الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{والفجر، وليال عشر} قوله تعالى{والفجر} أقسم بالفجر. {وليال عشر. والشفع والوتر. والليل إذا يسر} أقسام خمسة. واختلف في {الفجر}، فقال قوم: الفجر هنا: انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم؛ قاله علي وابن الزبير وابن عباس رضي اللّه عنهم. وعن ابن عباس أيضا أنه النهار كله، وعبر عنه بالفجر لأنه أوله. وقال ابن محيصن عن عطية عن ابن عباس: يعني الفجر يوم المحرم. ومثله قال قتادة. قال: هو فجر أول يوم من المحرم، منه تنفجر السنة. وعنه أيضا: صلاة الصبح. وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال{والفجر}: يريد صبيحة يوم النحر؛ لأن اللّه تعالى جل ثناؤه جعل لكل يوم ليلة قبله؛ إلا يوم النحر لم يجعل له ليلة قبله ولا ليلة بعده؛ لأن يوم عرفة له ليلتان: ليلة قبله وليلة بعده، فمن أدرك الموقف ليلة بعد عرفة، فقد أدرك الحج إلى طلوع الفجر، فجر يوم النحر. وهذا قول مجاهد. وقال عكرمة{والفجر} قال: انشقاق الفجر من يوم جمع. وعن محمد بن كعب القرظي{والفجر} آخر أيام العشر، إذا دفعت من جمع. وقال الضحاك: فجر ذي الحجة، لأن اللّه تعالى قرن الأيام به فقال{وليال عشر} أي ليال عشر من ذي الحجة. وكذا قال مجاهد والسدي والكلبي في قوله{وليال عشر} هو عشر ذي الحجة، وقال ابن عباس. وقال مسروق هي العشر التي ذكرها اللّه في قصة موسى عليه السلام {والشفع والوتر} الشفع: الاثنان، والوتر: الفرد. واختلف في ذلك؛ فروي مرفوعا وقد يقسم اللّه تعالى بأسمائه وصفاته لعلمه، ويقسم بأفعاله لقدرته، كما قال تعالى {والليل إذا يسر، هل في ذلك قسم لذي حجر} قوله تعالى{والليل إذا يسر} وهذا قسم خامس. وبعد ما أقسم بالليالي العشر على الخصوص، أقسم بالليل على العموم. ومعنى {يسري} أي يسرى فيه؛ كما يقال: ليل نائم، ونهار صائم. قال: ومنه قوله تعالى قلت: وهو الأظهر، كما تقدم. واللّه أعلم. وقرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب {يسري} بإثبات الياء في الحالين، على الأصل؛ لأنها ليست بمجزومة، فثبتت فيها الياء. وقرأ نافع وأبو عمرو بإثباتها في الوصل، وبحذفها في الوقف، وروي عن الكسائي. قال أبو عبيد: كان الكسائي يقول مرة بإثبات الياء في الوصل، وبحذفها في الوقف، اتباعا للمصحف. ثم رجع إلى حذف الياء في الحالين جميعا؛ لأنه رأس آية، وهي قراءة أهل الشام والكوفة، واختيار أبي عبيد، اتباعا للخط؛ لأنها وقعت في المصحف بغير ياء. قال الخليل: تسقط الياء منها اتفاقا لرؤوس الآي. قال الفراء: قد تحذف العرب الياء، وتكتفي بكسر ما قبلها. وأنشد بعضهم: يقال: فلان ما يليق درهما من جوده؛ أي ما يمسكه، ولا يلصق به. وقال المؤرج: سألت الأخفش عن العلة في إسقاط الياء من {يسر} فقال: لا أجيبك حتى تبيت على باب داري سنة، فبت على باب داره سنة؛ فقال: الليل لا يَسْرِي وإنما يَسْرَى فيه؛ فهو مصروف، وكل ما صرفته عن جهته بخسته من إعرابه؛ ألا ترى إلى قوله تعالى قوله تعالى{لذي حجر} أي لذي لب وعقل. قال الشاعر: كذا قال عامة المفسرين؛ إلا أن أبا مالك قال{لذي حجر}: لذي ستر من الناس. وقال الحسن: لذي حلم. قال الفراء: الكل يرجع إلى معنى واحد: لذي حجر، ولذي عقل، ولذي حلم، ولذي ستر؛ الكل بمعنى العقل. وأصل الحجر: المنع. يقال لمن ملك نفسه ومنعها: إنه لذو حجر؛ ومنه سمي الحجر، لامتناعه بصلابته: ومنه حجر الحاكم على فلان، أي منعه وضبطه عن التصرف؛ ولذلك سميت الحجرة حجرة، لامتناع ما فيها بها. وقال الفراء: العرب تقول: إنه لذو حجر: إذا كان قاهرا لنفسه، ضابطا لها؛ كأنه أخذ من حجرت على الرجل. {ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد} قوله تعالى{ألم تر كيف فعل ربك} أي مالكك وخالقك. {بعاد} قراءة العامة {بعادٍ} منونا. وقرأ الحسن وأبو العالية {بعاد إرم} مضافا. فمن لم يضف جعل {إرم} اسمه، ولم يصرفه؛ لأنه جعل عادا اسم أبيهم، وإرم اسم القبيلة؛ وجعله بدلا منه، أو عطف بيان. ومن قرأه بالإضافة ولم يصرفه جعله اسم أمهم، أو اسم بلدتهم. وتقديره: بعاد أهل إرم. كقوله و{إرم} قيل هو سام بن نوح؛ قاله ابن إسحاق. وروى عطاء عن ابن عباس - وحكى عن ابن إسحاق أيضا - قال: عاد بن إرم. فإرم على هذا أبو عاد، وعاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح. وعلى القول الأول: هو اسم جد عاد. قال ابن إسحاق: كان سام بن نوح له أولاد، إرم بن سام، وأرفخشذ بن سام. فمن ولد إرم بن سام العمالقة والفراعنة والجبابرة والملوك الطغاة والعصاة. وقال مجاهد{إرم} أمة من الأمم. وعنه أيضا: أن معنى إرم: القديمة، ورواه ابن أبي نجيح. وعن مجاهد أيضا أن معناها القوية. وقال قتادة: هي قبيلة من عاد. وقيل: هما عادان. فالأولى هي إرم؛ قال اللّه عز وجل وقال معمر{إرم}: إليه مجمع عاد وثمود. وكان يقال: عاد إرم، وعاد ثمود. وكانت القبائل تنتسب إلى إرم. {ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد} قال ابن عباس في رواية عطاء: كان الرجل منهم طوله خمسمائة ذراع، والقصير منهم طول ثلثمائة ذراع بذراع نفسه. وروي عن ابن عباس أيضا أن طول الرجل منهم كان سبعين ذراعا. ابن العربي: وهو باطل؛ لأن في الصحيح: والواحدة عمادة. وفلان طويل العماد: إذا كان منزل معلما لزائره. والأحفاض: جمع حفض - بالتحريك - وهو متاع البيت إذا هيئ ليحمل؛ أي خرت على المتاع. ويروى؛ عن الأحفاض أي خرت عن الإبل التي تحمل خرثي البيت. وقال الضحاك{ذات العماد} ذات القوة والشدة، مأخوذ من قوة الأعمدة؛ دليله قوله تعالى {التي لم يخلق مثلها في البلاد} قوله تعالى{التي لم يخلق مثلها في البلاد} الضمير في {مثلها} يرجع إلى القبيلة. أي لم يخلق مثل القبيلة في البلاد: قوة وشدة، وعظم أجساد، وطول قامة؛ عن الحسن وغيره. وفي حرف عبدالله {التي لم يخلق مثلهم في البلاد}. وقيل: يرجع للمدينة. والأول أظهر، وعليه الأكثر، حسب ما ذكرناه. ومن جعل {إرم} مدينة قدر حذفا؛ المعنى: كيف فعل ربك بمدينة عاد إرم، أو بعد صاحبه إرم. وإرم على هذا: مؤنثة معرفة. واختار ابن العربي أنها دمشق، لأنه ليس في البلاد مثلها. ثم أخذ ينعتها بكثرة مياهها وخيراتها. ثم قال: وإن في الإسكندرية لعجائب، لو لم يكن إلا المنارة، فإنها مبنية الظاهر والباطن على العمد، ولكن لها أمثال، فأما دمشق فلا مثل لها. وقد روى معن عن مالك أن كتابا وجد بالإسكندرية، فلم يدر ما هو؟ فإذا فيه: أنا شداد بن عاد، الذي رفع العماد، بنيتها حين لا شيب ولا موت. قال مالك: إن كان لتمر بهم مائة سنة لا يرون فيها جنازة. وذكر عن ثور بن زيد أنه قال: أنا شداد بن عاد، وأنا رفعت العماد، وأنا الذي شددت بذراعي بطن الواد، وأنا الذي كنزت كنزا على سبعة أذرع، لا يخرجه إلا أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم. وروي أنه كان لعاد ابنان: شداد وشديد؛ فملكا وقهرا، ثم مات شديد، وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا، ودانت له ملوكها؛ فسمع بذكر الجنة، فقال: أبني مثلها. فبنى إرم في بعض صحاري عدن، في ثلثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة. وهي مدينة عظيمة، قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة. ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة، بعث اللّه عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبداللّه بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له، فوقع عليها، فحمل ما قدر عليه مما ثم، وبلغ خبره معاوية فاستحضره، فقص عليه، فبعث إلى كعب فسأله، فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك، أحمر أشقر قصير، على حاجبه خال، وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له؛ ثم التفت فأبصر ابن قلابة، وقال: هذا واللّه ذلك الرجل. وقيل: أي لم يخلق مثل أبنية عاد المعروفة بالعمد. فالكناية للعماد. والعماد على هذا: جمع عمد. وقيل: الإرم: الهلاك؛ يقال: أرم بنو فلان: أي هلكوا؛ وقال ابن عباس. وقرأ الضحاك{أرم ذات العماد}؛ أي أهلكهم، فجعلهم رميما. {وثمود الذين جابوا الصخر بالواد} ثمود: هم قوم صالح. و{جابوا}: قطعوا. ومنه: فلان يجوب البلاد، أي يقطعها. وإنما سمي جيب القميص لأنه جيب؛ أي قطع. قال الشاعر وكان قد نزل على ابن الزبير بمكة، فكتب له بستين وسقا يأخذها بالكوفة. فقال: راحت بستين وسقا في حقيبتها ما حملت حملها الأدنى ولا السددا
ما إن رأيت قلوصا قبلها حملت ستين وسقا ولا جابت به بلدا أي قطعت. قال المفسرون: أول من نحت الجبال والصور والرخام: ثمود. فبنوا من المدائن ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة. ومن الدور والمنازل ألفي ألف وسبعمائة ألف، كلها من الحجارة. وقد قال تعالى {وفرعون ذي الأوتاد} أي الجنود والعساكر والجموع والجيوش التي تشد ملكه؛ قاله ابن عباس. وقيل: كان يعذب الناس بالأوتاد، ويشدهم بها إلى أن يموتوا؛ تجبرا منه وعتوا. وهكذا فعل بامرأته آسية وماشطة ابنته؛ حسب ما تقدم في آخر سورة التحريم . وقال عبدالرحمن بن زيد: كانت له صخرة ترفع بالبكرات، ثم يؤخذ الإنسان فتوتد له أوتاد الحديد، ثم يرسل تلك الصخرة عليه فتشدخه. وقد مضى في سورة ص من ذكر أوتاده ما فيه كفاية. والحمد لله. {الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب} قوله تعالى{الذين طغوا في البلاد} يعني عادا وثمودا وفرعون {طغوا} أي تمردوا وعتوا وتجاوزوا القدر في الظلم والعدوان. {فأكثروا فيها الفساد} أي الجور والأذى. و{الذين طغوا} أحسن الوجوه فيه أن يكون في محل النصب على الذم. ويجوز أن يكون مرفوعا على: هم الذين طغوا، أو مجرورا على وصف المذكورين: عاد، وثمود، وفرعون. {فصب عليهم ربك} أي أفرغ عليهم وألقى؛ يقال: صب على فلان خلعة، أي ألقاها عليه. وقال النابغة: {سوط عذاب} أي نصيب عذاب. ويقال: شدته؛ لأن السوط كان عندهم نهاية ما يعذب به. قال الشاعر: وقال الفراء: وهي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب. وأصل ذلك أن السوط هو عذابهم الذي يعذبون به، فجرى لكل عذاب؛ إذ كان فيه عندهم غاية العذاب. وقيل: معناه عذاب يخالط اللحم والدم؛ من قولهم: ساطه يسوطه سوطا أي خلطه، فهو سائط. فالسوط: خلط الشيء بعضه ببعض؛ ومنه سمي المسواط. وساطه أي خلطه، فهو سائط، وأكثر ذلك يقال: سوط فلان أموره. قال: قال أبو زيد: يقال أموالهم سويطة بينهم؛ أي مختلطة. حكاه عنه يعقوب. وقال الزجاج: أي جعل سوطهم الذي ضربهم به العذاب. يقال: ساط دابته يسوطها؛ أي ضربها بسوطه. وعن عمرو بن عبيد: كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال: إن عند اللّه أسواطا كثيرة، فأخذهم بسوط منها. وقال قتادة: كل شيء عذب اللّه تعالى به فهو سوط عذاب. {إن ربك لبالمرصاد} أي يرصد عمل كل إنسان حتى يجازيه به؛ قال الحسن وعكرمة. وقيل: أي على طريق العباد لا يفوته أحد. والمرصد والمرصاد: الطريق. وقد مضى في سورة التوبة والحمد لله. فروى الضحاك عن ابن عباس قال: إن على جهنم سبع قناطر، يُسأل الإنسان عند أول قنطرة عن الإيمان، فإن جاء به تاما جاز إلى القنطرة الثانية، ثم يُسأل عن الصلاة، فان جاء بها جاز إلى الثالثة، ثم يُسأل عن الزكاة، فإن جاء بها جاز إلى الرابعة. ثم يُسأل عن صيام شهر رمضان، فإن جاء به جاز إلى الخامسة. ثم يُسأل عن الحج والعمرة، فإن جاء بهما جاز إلى السادسة. ثم يُسأل عن صلة الرحم، فإن جاء بها جاز إلى السابعة. ثم يُسأل عن المظالم، وينادي مناد: ألا من كانت له مظلمة فليأت؛ فيقتص للناس منه، يقتص له من الناس؛ فذلك قوله عز وجل{إن ربك لبالمرصاد}. وقال الثوري{لبالمرصاد} يعني جهنم؛ عليها ثلاث قناطر: قنطرة فيها الرحم، وقنطرة فيها الأمانة، وقنطرة فيها الرب تبارك وتعالى. قلت: أي حكمته وإرادته وأمره. واللّه أعلم. وعن ابن عباس، أيضا {لبالمرصاد} أي يسمع ويرى. قلت: هذا قول حسن؛ {يسمع} أقوالهم ونجواهم، و{يرى} أي يعلم أعمالهم وأسرارهم، فيجازي كلا بعمله. وعن بعض العرب أنه قيل له: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد. وعن عمرو بن عبيد أنه قرأ هذه السورة عند المنصور حتى بلغ هذه الآية، فقال{إن ربك لبالمرصاد} يا أبا جعفر قال الزمخشري: عرض له في هذا النداء، بأنه بعض من توعد بذلك من الجبابرة؛ فلله دره. أي أسد فراس كان بين يديه؟ يدق الظلمة بإنكاره، ويقمع أهل الأهواء والبدع باحتجاجه {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن} قوله تعالى{فأما الإنسان} يعني الكافر. قال ابن عباس: يريد عتبة بن ربيعة وأبا حذيفة بن المغيرة. وقيل: أمية بن خلف. وقيل: أبي بن خلف. {إذا ما ابتلاه ربه} أي امتحنه واختبره بالنعمة. و{ما}: زائدة صلة. {فأكرمه} بالمال. {ونعمه} بما أوسع عليه. {فيقول ربي أكرمني} فيفرح بذلك ولا يحمده. {وأما إذا ما ابتلاه} أي امتحنه بالفقر واختبره. {فقدر} أي ضيق {عليه رزقه} على مقدار البُلغة. {فيقول ربي أهانني} أي أولاني هوانا. وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث: وإنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقلته. فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه اللّه بطاعته وتوفيقه، المؤدي إلى حظ الآخرة، وإن وسع عليه في الدنيا حمده وشكره. قلت: الآيتان صفة كل كافر. وكثير من المسلمين يظن أن ما أعطاه اللّه لكرامته وفضيلته عند اللّه، وربما يقول بجهله: لو لم أستحق هذا لم يعطينه اللّه. وكذا إن قتر عليه يظن أن ذلك لهوانه على اللّه. وقراءة العامة {فقدر} مخففة الدال. وقرأ ابن عامر مشددا، وهما لغتان. والاختيار التخفيف؛ لقوله {كلا بل لا تكرمون اليتيم، ولا تحاضون على طعام المسكين، وتأكلون التراث أكلا لما، وتحبون المال حبا جما} قوله تعالى{كلا} ردّ، أي ليس الأمر كما يُظَن، فليس الغنى لفضله، ولا الفقر لهوانه، وإنما الفقر والغنى من تقديري وقضائي. وقال الفراء{كلا} في هذا الموضع بمعنى لم يكن ينبغي للعبد أن يكون هكذا، ولكن يحمد اللّه عز وجل على الغنى والفقر. وفي الحديث: (يقول اللّه عز وجل: كلا إني لا أكرم من أكرمت بكثرة الدنيا، ولا أهين من أهنت بقلتها، إنما أكرم من أكرمت بطاعتي، وأهين من أهنت بمعصيتي). {بل لا تكرمون اليتيم} إخبار عن ما كانوا يصنعونه من منع اليتيم الميراث، وأكل ماله إسرافا وبدارا أن يكبروا. وقرأ أبو عمرو ويعقوب {يكرمون}، و{يحضون} و{يأكلون}، و{يحبون} بالياء، لأنه تقدم ذكر الإنسان، والمراد به الجنس، فعبر عنه بلفظ الجمع. الباقون بالتاء في الأربعة، على الخطاب والمواجهة؛ كأنه قال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا. وترك إكرام اليتيم بدفعه عن حقه، وأكل ماله كما ذكرنا. قال مقاتل: نزلت في قدامة بن مظعون وكان يتيما في حجر أمية بن خلف. قوله تعالى{ولا تحاضون على طعام المسكين} أي لا يأمرون أهليهم بإطعام مسكين يجيئهم. وقرأ الكوفيون {ولا تحاضون} بفتح التاء والحاء والألف. أي يحض بعضهم بعضا. وأصله تتحاضون، فحذف إحدى التاءين لدلالة الكلام عليها. وهو اختيار أبي عبيد. وروي عن إبراهيم والشيزري عن الكسائي والسلمي {تحاضون} بضم التاء، وهو تفاعلون من الحض، وهو الحث. {وتأكلون التراث} أي ميراث اليتامى. وأصله الوراث من ورثت، فأبدلوا الواو تاء؛ كما قالوا في تجاه وتخمة وتكأة وتودة ونحو ذلك. وقد تقدم. {أكلا لما} أي شديدا؛ قاله السدي. قيل {لما}: جمعا؛ من قولهم: لممت الطعام لما إذا أكلته جمعا؛ قاله الحسن وأبو عبيدة. وأصل اللم في كلام العرب: الجمع؛ يقال: لممت الشيء ألمه لما: إذا جمعته، ومنه يقال: لم اللّه شعثه، أي جمع ما تفرق من أموره. قال النابغة: ومنه قولهم: إن دارك لَمُومَة، أي تلم الناس وتربهم وتجمعهم. وقال المرناق الطائي يمدح علقمة ابن سيف: وقال الليث: اللم الجمع الشديد؛ ومنه حجر ملموم، وكتيبة ملمومة. فالآكل يلم الثريد، فيجمعه لقما ثم يأكله. وقال مجاهد: يسفه سفا : وقال الحسن: يأكل نصيبه ونصيب غيره. قال الحطيئة: يعني أنهم يجمعون في أكلهم بين نصيبهم ونصيب غيرهم. وقال ابن زيد: هو أنه إذا أكل ماله ألم بمال غيره فأكله، ولا يفكر: أكل من خبيث أو طيب. قال: وكان أهل الشرك لا يورثون النساء ولا الصبيان، بل يأكلون ميراثهم مع ميراثهم، وتراثهم مع تراثهم. وقيل: يأكلون ما جمعه الميت من الظلم وهو عالم بذلك، فيَلُمُ في الأكل بين حرامه وحلاله. ويجوز أن يذم الوارث الذي ظفر بالمال سهلا، مهلا، من غير أن يعرق فيه جبينه، فيسرف في إنفاقه، ويأكله أكلا واسعا، جامعا بين المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه، كما يفعل الوراث البطالون. قوله تعالى{وتحبون المال حبا جما} أي كثيرا، حلاله وحرامه. والجم الكثير. يقال: جم الشيء يجم جموما، فهو جم وجام. ومنه جم الماء في الحوض: إذا اجتمع وكثر. وقال الشاعر: والجمة: المكان الذي يجتمع فيه ماؤه. والجموم: البئر الكثيرة الماء. والجمُومُ: المصدر؛ يقال: جم الماء يجم جموما: إذا كثر في البئر واجتمع، بعد ما استقي ما فيها. {كلا إذا دكت الأرض دكا دكا} قوله تعالى{كلا} أي ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر. فهو رد لانكبابهم على الدنيا، وجمعهم لها؛ فإن من فعل ذلك يندم يوم تدك الأرض، ولا ينفع الندم. والدك: الكسر والدق؛ وقد تقدم. أي زلزلت الأرض، وحركت تحريكا بعد تحريك. وقال الزجاج: أي زلزلت فدك بعضها بعضا. وقال المبرد: أي ألصقت وذهب ارتفاعها. يقال ناقة دكاء، أي لا سنام لها، والجمع دُكٌ. وقد مضى في سورة الأعراف و الحاقة القول في هذا. ويقولون: دك الشيء أي هدم. قال: {دكا دكا} أي مرة بعد مرة؛ زلزلت فكسر بعضها بعضا؛ فتكسر كل شيء على ظهرها. وقيل: دكت جبالها وأنشازها حتى استوت. وقيل: دكت أي استوت في الانفراش؛ فذهب دورها وقصورها وجبالها وسائر أبنيتها. ومنه سمي الدكان، لاستوائه في الانفراش. والدك: حط المرتفع من الأرض بالبسط، وهو معنى قول ابن مسعود وابن عباس: تمد الأرض مد الأديم. {وجاء ربك والملك صفا صفا، وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى} قوله تعالى{وجاء ربك} أي أمره وقضاؤه؛ قاله الحسن. وهو من باب حذف المضاف. وقيل: أي جاءهم الرب بالآيات العظيمة؛ وهو كقوله تعالى قوله تعالى{والملك} أي الملائكة. {صفا صفا} أي صفوفا.{وجيء يومئذ بجهنم} قال ابن مسعود ومقاتل: تقاد جهنم بسبعين ألف زمام، كل زمام بيد سبعين ألف ملك، لها تغيظ وزفير، حتى تنصب عن يسار العرش. و قوله تعالى{يومئذ يتذكر الإنسان} أي يتعظ ويتوب. وهو الكافر، أو من همته معظم الدنيا. {وأنى له الذكرى} أي ومن أين له الاتعاظ والتوبة وقد فرط فيها في الدنيا. ويقال: أي ومن أين له منفعة الذكرى. فلا بد من تقدير حذف المضاف، وإلا فبين {يومئذ يتذكر} وبين {وأنى له الذكرى} تناف، قاله الزمخشري. {يقول يا ليتني قدمت لحياتي} أي في حياتي. فاللام بمعنى في. وقيل: أي قدمت عملا صالحا لحياتي، أي لحياةٍ لا موت فيها. وقيل: حياة أهل النار ليست هنيئة، فكأنهم لا حياة لهم؛ فالمعنى: يا ليتني قدمت من الخير لنجاتي من النار، فأكون فيمن له حياة هنيئة. {فيومئذ لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد} قوله تعالى{فيومئذ لا يعذب عذابه أحد} أي لا يعذب كعذاب اللّه أحد، ولا يوثق كوثاقه أحد. والكناية ترجع إلى اللّه تعالى. وهو قول ابن عباس والحسن. وقرأ الكسائي {لا يعذب} {ولا يوثق} بفتح الذال والثاء، أي لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب اللّه الكافر يومئذ، ولا يوثق كما يوثق الكافر. والمراد إبليس؛ لأن الدليل قام على أنه أشد الناس عذابا، لأجل إجرامه؛ فأطلق الكلام لأجل ما صحبه من التفسير. وقيل: إنه أمية بن خلف؛ حكاه الفراء. يعني أنه لا يعذب كعذاب هذا الكافر المعين أحد، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال كوثاقه أحد؛ لتناهيه في كفره وعناده. وقيل: أي لا يعذب مكانه أحد، فلا يؤخذ منه فداء. والعذاب بمعنى التعذيب، والوثاق بمعنى الإيثاق. ومنه قول الشاعر: وقيل: لا يعذب أحد ليس بكافر عذاب الكافر. واختار أبو عبيد وأبو حاتم فتح الذال والثاء. وتكون الهاء ضمير الكافر؛ لأن ذلك معروف: أنه لا يعذب أحد كعذاب اللّه. وقد روى أبو قلابة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قرأ بفتح الذال والثاء. وروي أن أبا عمرو رجع إلى قراءة النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقال أبو علي: يجوز أن يكون الضمير للكافر على قراءه الجماعة؛ أي لا يعذب أحد أحدا مثل تعذيب هذا الكافر؛ فتكون الهاء للكافر. والمراد بـ{أحد} الملائكة الذين يتولون تعذيب أهل النار. {يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي، وادخلي جنتي} قوله تعالى{يا أيتها النفس المطمئنة} لما ذكر حال من كانت همته الدنيا فاتهم اللّه في إغنائه، وإفقاره، ذكر حال من اطمأنت نفسه إلى اللّه تعالى. فسلم لأمره، واتكل عليه. وقيل: هو من قول الملائكة لأولياء اللّه عز وجل. والنفس المطمئنة{ الساكنة الموقنة؛ أيقنت أن اللّه ربها، فأخبتت لذلك؛ قال مجاهد وغيره. وقال ابن عباس: أي المطمئنة بثواب اللّه. وعنه المؤمنة. وقال الحسن: المؤمنة الموقنة. وعن مجاهد أيضا: الراضية بقضاء اللّه، التي علمت أن ما أخطأها لم يكن ليصيبها، وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها. وقال مقاتل: الآمنة من عذاب اللّه. وفي حرف أُبي بن كعب {يأيتها النفس الآمنة المطمئنة}. وقيل: التي عملت على يقين بما وعد اللّه في كتابه. وقال ابن كيسان: المطمئنة هنا: المخلصة. وقال ابن عطاء: العارفة التي لا تصبر عنه طرفة عين. وقيل: المطمئنة بذكر اللّه تعالى؛ بيانه قوله تعالى{ارجعي إلى ربك} أي إلى صاحبك وجسدك؛ قال ابن عباس وعكرمة وعطاء. واختاره الطبري؛ ودليله قراءة ابن عباس {فادخلي في عبدي} على التوحيد، فيأمر اللّه تعالى الأرواح غدا أن ترجع إلى الأجساد. وقرأ ابن مسعود {في جسد عبدي}. وقال الحسن: ارجعي إلى ثواب ربك وكرامته. وقال أبو صالح: المعنى: ارجعي إلى اللّه. وهذا عند الموت. {فادخلي في عبادي} أي في أجساد عبادي؛ دليله قراءة ابن عباس وابن مسعود. قال ابن عباس: هذا يوم القيامة؛ وقال الضحاك. والجمهور على أن الجنة هي دار الخلود التي هي مسكن الأبرار، ودار الصالحين والأخيار. ومعنى {في عبادي} أي في الصالحين من عبادي؛ كما قال
|