الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)} {يا أيها النبيُّ جاهِدِ الكُفّارَ والمنافقين واغْلُظْ عليهم} أما جهاد الكفار فبالسيف، وأما جهاد المنافقين ففيه أربعة أوجه: أحدها: أنه باللسان والقول، قاله ابن عباس والضحاك. الثاني: بالغلظة عليهم كما ذكر اللَّه، قاله الربيع بن أنس. الثالث: بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وليقابلهم بوجه مكفهر، قاله ابن مسعود. الرابع: بإقامة الحدود عليهم، قاله الحسن. {ضَرَبَ اللَّهُ مَثلاً للذين كَفَروا امرأةَ نُوحٍ وامرأةَ لُوطٍ كانتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادنا صالحْينِ فخانتاهما} في خيانتهما أربعة أوجه: أحدها: أنهما كانتا كافرتين، فصارتا خائنتين بالكفر، قاله السدي. الثاني: منافقتين تظهران الإيمان وتستران الكفر، وهذه خيانتهما قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما في الدين. الثالث: أن خيانتهما النميمة، إذا أوحى اللَّه تعالى إليهما [شيئاً] أفشتاه إلى المشركين، قاله الضحاك. الرابع: أن خيانة امرأة نوح أنها كانت تخبر الناس أنه مجنون، وإذا آمن أحد به أخبرت الجبابرة به، وخيانة امرأة لوط أنه كان إذا نزل به ضيف دخّنت لِتُعْلِم قومها أنه قد نزل به ضيف، لما كانوا عليه من إتيان الرجال. قال مقاتل: وكان اسم امرأة نوح والهة، واسم امرأة لوط والعة. وقال الضحاك عن عائشة أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن اسم امرأة نوح واعلة، واسم امراة لوط والهة. {فلم يُغْنِيا عنهما مِنَ اللَّهِ شيئاً} أي لم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما على الله عن زوجتيهما لما عصتا شيئاً من عذاب اللَّه، تنبيهاً بذلك على أن العذاب يُدفع بالطاعة دون الوسيلة. قال يحيى بن سلام: وهذا مثل ضربه اللَّه ليحذر به حفصة وعائشة حين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ضرب لهما مثلاً بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران ترغيباً في التمسك بالطاعة.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)} {وضَربَ اللَّهُ مَثلاً للذينَ آمنوا امرأةَ فِرْعونَ} قيل اسمها آسية بنت مزاحم. {إذْ قالت رَبِّ ابْنِ لي عندك بيتاً في الجنة} قال أبو العالية: اطّلع فرعون على إيمان امرأته فخرج على الملأ فقال لهم: ما تعلمون من آسية بنت مزاحم؟ فأثنوا عليها، فقال لهم: فإنها تعبد ربّاً غيري، فقالوا له: اقتلْها، فأوتد لها أوتاداً فشد يديها ورجليها، فدعت آسية ربها فقالت: «رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة» الآية، فكشف لها الغطاء فنظرت إلى بيتها في الجنة، فوافق ذلك حضور فرعون، فضحكت حين رأت بيتها في الجنة، فقال فرعون: ألا تعجبون من جنونها، فعذبها وهي تضحك وقُبض روحها. وقولها: {وَنَجِّني مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِه} فيه قولان: أحدهما: الشرك. الثاني: الجماع، قاله ابن عباس. {وَنجِّني من القوم الظالمين} فيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل مصر، قاله الكلبي. الثاني: القبط، قاله مقاتل. {ومريمَ ابنَةَ عِمرانَ التي أحْصَنَتْ فَرْجَهَا} قال المفسرون: إنه أراد بالفرج الجيب لأنه قال {فنفخنا فيه مِن رُوحنا} وجبريل إنما نفخ في جيبها، ويحتمل أن تكون أحصنت فرجها ونفخ الروح في جيبها. {وصَدَّقَتْ بكلماتِ رَبِّها وكُتُبِه} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن «كلمات ربها» الإنجيل، و«كتبه» التوراة والزبور. الثاني: أن «كلمات ربها» قول جبريل حين نزل عليها {إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً}، {وكتبه} الإنجيل الذي أنزله من السماء، قاله الكلبي. الثالث: أن «كلمات ربها» عيسى، و«كتبه» الإنجيل، قاله مقاتل. {وكانت من القانتين} أي من المطيعين في التصديق. الثاني: من المطيعين في العبادة.
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)} قوله عز وجل: {تباركَ الذي بيدِهِ المُلْكُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن التبارُك تفاعُل من البركة، قاله ابن عباس. وهو أبلغ من المبارك لاختصاص اللَّه بالتبارك واشتراك المخلوقين في المبارك. الثاني: أي تبارك في الخلق بما جعل فيهم من البركة، قاله ابن عطاء. الثالث: معناه علا وارتفع، قاله يحيى بن سلام. وفي قوله «الذي بيده الملك» وجهان: أحدهما: ملك السموات والأرض في الدنيا والآخرة. الثاني: ملك النبوة التي أعزّ بها من اتبعه وأذل بها من خالفه، قاله محمد بن إسحاق. {وهو عَلى كُلِّ شَئ قَديرٌ} من إنعام وانتقام. {الذي خَلَقَ الموتَ والحياةَ} يعني الموت في الدنيا، والحياة في الآخرة. قال قتادة: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «» إن اللَّه أذل بني آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء «. الثاني: أنه خلق الموت والحياة جسمين، فخلق الموت في صورة كبش أملح، وخلق الحياة في صورة فرس [أنثى بلقاء]، وهذا مأثور حكاه الكلبي ومقاتل. {لِيَبْلُوكم أيُّكم أَحْسَنُ عَمَلاً} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أيكم أتم عقلاً، قاله قتادة. الثاني: أيكم أزهد في الدنيا، قاله سفيان. الثالث: أيكم أورع عن محارم اللَّه وأسرع إلى طاعة اللَّه، وهذا قول مأثور. الرابع: أيكم للموت أكثر ذِكْراً وله أحسن استعداداً ومنه أشد خوفاً وحذراً، قاله السدي. الخامس: أيكم أعرف بعيوب نفسه. ويحتمل سادساً: أيكم أرضى بقضائه وأصبر على بلائه. {الذي خَلَقَ سَبْعَ سمواتٍ طِباقاً} فيه وجهان: أحدهما: أي متفق متشابه، مأخوذ من قولهم هذا مطابق لهذا أي شبيه له، قاله ابن بحر. الثاني: يعني بعضهن فوق بعض، قال الحسن: وسبع أرضين بعضهن فوق بعض، بين كل سماء وأرض خلق وأمر. {ما تَرَة في خَلْق الرحمنِ من تفاوُتٍ} فيه أربعة أوجه: أحدها: من اختلاَف، قاله قتادة، ومنه قول الشاعر: متفاوتات من الأعنة قطّباً *** حتى وفي عشية أثقالها. الثاني: من عيب، قاله السدي. الثالث: من تفرق، قاله ابن عباس. الرابع: لا يفوت بعضه بعضاً، قاله عطاء بن أبي مسلم. قال الشاعر: فلستُ بمُدْركٍ ما فاتَ مِنِّي *** بِلَهْفَ وَلاَ بِليْتَ ولا لَو أنِّي {فارْجِع البَصَرَ} قال قتادة: معناه فانظر إلى السماء. {هل تَرَى من فُطور} فيه أربعة أوجه: أحدها: من شقوق، قاله مجاهد والضحاك. الثاني: من خلل، قاله قتادة. الثالث: من خروق قاله السدي. الرابع: من وهن، قاله ابن عباس. {ثم ارْجع البَصَرَ كَرّتَيْنِ} أي انظر إلى السماء مرة بعد أخرى. ويحتمل أمره بالنظر مرتين وجهين: أحدهما: لأنه في الثانية أقوى نظراً وأحدّ بصراً. الثاني: لأنه يرى في الثانية من سير كواكبها واختلاف بروجها ما لا يراه من الأولى فيتحقق أنه لا فطور فيها. وتأول قوم بوجه ثالث: أنه عنى بالمرتين قلباً وبصراً. {ينْقَلِبْ إليك البَصَرُ خَاسئاً وهو حَسيرٌ} أي يرجع إليك البصر لأنه لا يرى فطوراً فيرتد. وفي «خاسئاً» أربعة أوجه: أحدها: ذليلاً، قاله ابن عباس. الثاني: منقطعاً، قاله السدي. الثالث: كليلاً، قاله يحيى بن سلام. الرابع: مبعداً، قاله الأخفش مأخوذ من خسأت الكلب إذا أبعدته. وفي «حسير» ثلاثة أوجه: أحدها: أنه النادم، ومنه قول الشاعر: ما أنا اليوم على شيء خلا *** يا ابنة القَيْنِ تَولّى بحَسيرْ الثاني: أنه الكليل الذي قد ضعف عن إدراك مرآه، قاله ابن عباس ومنه قول الشاعر: مَنْ مدّ طرْفاً إلى ما فوق غايته *** ارتدَّ خَسْآنَ مِنه الطّرْفُ قد حَسِرا والثالث: أنه المنقطع من الإعياء، قاله السدي، ومنه قول الشاعر: والخيلُ شُعثٌ ما تزال جيادها *** حَسْرى تغادرُ بالطريق سخالها {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} {إذا أُلقُوا فيها} يعني الكفار ألقوا في جهنم. {سمعوا لها شهيقاً} فيه قولان: أحدهما: أن الشهيق من الكفار عند إلقائهم في النار. الثاني: أن الشهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها، قال ابن عباس: تشهق إليهم شهقة البغلة للشعير ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف. وفي الشهيق ثلاثة أوجه: أحدها: أن الشهيق في الصدور، قاله الربيع بن أنس. الثاني: أنه الصياح، قاله ابن جريج. الثالث: أن الشهيق هو آخر نهيق الحمار، والزفير مثل أول نهيق الحمار، وقيل إن الزفير من الحلق، والشهيق من الصدر. {وهي تفورُ} أي تغلي، ومنه قول الشاعر: تركتم قِدْرَكم لا شيئ فيها *** وقِدْرُ القوم حاميةٌ تفورُ {تكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ...} فيه وجهان: أحدهما: تنقطع، قاله سعيد بن جبير. الثاني: تتفرق، قاله ابن عباس والضحاك. وقوله «من الغيط» فيه ها هنا وجهان: أحدهما: أنه الغليان، قال الشاعر: فيا قلب مهلاً وهو غضبان قد غلا *** من الغيظ وسط القوم ألا يثبكا الثاني: أنه الغضب، يعني غضباً على أهل المعاصي وانتقاماً للَّه منهم. {ألمْ يأتِكم نَذيرٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن النذر من الجن، والرسل من الإنس، قاله مجاهد. الثاني: أنهم الرسل والأنبياء، واحدهم نذير، قاله السدي. {فسُحْقاً لأصحاب السّعيرٍ} فيه وجهان: أحدهما: فبعداً لأصحاب السعير يعني جهنم، قاله ابن عباس. الثاني: أنه وادٍ من جهنم يسمى سحقاً، قاله ابن جبير وأبو صالح، وفي هذا الدعاء إثبات لاستحقاق الوعيد.
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} {إنّ الذين يَخْشَوْنَ ربَهم بالغَيْبِ} فيه ستة أوجه: أحدها: أن الغيب اللَّه تعالى وملائكته، قاله أبو العالية. الثاني: الجنة والنار، قاله السدي. الثالث: أنه القرآن، قاله زر بن حبيش. الرابع: أنه الإسلام لأنه يغيب، قاله إسماعيل بن أبي خالد. الخامس: أنه القلب، قاله ابن بحر. السادس: أنه الخلوة إذا خلا بنفسه فذكر ذنبه استغفر ربه، قاله يحيى بن سلام. {لهم مغْفرةٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بالتوبة والاستغفار. الثاني: بخشية ربهم بالغيب. الثالث: لأنهم حلّوا باجتناب الذنوب محل المغفور له. {وأجرٌ كبيرٌ} يعني الجنة. ويحتمل وجهاً آخر: أنه العفو عن العقاب ومضاعفة الثواب. {هو الذي جَعَلَ لكم الأرْضَ ذَلولاً} يعني مذللة سهلة. حكى قتادة عن أبي الجلد: أن الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ، فللسودان اثنا عشر [ألفاً]، وللروم [ثمانية آلاف]، وللفرس ثلاثة آلاف وللعرب ألف. {فامْشُوا في مَنَاكِبِها} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: في جبالها، قاله ابن عباس وقتادة وبشير بن كعب. الثاني: في أطرفاها وفجاجها، قاله مجاهد والسدي. الثالث: في طرفها. ويحتمل رابعاً: في منابت زرعها وأشجارها، قاله الحسن. {وكُلوا مِن رِزْقِهِ} فيه وجهان: أحدهما: مما أحله لكم، قاله الحسن. الثاني: مما أنبته لكم، قاله ابن كامل. {وإليه النشور} أي البعث.
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)} {أأمِنتُم مَنْ في السماءِ} فيه وجهان: أحدهما: أنهم الملائكة، قاله ابن بحر. الثاني: يعني أنه اللَّه تعالى، قاله ابن عباس. {أنْ يَخْسِفَ بكم الأرضَ فإذا هي تمورُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: تتحرك، قاله يحيى. الثاني: تدور، قاله قطرب وابن شجرة. الثالث: تسيل ويجري بعضها في بعض، قاله مجاهد، ومنه قول الشاعر: رَمَيْن فأقصدْن القلوب ولن ترى *** دماً مائراً إلا جرى في الخيازم {أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)} {أفمن يْمشيِ مُكِبّاً على وَجْهِه أهْدَى} هذا مثل ضربه اللَّه تعالى للهدى والضلالة، ومعناه ليس من يمشي مُكباً على وجهه ولا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله. كمن يمشي سوياً معتدلاً ناظراً ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله، وفيه وجهان: أحدهما: أنه مثل ضربه اللّه للمؤمن والكافر، فالمكب على وجهه الكافر يهوي بكفره، والذي يمشي سوّياً المؤمن يهتدي بإيمانه، ومعناه: أمَّن يمشي في الضلالة أهدى أم من يمشي مهتدياً، قاله ابن عباس. الثاني: أن المكب على وجهه أبو جهل بن هشام، ومن يمشي سوياً عمار بن ياسر، قاله عكرمة. {على صراطٍ مستقيم} فيه وجهان: أحدهما: أن الطريق الواضح الذي لا يضل سالكه، فيكون نعتاً للمثل المضروب. الثاني: هو الحق المستقيم، قاله مجاهد، فيكون جزاء العاقبة الاستقامة وخاتمة الهداية. {قُلْ هو الذي ذَرَأَكُمْ في الأرضِ} فيه وجهان: أحدهما: خلقكم في الأرض، قاله ابن عباس. الثاني: نشركم فيها وفرّقكم على ظهرها، قاله ابن شجرة. ويحتمل ثالثاً: أنشأكم فيها إلى تكامل خلقكم وانقضاء أجلكم. {وإليهِ تُحْشَرون} أي تُبْعثون بعد الموت. {فلما رأَوْه زُلْفَةً سِيئَتْ وُجوهُ الذين كَفروا} فيه وجهان: أحدهما: ظهرت المساءة على وجوههم كراهة لما شاهدوا، وهو معنى قول مقاتل. الثاني: ظهر السوء في وجهوههم ليدل على كفرهم، كقوله تعالى: {يوم تبيضُّ وجوه وتسْوَدُّ وجوه} [آل عمران: 106]. {وقيل هذا الذي كُنْتُمْ به تَدَّعُونَ} وهذا قول خزنة جهنم لهم، وفي قوله {كنتم به تدّعون} أربعة أوجه: أحدها: تمترون فيه وتختلفون، قاله مقاتل. الثاني: تشكّون في الدنيا وتزعمون أنه لا يكون، قاله الكلبي. الثالث: تستعجلون من العذاب، قاله زيد بن أسلم. الرابع: أنه دعاؤهم بذلك على أنفسهم، وهو افتعال من الدعاء، قاله ابن قتيبة.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)} {قُلْ أرَأَيْتُمْ إنْ أصْبَحَ ماؤكم غُوْراً} فيه وجهان: أحدهما: ذاهباً، قاله قتادة. الثاني: لا تناله الدِّلاء، قاله ابن جبير، وكان ماؤهم من بئر زمزم وبئر ميمون. {فَمَنْ يأتيكم بماءٍ مَعِينٍ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن معناه العذب، قاله ابن عباس. الثاني: أنه الطاهر، قاله الحسن وابن جبير ومجاهد. الثالث: أنه الذي تمده العيون فلا ينقطع. الرابع: أنه الجاري، قاله قتادة، ومنه قول جرير: إنّ الذين غدوا بُلبِّك غادَروا *** وشَلاً بعيْنِك لا يزال مَعِيناً روى عاصم عن رُزين عن ابن مسعود قال: سورة الملك هي المانعة من عذاب القبر، وهي في التوراة تسمى المانعة، وفي الإنجيل تسمى الواقية، ومن قرأها من كل ليلة فقد أكثر وأطاب.
{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)} قوله تعالى {ن} فيه ثمانية أقوال: أحدها: أن النون الحوت الذي عليه الأرض، قاله ابن عباس من رواية أبي الضحى عنه، وقد رفعه. الثاني: أن النون الدواة، رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثالث: أنه حرف من حروف الرحمن، قاله ابن عباس في رواية الضحاك عنه. الرابع: هو لوح من نور، رواه معاوية بن قرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. الخامس: أنه اسم من أسماء السورة، وهو مأثور. السادس: أنه قسم أقسم اللَّه به، وللَّه تعالى أن يقسم بما يشاء، قاله قتادة. السابع: أنه حرف من حروف المعجم. الثامن: أن نون بالفارسية أيذون كن، قاله الضحاك. ويحتمل تاسعاً: إن لم يثبت به نقل أن يكون معناه: تكوين الأفعال والقلم وما يسطرون، فنزل الأقوال جميعاً في قسمه بين أفعاله وأقواله، وهذا أعم قسمة. ويحتمل عاشراً: أن يريد بالنون النفْس لأن الخطاب متوجه إليها بغيرعينها بأول حروفها، والمراد بالقلم ما قدره اللَّه لها وعليها من سعادة وشقاء، لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ. أما {والقلم} ففيه وجهان: أحدهما: أنه القلم الذي يكتبون به لأنه نعمة عليهم ومنفعة لهم، فأقسم بما أنعم، قاله ابن بحر. الثاني: أنه القلم الذي يكتب به الذكر على اللوح المحفوظ، قال ابن جريج: هو من نور، طوله كما بين السماء والأرض. وفي قوله {وما يَسْطرون} ثلاثة أقاويل: أحدها: وما يعلمون، قاله ابن عباس. الثاني: وما يكتبون، يعني من الذكر، قاله مجاهد والسدي. الثالث: أنهم الملائكة الكاتبون يكتبون أعمال الناس من خير وشر. {ما أنت بنعمةِ ربّك بمجنونٍ} كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أنه مجنون به شيطان، وهو قولهم: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} [الحجر: 6] فأنزل اللَّه تعالى رداً عليها وتكذيباً لقولهم: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} أي برحمة ربك، والنعمة ها هنا الرحمة. ويحتمل ثانياً: أن النعمة ها هنا قسم، وتقديره: ما أنت ونعمة ربك بمجنون، لأن الواو والباء من حروف القسم. وتأوله الكلبي على غير ظاهره، فقال: معناه ما أنت بنعمة ربك بمخفق. {وإنّ لك لأجْراً غيْرَ مَمْنُونٍ} فيه أربعة أوجه: أحدها: غير محسوب، قاله مجاهد. الثاني: أجراً بغير عمل، قاله الضحاك. الثالث: غير ممنون عليك من الأذى، قاله الحسن. الرابع: غير منقطع، ومنه قول الشاعر: ألا تكون كإسماعيلَ إنَّ له *** رأياً أصيلاً وأجْراً غيرَ ممنون ويحتمل خامساً: غير مقدّر وهو الفضل، لأن الجزاء مقدر، والفضل غير مقدر. {وإنك لعلى خُلُقٍ عظيمٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أدب القرآن، قاله عطية. الثاني: دين الإسلام، قاله ابن عباس وأبو مالك. الثالث: على طبع كريم، وهو الظاهر. وحقيقة الخلُق في اللغة هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب سمي خلقاً لأنه يصير كالخلقة فيه، فأما ما طبع عليه من الآداب فهو الخيم فيكون الخلق الطبع المتكلف، والخيم هو الطبع الغريزي، وقد أوضح ذلك الأعشى في شعره فقال: وإذا ذو الفضول ضنّ على المو *** لى وعادت لِخيمها الأخلاقُ أي رجعت الأخلاق إلى طباعها. {فَسَتبْصِرُ ويُبْصرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: فسترى ويرون يوم القيامة حين يتبين الحق والباطل. الثاني: قاله ابن عباس معناه فستعلم ويعلمون يوم القيامة. {بأَيِّكم المْفتونُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني المجنون، قاله الضحاك. الثاني: الضال، قاله الحسن. الثالث: الشيطان، قاله مجاهد. الرابع: المعذب من قول العرب فتنت الذهب بالنار إذا أحميته، ومنه قوله تعالى: {يوم هم على النار يُفْتنون} [الذاريات: 13] أي يعذبون.
{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)} {وَدُّوا لو تُدْهِنُ فَيدْهِنونَ} فيه ستة تأويلات: أحدها: معناه ودوا لو تكفر فيكفرون، قاله السدي والضحاك. الثاني: ودوا لو تضعُف فيضعُفون، قاله أبو جعفر. الثالث: لو تلين فيلينون، قاله الفراء. الرابع: لو تكذب فيكذبون، قاله الربيع بن أنس. الخامس: لو ترخص لهم فيرخصون لك، قاله ابن عباس. السادس: أن تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك، قاله قتادة. وفي أصل المداهنة وجهان: أحدهما: مجاملة العدو وممايلته، قال الشاعر: لبَعْضُ الغَشْم أحزْم أمورٍ *** تَنوبُك مِن مداهنةِ العدُوِّ. الثاني: أنها النفاق وترك المناصحة، قاله المفضل، فهي على هذا الوجه مذمومة، وعلى الوجه الأول غير مذمومة. {ولا تُطِعْ كلَّ حَلاَّفٍ مَهينٍ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه الكذاب، قاله ابن عباس. الثاني: الضعيف القلب، قاله مجاهد. الثالث: أنه المكثار من الشر، قاله قتادة. الرابع: أنه الذليل بالباطل، قاله ابن شجرة. ويحتمل خامساً: أنه الذي يهون عليه الحنث. وفي من نزل ذلك فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في الأخنس بن شريق، قاله السدي. الثاني: الأسود بن عبد يغوث، قاله مجاهد. الثالث: الوليد بن المغيرة، عرض على النبي صلى الله عليه وسلم مالاً وحلف أن يعطيه إن رجع عن دينه، قاله مقاتل. {هَمَّازٍ مَشّاءٍ بِنميمٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الفتّان الطعان، قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: أنه الذي يلوي شدقيه من وراء الناس، قاله الحسن. الثالث: أنه الذي يهمزهم بيده ويضربهم دون لسانه، قاله ابن زيد، والأول أشبه لقول الشاعر: تُدْلي بِوُدٍّ إذا لاقيتني كذباً *** وإن أغيبُ فأنت الهامز اللُّمَزة. {مشّاءٍ بنميم} فيه وجهان: أحدهما: الذي ينقل الأحاديث من بعض الناس إلى بعض، قاله قتادة. الثاني: هو الذي يسعى بالكذب، ومنه قول الشاعر: ومَوْلى كبيْتِ النمل لا خير عنده *** لمولاه إلا سعية بنميم وفي النميم والنميمة وجهان: أحدهما: أنهما لغتان، قاله الفراء. الثاني: أن النميم جمع نميمة. {منّاعٍ للخيْرِ} فيه وجهان: أحدهما: للحقوق من ظلم. الثاني: الإسلام يمنع الناس منه. {عُتُلٍّ بَعْد ذلك زنيمٍ} يعني بعد كونه «منّاعٍ للخيرٍ» معتدٍ أثيم، هو عتل زنيم، وفيه تسعة أوجه: أحدها: أن العُتُلّ الفاحش، وهو مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: الثاني: أنه القوي في كفره، قاله عكرمة. الثالث: أنه الوفير الجسم، قاله الحسن وأبو رزين. الرابع: أنه الجافي الشديد الخصومة بالباطل، قاله الكلبي. الخامس: أنه الشديد الأسر، قاله مجاهد. السادس: أنه الباغي، قاله ابن عباس. السابع: أنه الذي يعتِل الناس، أي يجرهم إلى الحبس أو العذاب، مأخوذ من العتل وهو الجر، ومنه قوله تعالى: {خذوه فاعتِلوه} [الحاقة: 30]. الثامن: هو الفاحش اللئيم، قاله معمر، قال الشاعر: يعتل من الرجال زنيم *** غير ذي نجدةٍ وغير كريم. التاسع: ما رواه شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غَنْم، ورواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يدخل الجنةَ جواظٌ ولا جعظري ولا العتلّ الزنيم» فقال رجل: ما الجواظ وما الجعظري وما العتل الزنيم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الجواظ الذي جمع ومنع، والجعظري الغليظ، والعتل الزنيم الشديد الخلق الرحيب الجوف، المصحح الأكول الشروب الواجد للطعام، الظلوم للناس». وأما الزنيم ففيه ثماني تأويلات: أحدها: أنه اللين، رواه موسى بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: أنه الظلوم، قاله ابن عباس في رواية ابن طلحة عنه. الثالث: أنه الفاحش، قاله إبراهيم. الرابع: أنه الذي له زنمة كزنمة الشاة، قال الضحاك: لأن الوليد بن المغيرة كان له أسفل من أذنه زنمة مثل زنمة الشاة، وفيه نزلت هذه الآية، قال محمد بن إسحاق: نزلت في الأخنس بن شريق لأنه حليف ملحق ولذلك سمي زنيماً. الخامس: أنه ولد الزنى، قاله عكرمة. السادس: أنه الدعيّ، قال الشاعر: زنيمٌ تَداعاه الرجالُ زيادةً *** كما زِيدَ في عَرْضِ الأديمِ الأكارعُ السابع: أنه الذي يعرف بالأُبنة، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. الثامن: أنه علامة الكفر كما قال تعالى: {سنسمه على الخرطوم}، قاله أبو رزين. {أنْ كان ذا مالٍ وبنينَ} قيل إنه الوليد بن المغيرة، كانت له حديقة بالطائف، وكان له اثنا عشر ابناً، حكاه الضحاك. وقال عليّ بن أبي طالب: المال والبنون حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة. {إذا تتْلى عليه آياتُنا} يعني القرآن. {قال أساطيرُ الأوّلين} يعني أحاديث الأولين وأباطيلهم. {سَنَسِمُهُ على الخُرطومِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنها سمة سوداء تكون على أنفه يوم القيامة يتميز بها الكافر، كما قال تعالى: {يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم} [الرحمن: 41]. الثاني: أنه يضرب في النار على أنفه يوم القيامة، قاله الكلبي. الثالث: أنه إشهار ذكره بالقبائح، فيصير موسوماً بالذكر لا بالأثر. الرابع: هو ما يبتليه اللَّه به في الدنيا في نفسه وماله وولده من سوء وذل وصَغار، قاله ابن بحر واستشهد بقول الأعشى. فدَعْها وما يَغنيك واعمد لغيرها *** بشِعرك واغلب أنف من أنت واسم. وقال المبرد: الخرطوم هو من الناس الأنف، ومن البهائم الشفة.
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)} {إنا بَلَوناهم كما بَلَوْنا أَصْحابَ الجَنَّةِ} فيهم قولان: أحدهما: إن الذين بلوناهم أهل مكة بلوناهم بالجوع كرتين، كما بلونا أصحاب الجنة حتى عادت رماداً. الثاني: أنهم قريش ببدر. حكى ابن جريج أن أبا جهل قال يوم بدر خذوهم أخذاً واربطوهم في الحبال، ولا تقتلوا منهم أحداً، فضرب اللَّه بهم عند العدو مثلاً بأصحاب الجنة. {إذ أَقْسموا لَيَصرِمُنّها مُصْبِحينَ} قيل إن هذه الجنة حديقة كانت باليمن بقرية يقال لها ضَروان، بينها وبين صنعاء اليمن اثنا عشر ميلاً، وفيها قولان: أحدهما: أنها كانت لقوم من الحبشة. الثاني: قاله قتادة أنها كانت لشيخ من بني إسرائيل له بنون، فكان يمسك منها قدر كفايته وكفاية أهله، ويتصدق بالباقي، فجعل بنوه يلومونه ويقولون: لئن ولينا لنفعلن، وهو لا يطيعهم حتى مات فورثوها، فقالوا: نحن أحوج بكثرة عيالنا من الفقراء والمساكين «فأقسموا ليصرُمنّها مصبحين» أي حلفوا أن يقطعوا ثمرها حين يصبحون. {ولا يَسْتَثْنونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يستثنون من المساكين، قاله عكرمة. الثاني: استثناؤهم قول سبحان ربنا، قاله أبو صالح. الثالث: قول إن شاء اللَّه. {فطاف عليها طائفٌ مِن ربِّك وهم نائمونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أمر من ربك، قاله ابن عباس. الثاني: عذاب من ربك، قاله قتادة. الثالث: أنه عنق من النار خرج من وادي جنتهم، قاله ابن جريج. {وهم نائمون} أي ليلاً وقت النوم، قال الفراء: الطائف لا يكون إلا ليلاً. {فأصبحت كالصَريم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: كالرماد الأسود، قاله ابن عباس. الثاني: كالليل المظلم، قاله الفراء، قال الشاعر: تطاولَ ليلُكَ الجَوْنُ البهيمُ *** فما ينجاب عن صبحٍ، صَريمُ الثالث: كالمصروم الذي لم يبق فيه ثمر. روى أسباط عن ابن مسعود أنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «أياكم والمعاصي، إن العبد ليذنب فيحرم به رزقاً قد كان هيئ له»، ثم تلا: {فطاف عليها طائف من ربك...} الآيتين قد حرموا خير جنتهم بذنبهم. {فتنادَوْا مُصبِحينَ} أي دعا بعضعهم بعضاً عند الصبح. {أنِ اغْدُوا على حَرْثِكم} قال مجاهد: كان الحرث عنباً. {إن كنتم صارمين} أي عازمين على صرم حرثكم في هذا اليوم. {فانْطَلَقُوا وهم يتخافتونَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يتكلمون، قاله عكرمة. الثاني: يخفون كلامهم ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد، قاله عطاء وقتادة. الثالث: يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم. الرابع: لا يتشاورون بينهم. {أن لا يدخُلَنّها اليومَ عليكم مِسكين} قاله يحيى بن سلام. {وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادرين} فيه تسعة أوجه: أحدها: على غيظ، قاله عكرمة. الثاني: على جَدٍّ، قاله مجاهد. الثالث: على منع، قاله أبو عبيدة. الرابع: على قصد، ومنه قول الشاعر: أقْبَلَ سيلٌ جاء من عندِ اللّه *** يحْرِدُ حَرْدَ الجَنّة المُغِلّة اُي يقصد قصد الجنة المغلة. الخامس: على فقر، قاله الحسن. السادس: على حرص، قاله سفيان. السابع: على قدرة، قاله ابن عباس. الثامن: على غضب، قاله السدي. التاسع: أن القرية تسمى حرداً، قاله السدي. وفي قوله: «قادرين» ثلاثة أوجه: أحدها: يعني قادرين على المساكين، قاله الشعبي. الثاني: قادرين على جنتهم عند أنفسهم، قاله قتادة. الثالث: أن موافاتهم إلى جنتهم في الوقت الذي قدروه، قاله ابن بحر. ويحتمل رابعاً: أن القادر المطاع بالمال والأعوان، فإذا ذهب ماله تفرق أعوانه فعُصيَ وعجز. {فلمّا رأوْها قالوا إنا لَضالُّون} أي أنهم لما رأوا أرض الجنة لا ثمرة فيها ولا شجر قالوا إنا ضالون الطريق وأخطأنا مكان جنتنا، ثم استرجعوا فقالوا: {بل نحن محرومون} أي حُرمنا خير جنتنا، قال قتادة: معناه جوزينا فحُرمنا. {قال أَوْسَطُهم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني أعدلهم، قاله ابن عباس. الثاني: خيرهم، قاله قتادة. الثالث: أعقلهم، قاله ابن بحر. {أَلَمْ أقُل لكم لولا تُسَبَّحونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لولا تستثنون عند قولهم «ليصرمنها مصبحين»، قاله ابن جريج. الثاني: أن التسبيح هو الاستثناء، لأن المراد بالاستثناء ذكر اللَّه، وهو موجود من التسبيح. الثالث: أن تذكروا نعمة اللَّه عليكم فتؤدوا حقه من أموالكم.
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)} {أم لكم أيْمانٌ علينا بالغةٌ} والبالغة المؤكدة باللَه. {إنّ لكم لما تحْكُمُون} فيه وجهان: أحدهما: أم لكم أيمان عيلنا بالغة أننا لا نعذبكم في الدنيا إلى يوم القيامة. {سَلْهم أيُّهم بذلك زعيمٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن الزعيم الكفيل، قاله ابن عباس. الثاني: أنه الرسول، قاله الحسن. ويحتمل ثالثاً: أنه القيم بالأمر لتقدمه ورئاسته.
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)} {يومَ يُكْشَفُ عن ساقٍ} فيه أربعة أوجه: أحدها: عن ساق الآخرة، قاله الحسن. الثاني: الساق الغطاء، قاله الربيع بن أنس، ومنه قول الراجز: في سَنَةٍ قد كشفتْ عن ساقها *** حمراءَ تبري اللحم عن عراقها الثالث: أنه الكرب والشدة، قاله ابن عباس، ومنه قول الشاعر: كشفت لهم عن ساقها *** وبدا من الشر الصُّراح الرابع: هو إقبال الآخرة وذهاب الدنيا، قال الضحاك: لأنه أول الشدائد، كما قال الراجز: قد كشفت عن ساقها فشُدُّوا *** وجدّت الحربُ بكم فجدوا فأما ما روي أن اللَّه تعالى يكشف عن ساقه فإن اللَّه تعالى منزه عن التبعيض والأعضاء وأن ينكشف أو يتغطى، ومعناه أنه يكشف عن العظيم من أمره، وقيل يكشف عن نوره. وفي هذا اليوم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه يوم الكبر والهرم والعجز عن العمل. الثاني: أنه يوم حضور المنية والمعاينة. الثالث: أنه يوم القيامة. {ويُدْعَون إلى السجودِ فلا يستطيعون} فمن قال في هذا اليوم إنه يوم القيامة جعل الأمر بهذا السجود على وجه التكليف. ومن جعله في الدنيا فلهم في الأمر بهذا السجود قولان: أحدهما: أنه تكليف. الثاني: تندم وتوبيخ للعجز عنه، وكان ابن بحر يذهب إلى أن هذا الدعاء إلى السجود إنما كان في وقت الاستطاعة، فلم يستطيعوا بعد العجز أن يستدركوا ما تركوا. {فذرْنِي ومَن يُكذّبُ بهذا الحديث} قال السدي: يعني القرآن. ويحتمل آخر أي بيوم القيامة. {سنستدرجهم مِن حيثُ لا يَعْلمون} فيه خمسة أوجه: أحدها: سنأخذهم على غفلة وهم لا يعرفون، قاله السدي. الثاني: نتبع النعمة السيئة وننسيهم التوبة، قاله الحسن. الثالث: نأخذهم من حيث درجوا ودبوا، قاله ابن بحر. الرابع: هو تدريجهم إلى العذاب بإدنائهم منه قليلاً بعد قليل حتى يلاقيهم من حيث لا يعلمون، لأنهم لو علموا وقت أخذهم بالعذاب ما ارتكبوا المعاصي وأيقنوا بآمالهم. الخامس: ما رواه إبراهيم بن حماد، قال الحسن: كم من مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مغبون بالثناء عيه، وكم من مغرور بالستر عليه. والاستدراج: النقل من حال إلى حال كالتدرج، ومنه قيل درجة وهي منزلة بعد منزلة.
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)} {فاصْبِرْ لحُكمِ ربّك} فيه وجهان: أحدهما: لقضاء ربك. الثاني: لنصر ربك، قاله ابن بحر. {ولا تكُن كصاحِبِ الحُوتِ} قال قتادة: إن اللَّه تعالى يعزي نبيّه ويأمره بالصبر، وأن لا يعجل كما عجل صاحب الحوت وهو يونس بن متى. {إذ نادى وهو مكظوم} أما نداؤه فقوله: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. وفي مكظوم أربعة أوجه: أحدها: مغموم، قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: مكروب، قاله عطاء وأبو مالك، والفرق بينهما أن الغم في القلب، والكرب في الأنفاس. الثالث: محبوس، والكظم الحبس، ومنه قولهم: فلان كظم غيظه أي حبس غضبه، قاله ابن بحر. الرابع: أنه المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس، قاله المبرد. {لولا أن تَدارَكه نِعْمةٌ مِن ربِّه} فيه أربعة أوجه: أحدها: النبوة، قاله الضحاك. الثاني: عبادته التي سلفت، قاله ابن جبير. الثالث: نداؤه لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، قاله ابن زيد. الرابع: أن نعمة اللَّه عليه إخراجه من بطن الحوت، قاله ابن بحر. {لنُبِذَ بالعراء} فيه وجهان: أحدهما: لألقي بالأرض الفضاء، قاله السدي، قال قتادة: بأرض اليمن. الثاني: أنه عراء يوم القيامة وأرض المحشر، قاله ابن جرير. {وهو مذموم} فيه وجهان: أحدهما: بمعنى مليم. الثاني: مذنب، قاله بكر بن عبد الله، ومعناه أن ندعه مذموماً. {وإن يكادُ الذين كَفَروا ليُزْلِقونك بأَبَصارهم} الآية. فيه ستة أوجه: أحدها: معناه ليصرعونك، قاله الكلبي. الثاني: ليرمقونك، قاله قتادة. الثالث: ليزهقونك، قاله ابن عباس، وكان يقرؤها كذلك. الرابع: لينفذونك، قاله مجاهد. الخامس: ليمسونك بأبصارهم من شدة نظرهم إليك، قاله السدي. السادس: ليعتانونك، أي لينظرونك بأعينهم، قاله الفراء. وحكي أنهم قالوا: ما رأينا مثل حجمه ونظروا إليه ليعينوه، أي ليصيبوه بالعين، وقد كانت العرب إذا أراد أحدهم أن يصيب أحداً بعين في نفسه أو ماله تجوّع ثلاثاً ثم يتعرض لنفسه أو ماله فيقول: تاللَّه ما رأيت أقوى منه ولا أشجع ولا أكثر مالاً منه ولا أحسن، فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله، فأنزل اللَّه هذه الآية. {لّما سَمِعوا الذكْرَ} فيه وجهان: أحدهما: محمد. الثاني: القرآن. {وما هو إلا ذِكْرٌ للعالمين} فيه وجهان: أحدهما: شرف للعالمين، كما قال تعالى {وإنه لذكر لك ولقومك} [الزخرف: 44]. الثاني: يذكرهم وعد الجنة ووعيد النار. وفي العالمين وجهان: أحدهما: الجن والإنس، قاله ابن عباس. الثاني: كل أمة من أمم الخلق ممن يُعرف ولا يُعرف.
{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)} قوله تعالى {الحاقّةُ ما الحاقّةُ} فيه قولان: أحدهما: أنه ما حقّ من الوعد والوعيد بحلوله، وهو معنى قول ابن بحر. الثاني: أنه القيامة التي يستحق فيها الوعد والوعيد، قاله الجمهور وفي تسميتها بالحاقة ثلاثة أقاويل: أحدها: ما ذكرنا من استحقاق الوعد والوعيد بالجزاء على الطاعات والمعاصي، وهو معنى قول قتادة ويحيى بن سلام. الثاني: لأن فيها حقائق الأمور، قاله الكلبي. الثالث: لأن حقاً على المؤمن أن يخافها. وقوله «ما الحاقة» تفخيماً لأمرها وتعظيماً لشأنها. {وما أدْراكَ ما الحاقّة} قال يحيى بن سلام: بلغني أن كل شئ في القرآن فيه «وما أدراك» فقد أدراه إياه وعلّمه إياه، وكل شيء قال فيه «وما يدريك» فهو ما لم يعلمه إياه. وفيه وجهان: أحدهما: وما أدراك ما هذا الاسم، لأنه لم يكن في كلامه ولا كلام قومه، قاله الأصم. الثاني: وما أدراك ما يكون في الحاقة. {كذّبَتْ ثمودُ وعادٌ بالقارعةِ} أما ثمود فقوم صالح كانت منازلهم في الحجر فيما بين الشام والحجاز، قاله محمد بن إسحاق: وهو وادي القرى، وكانوا عرباً. وأما عاد فقوم هود، وكانت منازلهم بالأحقاف، والأحقاف الرمل بين عُمان إلى حضرموت واليمن كله، وكانوا عرباً ذوي خَلق وبَسطة، ذكره محمد بن إسحاق. وأما «القارعة» ففيها قولان: أحدهما: أنها قرعت بصوت كالصيحة، وبضرب كالعذاب، ويجوز أن يكون في الدنيا، ويجوز أن يكون في الآخرة. الثاني: أن القارعة هي القيامة كالحاقة، وهما اسمان لما كذبت بها ثمود وعاد. وفي تسميتها بالقارعة قولان: أحدهما: لأنها تقرع بهولها وشدائدها. الثاني: أنها مأخوذة من القرعة في رفع قوم وحط آخرين، قاله المبرد. {فأمّا ثمودُ فأهلِكوا بالطاغية} فيها خمسة أقاويل: أحدها: بالصيحة، قاله قتادة. الثاني: بالصاعقة، قاله الكلبي. الثالث: بالذنوب، قاله مجاهد. الرابع: بطغيانهم، قاله الحسن. الخامس: أن الطاغية عاقر الناقة، قاله ابن زيد. {وأمّا عادٌ فأهْلِكوا بريحٍ صَرْصَرٍ عاتيةٍ} روى مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نُصِرْتُ بالصَّبا وأُهلِكتْ عاد بالدَّبور». فأما صرصر ففيها قولان: أحدهما: أنها الريح الباردة، قاله الضحاك والحسن، مأخوذ من الصر وهو البرد. الثاني: أنها الشديدة الصوت، قاله مجاهد. وأما العاتية ففيها ثلاثة أوجه: أحدها: القاهرة، قاله ابن زيد. الثاني: المجاوزة لحدها. الثالث: التي لا تبقى ولا ترقب. وفي تسميتها عاتية وجهان: أحدهما: لأنها عتت على القوم بلا رحمة ولا رأفة، قاله ابن عباس. الثاني: لأنها عتت على خزانها بإذن اللَّه. {سَخّرها عليهم سَبْعَ ليالٍ وثمانيةَ أيام حُسوماً} اختلف في أولها على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنّ أولها غداة يوم الأحد، قاله السدي. الثاني: غداة يوم الأربعاء، قاله يحيى بن سلام. الثالث: غداة يوم الجمعة، قاله الربيع بن أنس. وفي قوله {حُسُوماً} أربعة تأويلات: أحدها: متتابعات، قاله ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والفراء، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: وكم يحيى بها من فرط عام *** وهذا الدهر مقتبل حسوم. الثاني: مشائيم، قاله عكرمة والربيع. الثالث: أنها حسمت الليالي والأيام حتى استوفتها، لأنها بدأت طلوع الشمس من أول يوم، وانقطعت مع غروب الشمس من آخر يوم، قاله الضحاك. الرابع: لأنها حسمتهم ولم تبق منهم أحداً، قاله ابن زيد، وفي ذلك يقول الشاعر: ومن مؤمن قوم هود *** فأرسل ريحاً دَبوراً عقيماً توالتْ عليهم فكانت حُسوماً *** {فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجازُ نخلٍ خاويةٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: البالية، قاله أبو الطفيل. الثاني: الخالية الأجواف، قاله ابن كامل. الثالث: ساقطة الأبدان، خاوية الأصول، قاله السدي. وفي تشبيههم بالنخل الخاوية ثلاثة أوجه: أحدها: أن أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية، قاله يحيى بن سلام. الثاني: أن الريح كانت تدخل في أجوافهم من الخيشوم، وتخرج من أدبارهم، فصاروا كالنخل الخاوية، حكاه ابن شجرة. الثالث: لأن الريح قطعت رؤوسهم عن أجسادهم، فصاروا بقطعها كالنخل الخاوية. {وجاءَ فرعونُ ومَن قَبْلَهُ} فيه وجهان: أحدهما: ومن معه من قومه وهو تأويل من قرأ «ومن قِبلَهُ» بكسر القاف وفتح الباء. والثاني: ومن تقدمه، وهو تأويل من قرأ «ومن قَبْلَهُ» بفتح القاف وتسكين الباء. {والمؤتفِكاتُ بالخاطئة} في المؤتفكات قولان: أحدهما: أنها المقلوبات بالخسف. الثاني: أنها الأفكات وهي الاسم من الآفكة، أي الكاذبة. والخاطئة: هي ذات الذنوب والخطايا، وفيهم قولان: أحدهما: أنهم قوم لوط. الثاني: قارون وقومه، لأن اللَّه خسف بهم. {فعصَوْا رسولَ ربِّهم} فيه وجهان: أحدهما: فعصوا رسول الله إليهم بالتكذيب. الثاني: فعصوا رسالة اللَّه إليهم بالمخالفة، وقد يعبر عن الرسالة بالرسول، قال الشاعر: لقد كذَبَ الواشون ما بُحْت عندهم *** بسرٍّ ولا أرسلتهم برسول. {فَأَخَذَهُمْ أَخذةً رابيةً} فيه خمسة أوجه: أحدها: شديدة، قاله مجاهد. الثاني: مُهلكة، قاله السدي. الثالث: تربوبهم في عذاب اللَّه أبداً، قاله أبو عمران الجوني. الرابع: مرتفعة، قاله الضحاك. الخامس: رابية للشر، قاله ابن زيد. {إنا لما طَغَى الماءُ حَمَلْناكم في الجاريةِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ظَهَر، رواه ابن أبي نجيح. الثاني: زادَ وكثر، قاله عطاء. الثالث: أنه طغى على خزانه من الملائكة، غضباً لربه فلم يقدروا على حبسه، قاله عليّ رضي الله عنه. قال قتادة: زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعاً. وروي عن ابن عباس أنه قال: ما أرسل من ريح قط إلا بمكيال. وما أنزل الله من قطرة قط إلا بمثقال، إلا يوم نوح وعاد، فإن الماء يوم نوح طغى على خزانه فلم يكن لهم عيله سبيل، ثم قرأ: «إنا لما طغى الماء» الآية. وإن الريح طغت على خزانها يوم عاد فلم يكن لهم عليها سبيل ثم قرأ. «بريح صرصر عاتية سخرها عليهم» الآية. {حملناكم في الجارية} يعني سفينة نوح، سميت بذلك لأنها جارية على الماء. وفي قوله حملناكم وجهان: أحدهما: حملنا آباءكم الذين أنتم من ذريتهم. الثاني: أنهم في ظهور آبائهم المحمولين، فصاروا معهم، وقد قال العباس بن عبد المطلب ما يدل على هذا الوجه وهو قوله في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: من قبلها طِبتَ في الظلال وفي *** مُستودع حيث يُخْصَفُ الورقُ. ثم هبطتَ البلادَ لا بشرٌ *** أنت ولا مُضْغةٌ ولا عَلَقُ. بل نطفةٌ تركب السَّفينَ وقد *** ألجَمَ نَسراً وأهلَه الغرقُ. {لنجْعلهَا لكم تذكِرةً} يعني سفينة نوح جعلها اللَّه لكم تذكرة وعظة لهذه الأمة حتى أدركها أوائلهم في قول قتادة، وقال ابن جريج: كانت ألواحها على الجودي. {وتَعِيَها أُذُنٌ واعِيةٌ} فيه أربعة أوجه: أحدها: سامعة، قاله ابن عباس. الثاني: مؤمنة، قاله ابن جريج. الثالث: حافظة، وهذا قول ابن عباس أيضاً. قال الزجاج: يقال وعيت لما حفظته في نفسك، وأوعيت لما حفظته في غيرك. وروى مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية: «سألت ربي أن يجلعها أُذُنَ عليٍّ» قال مكحول: فكان عليٌّ رضي اللَّه عنه يقول: ما سمعت من رسول الله شيئاً قط نسيته إلا وحفظته. الرابع: [أنالأذن الواعية] أُذن عقلت عن اللَّه وانتفعت بما سمعت من كتاب اللَّه، قاله قتادة.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)} {فيومئذٍ وقَعَتِ الواقعةُ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: القيامة. الثاني: الصيحة. الثالث: أنها الساعة التي يفنى فيها الخلق. {وانْشَقّت السماءُ فهِي يومئذٍ واهيةٌ} في انشقاقها وجهان: أحدهما: أنها فتحت أبوابها، قاله ابن جريج. الثاني: أنها تنشق من المجرة، قاله عليّ رضي الله عنه. وفي قوله «واهية» وجهان: أحدهما: متخرقة، قاله ابن شجرة، مأخوذ من قولهم وَهَى السقاءُ إذا انخرق، ومن أمثالهم: خَلِّ سبيلَ مَنْ وَهَى سِقاؤه *** ومَن هُريق بالفلاةِ ماؤهُ أي من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه. الثاني: ضعيفه، قاله يحيى بن سلام. {والملَكُ على أَرجائها} فيه وجهان: أحدهما: على أرجاء السماء، ولعله قول مجاهد وقتادة. الثاني: على أرجاء الدنيا، قاله سعيد بن جبير. وفي «أرجائها» أربعة أوجه: أحدها: على جوانبها، قاله سعيد بن جبير. الثاني: على نواحيها، قاله الضحاك. الثالث: أبوابها، قاله الحسن. الرابع: ما استدق منها، قاله الربيع بن أنس. ووقوف الملائكة على أرجائها لما يؤمرون به فيهم من جنة أو نار. {ويَحْمِلُ عَرْشَ ربِّك فوقهم يَومئذٍ ثمانيةُ} يعني أن العرش فوق الثمانية وفيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: ثمانية أملاك من الملائكة، قاله العباس بن عبد المطلب. الثاني: ثمانية صفوف من الملائكة، قاله ابن جبير. الثالث: ثمانية أجزاء من تسعة، وهم الكروبيون، قاله ابن عباس، وروى أبو هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «يحمله اليوم أربعة، وهم يوم القيامة ثمانية». وفي قوله {فوقهم} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم يحملون العرش فوق رؤوسهم. الثاني: أن حملة العرش فوق الملائكة الذين على أرجائها. الثالث: أنهم فوق أهل القيامة. {يومئذٍ تُعْرَضونَ} يعني يوم القيامة، روى الحسن عن أبي موسى قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، أما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف من الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» {لا تَخْفَى منكم خافيةٌ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لا يخفى المؤمن من الكافر، ولا البر من الفاجر، قاله عبد اللَّه بن عمرو بن العاص. الثاني: لا تستتر منكم عورة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس حفاة عراة» الثالث: أن خافية بمعنى خفيّة كانوا يخفونها من أعمالهم حكاه ابن شجرة.
|