الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون، قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين} قوله تعالى{إن هؤلاء متبر ما هم فيه} أي مهلك، والتبار: الهلاك. وكل إناء مكسر متبر. وأمر متبر. أي إن العابد والمعبود مهلكان. }وباطل} أي ذاهب مضمحل. }ما كانوا يعملون} }كانوا} صلة زائدة. }قال أغير الله أبغيكم إلها} أي أطلب لكم إلها غير الله تعالى. يقال: بغيته وبغيت له. }وهو فضلكم على العالمين} أي على عالمي زمانكم. وقيل: فضلهم بإهلاك عدوهم، وبما خصهم به من الآيات. {وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} ذكرهم منته. وقيل: هو خطاب ليهود عصر النبي صلى الله عليه وسلم. أي واذكروا إذ أنجينا أسلافكم؛ حسب ما تقدم بيانه في سورة }البقرة}. {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} قوله تعالى{وواعدنا موسى ثلاثين ليلة} ذكر أن مما كرم الله به موسى صلى الله عليه وسلم هذا فكان وعده المناجاة إكراما له. }وأتممناها بعشر} قال ابن عباس ومجاهد ومسروق رضي الله عنهم: هي ذو القعدة وعشر من ذي الحجة. أمره أن يصوم الشهر وينفرد فيه بالعبادة؛ فلما صامه أنكر خلوف فمه فاستاك. قيل: بعود خرنوب؛ فقالت الملائكة: إنا كنا نستنشق من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك. فزيد عليه عشر ليال من ذي الحجة. وقيل: إن الله تعالى أوحى إليه لما استاك: (يا موسى لا أكلمك حتى يعود فوك إلى ما كان عليه قبل، أما علمت أن رائحة الصائم أحب إلي من ريح المسك). وأمره بصيام عشرة أيام. وكان كلام الله تعالى لموسى صلى الله عليه وسلم غداة النحر حين فدى إسماعيل من الذبح، وأكمل لمحمد صلى الله عليه وسلم الحج. وحذفت الهاء من عشر لأن المعدود مؤنث. والفائدة في قوله{فتم ميقات ربه أربعين ليلة} وقد علم أن ثلاثين وعشرة أربعون، لئلا يتوهم أن المراد أتممنا الثلاثين بعشر منها؛ فبين أن العشر سوى الثلاثين. فإن قيل: فقد قال في البقرة أربعين وقال هنا ثلاثين؛ فيكون ذلك من البداء. قيل: ليس كذلك؛ فقد قال{وأتممناها بعشر} والأربعون، والثلاثون والعشرة قول واحد ليس بمختلف. وإنما قال القولين على تفصيل وتأليف؛ قال أربعين في قول مؤلف، وقال ثلاثين، يعني شهرا متتابعا وعشرا. وكل ذلك أربعون؛ كما قال الشاعر: يعني أربع عشرة، ليلة البدر. وهذا جائز في كلام العرب. قال علماؤنا: دلت هذه الآية على أن ضرب الأجل للمواعدة سنة ماضية، ومعنى قديم أسسه الله تعالى في القضايا، وحكم به للأمم، وعرفهم به مقادير التأني في الأعمال. وأول أجل ضربه الله تعالى الأيام الستة التي خلق فيها جميع المخلوقات، قلت: وهذا أيضا أصل لإعذار الحكام إلى المحكوم عليه مرة بعد أخرى. وكان هذا لطفا بالخلق، ولينفذ القيام عليهم بالحق. يقال: أعذر في الأمر أي بالغ فيه؛ أي أعذر غاية الإعذار الذي لا إعذار بعده. وأكبر الإعذار إلى بني آدم بعثة الرسل إليهم لتتم حجته عليهم، ودلت الآية أيضا على أن التاريخ يكون بالليالي دون الأيام؛ لقوله تعالى{ثلاثين ليلة} لأن الليالي أوائل الشهور. وبها كانت الصحابة رضي الله عنهم تخبر عن الأيام؛ حتى روي عنها أنها كانت تقول: صمنا خمسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. والعجم تخالف في ذلك، فتحسب بالأيام لأن معولها على الشمس. ابن العربي: وحساب الشمس للمنافع، وحساب القمر للمناسك؛ ولهذا قال{وواعدنا موسى ثلاثين ليلة}. فيقال: أرخت تاريخا، وورخت توريخا؛ لغتان. قوله تعالى{وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح} المعنى: وقال موسى حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها لأخيه هارون: كن خليفتي؛ فدل على النيابة. وفي {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين} قوله تعالى{ولما جاء موسى لميقاتنا} أي في الوقت الموعود. }وكلمه ربه} أي أسمعه كلامه من غير واسطة. }قال رب أرني أنظر إليك} سأل النظر إليه؛ واشتاق إلى رؤيته لما أسمعه كلامه. قوله تعالى{قال لن تراني} أي في الدنيا. ولا يجوز الحمل على أنه أراد: أرني آية عظيمة لأنظر إلى قدرتك؛ لأنه قال }إليك} و}قال لن تراني}. ولو سأل آية لأعطاه الله ما سأل، كما أعطاه سائر الآيات. وقد كان لموسى عليه السلام فيها مقنع عن طلب آية أخرى؛ فبطل هذا التأويل. }ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} ضرب له مثالا مما هو أقوى من بنيته وأثبت. أي فإن ثبت الجبل وسكن فسوف تراني، وإن لم يسكن فإنك لا تطيق رؤيتي، كما أن الجبل لا يطيق رؤيتي. وذكر القاضي عياض عن القاضي أبي بكر بن الطيب ما معناه: أن موسى عليه السلام رأى الله فلذلك خر صعقا، وأن الجبل رأى ربه فصار دكا بإدراك خلقه الله له. واستنبط ذلك من قوله{ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني}. ثم قال{فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا} وتجلى معناه ظهر؛ من قولك: جلوت العروس أي أبرزتها. وجلوت السيف أبرزته من الصدأ؛ جلاء فيهما. وتجلى الشيء انكشف. وقيل: تجلى أمره وقدرته؛ قاله قطرب وغيره. وقراءة أهل المدينة وأهل البصرة }دكا}؛ يدل على صحتها قوله تعالى{وأنا أول المؤمنين} قيل: من قومي. وقيل: من بني إسرائيل في هذا العصر. وقيل: بأنك لا ترى في الدنيا لوعدك السابق، في ذلك. {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين} قوله تعالى{قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} الاصطفاء: الاجتباء؛ أي فضلتك. ولم يقل على الخلق؛ لأن من هذا الاصطفاء أنه كلمه وقد كلم الملائكة وأرسله وأرسل غيره. فالمراد }على الناس} المرسل إليهم. وقرأ }برسالتي} على الإفراد نافع وابن كثير. والباقون بالجمع. والرسالة مصدر، فيجوز إفرادها. ومن جمع على أنه أرسل بضروب من الرسالة فاختلفت أنواعها، فجمع المصدر لاختلاف أنواعه؛ كما قال قوله تعالى{فخذ ما آتيتك} إشارة إلى القناعة؛ أي اقنع بما أعطيتك. }وكن من الشاكرين} أي من المظهرين لإحساني إليك وفضلي عليك؛ يقال: دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف. والشاكر معرض للمزيد كما قال {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين} قوله تعالى{وكتبنا له في الألواح من كل شيء} يريد التوراة. وروي في الخبر أنه قبض عليه جبريل عليه السلام بجناحه فمر به في العلا حتى أدناه حتى سمع صريف القلم حين كتب الله له الألواح؛ ذكره الترمذي الحكيم. وقال مجاهد: كانت الألواح من زمردة خضراء. ابن جبير: من ياقوتة حمراء. أبو العالية: من زبرجد. الحسن: من خشب؛ نزلت من السماء. وقيل: من صخرة صماء، لينها الله لموسى عليه السلام فقطعها بيده ثم شقها بأصابعه؛ فأطاعته كالحديد لداود. قال مقاتل: أي كتبنا له في الألواح كنقس الخاتم. ربيع بن أنس: نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير. وأضاف الكتابة إلى نفسه على جهة التشريف؛ إذ هي مكتوبة بأمره كتبها جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر. واستمد من نهر النور. وقيل: هي كتابة أظهرها الله وخلقها في الألواح. وأصل اللوح: لوح (بفتح اللام)؛ قال الله تعالى {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين، والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} قوله تعالى{سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} قال قتادة: سأمنعهم فهم كتابي. وقاله سفيان بن عيينة. وقيل: سأصرفهم عن الإيمان بها. وقيل: سأصرفهم عن نفعها؛ وذلك مجازاة على تكبرهم. نظيره قوله تعالى{وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا} يعني هؤلاء المتكبرون. أخبر عنهم أنهم يتركون طريق الرشاد ويتبعون سبيل الغي والضلال؛ أي الكفر يتخذونه دينا. }ثم علل فقال{ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا} أي ذلك الفعل الذي فعلته بهم بتكذيبهم. }وكانوا عنها غافلين} أي كانوا في تركهم تدبر الحق كالغافلين. ويحتمل أن يكونوا غافلين عما يجازون به؛ كما يقال: ما أغفل فلان عما يراد به؛ وقرأ مالك بن دينار }وإن يروا} بضم الياء في الحرفين؛ أي يفعل ذلك بهم. وقرأ أهل المدينة وأهل البصرة }سبيل الرشد} بضم الراء وإسكان الشين. وأهل الكوفة إلا عاصما }الرشد} بفتح الراء والشين. قال أبو عبيد: فرق أبو عمرو بين الرشد والرشد فقال: الرشد في الصلاح. والرشد في الدين. قال النحاس{سيبويه يذهب إلى أن الرشد والرشد مثل السخط والسخط، وكذا قال الكسائي. والصحيح عن أبي عمرو غير ما قال أبو عبيد. قال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا نصر بن علي عن أبيه عن أبي عمرو بن العلاء قال: إذا كان الرشد وسط الآية فهو مسكن، وإذا كان رأس الآية فهو محرك. قال النحاس: يعني برأس الآية نحو {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين} قوله تعالى{واتخذ قوم موسى من بعده} أي من بعد خروجه إلى الطور. }من حليهم} هذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما }من حليهم} بكسر الحاء. وقرأ يعقوب }من حليهم} بفتح الحاء والتخفيف. قال النحاس: جمع حلي وحلي وحلي؛ مثل ثدي وثدي وثدي. والأصل }حلوى} ثم أدغمت الواو في الياء فانكسرت اللام لمجاورتها الياء، وتكسر الحاء لكسرة اللام. وضمها على الأصل. }عجلا} مفعول. }جسدا} نعت أو بدل. }له خوار} رفع بالابتداء. يقال: خار يخور خوارا إذا صاح. وكذلك جأر يجأر جؤارا. ويقال: خور يخور خورا إذا جبن وضعف. وروي في قصص العجل: أن السامري، واسمه موسى بن ظفر، ينسب إلى قرية تدعى سامرة. ولد عام قتل الأبناء، وأخفته أمه في كهف جبل فغذاه جبريل فعرفه لذلك؛ فأخذ حين عبر البحر على فرس وديق ليتقدم فرعون في البحر - قبضة من أثر حافر الفرس. وهو معنى قوله قوله تعالى{ألم يروا أنه لا يكلمهم} بين أن المعبود يجب أن يتصف بالكلام. }ولا يهديهم سبيلا} أي طريقا إلى حجة. }اتخذوه} أي إلها. }وكانوا ظالمين} أي لأنفسهم فيما فعلوا من اتخاذه. وقيل: وصاروا ظالمين أي مشركين لجعلهم العجل إلها. {ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين} قوله تعالى{ولما سقط في أيديهم} أي بعد عود موسى من الميقات. يقال للنادم المتحير: قد سقط في يده. قال الأخفش: يقال سقط في يده، وأسقط. ومن قال: سقط في أيديهم على بناء الفاعل؛ فالمعنى عنده: سقط الندم؛ قال الأزهري والنحاس وغيرهما. والندم يكون في القلب، ولكنه ذكر اليد لأنه يقال لمن تحصل على شيء: قد حصل في يده أمر كذا؛ لأن مباشرة الأشياء في الغالب باليد؛ قال الله تعالى {ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئس ما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين، قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين} قوله تعالى{ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا} لم ينصرف }غضبان} لأن مؤنثه غضبى، ولأن الألف والنون فيه بمنزلة ألفي التأنيث في قولك حمراء. وهو نصب على الحال. و}أسفا} شديد الغضب. قال أبو الدرداء: الأسف منزلة وراء الغضب أشد من ذلك. وهو أسف وأسف وأسفان وأسوف. والأسيف أيضا الحزين. ابن عباس والسدي: رجع حزينا من صنيع قومه. وقال الطبري: أخبره الله عز وجل قبل رجوعه أنهم قد فتنوا بالعجل؛ فلذلك رجع وهو غضبان. ابن العربي: وكان موسى عليه السلام من أعظم الناس غضبا، لكنه كان سريع الفيئة؛ فتلك بتلك. قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: كان موسى عليه السلام إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته، ورفع شعر بدنه جبته. وذلك أن الغضب جمرة تتوقد في القلب. ولأجله أمر النبي صلى الله عليه وسلم من غضب أن يضطجع. فإن لم يذهب غضبه اغتسل؛ فيخمدها اضطجاعه ويطفئها اغتساله. وسرعه غضبه كان سببا لصكه ملك الموت ففقأ عينه. وقال الترمذي الحكيم: وإنما استجاز موسى عليه السلام ذلك لأنه كليم الله؛ كأنه رأى أن من اجترأ عليه أو مد إليه يدا بأذى فقد عظم الخطب فيه. ألا ترى أنه احتج عليه فقال: من أين تنزع روحي؟ أمن فمي وقد ناجيت به ربي! أم من سمعي وقد سمعت به كلام ربي! أم من يدي وقد قبضت منه الألواح! أم من قدمي وقد قمت بين يديه أكلمه بالطور! أم من عيني وقد أشرق وجهي لنوره. فرجع إلى ربه مفحما. قوله تعالى{قال بئسما خلفتموني من بعدي} ذم منه لهم؛ أي بئس العمل عملتم بعدي. يقال: خلفه؛ بما يكره. ويقال في الخير أيضا. يقال منه: خلفه بخير أو بشر في أهله وقومه بعد شخوصه. }أعجلتم أمر ربكم} أي سبقتموه. والعجلة: التقدم بالشيء قبل وقته، وهي مذمومة. والسرعة: عمل الشيء في أول أوقاته، وهي محمودة. قال يعقوب: يقال عجلت الشيء سبقته. وأعجلت الرجل استعجلته، أي حملته على العجلة. ومعنى }أمر ربكم} أي ميعاد ربكم، أي وعد أربعين ليلة. وقيل: أن تعجلتم سخط ربكم. وقيل: أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربكم. قوله تعالى{وألقى الألواح} أي مما اعتراه من الغضب والأسف حين أشرف على قومه وهم عاكفون على عبادة العجل، وعلى أخيه في إهمال أمرهم؛ قال سعيد بن جبير. ولهذا قيل: ليس الخبر كالمعاينة. ولا التفات لما روي عن قتادة إن صح عنه، ولا يصح أن إلقاءه الألواح إنما كان لما رأى فيها من فضيلة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك لأمته. وهذا قول رديء لا ينبغي أن يضاف إلى موسى صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أن الألواح تكسرت، وأنه رفع منها التفصيل وبقي فيها الهدى والرحمة. وقد استدل بعض جهال المتصوفة بهذا على جواز رمي الثياب إذا اشتد طربهم على المغنى. ثم منهم من يرمي بها صحاحا، ومنهم من يخرقها ثم يرمي بها. قال: هؤلاء في غيبة فلا يلامون؛ فإن موسى عليه السلام لما غلب عليه الغم بعبادة قومه العجل، رمى الألواح فكسرها، ولم يدر ما صنع. قال أبو الفرج الجوزي: من يصحح عن موسى عليه السلام أنه رماها رمي كاسر؟ والذي ذكر في القرآن ألقاها، فمن أين لنا أنها تكسرت؟ ثم لو قيل: تكسرت فمن أين لنا أنه قصد كسرها؟ ثم لو صححنا ذلك عنه قلنا كان في غيبة، حتى لو كان بين يديه بحر من نار لخاضه. ومن يصحح لهؤلاء غيبتهم وهم يعرفون المغنى من غيره، ويحذرون من بئر لو كانت عندهم. ثم كيف تقاس أحوال الأنبياء على أحوال هؤلاء السفهاء. وقد سئل ابن عقيل عن تواجدهم وتخريق ثيابهم فقال: خطأ وحرام؛ وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. فقال له قائل: فإنهم لا يعقلون ما يفعلون. فقال: إن حضروا هذه الأمكنة مع علمهم أن الطرب يغلب عليهم فيزيل عقولهم أثموا بما أدخلوه على أنفسهم من التخريق وغيره مما أفسدوا، ولا يسقط عنهم خطاب الشرع؛ لأنهم مخاطبون قبل الحضور بتجنب هذا الموضع الذي يفضي إلى ذلك. كما هم منهيون عن شرب المسكر، كذلك هذا الطرب الذي يسميه أهل التصوف وجدا إن صدقوا أن فيه سكر طبع، وإن كذبوا أفسدوا مع الصحو، فلا سلامة فيه مع الحالين، وتجنب مواضع الريب واجب. قوله تعالى{وأخذ برأس أخيه يجره إليه} أي بلحيته وذؤابته. وكان هارون أكبر من موسى - صلوات الله وسلامه عليهما - بثلاث سنين، وأحب إلى بني إسرائيل من موسى؛ لأنه كان لين الغضب. وللعلماء في أخذ موسى برأس أخيه أربع تأويلات: الأول: أن ذلك كان متعارفا عندهم؛ كما كانت العرب تفعله من قبض الرجل على لحية أخيه وصاحبه إكراما وتعظيما، فلم يكن ذلك على طريق الإذلال. الثاني: أن ذلك إنما كان ليسر إليه نزول الألواح عليه؛ لأنها نزلت عليه في هذه المناجاة وأراد أن يخفيها عن بني إسرائيل قبل التوراة. فقال له هارون: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي؛ لئلا يشتبه سراره على بني إسرائيل بإذلاله. الثالث: إنما فعل ذلك به لأنه وقع في نفسه أن هارون مائل مع بني إسرائيل فيما فعلوه من أمر العجل. ومثل هذا لا يجوز على الأنبياء. الرابع: ضم إليه أخاه ليعلم ما لديه؛ فكره ذلك هارون لئلا يظن بنو إسرائيل أنه أهانه؛ فبين له أخوه أنهم استضعفوه، يعني عبدة العجل، وكادوا يقتلونه أي قاربوا. فلما سمع عذره قال: رب اغفر لي ولأخي؛ أي اغفر لي ما كان من الغضب الذي ألقيت من أجله الألواح، ولأخي لأنه ظنه مقصرا في الإنكار عليهم وإن لم يقع منه تقصير؛ أي اغفر لأخي إن قصر. قال الحسن: عبد كلهم العجل غير هارون، إذ لو كان ثم مؤمن غير موسى وهارون لما اقتصر على قوله: رب اغفر لي ولأخي، ولدعا لذلك المؤمن أيضا. وقيل: استغفر لنفسه من فعله بأخيه، فعل ذلك لموجدته عليه؛ إذ لم يلحق به فيعرفه ما جرى ليرجع فيتلافاهم؛ ولهذا قال قوله تعالى{قال ابن أم} وكان ابن أمه وأبيه. ولكنها كلمة لين وعطف. قال الزجاج: قيل كان هارون أخا موسى لأمه لا لأبيه. وقرئ بفتح الميم وكسرها؛ فمن فتح جعل }ابن أم} اسما واحدا كخمسة عشر؛ فصار كقولك: يا خمسة عشر أقبلوا. ومن كسر الميم جعله مضافا إلى ضمير المتكلم ثم حذف ياء الإضافة؛ لأن مبنى النداء على الحذف، وأبقى الكسرة في الميم لتدل على الإضافة؛ كقوله فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا وقرأ مجاهد ومالك بن دينار }تشمت} بالنصب في التاء وفتح الميم، }الأعداء} بالرفع. والمعنى: لا تفعل بي ما تشمت من أجله الأعداء، أي لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله أنت بي. وعن مجاهد أيضا }تشمت} بالفتح فيهما }الأعداء} بالنصب. قال ابن جني: المعنى فلا تشمت بي أنت يا رب. وجاز هذا كما قال {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين، والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} قوله تعالى{إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم} الغضب من الله العقوبة. }وذلة في الحياة الدنيا} لأنهم أمروا بقتل بعضهم بعضا. وقيل: الذلة الجزية. وفيه بعد؛ لأن الجزية لم تؤخذ منهم وإنما أخذت من ذرياتهم. ثم قيل: هذا من تمام كلام موسى عليه السلام؛ أخبر الله عز وجل به عنه، وتم الكلام. ثم قال الله تعالى{وكذلك نجزي المفترين} وكان هذا القول من موسى عليه السلام قبل أن يتوب القوم بقتلهم أنفسهم، فإنهم لما تابوا وعفا الله عنهم بعد أن جرى القتل العظيم أخبرهم أن من مات منهم قتيلا فهو شهيد، ومن بقي حيا فهو مغفور له. وقيل: كان ثم طائفة أشربوا في قلوبهم العجل، أي حبه، فلم يتوبوا؛ فهم المعنيون. وقيل: أراد من مات منهم قبل رجوع موسى من الميقات. وقيل: أراد أولادهم. وهو ما جرى على قريظة والنضير؛ أي سينال أولادهم. والله أعلم. }وكذلك نجزي المفترين} أي مثل ما فعلنا بهؤلاء نفعل بالمفترين. وقال مالك بن أنس رحمة الله عليه: ما من مبتدع إلا وتجد فوق رأسه ذلة، ثم قرأ }إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم - حتى قال - وكذلك نجزي المفترين} أي المبتدعين. وقيل: إن موسى أم بذبح العجل، فجرى منه دم وبرده بالمبرد وألقاه مع الدم في اليم وأمرهم بالشرب من ذلك الماء؛ فمن عبد ذلك العجل وأشربه ظهر ذلك على أطراف فمه؛ فبذلك عرف عبدة العجل. ثم أخبر الله تعالى أن الله يقبل توبة التائب من الشرك وغيره. }والذين عملوا السيئات} أي الكفر والمعاصي. }ثم تابوا من بعدها} أي من بعد فعلها. }وآمنوا إن ربك من بعدها} أي من بعد التوبة }لغفور رحيم}. {ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} قوله تعالى{ولما سكت عن موسى الغضب} أي سكن. وكذلك قرأها معاوية بن قرة }سكن} بالنون. وأصل السكوت السكون والإمساك؛ يقال: جرى الوادي ثلاثا ثم سكن، أي أمسك عن الجري. وقال عكرمة: سكت موسى عن الغضب؛ فهو من المقلوب. كقولك: أدخلت الأصبع في الخاتم وأدخلت الخاتم في الأصبع. وأدخلت القلنسوة في رأسي، وأدخلت رأسي في القلنسوة. }أخذ الألواح} التي ألقاها. }وفي نسختها هدى ورحمة} أي }هدى} من الضلالة؛ }ورحمة} أي من العذاب. والنسخ: نقل ما في كتاب إلى كتاب آخر. ويقال للأصل الذي كتبت منه: نسخة، وللفرع نسخة. فقيل: لما تكسرت الألواح صام موسى أربعين يوما؛ فردت عليه وأعيدت له تلك الألواح في لوحين، ولم يفقد منها شيئا؛ ذكره ابن عباس. قال القشيري: فعلى هذا }وفي نسختها} أي وفيما نسخ من الألواح المتكسرة ونقل إلى الألواح الجديدة هدى ورحمة. وقال عطاء: وفيما بقي منها. وذلك أنه لم يبق منها إلا سبعها، وذهب ستة أسباعها. ولكن لم يذهب من الحدود والأحكام شيء. وقيل: المعنى }وفي نسختها} أي وفيما نسخ له منها من اللوح المحفوظ هدى. وقيل: المعنى وفيما كتب له فيها هدى ورحمة، فلا يحتاج إلى أصل ينقل عنه. وهذا كما يقال: انسخ ما يقول فلان، أي أثبته في كتابك. قوله تعالى{للذين هم لربهم يرهبون} أي يخافون. وفي اللام ثلاثة أقوال: قول الكوفيين هي زائدة. قال الكسائي: حدثني من سمع الفرزدق يقول: نقدت لها مائة درهم، بمعنى نقدتها. وقيل: هي لام أجل؛ المعنى: والذين هم من أجل ربهم يرهبون لا رياء ولا سمعة؛ عن الأخفش. وقال محمد بن يزيد: هي متعلقة بمصدر؛ المعنى: للذين هم رهبتهم لربهم. وقيل: لما تقدم المفعول حسن دخول اللام؛ كقول {واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} قوله تعالى{واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا} مفعولان، أحدهما حذفت منه من؛ وأنشد سيبويه: وقال الراعي يمدح رجلا: يريد: اخترتك من الناس. وأصل اختار اختير؛ فلما تحركت الياء وقبلها فتحة قلبت ألفا، نحو قال وباع. قوله تعالى{فلما أخذتهم الرجفة} أي ماتوا. والرجفة في اللغة الزلزلة الشديدة. ويروى أنهم زلزلوا حتى ماتوا. }قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي} أي أمتهم؛ كما قال عز وجل وقيل: معناه الدعاء والطلب، أي لا تهلكنا؛ وأضاف إلى نفسه. والمراد القوم الذين ماتوا من الرجفة. وقال المبرد: المراد بالاستفهام استفهام استعظام؛ كأنه يقول: لا تهلكنا، وقد علم موسى أن الله لا يهلك أحدا بذنب غيره؛ ولكنه كقول عيسى {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} قوله تعالى{واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة} أي وفقنا للأعمال الصالحة التي تكتب لنا بها الحسنات. }وفي الآخرة} أي جزاء عليها. }إنا هدنا إليك} أي تبنا؛ قاله مجاهد وأبو العالية وقتادة. والهود: التوبة؛ وقد تقدم في }البقرة}. قوله تعالى{قال عذابي أصيب به من أشاء} أي المستحقين له، أي هذه الرجفة والصاعقة عذاب مني أصيب به من أشاء. وقيل: المعنى }من أشاء} أي من أشاء أن أضله. قوله تعالى{ورحمتي وسعت كل شيء} عموم، أي لا نهاية لها، أي من دخل فيها لم تعجز عنه. وقيل: وسعت كل شيء من الخلق حتى إن البهيمة لها رحمة وعطف على ولدها. قال بعض المفسرين: طمع في هذه الآية كل شيء حتى إبليس، فقال: أنا شيء؛ فقال الله تعالى{فسأكتبها للذين يتقون} فقالت اليهود والنصارى: نحن متقون؛ فقال الله تعالى {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} روى يحيى بن أبي كثير عن نوف البكالي الحميري: لما اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقات ربه قال الله تعالى لموسى: أن أجعل لكم الأرض مسجدا وطهورا تصلون حيث أدركتكم الصلاة إلا عند مرحاض أو حمام أو قبر، وأجعل السكينة في قلوبكم، وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهر قلوبكم، يقرأها الرجل منكم والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير. فقال ذلك موسى لقومه، فقالوا: لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس، ولا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا، ونريد أن تكون كما كانت في التابوت، ولا نستطيع أن نقرأ التوراة عن ظهر قلوبنا، ولا نريد أن نقرأها إلا نظرا. فقال الله تعالى{فسأكتبها للذين يتقون - إلى قوله - المفلحون}. فجعلها لهذه الأمة. فقال موسى: يا رب، اجعلني نبيهم. فقال: نبيهم منهم. قال: رب اجعلني منهم. قال: إنك لن تدركهم. فقال موسى: يا رب، أتيتك بوفد بني إسرائيل، فجعلت وفادتنا لغيرنا. فأنزل الله عز وجل قوله تعالى{الذين يتبعون الرسول النبي الأمي} هذه الألفاظ كما ذكرنا أخرجت اليهود والنصارى من الاشتراك الذي يظهر في، قوله{فسأكتبها للذين يتقون} وخلصت هذه العدة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن عباس وابن جبير وغيرهما. و}يتبعون} يعني في شرعه ودينه وما جاء به. والرسول والنبي صلى الله عليه وسلم اسمان لمعنيين؛ فإن الرسول أخص من النبي. وقدم الرسول اهتماما بمعنى الرسالة، وإلا فمعنى النبوة هو المتقدم؛ ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على البراء حين قال: وبرسولك الذي أرسلت. فقال له: (قل آمنت بنبيك الذي أرسلت) خرجه في الصحيح. وأيضا فإن في قوله{وبرسولك الذي أرسلت} تكرير الرسالة؛ وهو معنى واحد فيكون كالحشو الذي لا فائدة فيه. بخلاف قوله{ونبيك الذي أرسلت} فإنهما لا تكرار فيهما. وعلى هذا فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا؛ لأن الرسول والنبي قد اشتركا في أمر عام وهو النبأ، وافترقا في أمر خاص وهي الرسالة. فإذا قلت: محمد رسول من عند الله تضمن ذلك أنه نبي ورسول الله. وكذلك غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. قوله تعالى{الأمي} هو منسوب إلى الأمة الأمية، التي هي على أصل ولادتها، لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها؛ قال ابن عزيز. وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان نبيكم صلى الله عليه وسلم أميا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب؛ قال الله تعالى قوله تعالى{الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} روى البخاري قال: حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا فليح قال حدثنا هلال عن عطاء بن يسار لقيت عبدالله بن عمرو بن العاص قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلقا. في غير البخاري قال عطاء: ثم لقيت كعبا فسألته عن ذلك فما اختلفا حرفا؛ إلا أن كعبا قال بلغته: قلوبا غلوفيا وآذانا صموميا وأعينا عموميا. قال ابن عطية: وأظن هذا وهما أو عجمة. وقد روي عن كعب أنه قالها: قلوبا غلوفا وآذانا صموما وأعينا عموميا. قال الطبري: هي لغة حميرية. وزاد كعب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم قال: مولده بمكة، وهجرته بطابة، وملكه بالشأم، وأمته الحامدون، يحمدون الله على كل حال وفي كل منزل، يوضؤون أطرافهم ويأتزرون إلى أنصاف ساقهم، رعاة الشمس، يصلون الصلوات حيثما أدركتهم ولو على ظهر الكناسة، صفهم في القتال مثل صفهم في الصلاة. ثم قرأ قوله تعالى{يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} قال عطاء{يأمرهم بالمعروف} بخلع الأنداد، ومكارم الأخلاق، وصلة الأرحام. }وينهاهم عن المنكر} عبادة الأصنام، وقطع الأرحام. قوله تعالى{ويحل لهم الطيبات} مذهب مالك أن الطيبات هي المحللات؛ فكأنه وصفها بالطيب؛ إذ هي لفظة تتضمن مدحا وتشريفا. وبحسب هذا نقول في الخبائث: إنها المحرمات؛ ولذلك قال ابن عباس: الخبائث هي لحم الخنزير والربا وغيره. وعلى هذا حلل مالك المتقذرات كالحيات والعقارب والخنافس ونحوها. ومذهب الشافعي رحمه الله أن الطيبات هي من جهة الطعم؛ إلا أن اللفظة عنده ليست على عمومها؛ لأن عمومها بهذا الوجه من الطعم يقتضي تحليل الخمر والخنزير، بل يراها مختصة فيما حلله الشرع. ويرى الخبائث لفظا عاما في المحرمات بالشرع وفي المتقذرات؛ فيحرم العقارب والخنافس والوزغ وما جرى هذا المجرى. والناس على هذين القولين. قوله تعالى{ويضع عنهم إصرهم} الإصر: الثقل؛ قال مجاهد وقتادة وابن جبير. والإصر أيضا: العهد؛ قال ابن عباس والضحاك والحسن. وقد جمعت هذه الآية المعنيين، فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال؛ فوضع عنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك العهد وثقل تلك الأعمال؛ كغسل البول، وتحليل الغنائم، ومجالسة الحائض ومؤاكلتها ومضاجعتها؛ فإنهم كانوا إذا أصاب ثوب أحدهم بول قرضه. وروي: جلد أحدهم. وإذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء فأكلتها، وإذا حاضت المرأة لم يقربوها، إلى غير ذلك مما ثبت في الحديث الصحيح وغيره. قوله تعالى{والأغلال التي كانت عليهم} فالأغلال عبارة مستعارة لتلك الأثقال. ومن الأثقال ترك الاشتغال يوم السبت؛ فإنه يروى أن موسى عليه السلام رأى يوم السبت رجلا يحمل قصبا فضرب عنقه. هذا قول جمهور المفسرين. ولم يكن فيهم الدية، وإنما كان القصاص. وأمروا بقتل أنفسهم علامة لتوبتهم، إلى غير ذلك. فشبه ذلك بالأغلال؛ كما قال الشاعر: عاد الفتى كالكهل ليس بقائل سوى العدل شيئا فاستراح العواذل فشبه حدود الإسلام وموانعه عن التخطي إلى المحظورات بالسلاسل المحيطات بالرقاب. ومن هذا المعنى قول أبي أحمد بن جحش لأبي سفيان: أي لزمك عارها. يقال: طوق فلان كذا إذا لزمه. إن قيل: كيف عطف الأغلال وهو جمع على الإصر وهو مفرد؛ فالجواب أن الإصر مصدر يقع على الكثرة. وقرأ ابن عامر }آصارهم} بالجمع؛ مثل أعمالهم. فجمعه لاختلاف ضروب المآثم. والباقون بالتوحيد؛ لأنه مصدر يقع على القليل والكثير من جنسه مع إفراد لفظه. وقد أجمعوا على التوحيد في قوله قوله تعالى{فالذين آمنوا به وعزروه} أي وقروه ونصروه. قال الأخفش: وقرأ الجحدري وعيسى }وعزروه} بالتخفيف. وكذا {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} ذكر أن موسى بشر به، وأن عيسى بشر به. ثم أمره أن يقول بنفسه }إني رسول الله إليكم جميعا}. و}كلماته} كلمات الله تعالى كتبه من التوراة والإنجيل والقرآن. {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} أي يدعون الناس إلى الهداية. و}يعدلون} معناه في الحكم. وفي التفسير: إن هؤلاء قوم من وراء الصين، من وراء نهر الرمل، يعبدون الله بالحق والعدل، آمنوا بمحمد وتركوا السبت، يستقبلون قبلتنا، لا يصل إلينا منهم أحد، ولا منا إليهم أحد. فروي أنه لما وقع الاختلاف بعد موسى كانت منهم أمة يهدون بالحق، ولم يقدروا أن يكونوا بين ظهراني بني إسرائيل حتى أخرجهم الله إلى ناحية من أرضه في عزلة من الخلق، فصار لهم سرب في الأرض، فمشوا فيه سنة ونصف سنة حتى خرجوا وراء الصين؛ فهم على الحق إلى الآن. وبين الناس وبينهم بحر لا يوصل إليهم بسببه. ذهب جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم إليهم ليلة المعراج فآمنوا به وعلمهم سورا من القرآن وقال لهم: هل لكم مكيال وميزان؟ قالوا: لا، قال: فمن أين معاشكم؟ قالوا: نخرج إلى البرية فنزرع، فإذا حصدنا وضعناه هناك، فإذا احتاج أحدنا إليه يأخذ حاجته. قال: فأين نساؤكم؟ قالوا: في ناحية منا، فإذا احتاج أحدنا لزوجته صار إليها في وقت الحاجة. قال: فيكذب أحدكم في حديثه؟ قالوا: لو فعل ذلك أحدنا أخذته لظى، إن النار تنزل فتحرقه. قال: فما بال بيوتكم مستوية؟ قالوا لئلا يعلو بعضنا على بعض. قال: فما بال قبوركم على أبوابكم؟ قالوا: لئلا نغفل عن ذكر الموت. ثم لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا ليلة الإسراء أنزل عليه {وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون} قوله تعالى{وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما} عدد نعمه على بني إسرائيل، وجعلهم أسباطا ليكون أمر كل سبط معروفا من جهة رئيسهم؛ فيخف الأمر على موسى. وفي التنزيل فذهب بالبطن إلى القبيلة والفصيلة؛ فلذلك أنثها. والبطن مذكر؛ كما أن الأسباط جمع مذكر. الزجاج: المعنى قطعناهم اثنتي عشرة فرقة. }أسباطا} بدل من اثنتي عشرة }أمما} نعت للأسباط. وروى المفضل عن عاصم }وقطعناهم} مخففا. }أسباطا} الأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل عليهما السلام. والأسباط مأخوذ من السبط وهو شجر تعلفه الإبل. وقد مضى في (البقرة) مستوفى. روى معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل{فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم} قالوا: حبة في شعرة. وقيل لهم{ادخلوا الباب سجدا} فدخلوا متوركين على أستاههم. }بما كانوا يظلموا} مرفوع؛ لأنه فعل مستقبل وموضعه نصب. و}ما} بمعنى المصدر، أي بظلمهم. وقد مضى في (البقرة) ما في هذه الآية من المعاني والأحكام. والحمد لله. {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون، وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون} قوله تعالى{واسألهم عن القرية} أي عن أهل القرية؛ فعبر عنهم بها لما كانت مستقرا لهم أو سبب اجتماعهم. نظيره واختلف في تعيين هذه القرية؛ فقال ابن عباس وعكرمة والسدي: هي أيلة. وعن ابن عباس أيضا أنها مدين بين أيلة والطور. الزهري: طبرية. قتادة وزيد بن أسلم: هي ساحل من سواحل الشأم، بين مدين وعينون، يقال لها: مقناة. وكان اليهود يكتمون هذه القصة لما فيها من السبة عليهم. }التي كانت حاضرة البحر} أي كانت بقرب البحر؛ تقول: كنت بحضرة الدار أي بقربها. }إذ يعدون في السبت} أي يصيدون الحيتان، وقد نهوا عنه؛ يقال: سبت اليهود؛ تركوا العمل في سبتهم. وسبت الرجل للمفعول سباتا أخذه ذلك، مثل الخرس. وأسبت سكن فلم يتحرك. والقوم صاروا في السبت. واليهود دخلوا في السبت، وهو اليوم المعروف. وهو من الراحة والقطع. ويجمع أسبت وسبوت وأسبات. قوله تعالى{قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون} أي قال الواعظون: موعظتنا إياكم معذرة إلى ربكم؛ أي إنما يجب علينا أن نعظكم لعلكم تتقون. أسند هذا القول الطبري عن ابن الكلبي. وقال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق، وهو الظاهر من الضمائر في الآية. فرقة عصمت وصادت، وكانوا نحوا من سبعين ألفا. وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص، وإن هذه الطائفة قالت للناهية: لم تعظون قوما - تريد العاصية - الله مهلكهم أو معذبهم على غلبة الظن، وما عهد من فعل الله تعالى حينئذ بالأمم العاصية. فقالت الناهية: موعظتنا معذرة إلى الله لعلهم يتقون. ولو كانوا فرقتين لقالت الناهية للعاصية: ولعلكم تتقون، بالكاف. ثم اختلف بعد هذا؛ فقالت فرقة: إن الطائفة التي لم تنه ولم تعص هلكت مع العاصية عقوبة على ترك النهي؛ قاله ابن عباس. وقال أيضا: ما أدري ما فعل بهم؛ وهو الظاهر من الآية. وقال عكرمة: قلت لابن عباس لما قال ما أدري ما فعل بهم: ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم فقالوا: لم تعظون قوما الله مهلكهم؟ فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نحوا؛ فكساني حلة. وهذا مذهب الحسن. ومما يدل على أنه إنما هلكت الفرقة العادية لا غير قوله {فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون} النسيان يطلق على الساهي. والعامد: التارك؛ لقوله تعالى{فلما نسوا ما ذكروا به} أي تركوه عن قصد؛ ومنه {فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين} قوله تعالى{فلما عتوا عن ما نهوا} أي فلما تجاوزوا في معصية الله. }قلنا لهم كونوا قردة خاسئين} يقال: خسأته فخسأ؛ أي باعدته وطردته. ودل على أن المعاصي سبب النقمة: وهذا لا خفاء به. فقيل: قال لهم ذلك بكلام يسمع، فكانوا كذلك. وقيل: المعنى كوناهم قردة. {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} أي أعلم أسلافهم أنهم إن غيروا ولم يؤمنوا بالنبي الأمي بعث الله عليهم من يعذبهم. وقال أبو علي{آذن} بالمد، أعلم. و}أذن} بالتشديد، نادى. وقال قوم: آذن وأذن بمعنى أعلم؛ كما يقال: أيقن وتيقن. قال زهير: وقال آخر: أي اعلم. ومعنى }يسومهم} يذيقهم؛ وقد تقدم في }البقرة}. قيل: المراد بختنصر. وقيل: العرب. وقيل: أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو أظهر؛ فإنهم الباقون إلى يوم القيامة. والله أعلم. قال ابن عباس{سوء العذاب} هنا أخذ الجزية. فإن قيل: فقد مسخوا، فكيف تؤخذ منهم الجزية؟ فالجواب أنها تؤخذ من أبنائهم وأولادهم، وهم أذل قوم، وهم اليهود. وعن سعيد بن جبير }سوء العذاب} قال: الخراج، ولم يجب نبي قط الخراج، إلا موسى عليه السلام هو أول من وضع الخراج، فجباه ثلاث عشرة سنة، ثم أمسك، ونبينا عليه السلام.
|