الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{والتين والزيتون} قوله تعالى{والتين والزيتون} قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي: هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت؛ قال اللّه تعالى{وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين}المؤمنون: 20]. و وروي عن ابن عباس أيضا: التين: مسجد نوح عليه السلام الذي بني على الجودي، والزيتون: مسجد بيت المقدس. وقال الضحاك: التين: المسجد الحرام، والزيتون المسجد الأقصى. ابن زيد: التين: مسجد دمشق، والزيتون: مسجد بيت المقدس. قتادة: التين: الجبل الذي عليه دمشق: والزيتون: الجبل الذي عليه بيت المقدس. وقال محمد بن كعب: التين: مسجد أصحاب الكهف، والزيتون: مسجد إيلياء. وقال كعب الأخبار وقتادة أيضا وعكرمة وابن زيد: التين: دمشق، والزيتون: بيت المقدس. وهذا اختيار الطبري. وقال الفراء: سمعت رجلا من أهل الشام يقول: التين: جبال ما بين حلوان إلى همذان، والزيتون: جبال الشام. وقيل: هما جبلان بالشام، يقال لهما طور زيتا وطور تينا بالسريانية سميا بذلك لأنهما ينبتانهما. وكذا روى أبو مكين عن عكرمة، قال: التين والزيتون: جبلان بالشام. وقال النابغة: وهذا اسم موضع. ويجوز أن يكون ذلك على حذف مضاف؛ أي ومنابت التين والزيتون. ولكن لا دليل على ذلك من ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوز خلافه؛ قاله النحاس. وأصح هذه الأقوال الأول؛ لأنه الحقيقة، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل. وإنما أقسم اللّه بالتين، لأنه كان ستر آدم في الجنة؛ لقوله تعالى{يخصفان عليهما من ورق الجنة}الأعراف: 22] وكان ورق التين. وقيل: أقسم به ليبين وجه المنة العظمى فيه؛ فإنه جميل المنظر، طيب المخبر، نشر الرائحة، سهل الجني، على قدر المضغة. وقد أحسن القائل فيه: كأنه رب نعمة سلبت فعاد بعد الجديد في الخلق
أصغر ما في النهود أكبره لكن ينادى عليه في الطرق وقال آخر: مخمش الوجه قد سالت حلاوته كأنه راكع من خشية الله وأقسم بالزيتون لأنه مثل به إبراهيم في قوله تعالى قال ابن العربي ولامتنان البارئ سبحانه، وتعظيم المنة في التين، وأنه مقتات مدخر فلذلك قلنا بوجوب الزكاة فيه. وإنما فرّ كثير من العلماء من التصريح بوجوب الزكاة فيه، تقية جور الولاة؛ فإنهم يتحاملون في الأموال الزكاتية، فيأخذونها مغرما، حسب ما أنذر به الصادق صلى اللّه عليه وسلم. فكره العلماء أن يجعلوا لهم سبيلا إلى مال آخر يتشططون فيه، ولكن ينبغي للمرء أن يخرج عن نعمة ربه، بأداء حقه. وقد قال الشافعي لهذه العلة وغيرها: لا زكاة في الزيتون. والصحيح وجوب الزكاة فيهما. {وطور سينين} روى ابن أبي نجيح عن مجاهد {طور} قال: جبل. {سينين} قال: مبارك بالسريانية. وعن عكرمة عن ابن عباس قال{طور} جبل، و{سينين، حسن. وقال قتادة: سينين هو المبارك الحسن. وعن عكرمة قال: الجبل الذي نادى اللّه جل ثناؤه منه موسى عليه السلام. وقال مقاتل والكلبي{سينين} كل جبل فيه شجر مثمر، فهو سينين وسيناء؛ بلغة النبط وعن عمرو بن ميمون قال: صليت مع عمر بن الخطاب العشاء بمكة، فقرأ {والتين والزيتون. وطور سيناء. وهذا البلد الأمين} قال: وهكذا هي في قراءة عبدالله؛ ورفع صوته تعظيما للبيت. وقرأ في الركعة الثانية {وهذا البلد الأمين} يعني مكة. سماه أمينا لأنه آمن؛ كما قال يعني: آمني. وبهذا احتج من قال: إنه أراد بالتين دمشق، وبالزيتون بيت المقدس. فأقسم اللّه بجبل دمشق، لأنه مأوى عيسى عليه السلام، وبجبل بيت المقدس، لأنه مقام الأنبياء عليهم السلام، وبمكة لأنها أثر إبراهيم ودار محمد صلى اللّه عليه وسلم. {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين} قوله تعالى{لقد خلقنا الإنسان} هذا جواب القسم، وأراد بالإنسان: الكافر. قيل: هو الوليد بن المغيرة. وقيل: كلدة بن أسيد. فعلى هذا نزلت في منكري البعث. وقيل: المراد بالإنسان آدم وذريته. {في أحسن تقويم} وهو اعتداله واستواء شبابه؛ كذا قال عامة المفسرين. وهو أحسن ما يكون؛ لأنه خلق كل شيء منكبا عل وجهه، وخلقه هو مستويا، وله لسان ذلق، ويد وأصابع يقبض بها. وقال أبو بكر بن طاهر: مُزيناً بالعقل، مُؤدياً للأمر، مَهدياً بالتمييز، مديد القامة؛ يتناول مأكوله بيده. ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن اللّه خلقه حيا عالما، قادرا مريدا متكلما، سميعا بصيرا، مدبرا حكيما. وهذه صفات الرب سبحانه، وعنها عبر بعض العلماء، ووقع البيان بقوله: فهذا يدلك على أن الإنسان أحسن خلق اللّه باطنا وظاهرا، جمال هيئة، وبديع تركيب الرأس بما فيه، والصدر بما جمعه، والبطن بما حواه، والفرج وما طواه، واليدان وما بطشتاه، والرجلان وما احتملتاه. ولذلك قالت الفلاسفة: إنه العالم الأصغر؛ إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه. قوله تعالى{ثم رددناه أسفل سافلين} أي إلى أرذل العمر، وهو الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة، حتى يصير كالصبي في الحال الأول؛ قاله الضحاك والكلبي وغيرهما. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد{ثم رددناه أسفل سافلين} إلى النار، يعني الكافر، وقال أبو العالية. وقيل: لما وصفه اللّه بتلك الصفات الجليلة التي ركب الإنسان عليها، طغى وعلا، حتى قال {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون} قوله تعالى{إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فإنه تكتب لهم حسناتهم، وتمحى عنهم سيئاتهم؛ قاله ابن عباس. قال: وهم الذين أدركهم الكبر، لا يؤاخذون بما عملوه في كبرهم. وروى الضحاك عنه قال: إذا كان العبد في شبابه كثير الصلاة كثير الصيام والصدقة، ثم ضعف عما كان يعمل في شبابه؛ أجرى اللّه عز وجل له ما كان يعمل في شبابه. وفي حديث قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {فما يكذبك بعد بالدين} قيل: الخطاب للكافر؛ توبيخا وإلزاما للحجة. أي إذا عرفت أيها الإنسان أن اللّه خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردك إلى أرذل العمر، وينقلك من حال إلى حال؛ فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء، وقد أخبرك محمد صلى اللّه عليه وسلم به؟ وقيل: الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم؛ أي استيقن مع ما جاءك من اللّه عز وجل، أنه أحكم الحاكمين. روي معناه عن قتادة. وقال قتادة أيضا والفراء: المعنى فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا البيان بالدين. واختاره الطبري. كأنه قال: فمن يقدر على ذلك؛ أي على تكذيبك بالثواب والعقاب، بعد ما ظهر من قدرتنا على خلق الإنسان والدين والجزاء. قال الشاعر: {أليس الله بأحكم الحاكمين} أي أتقن الحاكمين صنعا في كل ما خلق. وقيل{بأحكم الحاكمين} قضاء بالحق، وعدلا بين الخلق. وفيه تقدير لمن اعترف من الكفار بصانع قديم. وألف الاستفهام إذا دخلت عل النفي وفي الكلام معنى التوقيف صار إيجابا، كما قال: وقيل{فما يكذبك بعد بالدين. أليس اللّه بأحكم الحاكمين}: منسوخة بآية السيف. وقيل: هي ثابتة؛ لأنه لا تنافي بينهما. وكان ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنهما إذا قرأ{أليس اللّه بأحكم الحاكمين} قالا: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين؛ فيختار ذلك. واللّه أعلم. ورواه الترمذي عن أبي هريرة قال: من قرأ سورة {والتين والزيتون} فقرأ {أليس اللّه بأحكم الحاكمين} فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. واللّه أعلم
|