الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **
سبب قتله فلما ملك ابنه حسان بن تبان أسعد أبي كرب سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض الأعاجم ، حتى إذا كانوا ببعض أرض العراق - قال ابن هشام :بالبحرين فيما ذكر لي بعض أهل العلم - كرهت حمير وقبائل اليمن المسير معه ، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهلهم، فكلموا أخا له يقال له عمرو ، وكان معه في جيشه ، فقالوا له: اقتل أخاك حسان ونملكك علينا ، وترجع بنا إلى بلادنا ، فأجابهم . فاجتمعوا على ذلك إلا ذا رعين الحميري ، فإنه نهاه عن ذلك فلم يقبل منه، فقال ذو رعين : ألا من يشتري سهرا بنوم * سعيد من يبيت قرير عين فإما حمير غدرت وخانت * فمعذرة الإله لذي رعين ثم كتبهما في رقعة ، وختم عليها ، ثم أتى بها عَمْرا ، فقال له : ضع لي هذا الكتاب عندك ، ففعل ، ثم قتل عمرو أخاه حسان ، ورجع بمن معه إلى اليمن ؛ فقال رجل من حمير : لاه عينا الذي رأى مثل حسا * ن قتيلا في سالف الأحقاب قتلته مقأول خشية الحبس * غداة قالوا : لباب لباب ميتكم خيرنا وحيكم * رب علينا وكلكم أربابي قال ابن إسحاق : وقوله لباب لباب : لا بأس لا بأس ، بلغة حمير . قال ابن هشام :ويروى : لباب لباب . قال ابن إسحاق : فلما نزل عمرو بن تبان اليمن منع منه النوم ، وسلط عليه السهر ، فلما جهده ذلك سأل الأطباء والحزاة من الكهان والعرافين عما به ؛ فقال له قائل منهم : إنه والله ما قتل رجل قط أخاه ، أو ذا رَحمه بغيا على مثل ما قتلت أخاك عليه ، إلا ذهب نومه ، وسلط عليه السهر. فلما قيل له ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه حسان من أشراف اليمن ، حتى خلص إلى ذي رعين ، فقال له ذو رعين : إن لي عندك براءة؛ فقال : وما هي ؟ قال : الكتاب الذي دفعت إليك ؛ فأخرجه فإذا البيتان ، فتركه ورأى أنه قد نصحه . وهلك عمرو ، فمرج أمر حمير عند ذلك وتفرقوا . فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة ، يقال له لخنيعة ينوف ذو شناتر ، فقتل خيارهم ، وعبث ببيوت أهل المملكة منهم ؛ فقال قائل من حمير للخنيعة : تقتل أبناها وتنفي سراتها * وتبني بأيديها لها الذل حمير تدمر دنياها بطيش حلومها * وما ضيعت من دينها فهو أكثر كذاك القرون قبل ذاك بظلمها * وإسرافها تأتي الشرور فتخسر وكان لخنيعة امرأ فاسقا يعمل عمل قوم لوط ، فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك ، فيقع عليه في مشربة له قد صنعها لذلك ، لئلا يملك بعد ذلك ، ثم يطلع من مشربته تلك إلى حرسه ومن حضر من جنده ، قد أخذ مسواكا فجعله في فيه ، أي ليعلمهم أنه قد فرغ منه . حتى بعث إلى زرعة ذي نواس بن تبان أسعد أخي حسان ، وكان صبيا صغيرا حين قتل حسان ، ثم شب غلاما جميلا وسيما ، ذا هيئة وعقل ؛ فلما أتاه رسوله عرف ما يريد منه ، فأخذ سكينا حديدا لطيفا ، فخبأه بين قدمه ونعله ، ثم أتاه ؛ فلما خلا معه وثب إليه ، فواثبه ذو نواس فوجأه حتى قتله ، ثم حز رأسه ، فوضعه في الكوة التي كان يشرف منها ، ووضع مسواكه في فيه ، ثم خرج على الناس ، فقالوا له : ذا نواس ، أرطب أم يباس ، فقال : سل نخماس استرطبان ذو نواس . استرطبان لا باس - قال ابن هشام :هذا كلام حمير . ونخماس : الرأس - فنظروا إلى الكوة فإذا رأس لخنيعة مقطوع ، فخرجوا في إثر ذي نواس حتى أدركوه ، فقالوا : ما ينبغي أن يملكنا غيرك : إذ أرحتنا من هذا الخبيث . فملكوه ، واجتمعت عليه حمير وقبائل اليمن ، فكان آخر ملوك حمير ، وهو صاحب الأخدود ، وتسمى يوسف ، فأقام في ملكه زمانا . وبنجران بقايا من أهل دين عيسى بن مريم عليه السلام على الإنجيل ، أهل فضل ، واستقامة من أهل دينهم ، لهم رأس يقال له عبدالله بن الثامر ، وكان موقع أصل ذلك الدين بنجران ، وهي بأوسط أرض العرب في ذلك الزمان ، وأهلها وسائر العرب كلها أهل أوثان يعبدونها ، وذلك أن رجلا من بقايا أهل ذلك الدين يقال له فيميون - وقع بين أظهرهم، فحملهم عليه ، فدانوا به . فيميون و صالح و نشر النصرانية بنجران قال ابن إسحاق : حدثني المغيرة بن أبي لبيد مولى الأخنس عن وهب بن منبه اليماني أنه حدثهم : أن موقع ذلك الدين بنجران كان أن رجلا من بقايا أهل دين عيسى بن مريم يقال له فيميون ، وكان رجلا صالحا مجتهدا زاهدا في الدنيا ، مجاب الدعوة وكان سائحا ينزل بين القرى ، لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى قرية لا يعرف بها ، وكان لا يأكل إلا من كسب يديه ، وكان بناء يعمل الطين وكان يعظم الأحد ، فإذا كان يوم الأحد لم يعمل فيه شيئا ، وخرج إلى فلاة من الأرض يصلي بها حتى يمسي . قال : وكان في قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفيا ، ففطن لشأنه رجل من أهلها يقال له صالح ، فأحبه صالح حبا لم يحبه شيئا كان قبله ، فكان يتبعه حيث ذهب ، ولا يفطن له فيميون : حتى خرج مرة في يوم الأحد إلى فلاة من الأرض ، كما كان يصنع ، وقد اتبعه صالح ، وفيميون لا يدري ، فجلس صالح منه منظر العين مستخفيا منه ، لا يحب أن يعلم بمكانه ، وقام فيميون يصلى ، فبينما هو يصلي إذ أقبل نحوه التنين - الحية ذات الرءوس السبعة - فلما رآها فيميون دعا عليها فماتت ، ورآها صالح ولم يدر ما أصابها ، فخافها عليه ، فَعِيلَ عَوْلُهُ ، فصرخ يا فيميون ، التنين قد أقبل نحوك ؛ فلم يلتفت إليه ، وأقبل على صلاته حتى فرغ منها ، وأمسى فانصرف . وعَرف أنه قد عُرف ، وعرف صالح أنه قد رأى مكانه ؛ فقال له : يا فيميون : تعلم والله أني ما أحببت شيئا قط حبك ، وقد أردت صحبتك ، والكينونة معك حيث كنت ، فقال : ما شئت ، أمرى كما ترى ، فإن علمت أنك تقوى عليه فنعم، فلزمه صالح . وقد كاد أهل القرية يفطنون لشأنه ، وكان إذا فاجأه العبد به الضر دعا له فشفي ، وإذا دعي إلى أحد به ضر لم يأته ؛ وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير ، فسأل عن شأن فيميون فقيل له : إنه لا يأتي أحدا دعاه ، ولكنه رجل يعمل للناس البنيان بالأجر . فعمد الرجل إلى ابنه ذلك فوضعه في حجرته وألقى عليه ثوبا ، ثم جاءه فقال له : يا فيميون ، إني قد أردت أن أعمل في بيتي عملا ، فانطلق معي إليه حتى تنظر إليه ، فأشارطك عليه . فانطلق معه ، حتى دخل حجرته ، ثم قال له : ما تريد أن تعمل في بيتك هذا ؟ قال : كذا وكذا ؛ ثم انتشط الرجل الثوب عن الصبي ، ثم قال له : يا فيميون ، عبد من عباد الله أصابه ما ترى ، فادع الله له . فدعا له فيميون ، فقام الصبي ليس به بأس . وعرف فيميون أنه قد عرف ، فخرج من القرية واتبعه صالح ، فبينما هو يمشي في بعض الشام إذ مر بشجرة عظيمة ، فناداه منها رجل ، فقال : يا فيميون ؛ قال : نعم ؛ قال : ما زلت أنظرك وأقول متى هو جاء ، حتى سمعت صوتك ، فعرفت أنك هو ، لا تبرح حتى تقوم علي ، فإني ميت الآن ؛ قال : فمات وقام عليه حتى واراه ، ثم انصرف ، وتبعه صالح ، حتى وطئا بعض أرض العرب ، فعدوا عليهما . فاختطفتهما سيارة من بعض العرب ، فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران، وأهل نجران يومئذ على دين العرب ، يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم ، لها عيد في كل سنة ، إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه ، وحليّ النساء ، ثم خرجوا إليها فعكفوا عليها يوما . فابتاع فيميون رجل من أشرافهم ، وابتاع صالحا آخر . فكان فيميون إذا قام من الليل يتهجد في بيت له - أسكنه إياه سيده - يصلي ، استسرج له البيتُ نورا حتى يصبح من غير مصباح ؛ فرأى ذلك سيده ، فأعجبه ما يرى منه ، فسأله عن دينه ، فأخبره به ، وقال له فيميون : إنما أنتم في باطل ، إن هذه النخلة لا تضر ولا تنفع ، ولو دعوت عليها إلهي الذي أعبده لأهلكها ، وهو الله وحده لا شريك له . قال : فقال له سيده : فافعل ، فإنك إن فعلت دخلنا في دينك ، وتركنا ما نحن عليه . قال : فقام فيميون ، فتطهر وصلى ركعتين ، ثم دعا الله عليها، فأرسل الله عليها ريحا فجعفتها من أصلها فألقتها ، فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه ، فحملهم على الشريعة من دين عيسى بن مريم عليه السلام ، ثم دخلت عليهم الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض ، فمن هنالك كانت النصرانية بنجران في أرض العرب . قال ابن إسحاق : فهذا حديث وهب بن منبه عن أهل نجران . قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي، وحدثني أيضا بعض أهل نجران عن أهلها : أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان ، وكان في قرية من قراها قريبا من نجران - ونجران : القرية العظمى التي إليها جماع أهل تلك البلاد - ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر ، فلما نزلها فيميون - ولم يسموه لي باسمه الذي سماه به وهب بن منبه ، قالوا : رجل نزلها - ابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي بها الساحر ، فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر فبعث إليه الثامر ابنه عبدالله بن الثامر ، مع غلمان أهل نجران فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى منه من صلاته وعبادته ، فجعل يجلس إليه ، ويسمع منه ، حتى أسلم ، فوحد الله وعبده ، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام ، حتى إذا فقه فيه جعل يسأله عن الاسم الأعظم ، وكان يعلمه ، فكتمه إياه ، وقال له: يا ابن أخي ، إنك لن تحمله ، أخشى عليك ضعفك عنه ، والثامر أبو عبدالله لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان ، فلما رأى عبدالله أن صاحبه قد ضن به عنه ، وتخوف ضعفه فيه ، عمد إلى قداح فجمعها ، ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه في قدح ، و لكل اسم قدح ، حتى إذا أحصاها أوقد لها نارا ، ثم جعل يقذفها فيها قدحا قدحا، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه ، فوثب القدح حتى خرج منها لم تضره شيئا ، فأخذه ثم أتى صاحبه فأخبره بأنه قد علم الاسم الذي كتمه ؛ فقال : وما هو ؟ قال : هو كذا وكذا ؛ قال : وكيف علمته ؟ فأخبره بما صنع ؛ قال : أَيِ ابنَ أخي ، قد أصبته فأمسك على نفسك وما أظن أن تفعل . فجعل عبدالله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال يا عبدالله ، أتوحد الله وتدخل في ديني وأدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول : نعم ؛ فيوحد الله ويسلم ، ويدعو له فيشفى . حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه الله فاتبعه على أمره ، ودعا له فعوفي حتى رفع شأنه إلى ملك نجران ، فدعاه فقال له : أفسدت علي أهل قريتي ، وخالفت ديني ودين أبائي ، لأمثلن بك ؛ قال : لا تقدر على ذلك . قال : فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع إلى الأرض ليس به بأس ؛ وجعل يبعث به إلى مياه بنجران ، بحُور لا يقع فيها شيء إلا هلك ، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس . فلما غلبه قال له عبدالله بن الثامر : إنك والله لن تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به ، فإنك إن فعلت ذلك سلطت علي فقتلتني . قال : فوحد الله تعالى ذلك الملك ، وشهد شهادة عبدالله بن الثامر ، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة ، فقتله ، ثم هلك الملك مكانه؛ واستجمع أهل نجران على دين عبدالله بن الثامر ، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم من الإنجيل وحكمه ، ثم أصابهم مثل ما أصاب أهل دينهم من الأحداث ، فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران ، والله أعلم بذلك. قال ابن إسحاق : فهذا حديث محمد بن كعب القرظي ، وبعض أهل نجران عن عبدالله بن الثامر ، والله أعلم أي ذلك كان . فسار إليهم ذو نواس بجنوده ، فدعاهم إلى اليهودية ، وخيرهم بين ذلك والقتل ، فاختاروا القتل ، فخد لهم الأخدود ، فحرق من حرق بالنار ، وقتل من قتل بالسيف ومثل بهم حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا ، ففي ذي نواس وجنده تلك أنزل الله تعالى على رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : قال ابن هشام :الأخدود : الحفر المستطيل في الأرض ، كالخندق والجدول ونحوه ، وجمعه أخاديد . قال ذو الرمة ، واسمه غيلان بن عقبة ، أحد بني عدي بن عبد مناف بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر : من العراقية اللاتي يحيل لها * بين الفلاة وبين النخل أخدود يعني جدولا . وهذا البيت في قصيدة له . قال : ويقال لأثر السيف والسكين في الجلد وأثر السوط ونحوه : أخدود ، وجمعه أخاديد . قال ابن إسحاق : ويقال : كان فيمن قتل ذو نواس عبدالله بن الثامر ، رأسهم وإمامهم . قال ابن إسحاق : حدثني عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه حدث : أن رجلا من أهل نجران كان في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجته ، فوجدوا عبدالله بن الثامر تحت دفن منها قاعدا ، واضعا يده على ضربة في رأسه ، ممسكا عليها بيده ، فإن أخرت يده عنها تنبعث دما ، وإذا أرسلت يده ردها عليها ، فأمسكت دمها ، وفي يده خاتم مكتوب فيه : ( ربي الله ) فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبر بأمره ، فكتب إليهم عمر رضي الله عنه : أن أقروه على حاله ، وردوا عليه الدفن الذي كان عليه ، ففعلوا .
|