الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)} {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء} لأنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} لأنه ملكهم بعد فرعون ملكه وبعد الجبابرة ملكهم، ولأن الملوك تكاثروا فيهم تكاثر الأنبياء. وقيل: الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار وكانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية. وقيل: من له بيت وخدم، أو لأنهم كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله فسمي إنقاذهم ملكاً {وءاتاكم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن العالمين} من فلق البحر وإغراق العدو وإنزال المن والسلوى وتظليل الغمام ونحو ذلك من الأمور العظام أو أراد عالمي زمانهم {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ} أي المطهرة أو المباركة وهي أرض بيت المقدس أو الشام {الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قسمها لكم أو سماها أو كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكن لكم {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم} ولا ترجعوا على أعقابكم مدبرين منهزمين من خوف الجبابرة جبناً أو لا ترتدوا على أدباركم في دينكم {فَتَنقَلِبُواْ خاسرين} فترجعوا خاسرين ثواب الدنيا والآخرة. {قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} الجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا} بالقتال {حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا} بغير قتال {فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا} بلا قتال {فَإِنَّا داخلون} بلادهم حينئذ {قَالَ رَجُلاَنِ} كالب ويوشع {من الّذين يخافونَ} الله ويخشونه كأنه قيل رجلان من المتقين وهو في محل الرفع صفة ل «رجلان» وكذا {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا} بالخوف منه {ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب} أي باب المدينة {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالبون} أي انهزموا وكانت الغلبة لكم، وإنما علما ذلك بإخبار موسى عليه السلام {وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} إذ الإيمان به يقتضي التوكل عليه وهو قطع العلائق وترك التملق للخلائق {قَالُواْ ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا} هذا نفي لدخولهم في المستقبل على وجه التوكيد {أَبَدًا} تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول {مَّا دَامُواْ فِيهَا} بيان للأبد {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ} من العلماء من حمله على الظاهر. وقال: إنه كفر منهم وليس كذلك إذ لو قالوا ذلك اعتقاداً وكفروا به لحاربهم موسى ولم تكن مقاتلة الجبارين أولى من مقاتلة هؤلاء، ولكن الوجه فيه أن يقال: فاذهب أنت وربك يعينك على قتالك، أو وربك أي وسيدك وهو أخوك الأكبر هارون، أو لم يرد به حقيقة الذهاب ولكن كما تقول «كلمته فذهب يجيبني» تريد معنى الإرادة كأنهم قالوا أريدا قتالهم: {فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون} ماكثون لا نقاتلهم لنصرة دينكم فلما عصوه وخالفوه {قَالَ رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ} لنصرة دينك {إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى} وهو منصوب بالعطف على «نفسي» أو على اسم «إن» أي إني لا أملك إلا نفسي وإن أخي لا يملك إلا نفسه، أو مرفوع بالعطف على محل «إن» واسمها، أو على الضمير في «لا أملك» وجاز للفصل أي ولا يملك أخي إلا نفسه، أو هو مبتدأ والخبر محذوف أي وأخي كذلك، وهذا من البث والشكوى إلى الله ورقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة وكأنه لم يثق بالرجلين المذكورين كل الوثوق فلم يذكر إلا النبي المعصوم، أو أراد ومن يؤاخيني على ديني {فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين} فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما وعدتنا وتحكم عليهم بما هم أهله وهو في معنى الدعاء عليهم، أو فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم كقوله: {وَنَجّنِى مِنَ القوم الظالمين} [التحريم: 11]. {قَالَ فَإِنَّهَا} أي الأرض المقدسة {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} لا يدخلونها وهو تحريم منع لا تحريم تعبد كقوله {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع} [القصص: 12]. والمراد بقوله «كتب الله لكم» أي بشرط أن تجاهدوا أهلها فلما أبوا الجهاد قيل: فإنها محرمة عليهم، أو المراد فإنها محرمة عليهم: {أَرْبَعِينَ سَنَةً} فإذا مضى الأربعون كان ما كتب فقد سار موسى عليه السلام بمن بقي من بني إسرائيل وكان يوشع على مقدمته ففتحها وأقام فيها ما شاء الله ثم قبض. و«أربعين» ظرف التحريم والوقف على سنة أو ظرف {يَتِيهُونَ فِى الأرض} أي يسيرون فيها متحيرين لا يهتدون طريقاً أربعين سنة والوقف على «عليهم». وإنما عوقبوا بالحبس لاختيارهم المكث فكانوا مع شدة سيرهم يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا في ستة فراسخ. ولما ندم على الدعاء عليهم قيل له: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين} فلا تحزن عليهم لأنهم فاسقون. قيل: لم يكن موسى وهارون معهم في التيه لأنه كان عقاباً وقد سأل موسى ربه أنه يفرق بينهما وبينهم. وقيل: كانا معهم إلا أنه كان ذلك روحاً لهما وسلاماً لا عقوبة. ومات هارون في التيه، وموسى فيه بعده بسنة، ومات النقباء في التيه إلا كالب ويوشع. ثم أمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقص على حاسديه ما جرى بسبب الحسد ليتركوه ويؤمنوا بقوله:
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} {واتل عَلَيْهِمْ} على أهل الكتاب {نَبَأَ ابنى ءَادَم} من صلبه هابيل وقابيل، أو هما رجلان من بني إسرائيل {بالحق} نبأ ملتبساً بالصدق موافقاً لما في كتب الأولين، أو تلاوة ملتبسة بالصدق والصحة، أو واتل عليهم وأنت محق صادق {إِذْ قَرَّبَا} نصب بالنبأ أي قصتهما وحديثهما في ذلك الوقت، أو بدل من النبأ أي اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف {قُرْبَاناً} ما يتقرب به إلى الله من نسيكة أو صدقة. يقال: قرب صدقة وتقرب بها لأن تقرب مطاوع قرب، والمعنى إذ قرب كل واحد منهما قربانه دليله {فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا} قربانه وهو هابيل {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر} قربانه وهو قابيل. رُوي أنه أوحى الله تعالى إلى آدم أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر، وكانت توأمة قابيل أجمل واسمها إقليما فحسده عليها أخوه وسخط فقال لهما آدم: قربا قرباناً فمن أيكما قبل يتزوجها فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته فازداد قابيل حسداً وسخطاً وتوعده بالقتل وهو قوله {قَالَ لأقْتُلَنَّكَ} أي قال لهابيل {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} وتقديره: قال لم تقتلني:؟ قال: لأن الله قبل قربانك ولم يقبل قرباني. فقال: إنما يتقبل الله من المتقين وأنت غير متق فإنما أوتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى لا من قبلي. وعن عامر ابن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له: ما يبكيك وقد كنت وكنت؟ قال: إني أسمع الله يقول: «إنما يتقبل الله من المتقين». {لَئِن بَسَطتَ} مددت {إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ} بماد {يَدَىِ} مدني وأبو عمرو وحفص {إِلَيْكَ لأِقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} قيل: كان أقوى من القاتل وأبطش منه ولكن تحرج عن قتل أخيه واستسلم له خوفاً من الله تعالى لأن الدفع لم يكن مباحاً في ذلك الوقت، وقيل: بل كان ذلك واجباً فإن فيه إهلاك نفسه ومشاركة للقاتل في إثمه، وإنما معناه ما أنا بباسط يدي إليك مبتدئاً كقصدك ذلك مني، وكان هابيل عازماً على مدافعته إذا قصد قتله وإنما قتله فتكاً على غفلة منه. «إنّي أخاف»: حجازي وأبو عمرو {إِنّى أُرِيدُ} «إنّي» مدني {أَن تَبُوءَ} أن تحتمل أو ترجع {بِإِثْمِى} بإثم قتلي إذا قتلتني {وَإِثْمِكَ} الذي لأجله لم يتقبل قربانك وهو عقوق الأب والحسد والحقد، وإنما أراد ذلك لكفره برده قضية الله تعالى أو كان ظالماً وجزاء الظالم جائز أن يراد {فَتَكُونَ مِنْ أصحاب النار وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} فوسعته ويسرته من طاع له المرتع إذا اتسع {فَقَتَلَهُ} عند عقبة حراء أو بالبصرة والمقتول ابن عشرين سنة {فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين * فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الأرض لِيُرِيَهُ} أي الله أو الغراب {كَيْفَ يُوَارِى سَوْءةَ أَخِيهِ} عورة أخيه وما لا يجوز أن ينكشف من جسده. رُوي أنه أول قتيل قتل على وجه الأرض من بني آدم، ولما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به فخاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح وعكفت عليه السباع، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة فحينئذ {قَالَ ياويلتي أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ} عطف على «أكون» {سَوْءةَ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} على قتله لما تعب فيه من حمله وتحيره في أمره ولم يندم ندم التائبين، أو كان الندم توبة لنا خاصة أو على حمله لا على قتله. ورُوي أنه لما قتله أسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلاً. فقال: بل قتلته ولذا اسود جسدك. فالسودان من ولده. وما رُوي أن آدم رثاه بشعر فلا يصح لأن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر. {مِنْ أَجْلِ ذلك} بسبب ذلك وبعلته «وذلك» إشارة إلى القتل المذكور. قيل: هو متصل بالآية الأولى فيوقف على «ذلك» أي فأصبح من النادمين لأجل حمله ولأجل قتله. وقيل: هو مستأنف والوقف على «النادمين» و«من» يتعلق ب «كتبنا» لا ب «النادمين» {كَتَبْنَا على بَنِى إسراءيل} خصهم بالذكر وإن اشترك الكل في ذلك لأن التوراة أول كتاب فيه الأحكام {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً} الضمير للشأن و«من» شرطية {بِغَيْرِ نَفْسٍ} بغير قتل نفس {أَوْ فَسَادٍ فِى الأرض} عطف على «نفس» أي بغير فساد في الأرض وهو الشرك، أو قطع الطريق وكل فساد يوجب القتل {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً} أي في الذنب. عن الحسن: لأن قاتل النفس جزاؤه جهنم وغضب الله عليه والعذاب العظيم، ولو قتل الناس جميعاً لم يزد على ذلك {وَمَنْ أحياها} ومن استنقذها من أسباب الهلكة من قتل أو غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} جعل قتل الواحد كقتل الجميع، وكذلك الإحياء ترغيباً وترهيباً لأن المتعرض لقتل النفس إذا تصور أن قتلها كقتل الناس جميعاً عظم ذلك عليه فثبطه، وكذا الذي أراد إحياءها إذا تصور أن حكمه حكم جميع الناس رغب في إحيائها {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ} أي بني إسرائيل {رُسُلُنَا} «رُسلنا»: أبو عمرو {بالبينات} بالآيات الواضحات {ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذلك} بعدما كتبنا عليهم أو بعد مجيء الرسل بالآيات {فِى الأرض لَمُسْرِفُونَ} في القتل لا يبالون بعظمته. {إِنَّمَا جَزَاؤُاْ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} أي أولياء الله في الحديث «يقول الله تعالى: من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة» {وَيَسْعَوْنَ فِى الأرض فَسَاداً} مفسدين، ويجوز أن يكون مفعولاً له أي للفساد وخبر «جزاء» {أَن يُقَتَّلُواْ} وما عطف عليه وأفاد التشديد الواحد بعد الواحد ومعناه أن يقتلوا من غير صلب إن أفردوا القتل {أَوْ يُصَلَّبُواْ} مع القتل إن جمعوا بين القتل وأخذ المال {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم} إن أخذوا المال {مّنْ خلاف} حال من الأيدي والأرجل أي مختلفة {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض} بالحبس إذا لم يزيدوا على الإخافة {ذلك} المذكور {لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدنيا} ذل وفضيحة {وَلَهُمْ فِى الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} فتسقط عنهم هذه الحدود لا ما هو حق العباد {فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر لهم بالتوبة ويرحمهم فلا يعذبهم. {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اتقوا الله} فلا تؤذوا عباد الله {وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة} هي كل ما يتوسل به أي يتقرب من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك، فاستعيرت لما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك السيئات {وجاهدوا فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأرض جَمِيعاً} من صنوف الأموال {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} وأنفقوه {لِيَفْتَدُواْ بِهِ} ليجعلوه فدية لأنفسهم. و«لو» مع ما في حيزه خبر «إن»، ووحد الراجع في «ليفتدوا به» وقد ذكر شيئان لأنه أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة كأنه قيل: لِيَفْتَدُواْ بِذَلِكَ {مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فلا سبيل لهم إلى النجاة بوجه {يُرِيدُونَ} يطلبون أو يتمنون {أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} دائم.
{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)} {والسارق والسارقة} ارتفعا بالابتداء والخبر محذوف تقديره: وفيما يتلى عليكم السارق والسارقة أو الخبر {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} أي يديهما والمراد اليمينان بدليل قراءة عبد الله بن مسعود، ودخول الفاء لتضمنهما معنى الشرط لأن المعنى: والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما. والاسم الموصول يضمن معنى الشرط، وبدأ بالرجل لأن السرقة من الجراءة وهي في الرجال أكثر، وأخر الزاني لأن الزنا ينبعث من الشهوة وهي في النساء أوفر. وقطعت اليد لأنها آلة السرقة ولم تقطع آلة الزنا تفادياً عن قطع النسل. {جَزَاء بِمَا كَسَبَا} مفعول له {نكالا مّنَ الله} أي عقوبة منه وهو بدل من «جزاء» {والله عَزِيزٌ} غالب لا يعارض في حكمه {حَكِيمٌ} فيما حكم من قطع يد السارق والسارقة {فَمَن تَابَ} من السرقة {مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ} سرقته {وَأَصْلَحَ} برد المسروق {فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ} يقبل توبته {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر ذنبه ويرحمه {أَلَمْ تَعْلَمْ} يا محمد أو يا مخاطب {أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُعَذّبُ مَن يَشَاء} من مات على الكفر {وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} لمن تاب عن الكفر {والله على كُلّ شَئ} من التعذيب والمغفرة وغيرهما {قَدِيرٌ} قادر. وقدم التعذيب على المغفرة هنا لتقدم السرقة على التوبة. {يأَيُّهَا الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِى الكفر} أي لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في الكفر أي في إظهاره بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومن موالاة المشركين، فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم. يقال أسرع فيه الشيب أي وقع سريعاً فكذلك مسارعتهم في الكفر وقوعهم فيه أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطئووها {مِنَ الذين قَالُواْ} تبيين لقوله: «الذين يسارعون في الكفر» {ءَامَنَّا} مفعول «قالوا» {بأفواههم} متعلق ب «قالوا» أي قالوا بأفواههم آمنا {وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} في محل النصب على الحال {وَمِنَ الذين هَادُواْ} معطوف على «من الذين قالوا» أي من المنافقين واليهود. ويرتفع {سماعون لِلْكَذِبِ} على أنه خبر مبتدأ مضمر أي هم سماعون والضمير للفريقين، أو سماعون مبتدأ وخبره «من الذين هادوا»، وعلى هذا يوقف «على قلوبهم»، وعلى الأول «على هادوا». ومعنى سماعون للكذب يسمعون منك ليكذبوا عليك بأن يمسخوا ما سمعوا منك بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير {سماعون لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لم يَأتُوك} أي سماعون منك لأجل قوم آخرين من اليهود وجّهوهم عيوناً ليبلغوهم ما سمعوا منك {يُحَرّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مواضعه} أي يزيلونه ويميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها فيهملونه بغير مواضع بعد أن كان ذا موضع. «يحرفون» صفة لقوم كقوله «لم يأتوك»، أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم يحرفون، والضمير مردود على لفظ الكلم {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا} المحرف المزال عن مواضعه ويقولون مثل يحرفون. وجاز أن يكون حالاً من الضمير في «يحرفون» {فَخُذُوهُ} واعلموا أنه الحق واعملوا به {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ} وأفتاكم محمد بخلافه {فاحذروا} فإياكم وإياه فهو الباطل. رُوي أن شريفاً زنى بشريفة بخيبر وهما محصنان وحدهما الرجم في التوراة فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطاً منهم ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقالوا: إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا، فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ} ضلالته وهو حجة على من يقول: يريد الله الإيمان ولا يريد الكفر {فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً} قطع رجاء محمد صلى الله عليه وسلم عن إيمان هؤلاء {أُوْلَئِكَ الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ} عن الكفر لعلمه منهم اختيار الكفر وهو حجة لنا عليهم أيضاً {لَهُمْ فِى الدنيا خِزْىٌ} للمنافقين فضيحة ولليهود جزية {وَلَهُمْ فِى الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي التخليد في النار.
{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} {سماعون لِلْكَذِبِ} كرر للتأكيد أي هم سماعون ومثله {أكالون لِلسُّحْتِ} وهو كل ما لا يحل كسبه وهو من سحته إذا استأصله لأنه مسحوت البركة، وفي الحديث " هو الرشوة في الحكم " وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام. وبالتثقيل مكي وبصري وعلي {فَإِن جَاءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} قيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيراً إذا تحاكم إليه أهل الكتاب بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم بينهم. وقيل: نسخ التخيير بقوله: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله} {وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً} فلن يقدروا على الإضرار بك لأن الله تعالى يعصمك من الناس {وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُم بالقسط} بالعدل {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} العادلين. {وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله} تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذي يدعون الإيمان به. «فيها حكم الله» حال من التوراة وهي مبتدأ وخبره «عندهم» {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك} عطف على «يحكمونك» أي ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم لا يرضون به {وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين} بك أو بكتابهم كما يدعون. {إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى} يهدي للحق {وَنُورٌ} يبين ما استبهم من الأحكام {يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ} انقادوا لحكم الله في التوراة وهو صفة أجريت للنبيين على سبيل المدح، وأريد بإجرائها التعريض باليهود لأنهم بعداء عن ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم {لِلَّذِينَ هَادُواْ} تابوا من الكفر، واللام يتعلق ب «يحكم» {والربانيون والأحبار} معطوفان على «النبيون» أي الزهاد والعلماء {بِمَا استحفظوا} استودعوا، قيل: ويجوز أن يكون بدلاً من «بها» في «يحكم بها» {مِن كتاب الله} «من» للتبيين والضمير في «استحفظوا» للأنبياء والربانيين والأحبار جميعاً ويكون الاستحفاظ من الله أي كلفهم الله حفظه، أو ل «الربانيون والأحبار» ويكون الاستحفاظ من الأنبياء {وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} رقباء لئلا يبدل {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس} نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل خشية سلطان ظالم أو خيفة أذية أحد {واخشون} في مخالفة أمري وبالياء فيهما: سهل وافقه أبو عَمرو في الوصل {وَلاَ تَشْتَرُواْ} ولا تستبدلوا بآيات الله وأحكامه {ثَمَناً قَلِيلاً} وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله} مستهيناً به {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} قال ابن عباس رضي الله عنهما: من لم يحكم جاحداً فهو كافر، وإن لم يكن جاحداً فهو فاسق ظالم. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: هو عام في اليهود وغيرهم. {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} وفرضنا على اليهود في التوراة {أَنَّ النفس} مأخوذة {بالنفس} مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق {والعين} مفقوءة {بالعين والأنف} مجدوع {بالأنف والأذن} مقطوعة {بالأذن والسن} مقلوعة {بالسن والجروح قِصَاصٌ} أي ذات قصاص وهو المقاصة ومعناه ما يمكن فيه القصاص وإلا فحكومة عدل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت. وقوله «أن النفس بالنفس» يدل عى أن المسلم يقتل بالذمي والرجل بالمرأة والحر بالعبد. نصب نافع وعاصم وحمزة المعطوفات كلها للعطف على ما عملت فيه «أن». ورفعها عليٌّ للعطف على محل «أن النفس» لأن المعنى: وكتبنا عليهم النفس بالنفس إجراء ل «كتبنا» مجرى «قلنا»، ونصب الباقون الكل ورفعوا الجروح. والأذن بسكون الذال حيث كان: نافع. والباقون: بضمها وهما لغتان كالسحت والسحت {فَمَن تَصَدَّقَ} من أصحاب الحق {به} بالقصاص وعفا عنه {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} فالتصدق به كفارة للمتصدق بإحسانه قال عليه السلام " من تصدق بدم فما دونه كان كفارة له من يوم ولدته أمه " {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} بالامتناع عن ذلك. {وَقَفَّيْنَا} معنى قفيت الشيء بالشيء جعلته في أثره كأنه جعل في قفاه يقال قفاه بقفوه إذا تبعه {على ءاثارهم} عى آثار النبيين الذين أسلموا {بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ مُصَدّقاً} هوحال من «عيسى» {لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة وآتيناه الإِنجيل فيه هُدىً ونورٌ ومُصَدَّقاً لَّما بين يديه من التوراة} أي وآتيناه الإنجيل ثابتاً فيه هدى ونور ومصدقاً، فنصب «مصدقاً» بالعطف على ثابتاً الذي تعلق به فيه وقام مقامه فيه. وارتفع «هدى ونور» بثابتاً الذي قام مقامه فيه {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ} انتصبا على الحال أي هادياً وواعظاً {لّلْمُتَّقِينَ} لأنهم ينتفعون به {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَا أَنزَلَ الله فِيهِ} وقلنا لهم احكموا بموجبه، فاللام لام الأمر وأصله الكسر، وإنما سكن استثقالاً لفتحة وكسرة وفتحة. «وليحكم» بكسر اللام وفتح الميم: حمزة على أنها لام كي أي وقفينا ليؤمنوا وليحكم. {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} الخارجون عن الطاعة. قال الشيخ أبو منصور رحمه الله: يجوز أن يحمل على الجحود في الثلاث فيكون كافراً ظالماً فاسقاً، لأن الفاسق المطلق والظالم المطلق هو الكافر. وقيل: ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر بنعمة الله ظالم في حكمه فاسق في فعله. {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب} أي القرآن فحرف التعريف فيه للعهد {بالحق} بسبب الحق وإثباته وتبيين الصواب من الخطأ {مُصَدّقاً} حال من «الكتاب» {لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} لما تقدمه نزولاً. وإنما قيل لما قبل الشيء هو بين يديه لأن ما تأخر عنه يكون وراءه وخلفه فما تقدم عليه يكون قدامه وبين يديه {مّنَ الكتاب} المراد به جنس الكتب المنزلة لأن القرآن مصدق لجميع كتب الله فكان حرف التعريف فيه للجنس، ومعنى تصديقه الكتب موافقتها في التوحيد والعبادة {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ يُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون} [الأنبياء: 25] {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} وشاهداً لأنه يشهد له بالصحة والثبات {فاحكم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله} أي بما في القرآن {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الحق} نهى أن يحكم بما حرفوه وبدلوه اعتماداً على قولهم. ضمّن ولا تتبع معنى ولا تنحرف فلذا عدي ب «من» فكأنه قيل: ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم، أو التقدير عادلاً عما جاءك {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ} أيها الناس {شِرْعَةً} شريعة {ومنهاجا} وطريقاً واضحاً. واستدل به من قال إن شريعة من قبلنا لا تلزمنا. ذكر الله إنزال التوراة على موسى عليه السلام، ثم إنزال الإنجيل على عيسى عليه السلام، ثم إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وبين أنه ليس للسماع فحسب بل للحكم به فقال في الأول «يحكم به النبيون» وفي الثاني «وليحكم أهل الإنجيل» وفي الثالث «فاحكم بينهم بما أنزل الله» {وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة} جماعة متفقة على شريعة واحدة {ولكن} أراد {لِيَبْلُوَكُمْ} ليعاملكم معاملة المختبر {فِى مآءتاكم} من الشرائع المختلفة فتعبّد كل أمة بما اقتضته الحكمة {فاستبقوا الخيرات} فابتدروها وسابقوا نحوها قبل الفوات بالوفاة. والمراد بالخيرات كل ما أمر الله تعالى به {إلى الله مَرْجِعُكُمْ} استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات {جَمِيعاً} حال من الضمير المجرور والعامل المصدر المضاف لأنه في تقدير: إليه ترجعون {فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم وعاملكم ومفرطكم في العمل. {وَأَنِ احكم} معطوف على «بالحق» أي وأنزلنا إليك الكتاب بالحق وبأن احكم {بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ} أي يصرفوك وهو مفعول له أي مخافة أن يفتنوك. وإنما حذره وهو رسول مأمون لقطع أطماع القوم {عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ} عن الحكم بما أنزل الله إليك وأرادوا غيره {فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} أي بذنب التولي عن حكم الله وإرادة خلافه فوضع «ببعض ذنوبهم» موضع ذلك وهذا الإبهام لتعظيم التولي، وفيه تعظيم الذنوب فإن الذنوب بعضها مهلك فكيف بكلها! {وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الناس لفاسقون} لخارجون عن أمر الله {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} يطلبون. وبالتاء شامي يخاطب بني النضير في تفاضلهم على بني قريظة وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القتلى سواء " فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك فنزلت. وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض فقرأ هذه الآية. وناصب «أفحكم الجاهلية يبغون» {وَمَنْ أَحْسَنُ} مبتدأ وخبره وهو استفهام في معنى النفي أي لا أحد أحسن {مِنَ الله حُكْماً} هو تمييز. واللام في {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} للبيان كاللام في {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام «لقوم يوقنون» فإنهم هم الذين يتبينون أن لا أعدل من الله ولا أحسن حكماً منه. وقال أبو علي: معنى لقوم عند قوم لأن اللام و«عند» يتقاربان في المعنى. ونزل نهياً عن موالاة أعداء الدين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)} {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاءَ} أي لا تتخذوهم أولياء تنصرونهم وتستنصرونهم وتؤاخونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين. ثم علل النهي بقوله {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وكلهم أعداء المؤمنين، وفيه دليل على أن الكفر كله ملة واحدة {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} من جملتهم وحكمه حكمهم، وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} لا يرشد الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفرة {فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} نفاق {يسارعون} حال أو مفعول ثانٍ لاحتمال أن يكون «فترى» من رؤية العين أو القلب {فِيهِمْ} في معاونتهم على المسلمين وموالاتهم {يَقُولُونَ} أي في أنفسهم لقوله على «ما أسروا» {نخشى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} أي حادثة تدور بالحال التي يكونون عليها {فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح} لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين {أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ} أي يؤمر النبي عليه السلام بإظهار إسرار المنافقين وقتلهم {فَيُصْبِحُواْ} أي المنافقون {على مَا أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِمْ} من النفاق {نادمين} خبر «فيصبحوا» {وَيَقُولُ الذين ءَامَنُواْ} أي يقول بعضهم لبعض عند ذلك. «ويقول» بصري عطفاً على «أن يأتي» «يقول» بغير واو: شامي وحجازي على أنه جواب قائل يقول: فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ فقيل: يقول الذين آمنوا {أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أي أقسموا لكم بإغلاظ الأيمان أنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار وجهد أيمانهم مصدر في تقدير الحال أي مجتهدين في توكيد أيمانهم {حَبِطَتْ أعمالهم} ضاعت أعمالهم التي عملوها رياء وسمعة لا إيماناً وعقيدة، وهذا من قول الله عز وجل شهادة لهم بحبوط الأعمال وتعجيباً من سوء حالهم {فَأَصْبَحُواْ خاسرين} في الدنيا والعقبى لفوات المعونة ودوام العقوبة. {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} من يرجع منكم عن دين الإسلام إلى ما كان عليه من الكفر. «يرتدد» مدني وشامي {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} يرضى أعمالهم ويثني عليهم بها ويطيعونه ويؤثرون رضاه، وفيه دليل نبوته عليه السلام حيث أخبرهم بما لم يكن فكان، وإثبات خلافة الصديق لأنه جاهد المرتدين، وفي صحة خلافته وخلافة عمر رضي الله عنهما. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنهم فضرب على عاتق سلمان وقال «هذا وذووه لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس» والراجع من الجزاء إلى الاسم المتضمن لمعنى الشرط محذوف معناه فسوف يأتي الله بقوم مكانهم {أَذِلَّةٍ} جمع ذليل، وأما ذلول فجمعه ذلل. ومن زعم أنه من الذُّلِ الذي هو ضد الصعوبة فقد سها لأن ذلولاً لا يجمع على أذلة. قال الجوهري: الذل ضد العز، ورجل ذليل بيّن الذل، وقوم أذلاء وأذلة، والذل بالكسر اللين وهو ضد الصعوبة يقال: دابة ذلول ودواب ذلل {عَلَى المؤمنين} ولم يقل للمؤمنين لتضمن الذل معنى الحنو والعطف كأنه قيل: عاكفين عليهم على وجه التذلل والتواضع {أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} أشداء عليهم والعزاز الأرض الصلبة فهم مع المؤمنين كالولد لوالده والعبد لسيده ومع الكافرين كالسبع على فريسته {يجاهدون فِي سَبِيلِ الله} يقاتلون الكفار وهو صفة ل «قوم» ك «يحبهم» و«أعزة» و«أذلة» {وَلاَ يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ} الواو يحتمل أن تكون للحال أي يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين فإنهم كانوا موالين لليهود، فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود فلا يعملون شيئاً مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم، وأما المؤمنون فمجاهدتهم لله لا يخافون لومة لائم. وأن تكون للعطف أي من صفتهم المجاهدة في سبيل الله وهم صلاب في دينهم إذا شرعوا في أمر من أمور الدين لا تزعهم لومة لائم: واللومة المرة من اللوم وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قيل: لا يخافون شيئاً قط من لوم واحد من اللوام {ذلك} إشارة إلى ما وصف به القوم من المحبة والذلة والعزة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة {فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء والله واسع} كثير الفواضل {عَلِيمٌ} بمن هو من أهلها. عقب النهي عن موالاة من تجب معاداتهم ذكر من تجب موالاتهم بقوله {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين ءَامَنُواْ} وإنما يفيد اختصاصهم بالموالاة ولم يجمع الولي وإن كان المذكور جماعة تنبيهاً على أن الولاية لله أصل ولغيره تبع، ولو قيل إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبع. ومحل {الذين يُقِيمُونَ الصلاة} الرفع على البدل من «الذين آمنوا»، أو على هم الذين، أو النصب على المدح {وَيُؤْتُونَ الزكواة}. والواو في {وَهُمْ راكعون} للحال أي يؤتونها في حال ركوعهم في الصلاة. قيل: إنها نزلت في علي رضي الله عنه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه كأنه كان مرجاً في خنصره فلم يتكلف لخلعه كثير عمل يفسد صلاته. وورد بلفظ الجمع وإن كان السبب فيه واحداً ترغيباً للناس في مثل فعله لينالوا مثل ثوابه. والآية تدل على جواز الصدقة في الصلاة، وعلى أن الفعل القليل لا يفسد الصلاة.
{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)} {وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين ءَامَنُواْ} يتخذه ولياً أو يكن ولياً {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} من إقامة الظاهر مقام الضمير أي فإنهم هم الغالبون، أو المراد بحزب الله الرسول والمؤمنون أي ومن يتولهم فقد تولى حزب الله، واعتضد بمن لا يغالب. وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمرٍ حزبهم أي أصابهم. وروي أن رفاعة بن زيد وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما فنزل {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} يعني اتخاذهم دينكم هزواً ولعباً لا يصح أن يقابل باتخاذكم إياهم أولياء بل يقابل ذلك بالبغضاء والمنابذة {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} «من» للبيان {مِن قَبْلِكُمْ والكفار} أي المشركين وهو عطف على «الذين» المنصوبة. و«الكفار» بصري وعلي عطف على الذين المجرورة أي من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الكفار {أَوْلِيَاءَ واتقوا الله} في موالاة الكفار {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} حقاً لأن الإيمان حقاً يأبى موالاة أعداء الدين {وَإِذَا ناديتم إِلَى الصلاة اتخذوها} أي الصلاة أو المناداة {هُزُواً وَلَعِباً ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} لأن لعبهم وهزوهم من أفعال السفهاء والجهلة فكأنهم لا عقل لهم، وفيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده {قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ} يعني هل تعيبون منا وتنكرون إلا الإيمان بالله وبالكتب المنزلة كلها {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون} وهو عطف على المجرور أي ما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وما أنزل وبأن أكثركم فاسقون، والمعنى أعاديتمونا لأنا اعتقدنا توحيد الله وصدق أنبيائه وفسقكم لمخالفتكم لنا في ذلك؟ ويجوز أن يكون الواو بمعنى «مع» أي ما تنقمون منا إلا الإيمان بالله مع أنكم فاسقون. {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله} أي ثواباً وهو نصب على التمييز والمثوبة وإن كانت مختصة بالإحسان ولكنها وضعت موضع العقوبة كقوله {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وكان اليهود يزعمون أن المسلمين مستوجبون للعقوبة فقيل لهم {مَن لَّعَنَهُ الله} شر عقوبة في الحقيقة من أهل الإسلام في زعمكم وذلك إشارة إلى المتقدم أي الإيمان أي بشر مما نقمتم من إيماننا ثواباً أي جزاء، ولا بد من حذف مضاف قبله أو قبل «من» تقديره: بشر من أهل ذلك أو دين من لعنه الله {وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة} يعني أصحاب السبت {والخنازير} أي كفار أهل مائدة عيسى عليه السلام، أو كلا المسخين من أصحاب السبت فشبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير {وَعَبَدَ الطاغوت} أي العجل أو الشيطان لأن عبادتهم العجل بتزيين الشيطان وهو عطف على صلة «من» كأنه قيل: ومن عبد الطاغوت. «وعبد الطاغوتِ» حمزة جعله اسماً موضوعاً للمبالغة كقولهم «رجل حذر وفطن» للبليغ في الحذر والفطنة، وهو معطوف على «القردة والخنازير» أي جعل الله منهم عبد الطاغوت {أولئك} الممسوخون الملعونون {شَرٌّ مَّكَاناً} جعلت الشرارة للمكان وهي لأهله للمبالغة {وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السبيل} عن قصد الطريق الموصل إلى الجنة. ونزل في ناس من اليهود كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويظهرون له الإيمان نفاقاً. {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} الباء للحال أي دخلوا كافرين وخرجوا كافرين وتقديره ملتبسين بالكفر، وكذلك قد دخلوا وهم قد خرجوا ولذا دخلت «قد» تقريباً للماضي من الحال وهو متعلق ب «قالوا آمنا» أي قالوا ذلك وهذه حالهم {والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ} من النفاق {وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ} من اليهود {يسارعون فِي الإثم} الكذب {والعدوان} الظلم. أو الإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم، والمسارعة في الشيء الشروع فيه بسرعة {وَأَكْلِهِمُ السحت} الحرام {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} لبئس شيئاً عملوه {لَوْلاَ} هلا وهو تحضيض {ينهاهم الربانيون والأحبار عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} هذا ذم للعلماء والأول للعامة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هي أشد آية في القرآن حيث أنزل تارك النهي عن المنكر منزلة مرتكب المنكر في الوعيد. {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} روي أن اليهود لعنهم الله لما كذبوا محمداً عليه السلام كف الله ما بسط عليهم من السعة وكانوا من أكثر الناس مالاً، فعند ذلك قال فنحاص: يد الله مغلولة ورضي بقوله الآخرون فأشركوا فيه. وغل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29]. ولا يقصد المتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط حتى إنه يستعمل في ملك يعطي ويمنع بالإشارة من غير استعمال اليد، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزلاً لقالوا ما أبسط يده بالنوال. وقد استعمل حيث لا تصح اليد يقال: بسط البأس كفيه في صدري فجعل للبأس الذي هو من المعاني كفان، ومن لم ينظر في علم البيان يتحير في تأويل أمثال هذه الآية. وقوله «غلت أيديهم» دعاء عليهم بالبخل ومن ثم كانوا أبخل خلق الله، أو تغل في جهنم فهي كأنها غلت وإنما ثنيت اليد في «بل يداه مبسوطتان» وهي مفردة في «يد الله مغلولة» ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفي البخل عنه، فغاية ما يبذله السخي أن يعطيه بيديه {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} تأكيد للوصف بالسخاء ودلالة على أنه لا ينفق إلا على مقتضى الحكمة {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم} من اليهود {مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْراً} أي يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تمادياً في الجحود وكفراً بآيات الله، وهذا من إضافة الفعل إلى السبب كما قال «فزادتهم رجساً إلى رجسهم». {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة} فكلمهم أبداً مختلف وقلوبهم شتى لا يقع بينهم اتفاق ولا تعاضد {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا لم يقم لهم نصر من الله على أحد قط، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس. وقيل: كلما حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نصر عليهم. عن قتادة: لا تلقي يهودياً في بلد إلا وقد وجدته من أذل الناس {وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً} ويجتهدون في دفع الإسلام ومحو ذكر النبي عليه السلام من كتبهم {والله لاَ يُحِبُّ المفسدين * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب ءَامَنُواْ} برسول الله عليه السلام وبما جاء به مع ما عددنا من سيئآتهم {واتقوا} أي وقرنوا إيمانهم بالتقوى {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سيئاتهم} ولم نؤاخذهم بها {ولأدخلناهم جنات النعيم} مع المسلمين.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل} أي أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبِّهِمْ} من سائر كتب الله لأنهم مكلفون الإيمان بجميعها فكأنها أنزلت إليهم. وقيل: هو القرآن. {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ} يعني الثمار من فوق رؤوسهم {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} يعني الزروع وهذه عبارة عن التوسعة كقولهم «فلان في النعمة من فرقه إلى قدمه». ودلت الآية على أن العمل بطاعة الله تعالى سبب لسعة الرزق وهو كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءَامَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مِّنَ السماء والأرض} [الأعراف: 96]. {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3]. {فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح: 10] الآيات. {وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة لأسقيناهم مَّاء غَدَقاً} [الجن: 16] {مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} طائفة حالها أُمَمٌ في عداوة رسول الله عليه السلام. وقيل: هي الطائفة المؤمنة وهم عبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون من النصارى {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} فيه معنى التعجب كأنه قيل: وكثير منهم ما أسوأ عملهم. وقيل: هم كعب بن الأشرف وأصحابه وغيرهم. {ياأيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من رّبِّكَ} جميع ما أنزل إليك، وأي شيء أنزل إليك غير مراقب في تبليغه أحداً ولا خائف أن ينالك مكروه {وإن لّم تفعل} وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك {فما بَلَّغْتَ رسالته} «رسالاته»: مدني وشامي وأبو بكر. أي فلم تبلغ إذاً ما كلفت من أداء الرسالة ولم تؤد منها شيئاً قط، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض، فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لكونها في حكم شيء واحد لدخولها تحت خطاب واحد، والشيء الواحد لا يكون مبلغاً غير مبلغ مؤمناً به غير مؤمن. قالت الملحدة لعنهم الله تعالى: هذا كلام لا يفيد وهو كقولك لغلامك: «كل هذا الطعام فإن لم تأكله فإنك ما أكلته»، قلنا: هذا أمر بتبليغ الرسالة في المستقبل أي بلغ ما أنزل إليك من ربك في المستقبل فإن لم تفعل أي إن لم تبلغ الرسالة في المستقبل فكأنك لم تبلغ الرسالة أصلاً، أو بلغ ما أنزل إليك من ربك الآن ولا تنتظر به كثرة الشوكة والعدة، فإن لم تبلغ كنت كمن لم يبلغ أصلاً، أو بلغ ذلك غير خائف أحداً فإن لم تبلغ على هذا الوصف فكأنك لم تبلغ الرسالة أصلاً. ثم قال مشجعاً له في التبليغ {واللّهُ يعصمك من النّاسِ} يحفظك منهم قتلاً فلم يقدر عليه وإن شج في وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته أو نزلت بعدما أصابه ما أصابه. والناس الكفار بدليل قوله {إنّ اللّه لا يهدي القوم الكافرين} لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك. {قل ياأهل الكتاب لستم على شيءٍ} على دين يعتد به حتى يسمى شيئاً لبطلانه {حتّى تقيموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليكم مّن رَّبِّكمْ} يعني القرآن {وليزيدنّ كثيراً مّنهم مّآ أنزل إليك من رّبّك طغياناً وكفراً} إضافة زيادة الكفر والطغيان إلى القرآن بطريق التسبيب {فلا تأس على القوم الكافرين} فلا تتأسف عليهم فإن ضرر ذلك يعود إليهم لا إليك. {إنَّ الّذين آمَنُوا} بألسنتهم وهم المنافقون ودل عليه قوله: {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم} [آل عمران: 76] {والّذين هادوا والصّبئون والنّصارى} قال سيبويه وجميع البصريين: ارتفع «الصابئون» بالابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير عما في حيز «إن» من اسمها وخبرها كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى {من آمن باللّهِ واليومِ الآخر وعمل صالحاً فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون} والصابئون كذلك أي من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم فقدم وحذف الخبر كقوله فمن يك أمسى بالمدينة رحله *** فإني وقيار بها لغريب أي فإني لغريب وقيار كذلك، ودل اللام على أنه خبر «إن» ولا يرتفع بالعطف على محل «إن» واسمها لأن ذا لا يصح قبل الفراغ من الخبر. لا تقول «إن زيداً وعمرو منطلقان» وإنما يجوز «إن زيداً منطلق وعمرو»، والصابئون مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله «إن الذين آمنوا» إلى آخره، ولا محل لها كما لا محل للتي عطفت عليها. وفائدة التقديم التنبيه على أن الصابئين وهم أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدهم غياً يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان فما الظن بغيرهم! ومحل «من آمن» الرفع على الابتداء وخبره «فلا خوف عليهم» والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط. ثم الجملة كما هي خبر «إن» والراجح إلى اسم «إن» محذوف تقديره: من آمن منهم. {لقد أخذنا ميثاق بني إسرآءِيل} بالتوحيد {وأرسلنا إليهم رسلاً} ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم {كلّما جآءَهُم رسولٌ} جملة شرطية وقعت صفة ل «رسلاً» والراجع محذوف أي رسول منهم {بما لا تهوى أنفسهم} بما يخالف هواهم ويضاد شهواتهم من مشاق التكليف والعمل بالشرائع، وجواب الشرط محذوف دل عليه {فريقاً كذَّبُوا وفريقاً يقتلون} كأنه يقول: كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه. وقوله «فريقاً كذبوا» جواب مستأنف لقائل كأنه يقول: كيف فعلوا برسلهم! وقال «يقتلون» بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استفظاعاً للقتل، وتنبيهاً على أن القتل من شأنهم، وانتصب «فريقاً» و«فريقاً» على أنه مفعول «كذبوا» و«يقتلون». وقيل: التكذيب مشترك بين اليهود والنصارى، والقتل مختص باليهود فهم قتلوا زكريا ويحيى. {وحسبوا ألا تكون} «أن لا تكون»: حمزة وعلي وأبو عمرو على «أن» مخففة من الثقيلة أصله أنه لا تكون فخففت «إن» وحذف ضمير الشأن، ونزل حسبانهم لقوته في صدورهم منزلة العلم فلذا دخل فعل الحسبان على «أن» التي هي للتحقيق {فتنةٌ} بلاء وعذاب أي وحسب بنو إسرائيل أنهم لا يصيبهم من الله عذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل. وسد ما يشتمل عليه صلة «أن» وأن من المسند والمسند إليه مسد مفعولي «حسب» {فَعَمُوا وصَمُّوا} فلم يعملوا بما رأوا ولا بما سمعوا، أو فعموا عن الرشد وصموا عن الوعظ {ثمّ تابَ اللَّهُ عليهم} رزقهم التوبة {ثمّ عَمُوا وصَمُّوا كثيرٌ مِّنهم} هو بدل من الضمير أي الواو وهو بدل البعض من الكل، أو هو خبر مبتدأ محذوف أي أولئك كثير منهم {واللّه بصيرٌ بما يعملون} فيجازيهم بحسب أعمالهم. {لقد كفر الّذين قالوآ إنّ اللّه هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسراءيل اعبدوا اللّه ربّي وربّكم} لم يفرق عيسى عليه السلام بينه وبينهم في أنه عبد مربوب ليكون حجة على النصارى {إنّه من يشرك باللّه} في عبادته غير الله {فقد حَرَّمَ اللَُّه عليهِ الجنّةَ} التي هي دار الموحدين أي حرمه دخولها ومنعه {ومأواه النَّارُ} أي مرجعه {وما للظّالمين} أي الكافرين {من أنصَارٍ} وهو من كلام الله تعالى أو من كلام عيسى عليه السلام. {لقد كفر الّذين قالوآ إنّ اللّه ثَالِثُ ثلاثةٍ} أي ثالث ثلاثة آلهة، والإشكال أنه تعالى قال في الآية الأولى «لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم» وقال في الثانية «لقد كفر الذين قالوا إن اللّه ثالث ثلاثة» والجواب أن بعض النصارى كانوا يقولون: كان المسيح بعينه هو الله لأن الله ربما يتجلى في بعض الأزمان في شخص فتجلى في ذلك الوقت في شخص عيسى، ولهذا كان يظهر من شخص عيسى أفعال لا يقدر عليها إلا الله، وبعضهم ذهبوا إلى آلهة ثلاثة: الله ومريم والمسيح وأنه ولد الله من مريم. و«من» في قوله {وما من إلهٍ إلاّ إلهٌ واحد} للاستغراق أي وما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثاني له وهو الله وحده لا شريك له. وفي قوله {وإن لّم ينتهوا عمّا يقولون ليمسّنّ الّذين كفروا منهم} للبيان كالتي في {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [الحج: 30] ولم يقل «ليمسنهم» لأن في إقامة الظاهر مقام المضمر تكريراً للشهادة عليهم بالكفر، أو للتبعيض أي ليمسن الذين بقوا على الكفر منهم لأن كثيراً منهم تابوا عن النصرانية {عذابٌ أليمٌ} نوع شديد الألم من العذاب. {أفلا يتوبون إلى اللّه ويستغفرونه} ألا يتوبون بعد هذه الشهادة المكررة عليهم بالكفر وهذا الوعيد الشديد مما هم عليه وفيه تعجيب من إصرارهم {واللّه غفورٌ رّحيمٌ} يغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم. {مّا المسيح ابن مريم إلاّ رسولٌ} فيه نفي الألوهية عنه {قد خلت من قبله الرّسل} صفة لرسول أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله، وإبراؤه الأكمه والأبرص وإحياؤه الموتى لم يكن منه لأنه ليس إلها بل الله أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى على يده كما أحيا العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى، وخلقه من غير ذكر كخلق آدم من غير ذكر وأنثى {وأمُّهُ صِدِّيقَةٌ} أي وما أمه أيضاً إلا كبعض النساء المصدقات للأنبياء المؤمنات بهم. ووقع اسم الصديقة عليها لقوله تعالى: {وصدقت بكلمات ربها وكتبه} [التحريم: 12]. ثم أبعدهما عما نسب إليهما بقوله {كانا يأكلان الطّعام} لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنقض لم يكن إلا جسماً مركباً من لحم وعظم وعروق وأعصاب وغير ذلك ما يدل على أنه مصنوع مؤلف كغيره من الأجسام {انظر كيف نبيّن لهم الآيات} أي الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم {ثمّ انظر أنى يؤفكون} كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله بعد هذا البيان، وهذا تعجيب من الله تعالى في ذهابهم عن الفرق بين الرب والمربوب. {قل أتعبدون من دون اللّه ما لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعاً} هو عيسى عليه السلام أي شيئاً لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم به الله من البلاء والمصائب في الأنفس والأموال، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والسعة والخصب، لأن كل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع فبتخليقه تعالى فكأنه لا يملك منه شيئاً، وهذا دليل قاطع على أن أمره منافٍ للربوبية حيث جعله لا يستطيع ضراً ولا نفعاً، وصفة الرب أن يكون قادراً على كل شيء لا يخرج مقدور عن قدرته {واللّه هو السّميعُ العليمُ} متعلق ب «أتعبدون» أي أتشركون بالله ولا تخشونه وهو الذي يسمع ما تقولونه ويعلم ما تعتقدونه {قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم} الغلو مجاوزة الحد، فغلو النصارى رفعه فوق قدره باستحقاق الألوهية، وغلو اليهود وضعه عن استحقاق النبوة {غير الحقِّ} صفة لمصدر محذوف أي غلوا غير الحق يعني غلواً باطلاً {ولا تتّبعوآ أهوآءَ قومٍ قد ضلُّوا من قبلُ} أي أسلافكم وأئمتكم الذين كانوا على الضلال قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم {وأضلُّوا كثيراً} ممن تابعهم {وضلُّوا} لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم {عن سوآءِ السَّبِيلِ} حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه.
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)} {لعن الّذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم} قيل: إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود: اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة. ولما كفر أصحاب عيسى بعد المائدة قال عيسى: اللهم عذب من كفر بعدما أكل من المائدة عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل {ذلك بما عصوا وّكانوا يعتدون} ذلك اللعن بعصيانهم واعتدائهم ثم فسر المعصية والاعتداء بقوله {كانوا لا يتناهون} لا ينهي بعضهم بعضاً {عن مّنكرٍ فعلوه} عن قبيح فعلوه. ومعنى وصف المنكر ب «فعلوه» ولا يكون النهي بعد الفعل أنهم لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه أو عن مثل منكر فعلوه أو عن منكر أرادوا فعله، أو المراد لا ينتهون عن منكر فعلوه بل يصرون عليه. يقال: تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه وتركه. ثم عجب من سوء فعلهم مؤكداً لذلك بالقسم بقوله {لبئس ما كانوا يفعلون} وفيه دليل على أن ترك النهي عن المنكر من العظائم فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عنه {ترى كثيراً مِّنهم يتوّلّون الّذين كفروا} هم منافقو أهل الكتاب كانوا يوالون المشركين ويصافونهم {لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سَخِطَ اللّه عليهم} لبئس شيئاً قدموه لأنفسهم سخط الله عليهم أي موجب سخط الله {وفي العذاب هم خالدون} أي في جهنم {ولو كانوا يؤمنون باللّهِ} إيماناً خالصاً بلا نفاق {والنّبيِّ} أي محمد صلى الله عليه وسلم {ومآ أنزل إليه} يعني القرآن {ما اتّخذوهم أوليآء} ما اتخذوا المشركين أولياء يعني أن موالاة المشركين تدل على نفاقهم {ولكن كثيراً مّنهم فاسقون} مستمرون في كفرهم ونفاقهم، أو معناه ولو كان هؤلاء اليهود يؤمنون بالله وبموسى وما أنزل إليه يعني التوراة ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يوالهم المسلمون ولكن كثيراً منهم فاسقون خارجون عن دينهم فلا دين لهم أصلاً. {لَتَجِدَنَّ أشدّ النّاس عداوة لّلّذين آمنوا اليهودَ} هو مفعول ثان ل «تجدن». و«عداوة» تمييز {والّذين أشركوا} عطف عليهم {ولتجدنّ أقربهم مّودّةً لّلّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى} اللام تتعلق ب «عداوة» و«مودة». وصف اليهود بشدة الشكيمة والنصارى بلين العريكة، وجعل اليهود قرناء المشركين في شدة العداوة للمؤمنين، ونبه على تقدم قدمهم فيها بتقديمهم على المشركين {ذلك بأنّ منهم قِسّيسينَ ورهباناً} أي علماء وعباداً {وأنّهم لا يستكبرونَ} علل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودتهم للمؤمنين بأن منهم قسيسين ورهباناً وأن فيهم تواضعاً واستكانة، واليهود على خلاف ذلك، وفيه دليل على أن العلم أنفع شيء وأهداه إلى الخير وإن كان علم القسيسين، وكذا علم الآخرة وإن كان في راهب، والبراءة من الكبر وإن كانت في نصراني {وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرّسول تراى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ} وصفهم برقة القلوب وأنهم يبكون عند استماع القرآن كما روي عن النجاشي أنه قال لجعفر بن أبي طالب حين اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى الحبشة والمشركون وهم يقرأونه عليهم: هل في كتابكم ذكر مريم؟ قال جعفر: فيه سورة تنسب إلى مريم. فقرأها إلى قوله: {ذلك عيسى ابن مريم} [طه: 34] وقرأ سورة طه إلى قوله: {وهل أتاك حديث موسى} [الآية: 9] فبكى النجاشي وكذلك فعل قومه الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم سبعون رجلاً حين قرأ عليهم سورة «يس» فبكوا. «تفيض من الدمع» تمتلئ من الدمع حتى تفيض لأن الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها أي تسيل من أجل البكاء. و«من» في «مما عرفوا» لابتداءالغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق وكان من أجله، «ومن» في «من الحق» لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا، أو للتبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف إذا عرفوا كله وقرأوا القرآن وأحاطوا بالسنَة {يقولون} حال من ضمير الفاعل في «عرفوا» {ربّنآ آمنّا} بمحمد صلى الله عليه وسلم والمراد إنشاء الإيمان والدخول فيه {فاكتبنا مع الشّاهدين} مع أمة محمد عليه السلام الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة لتكونوا شهداء على الناس، وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك. {وما لنا لا نؤمن باللّه} إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين. وقيل: لما رجعوا إلى قومهم لاموهم فأجابوهم بذلك. «وما لنا» مبتدأ وخبر و«لا نؤمن» حال أي غير مؤمنين كقولك «مالك قائماً» {وما جآءنا} وبما جاءنا {من الحقِّ} يعني محمداً عليه السلام والقرآن {ونطمع} حال من ضمير الفاعل في «نؤمن» والتقدير: ونحن نطمع {أن يدخلنا ربّنا} الجنة {مع القوم الصّالحين} الأنبياء والمؤمنين {فأثابهم اللّه بما قالوا} أي بقولهم ربنا آمنا وتصديقهم لذلك {جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزآء المحسنين} وفيه دليل على أن الإقرار داخل في الإيمان كما هومذهب الفقهاء. وتعلقت الكرامية في أن الإيمان مجرد القول بقوله «بما قالوا» لكن الثناء بفيض الدمع في السباق وبالإحسان في السياق يدفع ذلك، وأنى يكون مجرد القول إيماناً وقد قال الله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} [البقرة: 8]. نفى الإيمان عنهم مع قولهم «آمنا بالله» لعدم التصديق بالقلب. وقال أهل المعرفة: الموجود منهم ثلاثة أشياء: البكاء على الجفاء، والدعاء على العطاء، والرضا بالقضاء، فمن ادعى المعرفة ولم يكن فيه هذه الثلاثة فليس بصادق في دعواه {والّذين كفروا وكذّبوا بأياتنا أولئك أصحاب الجحيم} هذا أثر الرد في حق الأعداء، والأول أثر القبول للأولياء، ونزل في جماعة من الصحابة رضي الله عنهم حلفوا أن يترهبوا ويلبسوا المسوح ويقوموا الليل ويصوموا النهار ويسيحوا في الأرض ويجبّوا مذاكيرهم ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا النساء والطيب.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)} {ياأيّها الّذين آمنوا لا تحرّموا طيّباتِ مآ أحلّ اللّه لكم} ما طاب ولذ من الحلال. ومعنى «لا تحرموا» لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم، أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الدجاج والفالوذ وكان يعجبه الحلواء والعسل وقال " إن المؤمن حلو يحب الحلاوة " وعن الحسن أنه دعي إلى طعام ومعه فرقد السنجي وأصحابه فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذ وغير ذلك، فاعتزل فرقد ناحية فسأل الحسن: أهو صائم؟ قالوا: لا ولكنه يكره هذه الألوان، فأقبل الحسن عليه وقال: يا فريقد أترى لعاب النحل بلباب البر بخالص السمن يعيبه مسلم؟ وعنه أنه قيل له: فلان لا يأكل الفالوذ ويقول لا أؤدي شكره. فقال: أفيشرب الماء البارد؟ قالوا: نعم. قال: إنه جاهل أن نعمة الله عليه في الماء البارد أكبر من نعمته عليه في الفالوذ. {ولا تعتدوا} ولا تجاوزوا الحد الذي حد عليكم في تحليل أو تحريم، أو ولا تتعدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات {إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين} حدوده. {وكلوا ممّا رزقكم اللّه حلالاً طيّباً} «حلالاً» حال «مما رزقكم الله» {واتّقوا اللّه} توكيد للتوصية بما أمر به وزاده توكيداً بقوله {الّذي أنتم به مؤمنون} لأن الإيمان به يوجب التقوى فيما أمر به ونهى. {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِي أيمانكم} اللغو في اليمين الساقط الذي لا يتعلق به حكم، وهو أن يحلف على شيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن، وكانوا حلفوا على تحريم الطيبات على ظن أنه قربة فلما نزلت تلك الآية قالوا: فكيف أيماننا؟ فنزلت. وعند الشافعي رحمه الله ما يجري على اللسان بلا قصد {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} أي بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها. وبالتخفيف: كوفي غير حفص. والعقد: العزم على الوطء، وذا لا يتصور في الماضي فلا كفارة في الغموس. وعند الشافعي رحمه الله القصد بالقلب ويمين الغموس مقصودة فكانت معقودة فكانت الكفارة فيها مشروعة. والمعنى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، فخذف وقت المؤاخذة لأنه كان معلوماً عندهم، أو بنكث ما عقدتم فحذف المضاف {فَكَفَّارَتُهُ} أي فكفارة نكثه أو فكفارة معقود الأيمان. والكفارة الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين} هو أن يغديهم ويعشيهم، ويجوز أن يعطيهم بطريق التمليك وهو لكل أحد نصف صاع من بر أوصاع من شعير أو صاع من تمر. وعند الشافعي رحمه الله مد لكل مسكين {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي غداء وعشاء من بر إذ الأوسع ثلاث مرات مع الإدام والأدنى مرة من تمر أو شعير {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} عطف على «إطعام» أو على محل «من أوسط»، ووجهه أن «من أوسط» بدل من «إطعام» والبدل هو المقصود في الكلام وهو ثوب يغطي العورة. وعن ابن عمر رضي الله عنه: إزار وقميص ورداء {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} مؤمنة أو كافرة لإطلاق النص، وشرط الشافعي رحمه الله الإيمان حملاً للمطلق على المقيد في كفارة القتل. ومعنى «أو» التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} إحداها {فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ} «متتابعة» لقراءة أبيّ وابن مسعود كذلك {ذلك} المذكور {كَفَّارَةُ أيمانكم إِذَا حَلَفْتُمْ} وحنثتم فترك ذكر الحنث لوقوع العلم بأن الكفارة لا تجب بنفس الحلف ولذا لم يجز التكفير قبل الحنث {واحفظوا أيمانكم} فبروا فيها ولا تحنثوا إذا لم يكن الحنث خيراً أو ولا تحلفوا أصلاً {كذلك} مثل ذلك البيان {يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته} أعلام شريعته وأحكامه {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج منه. {ياأيها الذين ءامَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر} أي القمار {والأنصاب} الأصنام لأنها تنصب فتعبد {والأزلام} وهي القداح التي مرت {رِجْسٌ} نجس أو خبيث مستقذر {مِّنْ عَمَلِ الشيطان} لأنه يحمل عليه فكأنه عمله. والضمير في {فاجتنبوه} يرجع إلى الرجس، أو إلى عمل الشيطان، أو إلى المذكور، أو إلى المضاف المحذوف كأنه قيل: إنما تعاطى الخمر والميسر ولذا قال «رجس». {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أكد تحريم الخمر والميسر من وجوه حيث صدر الجملة بإنما وقرنهما بعبادة الأصنام ومنه الحديث " شارب الخمر كعابد الوثن " وجعلهما رجساً من عمل الشيطان ولا يأتي منه إلا الشر البحت، وأمر بالاجتناب، وجعل الاجتناب من الفلاح وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خساراً {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة} ذكر ما يتولد منهما من الوبال وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمر، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة، وخص الصلاة من بين الذكر لزيادة درجتها كأنه قال: وعن الصلاة خصوصاً. وإنما جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولاً ثم أفردهما آخراً، لأن الخطاب مع المؤمنين وإنما نهاهم عما كانوا يتعاطونه من شرب الخمر واللعب بالميسر، وذكر الأنصاب والألزام لتأكيد تحريم الخمر والميسر وإظهار أن ذلك جميعاً من أعمال أهل الشرك فكأنه لا مباينة بين عابد الصنم وشارب الخمر والمقامر، ثم أفردهما بالذكر ليعلم أنهما المقصود بالذكر {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} من أبلغ ما ينهى به كأنه قيل: قد تُلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والزواجر فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا} وكونوا حذرين خاشعين لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} عن ذلك {فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} أي فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول لأنه ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات، وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتموه. ونزل فيمن تعاطى شيئاً من الخمر والميسر قبل التحريم. {لَيْسَ عَلَى الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} أي شربوا من الخمر وأكلوا من مال القمار قبل تحريمهما {إِذَا مَا اتقوا} الشرك {وَءامَنُواْ} بالله {وَعَمِلُواْ الصالحات} بعد الإيمان {ثُمَّ اتَّقَواْ} الخمر والميسر بعد التحريم {وَءَامَنُواْ} بتحريمهما {ثُمَّ اتَّقَواْ} سائر المحرمات، أو الأول عن الشرك والثاني عن المحرمات والثالث عن الشبهات {وَأَحْسَنُواْ} إلى الناس {والله يُحِبُّ المحسنين}. ولما ابتلاهم الله بالصيد عام الحديبية وهم محرمون وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في زحالهم فيستمكنون من صيده أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم نزل: {يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مّنَ الصيد تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ورماحكم} ومعنى يبلو يختبر وهو من الله لإظهار ما علم من العبد على ما علم لا لعلم ما لم يعلم، و«من» للتبعيض إذ لا يحرم كل صيد أو لبيان الجنس {لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب} ليعلم الله خوف الخائف منه بالامتناع عن الاصطياد موجوداً كما كان يعلم قبل وجوده أنه يوجد ليثيبه على عمله لا على علمه فيه {فَمَنِ اعتدى} فصاد {بَعْدَ ذَلِكَ} الابتلاء {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قلل في قوله «بشيء» من الصيد ليعلم أنه ليس من الفتن العظام «وتناله» صفة ل «شيء» {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد} أي المصيد إذ القتل إنما يكون فيه {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} أي محرمون جمع حرام كردح في جمع رداح في محل النصب على الحال من ضمير الفاعل في «تقتلوا» {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً} حال من ضمير الفاعل أي ذاكراً لإحرامه أو عالماً أن ما يقتله مما يحرم قتله عليه، فإن قتله ناسياً لإحرامه أو رمى صيداً وهو يظن أنه ليس بصيد فهو مخطئ. وإنما شرط التعمد في الآية مع أن محظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ، لأن مورد الآية فيمن تعمد، فقد رُوي أنه عَنَّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر فقتله فقيل له: إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت. ولأن الأصل فعل المتعمد والخطأ ملحق به للتغليظ. وعن الزهري: نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ. {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ} كوفي أي فعليه جزاء يماثل ما قتل من الصيد وهو قيمة الصيد يقوّم حيث صيد، فإن بلغت قيمته ثمن هدي خيّر بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد، وبين أن يشتري بقيمته طعاماً فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من غيره، وإن شاء صام عن طعام كل مسكين يوماً. وعند محمد والشافعي رحمهما الله تعالى مثله نظيره من النعم، فإن لم يوجد له نظير من النعم فكما مر. «فجزاء مثل» على الإضافة: غيرهم. وأصله فجزاء مثل ما قتل أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل، ثم أضيف كما تقول «عجبت من ضرب زيداً ثم من ضرب زيد». {مِنَ النعم} حال من الضمير في «قتل» إذ المقتول يكون من النعم أو صفة ل «جزاء» {يَحْكُمُ بِهِ} بمثل ما قتل {ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} حكمان عادلان من المسلمين، وفيه دليل على أن المثل القيمة لأن التقويم مما يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون الأشياء المشاهدة، ولأن المثل المطلق في الكتاب والسنة والإجماع مقيد بالصورة والمعنى، أو بالمعنى لا بالصورة، أو بالصورة بلا معنى، ولأن القيمة أريدت فيما لا مثل له صورة إجماعاً فلم يبق غيرها مراداً إذ لا عموم للمشترك. فإن قلت: قوله «من النعم» ينافي تفسير المثل بالقيمة. قلت: من أوجب القيمة خُير بين أن يشتري بها هدياً أو طعاماً أو يصوم كما خير الله تعالى في الآية، فكان من النعم بياناً للهدي المشتري بالقيمة في أحد وجوه التخيير، لأن من قوم الصيد واشترى بالقيمة هدياً فأهداه فقد جزى بمثل ما قتل من النعم، على أن التخيير الذي في الآية بين أن يُجزي بالهدي أو يكفر بالطعام أو الصوم، إنما يستقيم إذا قوم ونظر بعد التقويم أي الثلاثة يختار، فأما إذا عمد إلى النظير وجعله الواجب وحده من غير تخيير، فإذا كان شيئاً لا نظير له قُوِّم حينئذ ثم يخير بين الطعام والصيام، ففيه نبّو عما في الآية ألا ترى إلى قوله {أوكَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً} كيف خير بين الأشياء الثلاثة ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقويم {هَدْياً} حال من الهاء في «به» أي يحكم به في حال الهدي {بالغ الكعبة} صفة ل «هدياً» لأن إضافته غير حقيقية. ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم، فأما التصدق به فحيث شئت. وعند الشافعي رحمه الله: في الحرم {أَوْ كَفَّارَةٌ} معطوف على «جزاء» {طَعَامٌ} بدل من «كفارة» أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام. «أو كفارة طعام» على الإضافة: مدني وشامي. وهذه الإضافة لتبيين المضاف كأنه قيل: أو كفارة من طعام {مساكين} كما تقول «خاتم فضة» أي خاتم من فضة {أَو عَدْلُ} وقرئ بكسر العين. قال الفراء: العدل ما عادل الشيء من غير جنسه كالصوم والإطعام، والعدل مثله من جنسه ومنه «عدلا الحمل». يقال «عندي غلام عدل غلامك» بالكسر إذا كان من جنسه، فإن أريد أن قيمته كقيمته ولم يكن من جنسه قيل «هو عَدل غلامك» بالفتح {ذلك} إشارة إلى الطعام {صِيَاماً} تمييز نحو «لي مثله رجلاً» والخيار في ذلك إلى القاتل، وعند محمد رحمه الله إلى الحكمين {لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} متعلق بقوله «فجزاء» أي فعليه أن يجازي أو يكفر ليذوق سوء عقاب عاقبة هتكه لحرمة الإحرام. والوبال المكروه والضرر الذي ينال في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه من قوله تعالى: {فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً} [المزمل: 16] أي ثقيلاً شديداً. والطعام الوبيل الذي يثقل على المعدة فلا يستمرأ. {عَفَا الله عَمَّا سَلَفَ} لكم من الصيد قبل التحريم {وَمَنْ عَادَ} إلى قتل الصيد بعد التحريم أو في ذلك الإحرام {فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} بالجزاء وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو ينتقم الله منه {والله عَزِيزٌ} بإلزام الأحكام {ذُو انتقام} لمن جاوز حدود الإسلام.
|