحاكم، وله أصل عن عطاء أيضا، أخرجه أحمد والنسائي من طريق الليث عن أبي الزبير، ومن طريق ابن جريج كلاهما عنه. (تنبيه) : زعم الكرماني أن مراد البخاري بالسياق المذكور أن عمرا حدث به سفيان أولا عن عطاء عن ابن عباس بغير واسطة، ثم حدثه به ثانيا عن عطاء بواسطة طاوس. قلت: وهو كلام من لم يقف على طريق مسدد التي في الكتاب الذي شرح فيه فضلا عن بقية الطرق التي ذكرناها، ولا تعرف مع ذلك لعطاء عن طاوس رواية أصلا، والله المستعان. قوله: (وهو محرم) زاد ابن جريج عن عطاء " صائم " (بلحي جمل) وزاد زكريا " على رأسه " وستأتي رواية عكرمة في الصوم، وهذه الزيادات موافقة لحديث ابن بحينة ثاني حديثي الباب دون ذكر الصيام. الحديث: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ ابْنِ بُحَيْنَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِلَحْيِ جَمَلٍ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ الشرح: قوله: (عن علقمة بن أبي علقمة) في رواية النسائي من طريق محمد بن خالد عن سليمان " أخبرني علقمة " واسم أبي علقمة بلال، وهو مدني تابعي صغير سمع أنسا، وهو علقمة بن أم علقمة واسمها مرجانة، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث. قوله: (عن عبد الرحمن الأعرج عن ابن بحينة) في رواية المصنف في الطب عن إسماعيل - وهو ابن أبي أويس - عن سليمان عن علقمة أنه سمع عبد الرحمن الأعرج أنه سمع عبد الله بن بحينة. قوله: (بلحي جمل) بفتح اللام وحكى كسرها وسكون المهملة وبفتح الجيم والميم: موضع بطريق مكة. وقد وقع مبينا في رواية إسماعيل المذكورة " بلحي حمل من طريق مكة " ذكر البكري في معجمه في رسم العقيق قال: هي بئر جمل التي ورد ذكرها في حديث أبي جهم، يعني الماضي في التيمم. وقال غيره: هي عقبة الجحفة على سبعة أميال من السقيا. ووقع في رواية أبي ذر " بلحي جمل " بصيغة التثنية، ولغيره بالإفراد. ووهم من ظنه فكي الجمل الحيوان المعروف وأنه كان آلة الحجم، وجزم الحازمي وغيره بأن ذلك كان في حجة الوداع، وسيأتي البحث في أنه هل كان صائما في كتاب الصيام. قوله: (في وسط) بفتح المهملة أي متوسطه، وهو ما فوق اليافوخ فيما بين أعلى القرنين. قال الليث: كانت هذه الحجامة في فأس الرأس، وأما التي في أعلاه فلا لأنها ربما أعمت، وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب الطب إن شاء الله تعالى. قال النووي: إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة فإن تضمنت قطع شعر فهي حرام لقطع الشعر، وإن لم تتضمنه جازت عند الجمهور، وكرهها مالك. وعن الحسن فيها الفدية وإن لم يقطع شعرا. وإن كان لضرورة جاز قطع الشعر وتجب الفدية. وخص أهل الظاهر الفدية بشعر الرأس. قال الداودي: إذا أمكن مسك المحاجم بغير حلق لم يجز الحلق. واستدل بهذا الحديث على جواز الفصد وبط الجرح والدمل وقطع العرق وقلع الضرس وغير ذلك من وجوه التداوي إذا لم يكن في ذلك ارتكاب ما نهى عنه المحرم من تناول الطيب وقطع الشعر، ولا فدية عليه في شيء من ذلك، والله أعلم. الشرح: قوله: (باب تزويج المحرم) أورد فيه حديث ابن عباس في تزويج ميمونة، وظاهر صنيعه أنه لم يثبت عنده النهي عن ذلك، ولا أن ذلك من الخصائص، وقد ترجم في النكاح " باب نكاح المحرم " ولم يزد على إيراد هذا الحديث، ومراده بالنكاح التزويج للإجماع على إفساد الحج والعمرة بالجماع. وقد اختلف في تزويج ميمونة، فالمشهور عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم، وصح نحوه عن عائشة وأبي هريرة، وجاء عن ميمونة نفسها أنه كان حلالا، وعن أبي رافع مثله وأنه كان الرسول إليها، وسيأتي الكلام على ذلك مستوفي في " باب عمرة القضاء " من كتاب المغازي إن شاء الله تعالى. اختلف العلماء في هذه المسألة، فالجمهور على المنع لحديث عثمان " لا ينكح المحرم ولا ينكح " أخرجه مسلم، وأجابوا عن حديث ميمونة بأنه اختلف في الواقعة كيف كانت ولا تقوم بها الحجة، ولأنها تحتمل الخصوصية، فكان الحديث في النهي عن ذلك أولى بأن يؤخذ به. وقال عطاء وعكرمة وأهل الكوفة: يجوز للمحرم أن يتزوج كما يجوز له أن يشتري الجارية للوطء، وتعقب بأنه قياس في معارضة السنة فلا يعتبر به. وأما تأويلهم حديث عثمان بأن المراد به الوطء فمتعقب بالتصريح فيه بقوله " ولا ينكح " بضم أوله، وبقوله فيه " ولا يخطب". *3* وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَا تَلْبَسْ الْمُحْرِمَةُ ثَوْبًا بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ الشرح: قوله: (باب ما ينهى) أي عنه (من الطيب للمحرم والمحرمة) أي أنهما في ذلك سواء، ولم يختلف العلماء في ذلك، وإنما اختلفوا في أشياء هل تعد طيبا أو لا؟ والحكمة في منع المحرم من الطيب أنه من دواعي الجماع ومقدماته التي تفسد الإحرام، وبأنه ينافي حال المحرم فإن المحرم أشعث أغبر. قوله: (وقالت عائشة: لا تلبس المحرمة ثوبا بورس أو زعفران) وصله البيهقي من طريق معاذ عن عائشة قالت " المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلا ثوبا مسه ورس أو زعفران، ولا تبرقع ولا تلثم، وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت " وقد تقدم في أوائل الباب أن المرأة كالرجل في منع الطيب إجماعا. وروى أحمد وأبو داود والحاكم أصل حديث الباب من طريق ابن إسحاق حدثني نافع عن ابن عمر بلفظ " أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب " ثم أورد المصنف حديث ابن عمر " قام رجل فقال: يا رسول الله ماذا تأمرنا أن نلبس؟ " الحديث. وقد تقدم في أوائل الحج مع سائر مباحثه في " باب ما يلبس المحرم من الثياب " وزاد فيه هنا " ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين " وذكر الاختلاف في رفع هذه الزيادة ووقفها، وسأبين ما في ذلك إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنْ الثِّيَابِ فِي الْإِحْرَامِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا الْبَرَانِسَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلَانِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا الْوَرْسُ وَلَا تَنْتَقِبْ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسْ الْقُفَّازَيْنِ تَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ وَجُوَيْرِيَةُ وَابْنُ إِسْحَاقَ فِي النِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَلَا وَرْسٌ وَكَانَ يَقُولُ لَا تَتَنَقَّبْ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسْ الْقُفَّازَيْنِ وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لَا تَتَنَقَّبْ الْمُحْرِمَةُ وَتَابَعَهُ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ الشرح: قوله: (تابعه موسى بن عقبة) وصله النسائي من طريق عبد الله بن المبارك عنه عن نافع في آخر الزيادة المذكورة قبل. قوله (وإسماعيل بن إبراهيم) أي ابن عقبة، وهو ابن أخي موسى المذكور قبله، وقد رويناه من طريقه موصولا في " فوائد علي بن محمد المصري " من رواية السلفي عن الثقفي عن ابن بشران عنه عن يوسف بن يزيد عن يعقوب بن أبي عباد عن إسماعيل عن نافع به. قوله: (وجويرية) أى ابن أسماء، وصله أبو يعلى عن عبد الله بن محمد بن أسماء عنه عن نافع وفيه الزيادة. قوله: (وابن إسحاق) وصله أحمد وغيره كما تقدم في أول الباب. قوله: (في النقاب والقفازين) أي في ذكرهما في الحديث المرفوع. والقفاز بضم القاف وتشديد الفاء وبعد الألف زاي: ما تلبسه المرأة في يدها فيغطي أصابعها وكفيها عند معاناة الشيء كغزل ونحوه، وهو لليد كالخف للرجل. والنقاب الخمار الذي يشد على الأنف أو تحت المحاجر، وظاهره اختصاص ذلك بالمرأة، ولكن الرجل في القفاز مثلها لكونه في معنى الخف فإن كلا منهما محيط بجزء من البدن، وأما النقاب فلا يحرم على الرجل من جهة الإحرام لأنه لا يحرم عليه تغطية وجهه على الراجح كما سيأتي الكلام عليه في حديث ابن عباس في هذا الباب. قوله: (وقال عبيد الله) يعني ابن عمر العمري (ولا ورس) وكان يقول " لا تتنقب المحرمة ولا تلبس القفازين " يعني أن عبيد الله المذكور خالف المذكورين قبل في رواية هذا الحديث عن نافع فوافقهم على رفعه إلى قوله " زعفران ولا ورس " وفصل بقية الحديث فجعله من قول ابن عمر. وهذا التعليق عن عبيد الله وصله إسحاق بن راهويه في مسنده عن محمد بن بشر وحماد بن مسعدة وابن خزيمة من طريق بشر ابن المفضل ثلاثتهم عن عبيد الله بن عمر عن نافع فساق الحديث إلى قوله " ولا ورس " قالا: وكان عبد الله - يعني ابن عمر - يقول " ولا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين " ورواه يحيى القطان عند النسائي وحفص ابن غياث عند الدار قطني كلاهما عن عبيد الله فاقتصر على المتفق على رفعه. قوله: (وقال مالك الخ) هو في " الموطأ " كما قال، والغرض أن مالكا اقتصر على الموقوف فقط، وفي ذلك تقوية لرواية عبيد الله وظهر الإدراج في رواية غيره. وقد استشكل ابن دقيق العيد الحكم بالإدراج في هذا الحديث لورود النهي عن النقاب والقفاز مفردا مرفوعا وللابتداء بالنهي عنهما في رواية ابن إسحاق المرفوعة المقدم ذكرها وقال في " الاقتراح ": دعوى الإدراج في أول المتن ضعيفة. وأجيب بأن الثقات إذا اختلفوا وكان مع أحدهم زيادة قدمت ولا سيما إن كان حافظا ولا سيما إن كان أحفظ، والأمر هنا كذلك فإن عبيد الله بن عمر في نافع أحفظ من جميع من خالفه وفد فصل المرفوع من الموقوف، وأما الذي اقتصر على الموقوف فرفعه فقد شذ بذلك وهو ضعيف، وأما الذي ابتدأ في المرفوع بالموقوف فإنه من التصرف في الرواية بالمعنى، وكأنه رأى أشياء متعاطفة فقدم وأخر لجواز ذلك عنده، ومع الذي فصل زيادة علم فهو أولى، أشار إلى ذلك شيخنا في شرح الترمذي". وقال الكرماني: فإن قلت فلم قال بلفظ " قال " وثانيا بلفظ. " كان يقول "؟ قلت لعله قال ذلك مرة وهذا كان بقوله دائما مكررا، والفرق بين المرويين إما من جهة حذف المرأة وإما من جهة أن الأول بلفظ " لا تتنقب " من التفعل والثاني من الافتعال، وإما من جهة أن الثاني بضم الباء على سبيل النفي لا غير والأول بالضم والكسر نفيا ونهيا. انتهى كلامه ولا يخفى تكلفه. قوله (وتابعه ليث بن أبي سليم) أي تابع مالكا في وقفه، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة من طريق فضيل بن غزوان عن نافع موقوفا علي ابن عمر. ومعنى قوله " ولا تنتقب " أي لا تستر وجهها كما تقدم. واختلف العلماء في ذلك فمنعه الجمهور وأجازه الحنفية وهو رواية عند الشافعية والمالكية، ولم يختلفوا في منعها من ستر وجهها وكفيها بما سوى النقاب والقفازين. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ وَقَصَتْ بِرَجُلٍ مُحْرِمٍ نَاقَتُهُ فَقَتَلَتْهُ فَأُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اغْسِلُوهُ وَكَفِّنُوهُ وَلَا تُغَطُّوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يُهِلُّ الشرح: قوله: (عن منصور) هو ابن المعتمر، والحكم هو ابن عتيبة. قوله (وقصت) بفتح القاف والصاد المهملة تقدم تفسيره في " باب كفن المحرم " ويأتي في " باب المحرم يموت بعرفة " بيان اختلاف في هذه اللفظة، والمراد هنا قوله " ولا تقربوه طينا " وهي بتشديد الراء، وسيأتي قريبا بلفظ " ولا تحنطوه " وهو من الحنوط بالمهملة والنون وهو الطيب الذي يصنع للميت. وقوله (يبعث ملبيا) أي على هيئته التي مات عليها. واستدل بذلك على بقاء إحرامه خلافا للمالكية والحنفية، وقد تمسكوا من هذا الحديث بلفظة اختلف في ثبوتها وهي قوله " ولا تخمروا وجهه " فقالوا: لا يجوز للمحرم تغطية وجهه، مع أنهم لا يقولون بظاهر هذا الحديث فيمن مات محرما، وأما الجمهور فأخذوا بظاهر الحديث وقالوا: إن في ثبوت ذكر الوجه مقالا، وتردد ابن المنذر في صحة. وقال البيهقي: ذكر الوجه غريب وهو وهم من بعض رواته، وفي كل ذلك نظر فإن الحديث ظاهره الصحة ولفظه عند مسلم من طريق إسرائيل عن منصور وأبي الزبير كلاهما سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكر الحديث. قال منصور " ولا تغطوا وجهه " وقال أبو الزبير " ولا تكشفوا وجهه " وأخرجه النسائي من طريق عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير بلفظ " ولا تخمروا وجهه ولا رأسه " وأخرجه مسلم أيضا من حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير بلفظ " ولا يمس طيبا خارج رأسه " قال شعبة: ثم حدثني به بعد ذلك فقال " خارج رأسه ووجهه " انتهى. وهذه الرواية تتعلق بالتطيب لا بالكشف والتغطية، وشعبة احفظ من كل من روى هذا الحديث، فلعل بعض رواته انتقل ذهنه من التطيب إلى التغطية. وقال أهل الظاهر: يجوز للمحرم الحي تغطية وجهه ولا يجوز للمحرم الذي يموت عملا بالظاهر في الموضعين. وقال آخرون: هي واقعة عين لا عموم فيها لأنه علل ذلك بقوله " لأنه يبعث يوم القيامة ملبيا " وهذا الأمر لا يتحقق وجوده في غيره فيكون خاصا بدلك الرجل؛ ولو استمر بقاؤه على إحرامه لأمر بقضاء مناسكه، وسيأتي ترجمة المصنف بنفي. وقال أبو الحسن بن القصار: لو أريد تعميم الحكم في كل محرم لقال " فإن المحرم " كما جاء " أن الشهيد يبعث وجرحه يثعب دما"، وأجيب بأن الحديث ظاهر في أن العلة في الأمر المذكور كونه كان في النسك وهي عامة في كل محرم، والأصل أن كل ما ثبت لواحد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت لغيره حتى يتضح التخصيص. واختلف في الصائم بموت هل يبطل صومه بالموت حتى يجب قضاء صوم ذلك اليوم عنه أو لا يبطل؟ وقال النووي: يتأول هذا الحديث على أن النهي عن تغطية وجهه ليس لكون المحرم لا يجوز تغطية وجهه بل هو صيانة للرأس، فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطي رأسه ا ه. وروى سعيد بن منصور من طريق عطاء قال: يغطي المحرم من وجهه ما دون الحاجبين أي من أعلى. وفي رواية: ما دون عينيه. وكأنه أراد مزيد الاحتياط لكشف الرأس، والله أعلم. (تكملة) : كان وقوع المحرم المذكور عند الصخرات من عرفة. وفي الحديث إطلاق الواقف على الراكب، واستحباب دوام التلبية في الإحرام، وأنها لا تنقطع بالتوجه لعرفة، وجواز غسل المحرم بالسدر ونحوه مما لا يعد طيبا. وحكى المزني عن الشافعي أنه استدل على جواز قطع سدر الحرم بهذا الحديث لقوله فيه " واغسلوه بماء وسدر " والله أعلم. (تنبيه) : لم أقف في شيء من طرق هذا الحديث على تسمية المحرم المذكور، وقد وهم بعض المتأخرين فزعم أن اسمه واقد بن عبد الله وعزاه لابن قتيبة في ترجمة عمر من كتاب المغازي، وسبب الوهم أن ابن قتيبة لما ذكر ترجمة عمر ذكر أولاده ومنهم عبد الله بن عمر، ثم ذكر أولاد عبد الله بن عمر فذكر فيهم واقد بن عبد الله بن عمر فقال: وقع عن بعيره وهو محرم فهلك، فظن هذا المتأخر أن لواقد بن عبد الله ابن عمر صحبة وأنه صاحب القصة التي وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس كما ظن فإن واقدا المذكور لا صحبة له فإن أمه صفية بنت أبي عبيد إنما تزوجها أبوه في خلافة أبيه عمر واختلف في صحبتها، وذكرها العجلي وغيره في التابعين، ووجدت في الصحابة واقد بن عبد الله آخر لكن لم أر في شيء من الأخبار أنه وقع عن بعيره فهلك، بل ذكر غير واحد منهم ابن سعد أنه مات في خلافة عمر، فبطل تفسير المبهم بأنه واقد بن عبد الله من كل وجه. *3* وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَدْخُلُ الْمُحْرِمُ الْحَمَّامَ وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ بِالْحَكِّ بَأْسًا الشرح: قوله: (باب الاغتسال للمحرم) أي ترفها وتنظفا وتطهرا من الجنابة، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن للمحرم أن يغتسل من الجنابة، واختلفوا فيما عدا ذلك. وكأن المصنف أشار إلى ما روى عن مالك أنه كره للمحرم أن يغطي رأسه في الماء، وروى في " الموطأ " عن نافع أن ابن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام. قوله: (وقال ابن عباس يدخل المحرم الحمام) وصله الدار قطني والبيهقي من طريق أيوب عن عكرمة عنه قال: المحرم يدخل الحمام، وينزع ضرسه، وإذا انكسر ظفره طرحه ويقول: أميطوا عنكم الأذى فإن الله لا يصنع بأذاكم شيئا. وروى البيهقي من وجه آخر عن ابن عباس أنه دخل حماما بالجحفة وهو محرم وقال: إن الله لا يعبأ بأوساخكم شيئا. وروى ابن أبي شيبة كراهة ذلك عن الحسن وعطاء. قوله: (ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأسا) أما أثر ابن عمر فوصله البيهقي من طريق أبي مجلز قال " رأيت ابن عمر يحك رأسه وهو محرم، ففطنت له فإذا هو يحك بأطراف أنامله". وأما أثر عائشة فوصله مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه واسمها مرجانه " سمعت عائشة تسأل عن المحرم أيحك جسده؟ قال نعم وليشدد. وقالت عائشة: لو ربطت يداي ولم أجد إلا أن أحك برجلي لحككت " ا ه. ومناسبة أثر ابن عمر وعائشة للترجمة بجامع ما بين الغسل والحك من إزالة الأذى. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْعَبَّاسِ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا بِالْأَبْوَاءِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ وَقَالَ الْمِسْوَرُ لَا يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ فَأَرْسَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقُلْتُ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ أَسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ اصْبُبْ فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ الشرح: قوله: (عن زيد بن أسلم عن إبراهيم) كذا في جميع الموطآت، وأغرب يحيى بن يحيى الأندلسي فأدخل بين زيد وإبراهيم نافعا. قال ابن عبد البر وذلك معدود من خطئه. قوله: (عن إبراهيم) في رواية ابن عيينة عن زيد " أخبرني إبراهيم " أخرجه أحمد وإسحاق والحميدي في مسانيدهم عنه. وفي رواية ابن جريج عند أحمد عن زيد بن أسلم " أن إبراهيم بن عبد الله بن حنين مولى ابن عباس أخبره " كذا قال " مولى ابن عباس " وقد اختلف في ذلك والمشهور أن حنينا كان مولى للعباس وهبه له النبي صلى الله عليه وسلم فأولاده موال له. قوله: (أن ابن عباس) في رواية ابن جريج عند أبي عوانة كنت مع ابن عباس والمسور. قوله: (بالأبواء) أي وهما نازلان بها. وفي رواية ابن عيينة " بالعرج " وهو بفتح أوله وإسكان ثانيه: قرية جامعة قريبة من الأبواء. قوله: (إلى أبي أيوب) زاد ابن جريج فقال " قل له يقرأ عليك السلام ابن أخيك عبد الله بن عباس ويسألك". قوله: (بين القرنين) أي قوني البئر، وكذا هو لبعض رواة الموطأ، وكذا في رواية ابن عيينة، وهما العودان - أي العمودان - المنتصبان لأجل عود البكرة. قوله: (أرسلني إليك عبد الله بن عباس يسألك كيف كان الخ) قال ابن عبد البر: الظاهر أن ابن عباس كان عنده في ذلك نص عن النبي صلى الله عليه وسلم أخذه عن أبي أيوب أو غيره، ولهذا قال عبد الله بن حنين لأبي أيوب: يسألك كيف كان يغسل رأسه؟ ولم يقل هل كان يغسل رأسه أو لا على حسب ما وقع فيه اختلاف بين المسور وابن عباس. قلت: ويحتمل أن يكون عبد الله بن حنين تصرف في السؤال لفطنته، كأنه لما قال له سله هل يغتسل المحرم أو لا؟ فجاء فوجده يغتسل، فهم من ذلك أنه يغتسل، فأحب أن لا يرجع إلا بفائدة فسأله عن كيفية الغسل، وكأنه خص الرأس بالسؤال لأنها موضع الإشكال في هذه المسألة لأنها محل الشعر الذي يخشى انتتافه بخلاف بقية البدن غالبا. قوله: (فطأطاه) أي أزاله عن رأسه. وفي رواية ابن عيينة " جمع ثيابه إلى صدره حتى نظرت إليه " وفي رواية ابن جريج " حتى رأيت رأسه ووجهه". قوله: (لإنسان) لم أقف على اسمه، ثم قال أي أبو أيوب " هكذا رأيته - أي النبي صلى الله عليه وسلم - يفعل " زاد ابن عيينة " فرجعت إليهما فأخبرتهما، فقال المسور لابن عباس: لا أماريك أبدا " أي لا أجادلك. وأصل المراء استخراج ما عند الإنسان، يقال أمرى فلان فلانا إذا استخرج ما عنده. قاله ابن الأنباري، وأطلق ذلك في المجادلة لأن كلا من المتجادلين يستخرج ما عند الآخر من الحجة. وفي هذا الحديث من الفوائد مناظرة الصحابة في الأحكام، ورجوعهم إلى النصوص، وقبولهم لخبر الواحد ولو كان تابعيا، وأن قول بعضهم ليس بحجة على بعض. قال ابن عبد البر: لو كان معنى الاقتداء في قوله صلى الله عليه وسلم "أصحابي كالنجوم " يراد به الفتوى لما احتاج ابن عباس إلى إقامة البينة على دعواه بل كان يقول للمسور أنا نجم وأنت تجم فبأينا اقتدي من بعدنا كفاه، ولكن معناه كما قال المزني وغيره من أهل النظر أنه في النقل، لأن جميعهم عدول. وفيه اعتراف للفاضل بفضله، وإنصاف الصحابة بعضهم بعضا، وفيه استتار الغاسل عند الغسل، والاستعانة في الطهارة، وجواز الكلام والسلام حالة الطهارة، وجواز غسل المحرم وتشريبه شعره بالماء ودلكه بيده إذا أمن تناثره، واستدل به القرطبي على وجوب الدلك في الغسل قال: لأن الغسل لو كان يتم بدونه لكان المحرم أحق بأن يجوز له تركه، ولا يخفى ما فيه. واستدل به على أن تخليل شعر الحية في الوضوء باق على استحبابه، خلافا لمن قال يكره كالمتولي من الشافعية خشية انتتاف الشعر، لأن في الحديث " ثم حرك رأسه بيده " ولا فرق بين شعر الرأس واللحية إلا أن يقال إن شعر الرأس أصلب، والتحقيق أنه خلاف الأولى في حق بعض دون بعض، قاله السبكي الكبير، والله أعلم.
|