الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **
قال ابن هشام : وكانت قريش قبل حفر زمزم قد احتفرت بئارا بمكة ، فيما حدثنا زياد بن عبدالله البكائي عن محمد بن إسحاق ، قال : حفر عبد شمس بن عبد مناف الطوي ، وهي البئر التي بأعلى مكة عند البيضاء ، دار محمد بن يوسف الثقفي . وحفر هاشم بن عبد مناف بذر ، وهي البئر التي عند المستنذر ، خطم الخندمة على فم شعب أبي طالب . وزعموا أنه قال حين حفرها : لأجعلنها بلاغا للناس . قال ابن هشام :وقال الشاعر : سقى الله أمواها عرفت مكانها * جرابا وملكوما وبذر والغمرا قال ابن إسحاق : وحفر سجلة ، وهي بئر المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف التي يسقون عليها اليوم . ويزعم بنو نوفل أن المطعم ابتاعها من أسد بن هاشم ، ويزعم بنو هاشم أنه وهبها له حين ظهرت زمزم ، فاستغنوا بها عن تلك الآبار . وحفر أمية بن عبد شمس الحفر لنفسه . وحفرت بنو أسد بن عبدالعزى سقية ، وهي بئر بني أسد . وحفرت بنو عبدالدار أم أحراد . وحفرت بنو جمح السنبلة ، وهي بئر خلف بن وهب . وحفرت بنو سهم الغمر ، وهي بئر بني سهم . وكانت آبار حفائر خارجا من مكة قديمة من عهد مرة بن كعب ، وكلاب بن مرة ، وكبراء قريش الأوائل منها يشربون ، وهي رم ، ورم : بئر مرة بن كعب بن لؤي . وخم ، وخم : بئر بني كلاب بن مرة ؛ والحفر . قال حذيفة بن غانم أخو بني عدي بن كعب بن لؤي : قال ابن هشام :وهو أبو أبي جهم بن حذيفة : وقدما غنينا قبل ذلك حقبة * ولا نستقي إلا بخم أو الحفر قال ابن هشام : وهذا البيت في قصيدة له ، وسأذكرها إن شاء الله في موضعها . قال ابن إسحاق : فعفت زمزم على البئار التي كانت قبلها يسقي عليها الحاج ، وانصرف الناس إليها لمكانها من المسجد الحرام ، ولفضلها على ما سواها من المياه ، ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام . وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلها ، وعلى سائر العرب ، فقال مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، وهو يفخر على قريش بما ولوا عليهم من السقاية والرفادة ، وما أقاموا للناس من ذلك ، وبزمزم حين ظهرت لهم ، وإنما كان بنو عبد مناف أهل بيت واحد ، شرف بعضهم لبعض شرف ، وفضل بعضهم لبعض فضل : ورثنا المجد من آبا ئنا * فنمى بنا صعدا ألم نسق الحجيج وننحر * الدلافة الرفدا ونُلقى عند تصريف الْ منايا * شُدَّدا رفدا فإن نهلك فلم نملك * ومن ذا خالد أبدا وزمزم في أرومتنا * ونفقأ عين من حسدا قال ابن هشام : وهذه الأبيات في قصيدة له . قال ابن إسحاق : وقال حذيفة بن غانم أخو بني عدي بن كعب بن لؤي : وساقي الحجيج ثم للخبز هاشم * وعبد مناف ذلك السيد الفهري طوى زمزما عند المقام فأصبحت * سقايته فخرا على كل ذي فخر قال ابن هشام : يعني عبدالمطلب بن هاشم . وهذان البيتان في قصيدة لحذيفة بن غانم سأذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى . قال ابن إسحاق : وكان عبدالمطلب بن هاشم - فيما يزعمون والله أعلم - قد نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم ، لئن ولد له عشرة نفر ، ثم بلغوا معه حتى يمنعوه ، لينحرن أحدهم لله عند الكعبة . فلما توافى بنوه عشرة ، وعرف أنهم سيمنعونه ، جمعهم ثم أخبرهم بنذره ، ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك ، فأطاعوه وقالوا : كيف نصنع ؟ قال : ليأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب فيه اسمه ، ثم ائتوني . ففعلوا ، ثم أتوه ، فدخل بهم على هبل في جوف الكعبة ، وكان هبل على بئر في جوف الكعبة ، وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدي للكعبة . وكان عند هبل قداح سبعة ، كل قدح منها فيه كتاب . قدح فيه العقل إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ، ضربوا بالقداح السبعة ، فإن خرج العقل فعلى من خرج حمله ؛ وقدح فيه ( نعم ) للأمر إذ أرادوه يضرب به في القداح ، فإن خرج قدح ( نعم ) عملوا به ؛ وقدح فيه ( لا ) إذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح ، فإن خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر ؛ وقدح فيه ( منكم ) ؛ وقدح فيه ( ملصق ) ، وقدح فيه ( من غيركم ) ؛ وقدح فيه ( المياه ) إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح ، وفيها ذلك القدح ، فحيثما خرج عملوا به . وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما ، أو ينكحوا منكحا ، أو يدفنوا ميتا ، أو شكوا في نسب أحدهم ، ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وجزور ، فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها ، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ، ثم قالوا لصاحب القداح : اضرب ، يا إلهنا ، هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا و كذا ، فأخرج الحق فيه . ثم يقولون لصاحب القداح : اضرب ، فإن خرج عليه ( منكم ) كان منهم وسيطا ، وإن خرج عليه ( من غيركم ) كان حليفا ؛ وإن خرج عليه ( ملصق ) كان على منزلته فيهم ، لا نسب له ولا حلف ؛ وإن خرج فيه شيء ، مما سوى هذا مما يعملون به ( نعم ) عملوا به ؛ وإن خرج ( لا ) أخروه عامه ذلك حتى يأتوه به مرة أخرى ، ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح . فقال عبدالمطلب لصاحب القداح : اضرب على بَنيَّ هؤلاء بقداحهم هذه وأخبره بنذره الذي نذر ، فأعطاه كل رجل منهم قدحه الذي فيه اسمه ، وكان عبدالله بن عبدالمطلب أصغر بني أبيه ، كان هو والزبير وأبو طالب لفاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر . قال ابن هشام :عائذ بن عمران بن مخزوم . قال ابن إسحاق : وكان عبدالله - فيما يزعمون - أحب ولد عبدالمطلب إليه ، فكان عبدالمطلب يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشوى . وهو أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها ، قام عبدالمطلب عند هبل يدعو الله ، ثم ضرب صاحب القداح ، فخرج القدح على عبدالله . فأخذه عبدالمطلب بيده وأخذ الشفرة ، ثم أقبل به إلى إساف ونائلة ليذبحه ، فقامت إليه قريش من أنديتها ، فقالوا : ماذا تريد يا عبدالمطلب ؟ قال : أذبحه ؛ فقالت له قريش وبنوه : والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه . لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه ، فما بقاء الناس على هذا ! وقال له المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة ، وكان عبدالله ابن أخت القوم : والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه ، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه . وقالت له قريش وبنوه : لا تفعل ، وانطلق به إلى الحجاز ، فإن به عرافة لها تابع ، فسلها ، ثم أنت على رأس أمرك ، إن أمرتك بذبحه ذبحته ، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته . فانطلقوا حتى قدموا المدينة ، فوجدوها - فيما يزعمون - بخيبر . فركبوا حتى جاءوها ، فسألوها ، وقص عليها عبدالمطلب خبره وخبر ابنه ، وما أراد به ونذره فيه ؛ فقالت لهم : ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله . فرجعوا من عندها ، فلما خرجوا عنها ، قام عبدالمطلب يدعو الله ، ثم غدوا عليها ، فقالت لهم : قد جاءني الخبر ، كم الدية فيكم ؟ قالوا : عشر من الإبل ، وكانت كذلك . قالت : فارجعوا إلى بلادكم ، ثم قربوا صاحبكم ، وقربوا عشرا من الإبل ، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح ، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم ، وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه ، فقد رضي ربكم ، ونجا صاحبكم . فخرجوا حتى قدموا مكة ، فلما أجمعوا على ذلك من الأمر ، قام عبدالمطلب يدعو الله ؛ ثم قربوا عبدالله وعشرا من الإبل ، وعبدالمطلب قائم عند هبل يدعو الله عز وجل ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبدالله ؛ فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل عشرين ، وقام عبدالمطلب يدعو الله عز وجل ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبدالله ؛ فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل ثلاثين ، وقام عبدالمطلب يدعو الله ، ثم ضربوا ، فخرج القدح على عبدالله ؛ فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل أربعين ، وقام عبدالمطلب يدعو الله ، ثم ضربوا ، فخرج القدح على عبدالله ؛ فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل خمسين ، وقام عبدالمطلب يدعو الله عز وجل ، ثم ضربوا ، فخرج القدح على عبدالله ؛ فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل ستين ، وقام عبدالمطلب يدعو الله ، ثم ضربوا ، فخرج القدح على عبدالله ؛ فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل سبعين ، وقام عبدالمطلب يدعو الله ، ثم ضربوا ، فخرج القدح على عبدالله ؛ فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل ثمانين ، وقام عبدالمطلب يدعو الله عز وجل ، ثم ضربوا ، فخرج القدح على عبدالله ؛ فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل تسعين ، وقام عبدالمطلب يدعوا الله ، ثم ضربوا ، فخرج القدح على عبدالله ؛ فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل مائة ، وقام عبدالمطلب يدعوا الله ، ثم ضربوا ، فخرج القدح على الإبل ؛ فقالت قريش ومن حضر : قد انتهى رضا ربك يا عبدالمطلب . فزعموا أن عبدالمطلب قال : لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات ؛ فضربوا على عبدالله وعلى الإبل ، وقام عبدالمطلب يدعو الله ، فخرج القدح على الإبل ، ثم عادوا الثانية ، وعبدالمطلب قائم يدعو الله ، فضربوا ، فخرج القدح على الإبل ، ثم عادوا الثالثة ، وعبدالمطلب قائم يدعو الله ، فضربوا ، فخرج القدح على الإبل ، فنحرت ، ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا يمنع . قال ابن هشام : ويقال : إنسان ولا سبع . قال ابن هشام : وبين أضعاف هذا الحديث رجز لم يصح عندنا عن أحد من أهل العلم بالشعر . قال ابن إسحاق : ثم انصرف عبدالمطلب آخذا بيد عبدالله ، فمر به - فيما يزعمون - على امرأة من بني أسد بن عبدالعزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر ، وهي أخت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى ، وهي عند الكعبة ؛ فقالت له حين نظرت إلى وجهه : أين تذهب يا عبدالله ؟ قال : مع أبي ، قالت : لك مثل الإبل التي نحرت عنك ، وقع علي الآن ، قال : أنا مع أبي ، ولا أستطيع خلافه ، ولا فراقه . فخرج به عبدالمطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر ، وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبا وشرفا ، فزوجه ابنته آمنة بنت وهب ، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا . وهي لبرة بنت عبدالعزى بن عثمان بن عبدالدار بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر . وبرة : لأم حبيب بنت أسد بن عبدالعزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر . وأم حبيب : لبرة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر . فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها مكانه ، فوقع عليها ، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ثم خرج من عندها ، فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت ، فقال لها : ما لك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت علي بالأمس ؟ قالت له : فارقك النور الذي كان معك بالأمس ، فليس لي بك اليوم حاجة . وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل - وكان قد تنصر واتبع الكتب - : أنه سيكون في هذه الأمة نبي . قال ابن إسحاق : وحدثني أبي إسحاق بن يسار أنه حدث : أن عبدالله إنما دخل على امرأة كانت له مع آمنة بنت وهب ، وقد عمل في طين له ، وبه آثار من الطين ، فدعاها إلى نفسه ، فأبطأت عليه لما رات به أثر الطين ، فخرج من عندها فتوضأ وغسل ما كان به من ذلك الطين ، ثم خرج عامدا إلى آمنة ، فمر بها ، فدعته إلى نفسها ، فأبى عليها ، وعمد إلى آمنة ، فدخل عليها فأصابها ، فحملت بمحمد صلى الله عليه وسلم . ثم مر بامرأته تلك ، فقال لها : هل لك ؟ قالت : لا ، مررت بي وبين عينيك غرة بيضاء ، فدعوتك فأبيت علي ، ودخلت على آمنة فذهبت بها . قال ابن إسحاق : فزعموا أن امرأته تلك كانت تحدث : أنه مر بها وبين عينيه غرة مثل غرة الفرس ؛ قالت : فدعوته رجاء أن تكون تلك بي ، فأبى علي ، ودخل على آمنة ، فأصابها ، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسط قومه نسبا ، وأعظمهم شرفا من قبل أبيه وأمه ، صلى الله عليه وسلم .
|