الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح التبصرة والتذكرة ***
652. وَحَيْثُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ شَيْخٍ سَمِعْ *** مَتْنَاً بِمَعْنَى لاَ بِلَفْظٍ فَقَنِعْ 653. بِلَفْظِ وَاحِدٍ وَسَمَّى الْكُلَّ: صَحّْ *** عِنْدَ مُجِيْزِي النَّقْلِ مَعْنَىً وَرَجَحْ 654. بَيَانُهُ مَعْ قالَ أَوْ مَعْ قالاَ *** وَمَا بِبَعْضِ ذَا وَذَا وَقالاَ 655. اقْتَرَبَا فِي اللَّفْظِ أَوْ لَمْ يَقُلِ: *** صَحَّ لَهُمْ وَالْكُتْبُ إِنْ تُقَابَلِ 656. بِأَصْلِ شَيْخٍ مِنْ شُيُوخِهِ فَهَلْ *** يُسْمِى الجَمِيْعَ مَعْ بَيَانِهِ؟ احْتَمَلْ إذا سَمِعَ الرَّاوي الحديثَ منْ شيخينِ فأكثرَ بلفظٍ مختلفٍ، والمعنى واحدٌ جاز لَهُ أنْ يَرْوِيَهُ عن شَيْخَيْهِ، أو شيوخِهِ معَ تسميةِ كُلٍّ، ويسوقَ لفظَ روايةِ واحدٍ فقطْ عندَ مَنْ يجيزُ الروايةَ بالمعنى، وهمُ الأكثرونَ بالشَّرْطِ المتقدِّمِ، والأحسنُ الراجحُ أنْ يُبَيِّنَ لفظَ الروايةِ لِمَنْ هِيَ بقولهِ: وهذا لفظُ فلانٍ، ونحوُ ذلكَ، للخروجِ من الخلافِ. ثُمَّ هُوَ مخيرٌ بَيْنَ أنْ يُفْرِدَ فعلَ القولِ فيخصِّصَهُ بمَنْ لهُ اللَّفْظُ، فيقولُ: أَخبرنا فلانٌ وفلانٌ، واللَّفْظُ لهُ، قالَ: وبينَ أَنْ يأتَي بالفعلِ لهما فيقولُ: قالاَ أَخْبَرَنَا فلانٌ. وإلى هَذَا الإشارةُ بقولي: (مَعْ قالَ، أَوْ مَعْ قالاَ). واستُحْسِنَ لمسلمٍ قولُهُ: حَدَّثَنَا أبو بكرِ بنُ أبي شيبةَ وأبو سعيدٍ الأشجُّ؛ كِلاَهُمَا عن أبي خالدٍ، قالَ أبو بكرٍ: حَدَّثَنَا أبو خالدٍ الأحمرُ. قالَ ابنُ الصلاحِ: «فإعادتُهُ ثانياً ذِكْرَ أحدِهما خاصَّةً إِشعارٌ بأنَّ اللَّفْظَ المذكورَ لهُ». قلتُ: ويحتملُ أنَّهُ أرادَ بإعادتِه بيانَ التصريحِ فيهِ بالتحديثِ، وأنَّ الأشجَ لم يُصَرِّحْ في روايتهِ بالتحديثِ، واللهُ أعلمُ. وقولي: (وما بِبَعْضِ ذَا وذَا وقالاَ)، الألفُ في آخرِ حرفِ الروي للإطلاقِ، أي: وما أتى فيه الراوي ببعضِ لفظِ أحدِ الشيخينِ، وبعضِ لفظِ الآخرِ، ولَمْ يُبَيِّنْ لفظَ أحدِهما منَ الآخرِ، بلْ قالَ: وتقاربا في اللَّفْظِ، أو المعنى واحدٌ، ونحوَ ذلكَ؛ فهوَ جائزٌ صحيحٌ عندَ مَنْ يُجَوِّزُ الروايةَ بالمعنى، وهكذا لَوْ لَمْ يقلْ وتقاربا، وما أشبهَهَا، فهوَ جائزٌ صحيحٌ أَيْضاً عِنْدَ مَنْ جَوَّزَ الروايةَ بالمعنى، وإليهِ الإشارةُ بقولي: (صَحَّ لَهُمْ) أَي: لِمُجيزِي الروايةِ بالمعنى. قالَ ابنُ الصلاحِ: «وهذا ممَّا عِيبَ بهِ البخاريُّ أو غيرُهُ»، أي تَركَ البيانِ. وقولي: (وَالكُتْبُ إنْ تُقَابَلِ …) إلى آخرهِ، أي: إذا قُوبلَ كتابٌ من الكتبِ المصنَّفةِ سمعَه على شيخينِ فأكثرَ بأَصلِ أحدِ شَيْخَيْهِ، أو أَحَدِ شيوخِهِ دونَ بقيِّتِهِم، فهل له أنْ يُسمِّيَ جميعَ شيوخِهِ في روايتهِ لذلكَ الكتابِ مع بيانِ أيِّ اللفظِ للشيخِ الذي قاَبلَهُ بأصلهِ؟ قالَ ابنُ الصلاحِ: «يحتملُ أنْ يجوزَ كالأَوَّلِ؛ لأنَّ ما أوردَهُ قد سمعَهُ بنصِّهِ ممَّنْ ذكرَ أنَّهُ بلفظِهِ، ويحتملُ أنَّهُ لا يجوزُ؛ لأنَّهُ لا علمَ عندَهُ بكيفيةِ روايةِ الآخرينَ، حتى يُخبرَ عنها بخلافِ ما سبق؛ فإنهُ اطَّلَعَ فيهِ على موافقةِ المعنى».
657. وَالشَّيْخُ إِنْ يَأْتِ بِبَعْضِ نَسَبْ *** مَنْ فَوْقَهُ فَلاَ تَزِدْ وَاجْتَنِبْ 658. إِلاَّ بِفَصْلٍ نَحْوُ هُوْ أَوْ يَعْنِي *** أَوْجِئْ بِأَنَّ وَانْسِبَنَّ الْمَعْنِي 659. أَمَّا إذا الشَّيْخُ أَتَمَّ النَّسَبَا *** فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ فَقَطْ فَذَهَبَا 660. الأَكْثَرُوْنَ لِجَوَازِ أَنْ يُتَمْ *** مَا بَعْدَهُ وَالْفَصْلُ أَوْلَى وَأَتَمْ إذا سمعَ من شيخٍ حديثاً فاقتصرَ شيخُهُ في نسبِ شيخِهِ، أو مَنْ فوقَهُ على بعضِهِ، فليسَ له أَنْ يزيدَ في النسبِ على ما ذكرَ منهُ شيخُهُ منْ غيرِ فصلٍ يُبَيِّنُ أنَّهُ مِنَ الزيادةِ على شيخِهِ، كقولهِ: هو ابنُ فلانٍ الفلانيُّ، أو يعني: ابنَ فلانٍ، او نحوُ ذلكَ. وروى الخطيبُ عن أحمدَ: أنَّهُ كانَ إذا جاءَ اسمُ الرجلِ غيرَ منسوبٍ، قالَ: يعني ابنَ فلانٍ. وروينا في كتابِ " اللُّقطِ " للبرقانيِّ بإسنادِهِ إلى ابنِ المدينيِّ، قالَ: إذا حدَّثَكَ الرجلُ فقالَ: حَدَّثَنَا فلانٌ، ولَمْ ينسبْهُ، وأحببْتَ أن تنسبَهُ، فقلْ: حَدَّثَنَا فلانٌ أَنَّ فلانَ بنَ فلانِ بنِ فلانٍ حَدَّثَهُ. وأَمَّا إذا أتمَّ الشيخُ نَسَبَ شيخهِ في أولِ كتابٍ أو جزءٍ واقتصرَ في بقيةِ الكتابِ، أو الجزءِ على اسمِ الشيخِ، فإنَّهُ يجوزُ لمَنْ سمعَ من الشيخِ أنْ يفردَ ما بعدَ الحديثِ الأوَّلِ معَ إتمامِ نسبِ شيخِ شيخِهِ فيهِ، كما حكاهُ الخطيبُ عن أكثرِ أهلِ العلمِ. وحَكَى عن شيخهِ أبي بكرٍ أحمدَ بنِ عليٍّ الأصبهانيِّ أحدِ الحفَّاظِ أنَّهُ كانَ يقولُ في مثلِ هذا: إنَّ فلانَ بنَ فلانٍ. وعنْ بعضِهِم: أنَّ الأَوْلى أنْ يقولَ فيهِ: يعني ابنَ فلانٍ. وبعضُهُم يقول: هو ابنُ فلانٍ، قالَ: وهذا الذي اسْتَحِبُّهُ؛ لأنَّ قوماً من الرواةِ كانوا يقولونَ فيما أُجيزَ لهم: أخبرنا فلانٌ أنَّ فلاناً حدَّثَهُم. انتهى. ولعلَّهُ فيما أُجيزَ لشيوخِهِم، كما تقدَّمَ نَقْلُهُ عن الخطَّابيِّ.
661. وَالنُّسَخُ الَّتِي بِإِسْنَادٍ قَطُ *** تَجْدِيْدُهُ فِي كُلِّ مَتْنٍ أَحْوَطُ 662. وَالأَغْلَبُ الْبَدْءُ بِهِ وَيُذْكَرُ *** مَا بَعْدَهُ مَعْ وَبِهِ وَالأَكْثَرُ 663. جَوَّزَ أَنْ يُفْرِدَ بَعْضاً بِالسَّنَدْ *** لآِخِذٍ كَذَا وَالإِفْصَاحُ أَسَدْ 664. وَمَنْ يُعِيْدُ سَنَدَ الْكِتَابِ مَعْ *** آخِرِهِ احْتَاطَ وَخُلْفَاً مَا رَفَعْ النسخُ التي إسنادُ أحاديثِها إسنادٌ واحدٌ كنُسخةِ همَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه روايةُ عبدِ الرزاقِ عن مَعْمرٍ عنهُ ونحوِها. الأحوَطُ أنْ يُجَدِّدَ ذكرَ الإسنادِ عندَ كُلِّ حديثٍ منها. ومن أهلِ الحديثِ مَنْ يفعلُهُ. ويوجدُ ذلكَ في كثيرٍ من الأُصولِ القديمةِ، وأَوجبَ بعضُهم ذلكَ، وأشرتُ إلى الخلافِ بقولي في آخرِ الأبياتِ: (وخُلْفاً ما رَفَعْ). والأغلبُ الأكثرُ أنْ يُبدأَ بالإسنادِ في أوَّلها، أو في أَوَّلِ كُلِّ مجلسٍ من سماعِها، ويُدْرَجُ الباقي عليهِ، بقولهِ، في كُلِّ حديثٍ بعدَ الحديثِ الأوَّلِ، وبهِ، أو وبالإسنادِ، ونحوِ ذلكَ. ثُمَّ إنَّ مَنْ سمعَ هكذا يذكرُ السندَ في أوَّلهِ. وإدراجُ ما بعدَهُ عليهِ هلْ لهُ أنْ يُفردَ ما بعدَ الحديثِ الأولِ بالسندِ المذكورِ في أولِهِ؟ ذهبَ الأكثرونَ إِلَى الجوازِ منهمْ وكيعٌ وابنُ معينٍ والأسماعيليُّ؛ لأَنَّ المعطوفَ لهُ حُكمُ المعطوفِ عليهِ وهوَ بمثابةِ تقطيعِ المتنِ الواحدِ في أبوابٍ بإسنادِهِ المذكورِ في أوَّلهِ. وذهبَ أبو إسحاقَ الإسفرايينيُّ وبعضُ أهلِ الحديثِ إلى المنعِ، إِلاَّ معَ بيانِ كيفيةِ التحمُّلِ. وعلى القولِ بالجوازِ، فالأحسنُ البيانُ كما يفعلُ كثيرٌ من المؤلِّفِيْنَ، منهمْ مُسْلِمٌ، كقولهِ: حَدَّثَنَا محمدُ بنُ رافعٍ، قالَ: حَدَّثَنَا عبدُ الرزاقِ، قالَ: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن همَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ، قالَ: هذا ما حَدَّثَنَا أبو هريرةَ، وذكرَ أحاديثَ منها: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ أدنى مَقْعَدِ أَحَدِكُم في الجنَّةِ، … الحديثَ. وما يفعلُهُ بعضُهُمْ من إعادةِ السندِ في آخرِ الكتابِ، أو الجزءِ، فهو احتياطٌ وتأكيدٌ، ولا يَرْفَعُ الخلافَ في إفرادِ كُلِّ حديثٍ بالسنَدِ.
665. وَسَبْقُ مَتْنٍ لَوْ بِبَعْضِ سَنَدِ *** لاَ يَمْنَعُ الْوَصْلَ وَلاَ أَنْ يَبْتَدِي 666. رَاوٍ كَذَا بِسَنَدٍ فَمُتَّجِهْ *** وَقالَ: خُلْفُ النَّقْلِ مَعْنَى يَتَّجِهْ 667. في ذَا كَبَعْضِ الْمَتْنِ قَدَّمْتَ عَلَى *** بَعْضٍ فَفِيْهِ ذَا الْخِلاَفُ نُقِلاَ إذا قدَّمَ الرَّاوي الحديثَ على السندِ، كأنْ يقولَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: كذا وكذا، أخبرنا به فلانٌ، ويذكرُ سندَهُ، أو قدَّمَ بعضَ الإسنادِ معَ المتنِ على بقيَّةِ السَّنَدِ كأَنْ يقولَ: رَوَى عمرُو بنُ دينارٍ عن جابرٍ، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: كذا وكذا، أخبرنا به فلانٌ، ويسوقُ سندَهُ إلى عمروٍ، فهو إسنادٌ متَّصلٌ لا يمنعُ ذلكَ الحكمَ باتِّصَالهِ، ولا يمنعُ ذلكَ كمنْ روى كذلكَ أي تحمَّلَهُ من شيخِهِ كذلكَ أنْيبتدئَ بالإسنادِ جميعِهِ، أوَّلاً، ثُمَّ يذكرُ المتنَ كما جوَّزَهُ بعضُ المتقدِّمينَ من أهلِ الحديثِ، قالَ ابنُ الصلاحِ: «وينبغي أنْ يكونَ فيهِ خلافٌ نحوُ الخلافِ في تقديمِ بعضِ المتنِ على بعضٍ، فقد حَكى الخطيبُ: المنعَ من ذلكَ، على القولِ بأَنَّ الروايةَ على المعنى لا تجوزُ، والجوازَ على القولِ بأَنَّ الروايةَ على المعنى تجوزُ ولا فرقَ بينهُما في ذلكَ».
668. وَقَوْلُهُ مَعْ حَذْفِ مَتْنٍ مِثْلَهُ *** أَوْ نَحْوَهُ يُرِيْدُ مَتْنَاً قَبْلَهُ 669. فَالأَظْهَرُ الْمَنْعُ مِنْ انْ يُكَمِّلَهْ *** بِسَنَدِ الثَّاني وَقِيْلَ: بَلْ لَهْ 670. إِنْ عَرَفَ الرَّاوِيَ بِالتَّحَفُّظِ *** وَالضَّبْطِ وَالتَّمْيِيْزِ لِلتَّلَفُّظِ 671. وَالْمَنْعُ فِي نَحْوٍ فَقَطْ قَدْ حُكِيَا *** وَذَا عَلَى النَّقْلِ بَمِعْنَى بُنِيَا 672. وَاخْتِيْرَ أَنْ يَقُوْلَ: مِثْلَ مَتْنِ *** قَبْلُ وَمَتْنُهُ كَذَا، وَيَبْنِي إذا رَوَى الشيخُ حديثاً بإسنادٍ لهُ، وذكرَ متنَ الحديثِ. ثُمَّ أتبعَهُ بإسنادٍ آخرَ، وحذفَ متنَهُ، وأحالَ به على المتنِ الأوَّلِ، بقولِهِ: مِثْلُهُ، أو نحوُهُ، فهلْ لِمَنْ سمعَ منهُ ذلكَ أنْ يقتصرَ على السندِ الثاني، ويسوقَ لفظَ حديثِ السندِ الأوَّلِ؟ فيهِ ثلاثةُ أقوالٍ: أظهرُهَا منعُ ذلكَ، وهو قولُ شعبةَ. فروينا عنهُ أَنَّهُ قالَ: فلانٌ عن فلانٍ: مِثْلُهُ، لا يُجْزِئُ. وروينا عنهُ أيضاً، أنَّهُ قالَ: قولُ الراوي: نحوَهُ، شكٌّ. والثاني: جوازُ ذلكَ إذا عُرِفَ أنَّ الراوي لذلكَ ضابطٌ مُتَحَفِّظٌ، يذهبُ إلى تمييزِ الألفاظِ وَعَدِّ الحروفِ، فإنْ لم يُعْرَفْ ذلكَ منهُ، لم يَجُزْ. حكاهُ الخطيبُ عن بعضِ أهلِ العلمِ. وروينا عن سفيانَ الثوريِّ قالَ: فلانٌ عن فلانٍ مِثْلهُ يُجْزِئُ، وإذا قالَ: نحوَهُ، فهو حديثٌ. والثالثُ: أنَّهُ يجوزُ في قولِهِ: مثلِهِ، ولا يجوز في قولِهِ: نحوهِ. وهو قولُ يحيى بنِ معينٍ. وعليهِ يدلُّ كلامُ الحاكمِ أبي عبدِ اللهِ حيثُ يقولُ: لا يَحِلُّ لهُ أنْ يقولَ: مِثلَهُ إلاَّ بعدَ أنْ يَعْلَم أنَّهُما على لفظٍ واحدٍ، ويحلُّ أنْ يقول: نحوَهُ، إذا كانَ على مثلِ معانيهِ. قالَ الخطيبُ: «وهذا على مذهبِ مَنْ لم يُجِزِ الروايةَ على المعنى، وأمَّا على مذهبِ مَنْ أجازَها فلا فَرْقَ بينَ مثلِهِ ونحوِهِ». قالَ الخطيبُ: وكانَ غيرُ واحدٍ من أهلِ العلمِ، إذا روى مثلَ هذا يوردُ الإسنادَ، ويقولُ: مثلُ حديثٍ قبلَهُ، متنُهُ كذا وكذا، ثم يسوقُهُ. قالَ: وكذلكَ إذا كانَ المحدِّثُ قدْ قالَ نحوَهُ. قالَ: «وهذا الذي أَختارُهُ». 673. وَقَوْلُهُ: إِذْ بَعْضُ مَتْنٍ لِمْ يُسَقْ *** وَذَكَرَ الْحَدِيْثَ فَالْمَنْعُ أَحَقّْ 674. وَقِيْلَ: إِنْ يَعْرِفْ كِلاَهُمَا الْخَبَرْ *** يُرْجَى الْجَوَازُ وَالْبَيَانُ الْمُعْتَبَرْ 675. وَقالَ: إِنْ يُجِزْ فَبِالإِجَازَهْ *** لِمَا طَوَى وَاغْتَفَرُوْا إِفْرَازَهْ أي: إذا أتى الشيخُ الراوي ببعضِ الحديثِ وحذفَ بقيتَهُ، وأشارَ إليهِ بقولهِ: وذكرَ الحديثَ، أو نحوَ ذلكَ، كقولِهِ: وذَكَرَهُ، وكقولِهِ: الحديثَ، ولم يكنْ تقدَّمَ كمالُ الحديثِ، كالصورةِ الأُولى، فليسَ لمَنْ سمعَ كذلكَ أنْ يتمِّمَ الحديثَ، بل يقتصرُ على ما سمعَ منهُ، إلاَّ معَ البيانِ، كما سيأتي. وهذا أَوْلى بالمنعِ من المسألةِ التي قبلَها؛ لأنَّ المسألةَ التي قبلَها قد ساقَ فيها جميعَ المتنِ قبلَ ذلكَ، بإسنادٍ آخرَ، وفي هذه الصورةِ لم يُسِقْ إلاَّ هذا القَدَرَ من الحديثِ. وبالمنعِ أجابَ الأستاذُ أبو إسحاقَ الإسفرايينيُّ، وقالَ أبو بكرٍ الإسماعيليُّ: إذا عَرَفَ المحدِّثُ والقارِئُ ذلكَ الحديثَ فأرجو أَنْ يجوزَ ذلكَ. والبيانُ أولى بأنْ يقولَ: كما قالَ. وطريقُ مَنْ أرادَ إتمامهُ أنْ يقتصرَ ما ذكرَهُ الشيخُ منهُ، ثُمَّ يقولُ: قالَ، وذكرَ الحديثَ. ثُمَّ يقولُ: وتمامُهُ كذا وكذا، ويسوقُهُ. وقالَ ابنُ الصلاحِ بعدَ حكايةِ كلامِ الإسماعيليِّ: «إذا جَوَّزْنَا ذلكَ، فالتحقيقُ فيهِ أنَّهُ بطريقِ الإجازَةِ فيما لم يذكرْهُ الشيخُ. قالَ: لكنَّها إجازةٌ أكيدةٌ قويةٌ من جهاتٍ عديدةٍ، فجازَ لهذا- معَ كونِ أَوَّلِهِ سماعاً- أدراجُ الباقي عليهِ من غيرِ إِفرادٍ لهُ بلفظِ الإجازةِ».
676. وَإِنْ رَسُوْلٌ بِنَبِيٍّ أُبْدِلاَ *** فَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ كَعَكْسٍ فُعِلاَ 677. وَقَدْ رَجَا جَوَازَهُ ابْنُ حَنْبَلِ *** والنووي صَوَّبَهُ وَهْوَ جَلِيْ إذا وقعَ في الروايةِ: عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فهلْ للسامعِ أَنْ يقولَ: عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وهكذا عكسُهُ، كأَنْ يكونَ في الروايةِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيقولَ: عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قالَ ابنُ الصلاحِ: «الظاهرُ أنهُ لا يجوزُ وإِنْ جازتِ الروايةُ بالمعنى، فإنَّ شَرْطَ ذلك أَلا يختلفَ المعنى، والمعنى في هذا مختلفٌ». وكان أحمدُ إذا كانَ في الكتابِ: النبيُّ، فقالَ المحدِّثُ: رسولَ اللهِ، ضَرَبَ وكتبَ: رسولَ اللهِ. قالَ الخطيبُ: «هذا غيرُ لازمٍ، وإنَّما استُحِبَّ اتباعُ اللفظِ، وإِلاَّ فمذهبُهُ الترخيصُ في ذلكَ». وقد سألَهُ ابنُهُ صالحٌ: يكونُ في الحديثِ رسولُ اللهِ فَيَجْعَلُ النبيَّ؟! قالَ: أرجو ألا يكونَ بِهِ بأسٌ، وقالَ حمَّادُ بنُ سَلَمَةَ لعفانَ وبهزٍ، لما جَعَلا يُغيِّرانِ النبيَّ من رسولِ اللهِ: أمَّا أنتُما فَلاَ تَفْقَهانِ أبداً. قلتُ: وقولُ ابنِ الصلاحِ: أنَّ «المعنى في هَذَا مختلفٌ» لا يمنعُ جوازَ ذلكَ؛ لأَنَّهُ وإنِ اختلفَ معنى النبيِّ والرسولِ، فإنَّهُ لا يختلفُ المعنى في نسبةِ ذلكَ القولِ لقائلهِ بايِّ وصفِ وصفَهُ، إذا كانَ يُعَرِّفُ بهِ. وأمَّا ما استدلَّ بهِ بعضُهُم على المنعِ بحديثِ البراءِ بنِ عازبٍ في الصحيحِ في الدُّعاءِ عندَ النومِ، وفيهِ: ونبيِّكَ الذي أرسلتَ. فقالَ يستذكِرُهُنَّ: وبرسولِكَ الذي أرسلتَ، فقالَ: «لا وبنَبِيِّكَ الذي أرسلتَ» فليسَ فيهِ دليلٌ؛ لأنَّ ألفاظَ الأذكارِ توقيفيَّةٌ، وربَّمَا كانَ في اللَّفْظِ سِرٌّ لا يحصلُ بغيرِهِ، ولعلَّهُ أرادَ أنْ يجمعَ بينَ اللَّفظينِ في موضعٍ واحدٍ. وقالَ النوويُّ: «الصوابُ- واللهُ أعلمُ- جوازُهُ؛ لأنَّهُ لا يختلفُ بهِ هُنَا مَعْنًى».
678. ثُمَّ عَلَى السَّامِعِ بِالْمُذَاكَرَهْ *** بَيَانُهُ كَنَوْعِ وَهْنٍ خَامَرَهْ إذا سمعَ مِنَ الشيخِ مِنْ حفظِهِ في حالةِ المذاكرةِ، فعليهِ بيانُ ذلكَ بقولِهِ: حَدَّثَنَا مذاكرةً، أو في المذاكرةِ، ونحوِ ذلكَ؛ لأنهم يتساهلونَ في المذاكرةِ. والحِفْظُ خَوَّانٌ، ولهذا كانَ أحمدُ يمتنعُ من روايةِ ما يحفظُهُ إلاَّ من كتابِهِ، وقد منعَ عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ وابنُ المباركِ وأبو زُرْعَةَ الرازيُّ أَنْ يُحَملَ عنهم في المذاكرةِ شيءٌ. هكذا قالَ ابنُ الصلاحِ: إنَّ عليهِ بيانَ ما فيهِ بعضُ الوَهْنِ. وجعلَ من أمثلتِهِ ما سمِعَهُ في المذاكرةِ فتبعتُهُ في ذلكَ. وفي كلامِ الخطيبِ: إنَّهُ ليسَ بحتمٍ، فإنَّهُ قالَ: «وأستَحِبُ أَنْ يقولَ: حدثنَاهُ في المذاكرةِ». وقولي: (كنَوْعِ وَهْنٍ خَامَرَهْ) أي: كما إذا كانَ في سماعِهِ نوعٌ من الوَهْنِ، فإنَّ عليهِ بيانَهُ، كأنْ يسمَعَ من غيرِ أصلٍ، أَو كانَ هو، أو شيخُهُ يتحدَّثُ في وقتِ القراءةِ عليهِ، أَوْ يَنْسَخُ، أو يَنْعَسُ، أو كانَ سماعُ شيخِهِ، أو سماعُهُ هو بقراءةِ مُصَحِّفٍ، أو لَحَّانٍ، أَو كُتَّابَةِ التَّسْمِيعِ بخطِّ مَنْ فيهِ نَظَرٌ، ونحوِ ذلكَ، فإنَّ في إغفالِ ذلكَ وَتَرْكِ البيانِ نوعاً من التَّدْلِيْسِ. 679. وَالْمَتْنُ عَنْ شَخْصَيْنِ وَاحِدٌ جُرِحْ *** لاَ يَحْسُنُ الْحَذْفُ لَهُ لَكِنْ يَصِحْ 680. وَمُسْلِمٌ عَنْهُ كَنَى فَلَمْ يُوَفْ *** وَالْحَذْفُ حَيْثُ وُثِقَا فَهْوَ أَخَفْ إذا كانَ الحديثُ عن رجلينِ: أحدُهما مجروحٌ، كحديثٍ لأنَسٍ يرويهِ عنهُ مثلاً ثابتٌ البُنَانيُّ، وأبانُ بن أبي عيَّاشٍ، ونحوُ ذلكَ، لا يحسنُ إسقاطُ المجروحِ- وهو أبانُ- والاقتصارُ على ثابتٍ لجوازِ أَنْ يكونَ فيه شيءٌ عن أبانَ لم يذكرْهُ ثابتٌ؛ وحملُ لفظِ أحدِهما عَلَى الآخَرِ، قالَ نحوَ ذلكَ أحمدُ، والخطيبُ، وقالَ ابنُ الصلاحِ: «إنَّهُ لا يمتنعُ ذلكَ امتناعَ تحريمٍ؛ لأنَّ الظاهرَ اتفاقُ الروايتينِ، وما ذُكِرَ من الاحتمالِ نادرٌ بعيدٌ». قالَ الخطيبُ: وكانَ مسلمُ بنُ الحجَّاجِ في مثلِ هذا رُبَّمَا أسقطَ المجروحَ من إلاسنَاْدِ ويذكرُ الثقةَ، ثُمَّ يقولُ: «وآخرُ» كِنَايَةً عن المجروحِ. قالَ: وهذا القولُ لا فائدةَ فيهِ. قالَ ابنُ الصلاحِ: «وهكذا ينبغي، إذا كانَ الحديثُ عن ثقتينِ أنْ لا يُسقِطَ أحدَهما منهُ؛ لتطرقِ مثلِ الاحتمالِ المذكورِ إليهِ، وإنْ كانَ محذورُ الإسقاطِ فيهِ أقلَّ، ثُمَّ لا يمتنعُ ذلكَ». 681. وَإِنْ يَكُنْ عَنْ كُلِّ رَاوٍ قِطْعَهْ *** أَجِزْ بِلاَ مَيْزٍ بِخَلْطِ جَمْعَهْ 682. مَعَ الْبَيَانِ كَحَدِيْثِ الإِْفْكِ *** وَجَرْحُ بَعْضٍ مُقْتَضٍ لِلتَّرْكِ 683. وَحَذْفَ وَاحِدٍ مِنَ الإِسْنَادِ *** فِي الصُّوْرَتَيْنِ امْنَعْ لِلاِزْدِيَادِ إذا لم يكن سمعَ جميعَ الحديثِ من شيخٍ واحدٍ فأكثرَ، بل سمعَ قطعةً من الحديثِ من شيخٍ، وقطعةً منه من شيخٍ آخرَ، فما زادَ، فإنَّهُ يجوزُ لهُ أنْ يخلطَ الحديثَ ويرويَهُ عنهما، أو عنهم جميعاً، معَ بيانِ أَنَّ عن كُلِّ شيخٍ بعضَ الحديثِ من غيرِ تمييزٍ لما سمعَهُ من كُلِّ شيخٍ من الآخَرِ، كحديثِ الإفْكِ في الصحيحِ من روايةِ الزُّهريِّ، حيثُ قالَ: حَدَّثَني عروةُ، وسعيدُ بنُ المسيِّبِ، وعلقمةُ بنُ وقاصٍ، وعُبيدُ اللهِ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ، عن عائشةَ، قالَ: وكلٌّ قد حَدَّثَني طائفةً من حديثِها، ودخلَ حديثُ بعضِهِم في بعضٍ، وأَنَا أَوْعَى لحديثِ بعضِهِم!!؟ فذكرَ الحديثَ. فإنِ اتُّفِقَ في حديثٍ غيرِ هذا أَنْ كانَ بعضُ الرواةِ في مثلِ هذهِ الصورةِ ضعيفاً، فذلكَ مقتضٍ لطرحِ جميعِ الحديثِ؛ لأنَّهُ ما مِنْ قطعةٍ من الحديثِ، إلاَّ وجائزٌ أَنْ تكونَ عن ذلكَ الرَّاوي المجروحِ. وقولي: (وحَذْفَ)، هو مفعولٌ مقدَّمٌ، أي: امنعْ حذفَ واحدٍ من الإسنادِ فيما نحنُ فيهِ في الصورتينِ، في صورةِ ما إذا كانَ الراويانِ، أوِ الرواةُ كلهُّم ثقاتٌ، وفي صورةِ ما إذا كانَ فيهم ضعيفٌ؛لأنَّكَ إذا حذفتْ واحداً من الإسنادِ، وأتيتَ بجميعِ الحديثِ، فَقَدْ زدْتَ عَلَى بقيَّةِ الرواةِ ما ليسَ من حديثِهِم، وإنْ حذفْتَ بعضَ الحديثِ لَمْ يُعلمْ أَنَّ ما حذفْتَهُ هُوَ روايةُ مَنْ حَذفتَ اسمَهُ فيجبُ ذكرُ جميعِ الرواةِ في الصورتينِ معاً.واللهُ أعلمُ.
684. وَصَحِّحِ النِّيَّةَ فيِ التَّحْدِيْثِ *** وَاحْرِصْ عَلَى نَشْرِكَ لِلْحَدِيْثِ 685. ثُمَّ تَوَضَّأْ وَاغْتَسِلْ وَاسْتَعْمِلِ *** طِيْبَاً وَتَسْرِيْحَاً وَزَبْرَ المعتَلِي 686. صَوْتاًعَلى الْحَدِيْثِ وَأجْلِسْ بِأَدَبْ *** وَهَيْبَةٍ بِصَدْرِ مَجْلِسٍ وَهَبْ 687. لَمْ يُخْلِصِ النِّيَّةَ طَالِبٌ فَعُمْ *** وَلاَ تُحَدِّثْ عَجِلاً أَوْ إِنْ تَقُمْ 688. أَوْ فِي الطَّرِيْقِ ثُمَّ حَيْثُ احْتِيْجَ لَكْ *** فِي شَيْءٍ ارْوِهِ وَابْنُ خَلاَّدٍ سَلَكْ 689. بِأَنَّهُ يَحْسُنُ لِلْخَمْسِيْنَا *** عَامَاً وَلاَ بَأْسَ لأَِرْبَعِيْنَا 690. وَرُدَّ. والشَّيْخُ بِغَيْرِ الْبَارِعِ *** خَصَّصَ لاَكَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيْ مَنْ تصدَّى لإسماعِ الحديثِ، أو الإفادةِ فيهِ فليقدِّمْ تصحيحَ النِّيَّةِ وإخلاصَها، فإنَّمَا الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وقد قالَ سفيانُ الثوريُّ: قلتُ لحبيبَ بنِ أبي ثابتٍ حَدِّثْنا. قالَ: حتى تجيءَ النِّيَّةُ. وقيلَ لأبي الأحوصِ سَلاَّمِ بنِ سُليمٍ حدِّثْنَا. فقالَ: ليستْ لي نيةٌ، فقالُوا لهُ: إنَّكَ تُؤْجَرُ. فقالَ: نَجَوْتُ كَفَافاً لاَ عَليَّ وَلالِيَا يُمَنُّوْنَنِيَ الْخَيْرَ الكَثِيْرَ وَلَيْتَنِي وروينا عن حمَّادِ بنِ زيدٍ أنَّهُ قالَ: استغفرُ اللهَ إنَّ لذكرِ الإسنادِ في القلبِ خُيلاءَ، وليكنْ أكبرَ هَمِّهِ نشرُ الحديثِ، والعلمِ، وقدْ أمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالتبليغِ عنهُ، وقد كانَ عُروةُ يتألَّفُ الناسَ على حديِثهِ. وقالَ سفيانُ الثوريُّ: تَعَلَّمُوا هذا العلمَ فإذا عَلِمْتُمُوْهُ فَتَحَفَّظُوْهُ، فإذا حَفِظْتُمُوْهُ فاعْمَلُوا بهِ، فإذا عَمِلْتُمْ بهِ فانْشُرُوْهُ. ويُستَحَبُّ لهُ أنْ يستعملَ عندَ إِرادةِ التَّحْدِيثِ ما رويناهُ عن مالكٍ رضي الله عنه، أنَّهُ كانَ إذا أرادَ أنْ يُحَدِّثَ توضّأَ، وجلسَ على صَدْرِ فراشِهِ، وسَرَّحَ لِحْيَتَهُ، وتمكَّنَ في جلوسِهِ بوَقَارٍ وهَيْبَةٍ، وحَدَّثَ، فقيلَ لهُ في ذلكَ، فقالَ أُحبُّ أَنْ أعظِّمَ حديثَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولا أُحَدِّثَ إلاَّ على طهارةٍ مُتَمَكِّناً، وكانَ يَكْرَهُ أَنْ يُحدِّثَ في الطريقِ، أو وهوَ قائمٌ، أو يستعجلَ وقالَ: أُحِبُّ أَنْ أتَفَهَّمَ ما أُحَدِّثُ بهِ عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وروينا عنهُ أَيضاً أنَّهُ كانَ يغتسلُ لذلكَ ويتبخَّرُ ويتطَيَّبُ، فإنْ رفعَ أحدٌ صوتَهُ في مجلسِهِ زَبَرَهُ، وقالَ: قالَ اللهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذْيِنَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}، فَمَنْ رَفَعَ صوتَهُ عِندَ حديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فكأَنَّمَا رفعَ صوتَهُ فوقَ صوتِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وقولي: (وهَبْ لم يُخْلِصِ النِّيَّةَ) أي: وَهَبْ أنَّ الطالبَ لم يُخْلِصْ نِيّتَهُ فلا تمتنِعْ من تحديثِهِ، بلْ عُمَّ كُلَّ طالبِ علمٍ. وروينا عن الثوريِّ أنَّهُ قالَ: ما كانَ في الناسِ أفضلُ مِنْ طلبةِ الحديثِ، فقالَ لهُ ابنُ مهديٍّ: يطلبونَهُ بغيرِ نِيَّةٍ، فقالَ: طلبهُم إيَّاهُ نِيَّةٌ. وروينا عن حبيبِ بنِ أبي ثابتٍ ومَعْمَرٍ بنِ راشدٍ أنَّهُما قالاَ: طلبنَا الحديثَ وما لنا فيه نيَّةٌ، ثُمَّ رزقَ اللهُ عزَّ وجلَّ النِّيَّةَ بَعْدُ وروينا عن مَعْمَرٍ أيضاً، قالَ: إنَّ الرجلَ ليطلبُ العلمَ لغيرِ الله فيأبَى عليهُ العلمُ حتى يكونَ للهِ عزَّ وجلَّ. قالَ الخطيبُ: «والذي نستحبُّهُ أنْ يَرْوِيَ الْمُحَدِّثُ لكلِّ أحدٍ سأَلهُ التحديثَ، ولا يمنعُ أحداً من الطلبةِ». وقولي: (أو أنْ تَقُمْ) أي: في حالِ قيامِكَ، فإنَّهُ معطوفٌ على الحالِ التي قَبْلَهُ. وقولي: (ثُمَّ حيثُ احْتِيْجَ لَكَ في شَيءٍ اروهِ)، بيانٌ للوقتِ الذي يحسنُ فيهِ التَّصَدِّي للإسماعِ، والتَّحْدِيْثِ. فإنْ كانَ قد احْتِيْجَ إلى ما عندَهُ، فقدِ اختلفَ فيه كلامُ الخطيبِ، وابنِ الصلاحِ في الوجوبِ والاستحبابِ، فلهذا أتيتُ فيهِ بصيغةِ الأمرِ الصالحةِ لهما في قولي: (اروهِ). قالَ الخطيبُ في كتابِ " الجامع ": فإن احتيجَ إليهِ في روايةِ الحديثِ قبل أنْ يعلوا سنُّهُ فيجبُ عليهِ أَنْ يُحدِّثَ، ولا يمتنعَ؛ لأنَّ نشرَ العلمِ عندَ الحاجةِ إليهِ لازمٌ، والممتنعُ مِن ذلكَ عاصٍ آثمٌ. وقالَ ابنُ الصلاحِ: والذي نقولُهُ أنهُ متى احتيجَ إِلَى ما عندَهُ استحبَّ لَهُ التَّصَدِّي لروايتهِ، ونشرِهِ في أيِّ سنٍّ كانَ. وروينا عن أبي محمدَ بنِ خَلاَّدٍ الرَّامَهُرْمُزِيُّ في كتابهِ " المحدِّث الفاصل "، قالَ: الَّذِي يصحُّ عندي من طريقِ الأَثرِ والنَّظَرِ في الحدِّ الَّذِي إذا بَلَغَهُ الناقلُ حَسُنَ بهِ أنْ يُحدِّثَ؛ هو أنْ يستوفيَ الخمسيْنَ؛لأنَّها انتهاءُ الكهولةِ، وفيها مجتمعُ الأَشُدِّ. قالَ: «وليسَ بمستَنْكَرٍ أنْ يُحَدِّثَ عندَ استيفاءِ الأربعينَ؛ لأَنَّهَا حَدُّ الاستواءِ، ومنتهى الكمَالِ، نُبِّيءَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابنُ أربعينَ، وفي الأربعينَ تتناهى عزيمةُ الإنسانِ وقَّوتُهُ ويتوفرُ عقلُهُ ويجودُ رأيُهُ». وتعقَّبَهُ القاضي عياضٌ في كتابِ " الإلماع "، فقالَ: واستحسانُهُ هذا لا تقومُ لهُ حُجَّةٌ بما قالَ، وكمْ مِنَ السلفِ المتقدِّمِيْنَ، ومَنْ بعدَهُمْ مِنَ الْمُحَدِّثِيْنَ مَنْ لم ينتِهِ إلى هذا السنِّ، ولا استوفى هذا العمرَ، وماتَ قبلَهُ، وقد نَشَرَ مِنَ العلمِ، والحديثِ ما لا يُحصَى. هذا عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ تُوُفِّيَ ولم يُكْمِلِ الأربعينَ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ لم يبلغِ الخَمْسِيْنَ. وكذلكَ إبراهيمُ النَّخَعِيُّ. وهذا مالكُ بنُ أنسٍ قد جلسَ للناسِ ابنَ نَيَّفٍ وعشرينَ سنةً، وقيلَ: ابنُ سبعَ عشرةَ سنةً، والناسُ متوافرونَ، وشيوخُهُ أحياءٌ: ربيعةُ وابنُ شهابٍ وابنُ هُرْمُزٍ ونافعٌ ومحمدُ بنُ الْمُنْكَدِرِ، وغيرُهم. وقد سمعَ منهُ ابنُ شهابٍ حديثَ الفُرَيْعةِ. ثُمَّ قالَ: وكذلكَ محمدُ بنُ إدريسَ الشافعيُّ قد أُخِذَ عنهُ العلمُ في سنِّ الحداثةِ وانتصبَ لذلكَ في آخرينَ من الأئِمَّةِ المتقدِّمِيْنَ والمتأخِّرِيْنَ. انتهى كلامُ القاضي عياضٍ. وقد روينا عن محمدِ بنِ بشارٍ بُنْدَارٍ، أنَّهُ حَدَّثَ وهو ابنُ ثماني عشرةَ سنةً. وروينا عن أبي بكرٍ الأعْيَنِ، قالَ: كتَبْنَا عن محمّدِ بنِ إسماعيلَ البخاريِّ على بابِ محمدِ بنِ يُوْسُفَ الفِرْيَابِيِّ، وما في وَجْهِهِ من شَعْرَةٍ.وروينا عن الخطيبِ قالَ: وقد حَدَّثْتُ أنَا وَلِيَ عشرونَ سنةً، كَتَبَ عَنِّي شيخُنا أبو القاسمِ الأزهريُّ أشياءَ في سنةِ اثنتي عَشْرَةَ وأربعمائةٍ.انتهى. وقد حَدَّثَ شيخُنُا الحافظُ أبو العباسِ أحمدُ بنُ مُظَفَّرٍ، وسنُّهُ ثماني عَشْرَةَ سنةً، سمعَ منهُ الحافظُ أبو عبدِ اللهِ الذهبيُّ سنةَ ثلاثٍ وتسعينَ وستمائةٍ، وحَدَّثَ عنهُ في "مُعْجَمِهِ" بحديثٍ من " الأفرادِ " للدَّارقطنيِّ، وقالَ عقِبَهُ: أملاهُ عليَّ ابنُ مُظَفَّرٍ، وهو أمردُ. وقد حدَّثَ شيخُنا أبو الثناءِ محمودُ بنُ خليفةَ المنبجيُّ ولهُ عشرونَ سنةً، سمعَ منهُ شيخُنا العلاَّمةُ شيخُ الإسلامِ تقيُّ الدينِ السُّبْكيُّ أحاديثَ من " فضائلِ القرآنِ "، لأبي عُبيدٍ. قلتُ: وقدْ سَمِعَ مِنِّي صاحبُنا العلاَّمَةُ أبو محمودٍ محمدُ بنُ إبراهيمَ المقدسيُّ، وَلِيَ عشرونَ سنةً، سنةَ خمسٍ وأربعينَ، وقد سَمِعَ على شيخِنَا الحافظِ عمادِ الدِّيْنِ بنِ كثيرٍ حديثاً من " أماليِّ ابنِ سمعونَ "، ولم أُكْمِل يومَئِذٍ ثلاثينَ سنةً، سنةَ أربعٍ وخمسينَ بدمشقَ. وهذا ونحوُهُ من روايةِ الأكابرِ عنِ الأَصاغرِ. وقد حملَ ابنُ الصَّلاحِ كلامَ ابنِ خَلاَّدٍ على مَحْمِلٍ صَحيحٍ، فقالَ: ما ذكرَهُ ابنُ خَلاَّدٍ غيرُ مُسْتَنْكَرٍ، وهو محمولٌ على أنَّهُ قالَهُ فيمَنْ يَتَصَدَّى للتَّحْدِيْثِ ابتداءً من نفسِهِ من غيرِ بَرَاعَةٍ في العِلْمِ تعجَّلَتْ له قبلَ السنِّ الذي ذَكَرَهُ. فهذا إِنما ينبغي له ذلكَ بعدَ استيفاءِ السنِّ المذكورِ، فَإنَّهُ مِظنَّةُ الاحتياجِ إلى ما عندَهُ. قالَ: «وأَمَّا الذينَ ذكرَهُم عياضٌ ممَّنْ حَدَّثَ قبلَ ذلكَ، فالظاهرُ أَنَّ ذلكَ لبراعةٍ منهم في العلمِ تقَدَّمَتْ، ظهرَ لهمُ معها الاحتياجُ إليهم فحدَّثوا قبلَ ذلكَ، أوْ لأنَّهمَ سُئِلُوا ذلكَ، إمَّا بصريحِ السؤالِ، وإمَّا بقرينةِ الحالِ» انتهى كلامُهُ. وإليهِ الإشارةُ بقولي: (والشَّيخُ بغيرِ البارعِ خَصَّصَ) أي: خَصَّصَ كلامَ ابنِ خَلاَّدٍ بغيرِ البارعِ في العلمِ. 691. وَيَنْبَغِي الإِْمْسَاكُ إِذْ يُخْشَى الْهَرَمْ *** وَبالْثَمَانِيْنَ ابْنُ خَلاَّدٍ جَزَمْ 692. فَإِنْ يَكُنْ ثَابِتَ عَقْلٍ لَمْ يُبَلْ *** كَأَنَسِ وَمَالِكٍ وَمَنْ فَعَلْ 693. وَالْبَغَوِيُّ وَالْهُجَيْمِيْ وَفِئَهْ *** كَالطَّبَرِيِّ حَدَّثُوْا بَعْدَ الْمِائَهْ لَمَّا ذكرَ السِّنَّ الذي ينبغي فيهِ التَّحْدِيثُ ذكرَ بعدَهُ السِّنَّ الذي ينبغي عنده الإمْسَاكُ عن التَّحْدِيْثِ، قالَ القاضي عياضٌ: «الحدُّ في تركِ الشيخِ التحديثَ التَّغيُّرُ، وخوفُ الخَرَفِ»، وكذا قالَ ابنُ الصلاحِ: «هو السِّنُّ الذي يُخْشَى عليهِ فيهِ مِنَ الْهَرَمِ والخَرَفِ، وَيُخَافُ عليهِ فيهِ أَنْ يُخَلِّطَ، ويرويَ ما ليسَ من حديثِهِ. قالَ: والناسُ في بلوغِ هذا السِّنِّ يتفاوتونَ بِحَسَبِ اختلافِ أحوالهِمِ». وروينا عن أبي محمدِ بنِ خَلاَّدٍ، قالَ: فإذا تناهَى العُمْرُ بالمحدِّثِ فأعْجبُ إليَّ أنْ يُمْسِكَ في الثمانينَ؛ فإنَّهُ حَدُّ الْهَرَمِ. قالَ والتسبيحُ، والذِّكْرُ، وتلاوةُ القرآنِ؛ أَوْلَى بأبناءِ الثمانينَ فإنْ كانَ عقلُه ثابتاً، ورأيُهُ مُجْتَمعاً، يَعْرِفُ حديثَهُ، ويقومُ بهِ، وتحرَّى أنْ يُحدِّثَ احتساباً، رَجَوْتُ له خيراً؛ كالحضرميِّ وموسى وعَبْدَانَ. قالَ: ولم أرَ بفَهْمِ أبي خَلِيْفَةَ وضَبْطِهِ بأساً معَ سِنِّهِ. انتهى كلامُهُ. وقد حَدَّثَ جَمَاعةٌ من الصَّحابةِ فمَنْ بعدَهُم بعدَ مجاوزةِ الثمانينَ. فمِنَ الصحابةَ: أنسُ بنُ مالكٍ، وعبدُ اللهِ بنُ أبي أوفى، وسَهْلُ بنُ سَعْدٍ، في آخَرِينَ. ومن التَّابِعِيْنَ: شُرَيْحٌ القَاضِي، ومجاهدٌ، والشعبيُّ، في آخرينَ. ومِنْ اتباعِهِم: مالكُ بنُ أنسٍ، واللَّيْثُ بنُ سعدٍ، وسفيانُ بنُ عُيينةَ، في آخَرِين منهم. وممَّنْ بعدَهُم، وقدْ ذَكَرَ القاضي عياضٌ أنَّ مالكَاً قالَ: «إنَّمَا يَخْرِّفُّ الكذَّابُونَ» وقد حَدَّثَ جماعةٌ بعدَ أنْ جاوزوا المائةَ. فمِنَ الصحابةِ: حَكِيْمُ بنُ حِزَامٍ، ومِنَ التابعينَ: شَرِيْكُ بنُ عبدِ اللهِ النَّمرِيُّ، ومِمَّنْ بعدَهم: الحسنُ بنُ عَرَفَةَ، وأبو القاسمِ عبدُ اللهِ بنُ محمّدٍ البغويُّ، وأبو إسحاقَ إبراهيمُ بنُ عَلَيٍّ الْهُجَيْمِيُّ، حَدَّثَ وهو ابنُ مائةٍ وثلاثِ سنينَ، والقاضي أبو الطَّيِّبِ طاهرُ بنُ عبدِ اللهِ الطَّبَرِيُّ، والحافظُ أبو الطاهرِ أحمدُ بنُ محمّدٍ السِّلَفيُّ، وغَيْرُهُم؛ ولم يتغيرْ أحدٌ منهم. وقَرَأَ القَارِئُ يومَاً على الْهُجَيْمِيِّ بعدَ أنْ جاوزَ المائَةَ، وأرادَ اختبارَهُ بذلكَ: كالكَلْبِ يَحْمِي جِلْدَهُ برَوْقِهِ *** إنَّ الجَبَانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ فقالَ لَهُ الْهُجَيْمِيُّ: قُلِ الثَّوْرَ يا ثَوْرُ! فإنَّ الكلبَ لا روقَ لَهُ، فَفَرِحَ الناسُ بصحَّةِ عَقلهِ وجودةِ حسِّهِ. قالَ الجوهريُّ: «والرَّوْقُ: القَرْنُ». قالَ الْقَاضِي عياضٌ: «وإنما كرهَ مَنْ كرهَ لإصحابِ الثمانينَ التحديثَ؛ لأنَّ الغالبَ على مَنْ يَبْلُغُ هذا السِّنَّ اختلالُ الجسْمِ، والذِّكْرِ، وضَعْفِ الحالِ، وتغَيُّرِ الفَهْمِ، وحلولِ الخَرَفِ؛ مخافةَ أنْ يبدأَ به التغيرُ والاختلالُ، فلا يفطنُ له إلاَّ بعدَ أنْ جازتْ عليهِ أشياءُ». 694. وَينْبغي إمْسَاكُ الاعْمَى إنْ يَخَفْ *** وَإِنَّ مَنْ سِيْلَ بِجُزْءٍ قَدْ عَرَفْ 695. رُجْحَانَ رَاوٍ فِيْهِ دَلَّ فَهْوَ حَقّْ *** وَتَرْكُ تَحْدِيْثٍ بِحَضْرَةِ الأَحَقّْ 696. وَبَعْضُهُمْ كَرِهَ الأَخْذَ عَنْهُ *** بِبَلَدٍ وَفِيْهِ أَوْلَى مِنْهُ أي: ويَنْبَغِي لِمَنْ عَمِيَ وخافَ أنْ يدخلَ عليهِ ما ليسَ مِنْ حديثِهِ، أنْ يُمسِكَ عن الروايةِ. ويَنْبَغِي أَيضاً للمحدِّثِ إذا سُئِلَ بجزءٍ، أو كتابٍ أنْ يُقْرَأَ عليهِ، وهو يعلمُ أنَّ غيرَهُ في بلدتهِ أو غيِرها أرجحُ في روايتِهِ منهُ، بكونِهِ أعلى إسناداً منهُ فيهِ، أو سماعُ غيرِهِ متَّصِلاً بالسَّمَاعِ وفي طريقِهِ هو إجازةٌ، أو غيرُ ذلك من التَّرْجِيْحَاتِ أنْ يُدِلَّ السائلَ على مَنْ هو أحقُّ منهُ بذلكَ، فذلكَ مِنَ النَّصِيْحَةِ في العِلْمِ. ويَنْبَغِي أيضاً أنْ لا يُحَدِّثَ بحضرةِ مَنْ هو أحقُّ بالتحديثِ وأولى بهِ منهُ، فقدْ كانَ إبراهيمُ النَّخَعيُّ إذا اجتمعَ معَ الشّعبيِّ لم يتكلمْ إبراهيمُ بشيءٍ. وزادَ بعضُهُم على هذا بأَنْ كَرِهَ الروايةَ ببلدٍ وفيه مَنْ هو أَولى منه لسنِّه، أو غيرِ ذلكَ. فقدْ قالَ يحيى بنُ مَعِينٍ: الذي يُحَدِّثُ ببَلْدَةٍ وفيها أَوْلى بالتَّحْدِيثِ منهُ أَحْمَقُ. ورُويِّ عنهُ أنَّهُ قالَ: إذا حَدَّثْتُ ببلدٍ فيهِ مثلُ أبي مُسْهِرٍ، فيجبُ لِلِحْيَتي أنْ تُحْلَقَ. 697. وَلاَ تَقُمْ لأَحَدٍ وَأَقْبِلِ *** عَلَيْهِمُ وَلِلْحَدِيْثِ رَتِّلِ 698. وَاحْمَدْ وَصَلِّ مَعْ سَلاَمٍ وَدُعَا *** فِي بَدْءِ مَجْلِسٍ وَخَتْمِهِ مَعَا ويَنْبَغِي للشَّيْخِ أنْ لا يقومَ لأحدٍ في حالِ التَّحْدِيْث ِ. وكذلكَ قارئُ الحديثِ، فقدْ بَلَغَنَا عن محمّدِ بنِ أحمدَ بنِ عبدِ اللهِ الفقيهِ، وهو أبو زيدٍ المروزيُّ، أنَّهُ قالَ: القارئُ لحديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا قامَ لأَحَدٍ فإنَّهُ تُكْتَبُ عليهِ خطيئةٌ. ويُسْتَحَبُّ لهُ أنْ يُقْبِلَ على مَنْ يحدِّثُهُم، فقد روينا عن حبيبِ بنِ أبي ثابتٍ، قالَ: مِنَ السُّنَّةِ إذا حَدَّثَ القومَ أنْ يُقْبِلَ عليهم جميعاً. وروينا عنهُ قالَ: كانوا يُحِبُّونَ إذا حَدَّثَ الرجلُ لا يُقْبِلَ على الرجلِ الواحدِ، ولكِنْ ليعمَّهُمْ. ويُستحبُّ أنْ يُرَتِّلَ الحديثَ، ولا يَسْرُدَهُ سَرْدَاً يمنعُ السامعَ من إدراكِ بعضِهِ. ففي الصَّحِيْحَيْنِ من حديثِ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها، قالَتْ: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَكُنْ يَسْرُدُ الحديثَ كسَرْدِكم. زادَ الترمذيُّ: ولكنَّهُ كانَ يتكلَّمُ بكلامٍ بَيِّنٍ فَصْلٍ، يحفَظُهُ مَنْ جلسَ إليهِ. وقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ويُستحبُّ لهُ أنْ يَفْتَتِحَ مجلسَهُ ويختِمَهُ بتحميدِ اللهِ تَعَالَى وصلاةٍ وسَلاَمٍ عَلَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ودعاءٍ يَليقُ بالحالِ. قالَ ابنُ الصلاحِ: «ومِنْ أَبْلَغِ ما يفتَتِحَهُ بهِ أنْ يقولَ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أكملُ الحمدِ عَلَى كُلِّ حالٍ، والصلاةُ والسلامُ الأَتمَّانِ عَلَى سَيِّدِ المُرْسِليْنَ، كُلَّما ذكرَهُ الذاكرونَ، وكُلَّمَا غَفَلَ عَنْ ذكرِهِ الغافلونَ، اللِّهُمَّ صلِّ عليهِ، وعلى آلهِ، وسائرِ النبيِّينَ، وآلِ كُلٍّ وسائرِ الصالحِيْنَ، نهايةَ ما ينبغي أنْ يَسْأَلَهُ السَّائِلوَنَ». 699. وَاعْقِدْ لِلاِمْلاَ مَجْلِسَاً فَذَاكَ مِنْ *** أَرْفَعِ الاسْمَاعِ وَالاَخْذِ ثُمَّ إِنْ 700. تَكْثُرْ جُمُوْعٌ فَاتَّخِذْ مُسْتَمْلِيَا *** مُحَصِّلاً ذَا يَقْظَةٍ مُسْتَوِيَا 701. بِعَالٍ اوْ فَقَائِماً يَتْبَعُ ما *** يَسْمَعُهُ مُبَلِّغاً أَوْ مُفْهِمَا يُستحبُّ للمُحدِّثِ العارفِ أنْ يعقِدَ مجلساً لإملاءِ الحديثِ، فإنَّهُ مِن أعلى مراتبِ الإسماعِ، والتحمُّلِ. فإنْ كَثُرَ الجمعُ فليتخذْ مستمْلِياً يُبَلِّغُ عنهُ. فَقَدْ فعلَ ذلكَ مالكٌ، وشعبةُ، ووكيعٌ، وأبو عاصمٍ، ويزيدُ بنُ هارونَ، في عددٍ كثيرٍ من الحفَّاظِ، والمحدِّثينَ وَقَدْ روينا في سننِ أبي داودَ والنسائيِّ من حديثِ رافعِ بنِ عمرٍو، قالَ: رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَخْطُبُ الناسَ بمنىً، حيثُ ارتَفَعَ الضُّحَى علىَ بْغَلةٍ شَهْبَاءَ، وعليٌّ رضي الله عنه يُعَبِّرُ عنهُ. فإنْ تكاثرَ الجمعُ بحيثُ لا يكفي بِمُسْتَمْلٍ واحدٍ اتخذَ مُسْتَمْلِيَيْنِ فأكْثَرَ. فَقَدْ روينا أنَّ أبا مسلمٍ الكَجِّي، أَمْلَى في رَحَبَةِ غَسَّانَ. وكانَ في مجلسِهِ سبعةُ مُسْتَمْلِيْنَ، يُبَلِّغُ كُلُّ واحدٍ صاحِبَهُ الَّذِي يليهِ، وكتبَ الناسُ عنهُ قياماً بأيديهِم المحابرُ، ثُمَّ مُسِحَتِ الرَّحَبَةُ، وحُسِبَ مَنْ حضرَ بِمَحْبَرَةٍ فبلغَ ذلكَ نَيِّفاً وأربعينَ ألفِ محبرةٍ سوى النَّظَّارَةِ. وروينا أَنَّ مجلسَ عاصمِ بنِ عليٍّ كانَ يُحْزَرُ بأكثرَ مِنْ مائةِ ألفِ إنسانٍ، وكانَ يَسْتَمْلِي عليهِ هارونُ الدِّيْكُ وهارونُ مُكْحَلَةُ. وليكنِ الْمُسْتَمْلِي مُحَصِّلاً مُتَيَقِّظاً فَهِمَاً، لا كمُسْتَمْلِي يزيدَ بنِ هارونَ حيثُ سُئِلَ يزيدُ عن حديثٍ فقالَ: حَدَّثَنا بهِ عدَّةٌ، فصاحَ الْمُسْتَمْلِي: يا أبا خالدٍ عِدَّةُ ابنُ مَنْ؟ فقالَ لهُ: عِدَّةُ ابنُ فَقَدْتُكَ! وليكنِ الْمُسْتَمْلِي على مَوْضِعٍ مُرتفعٍ مِنْ كُرسيٍّ، أو نحوهِ وإلاَّ فقائماً على قدميهِ، ليكونَ أبلغَ للسامعَينَ، وعلى الْمُسْتَمْلِي أنْ يتبعَ لفظَ المُمْلي فَيُؤَدِّيَهُ على وجهِهِ مِنْ غيرِ تغييرٍ، وقالَ الخطيبُ: «يُسْتَحَبُّ لهُ أنْ لا يُخَالفَ لَفْظَهُ». وقالَ ابنُ الصلاحِ: عليهِ ذلكَ كما تقدَّمَ. وفائدتُهُ إبلاغُ مَنْ لم يبلغْهُ لفظُ المُملي، وإفهامُ مَنْ بلغَهُ على بُعْدٍ، ولم يتفهمْهُ. فيتوصَّلُ بصوت الْمُسْتَمْلِي إلى تفهُّمِهِ وتحقُّقِهِ. وقد تقدَّمَ الكلامُ فَيمَنْ لم يسمعْ إلاَّ لفظَ الْمُسْتَمْلِي، هلْ لهُ أنْ يَرويهُ عن الْمُملي، أو ليسَ لهُ إلاَّ أنْ يَرْوِيَهُ عَنِ الْمُسْتَمْلِي عنهُ؟! 702. واسْتَحْسَنُوْا الْبَدْءَ بِقَارئ تَلاَ *** وَبَعْدَهُ اسْتَنْصَتَ ثُمَّ بَسْمَلاَ 703. فَالْحَمْدُ فَالصَّلاَةُ ثُمَّ أَقْبَلْ *** يَقُوْلُ: مَنْ أَوْمَا ذَكَرْتَ وَابَتهَلْ 704. لَهُ وَصَلَّى وَتَرَضَّى رَافِعا *** وَالشَّيْخُ تَرْجَمَ الشُّيُوْخَ وَدَعَا واستحسَنُوا افتتاحَ مجلِسِ الإملاءِ بقراءةِ قارئٍ لشيءٍ من القرآنِ العظيمِ وقالَ الخطيبُ: سورةً من القرآنِ. ثُمَّ رَوَى بإسنادِهِ إِلَى أبي نَضْرَةَ، قالَ: كانَ أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا تذاكروا العلمَ وقرؤوا سورةً، فإذا فَرَغَ القارئُ استنصَتَ الْمُسْتَمْلِي أهلَ المجلِسِ، حيثُ احْتِيْجَ للاستنصاتِ. ففي الصحيحينِ من حديثِ جريرٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لهُ في حِجَّةِ الوداعِ: استَنْصِتِ الناسَ. فإذا أنْصَتَ الناسُ بَسْمَلَ الْمُسْتَمْلِي وحَمِدَ اللهَ تَعَالَى، وصَلَّى عَلَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الشيخِ الْمُحَدِّثِ قائلاً لهُ: مَنْ ذكرتَ؟ أي: مِنَ الشيوخِ، أو ما ذكرتَ؟ أي: مِنَ الأحاديثِ رحمكَ اللهُ، أو غَفَرَ اللهُ لكَ وهو المرادُ بقولي: (وَابْتَهِلْ لَهُ) أي: ودَعَا لَهُ. وقد روينا عَنْ يحيى بنِ أكثمَ، قالَ: نِلْتُ القضاءَ وقضاءَ القضاةِ والوزارةَ، وكذا، وكذا، ما سُرِرْتُ بشيءٍ مثلَ قولِ الْمُسْتَمْلِي: مَنْ ذكرتَ رحمكَ اللهُ. قالَ الخطيبُ: وإذا انتهى الْمُسْتَمْلِي في الإسنادِ إلى ذكر النبيِّ صلى الله عليه وسلم استُحِبَّ لَهُ الصلاةُ عليهِ رافعاً صوتَهُ بذلكَ، وهكذا يفعلُ في كُلِّ حديثٍ عادَ فيه ذكرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قالَ: وإذا انتهى إلى ذِكْرِ بعضِ الصحابةِ، قالَ: رِضْوانُ اللهِ عليهمْ، أو رَضِيَ اللهُ عنهُ. انتهى. وكذلكَ الترضّي والتَّرَحُّمُ عن الأئِمَّةِ، فقد رَوَى الخطيبُ أنَّ الربيعَ بنَ سليمانَ قالَ القارئُ يوماً: حَدَّثَكُم الشَّافِعيُّ فلَمْ يَقُلْ: رضي الله عنه، فقالَ الربيعُ: ولا حرفَ حتى يُقالَ: رضي الله عنه. وقولي: (والشيخُ)، هو مبتدأٌ، أي: الشيخُ المُمْلي يُتَرْجِمُ شيوخَهَ الذينَ يُحَدِّثُ عَنْهُم بِذِكْرِ أَنْسَابِهِم، وبعضِ مناقبِهِم، ويدعُو لهم بالمغفرةِ والرحمةِ. قالَ الخطيبُ: إذْ فعلَ الْمُسْتَمْلِي ما ذكرتُهُ، قالَ الراوي: حَدَّثَنَا فلانٌ. ثُمَّ نَسَبَ شيخَهُ الذي سمَّاهُ حتَّى يبلغَ بنسَبهِ منتهاهُ. قالَ: والجمعُ بينَ اسمِ الشَّيْخِ وكنيتِهِ أبلغُ في إعظامِهِ. ثُمَّ قالَ: إنَّهُ يقتصرُ في الروايةِ على اسمِ مَنْ لا يشكِلُ كأَيوبَ ويونُسَ ومالكٍ والليثِ، ونحوِهِم. وهكذا مَنْ كانَ مشهورًا بنسبهِ إلى أبيهِ، أو قبيلتِهِ. قدِ اكُتِفيَ في كثيرٍ من الرُّواةِ بذِكْرِ ما اشتُهِرَ بهِ، وإنْ لم يُسَمَّ كابنِ عونٍ، وابنِ جُرَيْجٍ، وابنِ لَهِيْعَةَ، وابنِ عُيَيْنَةَ، ونحوِهِم، وكالشعبيِّ، والنَّخَعيِّ، والزُّهْريِّ، والثَّوْريِّ، والأوزاعيِّ، والشَّافعيِّ، ونحوِهم. ثُمَّ ذِكْرُ مَنْ اشتُهرَ بلقبٍ، أو كنيةٍ، أو نسبةٍ لأُمٍّ، أوْ نَقْصٍ كالعَوَرِ، ونحوِهِ، وسيأتي. وأمَّا ذِكْرُ بعضِ أوصافِ شُيوخِهِ، فكقَوْلِ أبي مُسْلِمٍ الْخَوْلانيِّ: حَدَّثَني الحبيبُ الأمِينُ أمَّا هو إِليَّ فحبيبٌ، وأمَّا هو عندي فأمينٌ: عوفُ بنُ مالكٍ» رواهُ مُسْلِمٌ. وكَقَوْلِ مَسْروقٍ: حَدَّثَتْني الصِّدِّيْقَةُ بنتُ الصِّدِّيْقِ، حَبيبةُ حَبيبِ اللهِ المُبَرَّأَةُ. وكقولِ عطاءِ بنِ أبي رباحٍ: حَدَّثَني الْبَحْرُ. يريدُ: ابنَ عبَّاسٍ. وكقولِ الشّعبيِّ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ ابنُ خُثَيْمٍ، وكانَ مِنْ معادنِ الصِّدْقِ. وكقولِ ابن عُيَيْنةَ: حَدَّثَنَا أوثَقُ الناسِ: أيوبُ. وكقولِ شُعبةَ: حَدَّثَني سَيِّدُ الفقهاءِ: أيوبُ. وقالَ وكيعٌ: حَدَّثَنَا سفيانُ أميرُ المؤمنينَ في الحديثِ. وقالَ ابنُ خُزيمةَ: حَدَّثَنَا مَنْ لم تَرَ عينايَ مثلَهُ: أبو الحسنِ محمّدُ بنُ أسلمَ الطوسيُّ، وحَدَّثَني الحافظُ أبو سعيدٍ العلائيُّ يوماً عن الرَّضِيِّ الطَّبَرِيِّ، فقالَ: حَدَّثَنَا الإمامُ أبو إسحاقَ الطَّبريُّ، وهو أجلُّ شيخٍ لقيتُهُ. 705. وَذِكْرُ مَعْرُوْفٍ بِشَيءٍ مِنْ لَقَبْ *** كَغُنْدَرٍ أَوْ وَصْفِ نَقْصٍ أَوْ نَسَبْ 706. لأُمِّهِ فَجَائِزٌ مَا لَمْ يَكُنْ *** يَكْرَهُهُ كَابْنِ عُلَيَّةٍ فَصُنْ قالَ الخطيبُ: غَلَبتْ ألقابُ جماعةٍ من أَهلِ العلمِ، [ على أَسْمَائِهِم ] فاقتصرَ الناسُ على ذكرِ ألقابهِم في الروايةِ عنهمُ، منهم: غُنْدَرٌ محمّدُ بنُ جعفرٍ، ولوينٌ مُحَمَّدُ بنُ سليمانَ المصيصيُّ، ومشكدانةُ عبدُ الله بنُ عمرَ الكوفيُّ، وعارمٌ محمّدُ بنُ الفضلِ السدوسيُّ، وسَعْدويهِ سعيدُ بنُ سُليمانَ الواسطيُّ، وصاعقةُ محمّدُ ابنُ عبدِ الرحيمِ البغداديُّ، وَمُطَيَّنٌ محمّدُ بنُ عبدِ اللهِ الحضرميُّ، ونِفْطَوَيْهِ إبراهيمُ بنُ محمّدِ بنِ عرفةَ النحويُّ. وقالَ: «لم يختلفِ العلماءُ في أنَّهُ يجوزُ ذكرُ الشَّيخِ وتعريفُهُ بصفتِهِ التي ليستْ نقصًا في خِلْقَتِهِ، كالطُّوْلِ والقِصَرِ، والزُّرْقَةِ، والشُّقْرَةِ، والْحُمْرَةِ، والصُّفْرَةِ، قالَ: وكذلكَ يجوزُ وصفُهُ بالعَرَجِ، والقِصَرِ، والعَمَى، والعَوَرِ، والعَمَشِ، والحَوَلِ، والإْقَعْادِ، والشَّلَلِ، كعِمْرَانَ القَصِيْرِ، وأبي معاويةَ الضَّريرِ، وهارونَ بنِ موسى الأعْوَرِ، وسُليمانَ الأعْمَشِ، وعبدِ الرحمنِ بنِ هُرْمُزٍ الأعرجِ، وعاصمٍ الأحولِ، وأبي مَعْمَرٍ الْمُقْعَدِ، ومنصورٍ الأشَلِّ وجماعةٍ». وسُئِلَ ابنُ المباركِ عن فلانٍ القصيرِ، وفلانٍ الأعْرَجِ، وفلانٍ الأصْفَرِ، وحُميدٍ الطويلِ، قالَ: إذا أرادَ صِفَتَهُ ولم يُرِدْ عَيْبَهُ فلا بأْسَ. قالَ الخطيبُ: وإذا كانَ معروفاً باسمِ أُمِّهِ، وهو الغالبُ عليهِ، جازَ نسَبتُهُ إليهِ، مثلُ: ابنِ بُحَيْنَةَ، وابنِ أمِّ مكتومٍ، ويعلى بنِ مُنْيَةَ، والحارثِ بنِ البَرْصَاءِ، وغيرِهِم مِنَ الصَّحَابةِ، ومَنْ بعدَهُم كمنصورِ بنِ صَفِيَّةَ، وإسماعيلَ بنِ عُلَيَّةَ. واستثنى ابنُ الصلاحِ من الجوازِ ما يكرهُهُ المُلَقَّبُ، فقالَ: إلاَّ ما يكرهُهُ مِنْ ذلكَ، كما في إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ، المعروفِ بابنِ عُلَيَّةَ، وهيَ أُمُّهُ، وقيلَ: أُمُّ أمِّهِ. روينا عن يحيى بنِ مَعِينٍ أنَّهُ كانَ يقولُ: حَدَّثَنَا إسماعيلُ بنُ عُلَيَّةَ، فنَهَاهُ أَحمدُ بنُ حنبلٍ، وقالَ: قُلْ: إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ، فإنَّهُ بلغني أنَّهُ كانَ يكرَهُ أنْ يُنْسَبَ إلى أُمِّهِ، فقالَ: قد قبلْنَا منكَ يا مُعَلِّمَ الخيرِ. انتهى. ولم يستثنِ الخطيبُ ذلكَ من الجوازِ، بَلْ: روى هذهِ الحكايةَ، والظاهرُ أنَّ ما قالَهُ أحمدُ هو على طريقِ الأدبِ، لا اللُّزُوْمِ. 707. وَارْوِ فِي الاِمْلاَ عَنْ شُيُوْخِ قَدِّمِ *** أَوْلاَهُمُ وَانْتَقِهِ وَأَفْهِمِ 708. مَا فِيْهِ مِنْ فَائِدَةٍ وَلاَ تَزِدْ *** عَنْ كُلِّ شَيْخٍ فَوْقَ مَتْنٍ وَاعْتَمِدْ 709. عَاِليَ إِسْنَادٍ قَصِيْرَ مَتْنِ *** وَاجْتَنِبِ الْمُشْكِلَ خَوْفَ الْفَتْنِ قالَ الخطيبُ: يُستحبُّ للراوي ألاّ يقتصرَ في إملائِهِ على الروايةِ عن شيخٍ واحدٍ من شيوخِهِ، بل يروي عن جماعتهِم، ويقدِّمُ مَنْ علا إسنادُهُ منهمْ. زادَ ابنُ الصَّلاحِ: أوِ يقدِّمُ الأوْلى من وجهٍ آخرَ، قالَ: ويتَّقِي ما يمليهِ وَيتَحَرَّى المستفادَ منهُ. قالَ الخطيبُ: ومِنْ أنفعِ ما يُمْلي الأحاديثُ الفقهيَّةُ. قالَ: «وَيُسْتَحَبُّ أيضاً إملاءُ أحاديثِ الترغيبِ»، قالَ: وإذا روى حديثًا فيهِ كلامٌ غريبٌ فَسَّرَهُ، أو معنى غامضٌ بَيَّنَهُ وأظَهرَهُ. ثُمَّ رَوَى عن ابنِ مهديٍّ قالَ: لو استقبلتُ مِنْ أَمْرِي ما اسْتَدْبَرْتُ، لكتبتُ بجنبِ كُلِّ حديثٍ تفسيرَهُ. قالَ الخطيبُ: ويُستحبُّ للراوي أنْ يُنَبِّهَ على فضلِ ما يَرويهِ، ويُبَيِّنَ المعاني التي لا يعرفُها إلاَّ الحفَّاظُ من أمثالِهِ وذويهِ فإنْ كانَ الحديثُ عالياً عُلُوَاً متفاوتاً، وصفَهُ بذلكَ، وهكذا إذا كانَ راويه غايةً في الثقةِ والعدالةِ. قالَ: ويُستحبُّ إنْ روى حديثاً معلولاً أنْ يُبَيِّنَ عِلَّتَهُ: وإذا كانَ في الإسنادِ اسمٌ يُشاكِلُ غَيْرَهُ في الصورةِ، استحبَبْتُ لهُ أنْ يذكرَ صورةَ إعجامِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ التنبيهَ على تاريخِ السَّماعِ القديمِ، وكونَهَ انفردَ عَنْ شيخهِ بهِ وكونَ الحديثِ لا يوجدُ إلاَّ عِنْدَهُ. قالَ الخطيبُ: ويكونُ إملاؤُهُ عن كَلِّ شيخٍ حديثاً واحداً فإنَّهُ أعمُّ للفائدةِ، وأكثرُ للمَنْفَعَةِ قالَ: ويعتمدُ ما علا سنَدُهُ وقَصُرَ مَتْنُهُ. وروينا عن عليِّ بنِ حُجْرٍ أنَّهُ كانَ يقولُ: وَظِيْفَتُنَا مِائَةٌ لِلْغَرِيْـ *** ـبِ في كُلِّ يَوْمٍ سِوَى مَا يُعَادُ شَرِيْكِيَّةٌ أَوْ هُشَيْمِيَّةٌ *** أَحَادِيْثُ فِقْهٍ قِصَارٌ جِيَادُ قالَ الخطيبُ: وينبغي أنْ يعتمدَ في إملائِهِ الروايةَ عن ثقاتِ شيوخِهِ، ولا يروي عن كَذَّابٍ، ولا مُتَظَاهِرٍ ببدعةٍ، ولا معروفٍ بالفسقِ، قالَ: «وليتجنَّبْ في أماليهِ روايةَ ما لا تحتمِلُهُ عقولُ العوامِ لما لا يؤمَنُ عليهِمِ فيه مِنْ دخولِ الخطأ والأَوهامِ، أنْ يُشَبهُوا اللهَ تعالى بخلقِهِ، ويُلْحِقُوا بهِ ما يستحيلُ في وصفِهِ، وذلكَ نحوُ أحاديثِ الصفاتِ التي ظاهِرُها يقتضي التشبيهَ، والتجسيمَ، وإثباتَ الجوارحِ والأعضاءِ للأزليِّ القديمِ؛ وإنْ كانَتِ الأحاديثُ صحاحاً ولها في التَّأويلِ طرقٌ ووُجوهٌ، إلاَّ أنَّ مِنْ حقِّها ألاَّ تُرْوَى إلاَّ لأَهْلِها خَوْفاً مِنْ أنْ يَضِلَّ بِهَا مَنْ جَهِلَ معانِيها، فيحمِلَهَا على ظاهرِها، أو يستنكرَها فَيَرُدَّهَا، ويُكذِّبَ رواتَها، وَنَقَلَتَهَا، ثُمَّ روى حديثَ أبي هُريرةَ: «كفى بالمرءِ كَذِباً أنْ يُحَدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ». وقولَ عليٍّ: تُحبُّوْنَ أنْ يُكَذَّبَ اللهُ ورسولُهُ؟ حَدِّثُوا الناسَ بما يَعرفونَ، ودعوا ما يُنكِرُونَ. وقولَ ابنِ مسعودٍ: إنَّ الرجلَ ليُحَدِّثُ بالحديثِ، فيسمَعُهُ مَنْ لا يبلغُ عَقْلُهُ فَهْمَ ذلكَ الحديثِ، فيكونُ عليهِ فتنةٌ قالَ الخطيبُ: ومِمَّا رأى العلماءُ أنَّ الصُّدُوفَ عن روايتهِ للعوامِّ أوْلَى: أحاديثُ الرُّخَصِ، كحديثِ الرُّخصةِ في النبيذِ، ثُمَّ ذَكَرَ كراهيةَ روايةِ أحاديثِ بني إسرائيلَ المأثورةِ عن أهلِ الكتابِ، وما نُقِلَ عَنْ أهلِ الكتابِ. ثُمَّ روى عَنْ الشافعيِّ أنَّ معنى حديثِ: حَدِّثُوا عن بني إسرائيلَ ولا حَرَجَ. أي لا بأْسَ أنْ تُحَدِّثُوا عَنْهُمْ ما سمعتُمْ وإنِ استحالَ أنْ يكونَ في هذهِ الأُمةِ، مثلُ ما رُويَ أنَّ ثيابَهُمْ تطولُ، والنارُ التي تنزلُ من السماءِ فتأكلُ القربانَ. انتهى. وقالَ بعضُ العلماءِ: إنَّ قولَه: «ولا حرجَ» في مَوْضِعِ الحالِ، أي: حَدِّثُوا عَنْهُمْ حيثُ لا حرجَ في التحديثِ عنْهُم، كما حُفِظَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَخبارِهم. قالَ الخطيبُ: وعن صحابَتهِ، وعن العلماءِ، فإنَّ روايَتهُ تجوزُ. قالَ الخطيبُ: «وَلْيَتَجَنَّبْ ما شَجَرَ بينَ الصَّحابةِ»، وقد رَوَى الخطيبُ في كتابٍ لَهُ في" القولِ في علمِ النُّجُومِ " من حديثِ ابنِ مسعودَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ: «إذا ذُكِرَ أصحابي فأَمْسِكُوا». ورواهُ ابنُ عديٍّ من حديثِ ابنِ عمرَ أيضاً، وكلاهُما لا يصحُّ. (والفَتْنِ)- بفتحِ الفاءِ-: مصدرُ قولِكَ: فَتَنَ، حكاهُ الخليلُ بنُ أحمدَ. 710. وَاسْتُحْسِنَ الإنْشَادُ في اْلأَوَاخِرِ *** بَعْدَ الْحِكَاياَتِ مَعَ النَّوَادِرِ 711. وَإِنْ يُخَرِّجْ لِلرُّوَاةِ مُتْقِنُ *** مَجَالِسَ الإِمْلاَءِ فَهْوَ حَسَنُ 712. وَلَيْسَ بِالإِْمْلاءِ حِيْنَ يَكْمُلُ *** غِنًى عَنِ الْعَرْضِ لِزَيْغٍ يَحْصُلُ جرتْ عادةُ غيرِ واحدٍ مِنَ الأَئَمَّةِ أنْ يختِم مجالسَ الإملاءِ بشيءٍ من الحكاياتِ والنوادرِ والإنشاداتِ بأسانيدِها. قالَ ابنُ الصلاحِ: وذلكَ حَسَنٌ. وقدْ بَوَّبَ لهُ الخطيبُ في " الجامعِ "، واستَدَلَّ لهُ بما رَوَى بإسنادِهِ إلى عليٍّ رضي الله عنه قالَ: رَوِّحُوا القُلُوبَ، وابْتَغُوا لها طُرَفَ الحِكْمَةِ. وعن الزُّهْرِيِّ: أَنَّهُ كانَ يقولُ لأصحابهِ: هاتُوا من أَشْعَارِكُم، هاتُوا من حديثِكُمُ، فإنَّ الأُذُنَ مَجَّةٌ والقلبُ حَمِضٌ. وعن حَمَّادِ بنِ زيدٍ: أنَّهُ حَدَّثَ بأحاديثَ، ثُمَّ قالَ: لتأخُذوا في أبزَارِ الجنةِ، فحَدَّثَنَا بالحكاياتِ. وعن كثيرِ بنِ أفلحَ، قالَ: آخرُ مجلسٍ جالسْنَا فيهِ زيدَ بنَ ثابتٍ، تناشدْنَا فيهِ الشِّعْرَ. قالَ الخطيبُ: وِإنْ لم يكنِ الراوي من أهلِ المعرفةِ بالحديثِ، وعِلَلِهِ، واختلافِ وجوهِهِ، وطرقِهِ، وغيْرِ ذلكَ من أنواعِ علومِهِ، فينبغي لهُ أنْ يَستعينَ ببعضِ حُفَّاظِ وقتهِ في تخريجِ الأحاديثِ التي يُريدُ إملاءَ ها قبلَ يومِ مجلسِهِ. فقدْ كانَ جماعةٌ من شيوخِنَا يفعلونَ ذلكَ منهم: أبو الحسينِ بنُ بِشْرَانَ والقاضي أبو عمرَ الهاشميُّ، وأبو القاسمِ السَّرَّاجُ، وغيرُهم. قالَ ابنُ الصلاحِ: «وإذا نَجِزَ الإملاءُ فلا غنًى عن مقابلتِهِ، وإتقانِهِ، وإصلاحِ ما فسدَ منهُ بزيغِ القلمِ، وطُغيانِهِ». هكذا قالَ ابنُ الصلاح هنا، أنَّهُ لا غنًى عن مقابلةِ الإملاءِ، وقد تقدَّمَ في كلامِهِ التَّرْخِيصُ في الروايةِ من الأصلِ غيرِ المُقَابلِ بشروطٍ ثلاثةٍ، ولم يذكرْ ذلكَ هنا، فيحتملُ أنْ يُحملَ هذا على مَا تقدَّمَ، ويُحتملُ أنْ يُفَرِّقَ بينَ النُّسَخِ مِنْ أصْلِ السَّمَاعِ، والنسخِ مِنْ إملاءِ الشَّيْخِ حِفظاً؛ لأنَّ الحِفْظَ يخونُ. ولكنَّ المقابلَةَ للإملاءِ، إنَّما هيَ مَعَ الشَّيْخِ أيضاً مِنْ حفظِهِ، لا على أُصُولِهِ، وليسَ في كلامِ الخطيبِ هنا اشتراطُ مقابَلةِ الإملاءِ، وإنما تَرْجَمَ عليهِ بقولهِ: المعارضةُ بالمجلسِ المكتوبِ وإِتقانهِ، وإصلاحِ ما أفسدَ منهُ زيغُ القلمِ، وطغيانُهُ، ثُمَّ روى بإسنادِهِ إلى زيدِ بنِ ثابتٍ، قالَ: كنتُ أكتبُ الوحْيَ عندَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وإذا فرغتُ قالَ: اقرأهُ، فإنْ كانَ فيهِ سقطٌ أقامَهُ، ثُمَّ يُخْرَجُ بهِ.
713. وَأَخْلِصِ الّنِيَّةَ فِي طَلَبِكا *** وَجِدَّ وَابْدَأْ بِعَوَاِلي مِصْرِكَا 714. وَمَا يُهِمُّ ثُمَّ شُدَّ الرَّحْلاَ *** لِغَيْرِهِ وَلاَ تَسَاهَلْ حَمْلاَ أوَّلُ ما يجبُ على الطالبِ إخلاصُ النِّيَّةِ، فقد روينا في " سننِ أبي داودَ "، و "ابنِ ماجه" من حديثِ أبي هريرَةَ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَعلَّمَ عِلْماً مما يُبْتَغَى بهِ وَجْهُ اللهِ عزَّ وجلَّ، لا يَتَعَلَّمُهُ إلاَّ ليُصِيْبَ بهِ عَرَضاً من الدنيا، لم يجدْ عَرْفَ الجنَّةِ يومَ القيامةِ. وروينا عن حمادِ بنِ سلمةَ قالَ: من طلبَ الحديثَ لغيرِ اللهِ مُكِرَ بهِ. قالَ الخطيبُ: إذا عزمَ اللهُ تعالى لامرئٍ على سماعِ الحديثِ وحَضَرَتْهُ نيةٌ في الاشتغالِ بهِ، فينبغي أنْ يُقَدِّمَ المسألةَ لله تعالى أَنْ يُوفِّقَهُ فيهِ، ويعينَهُ عليهِ، ثُمَّ يبادرَ إلى السماعِ، ويحرصَ على ذلكَ من غيرِ توقفٍ، ولا تأخيرٍ. وفي " صحيحِ مسلمٍ " مِنْ حديثِ أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ: «احْرِصْ على ما يَنفعُكَ، واسْتَعِنْ باللهِ ولا تَعْجزْ». ولْيَجُدَّ الطالبُ في طلبهِ، فقد روينا عن يحيى بنِ أبي كثيرٍ، قالَ: لا يُنَاْلُ العلمُ براحةِ الجَسَدِ. وروينا عن الشافعيِّ قالَ: لا يَطْلُبُ هذا العلمَ مَنْ يطلُبهُ بالتمَلُّلِ، وغنى النَّفْسِ، فيُفْلِحُ، ولكنْ مَنْ طَلَبهُ بِذِلَّةِ النَّفْسِ، وضيقِ الَعيْشِ، وخدمَةِ العلمِ، أفلَحَ. قالَ الخطيبُ: ويعمدُ إلى أسْنَدِ شيوخ مِصرِهِ، وأقدمِهِمْ سماعًا فيديمُ الاختلاَف إليهِ، ويواصلُ العكوفَ عليهِ، فيقدّمُ السماعَ منهُ، وإِنْ تكاَفأَتْ أسانيدُ جماعةٍ من الشيوخِ في العُلُوِّ، وأرادَ أنْ يَقْتصرَ على السماعِ من بعضِهم، فينبغي أنْ يتخيَّرَ المشهورَ منهم بطلبِ الحديثِ، المشارَ إليهِ بالإتقانِ لهُ، والمعرفةِ بهِ. وإذا تساوَوْا في الإسنادِ والمعرفةِ فمَنْ كانَ مِنْ الأشرافِ وذوي الأَنسابِ، فهو أَوْلَى أن يُسْمَعَ منهُ. وروينا عن الحافظِ أبي الفضلِ صالحِ بنِ أحمدَ التميميِّ، قالَ: ينبغي لطالبِ الحديثِ ومَنْ عُنِىَ بهِ أنْ يبدأَ بكَتْبِ حديثِ بلدِهِ، ومعرفةِ أهلِهِ منهم، وتفهُّمهِ وضبْطِهِ حَتّى يعلمَ صحيحَها وسقيمَها، ويَعْرِفَ مَنْ أهلُ الحديثِ بهَا، وأحوالَهُم معرفةً تامةً، إذا كانَ في بَلَدِه عِلْمٌ وعلماءُ، قديمًا وحديثًا. ثُمَّ يشتغلُ بعدُ بحديثِ البُلدانِ والرحلةِ فيهِ. وروينا عن أبي عبيدةَ، قالَ: مَنْ شَغَلَ نفسَهُ بغيرِ المُهِمِّ أضَرَّ بالمُهِمِّ. وقالَ الخطيبُ: المقصودُ بالرحلةِ في الحديثِ أمرانِ: أحدُهما: تحصيلُ عُلُوِّ الإسناِد وقِدَمِ السَّماعِ. والثاني: لقاءُ الحفَّاظِ، والمذاكرةُ لهم، والاستفادةُ عنهم. فإذا كانَ الأمْرَانِ موجودَيْنِ في بلدِ الطالبِ، ومعدومينِ في غيرِهِ، فلا فائدةَ في الرحلةِ، فالاقتصارُ على ما في البلدِ أولى. فإذا كانا موجوْدَينِ في بلدِ الطالبِ، وفي غيرِهِ إلاَّ أنَّ ما في كُلِّ واحدٍ مِنَ البلدينِ يختصُّ بهِ، أي: مِنَ العوالي والحفَّاظِ؛ فالمستحبُّ للطالبِ الرحلةُ لجمعِ الفائدتَيْنِ من عُلُوِّ الإسناْدَينِ، وعلمِ الطائفَتْينِ. لكن بعدَ تحصيلِهِ حديثَ بلدِهِ وتمهُّرِهِ في المعرفةِ بهِ. قالَ: وإذا عزمَ الطالبُ على الرحلةِ، فينبغي لهُ ألاَّ يتركَ في بلدِهِ من الرواةِ أحداً إلاَّ ويكتبَ عنهُ ما تيسَّرَ من الأحاديثِ، وإنْ قَلَّتْ فإنِّي سمعتُ بعضَ أصحابِنا يقولُ: ضَيِّعْ ورقةً ولا تُضَيِّعَنَّ شَيخَاً. وروينا عن أحمدَ وسألَهُ ابنُهُ عبدُ اللهِ عمَّنْ طلبَ العلمَ، تَرَى له أنْ يَلْزمَ رجلاً عندَهُ عِلْمٌ فيكتبَ عنهُ؟ أو تَرَى لهُ أنْ يَرْحَلَ إلى المواضعِ التي فيها العلمُ فيسمَعَ منهمْ؟ قالَ: يرحلُ، يكتبُ عن الكوفِيِّينَ والبصريِّينَ، وأهلِ المدينةِ ومكَّةَ يُشَامُّ الناسَ يسمعُ منهم. وروينا عن ابنِ مَعِينٍ، قالَ: أربعةٌ لا تُؤْنِسُ منهم رُشْداً منهم رجلٌ يكتبُ في بلدِهِ، ولا يرحَلُ في طلبِ الحديثِ. وقالَ إبراهيمُ بنُ أدهمَ: إنَّ اللهَ يدفعُ البلاءَ عن هذهِ الأمةِ برحلةِ أصحابِ الحديثِ. قالَ ابنُ الصلاحِ: ولا يَحْمِلَنَّهُ الحِرْصُ والشَّرَهُ على التَّسَاهُلِ في السَّمَاع والتَّحَمُّل، والإخلالِ بما عليهِ في ذلكَ. وقالَ الخطيبُ: لِيَعْلَمَ الطالبُ أنَّ شهوةَ السَّمَاعِ لا تنتهي، والنَّهْمَةَ من الطلبِ لا تَنْقَضِي، والعِلْمُ كالبِحَارِ الْمُتَعَذِّرِ كيلُها، والمعادنِ التي لا ينقطعُ نيلُها. فلا ينبغي له أنْ يَشْتَغِلَ في الغُرْبةِ إلاَّ بما يُسْتَحَقُّ لأجْلِهِ الرحلةُ. وقولي: (حَمْلاً) تمييزٌ، أي: ولا تتساهلْ في الْحَمْلِ والسَّمَاعِ. 715. وَاعْمَلْ بِمَا تَسْمَعُ فِي الْفَضَائِلِ *** وَالشَّيْخَ بَجّلْهُ وَلاَ تَثَاقَلِ 716. عَلَيْه تَطْويْلاَ بِحَيْثُ يَضْجَرُ *** وَلاَ تَكُنْ يَمْنَعُكَ التَّكَبُّرُ 717. أَو الْحَيَا عَنْ طَلَبٍ وَاجْتَنِبِ *** كَتْمَ السَّمَاعِ فَهْوَ لُؤْمٌ وَاكْتُبِ 718. مَا تَسْتَفيْدُ عَالِياً وَنَاِزلاَ *** لاَ كَثْرَةَ الشُّيُوْخِ صِيْتَاً عَاطلاَ 719. وَمَنْ يَقُلْ إذا كَتَبْتَ قَمِّشِ *** ثُمَّ إذا رَوَيْتَهُ فَفَتِّشِ 720. فَلَيْسَ مِنْ ذَا وَالْكتَابَ تَمِّمِ *** سَمَاَعَهُ لاَ تَنْتَخِبه تَنْدَمِ 721. وَإِنْ يَضِقْ حَالٌ عَنِ اسْتِيْعَابهِ *** لِعَارِفٍ أَجَادَ فِي انْتِخَابهِ 722. أَوْ قَصَّرَ اسْتَعَانَ ذَا حِفْظٍ فَقَدْ *** كَانَ مِنَ الحُفَّاظِ مَنْ لَهُ يُعدْ 723. وَعَلَّمُوْا فِي الأَصْلِ إِمَّا خَطَّا *** أَوْ هَمْزَتَيْنِ أَوْ بِصَادٍ أَوْ طَا ولْيَسْتَعْمِلِ الطالبُ ما سمعَ من الحديثِ في فضائلِ الأعمالِ، فقد روينا في حديثِ عليٍّ: أنَّ رجلاً قالَ: يا رسولَ اللهِ، ما يَنْفِيَ عنِّي حُجَّةَ الْجَهْلِ؟ قالَ: العِلْمُ. قالَ: فما يَنْفِيَ عنِّي حُجَّةَ العِلْمِ؟ قالَ: العَمَلُ. وروينا عن بشرِ بنِ الحارثِ، قالَ: يا أصحابَ الحديثِ! أدُّوا زكاةَ هذا الحديثِ، اعمَلُوا مِن كُلِّ مائتي حديثٍ بخمسةِ أحاديثَ. وروينا عن عمرِو بنِ قيسٍ الْمُلاَئِيِّ، قالَ: إذا بلغَكَ شيءٌ من الخيرِ فاعْمَلْ بهِ،- ولو مرَّةً- تكنْ مِنْ أهلِهِ. وروينا عن وكيعٍ، قالَ: إذا أردتَ أنْ تحفظَ الحديثَ فاعملْ بهِ. وروينا عن إبراهيمَ بنِ إسماعيلَ بنِ مُجَمِّعٍ، قالَ: كُنَّا نَسْتَعِينُ على حفظِ الحديثِ بالعملِ بهِ. وروينا عن أحمدَ بنِ حنبلٍ، قالَ: ما كتبتُ حديثاً إلاَّ وقدْ عملتُ بهِ، حتَّى مَرَّ بي في الحديثِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: احْتَجَمَ وأَعطى أبا طَيْبَةَ دِيْنَاراً، فأَعْطَيْتُ الْحَجَّامَ ديناراً حين احْتَجَمْتُ. وليبَجِّلِ الطالبُ الشَّيخَ، فقدْ روينا عن مغيرةَ، قالَ: كُنَّا نَهَابُ إِبراهيمَ، كما نَهَابُ الأَميرَ. وروينا عن البخاريِّ قالَ: ما رأيتُ أحداً أوقرَ للمُحَدِّثينَ مِن يحيى بنِ معينٍ. وليحذَرْ منَ التثقيلِ عليهِ لئلاَّ يُضْجِرَهُ ويملَّهُ. قالَ الخطيبُ: وإذا حدَّثَهُ فيجبُ أنْ يأخذَ منهُ العفوَ ولا يُضْجِرْهُ. قالَ: والإضْجَارُ يُغَيِّرُ الأفهامَ، ويفسِدُ الأخلاقَ، ويحيلُ الطِّبَاعَ، وقد كانَ إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ مِنْ أحسنِ الناسِ خُلُقاً، فلَمْ يزالوا بهِ حتَّى ساءَ خُلُقُهُ. وروينا عن محَمَّدِ بنِ سيرينَ: أنَّهُ سألَهُ رجلٌ عن حديثٍ وقد أرادَ أنْ يقومَ، فقالَ: إنَّكَ إنْ كَلَّفْتَني ما لم أُطِقْ، ساءَكَ ما سَرَّكَ مِنِّي مِنْ خُلُقٍ. قالَ ابنُ الصلاحِ: «يُخْشَى على فاعلِ ذلكَ أنْ يُحْرَمَ الانتفاعَ». قلتُ: وقد جَرَّبْتُ ذلكَ، فإنَّ شيخَنا أبا العباسِ أحمدَ بنَ عبدِ الرحمنِ الْمردَاويَّ، كانَ كَبِرَ وعَجَزَ عن الإسماعِ حتى كُنَّا نتألَّفُهُ على قراءةِ الشيءِ اليسيرِ، فقرأَ عليهِ بعضُ أصحابنِا فيما بلغني"العُمْدةَ" بإجازتِهِ من ابنِ عبدِ الدائمِ وأطالَ عليهِ فأضْجَرَهُ فكانَ يقولُ لهُ الشيخُ: لا أحْيَاكَ اللهُ أنْ تروِيَها عنِّي، أو نحوَ ذلكَ، فماتَ الطالبُ بعدَ قليلٍ، ولم ينتفعْ بما سَمِعَهُ عليهِ. وليحذرِ الطالبُ أنْ يمنعَهُ التَّكَبُّرُ، أو الحياءُ عن طلبِ العلمِ، فقد ذكرَ البخاريُّ عن مجاهدٍ قالَ: «لا ينالُ العلمَ مُسْتَحيٍ، ولا مُسْتَكبرٌ»، وليتجنَّبِ الطالبُ أنْ يظفرَ بشيخٍ، أو بسماعٍ لشيخٍ فيكتمَهُ لينفردَ بهِ عن أضرابهِ، فذلكَ لؤمٌ مِنْ فَاعلهِ، على أنَّهُ قد روينا فِعْلَ ذلكَ عن جماعةٍ من الأئِمَّةِ المتقدِّمينَ، كشعبةَ وسفيانَ الثوريِّ، وهُشيمٍ، واللَّيثِ، وابنِ جُرْيَجٍ، وسفيانَ بنِ عُيينةَ، وابنِ لَهِيْعَةَ، وعبدِ الرَّزَّاقِ، فاللهُ أعلمُ بمقاصدِهِم في ذلكَ. وروينا عن مالكٍ قالَ: مِنْ بَرَكَةِ الحديثِ إفادةُ بعضِهِم بعضاً، ونَحُوه عن ابنِ المباركِ ويحيى بن مَعينٍ. وروينا عن يحيى بنِ معينٍ، قالَ: مَنْ بَخِلَ بالحديثِ، وكَتَمَ على الناسِ سماعَهُم، لم يُفْلِحْ. وروينا عن إِسْحَاقَ بنِ راهويهِ، قالَ: قد رأيْنَا أقواماً مَنَعُوا هذا السَّماعَ، فواللهِ ما أفلحُوا ولا أنجحوا. قالَ الخطيبُ: «والذي نَسْتَحِبُّهُ إفادةَ الحديثِ لمنْ لم يسمَعْهُ والدّلالةَ على الشُّيُوخِ والتنبيهَ على رواياتهِم، فإنَّ أَقَلَّ ما في ذلكَ النُّصْحُ للطالبِ، والحفظُ للمطلوبِ، معَ ما يُكْتَسَبُ بهِ من جزيلِ الأجرِ، وجميلِ الذِّكْرِ»، ثُمَّ رَوَى بإسنادهِ إلى ابنِ عبَّاسٍ رَفَعَهُ، قالَ: إخواني تَنَاصَحُوا في العِلْمِ ولا يَكتُمْ بعضُكُم بعضاً، فإنَّ خيانةَ الرجلِ في علمِهِ، أشدُّ من خيانتهِ في مالِهِ، ثُمَّ رَوَى عن الثَّوريِّ قالَ: لِيُفِدْ بعضُكم بعضاً، وهذا يدلُّ على أنَّ ما رُوِيَ عنهُ وعمَّنْ تقدَّمَ ذكرُهُ مِنَ الأئِمَّةِ ممَّا يخالفُ ذلكَ محمولٌ على كَتْمِهِ عمَّنْ لَمْ يَرَوْهُ أهلاً، أو على مَنْ لَمْ يَقْبلِ الصوابَ إذا أُرْشِدَ إليهِ، أو نحوِ ذلكَ. وقد قالَ الخطيبُ: «مَنْ أدَّاْهُ- لجهلهِ- فَرْطُ التِّيهِ والإعجابِ إلى المحاماةِ عن الخطأِ والمماراةِ في الصوابِ، فهو بذلكَ الوصفِ مذمومٌ مأثومٌ، ومُحْتجِزُ الفائدةِ عنه غيرُ مؤَنَّبٍ ولا مَلُومٍ». وروينا عن الخليلِ بنِ أحمدَ أنَّهُ قالَ لأبي عُبيدةَ معمرِ بنِ المثنى: لا تَرُدَّنَّ على معجبٍ خطأً، فيستفيدَ منكَ علماً، ويتخذَكَ بهِ عدواً. ولتكنْ همةُ الطالبِ تحصيلَ الفائدةِ، سواءٌ وقعتْ له بعلوٍّ أمْ بِنُزولٍ ولا يأَنَفْ أنْ يكتبَ عمَّنْ هو دونَه ما يستفيدُهُ. روينا عن سفيانَ ووكيعٍ قالاَ: لا يكونُ الرجلُ مِنْ أهلِ الحديثِ، حتَّى يكتبَ. وقالَ وكيعٌ: لا يكونُ عالماً حتى يأخذَ عمَّنْ هو فوقَهُ، وعمَّنْ هو دونَه، وعمَّنْ هو مثلُهُ. وكانَ ابنُ المباركِ يكتبُ عمَّنْ هو دونَهُ، فقيلَ لهُ، فقالَ: لعلَّ الكلمةَ التي فيها نجاتي لم تَقَعْ لي. وليحذرِ الطالبُ أنْ تكونَ هِمَّتُهُ تكثيرَ الشيوخِ لمجرَّدِ اسمِ الكثرةِ وصيتِها، قالَ ابنُ الصلاحِ: وليسَ بموفَّقٍ مَنْ ضَيَّعَ شيئاً من وقتهِ في ذلكَ. وروينا عن عفَّانَ أنَّهُ سمعَ قوماً يقولونَ: نسخْنَا كُتُبَ فلانٍ، فقالَ: هذا الضربُ من َالناسِ، لا يُفلِحُونَ. كُنَّا نأتي هذا فنسمعُ منهُ ما ليسَ عندَ هذا، ونسمعُ مِنْ هذا ما ليسَ عندَ هذا، فقدمْنَا الكوفةَ، فأقمنا أربعةَ أشهرٍ، ولو أردْنا أنْ نكتبَ مائةَ ألفِ حديثٍ، لكتبناها، فما كتبْنَا إلا قدرَ خمسةِ آلافِ حديثٍ، وما رضيِنَا مِنْ أحدٍ إلاَّ بالإملاءِ؛ إلاَّ شريكَ فإنَّهُ أَبى علينا. قالَ ابنُ الصلاحِ: «وليسَ من ذلكَ قولُ أبي حاتِمٍ الرازيِّ: إذا كتبتَ فَقَمِّشْ، وإذا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ». والتَّقْمِيْشُ والقَمْشُ أيضاً: جمعُ الشيءِ من هاهُنا وهاهُنا. وَلَمْ يُبَيِّنِ ابنُ الصلاحِ ما المرادُ بذلكَ، وكأنَّهُ أرادَ: اكْتُبِ الفائدةَ ممَّنْ سمعتَها ولا تُؤخِّرْ ذلكَ حَتَّى تنظرَ فيمَنْ حدَّثكَ، أهُوَ أهلٌ أنْ يُؤخَذَ عَنْهُ أم لا؟ فربَّما فاتَ ذلكَ بموتِ الشيخِ أو سفرِهِ، أو سفرِكَ. فإذا كانَ وقتُ الروايةِ عنهُ، أو وقتُ العملِ بذِلكَ، فَفَتِّشْ حينئذٍ. وقد ترجمَ عليهِ الخطيبُ: باب مَنْ قالَ: يكتبُ عَنْ كُلِّ أحدٍ. ويَحْتَمِلُ: أنَّ مرادَ أبي حاتمٍ استيعابُ الكتابِ المسموعِ، وتركُ انتخابهِ، أوْ استيعابُ ما عندَ الشيخِ وقتَ التحمُّلِ، ويكونُ النظرُ فيهِ حالةَ الروايةِ. وقدْ يكونُ قَصْدُ المحدِّثِ تكثيرَ طُرُقِ الحديثِ، وجَمْعَ أطرافِهِ، فيكثرُ لذلكَ شيوخُه ولا بأْسَ بذلكَ. فقد روينا عن أبي حاتمٍ قالَ: لو لَمْ نكْتُبِ الحديثَ من ستينَ وجهاً ما عَقَلْنَاهُ. وقد وُصِفَ بالإكثارِ من الشيوخِ سفيانُ الثوريُّ، وأبو داودَ الطيالسيُّ، ويونسُ بنُ محمّدٍ المؤدِّبُّ، ومحمّدُ بنُ يونسَ الكُدَيميُّ، وأبو عبدِ الله ابنُ مَنْدَه، والقاسمُ بنُ داودَ البغداديُّ، روينا عنهُ قالَ: كتبْتُ عن ستةِ آلافِ شيخٍ. وينبغي للطالبِ أنْ يسمعَ، ويكتبَ ما وقعَ له من كتابٍ، أو جُزءٍ على التَّمَامِ، ولا يَنتخبْهُ، فربمَّا احتاجَ بعدَ ذلكَ إلى روايةِ شيءٍ منهُ لَمْ يَكنْ فيما انتخبَهُ مِنْهُ، فيندمُ، وقد روينا عن ابنِ المباركِ قالَ: ما انتخبتُ على عالمٍ قَطُّ، إلاَّ نَدمْتُ. وروينا عنهُ قالَ: ما جاءَ مِن مُنْتَقٍ خيرٌ قَطُّ. وروينا عن يحيى ابنِ معينٍ قالَ: صاحبُ الانتخابِ يندمُ، و صاحبُ النسخِ لا يندمُ. وقد فَرَّقَ الخطيبُ في ذلكَ بَيْنَ أَنْ يكونَ الشيخُ عَسِراً، والطالبُ وارداً غريباً؛ فقالَ: إذا كَانَ المحدِّثُ مُكْثِراً وفي الروايةِ مُعْسِراً، فينبغي للطالبِ أن يَنْتَقِي حديثَهُ، وينتخبَهُ، فَيَكْتبَ عنهُ ما لا يجدُهُ عندَ غيرِهِ، ويَتجنَّبَ الْمُعَادَ من رواياتِهِ قالَ: وهكذا حُكمُ الواردينَ من الغُرباءِ الذينَ لا يُمكنُهُم طولُ الإقامةِ والثَّوَاءِ. قالَ: وأَمَّا مَتَىلم يتمَيَّزْ للطالبِ مُعادُ حديثِهِ من غيرِهِ، وما يُشَارَكُ في روايتهِ مِمَّا ينفردُ بهِ، فالأوْلَى أنْ يكتبَ حديثَهُ عَلَى الاستيعابِ دونَ الانتقاءِ والانتخابِ. انتهى. وإليهِ أشرتُ بقولي: (وإنْ يَضِقْ حَالٌ عَنِ اسْتِيْعَابِهْ) أي: لعُسْرِ الشيخِ، أوْ لكونِ الشيخِ، أوِ الطالبِ وارداً غيرَ مُقيمٍ، ونحوِ ذلكَ. وقولي: (لعارفٍ) أي: بجودةِ الانتخابِ فقد روينا عن يحيى بنِ مَعِينٍ قالَ: دَفَعَ إليَّ ابنُ وَهْبٍ كتابينِ عن معاويةَ بنِ صالحٍ خمسمائةِ أو ستمائةِ حديثٍ، فانتقيتُ شرارَها لم يكنْ لي بها يومئذٍ معرفةٌ. وإنْ قَصَّرَ الطالبُ عن معرفةِ الانتخابِ وجودتهِ، فقالَ الخطيبُ: «ينبغي أنْ يستعينَ ببعضِ حُفَّاظِ وقتِهِ على انتقاءِ ما لَهُ غرضٌ في سماعِهِ وكتْبِهِ. ثُمَّ ذكرَ من المعروفينَ بحسنِ الانتقاءِ أبا زُرْعَةَ الرازيَّ، وأبا عبدِ الرحمنِ النسائيَّ، وإبراهيمَ بنَ أُورمةَ الأصبهانيَّ، وعُبَيْداً العِجْلَ، وأبا بكرٍ الْجِعَابِيَّ، وعمرَ البصريَّ، ومحمَّدَ بن الْمُظَفَّرِ، والدَّارقطنيَّ، وأبا الفتحِ ابنَ أبي الفوارسِ، وأبا القاسمِ هبةَ اللهِ بنَ الحسنِ الطبريَّ اللالكائيَّ. وقولي: (وَعَلَّمُوا في الأصْلِ). هذا بيانٌ لما جرتْ به عادةُ الحفَّاظِ من تعليمهِم في أصلِ الشيخِ على ما انتخبوهُ. وفائدتُهُ لأجلِ المعارضَةِ أو ليُمْسِكَ الشيخُ أصلَهُ، أو لاحتمالِ ذهابِ الفرعِ، فينقلَ من الأصلِ، أو يحدّثَ من الأصلِ بذلكَ المعلَّمِ عليهِ. واختياراتُهُم لصورةِ العلامةِ مختلفةٌ، ولا حرجَ في ذلكَ، فكانَ الدَّارقطنيُّ يعلِّمُ بخطٍّ عريضٍ، بالْحُمْرَةِ في الحاشيةِ اليُسرى، وكانَ اللالكائيُّ يُعلِّمُ على أوَّلِ إسنادِ الحديثِ بخطٍّ صغيرٍ، بالْحُمْرَةِ. وهذا الذي استقرَّ عليهِ عَمَلُ أكثرِ المتأخِّرِينَ وكانَ أبو الفضلِ عليُّ بنُ الحسنِ الفَلَكِيُّ يُعلِّمُ بصورةِ همزتينِ بحبرٍ في الحاشيةِ اليُمنى. وكان أبو الحسنِ عليُّ بنُ أحمدَ النُّعَيْميُّ يُعَلِّمُ صاداً ممدودةً بِحِبْرٍ في الحاشيةِ اليُمنى، أيضاً. وكان أبو محمّدٍ الخلاّلُ يُعَلِّمُ طاءً ممدودةً كذلكَ. وكانَ محمَّدُ بنُ طلحةَ النِّعَاليُّ يُعَلِّمُ بحاءينِ إحداهُما إلى جَنْبِ الأخْرَى كذلكَ. 724. وَلاَ تَكُنْ مُقْتَصِراً أَنْ تَسْمَعَا *** وَكَتْبَهُ مِنْ دُوْنِ فَهْمٍ نَفَعَا 725. وَاقْرَأْ كِتَاباً فِي عُلُوْمِ الأَثَرِ *** كَابْنِ الصَّلاَحِ أَوْ كَذَا الْمُخْتَصَرِ لا يَنْبَغِي للطَّالبِ أنْ يقتصرَ على سماعِ الحديثِ، وكَتْبِهِ دونَ معرفتِهِ وَفَهْمِهِ، وقدْ روينا عن أبي عاصمٍ النَّبِيْلِ، قالَ: الروايةُ في الحديثِ بلا درايةٍ، رِيَاسَةٌ نَذِلَةٌ. قالَ الخطيبُ: هيَ اجتماعُ الطلبةِ على الرَّاوي للسماعِ عندَ عُلُوِّ سِنِّهِ، قالَ: فإذا تَمَيَّزَ الطالبُ بَفَهْمِ الحديثِ، ومعرفتِهِ، تَعَجَّلَ بَرَكَةَ ذلكَ في شبيبتِهِ. قالَ: ولو لَمْ يَكُنْ في الاقتصارِ على سماعِ الحديثِ، وتخليدِهِ الصُّحُفَ، دونَ التَّمْييزِ بمعرفةِ صحيحِهِ من فاسدِهِ والوقوفِ على اختلافِ وجوهِهِ، والتصرفِ في أنواعِ عُلومِهِ، إلاَّ تَلْقِيبُ المعتزلةِ القدريةِ مَنْ سَلَكَ تِلْكَ الطريقةِ بالْحَشَوِيَّةِ؛ لوجبَ على الطالبِ الأَنَفَةُ لنفسِهِ، ودَفْعُ ذلكَ عنهُ، وعن أبناءِ جِنْسِهِ. وروينا عن فارسِ بنِ الحسينِ لنفسِهِ: يا طَاْلبَ العلمِ الذِّي *** ذَهَبَتْ بمُدَّتِهِ الرِّوَاْيَهْ كُنْ فيْ الِّرَوْايَةِ ذَاْ العِنَا *** يَةِ، بِالرِّوَاْيَةِ، وَالدِّرَاْيَهْ وَارْوِ الْقَلِيْلَ وَرَاْعِهِ *** فَالْعِلْمُ لَيْسَ لَهُ نِهَاْيَهْ وقولي: (وكتْبَهُ)، هو منصوبٌ عطفاً على محلِّ (أنْ) المصدريةِ، فمحلُّها نُصِبَ على نزعِ الخافضِ، أي: مُقتصراً على سماعِ الحديثِ، وكَتْبِهِ. ويَنْبَغِي للطالبِ أنْ يقدِّمَ قراءةَ كتابٍ في علومِ الحديثِ حِفْظاً، أو تَفَهُّماً، ليعرفَ مصطلحَ أهلِهِ. قالَ ابنُ الصلاحِ: «ثمَّ إنَّ هذا الكتابَ مدخلٌ إلى هذا الشأْنِ، مُفْصِحٌ عنْ أُصُولِهِ، وفروعِهِ، شارحٌ لمصطلحاتِ أهلِهِ، ومقاصدِهمْ، وَمُهْمَّاتِهِمُ التي ينقصُ المحدِّثُ بالجهلِ بها نقصاً فاحِشاً، فهو- إنْ شاءَ اللهُ تعالى- جديرٌ بأنْ تُقَدّمَ العنايةُ بهِ». وقولي: (أو كَذَا الْمُخْتَصَرِ)، إشارةٌ إلى هذهِ الأُرْجُوْزَةِ. 726. وَبِالصَّحِيْحَيْنِ ابْدَأَنْ ثُمَّ السُّنَنْ *** وَالْبَيْهَقِيْ ضَبْطَاً وَفَهْمَاً ثُمَّ ثَنْ 727. بِمَا اقْتَضَتْهُ حَاجَةٌ مِنْ مُسْنَدِ *** أَحْمَدَ وَالْمُوَطَّأِ الْمُمَهَّدِ 728. وَعِلَلٍ، وَخَيْرُهَا لأَِحْمَدَا *** وَالدَّارَقُطْنِي وَالتَّوَارِيْخُ غَدَا 729. مِنْ خَيْرِهَا الْكَبِيْرُ لِلْجُعْفِيِّ *** وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيْلُ لِلرَّازِيِّ 730. وَكُتُبِ الْمُؤْتَلِفِ الْمَشْهُوْرِ *** وَالأَكْمَلُ الإِْكْمَالُ لِلأَمِيْرِ قالَ الخطيبُ: «مِنْ أَوَّلِ ما يَنْبَغِي أنْ يستعملَهُ الطالبُ شدةُ الحرصِ على السماعِ، والمسارعةُ إليهِ، والملازمةُ للشيوخِ. ويبتدئُ بسماعِ الأُمَّهَاتِ من كُتُبِ أهلِ الأثرِ، والأصولِ الجامعةِ للسُّنَنِ. وأَحقُّها بالتقديمِ الصحيحانِ للبخاري ومسلمٍ، وممَّا يتلو الصحيحينِ: سننُ أبي داودَ، والنَّسَائيِّ، والتِّرْمذيِّ، وكتابُ ابنِ خُزيمةَ». قالَ ابنُ الصلاحِ: «ضبطاً لِمُشْكِلِهَا، وفَهْماً لخفيِّ معانيها. قالَ: ولا يُخْدَعَنَّ عن كتابِ " السننِ الكبيرِ " للبيهقيِّ، فإنَّا لا نعلمُ مِثْلَهُ في بابِهِ. ثُمَّ لسائرِ ما تَمَسُّ حاجةُ صاحبِ الحديثِ إليهِ من كُتُبِ المسانيدِ، ك" مسندِ أحَمدَ "، ومن كتبِ الجوامعِ المصنَّفَةِ في الأحكامِ. و " موطأُ مالكٍ " هو المقدَّمُ منها». وقالَ الخطيبُ- بعدَ أنْ ذكرَ الكتبَ الخمسةَ-: ثُمَّ كُتُبُ المسانيدِ الكبارِ، مثلُ مسندِ أحمدَ، وابنِ راهويهِ، وأبي بكرِ بنِ أبي شيبةَ، وأبي خيثمةَ، وعبدِ بنِ حُميدٍ، وأحمدَ بنِ سنانٍ، والحسنِ بنِ سُفْيَانَ، وأبي يَعْلَى، وما يوجدُ من مسندِ يعقوبَ بنِ شيبةَ، وإسماعيلَ القاضي، ومحمّدِ بنِ أيوبَ الرازيِّ. ثُمَّ الكتُبُ المصنَّفَةُ، مثلُ كتبِ ابنِ جُريجٍ، وابنِ أبي عَرُوبةَ، وابنِ المباركِ، وابنِ عُيينةَ، وهُشيمٍ، وابنِ وَهْبٍ، والوليدِ بنِ مسلمٍ، ووكيعٍ، وعبدِ الوهابِ بنِ عطاءٍ، وعبدِ الرزاقِ، وسعيدِ بنِ منصورٍ، وغيرِهم. قالَ: وأما " موطّأُ مالكٍ "، فهو المقَدَّمُ في هذا النوعِ، ويجبُ أنْ يُبتدأَ بذكرِهِ على كُلِّ كتابٍ لغيرِهِ». ثُمَّ الكتبُ المتعلِّقةُ بعِلَلِ الحديثِ، فمنها كتابُ أحمدَ بنِ حنبلٍ، وابنِ المدينيِّ، وابنِ أبي حاتِمٍ، وأبي عليٍّ النَيْسابوريِّ، والدارقطنيِّ، و" التمييزُ " لمسلمٍ، ثُمَّ تواريخُ المحدِّثينَ، مثلُ: كتابِ ابنِ مَعِيْنٍ- روايةُ عبَّاسٍ، وروايةُ المفضَّلِ الغَلاّبيِّ، وروايةُ الحسينِ بنِ حبَّانَ-، وتاريخِ خليفةَ، وأبي حسَّانَ الزِّيَادِيِّ، ويعقوبَ الفَسَويِّ، وابنِ أبي خَيْثمةَ، وأبي زُرْعةَ الدمشقيِّ، وَحنبلِ بنِ إسحاقَ، والسَّرَّاجِ. و" الجرحُ والتعديلُ " لابنِ أبي حاتِمٍ. قالَ: وَيُرْبِي على هذِهِ الكُتُبِ كُلِّها، تاريخُ محمدِ بنِ إسماعيلَ البخاريِّ، يريدُ: " التأْريخَ الكبيرَ ". وله ثلاثةُ تواريخَ. وإلى هذا أشرتُ بقولي: (مِنْ خَيْرِهَا الكَبِيْرُ للجُعْفِيِّ) أي: البخاريِّ. وقالَ ابنُ الصلاحِ: «إنَّ مِنْ أجودِ العِلَلِ، كتابَ أحمدَ، والدَّارقطنيِّ، ومن أفضلِ التواريخِ، " تاريخَ البخاريِّ الكبيرَ "، وكتابَ ابنِ أبي حاتِمٍ. ثُمَّ قالَ: ومِنْ كُتُبِ الضبطِ لمُشْكِلِ الأسماءِ، قالَ: ومِنْ أكملِهَا كتابُ الإكمالِ، لأبي نصرِ بنِ ماكولا». 731. وَاحْفَظْهُ بِالتَّدْرِيْجِ ثُمَّ ذَاكِرِ *** بِهِ وَالاتْقَانَ اصْحَبَنْ وَبَادِرِ 732. إذا تَأَهَّلْتَ إلى التَّأْلِيْفِ *** تَمْهَرْ وَتُذْكَرْ وَهْوَ في التَّصْنِيْفِ 733. طَرِيْقَتَانِ جَمْعُهُ أبوابَا *** أَوْ مُسْنَداً تُفْرِدُهُ صِحَابَا 734. وَجَمْعُهُ مُعَلَّلاً كَمَا فَعَلْ *** يَعْقُوْبُ أَعْلَى رُتْبَةً وَمَا كَمَلْ لِيَكُنْ تَحَفُّظُ الطالبِ للحديثِ على التَّدريجِ قليلاً قليلاً، ولا يأخذُ نفسَهُ بما لا يطيقُهُ. ففي الحديثِ الصحيحِ: «خُذُوا مِنَ الأعمالِ مَا تُطِيْقُونَ». وروينا عن الثوريِّ قالَ: كنتُ آتي الأعمشَ، ومنصوراً، فأسمَعُ أربعةَ أحاديثَ أو خمسةً، ثُمَّ انصرفُ كراهيةَ أنْ تَكْثُرَ، وتَفَلَّتْ. وروينا نحو ذلكَ عن شعبةَ، وابنِ عُلَيَّةَ، ومَعْمَرٍ. وروينا عن الزهريِّ قالَ: مَنْ طلبَ العلمَ جملةً، فاتَهُ جملةً، وإنما يُدْرَكُ العلمَ حديثٌ وحديثانِ. وقالَ أيضاً فيما رويناهُ عنه: إنَّ هذا العلمَ إنْ أخذتَهُ بالمكَاثَرَةِ لهُ غَلَبَكَ، ولكنْ خُذْهُ معَ الأيَّامِ، واللَّيَالي أخذاً رفيقاً، تَظْفَرُ بهِ. وممَّا يعينُ على دوامِ الحفظِ المذاكرةُ. روينا عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه قالَ: تذاكروا هذا الحديثَ، إِلاَّ تَفْعَلوا، يَدْرُسْ. وروينا عن ابنِ مسعودٍ قالَ: تذاكروا الحديثَ، فإنَّ حياتَهُ مذاكرتُهُ. وروينا نحوَه عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، وابنِ عبَّاسٍ. وروينا عن الخليلِ بنِ أحمدَ قالَ: ذَاكِرْ بعلمكَ، تَذْكُرْ ما عندكَ، وتَسْتَفِدْ ما ليسَ عِنْدَكَ. وروينا عن عبدِ اللهِ ابنِ المعتزِّ، قالَ: مَنْ أكثرَ مذاكرةَ العلماءِ، لم يَنْسَ ما عَلِمَ، واستفادَ ما لم يَعْلَمْ. وليكنِ المحدِّثُ مصاحباً للإتقانِ، فقد روينا عن عبدِ الرحمنِ بنِ مَهْديٍّ قالَ: الحفظُ الإتقانُ. وإذا تأهَّلَ المحدِّثُ للتأليفِ والتخريجِ، واستعدَّ لذلكَ، فليبادرْ إليهِ. فقد قالَ الخطيبُ: قَلَّمَا يتمهَّرُ في علمِ الحديثِ ويقِفُ على غوامضِهِ، ويَستبينُ الْخَفِيَّ مِنْ فوائدِهِ؛ إلاَّ مَنْ جَمَعَ متفرِّقَهُ، وأَلَّفَ مُتَشَتِّتَهُ، وضمَّ بعضَهُ إلى بَعْضٍ، واشتغلَ بتصنيفِ أبوابِهِ، وترتيبِ أصنافِهِ فإنَّ ذلكَ الفِعلَ مما يُقوِّي النَّفْسَ، ويُثَبِّتُ الحِفْظَ، ويُذْكي القلبَ، ويَشْحَذُ الطَّبْعَ، ويبسطُ اللسانَ، ويجيدُ البيانَ، ويكشِفُ الْمُشْتَبِهَ، ويوضحُ الْمُلْتَبِسَ، ويُكْسِبُ أيضاً جَمِيْلَ الذِّكْرِ، ويخلِّدُهُ إلى آخرِ الدهرِ، كما قالَ الشاعرُ: يَمُوْتُ قَوْمٌ فَيُحْيِي الْعِلْمُ ذِكْرَهُمُ وَالْجَهْلُ يُلْحِقُ أَحْيَاءً بِأَمْوَاتِ قالَ: وكانَ بعضُ شيوخِنِا يقولُ: مَنْ أرادَ الفائدةَ فَلْيَكْسِرْ قلمَ النَّسْخِ، وليأخُذْ قلمَ التَّخْرِيجِ. وروينا عن الحافظِ أبي عبدِ اللهِ محمدِ بنِ عليِّ بنِ عبدِ اللهِ الصُّوريِّ، قالَ: رأيتُ عبدَ الغنيِّ بنَ سعيدٍ الحافظَ في المنامِ، فقالَ لي: يا أبا عبدِ اللهِ، خَرِّجْ وصنِّفْ قبلَ أنْ يُحَالَ بينكَ وبينَهُ، هذا أنا قدْ تَراني قد حِيْلَ بيني وبينَ ذلكَ. ثمَّ إنَّ للعلماءِ في تصنيفِ الحديثِ، وجمعهِ، طريقتينِ: إحداهُما: تصنيفُهُ على الأبوابِ على أحكامِ الفقهِ وغيرِها، كالكتبِ الستةِ، والموطَّأ، وبقيةِ المصنفاتِ. والثانيةُ: تصنيفُهُ على مسانيدِ الصحابةِ، كُلُّ مُسْنَدٍ على حدَةٍ، كما تقدَّمَ. وروينا عن الدارقطنيِّ، قالَ: أوَّلُ مَنْ صنَّفَ مُسنداً وَتَتَبَّعَهُ نُعَيمُ بنُ حمَّادٍ. قالَ الخطيبُ: «وقد صنَّفَ أسدُ بنُ موسى مُسْنَداً، وكانَ أكبرَ مِنْ نُعَيمٍ سِناً، وأقدمَ سماعاً، فيحتملُ أنْ يكونَ نُعَيمٌ سبقَهُ في حداثتِهِ». قالَ الخطيبُ: «فإنْ شاءَ رتَّبَ أسماءَ الصحابةِ على حروفِ الْمُعْجَمِ، وإنْ شاءَ على القبائلِ، فيبدأُ ببني هاشمٍ ثُمَّ الأقربِ فالأقربِ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في النَّسَبِ. وإنْ شاءَ على قَدَرِ سَوَابقِ الصَّحَابةِ في الإسلامِ. قالَ: وهذهِ الطريقةُ أحبُّ إلينا. فيبدأُ بالعَشَرةِ، ثُمَّ بالمقدَّمينَ مِنْ أهلِ بَدْرٍ، ويَتْلُوهُم أهلُ الْحُدَيْبِيَّةِ، ثُمَّ مَنْ أسلمَ وهاجرَ بينَ الْحُدَيْبِيَّةِ والفتحِ، ثُمَّ مَنْ أسلمَ يومَ الفتحِ، ثُمَّ الأصاغرِ الأسنانِ، كالسائبِ بنِ يزيدَ، وأبي الطُّفَيْلِ. قالَ ابنُ الصلاحِ: «ثُمَّ بالنساءِ، قالَ: وهذا أحسنُ، والأوَّلُ أسهلُ». قالَ الخطيبُ: «يُسْتحبُّ أنْ يصنِّفَ الْمُسْنَدَ مُعَلَّلاً، فإنَّ معرفةَ العللِ أجلُّ أنواعِ الحديثِ». وروينا عن عبدِ الرحمنِ بنِ مَهْديٍّ، قالَ: لإِنْ أَعْرفَ عِلَّةَ حديثٍ هو عندي، أحبُّ إليَّ مِنْ أنْ أكتبَ عشرينَ حديثاً ليسَ عندي. وقد جمعَ يعقوبُ بنُ شيبةَ مُسْنَداً مُعَلَّلاً. قالَ الأزهريُّ: ولم يُصَنِّفْ يعقوبُ المسندَ كُلَّهُ. قالَ: وسمعْتُ الشيوخَ يقولونَ: لم يُتَمَّمْ مسندٌ معلَّلٌ قَطُّ. قالَ: وقِيْلَ لي: إنَّ نسخةً بمسندِ أبي هُريرةَ شُوهِدَتْ بمصرَ، فكانتْ مائتي جزءٍ، قالَ: ولَزِمَهُ على ما خرَّجَ من المسندِ عشرةُ آلافِ دينارٍ. قالَ الخطيبُ: «والذي ظهرَ ليعقوبَ مسندُ العشرةِ وابنِ مسعودٍ، وعمَّارٍ، وعتبةَ بنِ غزوانَ، والعبَّاسِ، وبعضِ الموالي. هَذَا الذي رأينا من مُسْندِهِ».وإلى هذا أشرتُ بقولي: (وما كَمَلْ) وهيَ مِنَ الزوائدِ على ابنِ الصَّلاح. 735. وَجَمَعُوْا أبواباً اوْ شُيُوخاً اوْ *** تَرَاجِماً أَوْ طُرُقاً وَقَدْ رَأَوْا 736. كَراهَةَ الْجَمْعِ لِذِي تَقْصِيْرِ *** كَذَاكَ الاخْرَاجُ بِلاَ تَحْرِيْرِ وممَّا جَرَتْ عادةُ أهلِ الحديثِ أنْ يخصُّوهُ بالجمعِ والتأليفِ؛ الأبوابُ، والشُّيُوخُ، والتَّرَاجمُ، والطُّرقُ، فأمَّا جمعُ الأبوابِ، فَهُوَ إفرادُ بابٍ واحدٍ بالتَّصنيفِ، ككتابِ "رفعِ اليدينِ"، وبابِ "القراءةِ خلفَ الإمامِ"، أفردَهُما البخاريُّ بالتصنيفِ. وبابِ "التصديقِ بالنظرِ للهِ تعالى" أفردَهُ الآجُرِّيُّ. وبابِ " النِّيَّةِ "، أفردَهُ ابنُ أبي الدنيا. وبابِ " القضاءِ باليمينِ مع الشاهدِ "، أفردَهُ الدَّارقطنيُّ. وبابِ " القنوتِ " أفردَهُ ابنُ مَنْدَه. وبابِ " البسملةِ "، أفردَهُ ابنُ عبدِ البرِّ. وغيرِهِ وغيرِ ذلكَ. وأمَّا جمعُ الشيوخِ، فهو جمعُ حديثِ شيوخٍ مخصوصينَ، كُلِّ واحدٍ منهم على انفرادِهِ، كجمعِ " حديثِ الأعمشِ " للإسماعيليِّ، وحديثِ " الفُضَيلِ بنِ عياضٍ " للنسائيِّ، وحديثِ " محمدِ بنِ جُحَادةَ " للطَّبرانيِّ، وغيرِ ذلكَ، وقد ذكرَ الخطيبُ ممَّنْ يُجْمَعُ حديثُهُ: إسماعيلَ بنَ أبي خالدٍ، وأيوبَ بنَ أبي تميمةَ، وبيانَ بنَ بشرٍ، والحسنَ بنَ صَالحِ بنِ حيٍّ، وحمَّادَ بنَ زيدٍ وداودَ بنَ أبي هندٍ، وربيعةَ بنَ أبي عبدِ الرحمنِ، وزائدةَ، وزهيراً، وزيادَ بنَ سعدٍ، وسفيانَ الثوريَّ، وسفيانَ بنَ عُيينةَ، وسُليمانَ بنَ إسحاقَ الشيبانيَّ، وسليمانَ بنَ طَرْخَانَ، وسليمانَ بنَ مِهْرَانَ الأعمشَ، وشُعبةَ، وصفوانَ بنَ سُلَيمٍ، وطلحةَ بنَ مُصَرِّفٍ، وعبدَ اللهِ ابنَ عَوْنٍ. وعبدَ الرحمنِ بنَ عمرٍو الأوزاعيَّ، وعبيدَ اللهِ بنَ عمرَ العُمَريَّ، وأبا حَصينٍ عثمانَ بنَ عاصمٍ الكوفيَّ، وعمرَو بنَ دينارٍ المكيَّ، ومالكَ بنَ أَنَسٍ، ومحمَّدَ بنَ جُحَادةَ، ومحمدَ بنَ سُوقَةَ، ومحمدَ بنَ مسلمِ بنِ شهابٍ، ومحمدَ بنَ واسعٍ، ومِسْعَرَ بنَ كِدَامٍ، ومَطَرَ بنَ طَهْمانَ، وهِشامَ بنَ سعدٍ، ويحيى بنَ سعيدٍ الأنصاريَّ، ويونسَ بنَ عُبَيدِ البصريَّ. وروينا عن عثمانَ ابنِ سعيدٍ الدارميَّ، قالَ: يقالَ: مَنْ لم يَجمعْ حديثَ هؤلاءِ الخمسةِ، فهو مُفْلِسٌ في الحديثِ: سُفيانُ، وشُعبةُ، ومالكٌ، وحمَّادُ بنُ زيدٍ، وابنُ عُيينةَ، وهم أصولُ الدينِ. وأمَّا جمعُ التراجمِ فهو جمعُ ما جاءَ بترجمةٍ واحدةٍ من الحديثِ، كمالكٍ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، وسُهَيلِ بنِ أبي صالحِ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ، وهشامِ بنِ عُروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ، وأيوبَ، عن ابنِ سِيرينَ، عن أبي هُريرةَ، ونحوِ ذلكَ. وأمَّا جمعُ الطرقِ، فهو جمعُ طرقِ حديثٍ واحدٍ، كطرقِ حديثِ " قبضِ العلمِ " للطُّوسيِّ، وطرقِ حديثِ " مَنْ كذبَ عليَّ متعمداً " للطبرانيِّ، وطرقِ حديثِ " طلبُ العلمِ فريضةٌ ". ونحوِ ذلكَ. وقد أدخلَ الخطيبُ هذا القسمَ في جمعِ الأبوابِ، وأفردَهُ ابنُ الصلاحِ بالذِّكْرِ، وهو واضحٌ؛ لأنَّ هَذَا جمعُ طرقِ حديثٍ واحدٍ، وذلكَ جمعُ بابٍ وفيهِ أحاديثُ مختلفةٌ، واللهُ أعلمُ.وكَرِهُوا الجمعَ والتأليفَ لمنْ هو قاصرٌ عن جودَةِ التأليفِ. روينا عن عليِّ بنِ المدينيِّ، قالَ: إذا رأيتَ المحدِّثَ أوَّلَ ما يكتبُ الحديثَ يجمعُ حديثَ " الغُسْلِ "، وحديثَ " مَنْ كذبَ عليَّ "، فاكتبْ على قَفَاهُ: لا يُفْلِحُ. وكذلكَ كَرِهُوا إخراجَ التصنيفِ إلى الناسِ قبلَ تهذيبِهِ، وتحريرِهِ، وإعادةِ النَّظَرِ فيهِ، وتكريرِهِ.
|