الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} يخبر تعالى بما أعده للمؤمنين به والمؤمنات من الخيرات والنعيم المقيم في {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أي: ماكثين فيها أبدا، {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} أي: حسنة البناء، طيبة القرار، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي عمران الجوني، عن أبي بكر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" وبه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للمؤمن في الجنة لَخَيْمَة من لؤلؤة واحدة مُجَوَّفة، طولها ستون ميلا في السماء، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم، لا يرى بعضهم بعضا" أخرجاه. وفي الصحيحين أيضا، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة وصام رمضان، فإن حقا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها". قالوا: يا رسول الله، أفلا نخبر الناس؟ قال: "إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تَفَجَّر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن" وعند الطبراني والترمذي وابن ماجه، من رواية زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَار، عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول... فذكر مثله. وللترمذي عن عبادة بن الصامت، مثله وعن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الجنة ليتراءون الغُرفة في الجنة، كما تراؤون الكوكب في السماء". أخرجاه في الصحيحين ثم ليعلم أن أعلى منزلة في الجنة مكانٌ يقال له: "الوسيلة" لقربه من العرش، وهو مسكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنة، كما قال الإمام أحمد [بن حنبل] حدثنا عبد الرازق، أخبرنا سفيان، عن ليث، عن كعب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صليتم علي فسلوا الله لي الوسيلة" قيل: يا رسول الله، وما الوسيلة؟ قال: "أعلى درجة في الجنة، لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون أنا هو" وفي صحيح مسلم، من حديث كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن جُبَير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلُّوا عليَّ، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أنى أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة يوم القيامة" [وفي صحيح البخاري، من حديث محمد بن المنكدر، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة"] وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن علي الأبار، حدثنا الوليد بن عبد الملك الحراني، حدثنا موسى بن أعين، عن ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله لي الوسيلة، فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا -أو شفيعا -يوم القيامة" وفي مسند الإمام أحمد، من حديث سعد أبي مجاهد الطائي، عن أبي المدله، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قلنا: يا رسول الله، حدثنا عن الجنة، ما بناؤها؟ قال: "لبنة ذهب، ولبنة فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه" وروي عن ابن عمر مرفوعا، نحوه وعند الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن علي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لغُرفا يرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها". فقام أعرابي فقال: يا رسول الله، لمن هي؟ فقال: "لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام" ثم قال: حديث غريب. ورواه الطبراني، من حديث عبد الله بن عمرو وأبي مالك الأشعري، كل منهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه وكل من الإسنادين جيد حسن، وعنده أن السائل هو "أبو مالك"، فالله أعلم. وعن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا هل مُشَمِّر إلى الجنة؟ فإن الجنة لا خَطَر لها، هي -ورب الكعبة -نور يتلألأ وريحانة تَهْتَزّ، وقصر مَشيدٌ، ونهر مُطَّرد، وثمرة نَضِيجة، وزوجة حسناء جَميلة، وحُلَل كثيرة، ومقام في أبد، في دار سليمة، وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية". قالوا: نعم يا رسول الله، نحن المشمرون لها، قال: "قولوا: إن شاء الله". فقال القوم: إن شاء الله. رواه ابن ماجه. وقوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي: رضا الله عنهم أكبر وأجل وأعظم مما هم فيه من النعيم، كما قال الإمام مالك، رحمه الله، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخُدْري، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله، عز وجل، يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك يا ربنا وسعديك، والخير في يدك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تُعط أحدا من خلقك. فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا" أخرجاه من حديث مالك. وقال أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي: حدثنا الفضل الرُّخاميّ، حدثنا الفِرْياني، عن سفيان، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله، عز وجل: هل تشتهون شيئا فأزيدكم؟ قالوا: يا ربنا، ما خير مما أعطيتنا؟ قال: رضواني أكبر".ورواه البزار في مسنده، من حديث الثوري وقال الحافظ الضياء المقدسي في كتابه "صفة الجنة": هذا عندي على شرط الصحيح، والله أعلم.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، كما أمره بأن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين، وأخبره أن مصير الكفار والمنافقين إلى النار في الدار الآخرة. وقد تقدم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف، سيف للمشركين: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] وسيف للكفار أهل الكتاب: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] وسيف للمنافقين: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة:73، التحريم:9] وسيف للبغاة: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق، وهو اختيار ابن جرير. وقال ابن مسعود في قوله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} قال: بيده، [فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه] فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه. وقال ابن عباس: أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان، وأذهب الرفق عنهم. وقال الضحاك: جاهد الكفار بالسيف، واغلظ على المنافقين بالكلام، وهو مجاهدتهم. وعن مقاتل، والربيع مثله. وقال الحسن وقتادة: مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم. وقد يقال: إنه لا منافاة بين هذه الأقوال، لأنه تارة يؤاخذهم بهذا، وتارة بهذا بحسب الأحوال، والله أعلم. وقوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} قال قتادة: نزلت في عبد الله بن أبي، وذلك أنه اقتتل رجلان: جُهَني وأنصاري، فعلا الجهني على الأنصاري، فقال عبد الله للأنصار: ألا تنصروا أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: "سمِّن كلبك يأكلك"، وقال: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ} [المنافقون:8] فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه فسأله، فجعل يحلف بالله ما قاله، فأنزل الله فيه هذه الآية وروى إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن عمه موسى بن عقبة قال: فحدثنا عبد الله بن الفضل، أنه سمع أنس بن مالك، رضي الله عنه، يقول: حزنت على من أصيب بالحرَّة من قومي، فكتب إلي زيد بن أرقم، وبلغه شدة حزني، يذكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم، اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار" -وشك ابن الفضل في أبناء أبناء الأنصار -قال ابن الفضل: فسأل أنسا بعض من كان عنده عن زيد بن أرقم، فقال: هو الذي يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوفى الله له بأذنه". وذاك حين سمع رجلا من المنافقين يقول -ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب -: لئن كان هذا صادقا فنحن شر من الحمير، فقال زيد بن أرقم: فهو والله صادق، ولأنت شر من الحمار. ثم رُفع ذلك إلى رسول الله، فجحده القائل، فأنزل الله هذه الآية تصديقا لزيد -يعني قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} الآية. رواه البخاري في صحيحه، عن إسماعيل بن أبي أويس، عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة. إلى قوله: "هذا الذي أوفى الله له بأذنه" ولعل ما بعده من قول موسى بن عقبة، وقد رواه محمد بن فُلَيح، عن موسى بن عقبة بإسناده ثم قال: قال ابن شهاب. فذكر ما بعده عن موسى، عن ابن شهاب. والمشهور في هذه القصة أنها كانت في غزوة بني المصطلق، فلعل الراوي وَهَم في ذكر الآية، وأراد أن يذكر غيرها فذكرها، والله أعلم.
[حاشية] قال "الأموي" في مغازيه: حدثنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن جده قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذني قومي فقالوا: إنك امرؤ شاعر، فإن شئت أن تعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض العلة، ثم يكون ذنبا تستغفر الله منه. وذكر الحديث بطوله، إلى أن قال: وكان ممن تخلف من المنافقين، ونزل فيه القرآن منهم، ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم: الجُلاس بن سُوَيد بن الصامت، وكان على أم عُمَير بن سعد، وكان عمير في حجره، فلما نزل القرآن وذكرهم الله بما ذكر مما أنزل في المنافقين، قال الجلاس: والله لئن كان هذا الرجل صادقا فيما يقول لنحن شر من الحمير [قال] فسمعها عمير بن سعد فقال: والله -يا جلاس -إنك لأحبالناس إلي، وأحسنهم عندي بلاء، وأعزهم علي أن يصله شيء يكرهه، ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ولئن كتمتها لتهلكني، ولإحداهما أهون علي من الأخرى. فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر له ما قال الجلاس. فلما بلغ ذلك الجلاس خرج حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فحلف بالله ما قال ما قال عمير بن سعد، ولقد كذب علي. فأنزل الله، عز وجل، فيه: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} إلى آخر الآية. فوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها. فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته، ونزع فأحسن النزوع هكذا جاء هذا "مدرجا" في الحديث متصلا به، وكأنه والله أعلم من كلام ابن إسحاق نفسه، لا من كلام كعب بن مالك. وقال عروة بن الزبير: نزلت هذه الآية في الجلاس بن سويد بن الصامت، أقبل هو وابن امرأته مُصعب من قُبَاء، فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقا فنحن أشر من حُمُرنا هذه التي نحن عليها. فقال مصعب: أما والله -يا عدو الله -لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وخفت أن ينزل في القرآن أو تصيبني قارعة، أو أن أخلط بخطيئته، فقلت: يا رسول الله، أقبلت أنا والجلاس من قباء، فقال كذا وكذا، ولولا مخافة أن أخلط بخطيئة أو تصيبني قارعة ما أخبرتك. قال: فدعا الجلاس فقال: "يا جلاس، أقلت الذي قاله مصعب؟" فحلف، فأنزل الله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} الآية. وقال محمد بن إسحاق: كان الذي قال تلك المقالة -فيما بلغني -الجلاس بن سويد بن الصامت، فرفعها عليه رجل كان في حجره، يقال له: عمير بن سعيد، فأنكرها، فحلف بالله ما قالها: فلما نزل فيه القرآن تاب ونزع وحسنت توبته، فيما بلغني. وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثني أيوب بن إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال: "إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني الشيطان، فإذا جاء فلا تكلموه". فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "علام تشتمني أنت وأصحابك؟" فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، حتى تجاوز عنهم، فأنزل الله، عز وجل: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} الآية. وذلك بَيِّنٌ فيما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب "دلائل النبوة" من حديث محمد بن إسحاق، عن الأعمش عن عمرو بن مُرة، عن [أبي] البختري، عن حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، قال: كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به، وعمار يسوق الناقة -أو أنا: أسوقه، وعمار يقوده -حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكبا قد اعترضوه فيها، قال: فأنبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم [بهم] فصرخ بهم فولوا مدبرين، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل عرفتم القوم؟ قلنا: لا يا رسول الله، قد كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا الركاب. قال: "هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا؟" قلنا: لا. قال: "أرادوا أن يزحموا رسول الله في العقبة، فيلقوه منها". قلنا: يا رسول الله، أو لا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال: "لا أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمدا قاتل بقوم حتى [إذا] أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم"، ثم قال: "اللهم ارمهم بالدبيلة". قلنا: يا رسول الله، وما الدبيلة؟ قال: "شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك". وقال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا يزيد، أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع، عن أبي الطفيل قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، أمر مناديا فنادى: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة فلا يأخذها أحد. فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة ويسوقه عمار، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل فغشوا عمارا وهو يسوق برسول الله، وأقبل عمار، رضي الله عنه، يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة: "قد، قد" حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، [فلما هبط] نزل ورجع عمار، فقال: "يا عمار، هل عرفت القوم؟" فقال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون. قال: "هل تدري ما أرادوا؟" قال: الله ورسوله أعلم. قال: "أرادوا أن ينفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوه". قال: فسار عمار رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نشدتك بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة؟ قال: أربعة عشر. فقال: إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر. قال: فعذر رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة قالوا: والله ما سمعنا منادي رسول الله، وما علمنا ما أراد القوم. فقال عمار: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. وهكذا روى ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عُرْوَة بن الزبير نحو هذا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يمشي الناس في بطن الوادي، وصعد هو وحذيفة وعمار العقبة، فتبعهم هؤلاء النفر الأرذلون، وهم متلثمون، فأرادوا سلوك العقبة، فأطلع الله على مرادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر حذيفة فرجع إليهم، فضرب وجوه رواحلهم، ففزعوا ورجعوا مقبوحين، وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة وعمارا بأسمائهم، وما كانوا هموا به من الفتك به، صلوات الله وسلامه عليه، وأمرهما أن يكتما عليهم. وكذلك روى يونس بن بُكَير، عن ابن إسحاق، إلا أنه سَمّى جماعة منهم، فالله أعلم وكذا قد حكي في معجم الطبراني، قاله البيهقي. ويشهد لهذه القصة بالصحة، ما رواه مسلم: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا أبو أحمد الكوفي، حدثنا الوليد بن جُمَيع، حدثنا أبو الطفيل قال: كان [بين] رجل من أهل العقبة [وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أنشدك بالله، كم كان أصحاب العقبة] قال: فقال له القوم: أخبره إذ سألك. قال: كنا نخبر أنهم أربعة عشر، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وعذر ثلاثة قالوا: ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا علمنا بما أراد القوم. وقد كان في حرة فمشى، فقال: "إن الماء قليل، فلا يسبقني إليه أحد"، فوجد قوما قد سبقوه، فلعنهم يومئذ. وما رواه مسلم أيضا، من حديث قتادة، عن أبي نَضْرة، عن قيس بن عباد، عن عمار بن ياسر قال: أخبرني حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في أصحابي اثنا عشر منافقا، لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها حتى يلج [الجمل] في سم الخياط: ثمانية تكفيكهم الدُّبَيْلة: سراج من نار يظهر بين أكتافه حتى ينجم من صدورهم" ولهذا كان حذيفة يقال له: "صاحب السر، الذي لا يعلمه غيره" أي: من تعيين جماعة من المنافقين، وهم هؤلاء، قد أطلعه عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره، والله أعلم. وقد ترجم الطبراني في مسند حذيفة تسمية أصحاب العقبة، ثم روى عن علي بن عبد العزيز، عن الزبير بن بكار أنه قال: هم مُعَتِّب بن قشير، ووديعة بن ثابت، وجد بن عبد الله بن نَبْتَل بن الحارث من بني عمرو بن عوف، والحارث بن يزيد الطائي، وأوس بن قَيْظِي، والحارث بن سُوَيْد، وسعد بن زرارة وقيس بن فهد، وسويد وداعس من بني الحبلي، وقيس بن عمرو بن سهل، وزيد بن اللصيت، وسلالة بن الحمام، وهما من بني قينقاع أظهرا الإسلام وقوله: {وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي: وما للرسول عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته ويمن سفارته، ولو تمت عليهم السعادة لهداهم الله لما جاء به، كما قال، عليه السلام للأنصار: "ألم أجدكم ضُلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟" كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن. وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب كما قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] وكما قال، عليه السلام ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه الله". ثم دعاهم الله تبارك وتعالى إلى التوبة فقال: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي: وإن يستمروا على طريقهم {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا} أي: بالقتل والهم والغم، {والآخرة} أي: بالعذاب والنكال والهوان والصغار، {وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي: وليس لهم أحد يسعدهم ولا ينجدهم، ولا يحصل لهم خيرا، ولا يدفع عنهم شرا.
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} يقول تعالى: ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه: لئن أغناه من فضله ليصدقن من ماله، وليكونن من الصالحين. فما وفى بما قال، ولا صدق فيما ادعى، فأعقبهم هذا الصنيع نفاقا سكن في قلوبهم إلى يوم يلقون الله، عز وجل، يوم القيامة، عياذا بالله من ذلك. وقد ذكر كثير من المفسرين، منهم ابن عباس، والحسن البصري: أن سبب نزول هذه الآية الكريمة في "ثعلبة بن حاطب الأنصاري". وقد ورد فيه حديث رواه ابن جرير هاهنا وابن أبي حاتم، من حديث مُعان بن رِفَاعة، عن علي بن يزيد، عن أبي عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن، مولى عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية، عن أبي أمامة الباهلي، عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يرزقني مالا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه". قال: ثم قال مرة أخرى، فقال: "أما ترضى أن تكون مثل نبي الله، فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت". قال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارزق ثعلبة مالا". قال: فاتخذ غنما، فنمت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنحى عنها، فنزل واديا من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، ويترك ما سواهما. ثم نمت وكَثُرت، فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمو كما ينمو الدود، حتى ترك الجمعة. فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة، يسألهم عن الأخبار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل ثعلبة"؟ فقالوا: يا رسول الله، اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة. فأخبروه بأمره فقال: "يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة". وأنزل الله جل ثناؤه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} الآية [التوبة: 103] قال: ونزلت عليه فرائض الصدقة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة: رجلا من جُهَيْنَة، ورجلا من سليم، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين، وقال لهما: "مُرا بثعلبة، وبفلان -رجل من بني سليم -فخذا صدقاتهما". فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذه إلا جزية. ما هذه إلا أخت الجزية. ما أدري ما هذا انطلقا حتى تفرُغا ثم عُودا إلي. فانطلقا وسمع بهما السلمي، فنظر إلى خيار أسنان إبله، فعزلها للصدقة، ثم استقبلهما بها فلما رأوها قالوا: ما يجب عليك هذا، وما نريد أن نأخذ هذا منك. قال: بلى، فخذوها، فإن نفسي بذلك طيبة، وإنما هي له. فأخذوها منه. فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مَرَّا بثعلبة، فقال: أروني كتابكما فنظر فيه، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية. انطلقا حتى أرى رأيي. فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآهما قال: "يا ويح ثعلبة" قبل أن يكلمهما، ودعا للسلمي بالبركة، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي، فأنزل الله، عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} إلى قوله: {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} قال: وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة، فسمع ذلك، فخرج حتى أتاه فقال: ويحك يا ثعلبة. قد أنزل الله فيك كذا وكذا. فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يقبل منه صدقته، فقال: "إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك". فجعل يحثو على رأسه التراب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "[هذا] عملك، قد أمرتك فلم تطعني". فلما أبى أن يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى منزله، فقُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه شيئا. ثم أتى أبا بكر، رضي الله عنه، حين استخلف، فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله، وموضعي من الأنصار، فاقبل صدقتي. فقال أبو بكر: لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يقبلها، فقبض أبو بكر ولم يقبلها. فلما وَلِي عمر، رضي الله عنه، أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، اقبل صدقتي. فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر، وأنا أقبلها منك! فقبض ولم يقبلها؛ ثم ولي عثمان، رضي الله عنه، [فأتاه] فسأله أن يقبل صدقته، فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر، وأنا أقبلها منك! فلم يقبلها منه، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان. وقوله تعالى: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أي: أعقبهم النفاق في قلوبهم بسبب إخلافهم الوعد وكذبهم، كما جاء في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" وله شواهد كثيرة، والله أعلم. وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ} يخبرهم تعالى أنه يعلم السر وأخفى، وأنه أعلم بضمائرهم وإن أظهروا أنه إن حصل لهم أموال تصدقوا منها وشكروا عليها، فإنه أعلم بهم من أنفسهم؛ لأنه تعالى علام الغيوب، أي: يعلم كل غيب وشهادة، وكل سر ونجوى، ويعلم ما ظهر وما بطن.
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهذه أيضا من صفات المنافقين: لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا: هذا مراء، وإن جاء بشيء يسير قالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا. كما قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن سعيد، حدثنا أبو النعمان البصري، حدثنا شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مرائى. وجاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا. فنزلت {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} الآية. وقد رواه مسلم أيضا في صحيحه، من حديث شعبة به. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا الجريري، عن أبي السليل قال: وقف علينا رجل في مجلسنا بالبقيع فقال: حدثني أبي -أو: عمي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع، وهو يقول: "من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة"؟ قال: فحللت من عمامتي لوثا أو لوثين، وأنا أريد أن أتصدق بهما، فأدركني ما يدرك ابن آدم، فعقدت على عمامتي. فجاء رجل لم أر بالبقيع رجلا أشد سوادا [ولا] أصغر منه، ولا أدمَّ ببعير ساقه، لم أر بالبقيع ناقة أحسن منها، فقال: يا رسول الله، أصدقة؟ قال: "نعم" فقال: دونك هذه الناقة. قال: فلمزه رجل فقال: هذا يتصدق بهذه فوالله لهي خير منه. قال: فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "كذبت بل هو خير منك ومنها" ثلاث مرات، ثم قال: "ويل لأصحاب المئين من الإبل" ثلاثا. قالوا: إلا من يا رسول الله؟ قال: "إلا من قال بالمال هكذا وهكذا"، وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله، ثم قال: "قد أفلح المزهد المجهد" ثلاثا: المزهد في العيش، المجهد في العبادة وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية، وقال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء. وقالوا: إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع. وقال العوفي، عن ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الناس يوما فنادى فيهم: أن اجمعوا صدقاتكم. فجمع الناس صدقاتهم، ثم جاء رجل من آخرهم بصاع من تمر، فقال: يا رسول الله، هذا صاع من تمر بت ليلتي أجر بالجرير الماء، حتى نلت صاعين من تمر، فأمسكت أحدهما، وأتيتك بالآخر. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات. فسخر منه رجال، وقالوا: إن الله ورسوله لغنيان عن هذا. وما يصنعان بصاعك من شيء. ثم إن عبد الرحمن بن عوف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بقي أحد من أهل الصدقات؟ فقال "لا" فقال له عبد الرحمن بن عوف: فإن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات. فقال له عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: أمجنون أنت؟ قال: ليس بي جنون. قال: فعلت ما فعلت؟ قال: نعم، مالي ثمانية آلاف، أما أربعة آلاف فأقرضها ربي، وأما أربعة آلاف فلي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت". ولمزه المنافقون فقالوا: والله ما أعطى عبد الرحمن عطيته إلا رياء. وهم كاذبون، إنما كان به متطوعا، فأنزل الله، عز وجل، عذره وعذر صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر، فقال تعالى في كتابه: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآية. وكذا روي عن مجاهد، وغير واحد. وقال ابن إسحاق: كان المطوعون من المؤمنين في الصدقات: عبد الرحمن بن عوف، تصدق بأربعة آلاف درهم، وعاصم بن عدي أخا بني العجلان، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الصدقات، وحض عليها، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف، وقام عاصم فتصدق بمائة وسق من تمر، فلمزوهما وقالوا: ما هذا إلا رياء. وكان الذي تصدق بجهده: أبو عقيل أخو بني أنيف الإراشي حليف بني عمرو بن عوف، أتى بصاع من تمر فأفرغه في الصدقة، فتضاحكوا به وقالوا: إن الله لغني عن صاع أبي عَقيل. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا طالوت بن عباد، حدثنا أبو عَوَانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا". قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله، عندي أربعة آلاف، ألفين أقرضهما ربي، وألفين لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت". وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر، فقال: يا رسول الله، أصبت صاعين من تمر: صاع أقرضه لربي، وصاع لعيالي. قال: فلمزه المنافقون وقالوا: ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياء! وقالوا: ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟ فأنزل الله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ [سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ]} الآية. ثم رواه عن أبي كامل، عن أبي عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه مرسلا قال: ولم يسنده أحد إلا طالوت. وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا زيد بن الحُبَاب، عن موسى بن عبيدة، حدثني خالد بن يسار، عن ابن أبي عقيل، عن أبيه قال: بت أجر الجرير على ظهري، على صاعين من تمر، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به، وجئت بالآخر أتقرب [به] إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: "انثره في الصدقة". قال: فسخر القوم وقالوا: لقد كان الله غنيا عن صدقة هذا المسكين. فأنزل الله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآيتينوكذا رواه الطبراني من حديث زيد بن الحباب به. وقال: اسم أبي عقيل: حباب. ويقال: عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة. وقوله: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} وهذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فعاملهم معاملة من سخر بهم، انتصارا للمؤمنين في الدنيا، وأعد للمنافقين في الآخرة عذابا أليما.
{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} يخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء المنافقين ليسوا أهلا للاستغفار، وأنه لو استغفر لهم، ولو سبعين مرة فإن الله لا يغفر لهم. وقد قيل: إن السبعين إنما ذكرت حسما لمادة الاستغفار لهم؛ لأن العرب في أساليب كلامها تذكر السبعين في مبالغة كلامها، ولا تريد التحديد بها، ولا أن يكون ما زاد عليها بخلافها. وقيل: بل لها مفهوم، كما روى العوفي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية: "أسمع ربي قد رخص لي فيهم، فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة، لعل الله أن يغفر لهم! فقال الله من شدة غضبه عليهم: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون:6] وقال الشعبي: لما ثَقُل عبد الله بن أبي، انطلق ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي قد احتضر، فأحب أن تشهده وتصلي عليه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما اسمك". قال الحباب بن عبد الله. قال: "بل أنت عبد الله بن عبد الله، إن الحباب اسم شيطان". قال: فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وهو عرق، وصلى عليه، فقيل له: أتصلي عليه [وهو منافق]؟ قال: "إن الله قال: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} ولأستغفرن له سبعين وسبعين وسبعين". وكذا روي عن عُرْوَة بن الزبير ومجاهد بن جُبَير، وقتادة بن دِعَامة. رواها ابن جرير بأسانيده.
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} يقول تعالى ذَامّا للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وفرحوا بمقعدهم بعد خروجه، {وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا} معه {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا} أي: بعضهم لبعض: {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ}؛ وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر، عند طيب الظلال والثمار، فلهذا قالوا {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} قال الله تعالى لرسوله: {قل} لهم: {نَارُ جَهَنَّمَ} التي تصيرون إليها بسبب مخالفتكم {أَشَدُّ حَرًّا} مما فررتم منه من الحر، بل أشد حرا من النار، كما قال الإمام مالك، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نار بني آدم التي يوقدون بها جزءٌ من سبعين جزءًا [من نار جهنم" فقالوا: يا رسول الله، إن كانت لكافية. قال إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا] أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك، به. وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، وضربت بالبحر مرتين، ولولا ذلك ما جعل [الله] فيها منفعة لأحد" وهذا أيضا إسناده صحيح. وقد روى الإمام أبو عيسى الترمذي وابن ماجه، عن عباس الدوري، عن يحيى بن أبي بكير عن شريك، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوقد على النار ألف سنة حتى احمرَّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضَّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء كالليل المظلم". ثم قال الترمذي: لا أعلم أحدا رفعه غير يحيى كذا قال. وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن إبراهيم بن محمد، عن محمد بن الحسين بن مكرم، عن عبيد الله بن سعد عن عمه، عن شريك -وهو ابن عبد الله النخعي -به. وروى أيضا ابن مردويه من رواية مبارك بن فضالة، عن ثابت، عن أنس قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] قال: "أُوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء كالليل، لا يضيء لهبها". وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث تمام بن نَجِيح -وقد اختلف فيه -عن الحسن، عن أنس مرفوعا: "لو أن شرارة بالمشرق -أي من نار جهنم -لوجد حرها مَنْ بالمغرب" وروى الحافظ أبو يعلى عن إسحاق بن أبي إسرائيل، عن أبي عبيدة الحداد، عن هشام بن حسان عن محمد بن شبيب، عن جعفر بن أبي وحشية، عن سعيد بن جُبَير، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون، وفيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه، لاحترق المسجد ومن فيه" غريب. وقال الأعمش عن أبي إسحاق، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لمن له نعلان وشِرَاكان من نار، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، لا يرى أحدا من أهل النار أشدُّ عذابا منه، وإنه أهونهم عذابا". أخرجاه في الصحيحين، من حديث الأعمش. وقال مسلم أيضا: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر حدثنا زهير بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أدنى أهل النار عذابا يوم القيامة ينتعل بنعلين من نار، يغلي دماغه من حرارة نعليه". وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن ابن عجلان، سمعت أبي، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أدنى أهل النار عذابا رجل يجعل له نعلان يغلي منهما دماغه". وهذا إسناد جيد قوي، رجاله على شرط مسلم، والله أعلم.والأحاديث والآثار النبوية في هذا كثيرة، وقال الله تعالى في كتابه العزيز: {كَلا إِنَّهَا لَظَى نزاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج: 15، 16] وقال تعالى: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: 19-22] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56] وقال تعالى في هذه الآية الكريمة [الأخرى] {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} أي: لو أنهم يفقهون ويفهمون لنفروا مع الرسول في سبيل الله في الحر، ليتقوا به حَرَّ جهنم، الذي هو أضعاف أضعاف هذا، ولكنهم كما قال الآخر كالمستجير من الرمضاء بالنار *** وقال الآخر: عُمرُكَ بالحميَة أفْنَيْتَه *** مَخَافَةَ البارد والحَار وَكانَ أولَى بك أنْ تَتقي *** مِنَ المعَاصِي حَذرَ النَّار ثم قال [الله] تعالى جل جلاله، متوعدا لهؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: الدنيا قليل، فليضحكوا فيها ما شاءوا، فإذا انقطعت الدنيا وصاروا إلى الله، عز وجل، استأنفوا بكاء لا ينقطع أبدا. وكذا قال أبو رَزِين، والحسن، وقتادة، والربيع بن خُثَيم، وعون العقيلي وزيد بن أسلم. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عبد الله بن عبد الصمد بن أبي خداش، حدثنا محمد بن حميد عن ابن المبارك، عن عمران بن زيد، حدثنا يزيد الرَّقاشي، عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيها الناس، ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول، حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون. فلو أن سُفُنًا أُزْجِيَتْ فيها لَجرَت". ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش، عن يزيد الرقاشي، به. وقال الحافظ أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن العباس، حدثنا حماد الجزري، عن زيد بن رُفَيْع، رفعه قال: "إن أهل النار إذا دخلوا النار بكوا الدموع زمانا، ثم بكوا القيح زمانا" قال: "فتقول لهم الخَزَنَة: يا معشر الأشقياء، تركتم البكاء في الدار المرحوم فيها أهلها في الدنيا، هل تجدون اليوم من تستغيثون به؟ قال: فيرفعون أصواتهم: يا أهل الجنة، يا معشر الآباء والأمهات والأولاد، خرجنا من القبور عطاشا، وكنا طول الموقف عطاشا، ونحن اليوم عطاش، فأفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله، فيدعون أربعين سنة لا يجيبهم، ثم يجيبهم: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] فييأسون من كل خير"
{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} يقول تعالى آمرا لرسوله عليه الصلاة والسلام {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ} أي: ردك الله من غَزْوَتك هذه {إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} قال قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلا {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} أي: معك إلى غزوة أخرى، {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} أي: تعزيرا لهم وعقوبة. ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وهذا كقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110] فإن من جزاء السيئة السيئة بعدها كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، كما قال في عُمرة الحديبية: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 15] وقوله تعالى: {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} قال ابن عباس: أي الرجال الذين تخلفوا عن الغزاة. وقال قتادة: {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} أي: مع النساء. قال ابن جرير: وهذا لا يستقيم؛ لأن جمع النساء لا يكون بالياء والنون، ولو أريد النساء لقال: فاقعدوا مع الخوالف، أو الخالفات، ورجح قول ابن عباس رضي الله عنهما
{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يَبْرَأ من المنافقين، وألا يصلي على أحد منهم إذا مات، وألايقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له؛ لأنهم كفروا بالله ورسوله، وماتوا عليه. وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه، وإن كان سبب نزول الآية في عبد الله بن أُبَيّ بن سلول رأس المنافقين، كما قال البخاري: حدثنا عُبَيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله -هو ابن أبي -جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يُكَفِّن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما خيرني الله فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وسأزيده على السبعين". قال: إنه منافق! قال: فصلى عليه [رسولُ الله صلى الله عليه وسلم] فأنزل الله، عز وجل، آية: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} وكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة حماد بن أسامة، به. ثم رواه البخاري عن إبراهيم بن المنذر، عن أنس بن عياض، عن عبيد الله -وهو ابن عمر -العمري -به وقال: فصلى عليه، وصلينا معه، وأنزل الله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} الآية. وهكذا رواه الإمام أحمد، عن يحيى بن سعيد القطان، عن عبيد الله، به وقد رُوي من حديث عمرَ بن الخطاب نفسه أيضا بنحو من هذا، فقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: سمعت عمرَ بن الخطاب، رضي الله عنه. يقول لما تُوفي عبد الله بن [أبي دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه، فقام إليه، فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولتُ حتى قمت في صدره، فقلت: يا رسول الله، أعلى عَدُوِّ الله عبد الله بن] أبي القائل يوم كذا: كذا وكذا -يُعَدِّد أيامه -قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم، حتى إذا أكثرت عليه قال: "أخِّر عني يا عمر، إني خُيِّرت فاخترتُ، قد قيل لي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] لو أعلم أنى إن زدت على السبعين غُفر له لزدت". قال: ثم صلى عليه، ومشى معه، وقام على قبره حتى فُرغ منه -قال: فَعَجَبٌ لي وجراءتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم! قال: فوالله ما كان إلا يسيرًا حتى نزلت هاتان الآيتان: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق، ولا قام على قبره، حتى قبضه الله، عز وجل. وهكذا رواه الترمذي في "التفسير" من حديث محمد بن إسحاق، عن الزهري، به وقال: حسن صحيح. ورواه البخاري عن يحيى بن بُكَير، عن الليث، عن عُقَيل، عن الزهري، به، فذكر مثله وقال: "أخّر عني يا عمر". فلما أكثرت عليه قال: "إنِّي خُيِّرت فاخترتُ، ولو أعلم أنى إن زدت على السبعين يُغْفَر له لزدت عليها". قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} الآية، فعجبتُ بعد من جُرْأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عُبَيد، حدثنا عبد الملك، عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما مات عبد الله بن أبيّ، أتى ابنه النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنك إن لم تأته لم نزل نُعَيَّر بهذا. فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم، فوجده قد أدخل في حفرته، فقال: أفلا قبل أن تدخلوه! فَأخرجَ من حُفرته، وتَفَل عليه من قرنه إلى قدمه، وألبسه قميصه. ورواه النسائي، عن أبي داود الحراني، عن يعلى بن عبيد، عن عبد الملك -وهو ابن أبي سليمان به. وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن عثمان، أخبرنا ابن عُيَينة، عن عمرو، سمع جابر بن عبد الله قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبيّ بعد ما أدخل في قبره، فأمر به فأخرج، ووضع على ركبتيه، ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه، والله أعلم. وقد رواه أيضا في غير موضع مع مسلم والنسائي، من غير وجه، عن سفيان بن عيينة، به ح - وقال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى، حدثنا مجالد، حدثنا عامر، حدثنا جابر(ح) وحدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء الدوسي، حدثنا مجالد، عن الشعبي، عن جابر قال: لما مات رأس المنافقين -قال يحيى بن سعيد: بالمدينة -فأوصى أن يصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي أوصى أن يكفن في قميصك -وهذا الكلام في حديث عبد الرحمن بن مغراء -قال يحيى في حديثه: فصلى عليه، وألبسه قميصه، فأنزل الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} وزاد عبد الرحمن: وخلع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه، فأعطاه إياه، ومشى فصلى عليه، وقام على قبره، فأتاه جبريل، عليه السلام، لما ولى قال: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} وهذا إسناد لا بأس به، وما قبله شاهد له. وقال الإمام أبو جعفر الطبري: حدثنا [أحمد بن إسحاق، حدثنا] أبو أحمد، حدثنا حماد بن سلمة، عن يزيد الرقاشي، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلي على عبد الله بن أبيّ، فأخذ جبريل بثوبه وقال: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} ورواه الحافظ أبو يعلى في مسنده، من حديث يزيد الرقاشي وهو ضعيف. وقال قتادة: أرسل عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض، فلما دخل عليه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أهلكك حبّ يهود". قال: يا رسول الله، إنما أرسلتُ إليك لتستغفر لي، ولم أرسل إليك لتؤنبني! ثم سأله عبد الله أن يعطيه قميصه أن يكفن فيه أباه، فأعطاه إياه، وصلى عليه، وقام على قبره، فأنزل الله، عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} وقد ذكر بعض السلف أنه إنما ألبسه قميصه؛ لأن عبد الله بن أُبيّ لما قدم العباس طُلب له قميص، فلم يُوجَد على تفصيله إلا ثوب عبد الله بن أُبيّ؛ لأنه كان ضخمًا طويلا ففعل ذلك به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مكافأة له، فالله أعلم، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية الكريمة عليه لا يصلي على أحد من المنافقين، ولا يقوم على قبره، كما قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن أبيه، حدثني عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعي لجنازة سأل عنها، فإن أثني عليها خيرًا قام فصلى عليها، وإن أثني عليها غير ذلك قال لأهلها: "شأنكم بها"، ولم يصل عليها. وكان عمر بن الخطاب لا يصلي على جنازة من جُهِل حاله، حتى يصلي عليها حذيفة بن اليمان؛ لأنه كان يعلم أعيان منافقين قد أخبره بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كان يقال له: "صاحب السر" الذي لا يعلمه غيره أي من الصحابة. وقال أبو عُبَيد في كتاب "الغريب"، في حديث عُمَر أنه أراد أن يصلي على جنازة رجل، فَمرَزَه حُذيفة، كأنه أراد أن يَصُده عن الصلاة عليها، ثم حكي عن بعضهم أن "المرز" بلغة أهل اليمامة هو: القَرْص بأطراف الأصابع. ولما نهى الله، عز وجل، عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم للاستغفار لهم، كان هذا الصنيعُ من أكبر القُرُبات في حق المؤمنين، فشرع ذلك. وفي فعله الأجر الجزيل، لما ثبت في الصحاح وغيرها من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد الجنازة حتى يصلّي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان". قيل: وما القيراطان؟ قال: "أصغرهما مثل أحد" وأما القيام عند قبر المؤمن إذا مات فقد قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي، أخبرنا هشام، عن عبد الله بن بَحير، عن هانئ -وهو أبو سعيد البربري، مولى عثمان بن عفان -عن عثمان، رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل". انفرد بإخراجه أبو داود، رحمه الله
{وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} قد تقدم تفسير نظير هذه الآية الكريمة ولله الحمد.
|