الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} يقول تعالى مبينا وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني آدم لصلبه -في قول الجمهور- وهما هابيل وقابيل كيف عدا أحدهما على الآخر، فقتله بغيا عليه وحسدا له، فيما وهبه الله من النعمة وتَقَبّل القربان الذي أخلص فيه لله عز وجل، ففاز المقتول بوضع الآثام والدخول إلى الجنة، وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} أي: واقصص على هؤلاء البغاة الحسدة، إخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم- خبر ابني آدم، وهما هابيل وقابيل فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف. وقوله: {بِالْحَقِّ} أي: على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب، ولا وَهْم ولا تبديل، ولا زيادة ولا نقصان، كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقّ} [آل عمران:62] وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13] وقال تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ] [مريم: 34] وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف، أن الله تعالى قد شرع لآدم، عليه السلام، أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال، ولكن قالوا: كان يُولَد له في كل بطن ذكر وأنثى، فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر، وكانت أخت هابيل دَميمةً، وأخت قابيل وضيئةً، فأراد أن يستأثر بها على أخيه، فأبى آدم ذلك إلا أن يقربا قربانًا، فمن تقبل منه فهي له، فقربا فَتُقُبِّل من هابيل ولم يتَقَبَّل من قابيل، فكان من أمرهما ما قص الله في كتابه.
ذكر أقوال المفسرين هاهنا: قال السُّدي -فيما ذكر- عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرَّة، عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، حتى ولد له ابنان يقال لهما: قابيل وهابيل وكان قابيل صاحب زرع، وكان هابيل صاحب ضَرع، وكان قابيل أكبرهما، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل، وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه وقال: هي أختي، ولدت معي، وهي أحسن من أختك، وأنا أحق أن أتزوج بها. فأمره أبوه أن يزوجها هابيل، فأبى، وأنهما قربا قربانا إلى الله عز وجل أيهما أحق بالجارية، وكان آدم، عليه السلام، قد غاب عنهما، أتى مكة ينظر إليها، قال الله عز وجل: هل تعلم أن لي بيتا في الأرض؟ قال: اللهم لا قال: إن لي بيتا في مكة فأته. فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة، فأبت. وقال للأرض، فأبت. وقال للجبال، فأبت. فقال لقابيل، فقال: نعم، تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك فلما انطلق آدم قَربا قربانا، وكان قابيل يفخر عليه، فقال: أنا أحق بها منك، هي أختي، وأنا أكبر منك، وأنا وصي والدي. فلما قَربا، قرب هابيل جَذعَة سمنة، وقرب قابيل حَزْمَة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة، ففركها فأكلها. فنزلت النار فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي. فقال هابيل: إنما يتقبل الله من المتقين. رواه ابن جرير. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، أخبرني ابن خُثَيْم قال: أقبلت مع سعيد بن جبير فحدثني عن ابن عباس قال: نهي أن تنكح المرأة أخاها تَوْأمها، وأمر أن ينكحها غيره من إخوتها، وكان يولد له في كل بطن رجل وامرأة، فبينما هم كذلك ولد له امرأة وضيئة، وولد له أخرى قبيحة دميمة، فقال أخو الدميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي. قال: لا أنا أحق بأختي فقربا قربانا، فتقبل من صاحب الكبش، ولم يتقبل من صاحب الزرع، فقتله. إسناد جيد. وحدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قوله {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} فقربا قربانهما، فجاء صاحب الغنم بكبش أعْين أقرن أبيض، وصاحب الحرث بصَبرة من طعام، فقبل الله الكبش فخزنه في الجنة أربعين خريفا، وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم صلى الله عليه وسلم إسناد جيد. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عَوْف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو قال: إن ابني آدم اللذين قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، كان أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، وإنهما أمرا أن يقربا قربانا، وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنَها وأحسنها، طيبة بها نفسه، وإن صاحب الحرث قرب أشَرَّ حرثه الكودن والزُّوان غير طيبة بها نفسه، وإن الله، عز وجل، تقبل قربان صاحب الغنم، ولم يتقبل قربان صاحب الحرث، وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه، قال: وأيم الله، إن كان المقتول لأشد الرجلين، ولكن منعه التحرج أن يبسط [يده] إلى أخيه. وقال إسماعيل بن رافع المدني القاص: بلغني أن ابني آدم لما أمرا بالقربان، كان أحدهما صاحب غَنَم، وكان أنْتج له حَمَل في غنمه، فأحبه حتى كان يؤثره بالليل، وكان يحمله على ظهره من حبه، حتى لم يكن له مال أحب إليه منه. فلما أمر بالقربان قربه لله، عز وجل، فقبله الله منه، فما زال يرتع في الجنة حتى فَدى به ابن إبراهيم، عليه السلام. رواه ابن جرير. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الأنصاري، حدثنا القاسم بن عبد الرحمن، حدثنا محمد بن علي بن الحسين قال: قال آدم، عليه السلام، لهابيل وقابيل: إن ربي عهد إلي أنه كائن من ذريتي من يُقَرِّب القربان، فقربا قربانا حتى تَقَر عيني إذا تُقُبّل قربانكما، فقربا. وكان هابيل صاحب غنم فقرب أكُولة غنمه، خَيْر ماله، وكان قابيل صاحب زرع، فقرب مشاقة من زرعه، فانطلق آدم معهما، ومعهما قربانهما، فصعدا الجبل فوضعا قربانهما، ثم جلسوا ثلاثتهم: آدم وهما، ينظران إلى القربان، فبعث الله نارًا حتى إذا كانت فوقهما دنا منها عنق، فاحتمل قربان هابيل وترك قربان قابيل، فانصرفوا. وعلم آدم أن قابيل مسخوط عليه، فقال: ويلك يا قابيل رد عليك قربانك. فقال قابيل: أحببتَه فصليتَ على قربانه ودعوت له فتُقُبل قربانه، ورد عليَّ قرباني. وقال قابيل لهابيل: لأقتلنك فأستريح منك، دعا لك أبوك فصلى على قربانك، فتقبل منك. وكان يتواعده بالقتل، إلى أن احتبس هابيل ذات عشية في غنمه، فقال آدم: يا قابيل، أين أخوك؟ [قال] قال: وبَعثتني له راعيا؟ لا أدري. فقال [له] آدم: ويلك يا قابيل. انطلق فاطلب أخاك. فقال قابيل في نفسه: الليلة أقتله. وأخذ معه حديدة فاستقبله وهو منقلب، فقال: يا هابيل، تقبل قربانك ورد علي قرباني، لأقتلنك. فقال هابيل: قربتُ أطيب مالي، وقربتَ أنت أخبث مالك، وإن الله لا يقبل إلا الطيب، إنما يتقبل الله من المتقين، فلما قالها غضب قابيل فرفع الحديدة وضربه بها، فقال: ويلك يا قابيل أين أنت من الله؟ كيف يجزيك بعملك؟ فقتله فطرحه في جَوْبة من الأرض، وحثى عليه شيئًا من التراب. وقال محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: إن آدم أمر ابنه قينًا أن ينكح أخته تَوأمة هابيل، وأمر هابيل أن ينكح أخته توأمة قين، فسلم لذلك هابيل ورضي، وأبى ذلك قين وكره، تكرما عن أخت هابيل، ورغب بأخته عن هابيل، وقال: نحن ولادة الجنة، وهما من ولادة الأرض، وأنا أحق بأختي -ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول: كانت أخت قين من أحسن الناس، فَضَنّ بها عن أخيه وأرادها لنفسه، فالله أعلم أي ذلك كان- فقال له أبوه: يا بني، إنها لا تحل لك، فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه. فقال له أبوه: يا بني، قرب قربانا، ويقرب أخوك هابيل قربانا، فأيكما تُقُبِّل قربانه فهو أحق بها، وكان قين على بَذْر الأرض، وكان هابيل على رعاية الماشية، فقرب قين قمحا، وقرب هابيل أبكارا من أبكار غنمه -وبعضهم يقول: قرب بقرة- فأرسل الله نارا بيضاء، فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قين، وبذلك كان يُقْبَل القربان إذا قبله. رواه ابن جرير. وقال العَوْفِيُّ، عن ابن عباس قال: كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يُتَصَدّق عليه، وإنما كان القربان يقربه الرجل. فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا لو قربنا قربانا وكان الرجل إذا قرب قربانا فرضيه الله، أرسل إليه نارا فتأكله وإن لم يكن رضيه الله خَبَت النار، فقربا قربانا، وكان أحدهما راعيا، وكان الآخر حَرّاثا، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها، وقرب الآخر بعض زرعه، فجاءت النار فنزلت بينهما، فأكلت الشاة وتركت الزرع، وإن ابن آدم قال لأخيه: أتمشي في الناس وقد علموا أنك قَرّبت قربانا فَتُقُبِّل منك وَرُدّ عليَّ؟ فلا والله لا ينظر الناس إليك وإليَّ وأنتخير مني. فقال: لأقتلنك. فقال له أخوه: ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين. رواه ابن جرير. فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لا عن سبب ولا عن تدارئ في امرأة، كما تقدم عن جماعة مَنْ تقدم ذكرهم، وهو ظاهر القرآن: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} فالسياق يقتضي إنه إنما غضب عليه وحسده لقبول قربانه دونه. ثم المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل، وأن الذي قرب الطعام هو قابيل، وأنه تُقُبل من هابيل شاته، حتى قال ابن عباس وغيره: إنه الكبش الذي فدي به الذبيح، وهو مناسب، والله أعلم، ولم يتقبل من قابيل. كذلك نص عليه غير واحد من السلف والخلف، وهو المشهور عن مجاهد أيضًا، ولكن روى ابن جرير، عنه أنه قال: الذي قرب الزرع قابيل، وهو المتقبل منه، وهذا خلاف المشهور، ولعله لم يحفظ عنه جيدا والله أعلم. ومعنى قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} أي: ممن اتقى الله في فعله ذلك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن العلاء بن زبريق، حدثنا إسماعيل بن عَيَّاش، حدثني صَفْوان بن عمرو، عن تَمِيم، يعني ابن مالك المقري، قال: سمعت أبا الدرداء يقول: لأن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إليّ من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} وحدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن عمران، حدثنا إسحاق بن سليمان -يعني الرازي- عن المغيرة بن مسلم، عن ميمون بن أبي حمزة قال: كنت جالسًا عند أبي وائل، فدخل علينا رجل -يقال له: أبو عفيف، من أصحاب معاذ- فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيف، ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل؟ قال: بلى، سمعته يقول: يحبس الناس في بقيع واحد، فينادي مناد: أين المتقون؟ فيقومون في كَنَف من الرحمن، لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا العبادة، فيمرون إلى الجنة. وقوله: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} يقول له أخوه الرجل الصالح، الذي تقبل الله قربانه لتقواه حين تواعده أخوه بالقتل على غير ما ذنب منه إليه: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ} أي:} لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله، فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة، {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} أي: من أن أصنع كما تريد أن تصنع، بل أصبر وأحتسب. قال عبد الله بن عمرو: وأيم الله، إن كان لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج، يعني الورع. ولهذا ثبت في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار". قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصا على قتل صاحبه". وقال الإمام أحمد: حدثنا قُتَيْبَةُ بن سعيد، حدثنا لَيْثُ بن سعد، عن عَيَّاش بن عباس، عن بكير بن عبد الله، عن بُسْر بن سعيد؛ أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي". قال: أفرأيت إن دخل عليّ بيتي فبسط يده إليَّ ليقتلني قال: "كن كابن آدم". وكذا رواه الترمذي عن قُتَيْبَة بن سعيد وقال: هذا الحديث حسن، وفي الباب عن أبي هريرة، وخَباب بن الأرت، وأبي بَكْرَة وابن مسعود، وأبي واقد، وأبي موسى، وخَرَشَة. ورواه بعضهم عن الليث بن سعد، وزاد في الإسناد رجلا. قال الحافظ ابن عساكر: الرجل هو حسين الأشجعي. قلت: وقد رواه أبو داود من طريقه فقال: حدثنا يزيد بن خالد الرملي، حدثنا المفضل، عن عياش بن عباس عن بُكَيْر، عن بُسْر بن سعيد عن حسين بن عبد الرحمن الأشجعي؛ أنه سمع سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قال: فقلت: يا رسول الله، أرأيت إن دخل عليّ بيتي وبسط يده ليقتلني؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كن كابن آدم" وتلا يزيد: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} قال أيوب السَّخْتَياني: إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} لَعُثْمان بن عفان رضي الله عنه. رواه ابن أبي حاتم. وقال الإمام أحمد: حدثنا مَرْحوم، حدثني أبو عمران الجَوْني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: ركب النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وأردفني خلفه، وقال: "يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس جوعٌ شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك، كيف تصنع؟". قال: قال الله ورسوله أعلم. قال: "تعفف" قال: "يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس موتٌ شديد، ويكون البيت فيه بالعبد، يعني القبر، كيف تصنع؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "اصبر". قال: "يا أبا ذر، أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضا، يعني حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء، كيف تصنع؟". قال: الله ورسوله أعلم. قال: "اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك". قال: فإن لم أتْرَك؟ قال: "فأت من أنت منهم، فكن فيهم قال: فآخذ سلاحي؟ قال: "إذًا تشاركهم فيما هم فيه، ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف، فألق طرف ردائك على وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك". رواه مسلم وأهل السنن سوى النسائي، من طرق عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت به ورواه أبو داود وابن ماجه، من طريق حماد بن زيد، عن أبي عمران، عن المُشَعَّث بن طريف، عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر بنحوه. قال أبو داود: ولم يذكر المشعث في هذا الحديث غير حماد بن زيد. وقال ابن مَرْدُويَه: حدثنا محمد بن علي بن دُحَيْم، حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا قَبِيصَة بن عُقْبَة، حدثنا سفيان، عن منصور، عن رِبْعِيّ قال: كنا في جنازة حُذَيفة، فسمعت رجلا يقول: سمعت هذا يقول في ناس: مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن اقتتلتم لأنظرن إلى أقصى بيت في داري، فلألجنَّه، فلئن دخل عَليّ فلان لأقولن: ها بؤ بإثمي وإثمك، فأكون كخير ابني آدم. وقوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسُّدِّي، في قوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أي: بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك. قال ابن جرير: وقال آخرون: يعني ذلك أني أريد أن تبوء بخطيئتي، فتتحمل وزرها، وإثمك في قتلك إياي. وهذا قول وجدته عن مجاهد، وأخشى أن يكون غلطًا؛ لأن الصحيح من الرواية عنه خلافه. يعني: ما رواه سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي} قال: بقتلك إياي، {وَإِثْمِكَ} قال: بما كان منك قبل ذلك. وكذا روى عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثْله، وروى شِبْل عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} يقول: إني أريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي، فتبوء بهما جميعًا. قلت: وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول، ويذكرون في ذلك حديثا لا أصل له: ما ترك القاتل على المقتول من ذنب. وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثًا يشبه هذا، ولكن ليس به، فقال: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني، حدثنَا يعقوب بن عبد الله، حدثنا عتبة بن سعيد، عن هشامبن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قتل الصَّبْر لا يمر بذنب إلا محاه". وهذا بهذا لا يصح ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه، فأما أن تحمل على القاتل فلا. ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص، وهو الغالب، فإن المقتول يطالب القاتل في العَرَصات فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته، فإن نفدت ولم يستوف حقه أخذ من سيئات المقتول فطُرِحَت على القاتل، فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل. وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم كلها، والقتل من أعظمها وأشدها، والله أعلم. وأما ابن جرير فقال والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن تأويله: إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي -وذلك هو معنى قوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي} وأما معنى {وَإِثْمِكَ} فهو إثمه بغير قتله، وذلك معصيته الله، عز وجل، في أعمال سواه. وإنما قلنا هو الصواب، لإجماع أهل التأويل عليه، وأن الله، عز وجل، أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه وإذا كان هذا حكمه في خلقه، فغير جائز أن تكون آثام المقتول مأخوذًا بهذا القاتل، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله. هذا لفظه ثم أورد سؤالا حاصله: كيف أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله، وإثم نفسه، مع أن قتله له محرم؟ وأجاب بما حاصله أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله، بل يكف يده عنه، طالبًا -إنْ وقع قتل- أن يكون من أخيه لا منه. قلت: وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ، وزجرًا له لو انزجر؛ ولهذا قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أي: تتحمل إثمي وإثمك {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} وقال ابن عباس: خوفه النار فلم ينته ولم ينزجر. وقوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي: فحسنت وسوّلت له نفسه، وشجعته على قتل أخيه فقتله، أي: بعد هذه الموعظة وهذا الزجر. وقد تقدم في الرواية عن أبي جعفر الباقر، وهو محمد بن علي بن الحسين: أنه قتله بحديدة في يده. وقال السُّدِّي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة، عن عبد الله، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} فطلبه ليقتله، فراغ الغلام منه في رءوس الجبال، فأتاه يومًا من الأيام وهو يرعى غنمًا له، وهو نائم فرفع صخرة، فشدخ بها رأسه فمات،فتركه بالعَرَاء. رواه ابن جرير. وعن بعض أهل الكتاب: أنه قتله خنقًا وعضًا، كما تَقْتُل السباع، وقال ابن جرير لما أراد أن يقتله جعل يلوي عنقه، فأخذ إبليس دابة ووضع رأسها على حجر، ثم أخذ حجرًا آخر فضرب به رأسها حتى قتلها، وابن آدم ينظر، ففعل بأخيه مثل ذلك. رواه ابن أبي حاتم. وقال عبد الله بن وَهْب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: أخذ برأسه ليقتله، فاضطجع له، وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدري كيف يقتله، فجاءه إبليس فقال: أتريد أن تقتله؟ قال: نعم. قال: فخذ هذه الصخرة فاطرحها على رأسه. قال: فأخذها، فألقاها عليه، فشَدَخ رأسه. ثم جاء إبليس إلى حواء مسرعًا، فقال: يا حواء، إن قابيل قتل هابيل. فقالت له: ويحك. أيّ شيء يكون القتل؟ قال: لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك. قالت: ذلك الموت. قال: فهو الموت. فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهي تصيح، فقال: ما لك؟ فلم تكلمه، فرجع إليها مرتين، فلم تكلمه. فقال: عليك الصيحة وعلى بناتك، وأنا وبنيّ منها برآء. رواه ابن أبي حاتم. وقوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي: في الدنيا والآخرة، وأيّ خسارة أعظم من هذه؟. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية ووَكِيع قالا حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن مُرّة، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُقتَل نفس ظلمًا، إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها، لأنه كان أول من سن القتل". وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود من طرق، عن الأعمش، به. وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني حجاج قال: قال ابن جُرَيْج: قال مجاهد: عُلّقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه في الشمس حيثما دارت دار، عليه في الصيف حظيرة من نار، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج -قال: وقال عبد الله بن عمرو: إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذابِ، عليه شطر عذابهم. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن حكيم بن حكيم، أنه حدّث عن عبد الله بن عمرو أنه كان يقول: إن أشقى أهل النار رجلا ابن آدم الذي قتل أخاه، ما سُفِك دم في الأرض منذ قَتَل أخاه إلى يوم القيامة، إلا لحق به منه شر، وذلك أنه أول من سَنّ القتل. وقال إبراهيم النخعي: ما من مقتول يقتل ظلما، إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كِفْل منه. رواه ابن جرير أيضًا. وقوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} قال السدي بإسناده المتقدم إلى الصحابة: لما مات الغلام تركه بالعَرَاء، ولا يعلم كيف يدفن، فبعث الله غرابين أخوين، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حثى عليه. فلما رآه قال: {قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي}. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: جاء غراب إلى غراب ميت، فبَحَث عليه من التراب حتى واراه، فقال الذي قتل أخاه: {قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} وقال الضحاك، عن ابن عباس: مكث يحمل أخاه في جراب على عاتقه سنة، حتى بعث الله الغُرابين، فرآهما يبحثان، فقال: {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} فدفن أخاه. وقال لَيْثُ بن أبي سليم، عن مجاهد: وكان يحمله على عاتقه مائة سنة ميتًا، لا يدري ما يصنع به يحمله، ويضعه إلى الأرض حتى رأى الغراب يدفن الغراب، فقال: {يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وقال عطية العوفي: لما قتله ندم. فضمه إليه حتى أروح، وعكفت عليه الطيور والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله. رواه ابن جرير. وقال محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: لما قتله سُقِط في يديه، ولم يدر كيف يواريه. وذلك أنه كان، فيما يزعمون، أول قتيل في بني آدم وأول ميت {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} قال: وزعم أهل التوراة أن قينًا لما قتل أخاه هابيل، قال له الله، عز وجل: يا قين، أين أخوك هابيل؟ قال: قال: ما أدري، ما كنت عليه رقيبًا. فقال الله: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض، والآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك، فإن أنت عملت في الأرض، فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعًا تائهًا في الأرض. وقوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} قال الحسن البصري: علاه الله بندامة بعد خسران. فهذه أقوال المفسرين في هذه القصة، وكلهم متفقون على أن هذين ابنا آدم لصلبه، كما هو ظاهر القرآن، وكما نطق به الحديث في قوله: "إلا كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل". وهذا ظاهر جَليّ، ولكن قال ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا سَهْل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن -هو البصري- قال: كان الرجلان اللذان في القرآن، اللذان قال الله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وإنما كان القُربان في بني إسرائيل، وكان آدم أول من مات. وهذا غريب جدًا، وفي إسناده نظر. وقد قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ابني آدم، عليه السلام، ضُربا لهذه الأمة مثلا فخذوا بالخير منهما ورواه ابن المبارك عن عاصم الأحول، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهم ودعوا الشر". وكذا أرسل هذا الحديث بكر بن عبد الله المزني، روى ذلك كله ابن جرير. وقال سالم بن أبي الجَعْد: لما قتل ابن آدم أخاه، مكث آدم مائة سنة حزينًا لا يضحك، ثم أتي فقيل له: حياك الله وبيّاك. أي: أضحكك. رواه ابن جرير، ثم قال: حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا سلمة، عن غِياث بن إبراهيم عن أبي إسحاق الهمْداني قال: قال علي بن أبي طالب: لما قتل ابن آدم أخاه، بكاه آدم فقال: تَغيَّرت البلاد ومَنْ عَلَيها *** فَلَوْنُ الأرض مُغْبر قَبيح تغيَّر كل ذي لون وطعم *** وقلَّ بَشَاشَة الوجْه المليح فأجيب آدم عليه السلام: أبَا هَابيل قَدْ قُتلا جَميعًا *** وصار الحي كالميْت الذبيح وجَاء بشرةٍ قد كان مِنْها *** عَلى خَوف فجاء بها يَصيح وما الشعر الذي ذكروه إلا منحول مختلق، والأنبياء لا يقولون الشعر، وصدق الزمخشري حيث قال: "روي أن آدم مكث بعد قتل ابنه مائة سنة لا يضحك، وأنه رثاه بشعر، وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون، وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر. وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين - وقد قال الله تبارك وتعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين}. وقد قال الإمام الألوسي في تفسيره: وروي عن ميمون بن مهران عن الحبر ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه قال: "من قال: آدم -عليه السلام- قد قال شعرًا فقد كذب، إن محمدًا صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء، ولكن لما قتل قابيل هابيل بكاه آدم بالسريانية، فلم يزل ينقل، حتى وصل إلى يعرب بن قحطان، وكان يتكلم بالعربية، والسريانية، فقدم فيه وأخر، وجعله شعرًا عربيًا"، وذكر بعض علماء العربية: أن في ذلك لحنًا، وإقواء، وارتكاب ضرورة، والأولى عدم نسبته إلى يعرب؛ لما فيه من الركاكة الظاهرة. والحق: أنه شعر في غاية الركاكة، والأشبه أن يكون هذا الشعر اختلاق إسرائيلي ليس له من العربية إلا حظ قليل، أو قصاص يريد أن يستولي على قلوب الناس بمثل هذا الهراء". والظاهر أن قابيل عُوجل بالعقوبة، كما ذكره مجاهد بن جَبْر أنه علقت ساقه بفخذه يوم قتله، وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلا به. وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم [أنه] قال: "ما من ذنب أجدر أن يُعَجَّل الله عقوبته في الدنيا مع ما يَدَّخر لصاحبه في الآخرة، من البَغْي وقطيعة الرحم". وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يقول تعالى: {مِنْ أَجْلِ} قَتْل ابن آدم أخاه ظلما وعدوانًا: {كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: شرعنا لهم وأعلمناهم {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} أي: ومن قتل نفسًا بغير سبب من قصاص، أو فساد في الأرض، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية، فكأنما قتل الناس جميعًا؛ لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس، {وَمَنْ أَحْيَاهَا} أي: حرم قتلها واعتقد ذلك، فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار؛ ولهذا قال: {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}. وقال الأعمش وغيره، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: دخلت على عثمان يوم الدار فقلت: جئت لأنصرك وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين. فقال: يا أبا هريرة، أيسرك أن تَقْتُل الناس جميعًا وإياي معهم؟ قلت: لا. قال فإنك إن قتلت رجلا واحدًا فكأنما قتلت الناس جميعًا، فانْصَرِفْ مأذونًا لك، مأجورًا غير مأزور. قال: فانصرفت ولم أقاتل. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو كما قال الله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} وإحياؤها: ألا يقتل نفسًا حَرّمها الله، فذلك الذي أحيا الناس جميعًا، يعني: أنه من حَرّم قتلها إلا بحق، حَيِي الناس منه [جميعا] وهكذا قال مجاهد: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} أي: كف عن قتلها. وقال العَوْفِيّ عن ابن عباس، في قوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} يقول: من قتل نفسًا واحدة حرمها الله، فهو مثل من قتل الناس جميعًا. وقال سعيد بن جبير: من استحل دمَ مُسْلِم فكأنما استحل دماء الناس جميعًا، ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعًا. هذا قول، وهو الأظهر، وقال عِكْرمة والعوفي، عن ابن عباس [في قوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} يقول] من قتل نبيًا أو إمام عَدْل، فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن شَدّ على عَضد نبي أو إمام عَدل، فكأنما أحيا الناس جميعًا. رواه ابن جرير. وقال مجاهد في رواية أخرى عنه: من قتل نفسًا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا؛ وذلك لأنه من قتل النفس فله النار، فهو كما لو قتل الناس كلهم. وقال ابن جُرَيْج عن الأعرج، عن مجاهد في قوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} من قتل النفس المؤمنة متعمدا، جعل الله جزاءه جهنم، وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له عذابًا عظيمًا، يقول: لو قتل الناس جميعًا لم يزد على مثل ذلك العذاب. قال ابن جريج: قال مجاهد {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} قال: من لم يقتل أحدًا فقد حيي الناس منه. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: من قتل نفسًا فكأنما قتل الناس [جميعا] يعني: فقد وجب عليه القصاص، فلا فرق بين الواحد والجماعة {وَمَنْ أَحْيَاهَا} أي: عفا عن قاتل وليه، فكأنما أحيا الناس جميعًا. وحكي ذلك عن أبيه. رواه ابن جرير. وقال مجاهد -في رواية-: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} أي: أنجاها من غَرق أو حَرق أو هَلكة. وقال الحسن وقتادة في قوله: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} هذا تعظيم لتعاطي القتل - قال قتادة: عَظُم والله وزرها، وعظم والله أجرها. وقال ابن المبارك، عن سلام بن مسكين، عن سليمان بن علي الرِّبْعِي قال: قلت للحسن: هذه الآية لنا يا أبا سعيد، كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: إي والذي لا إله غيره، كما كانت لبني إسرائيل. وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا. وقال الحسن البصري: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} قال: وزرًا. {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} قال: أجرًا. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثنا حُيَي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو قال: جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، اجعلني على شيء أعيش به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا حمزة، نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها؟" قال: بل نفس أحييها: قال: "عليك بنفسك". وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ} أي: بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ} وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، كما كانت بنو قُرَيْظَة والنَّضير وغيرهم من بني قَيْنُقاع ممن حول المدينة من اليهود، الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحروب أوزارها فدوا من أسروه، وودوا من قتلوه، وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة، حيث يقول: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ} إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 84، 85]. وقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ} الآية. المحاربة: هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر، وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر، حتى قال كثير من السلف، منهم سعيد بن المسيب: إن قرض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]. ثم قال بعضهم: نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين، كما قال ابن جرير: حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عِكْرِمَة والحسن البصري قالا [قال تعالى] {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى {أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه، لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد، إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب. ورواه أبو داود والنسائي، من طريق عكرمة، عن ابن عباس: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا} نزلت في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا} قال: كان قوم من أهل الكتاب، بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخيَّر الله رسوله: إن شاء أن يقتل، وإن شاء أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. رواه ابن جرير. وروى شعبة، عن منصور، عن هلال بن يَسَاف، عن مُصْعَب بن سعد، عن أبيه قال: نزلت في الحرورية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا} رواه ابن مردويه. والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات، كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي قِلابة -واسمه عبد الله بن زيد الجَرْمي البصري- عن أنس بن مالك: أن نفرًا من عُكْل ثمانية، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا الأرض وسَقَمت أجسامهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها؟" فقالوا: بلى. فخرجوا، فشربوا من أبوالها وألبانها، فَصَحُّوا فقتلوا الراعي وطردوا الإبل. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم، فأُدْرِكُوا، فجيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسُمرت أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا. لفظ مسلم. وفي لفظ لهما: "من عكل أو عُرَيْنَة"، وفي لفظ: "وألقوا في الحَرَّة فجعلوا يَسْتَسْقُون فلا يُسْقَون. وفي لفظ لمسلم: "ولم يَحْسمْهم". وعند البخاري: قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله. ورواه مسلم من طريق هُشَيْم، عن عبد العزيز بن صُهَيب وحميد، عن أنس، فذكر نحوه، وعنده: "وارتدوا". وقد أخرجاه من رواية قتادة عن أنس، بنحوه. وقال سعيد عن قتادة: "من عكل وعُرَينة". ورواه مسلم من طريق سليمان التيمي، عن أنس قال: إنما سَمَلَ النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك؛ لأنهم سملوا أعين الرعاء. ورواه مسلم، من حديث معاوية بن قرة عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرٌ من عُرَينة، فأسلموا وبايعوه، وقد وقع بالمدينة المُومُ -وهو البرْسام- ثم ذكر نحو حديثهم، وزاد: وعنده شباب من الأنصار، قريب من عشرين فارسًا فأرسلهم، وبعث معهم قائفًا يَقْتَصّ أثرهم. وهذه كلها ألفاظ مسلم، رحمه الله. وقال حماد بن سلمة: حدثنا قتادة وثابت البنَاني وحُمَيْد الطويل، عن أنس بن مالك: أن ناسًا من عُرَينة قدموا المدينة، فاجْتَوَوْها، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا، فصَحُّوا فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسَمَرَ} أعينهم وألقاهم في الحرة. قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشًا حتى ماتوا، ونزلت: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية. وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه -وهذا لفظه- وقال الترمذي: "حسن صحيح". وقد رواه ابن مردويه من طرق كثيرة، عن أنس بن مالك، منها ما رواه من طريقين، عن سلام بن أبى الصهباء، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: ما ندمتُ على حديث ما ندمت على حديث سألني عنه الحجاج قال أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت: قَدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عُرَيْنة، من البحرين، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقوا من بطونهم، وقد اصفرت ألوانهم، وضَخُمت بطونهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها، حتى إذا رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم عَدَوا على الراعي فقتلوه، واستاقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسَمَر أعينهم، ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا. فكان الحجاج إذا صعد المنبر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قطع أيدي قوم وأرجلهم ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا لِحال ذَوْدٍ [من الإبل] وكان يحتج بهذا الحديث على الناس. وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد -يعني ابن مسلم- حدثني سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: كانوا أربعة نفر من عرينة، وثلاثة نفر من عُكْل، فلما أتي بهم قطع أيديهم وأرجلهم، وسَمَل أعينهم، ولم يحسمهم، وتركهم يتَلقَّمون الحجارة بالحرة، فأنزل الله في ذلك: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا أبو مسعود -يعني عبد الرحمن بن الحسن الزجاج- حدثنا أبو سعد -يعني البقال- عن أنس بن مالك قال: كان رهط من عُرَينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم جَهْد، مُصْفرّة ألوانهم، عظيمة بطونهم، فأمرهم أن يلحقوا بالإبل فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا، فصفت ألوانهم وخمصت بطونهم، وسمنوا، فقتلوا الراعي واستاقوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طَلَبهم، فأتي بهم، فقتل بعضهم، وسَمَرَ أعين بعضهم، وقطع أيدي بعضهم وأرجلهم، ونزلت: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى آخر الآية. وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العُرنيين، وهم من بَجِيلة قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام. وقال: حدثني يونس، أخبرنا ابن وَهْب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي الزناد، عن عبد الله بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمر -أو: عمرو، شك يونس- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك -يعني بقصة العرَنيين- ونزلت فيهم آية المحاربة. ورواه أبو داود والنسائي من طريق أبي الزناد، وفيه: "عن ابن عمر" من غير شك. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن خَلَف، حدثنا الحسن بن حماد، عن عمرو بن هاشم، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن إبراهيم، عن جرير قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قومٌ من عُرَيْنَة حُفَاة مضرورين، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صحوا واشتدوا قتلوا رعَاء اللقاح، ثم خرجوا باللقاح عامدين بها إلى أرض قومهم، قال جرير: فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعدما أشرفوا على بلاد قومهم، فقدمنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسَمَل أعينهم، فجعلوا يقولون: الماء. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "النار"! حتى هلكوا. قال: وكره الله، عز وجل، سَمْل الأعين، فأنزل الله هذه الآية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى آخر الآية. هذا حديث غريب وفي إسناده الرَّبَذيّ وهو ضعيف، وفيه فائدة، وهو ذكر أمير هذه السرية، وهو جرير بن عبد الله البجلي وتقدم في صحيح مسلم أن السرية كانوا عشرين فارسا من الأنصار. وأما قوله: "فكره الله سمل الأعين، فأنزل الله هذه الآية" فإنه منكر، وقد تقدم في صحيح مسلم أنهم سَملوا أعين الرعاء، فكان ما فعل بهم قصاصا، والله أعلم. وقال عبد الرزاق، عن إبراهيم بن محمد الأسلمي، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من بني فَزَارة قد ماتوا هزلا. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى لقاحه، فشربوا منها حتى صحوا، ثم عمدوا إلى لقاحه فسرقوها، فطُلِبوا، فأتي بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسَمَر أعينهم. قال أبو هريرة: ففيهم نزلت هذه الآية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ابن سعد 2/1/67 - "وهذا الخبر ضعيف جدًا، وهو أيضًا لا يصح؛ لأن جرير بن عبد الله البجلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفي فيه، وخبر العرنيين كان في شوال سنة ست، في رواية الواقدي (ابن سعد 2/1/67)}، وكان أمير السرية كرز بن جابر الفهري. وذلك قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة 11 من الهجرة، بأعوام. وهذا الخبر، ذكره الحافظ ابن حجر، في ترجمة "جرير بن عبد الله البجلي"، وضعفه جدا. أما ابن كثير، فذكره في تفسيره (3/139)} وقال: "هذا حديث غريب، وفي إسناده الربذي، وهو ضعيف. وفي إسناده فائدة: وهو ذكر أمير هذه السرية. وهو جرير ابن عبد الله البجلي. وتقدم في صحيح مسلم أن هذه السرية كانوا عشرين فارسًا من الأنصار. وأما قوله: "فكره الله سمل الأعين" فإنه منكر. وقد تقدم في صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاء، فكان ما فعل بهم قصاصا، والله أعلم". والعجب لابن كثير، يظن فائدة فيما لا فائدة له، فإن أمير هذه السرية، كان ولا شك، كرز بن جابر الفهري، ولم يرو أحد أن أميرها كان جرير بن عبد الله البجلي، إلا في هذا الخبر المنكر. فترك النبي صلى الله عليه وسلم سَمْر الأعين بعدُ. وروي من وجه آخر عن أبي هريرة. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا الحسين بن إسحاق التُسْتَرِيّ، حدثنا أبو القاسم محمد بن الوليد، عن عمرو بن محمد المديني، حدثنا محمد بن طلحة، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن سلمة بن الأكوع قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم غلام يقال له: "يَسار" فنظر إليه يُحسن الصلاة فأعتقه، وبعثه في لقاح له بالحَرَّة، فكان بها، قال: فأظهر قوم الإسلام من عُرَينة، وجاءوا وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم، قال: فبعث بهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى "يسار" فكانوا يشربون من ألبان الإبل حتى انطوت بطونهم، ثم عدوا على "يسار" فذبحوه، وجعلوا الشوك في عينيه، ثم أطردوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم خيلا من المسلمين، أميرهم كُرْزُ بن جابر الفِهْري، فلحقهم فجاء بهم إليه، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم. غريب جدًا. وقد روى قصة العرنيين من حديث جماعة من الصحابة، منهم جابر وعائشة وغير واحد. وقد اعتنى الحافظ الجليل أبو بكر بن مردُويه بتطريق هذا الحديث من وجوه كثيرة جدًا، فرحمه الله وأثابه. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شَقِيق، سمعت أبي يقول: سمعت أبا حمزة، عن عبد الكريم -وسُئِلَ عن أبوال الإبل- فقال: حدثني سعيد بن جُبير عن المحاربين فقال: كان أناس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: نبايعك على الإسلام. فبايعوه، وهم كذَبَة، وليس الإسلام يريدون. ثم قالوا: إنا نَجْتوي المدينة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح، فاشربوا من أبوالها وألبانها" قال: فبينا هم كذلك، إذ جاءهم الصريخ، فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قتلوا الراعي، واستاقوا النعم. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فنُودي في الناس: أن "يا خيل الله اركبي". قال: فركبوا لا ينتظر فارس فارسًا، قال: وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم، فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم، فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية. قال: فكان نفْيهم: أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم، ونفوهم من أرض المسلمين. وقتل نبي الله صلى الله عليه وسلم منهم، وصلب، وقطع، وسَمَر الأعين. قال: فما مَثَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلُ ولا بعدُ. قال: ونهى عن المُثْلة، قال: "ولا تمثلوا بشيء" قال: وكان أنس يقول ذلك، غير أنه قال: أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم. قال: وبعضهم يقول: هم ناس من بني سليم، ومنهم عُرينة ناس من بَجيلة. وقد اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العُرَنيين: هل هو منسوخ أو محكم؟ فقال بعضهم: هو منسوخ بهذه الآية، وزعموا أن فيها عتابًا للنبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله [تعالى] {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:43] ومنهم من قال: هو منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المُثْلة. وهذا القول فيه نظر، ثم صاحبه مطالب ببيان تأخر الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ. وقال بعضهم: كان هذا قبل أن تنزل الحدود، قاله محمد بن سيرين، وفي هذا نظر، فإن قصتهم متأخرة، وفي رواية جرير بن عبد الله لقصتهم ما يدل على تأخرها فإنه أسلم بعد نزول المائدة. ومنهم من قال: لم يسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم، وإنما عزم على ذلك، حتى نزل القرآن فبيَّن حكم المحاربين. وهذا القول أيضا فيه نظر؛ فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه أنه سمَلَ -وفي رواية: سمر- أعينهم. وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سَمْل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم، وتَركه حَسْمهم حتى ماتوا، قال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك، وعلَّمه عقوبة مثلهم: من القتل والقطع والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم. قال: وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو -يعني الأوزاعي- فأنكر أن يكون نزلت معاتبة، وقال: بل كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم، ورفع عنهم السمل. ثم قد احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في ذهابهم إلى أن المحاربة في الأمصار وفي السبلان على السواء لقوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا} وهذا مذهب مالك، والأوزاعي، والليث بن سعد، والشافعي، أحمد بن حنبل، حتى قال مالك -في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتًا فيقتله، ويأخذ ما معه-: إن هذا محاربة، ودمه إلى السلطان لا [إلى] ولي المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إنفاذ القتل. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تكون المحاربة إلا في الطرقات، فأما في الأمصار فلا؛ لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث، بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه. [والله أعلم] وأما قوله: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ} الآية: قال [علي] بن أبي طلحة عن ابن عباس في [قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}] وكذا قال سعيد بن المسيب، ومجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وإبراهيم النَّخَعي، والضحاك. وروى ذلك كله أبو جعفر بن جرير، وحكي مثله عن مالك بن أنس، رحمه الله. ومستند هذا القول أن ظاهر "أو" للتخيير، كما في نظائر ذلك من القرآن، كقوله في جزاء الصيد: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] وقوله في كفارة الترفه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وكقوله في كفارة اليمين: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]. [و] هذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الآية. وقال الجمهور: هذه الآية منزلة على أحوال كما قال أبو عبد الله الشافعي [رحمه الله] أنبأنا إبراهيم -هو ابن أبي يحيى- عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس في قطاع الطريق: إذا قَتَلوا وأخذوا المال قُتلوا وصلبوا، وإذا قَتَلوا ولم يأخذوا المال قُتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض. وقد رواه ابن أبي شَيْبَة، عن عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن عطية، عن ابن عباس، بنحوه. وعن أبي مجلز، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النَّخَعِي، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، وعطاء الخُراساني، نحو ذلك. وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة. واختلفوا: هل يُصْلَب حيا ويُتْرَك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب، أو بقتله برمح ونحوه، أو يقتل أولا ثم يصلب تنكيلا وتشديدا لغيره من المفسدين؟ وهل يصلب ثلاثة أيام ثم ينزل، أو يترك حتى يسيل صديده؟ في ذلك كله خلاف محرر في موضعه، وبالله الثقة وعليه التكلان. ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره -إن صح سنده- فقال: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، عن ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب؛ أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس [بن مالك] يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه يخبره: أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العُرَنِيِّين -وهم من بَجِيلة- قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام. قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل، عليه السلام، عن القضاء فيمن حارب، فقال: من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته، ورجله بإخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام، فاصلبه. وأما قوله تعالى:} {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ} قال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه، فيقامعليه الحد أو يهرب من دار الإسلام. رواه ابن جرير عن ابن عباس، وأنس بن مالك، وسعيد بن جبير، والضحاك، والربيع بن أنس، والزهري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس. وقال آخرون: هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر، أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية، وقال الشعبي: ينفيه -كما قال ابن هبيرة- من عمله كله. وقال عطاء الخراساني: ينفى من جُنْد إلى جند سنين، ولا يخرج من أرض الإسلام. وكذا قال سعيد بن جبير، وأبو الشعثاء، والحسن، والزهري، والضحاك، ومقاتل بن حيان: إنه ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام. وقال آخرون: المراد بالنفي هاهنا السجن، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واختار ابن جرير: أن المراد بالنفي هاهنا: أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه. وقوله: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي: هذا الذي ذكرته من قتلهم، ومن صلبهم، وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ونفيهم -خزْي لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا، مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة، وهذا قد يتأيد به من ذهب إلى أن هذه الآية نزلت في المشركين، فأما أهل الإسلام فقد ثبت في الصحيح عند مسلم، عن عبادة بن الصامت قال: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء: ألا نشرك بالله شيئًا: ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ولا يَعْضَه بعضنا بعضًا، فمن وَفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب فهو كفارة له، ومن ستره الله فأمْرُه إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وعن علي [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أذنب ذنبًا في الدنيا، فعوقب به، فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبًا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه". رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: "حسن غريب". وقد سئل الحافظ الدارقطني عن هذا الحديث، فقال: روي مرفوعًا وموقوفًا، قال: ورفعه صحيح. وقال ابن جرير في قوله: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} يعني: شَرٌّ وعَارٌ ونَكَالٌ وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة، {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي: إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا -في الآخرة مع الجزاء الذي جازيتهم به في الدنيا، والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها -{عَذَابٌ عَظِيمٌ} يعني: عذاب جهنم. وقوله: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أما على قول من قال: هي في أهل الشرك فظاهر، وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم، فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل، وهل يسقط قطع اليد أم لا؟ فيه قولان للعلماء. وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع، وعليه عمل الصحابة، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو أسامة، عن مجاهد عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة، وكان قد أفسد في الأرض وحارب، فكلم رجالا من قريش منهم: الحسن بن علي، وابن عباس، وعبد الله بن جعفر، فكلموا عليًا، فلم يؤمنه. فأتى سعيد بن قيس الهمداني فخلفه في داره، ثم أتى عليًا فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادًا، فقرأ حتى بلغ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} قال: فكتب له أمانًا. قال سعيد بن قيس: فإنه حارثة بن بدر. وكذا رواه ابن جرير من غير وجه، عن مجاهد عن الشعبي، به. وزاد: فقال حارثة بن بدر: ألا أبلغَن هَمْدان إمَّا لقيتَها *** عَلى النَّأي لا يَسْلمْ عَدو يعيبُها لَعَمْرُ أبِيها إنَّ هَمْدان تَتَّقِي ال *** إلَه ويَقْضي بالكتاب خَطيبُها وروى ابن جرير من طريق سفيان الثوري، عن السُّدِّي -ومن طريق أشعث، كلاهما عن عامر الشعبي قال: جاء رجل من مَراد إلى أبي موسى، وهو على الكوفة في إمارة عثمان، رضي الله عنه، بعدما صلى المكتوبة فقال: يا أبا موسى، هذا مقام العائذ بك، أنا فلان بن فلان المرادي، وإني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فسادًا، وإني تبت من قبل أن يُقْدر عليَّ. فقام أبو موسى فقال: إن هذا فلان بن فلان، وإنه كان حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا، وإنه تاب من قبل أن يُقْدَرَ عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير، فإن يك صادقا فسبيل من صدق، وإن يك كاذبًا تدركه ذنوبه، فأقام الرجل ما شاء الله، ثم إنه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله. ثم قال ابن جرير: حدثني علي، حدثنا الوليد بن مسلم قال: قال الليث، وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني، وهو الأمير عندنا: أن عليًا الأسدي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال، فطلبه الأئمة والعامة، فامتنع ولم يُقْدر عليه، حتى جاء تائبًا، وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، فوقف عليه فقال: يا عبد الله، أعد قراءتها. فأعادها عليه، فغمد سيفه، ثم جاء تائبًا. حتى قدم المدينة من السحر، فاغتسل، ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح، ثم قعد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه، فلما أسفروا عرفه الناس، فقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم عليّ جئت تائبًا من قبل أن تقدروا علي. فقال أبو هريرة: صدق. وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بن الحكم -وهو أمير على المدينة في زمن معاوية- فقال: هذا عليّ جاء تائبا، ولا سبيل لكم عليه ولا قتل. قال: فتُرك من ذلك كله، قال: وخرج عليّ تائبًا مجاهدًا في سبيل الله في البحر، فلقوا الروم، فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم فاقتحم على الروم في سفينتهم، فهربوا منه إلى شقها الآخر، فمالت به وبهم، فغرقوا جميعًا.
|