الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
سورة يونس عليه السلام مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس إلا ثلاث آيات من قوله تعالى {الر تلك آيات الكتاب الحكيم} قوله تعالى{الر} قال النحاس: قرئ على أبي جعفر أحمد بن شعيب بن علي بن الحسن بن حريث قال: أخبرنا علي بن الحسين عن أبيه عن يزيد أن عكرمة حدثه عن ابن عباس: الر، وحم، ونون حروف الرحمن مفرقة؛ فحدثت به الأعمش فقال: عندك أشباه هذا ولا تخبرني به؟. وعن ابن عباس أيضا قال{الر} أنا الله أرى. قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول؛ لأن سيبويه قد حكى مثله عن العرب وأنشد: وقال الحسن وعكرمة{الر} قسم. وقال سعيد عن قتادة{الر} اسم السورة؛ قال: وكذلك كل هجاء في القرآن. وقال مجاهد: هي فواتح السور. وقال محمد بن يزيد: هي تنبيه، وكذا حروف التهجي. وقرئ }الر} من غير إمالة. وقرئ بالإمالة لئلا تشبه ما ولا من الحروف. قوله تعالى{تلك آيات الكتاب الحكيم} ابتداء وخبر؛ أي تلك التي جرى ذكرها آيات الكتاب الحكيم. قال مجاهد وقتادة: أراد التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة؛ فإن }تلك} إشارة إلى غائب مؤنث. وقيل{تلك} بمعنى هذه؛ أي هذه آيات الكتاب الحكيم. ومنه قول الأعشى: أي هذه خيلي. والمراد القرآن وهو أولى بالصواب؛ لأنه لم يجر للكتب المتقدمة ذكر، ولأن }الحكيم} من نعت القرآن. دليله قوله تعالى {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين} قوله تعالى{أكان للناس عجبا} استفهام معناه التقرير والتوبيخ. }وعجبا} خبر كان، واسمها }أن أوحينا} وهو في موضع رفع؛ أي كان إيحاؤنا عجبا للناس. وفي قراءة عبدالله }عجب} على أنه اسم كان. والخبر }أن أوحينا}. }إلى رجل منهم} قرئ }رَجْل} بإسكان الجيم. وسبب النزول فيما روي عن ابن عباس أن الكفار قالوا لما بعث محمد: إن الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا. وقالوا: ما وجد الله من يرسله إلا يتيم أبي طالب؛ فنزلت{أكان للناس} يعني أهل مكة }عجبا}. وقيل: إنما تعجبوا من ذكر البعث. قوله تعالى{أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا} في موضع نصب بإسقاط الخافض؛ أي بأن أنذر الناس، وقد تقدم معنى النذارة والبشارة وغير ذلك من ألفاظ الآية. }أن لهم قدم صدق} اختلف في معنى }قدم صدق} فقال ابن عباس: قدم صدق منزل صدق؛ دليله قوله تعالى قتادة: سلف صدق. الربيع: ثواب صدق. عطاء: مقام صدق. يمان: إيمان صدق. وقيل: دعوة الملائكة. وقيل: ولد صالح قدموه. الماوردي: أن يوافق صدق الطاعة الجزاء. وقال الحسن وقتادة أيضا: وقيل: هو تقديم الله هذه الأمة في الحشر من القبر وفي إدخال الجنة. كما يريد السابقة بإخلاص الطاعة، والله أعلم. وقال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق من خير أو شر فهو عند العرب قدم؛ يقال: لفلان قدم في الإسلام، له عندي قدم صدق وقدم شر وقدم خير. وهو مؤنث وقد يذكر؛ يقال: قدم حسن وقدم صالحة. وقال ابن الأعرابي: القدم التقدم في الشرف؛ قال العجاج: قوله تعالى{قال الكافرون إن هذا لساحر مبين} قرأ ابن محيصن وابن كثير والكوفيون عاصم وحمزة والكسائي وخلف والأعمش }لساحر} نعتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ الباقون }لسحر} نعتا للقرآن وقد تقدم معنى السحر في }البقرة}. {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون} قوله تعالى{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} تقدم في الأعراف. }يدبر الأمر} قال مجاهد: يقضيه ويقدره وحده. ابن عباس: لا يشركه في تدبير خلقه أحد. وقيل: يبعث بالأمر. وقيل: ينزل به. وقيل: يأمر به ويمضيه؛ والمعنى متقارب. فجبريل للوحي، وميكائيل للقطر، وإسرافيل للصور، وعزرائيل للقبض. وحقيقته تنزيل الأمور في عواقبها، واشتقاقه من الدبر. والأمر اسم لجنس الأمور. }ما من شفيع} في موضع رفع، والمعنى ما شفيع }إلا من بعد إذنه} وقد تقدم في }البقرة} معنى الشفاعة. فلا يشفع أحد نبي ولا غيره إلا بإذنه سبحانه، وهذا رد على الكفار في قولهم فيما عبدوه من دون الله قوله تعالى{ذلكم الله ربكم فاعبدوه} أي ذلكم الذي فعل هذه الأشياء من خلق السموات والأرض هو ربكم لا رب لكم غيره. }فاعبدوه} أي وحدوه وأخلصوا له العبادة. }أفلا تتذكرون} أي أنها مخلوقاته فتستدلوا بها عليه. {إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون} قوله تعالى{إليه مرجعكم} رفع بالابتداء. }جميعا} نصب على الحال. ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى أجزائه. }وعد الله حقا} مصدران؛ أي وعد الله ذلك وعدا وحققه }حقا} صدقا لا خلف فيه. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة }وعد الله حق} على الاستئناف. قوله تعالى{إنه يبدأ الخلق} أي من التراب. }ثم يعيده} إليه. مجاهد: ينشئه ثم يميته ثم يحييه للبعث؛ أو ينشئه من الماء ثم يعيده من حال إلى حال. وقرأ يزيد ابن القعقاع }أنه يبدأ الخلق} تكون }أن} في موضع نصب؛ أي وعدكم أنه يبدأ الخلق. ويجوز أن يكون التقدير لأنه يبدأ الخلق؛ كما يقال: لبيك إن الحمد والنعمة لك؛ والكسر أجود. وأجاز الفراء أن تكون }أن} في موضع رفع فتكون اسما. قال أحمد بن يحيى: يكون التقدير حقا إبداؤه الخلق. قوله تعالى{ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط} أي بالعدل. }والذين كفروا لهم شراب من حميم} أي ماء حار قد انتهى حره، والحميمة مثله. يقال: حممت الماء احمه فهو حميم، أي محموم؛ فعيل بمعنى مفعول. وكل مسخن عند العرب فهو حميم. }وعذاب أليم} أي موجع، يخلص وجعه إلى قلوبهم. }بما كانوا يكفرون} أي بكفرهم، وكان معظم قريش يعترفون بأن الله خالقهم؛ فاحتج عليهم بهذا فقال: من قدر على الابتداء قدر على الإعادة بعد الإفناء أو بعد تفريق الأجزاء. {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون} قوله تعالى{هو الذي جعل الشمس ضياء} مفعولان، أي مضيئة، ولم يؤنث لأنه مصدر؛ أو ذات ضياء }والقمر نورا} عطف، أي منيرا، أو ذا نور، فالضياء ما يضيء الأشياء، والنور ما يبين فيخفى، لأنه من النار من أصل واحد. والضياء جمع ضوء؛ كالسياط والحياض جمع سوط وحوض. وقرأ قنبل عن ابن كثير }ضئاء} بهمز الياء ولا وجه له، لأن ياءه كانت واوا مفتوحة وهي عين الفعل، أصلها ضواء فقلبت وجعلت ياء كما جعلت في الصيام والقيام. قال المهدوي: ومن قرأ ضئاء بالهمز فهو مقلوب، قدمت الهمزة التي بعد الألف فصارت قبل الألف ضئايا، ثم قلبت الياء همزة لوقوعها بعد ألف زائدة. وكذلك إن قردت أن الياء حين تأخرت رجعت إلى الواو التي انقلبت عنها فإنها تقلب همزة أيضا فوزنه فلاع مقلوب من فعال. ويقال: إن الشمس والقمر تضيء وجوهها لأهل السموات السبع وظهورهما لأهل الأرضين السبع. قوله تعالى{وقدره منازل} أي ذا منازل، أو قدر له منازل. ثم قيل: المعنى وقدرهما، فوحد إيجازا واختصارا؛ كما قال{وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها}. وكما قال: وقيل: إن الإخبار عن القمر وحده؛ إذ به تحصى الشهور التي عليها العمل في المعاملات ونحوها، كما تقدم في }البقرة}. وفي سورة يس قوله تعالى{لتعلموا عدد السنين والحساب} قال ابن عباس: لو جعل شمسين، شمسا بالنهار وشمسا بالليل ليس فيهما ظلمة ولا ليل، لم يعلم عدد السنين وحساب الشهور. وواحد }السنين} سنة، ومن العرب من يقول: سنوات في الجمع ومنهم من يقول: سنهات. والتصغير سنية وسنيهة. قوله تعالى{ما خلق الله ذلك إلا بالحق} أي ما أراد الله عز وجل بخلق ذلك إلا الحكمة والصواب، وإظهارا لصنعته وحكمته، ودلالة على قدرته وعلمه، ولتجزى كل نفس بما كسبت؛ فهذا هو الحق. }يفصل الآيات لقوم يعلمون} تفصيل الآيات تبيينها ليستدل بها على قدرته تعالى، لاختصاص الليل بظلامه والنهار بضيائه من غير استحقاق لهما ولا إيجاب؛ فيكون هذا لهم دليلا على أن ذلك بإرادة مريد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص ويعقوب }يفصل} بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لقوله من قبله{ما خلق الله ذلك إلا بالحق} وبعده }وما خلق الله في السموات والأرض} فيكون متبعا له. وقرأ ابن السميقع }تفصل} بضم التاء وفتح الصاد على الفعل المجهول، }والآيات} رفعا. الباقون }نفصل} بالنون على التعظيم. {إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون} تقدم في }البقرة} وغيرها معناه، والحمد لله. وقد قيل: إن سبب نزولها أن أهل مكة سألوا آية فردهم إلى تأمل مصنوعاته والنظر فيها؛ قاله ابن عباس. }لقوم يتقون} أي الشرك؛ فأما من أشرك ولم يستدل فليست الآية له آية. {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} قوله تعالى{إن الذين لا يرجون لقاءنا} }يرجون} يخافون؛ ومنه قول الشاعر: وقيل يرجون يطمعون؛ ومنه قول الآخر: فالرجاء يكون بمعنى الخوف والطمع؛ أي لا يخافون عقابا ولا يرجون ثوابا. وجعل لقاء العذاب والثواب لقاء لله تفخيما لهما. وقيل: يجري اللقاء على ظاهره، وهو الرؤية؛ أي لا يطمعون في رؤيتنا. وقال بعض العلماء: لا يقع الرجاء بمعنى الخوف إلا مع الجحد؛ كقوله تعالى قوله تعالى{ورضوا بالحياة الدنيا} أي رضوا بها عوضا من الآخرة فعملوا لها. }واطمأنوا بها} أي فرحوا بها وسكنوا إليها، وأصل اطمأن طأمن طمأنينة، فقدمت ميمه وزيدت نون وألف وصل، ذكره الغزنوي. }والذين هم عن آياتنا} أي عن أدلتنا }غافلون} لا يعتبرون ولا يتفكرون. }أولئك مأواهم} أي مثواهم ومقامهم. }النار بما كانوا يكسبون} أي من الكفر والتكذيب. {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم} قوله تعالى{إن الذين آمنوا} أي صدقوا. }وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم} أي يزيدهم هداية؛ كقوله قوله تعالى{تجري من تحتهم الأنهار} قيل: في الكلام واو محذوفة، أي وتجري من نحتهم، أي من نحت بساتينهم. وقيل: من تحت أسرتهم؛ وهذا أحسن في النزهة والفرجة. {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} قوله تعالى{دعواهم فيها سبحانك اللهم} دعواهم: أي دعاؤهم؛ والدعوى مصدر دعا يدعو، كالشكوى مصدر شكا يشكو؛ أي دعاؤهم في الجنة أن يقولوا سبحانك اللهم وقيل: إذا أرادوا أن يسألوا شيئا أخرجوا السؤال بلفظ التسبيح ويختمون بالحمد. وقيل: نداؤهم الخدم ليأتوهم بما شاؤوا ثم سبحوا. وقيل: إن الدعاء هنا بمعنى التمني قال الله تعالى قيل: إن أهل الجنة إذا مر بهم الطير واشتهوه قالوا: سبحانك اللهم؛ فيأتيهم الملك بما اشتهوا، فإذا أكلوا حمدوا الله فسؤالهم بلفظ التسبيح والختم بلفظ الحمد. ولم يحك أبو عبيد إلا تخفيف }أن} ورفع ما بعدها؛ قال: وإنما نراهم مم اختاروا هذا وفرقوا بينها وبين قوله عز وجل{أن لعنة الله} و}أن غضب الله} لأنهم أرادوا الحكاية حين يقال الحمد لله. قال النحاس: مذهب الخليل وسيبويه أن }أن} هذه مخففة من الثقيلة. والمعنى أنه الحمد لله. قال محمد بن يزيد: ويجوز }أن الحمد لله} يعملها خفيفة عملها ثقيلة؛ والرفع أقيس. قال النحاس: وحكى أبو حاتم أن بلال بن أبي بردة قرأ }وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}. قلت: وهى قراءة ابن محيصن، حكاها الغزنوي لأنه يحكي عنه. التسبيح والحمد والتهليل قد يسمى دعاء؛ من السنة لمن بدأ بالأكل أن يسمي الله عند أكله وشربه ويحمده عند فراغه اقتداء بأهل الجنة؛ الرابعة: يستحب للداعي أن يقول في آخر دعائه كما قال أهل الجنة: وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين؛ وحسن أن يقرأ آخر }والصافات} فإنها جمعت تنزيه البارئ تعالى عما نسب إليه، والتسليم على المرسلين، والختم بالحمد لله رب العالمين. {ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون} قوله تعالى{ولو يعجل الله للناس الشر} قيل: معناه ولو عجل الله للناس العقوبة كما يستعجلون الثواب والخير لماتوا، لأنهم خلقوا في الدنيا خلقا ضعيفا، وليس هم كذا يوم القيامة؛ لأنهم يوم القيامة يخلقون للبقاء. وقيل: المعنى لو فعل الله مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم؛ وهو معنى }لقضي إليهم أجلهم}. وقيل: إنه خاص بالكافر؛ أي ولو يجعل الله للكافر العذاب على كفره كما عجل له خير الدنيا من المال والولد لعجل له قضاء أجله ليتعجل عذاب الآخرة؛ قال ابن إسحاق. مقاتل: هو قول النضر بن الحارث: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء؛ فلو عجل لهم هذا لهلكوا. وقال مجاهد: نزلت في الرجل يدعو على نفسه أو ماله أو ولده إذا غضب: اللهم أهلكه، اللهم لا تبارك له فيه وألعنه، أو نحو هذا؛ فلو استجيب ذلك منه كما يستجاب الخير لقضي إليهم أجلهم. فالآية نزلت ذامة لخلق ذميم هو في بعض الناس يدعون في الخير فيريدون تعجيل الإجابة ثم يحملهم أحيانا سوء الخلق على الدعاء في الشر؛ فلو عجل لهم لهلكوا. واختلف في إجابة هذا الدعاء؛ في غير كتاب مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فلعن رجل ناقته فقال: (أين الذي لعن ناقته)؟ فقال الرجل: أنا هذا يا رسول الله؛ فقال: (أخرها عنك فقد أجبت فيها) قوله تعالى{ولو يعجل الله} قال العلماء: التعجيل من الله، والاستعجال من العبد. وقال أبو علي: هما من الله؛ وفي الكلام حذف؛ أي ولو يعجل الله للناس الشر تعجيلا مثل استعجالهم بالخير، ثم حذف تعجيلا وأقام صفته مقامه، ثم حذف صفته وأقام المضاف إليه مقامه؛ هذا مذهب الخليل وسيبويه. وعلى قول الأخفش والفراء كاستعجالهم، ثم حذف الكاف ونصب. قال الفراء: كما تقول ضربت زيدا ضربك، أي كضربك. وقرأ ابن عامر }لقضى إليهم أجلهم}. وهي قراءة حسنة؛ لأنه متصل بقوله{ولو يعجل الله للناس الشر}. قوله تعالى{فنذر الذين لا يرجون لقاءنا} أي لا يعجل لهم الشر فربما يتوب منهم تائب، أو يخرج من أصلابهم مؤمن. }في طغيانهم يعمهون} أي يتحيرون. والطغيان: العلو والارتفاع؛ وقد تقدم في }البقرة}. وقد قيل: إن المراد بهذه الآية أهل مكة، وإنها نزلت حين قالوا {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} قوله تعالى{وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه} قيل: المراد بالإنسان هنا الكافر، قيل: هو أبو حذيفة بن المغيرة المشرك، تصيبه البأساء والشدة والجهد. }دعانا لجنبه} أي على جنبه مضطجعا. }أو قاعدا أو قائما} وإنما أراد جميع حالاته؛ لأن الإنسان لا يعدو إحدى هذه الحالات الثلاثة. قال بعضهم: إنما بدأ بالمضطجع لأنه بالضر أشد في غالب الأمر، فهو يدعو أكثر، واجتهاده أشد، ثم القاعد ثم القائم. }فلما كشفنا عنه ضره مر} أي استمر على كفره ولم يشكر ولم يتعظ. قلت: وهذه صفة كثير من المخلطين الموحدين، إذا أصابته. العافية مر على ما كان عليه من المعاصي؛ فالآية تعم الكافر وغيره. }كأن لم يدعنا} قال الأخفش: هي }كأن} الثقيلة خففت، والمعنى كأنه وأنشد: {كذلك} أي كما زين لهذا الدعاء عند البلاء والإعراض عن الرخاء. }زين للمسرفين} أي للمشركين أعمالهم من الكفر والمعاصي. وهذا التزيين يجوز أن يكون من الله، ويجوز أن يكون من الشيطان، وإضلاله دعاؤه إلى الكفر. {ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين} قوله تعالى{ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا} يعني الأمم الماضية من قبل أهل مكة أهلكناهم. }لما ظلموا} أي كفروا وأشركوا. }وجاءتهم رسلهم بالبينات} أي بالمعجزات الواضحات والبراهين النيرات. }وما كانوا ليؤمنوا} أي أهلكناهم لعلمنا أنهم لا يؤمنون. يخوف كفار مكة عذاب الأمم الماضية؛ أي نحن قادرون على إهلاك هؤلاء بتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، ولكن نمهلهم لعلمنا بأن فيهم من يؤمن، أو يخرج من أصلابهم من يؤمن. وهذه الآية ترد على أهل الضلال القائلين بخلق الهدى والإيمان. وقيل: معنى }ما كانوا ليؤمنوا} أي جازاهم على كفرهم بأن طبع على قلوبهم؛ ويدل على هذا أنه قال{كذلك نجزي القوم المجرمين}. {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون} قوله تعالى{ثم جعلناكم خلائف} مفعولان. والخلائف جمع خليفة، وقد تقدم آخر }الأنعام} أي جعلناكم سكانا في الأرض. }من بعدهم} أي من بعد القرون المهلكة. }لننظر} نصب بلام كي، وقد تقدم نظائره وأمثاله؛ أي ليقع منكم ما تستحقون به الثواب والعقاب، ولم يزل يعلمه غيبا. وقيل: يعاملكم معاملة المختبر إظهارا للعدل. وقيل: النظر راجع إلى الرسل؛ أي لينظر رسلنا وأولياؤنا كيف أعمالكم. و}كيف} نصب بقوله: تعملون: لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يعمل فيه ما قبله. {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} قوله تعالى{وإذا تتلى عليهم آياتنا} }تتلى} تقرأ، و}بينات} نصب على الحال؛ أي واضحات لا لبس فيها ولا إشكال. }قال الذين لا يرجون لقاءنا} يعني لا يخافون يوم البعث والحساب ولا يرجون الثواب. قال قتادة: يعني مشركي أهل مكة. }ائت بقرآن غير هذا أو بدله} والفرق بين تبديله والإتيان بغيره أن تبديله لا يجوز أن يكون معه، والإتيان بغيره قد يجوز أن يكون معه؛ وفي قولهم ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم سألوه أن يحول الوعد وعيدا والوعيد وعدا، والحلال حراما والحرام حلالا؛ قاله ابن جرير الطبري. الثاني: سألوه أن يسقط ما في القرآن من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم؛ قاله ابن عيسى. الثالث: أنهم سألوه إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور؛ قاله الزجاج. قوله تعالى{قل ما يكون لي} أي قل يا محمد ما كان لي }أن أبدله من تلقاء نفسي} ومن عندي، كما ليس لي أن ألقاه بالرد والتكذيب. }إن أتبع إلا ما يوحى إلي} أي لا أتبع إلا ما أتلوه عليكم من وعد ووعيد، وتحريم وتحليل، وأمر ونهي. }وقد يستدل بهذا من يمنع نسخ الكتاب بالسنة؛ لأنه تعالى قال{قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} وهذا فيه بعد؛ فإن الآية وردت في طلب المشركين مثل القرآن نظما، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم قادرا على ذلك، ولم يسألوه تبديل الحكم دون اللفظ؛ ولأن الذي يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان وحيا لم يكن من تلقاء نفسه، بل كان من عند الله تعالى. }إني أخاف إن عصيت ربي} أي إن خالفت في تبديله وتغييره أو في ترك العمل به. }عذاب يوم عظيم} يعني يوم القيامة. {قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون} قوله تعالى{قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به} أي لو شاء الله ما أرسلني إليكم فتلوت عليكم القرآن، ولا أعلمكم الله ولا أخبركم به؛ يقال: دريت الشيء وأدراني الله به، ودريته ودريت به. وفي الدراية معنى الختل؛ ومنه دريت الرجل أي ختلته، ولهذا لا يطلق الداري في حق الله تعالى وأيضا عدم فيه التوقيف. وقرأ ابن كثير{ولأدراكم به} بغير ألف بين اللام والهمزة؛ والمعنى: لو شاء الله لأعلمكم به من غير أن أتلوه عليكم؛ فهي لام التأكيد دخلت على ألف أفعل. وقرأ ابن عباس والحسن }ولا أدراتكم به} بتحويل الياء ألفا، على لغة بني عقيل؛ قال الشاعر: وقال آخر: قال أبو حاتم: سمعت الأصمعي يقول سألت أبا عمرو بن العلاء: هل لقراءة الحسن }ولا أدراتكم به} وجه؟ فقال لا. وهل أبو عبيد: لا وجه لقراءة الحسن }ولا أدراتكم به} إلا الغلط. قال النحاس: معنى قول أبي عبيد: لا وجه، إن شاء الله على الغلط؛ لأنه يقال: دريت أي علمت، وأدريت غيري، ويقال: درأت أي دفعت؛ فيقع الغلط بين دريت ودرأت. قال أبو حاتم: يريد الحسن فيما أحسب }ولا أدريتكم به} فأبدل من الياء ألفا على لغة بني الحارث بن كعب، يبدلون من الياء ألفا إذا انفتح ما قبلها؛ مثل قوله تعالى{فقد لبثت فيكم عمرا} ظرف، أي مقدارا من الزمان وهو أربعون سنة. }من قبله} أي من قبل القرآن، تعرفونني بالصدق والأمانة، لا أقرأ ولا أكتب، ثم جئتكم بالمعجزات. }أفلا تعقلون} أن هذا لا يكون إلا من عند الله لا من قبلي. وقيل: معنى }لبثت فيكم عمرا} أي لبثت فيكم مدة شبابي لم أعص الله، أفتريدون مني الآن وقد بلغت أربعين سنة أن أخالف أمر الله، وأغير ما ينزله علي. قال قتادة: لبث فيهم أربعين سنة، وأقام سنتين يرى رؤيا الأنبياء، وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو ابن اثنتين وستين سنة. {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون} هذا استفهام بمعنى الجحد؛ أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب، وبدل كلامه وأضاف شيئا إليه مما لم ينزله. وكذلك لا أحد أظلم منكم إذا أنكرتم القرآن وافتريتم على الله الكذب، وقلتم ليس هذا كلامه. وهذا مما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم. وقيل: هو من قول الله ابتداء. وقيل: المفتري المشرك، والمكذب بالآيات أهل الكتاب. }إنه لا يفلح المجرمون}. {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون} قوله تعالى{ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم} يريد الأصنام. }ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} وهذه غاية الجهالة منهم؛ حيث ينتظرون الشفاعة في المال ممن لا يوجد منه نفع ولا ضر في الحال. وقيل{شفعاؤنا} أي تشفع لنا عند الله في إصلاح معائشنا في الدنيا. }قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض} قراءة العامة }تنبئون} بالتشديد. وقرأ أبو السمال العدوي }أتنبئون الله} مخففا، من أنبأ ينبئ. وقراءة العامة من نبأ ينبئ تنبئة؛ وهما بمعنى واحد، جمعهما قوله تعالى {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون} تقدم في }البقرة} معناه فلا معنى للإعادة. وقال الزجاج: هم العرب كانوا على الشرك. وقيل: كل مولود يولد عل الفطرة، فاختلفوا عند البلوغ. }ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون} إشارة إلى القضاء والقدر؛ أي لولا ما سبق في حكمه أنه لا يقضى بينهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب دون القيامة لقضي بينهم في الدنيا، فأدخل المؤمنين الجنة بأعمالهم والكافرين النار بكفرهم، ولكنه سبق من الله الأجل مع علمه بصنيعهم فجعل موعدهم القيامة؛ قال الحسن. وقال أبو ورق{لقضي بينهم} لأقام عليهم الساعة. وقيل: لفرغ من هلاكهم. وقال الكلبي{الكلمة} أن الله أخر هذه الأمة فلا يهلكهم بالعذاب في الدنيا إلى يوم القيامة، فلولا. هذا التأخير لقضي بينهم بنزول العذاب أو بإقامة الساعة. والآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في تأخير العذاب عمن كفر به. وقيل: الكلمة السابقة أنه لا يأخذ أحدا إلا بحجة وهو إرسال الرسل؛ كما قال {ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين} يريد أهل مكة؛ أي هلا أنزل عليه آية، أي معجزة غير هذه المعجزة، فيجعل لنا الجبال ذهبا ويكون ل بيت من زخرف، ويحيى لنا من مات من آبائنا. وقال الضحاك: عصا كعصا موسى. }فقل إنما الغيب لله} أي قل يا محمد إن نزول الآية غيب. }فانتظروا} أي تربصوا. }إني معكم من المنتظرين} لنزولها. وقيل: انتظروا قضاء الله بيننا بإظهار المحق على المبطل. { وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون} يريد كفار مكة. }رحمة من بعد ضراء مستهم} قيل: رخاء بعد شدة، وخصب بعد جدب. }إذا لهم مكر في آياتنا} أي استهزاء وتكذيب. وجواب قوله{وإذا أذقنا}{إذا لهم} على قول الخليل وسيبويه. }قل الله أسرع مكرا} ابتداء وخبر. }مكرا} على البيان؛ أي أعجل عقوبة على جزاء مكرهم، أي أن ما يأتيهم من العذاب أسرع في إهلاكهم مما أتوه من المكر. }إن رسلنا يكتبون ما تمكرون} يعني بالرسل الحفظة. وقراءة العامة }تمكرون} بالتاء خطابا. وقرأ يعقوب في رواية رويس وأبو عمرو في رواية هارون العتكي }يمكرون} بالياء؛ لقول{إذا لهم مكر في آياتنا} قيل: قال أبو سفيان قحطنا بل بدعائك فان سقيتنا صدقناك؛ فسقوا باستسقائه صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا، فهذا مكرهم. {هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين، فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون} قوله تعالى{هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} أي يحملكم في البر على الدواب وفي البحر على الفلك. وقال الكلبي: يحفظكم في السير. والآية تتضمن تعديد النعم فيما هي الحال بسبيله من ركوب الناس الدواب والبحر. وقد مضى الكلام في ركوب البحر في }البقرة}. }يسيركم} قراءة العامة. ابن عامر }ينشركم} بالنون والشين، أي يبثكم ويفرقكم. والفلك يقع على الواحد والجمع، ويذكر ويؤنث، وقد تقدم القول فيه. وقوله{وجربن بهم} خروج من الخطاب إلى الغيبة، وهو في القرآن وأشعار العرب كثير؛ قال النابغة: قال ابن الأنباري: وجائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب؛ قال الله تعالى قوله تعالى }بريح طيبة وفرحوا بها} تقدم الكلام فيها في البقرة. }جاءتها ريح عاصف} الضمير في }جاءتها} للسفينة. وقيل للريح الطيبة. والعاصف الشديدة؛ يقال: عصفت الريح وأعصفت، فهي عاصف ومعصف ومعصفة أي شديدة، قال الشاعر: وقال }عاصف} بالتذكير لأن لفظ الريح مذكر، وهي القاصف أيضا. والطيبة غير عاصف ولا بطيئة. }وجاءهم الموج من كل مكان} والموج ما ارتفع من الماء }وظنوا} أي أيقنوا }أنهم أحيط بهم} أي أحاط بهم البلاء؛ يقال لمن وقع في بلية: قد أحيط به، كأن البلاء قد أحاط به؛ وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بموضع فقد هلك أهله. }دعوا الله مخلصين له الدين} أي دعوه وحده وتركوا ما كانوا يعبدون. وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد، وأن المضطر يجاب دعاؤه، وإن كان كافرا؛ لانقطاع الأسباب ورجوعه إلى الواحد رب الأرباب؛ على ما يأتي بيانه في }النمل} إن شاء الله تعالى. وقال بعض المفسرين: إنهم قالوا في دعائهم أهيا شراهيا؛ أي يا حي يا قيوم. وهي لغة العجم. قوله تعالى{لئن أنجيتنا من هذه} أي هذه الشدائد والأهوال. وقال الكلبي: من هذه الريح. }لنكونن من الشاكرين} أي من العاملين بطاعتك على نعمة الخلاص. }فلما أنجاهم} أي خلصهم وأنقذهم.. }إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق} أي يعملون في الأرض بالفساد وبالمعاصي. والبغي: الفساد والشرك؛ من بغى الجرح إذا فسد؛ وأصله الطلب، أي يطلبون الاستعلاء بالفساد. }بغير الحق} أي بالتكذيب؛ ومنه بغت المرأة طلبت غير زوجها. قوله تعالى{يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم} أي وباله عائد عليكم؛ وتم الكلام، ثم ابتدأ فقال{متاع الحياة الدنيا ثم إلي مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون} أي هو متاع الحياة الدنيا؛ ولا بقاء له. قال النحاس{بغيكم} رفع بالابتداء وخبره }متاع الحياة الدنيا}. و}على أنفسكم} مفعول معنى فعل البغي. ويجوز أن يكون خبره }على أنفسكم} وتضمر مبتدأ، أي ذلك متاع الحياة الدنيا، أو هو متاع الحياة الدنيا؛ وبين المعنيين حرف لطيف، إذا رفعت متاعا على أنه خبر }بغيكم} فالمعنى. إنما بغي بعضكم على بعض؛ مثل {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون} قوله تعالى{إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء} معنى الآية التشبيه والتمثيل، أي صفة الحياة الدنيا في فنائها وزوالها وقلة خطرها والملاذ بها كماء؛ أي مثل ماء، فالكاف في موضع رفع. وسيأتي لهذا التشبيه مزيد بيان في }الكهف} إن شاء الله تعالى. }أنزلناه من السماء} نعت لـ }ماء}. }فاختلط} روي عن نافع أنه وقف على }فاختلط} أي فاختلط الماء بالأرض، }به نبات الأرض} أي بالماء نبات الأرض؛ فأخرجت ألوانا من النبات، فنبات على هذا ابتداء، وعلى مذهب من لم يقف على }فاختلط} مرفوع باختلط؛ أي اختلط النبات بالمطر، أي شرب منه فتندى وحسن وأخضر. والاختلاط تداخل الشيء بعضه في بعض. قوله تعالى{مما يأكل الناس} من الحبوب والثمار والبقول. }والأنعام} من الكلأ والتبن والشعير. }حتى إذا أخذت الأرض زخرفها} أي حسنها وزينتها. والزخرف كمال حسن الشيء؛ ومنه قيل للذهب: زخرف. }وازينت} أي بالحبوب والثمار والأزهار؛ والأصل تزينت أدغمت التاء في الزاي وجيء بألف الوصل؛ لأن الحرف المدغم مقام حرفين الأول منهما ساكن والساكن لا يمكن الابتداء به. وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب }وتزينت} على الأصل. وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية }وازينت} أي أتت بالزينة عليها، أي الغلة والزرع، وجاء بالفعل على أصله ولو أعله لقال وازانت. وقال عوف بن أبي جميلة الأعرابي: قرأ أشياخنا }وازيانت} وزنه اسوادت. وفي رواية المقدمي }وازاينت} والأصل فيه تزاينت، وزنه تقاعست ثم أدغم. وقرأ الشعبي وقتادة }وازيانت} مثل أفعلت. وقرأ عثمان النهدي }وازينت} مثل أفعلت، وعنه أيضا }وازيانت مثل أفعالت، وروى عنه }ازيأنت} بالهمزة؛ ثلاث قراءات. قوله تعالى{وظن أهلها} أي أيقن. }أنهم قادرون عليها} أي على حصادها والانتفاع بها؛ أخبر عن الأرض والمعنى النبات إذ كان مفهوما وهو منها. وقيل: رد إلى الغلة، وقيل: إلى الزينة. }أتاها أمرنا} أي عذابنا، أو أمرنا بهلاكها. }ليلا أو نهارا} ظرفان. }فجعلناها حصيدا} مفعولان، أي محصودة مقطوعة لا شيء فيها. وقال }حصيدا} ولم يؤنث لأنه فعيل بمعنى مفعول. قال أبو عبيد: الحصيد المستأصل. }كأن لم تغن بالأمس} أي لم تكن عامرة؛ من غني إذا أقام فيه وعمره. والمغاني في اللغة: المنازل التي يعمرها الناس. وقال قتادة: كأن لم تنعم. قال لبيد: وقراءة العامة }تغن} بالتاء لتأنيث الأرض. وقرأ قتادة }يغن} بالياء، يذهب به إلى الزخرف؛ يعني فكما يهلك هذا الزرع هكذا كذلك الدنيا. }نفصل الآيات} أي نبينها. }لقوم يتفكرون} في آيات الله. {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} قوله تعالى{والله يدعو إلى دار السلام} لما ذكر وصف هذه الدار وهي دار الدنيا وصف الآخرة فقال: إن الله لا يدعوكم إلى جمع الدنيا بل يدعوكم إلى الطاعة لتصيروا إلى دار السلام، أي إلى الجنة. قال قتادة والحسن: السلام هو الله، وداره الجنة؛ وسميت الجنة دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات. ومن أسمائه سبحانه }السلام}، وقد بيناه في (1) وقيل: أراد والله يدعو إلى دار التحية؛ لأن أهلها ينالون من الله التحية والسلام، وكذلك من الملائكة. قال الحسن: إن السلام لا ينقطع، عن أهل الجنة، وهو تحيتهم؛ كما قال قوله تعالى{ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} عم بالدعوة إظهارا لحجته، وخص بالهداية استغناء عن خلقه. والصراط المستقيم، قيل: كتاب الله؛ {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} قوله تعالى{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} قوله تعالى{ولا يرهق وجوههم} قيل: معناه يلحق؛ ومنه قيل: غلام مراهق إذا لحق بالرجال. وقيل: يعلو. وقيل: يغشى؛ والمعنى متقارب. }قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} }قتر} غبار. }ولا ذلة} أي مذلة؛ كما يلحق أهل النار؛ أي لا يلحقهم غبار في محشرهم إلى الله ولا تغشاهم ذلة. وأنشد أبو عبيدة للفرزدق: وقرأ الحسن }قتر} بإسكان التاء. والقتر والقترة والقترة بمعنى واحد؛ قاله النحاس. وواحد القتر قترة؛ ومنه قوله تعالى قلت: هذا فيه نظر؛ فإن الله عز وجل يقول {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} قوله تعالى{والذين كسبوا السيئات} أي عملوا المعاصي. وقيل: الشرك. }جزاء سيئة بمثلها} }جزاء} مرفوع بالابتداء، وخبره }بمثلها}. قال ابن كيسان: الباء زائدة؛ والمعنى جزاء سيئة مثلها. وقيل: الباء مع ما بعدها الخبر، وهي متعلقة بمحذوف قامت مقامه، والمعنى: جزاء سيئة كائن بمثلها؛ كقولك: إنما أنابك؛ أي وإنما أنا كائن بك. ويجوز أن تتعلق بجزاء، التقدير: جزاء السيئة بمثلها كائن؛ فحذف خبر المبتدأ. ويجوز أن يكون }جزاء} مرفوعا على تقدير فلهم جزاء سيئة؛ فيكون مثل قوله ومعنى هذه المثلية أن ذلك الجزاء مما يعد مماثلا لذنوبهم، أي هم غير مظلومين، وفعل الرب جلت قدرته وتعالى شأنه غير معلل بعلة. }وترهقهم ذلة} أي يغشاهم هوان وخزي. }ما لهم من الله} أي من عذاب الله. }من عاصم} أي مانع يمنعهم منه. }كأنما أغشيت} أي ألبست. }وجوههم قطعا} جمع قطعة، وعلى هذا يكون }مظلما} حال من }الليل} أي أغشيت وجوههم قطعا من الليل في حال ظلمته. وقرأ الكسائي وابن كثير }قطعا} بإسكان الطاء؛ فـ }مظلما} على هذا نعت، ويجوز أن يكون حالا من الليل. والقطع اسم قطع فسقط. وقال ابن السكيت: القطع طائفة من الليل؛ وسيأتي في }هود} إن شاء الله تعالى. {ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون} قوله تعالى{ويوم نحشرهم جميعا} أي نجمعهم، والحشر الجمع. }جميعا} حال. }ثم نقول للذين أشركوا} أي اتخذوا مع الله شريكا. }مكانكم} أي الزموا واثبتوا مكانكم، وقفوا مواضعكم. }أنتم وشركاؤكم} وهذا وعيد. }فزيلنا بينهم} أي فرقنا وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا؛ يقال: زيلته فتزيل، أي فرقته فتفرق، وهو فعلت؛ لأنك تقول في مصدره تزييلا، ولو كان فيعلت لقلت زيلة. والمزايلة المفارقة؛ يقال: زايله الله مزايلة وزيالا إذا فارقه. والتزايل التباين. قال الفراء: وقرأ بعضهم }فزايلنا بينهم}؛ يقال: لا أزايل فلانا، أي لا أفارقه؛ فإن قلت: لا أزاوله فهو بمعنى آخر، معناه لا أخاتله. }وقال شركاؤهم} عنى بالشركاء الملائكة. وقيل: الشياطين، وقيل: الأصنام؛ فينطقها الله تعالى فتكون بينهم هذه المحاورة. وذلك أنهم ادعوا على الشياطين الذين أطاعوهم والأصنام التي عبدوها أنهم أمروهم بعبادتهم ويقولون ما عبدناكم حتى أمرتمونا. قال مجاهد: ينطق الله الأوثان فتقول ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون، وما أمرناكم بعبادتنا. وإن حمل الشركاء على الشياطين فالمعنى أنهم يقولون ذلك دهشا، أو يقولون كذبا واحتيالا للخلاص، وقد يجري مثل هذا غدا؛ وإن صارت المعارف ضرورية. {فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين} قوله تعالى{فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم} }شهيدا} مفعول، أي كفى الله شهيدا، أو تمييز، أي اكتف به شهيدا بيننا وبينكم إن كنا أمرناكم بهذا أو رضيناه منكم. }إن كنا} أي ما كنا }عن عبادتكم لغافلين} إلا غافلين لا نسمع ولا نبصر ولا نعقل؛ لأنا كنا جمادا لا روح فينا. {هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون} قوله تعالى{هنالك} في موضع نصب على الظرف. }تبلو} أي في ذلك الوقت. }تبلو} أي تذوق. وقال الكلبي: تعلم. مجاهد: تختبر. }كل نفس ما أسلفت} أي جزاء ما عملت وقدمت. وقيل: تسلم، أي تسلم ما عليها من الحقوق إلى أربابها بغير اختيارها. وقرأ حمزة والكسائي }تتلو} أي تقرأ كل نفس كتابها الذي كتب عليها. وقيل{تتلو} تتبع؛ أي تتبع كل نفس ما قدمت في الدنيا؛ قاله السدي. ومنه قول الشاعر: قوله تعالى{وردوا إلى الله مولاهم الحق} بالخفض على البدل أو الصفة. ويجوز نصب الحق من ثلاث جهات؛ يكون التقدير: وردوا حقا، ثم جيء بالألف واللام. ويجوز أن يكون التقدير: مولاهم حقا لا ما يعبدون من دونه. والوجه الثالث أن يكون مدحا؛ أي أعني الحق. ويجوز أن يرفع }الحق}، ويكون المعنى مولاهم الحق - على الابتداء والخبر والقطع مما قبل - لا ما يشركون من دونه. ووصف نفسه سبحانه بالحق لأن الحق منه كما وصف نفسه بالعدل لأن العدل منه؛ أي كل عدل وحق فمن قبله، وقال ابن عباس{مولاهم بالحق} أي الذي يجازيهم بالحق. }وضل عنهم} أي بطل. }ما كانوا يفترون} }يفترون} في موضع رفع وهو بمعنى المصدر، أي افتراؤهم. فإن قيل: كيف قال{وردوا إلى الله مولاهم الحق} وقد أخبر بأن الكافرين لا مولى لهم. قيل ليس بمولاهم في النصرة والمعونة، وهو مولى لهم في الرزق وإدرار النعم. {قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون} المراد بمساق هذا الكلام الرد على المشركين وتقرير الحجة عليهم؛ فمن اعترف منهم فالحجة ظاهرة عليهم، ومن لم يعترف فيقرر عليه أن هذه السموات والأرض لا بد لهما من خالق؛ ولا يتمارى في هذا عاقل. وهذا قريب من مرتبة الضرورة. }من السماء} أي بالمطر. }والأرض} بالنبات. }أمن يملك السمع والأبصار} أي من جعلهما وخلقهما لكم. }ومن يخرج الحي من الميت} أي النبات من الأرض، والإنسان من النطفة، والسنبلة من الحبة، والطير من البيضة، والمؤمن من الكافر. }ومن يدبر الأمر} أي يقدره ويقضيه. }فسيقولون الله} لأنهم كانوا يعتقدون أن الخالق هو الله؛ أو فسيقولون هو الله إن فكروا وأنصفوا }فقل} لهم يا محمد. }أفلا تتقون} أي أفلا تخافون عقابه ونقمته في الدنيا والآخرة. {فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون} قوله تعالى{فذلكم الله ربكم الحق} أي هذا الذي يفعل هذه الأشياء هو ربكم الحق، لا ما أشركتم معه. }فماذا بعد الحق} }ذا} صلة أي ما بعد عبادة الإله الحق إذا تركت عبادته إلا الضلال. وقال بعض المتقدمين: ظاهر هذه الآية يدل على أن ما بعد الله هو الضلال؛ لأن أولها }فذلكم الله ربكم الحق} وآخرها }فماذا بعد الحق إلا الضلال} فهذا في الإيمان والكفر، ليس في الأعمال. وقال بعضهم: إن الكفر تغطية الحق، وكل ما كان غير الحق جرى هذا المجرى؛ فالحرام ضلال والمباح هدى؛ فإن الله هو المبيح والمحرم. والصحيح الأول؛ لأن قبل }قل من يرزقكم من السماء والأرض} ثم قال }فذلكم الله ربكم الحق} أي هذا الذي رزقكم، وهذا كله فعله هو. }ربكم الحق} أي الذي تحق له الألوهية ويستوجب العبادة، وإذا كان ذلك فتشريك غيره ضلال وغير حق. قال علماؤنا: حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى، وكذلك هو الأمر في نظائرها، وهي مسائل الأصول التي الحق فيها في طرف واحد؛ لأن الكلام فيها إنما هو في تعديد وجود ذات كيف هي، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها وإليه الإشارة بقوله تعالى مقابلة الحق بالضلال عرف لغة وشرعا، كما في هذه الآية. وكذلك أيضا مقابلة الحق بالباطل عرف لغة وشرعا؛ قال الله تعالى روى عبدالله بن عبدالحكم وأشهب عن مالك في قوله تعالى{فماذا بعه الحق إلا الضلال} قال: اللعب بالشطرنج والنرد من الضلال. وروى يونس عن ابن وهب أنه سئل عن الرجل يلعب في بيته مع امرأته بأربع عشرة؛ فقال مالك: ما يعجبني! وليس من شأن المؤمنين، يقول الله تعالى{فماذا بعد الحق إلا الضلال}. وروى يونس عن أشهب قال: سئل - يعني مالكا - عن اللعب بالشطرنج فقال: لا خير فيه، وليس بشيء وهو من الباطل، واللعب كله من الباطل، وإنه لينبغي لذي العقل أن تنهاه اللحية والشيب عن الباطل. وقال الزهري لما سئل عن الشطرنج: هي من الباطل ولا أحبها. اختلف العلماء في جواز اللعب بالشطرنج وغيره إذا لم يكن على وجه القمار؛ فتحصيل مذهب مالك وجمهور الفقهاء في الشطرنج أن من لم يقامر بها ولعب مع أهله في بيته مستترا به مرة في الشهر أو العام، لا يطلع عليه ولا يعلم به أنه معفو عنه غير محرم عليه ولا مكروه له، وأنه إن تخلع به واشتهر فيه سقطت مروءته وعدالته وردت شهادته. وأما الشافعي فلا تسقط في مذهب أصحابه شهادة اللاعب بالنرد والشطرنج، إذا كان عدلا في جميع أصحابه، ولم يظهر منه سفه ولا ريبة ولا كبيرة إلا أن يلعب به قمارا، فإن لعب بها قمارا وكان بذلك معروفا سقطت عدالته وسفه نفسه لأكله المال بالباطل. وقال أبو حنيفة: يكره اللعب بالشطرنج والنرد والأربعة عشر وكل اللهو؛ فإن لم تظهر من اللاعب بها كبيرة وكانت محاسنه أكثر من مساويه قبلت شهادته عندهم. قال ابن العربي: قالت الشافعية إن الشطرنج يخالف النرد لأن فيه إكداد الفهم واستعمال القريحة. والنرد قمار غرر لا يعلم ما يخرج له فيه كالاستقسام بالأزلام. قال علماؤنا: النرد قطع مملوءة من خشب البقس ومن عظم الفيل، وكذا هو الشطرنج إذ هو أخوه غذي بلبانه. والنرد هو الذي يعرف بالباطل، ويعرف بالكعاب ويعرف في الجاهلية أيضا بالأرن ويرف أيضا بالنردشير. قال ابن العربي في قبسه: وقد جوزه الشافعي، وانتهى حال بعضهم إلى أن يقول: هو مندوب إليه، حتى اتخذوه في المدرسة؛ فإذا أعيا الطالب من القراءة لعب به في المسجد. وأسندوا إلى قوم من الصحابة والتابعين أنهم لعبوا بها؛ وما كان ذلك قط! وتالله ما مستها يد تقي. ويقولون: إنها تشحذ الذهن، والعيان يكذبهم، ما تبحر فيها قط رجل له ذهن. سمعت الإمام أبا الفضل عطاء المقدسي يقول بالمسجد الأقصى في المناظرة: إنها تعلم الحرب. فقال له الطرطوشي: بل تفسد تدبير الحرب؛ لأن الحرب المقصود منها الملك واغتياله، وفي الشطرنج تقول: شاه إياك: الملك نحه عن طريقي؛ فاستضحك الحاضرين. وتارة شدد فيها مالك وحرمها وقال فيها{فماذا بعد الحق إلا الضلال} وتارة استهان بالقليل منها والأهون، والقول الأول أصح والله أعلم. فإن قال قائل: روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن الشطرنج فقال: وما الشطرنج؟ فقيل له: إن امرأة كان لها ابن وكان ملكا فأصيب في حرب دون أصحابه؛ فقالت: كيف يكون هذا أرونيه عيانا؛ فعمل لها الشطرنج، فلما رأته تسلت بذلك. ووصفوا الشطرنج لعمر رضي الله عنه فقال: لا بأس بما كان من آلة الحرب؛ قيل له: هذا لا حجة فيه لأنه لم يقل لا بأس بالشطرنج وإنما قال لا بأس بما كان من آلة الحرب. وإنما قال هذا لأنه شبه عليه أن اللعب بالشطرنج مما يستعان به على معرفة أسباب الحرب، فلما قيل له ذلك ولم يحط به علمه قال: لا بأس بما كان من آلة الحرب، إن كان كما تقولون فلا بأس به، وكذلك من روى عنه من الصحابة أنه لم ينه عنه، فإن ذلك محمول منه على أنه ظن أن ذلك ليس يتلهى به، وإنما يراد به التسبب إلى علم القتال والمضاربة فيه، أو على أن الخبر المسند لم يبلغهم. قال الحليمي: وإذا صح الخبر فلا حجة لأحد معه، وإنما الحجة فيه على الكافة. ذكر ابن وهب بإسناده أن عبدالله بن عمر مر بغلمان يلعبون بالكجّة، وهي حفر فيها حصى يلعبون بها، قال: فسدها ابن عمر ونهاهم عنها. وذكر الهروي في باب (الكاف مع الجيم) في حديث ابن عباس: في كل شيء قمار حتى في لعب الصبيان بالكجة؛ قال ابن الأعرابي: هو أن يأخذ الصبي خرقة فيدورها كأنها كرة، ثم يتقامرون بها. وكج إذا لعب بالكجة. قوله تعالى{فأنى تصرفون} أي كيف تصرفون عقولكم إلى عبادة ما لا يرزق ولا يحيي ولا يميت. {كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون} قوله تعالى{كذلك حقت كلمة ربك} أي حكمه وقضاؤه وعلمه السابق. }على الذين فسقوا} أي خرجوا عن الطاعة وكفروا وكذبوا. }أنهم لا يؤمنون} أي لا يصدقون. وفي هذا أوفى دليل على القدرية. وقرأ نافع وابن عامر هنا وفي آخرها }كذلك حقت كلمات ربك} وفي سورة غافر بالجمع في الثلاثة. الباقون بالإفراد و}أن} في موضع نصب؛ أي بأنهم أو لأنهم. قال الزجاج: ويجوز أن تكون في موضع رفع على البدل من كلمات. قال الفراء: يجوز }إنهم} بالكسر على الاستئناف.
|