الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **
قال ابن إسحاق : ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدار من دور الأنصار من بني عبدالأشهل وظفر ، فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم ، فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبكى ، ثم قال : لكن حمزة لا بواكي له ! فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد ابن حضير إلى دار بني عبدالأشهل أمرا نساءهم أن يتحزمن ، ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن إسحاق : حدثني حكيم بن حكيم عن عباد بن حنيف ، عن بعض رجال بني عبدالأشهل قال : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاءهن على حمزة خرج عليهن وهن على باب مسجده يبكين عليه ، فقال : ارجعن يرحمكن الله ، فقد آسيتن بأنفسكن . قال ابن هشام : ونهي يومئذ عن النوح . قال ابن هشام : وحدثني أبو عبيدة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع بكاءهن ، قال : رحم الله الأنصار ! فإن المواساة منهم ما عتمت لقديمة ، مروهن فلينصرفن . قال ابن إسحاق : وحدثني عبدالواحد بن أبي عون ، عن إسماعيل بن محمد ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار ، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد ، فلما نعوا لها ، قالت : فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : خيرا يا أم فلان ، هو بحمد الله كما تحبين ؛ قالت : أرونيه حتى أنظر إليه ؟ قال : فأشير لها إليه ، حتى إذا رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل ! تريد صغيرة . قال ابن هشام : الجلل : يكون من القليل ومن الكثير ، وهو هاهنا من القليل . قال امرؤ القيس في الجلل القليل : لقتل بني أسد ربهم * ألا كل شيء سواه جلل قال ابن هشام : أي صغير قليل قال ابن هشام : والجلل أيضاً : العظيم ، قال الشاعر وهو الحارث ابن وعلة الجرمي : ولئن عفوت لأعفون جللا * ولئن سطوت لأوهنن عظمي قال ابن إسحاق : فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله نأول سيفه ابنته فاطمة ، فقال اغسلي عن هذا دمه يا بنية ، فوالله لقد صدقني اليوم ، وناولها علي بن أبي طالب سيفه ، فقال : وهذا أيضاً ، فاغسلي عنه دمه ، فوالله لقد صدقني اليوم ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن كنت صدقت القتال لقد صدق معك سهل بن حنيف وأبو دجانة . قال ابن هشام : وكان يقال لسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذو الفقار . قال ابن هشام : وحدثني بعض أهل العلم ، أن ابن أبي نجيح قال : نادى مناد يوم أحد : لا سيف إلا ذو الفقار * ولا فتى إلا علي قال ابن هشام : وحدثني بعض أهل العلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب : لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا . قال ابن إسحاق : وكان يوم أحد يوم السبت للنصف من شوال . ثم إن أبا سفيان بن حرب ، حين أراد الانصراف ، أشرف على الجبل ، ثم صرخ بأعلى صوته فقال : أنعمت فعال ، وإن الحرب سجال يوم بيوم ، أعل هبل ، أي أظهر دينك ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قم يا عمر فأجبه ، فقل : الله أعلى وأجل ، لا سواء ، قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار . قال : فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال ، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو ، فأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس . فكلمه جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام ، فقال : يا رسول الله ، إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع ، وقال : يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي ، فتخلف على أخواتك ؛ فتخلفت عليهن . فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج معه . وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو ، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ، ليظنوا به قوة ، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم . قال ابن إسحاق : فحدثني عبدالله بن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان : أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من بني عبدالأشهل ، كان شهد أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : شهدت أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنا وأخ لي ، فرجعنا جريحين ، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو ، قلت لأخي أو قال لي : أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والله ما لنا من دابة نركبها ، وما منا إلا جريح ثقيل ، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت أيسر جرحا ، فكان إذا غلب حملته عقبة ، ومشى عقبة ، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون . قال ابن إسحاق : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد ، وهي من المدينة على ثمانية أميال ، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، فيما قال ابن هشام : قال ابن إسحاق : فأقام بها الإثنين والثلاثاء والأربعاء ، ثم رجع إلى المدينة . قال : وقد مر به كما حدثني عبدالله بن أبي بكر ، معبد بن أبي معبد الخزاعي ، وكانت خزاعة ، مسلمهم ومشركهم عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، بتهامة ، صفقتهم معه ، لا يخفون عنه شيئا كان بها ، ومعبد يومئذ مشرك ، فقال : يا محمد ، أما والله لقد عز علينا ما أصابك ، ولوددنا أن الله عافاك فيهم ، ثم خرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد ، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء ، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقالوا : أصبنا أحد أصحابه وأشرافهم وقادتهم ، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم ! لنكرن على بقيتهم ، فلنفرغن منهم ، فلما رأى أبو سفيان معبدا ، قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرقا ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ، وندموا على ما صنعوا فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط ؛ قال : ويحك ! ما تقول ؟ قال : والله ما أرى أن ترتحل حتى أرى نواصي الخيل ، قال : فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم ، قال : فإني أنهاك عن ذلك ؛ قال : والله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا من شعر قال ؛ وما قلت ؟ قال : قلت : كادت تهد من الأصوات راحلتي * إذ سألت الأرض بالجرد الأبابيل تردي بأسد كرام لا تنابلة * عند اللقاء ولا ميل معازيل فظلت عدوا أظن الأرض مائلة * لما سمو برئيس غير مخذول فقلت ويل ابن حرب من لقائكم * إذا تغطمطت البطحا بالجيل إني نذير لأهل البسل ضاحية * لكل ذي إربة منهم ومعقول من جيش أحمد لا وخش تنابلة * وليس يوصف ما أنذرت بالقيل فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه . ومر به ركب بن عبدالقيس ، فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريد المدينة ؟ قال : ولم ؟ قالوا : نريد الميرة ؛ قال : فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه ، وأحمل لكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها ؟ قالوا : نعم قال ؛ فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم ، فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان ؛ فقال : حسبنا الله ونعم الوكيل . قال ابن هشام : حدثنا أبو عبيدة : أن أبا سفيان بن حرب لما انصرف يوم أحد ، أراد الرجوع إلى المدينة ، ليستأصل بقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم صفوان بن أمية بن خلف : لا تفعلوا ، فإن القوم قد حربوا ، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان ، فارجعوا ، فرجعوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد ، حين بلغه أنهم هموا بالرجعة : والذي نفسي بيده ، لقد سومت لهم حجارة ، لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب . قال أبوعبيدة : وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في جهة ذلك قبل رجوعه إلى المدينة ، معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ، وهو جد عبدالملك بن مروان ، أبو أمه عائشة بنت معاوية ، وأبا عزة الجمحي ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسره ببدر ، ثم من عليه ؛ فقال : يا رسول الله ، أقلني ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول : خدعت محمدا مرتين ، اضرب عنقه يا زبير . فضرب عنقه " . قال ابن هشام : وبلغني عن سعيد بن المسيب أنه قال : قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ، اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت ، فضرب عنقه . قال ابن هشام : ويقال : إن زيد بن حارثة وعمار بن ياسر ، قتلا معاوية بن المغيرة بعد حمراء الأسد ، كان لجأ إلى عثمان بن عفان فاستأمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمَّنه ، على أنه إن وجد بعد ثلاث قتل ، فأقام بعد ثلاث وتوارى فبعثهما النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : إنكما ستجدانه بموضع كذا وكذا ، فوجداه فقتلاه . قال ابن إسحاق : فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكان عبدالله بن أبي بن سلول ، كما حدثني ابن شهاب الزهري ، له مقام يقومه كل جمعة لا ينكر ، شرفا له في نفسه وفي قومه ، وكان فيهم شريفا ، إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس ، قام فقال : أيها الناس هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم ، أكرمكم الله وأعزكم به ، فانصروه وعزروه ، واسمعوا له وأطيعوا ، ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع ، ورجع بالناس ، قام يفعل ذلك كما كان يفعله ، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه ، وقالوا : اجلس ، أي عدو الله ، لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت ، فخرج يتخطى رقاب الناس ، وهو يقول : والله لكأنما قلت بجرا إن قمت أشدد أمره . فلقيه رجل من الأنصار بباب المسجد ، فقال : مالك ؟ ويلك ! قال : قمت أشدد أمره ، فوثب علي رجال من أصحابه يجذبونني ويعنفونني ، لكأنما قلت بجرا أن قمت أشدد أمره ؛ قال : ويلك ! ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال : والله ما أبتغي أن يستغفر لي . قال ابن إسحاق : كان يوم أحد يوم بلاء ومصيبة وتمحيص ، اختبر الله به المؤمنين ، ومحن به المنافقين ، ممن كان يظهر الإيمان بلسانه ، وهو مستخف بالكفر في قلبه ، ويوما أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته " .
|