الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***
قال أحمد: حدثنا معاوية بن هشام، حدثنا شيبان، عن فراس، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال نبي الله عليه الصلاة والسلام " يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة: اقرأ واصعد، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة، حتى يقرأ آخر شيء معه". وقال أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا حَيْوَة، حدثنا بشير بن أبي عمرو الخولاني؛ أن الوليد بن قيس التجيبي حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون خلف من بعد الستين سنة، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن ومنافق وفاجر". قال بشير: فقلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة؟ قال: المنافق كافر به، والفاجر يَتَأكَّل به، والمؤمن يؤمن به. وقال أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا الليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن أبي الخطاب، عن أبي سعيد أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك خطب الناس وهو مسند ظهره إلى نخلة فقال: "ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس؛ إن من خير الناس رجلا عمل في سبيل الله على ظهر فرسه أو على ظهر بعيره أو على قدميه حتى يأتيه الموت، وإن من شر الناس رجلا فاجرا جريئا يقرأ كتاب الله، لا يرعوي إلى شيء منه". قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عمر بن هياج الكوفي، حدثنا الحسين بن عبد الأول، حدثنا محمد بن الحسن الهمداني، عن عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: من شغله قراءة القرآن عن دعائي أعطيته أفضل ثواب السائلين". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه "، ثم قال: تفرد به محمد بن الحسن ولم يتابع عليه. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبيدة الحداد، حدثني عبد الرحمن بن بُدَيْل بن ميسرة، حدثني أبي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله أهْلِين من الناس". قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: "أهْل القرآن هم أهل الله وخاصته"". وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار، حدثنا خالد بن خِدَاش، حدثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه: كان إذا ختم القرآن جمع أهله وولده فدعا لهم. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا محمد بن عباد المكي، حدثنا حاتم بن إسماعيل عن شريك، عن الأعمش، عن يزيد بن أبان، عن الحسن، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القرآن غنى لا فقر بعده ولا غنى دونه". وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا عبد الله بن المحرر، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن". ابن المحرر ضعيف. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا بكر بن سوادة، عن وفاء الخولاني، عن أنس بن مالك قال: بينما نحن نقرأ فينا العربي والعجمي والأسود والأبيض، إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنتم في خير تقرؤون كتاب الله وفيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي على الناس زمان يثقفونه كما يثقف القدح، يتعجلون أجورهم ولا يتأجلونها". وقد رواه الإمام أحمد -أيضا- عن حسن، عن ابن لَهِيعة، عن بكر، عن وفاء، عن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبد الله بن الجهم، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن عبد ربه بن عبد الله، عن عمر بن نبهان، عن الحسن، عن أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن البيت الذي يقرأ فيه القرآن يكثر خيره، والبيت الذي لا يقرأ فيه القرآن يقل خيره". وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الفضل بن الصباح، حدثنا أبو عبيدة، عن محتسب، حدثني يزيد الرقاشي، عن أنس قال: قعد أبو موسى في بيت واجتمع إليه ناس، فأنشأ يقرأ عليهم القرآن، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفتستطيع أن تقعدني حيث لا يراني منهم أحد؟". قال: نعم. قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقعده الرجل حيث لا يراه منهم أحد، فسمع قراءة أبي موسى فقال: "إنه ليقرأ على مزمار من مزامير داود، عليه السلام". وقال الإمام أحمد: حدثنا مصعب بن سلام، حدثنا جعفر -هو ابن محمد بن علي بن الحسين- عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل، ثم قال: "أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وإن أفضل الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" ثم يرفع صوته وتحمر وجنتاه، ويشتد غضبه إذا ذكر الساعة، كأنه منذر جيش. قال: ثم يقول: "أتتكم الساعة هكذا -وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى- صبحتكم الساعة ومستكم، من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دَيْنًا أو ضياعًا فإليّ وعليّ". وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب -يعني ابن عطاء- أنبأنا أسامة بن زيد الليثي، عن محمد بن المنْكَدِر، عن جابر بن عبد الله قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، فإذا قوم يقرؤون القرآن فقال: "اقرؤوا القرآن وابتغوا به وجه الله -عز وجل- من قبل أن يأتي بقوم يقيمونه إقامة القدح، يتعجلونه ولا يتأجلونه". قال أحمد -أيضا-: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا خالد، حدثنا حميد الأعرج، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن، وفينا العجمي والأعرابي قال: فاستمع فقال: "اقرؤوا فكل حسن، وسيأتي قوم يقيمونه كما يقام القدح، يتعجلونه ولا يتأجلونه". وقال أبو بكر البزار: حدثنا أبو كُرَيْب محمد بن العلاء، حدثنا عبد الله بن الأجلح، عن الأعمش، عن المعلى الكندي، عن عبد الله بن مسعود قال: "إن هذا القرآن شافع مشفع، من اتبعه قاده إلى الجنة، ومن تركه أو أعرض عنه -أو كلمة نحوها- زج في قفاه إلى النار". وحدثنا أبو كريب، حدثنا عبد الله بن الأجلح، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أحمد بن عبد العزيز بن مروان أبو صخر، حدثني بكر بن يونس، عن موسى بن علي، عن أبيه، عن يحيى بن أبي كثير اليمامي، عن جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ ألف آية كتب الله له قنطارا، والقنطار مائة رطل، والرطل اثنتا عشرة أوقية، والوقية ستة دنانير، والدينار أربعة وعشرون قيراطا، والقيراط مثل أحُد، ومن قرأ ثلاثمائة آية قال الله لملائكته: نصب عبدي لي، أشهدكم يا ملائكتي أنِّي قد غفرت له، ومن بلغه عن الله فضيلة فعمل بها إيمانا به ورجاء ثوابه، أعطاه الله ذلك وإن لم يكن ذلك كذلك". وقال أحمد: حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب". قال البزار: لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا من هذا الوجه. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثني أبي قال: وجدت في كتاب أبي بخطه عن عمران بن أبي عمران، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة، ووقاه سوء الحساب يوم القيامة، وذلك أن الله عز وجل يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123]". وقال الطبراني: حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح، حدثنا أبي، حدثنا ابن لَهِيعة، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحسن الناس قراءة من قرأ القرآن يتحزن به". وقال -أيضا-: حدثنا أبو يزيد القراطيسي، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا عبدة بن سليمان، عن سعيد أبي سعد البقال، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحسنوا الأصوات بالقرآن". وروى -أيضا- بسنده إلى الضحاك عن ابن عباس مرفوعا: "أشرف أمتي حملة القرآن". وقال الطبراني: حدثنا معاذ بن المثنى، حدثنا إبراهيم بن أبي سويد الذارع حدثنا صالح المرى، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى عن ابن عباس قال: "سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال: "الحال المرتحل". قال: يا رسول الله، ما الحال المرتحل؟ قال: "صاحب القرآن يضرب في أوله حتى يبلغ آخره، وفي آخره حتى يبلغ أوله"".
قال [الحافظ] أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا محمد بن إبراهيم القرشي، حدثنى أبو صالح وعكرمة، عن ابن عباس قال: "قال علي بن أبي طالب: يا رسول الله، القرآن يتفلت من صدري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعلِّمك كلمات ينفعك الله بهن وينفع من علمته". قال: قال: نعم بأبي وأمي، قال: "صلِّ ليلة الجمعة أربع ركعات تقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب ويس، وفي الثانية بفاتحة الكتاب وحم الدخان، وفي الثالثة بفاتحة الكتاب والم تنزيل السجدة، وفي الرابعة بفاتحة الكتاب وتبارك المفصل، فإذا فرغت من التشهد فاحمد الله واثن عليه، وصل على النبيين، واستغفر للمؤمنين، ثم قل: اللهم ارحمني بترك المعاصي أبدا ما أبقيتني، وارحمني من أن أتكلف ما لا يعنيني، وارزقني حسن النظر فيما يرضيك عني، اللهم بديع السماوات والأرض، ذا الجلال والإكرام والعزة التي لا ترام، أسألك يا الله يا رحمن بجلالك ونور وجهك أن تلزم قلبي حفظ كتابك كما علمتني، وارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عني، وأسألك أن تنور بالكتاب بصري، وتطلق به لساني، وتفرج به عن قلبي، وتشرح به صدري، وتستعمل به بدني، وتقويني على ذلك وتعينني على ذلك فإنه لا يعينني على الخير غيرك، ولا يوفق له إلا أنت، فافعل ذلك ثلاث جمع أو خمسا أو سبعا تحفظه بإذن الله وما أخطأ مؤمنا قط". فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بسبع فأخبره بحفظ القرآن والحديث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مؤمن ورب الكعبة"، علم أبو الحسن علم أبو الحسن " هذا سياق الطبراني. وقال أبو عيسى الترمذي في كتاب الدعوات: حدثنا أحمد بن الحسن، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس أنه قال: "بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه علي بن أبي طالب فقال: بأبي أنت وأمي، تفلت هذا القرآن من صدري فما أجدني أقدر عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا الحسن، أفلا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن، وينفع بهن من علمته، ويثبت ما تعلمت في صدرك؟" قال: أجل يا رسول الله، فعلمني، قال: "إذا كان ليلة الجمعة فإن استطعت أن تقوم في ثلث الليل الآخر فإنها ساعة مشهودة، والدعاء فيها مستجاب، وقد قال أخي يعقوب لبنيه: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98]، يقول: حتى تأتي ليلة الجمعة، فإن لم تستطع فقم في وسطها، فإن لم تستطع فقم في أولها فصل أربع ركعات، تقرأ في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب وسورة يس، وفي الركعة الثانية بفاتحة الكتاب وحم الدخان، وفي الركعة الثالثة بفاتحة الكتاب والم تنزيل السجدة، وفي الركعة الرابعة بفاتحة الكتاب وتبارك المفصل، فإذا فرغت من التشهد، فاحمد الله وأحسن الثناء على الله، وصل عليّ وأحسن وعلى سائر النبيين، واستغفر للمؤمنين والمؤمنات، ولإخوانك الذين سبقوك بالإيمان، ثم قل في آخر ذلك: اللهم ارحمني بترك المعاصي أبدا ما أبقيتني، وارحمني أن أتكلف ما لا يعنيني، وارزقني حسن النظر فيما يرضيك عني، اللهم بديع السماوات والأرض، ذا الجلال والإكرام والعزة التي لا ترام، أسألك يا ألله يا رحمن بجلالك ونور وجهك أن تلزم قلبي حفظ كتابك كما علمتني، وارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عني، اللهم بديع السماوات والأرض ذا الجلال والإكرام والعزة التي لا ترام، أسألك يا الله يا رحمن بجلالك ونور وجهك، أن تنور بكتابك بصري، وأن تطلق به لساني، وأن تفرج به عن قلبي، وأن تشرح به صدري، وأن تغسل به بدني، فإنه لا يعينني على الحق غيرك ولا يؤتيه إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، يا أبا الحسن، تفعل ذلك ثلاث جمع أو خمسا أو سبعا تجاب بإذن الله تعالى، والذي بعثني بالحق ما أخطأ مؤمنا قط". قال ابن عباس: فوالله ما لبث عليٌّ إلا خمسا أو سبعا حتى جاء [عليٌّ] رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك المجلس، فقال: يا رسول الله، والله إني كنت فيما خلا لا آخذ إلا أربع آيات أو نحوهن، فإذا قرأتُهُن على نفسي تَفَلَّتْنَ وأنا أتعلَّم اليوم أربعين آية أو نحوها، فإذا قرأتها على نفسي فكأنما كتاب الله بين عَيْنِي، ولقد كنت أسمع الحديث، فإذا رَدَّدْتُه تَفَلَّت، وأنا اليوم أسمع الأحاديث، فإذا تحدثتُ بها لم أخْرِم منها حرفا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "مؤمن ورب الكعبة يا أبا الحسن". ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم. كذا قال، وقد تقدم من غير طريقه. ورواه الحاكم في مستدركه من طريق الوليد، ثم قال: على شرط الشيخين حيث صرح الوليد بالسماع من ابن جريج، فالله أعلم -فإنه في المتن غرابة بل نكارة والله أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا العمري، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل القرآن مثل الإبل المعقلة إن تعاهدها صاحبها أمسكها، وإن تركها ذهبت". ورواه -أيضا- عن محمد بن عبيد ويحيى بن سعيد، عن عبيد الله العمري به. ورواه -أيضا- عن عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا نحوه. وقال البزار: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا حميد بن حماد بن أبي الحوار، حدثنا مِسْعر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أحسن قراءة؟ قال: "من إذا سمعته يقرأ رؤيت أنه يخشى الله، عز وجل". وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارْقَ ورَتِّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها". وقال أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثني حيي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أقرأ القرآن فلا أجد قلبي يعقل عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قلبك حُثِيَ الإيمان، وإن العبد يعطى الإيمان قبل القرآن". وبهذا الإسناد: أن رجلا جاء بابن له فقال: يا رسول الله، إن ابني هذا يقرأ المصحف بالنهار ويبيت بالليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تنقم أن ابنك يظل ذاكرا ويبيت سالما". وقال أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لَهِيعة، عن حيي، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه "، قال: "فيشفعان". وقال أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا دراج، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أكثر منافقي أمتي قراؤها". وقال أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثني همام، عن قتادة، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه". ورواه -أيضا- عن غُنْدَر، عن شعبة، عن قتادة به. وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن إسحاق بن راهويه، حدثنا أبي، حدثنا عيسى بن يونس، ويحيى بن أبي الحجاج التميمي، عن إسماعيل بن رافع، عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ القرآن فكأنما استُدْرِجَت النبوَّةُ بين جنبيهِ، غير أنه لا يُوحَى إليه، ومن قرأ القرآن فرأى أن أحدًا أُعْطِىَ أفضلَ مما أُعْطِىَ فقد عَظَّم ما صَغَّر الله، وصَغَّر ما عظّم الله، وليس ينبغي لحامل القرآن أن يَسْفَه فيمن يسفه، أو يَغْضَب فيمن يَغْضَب، أو يَحْتَدَّ فيمن يَحْتَدُّ، ولكن يعفو ويصفح، لِفضل القرآن". وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عباد بن ميسرة، عن الحَسَن، عن أبي هُرَيرةَ؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من استمع إلى آية من كتاب الله كُتِبَتْ له حسنةٌ مضاعفةٌ، ومن تلاها كانت له نورًا يوم القيامة". وقال البزار: حدثنا محمد بن حرب، حدثنا يحيى بن المتوكل، حدثنا عَنْبَسة بن مهْران عن الزهري، عن سَعِيدٍ وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مراءٌ في القرآن كفرٌ". ثم قال: عنبسة: هذا ليس بالقويّ. وعنده فيه إسناد آخر. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو بكر، حدثنا ابن إدريس، حدثنا المقبري، عن جدِّه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه". وقال الطبراني: حدثنا موسى بن حازم الأصبهاني، حدثنا محمد بن بكير الحضرمي، حدثنا إسماعيل بن عَيَّاشٍ، عن يحيى بن الحارث الذِّماري، عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن فضالة بن عُبَيد، وتَمِيمٍ الداريِّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ عشر آيات في ليلة كُتِب له قنطار، والقنطار خير من الدنيا وما فيها، فإذا كان يوم القيامة يقول ربك، عز وجل: اقرأ وارق بكل آية درجة حتى ينتهي إلى آخر آية معه، يقول ربك: اقبض، فيقول العبد بيده: يا رب أنت أعلم. فيقول: بهذه الخلد وبهذه النعيم". وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة معقس بن عمران بن حطان قال: قال: دخلت مع أبي على أم الدرداء، رضي الله عنها، فسألها أبي: ما فضل من قرأ القرآن على من لم يقرأ؟ قالت: حدثتني عائشة قالت: جُعِلت دَرَجُ الجنة على عدد آي القرآن، فمن قرأ ثلث القرآن ثم دخل الجنة كان على الثلث من دَرَجها، ومن قرأ نصف القرآن كان على النصف من درَجها، ومن قرأ كُلَّه كان في عِلِّيِّين، لم يكن فوقه إلا نبي أو صديق أو شهيد. وقال الطبراني: حدثنا مَسْعَدَةُ بن سَعْد العطارُ المكي، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحِزَامي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم مولى جميع بن حارثة الأنصاري، حدثنا عبد الله بن ماهان الأزدي، حدثني فائد مولى عُبَيد الله بن أبي رافع، حدثتني سُكينة بنت الحُسَين بن علي، عن أبيها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حملة القرآن عُرَفاء أهل الجنة يوم القيامة". وروى الطبراني من حديث بقيَّة، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن المهاصر بن حبيب، عن عبيدة المليكي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "يا أهل القرآن، لا توسَّدوا القرآن، واتلوه حَقّ تلاوته من آناء الليل والنهار، وتغنوه وتَقَنَّوه، واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون، ولا تستعجلوا ثوابه، فإن له ثَوابَيْن". وفي حديث عقبة بن عامر نحوه، كما تقدم. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد، حدثنا ابن لَهِيعَة، عن مِشْرَحٍ، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن القرآن جُعِل في إهابٍ ثم ألقي في النار ما احترق". تفرد به. قيل: معناه: أن الجسد الذي يقرأ القرآن [لا تمسه النار]. وفي سُنَن ابن ماجة من طريق المغيرة بن نَهِيكٍ، عن عقبة بن عامر مرفوعًا: "من تعلم القرآن ثم تركه فقد عصاني". وفي حديث رواه أبو يعلى من طريق ليث، عن مجاهد، عن أبي سعيد مرفوعًا: "عليك بتقوى الله، فإنها رأس كل خير، وعليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بِذِكْرِ الله وتلاوة القرآن، فإنَّه نورٌ لك في الأرض وذكرٌ لك في السماء، واخْزُنْ لسانَكَ إلا من خيرٍ، فإنَّك بذلك تَغْلِب الشيطان".
روى الطبراني، عن الدَّبَرِيّ، عن عبد الرزاق، عن مَعْمَرٍ، عن أبي إسحاق، قال ابن مسعود: كل آية في كتاب الله خيرٌ مما في السماء والأرض. ومن طريق شعبة، عن أبي إسحاق، عن مرَّة قال ابن مسعود: من أراد العلم فلْيَتَبوَّأْ من القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين. ومن طريق سُفيان وشعبة، عن ساعد بن كُهَيل، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: إنّ هذا القرآن ليس فيه حرف إلا له حدٌّ، ولكلِّ حد مَطْلَعٌ. ومن حديث الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد عن سيار أبي الحكم، عن ابن مسعودٍ أنه قال: أعربوا هذا القرآن فإنه عربيٌّ، وسيجيءُ قوم يَثْقَفُونه وليسوا بخياركم. والثوري، عن عاصمٍ، عن زِرٍّ، عن ابن مسعود قال: أديموا النظر في المصحف، وإذا اختلفتم في ياءٍ أو تاءٍ فاجعلوها ياء، ذكّروا القرآن فإنه مذكَّر. وقال عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن شَدَّاد بن مَعْقِل، سَمعْتُ ابن مسعود يقول: أول ما تفقدونَ من دينكم الأمانة، وآخر ما يبقى من دينكم الصلاة، وَلَيُصَلِّيَنَّ قومٌ لا خَلاقَ لهم، ولينزعنَّ قومٌ من بين أظهركم. قالوا: يا أبا عبد الرحمن، ألسنا نقرأُ القرآن وقد أثبتناه في مصاحفنا؟ قال: يُسْرَى على القرآن ليلا فَيُذْهَبُ به من أجواف الرجال فلا يبقى في الأرض منه شيء -وفي رواية: لا يبقى في مصحف منه شيءٌ- ويصبح الناسُ فُقَراءَ كالبهائم. ثم قرأ عبد الله: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا} [الإسراء: 86]. وقال الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثني شعبة، عن علي بن بذيمةَ عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن أبيه قال: من قرأ القرآن في أقَلَّ من ثلاثٍ فهو راجز. قال هشام عن الحسَنِ: إنه بلغه عن ابن مسعود مثلُ ذلك. ومن طريق الأعمش، عن أبي وائلٍ قال: كان عبد الله بن مسعود يقل الصوم، فيقال له في ذلك، فيقول: إني إذا صُمْتُ ضَعُفْتُ عن القراءةِ والصلاة، والقراءة والصلاة أحبُّ إليَّ. مقدمة مفيدة قال أبو بكر بن الأنباري: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، عن حجاج بن مِنْهال، عن همام، عن قتادة قال: نزل في المدينة من القرآن البقرة، وآل عمرانَ، والنساء، والمائدة، والأنفال، وبراءة، والرعد، والنحل، والحج، والنُّور، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والحجرات، والحديد، والرحمن، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والصف، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، ويا أيها النبي لمَ تُحَرِّم، وإلى رأس العشر، وإذا زلزلت، وإذا جاء نصرُ الله. هؤلاء السور نزلت بالمدينة، وسائر القرآن نزل بمكة. فأما عدد آيات القرآن فستة آلاف آية، ثم اختلف فيما زاد على ذلك على أقوال، فمنهم من لم يزد على ذلك، ومنهم من قال: ومائتا آية وأربع آيات، وقيل: وأربع عشرة آية، وقيل: ومائتان وتسع عشرة، وقيل: ومائتان وخمس وعشرون آية، وست وعشرون آية، وقيل: ومائتا آية، وست وثلاثون آية. حكى ذلك أبو عمرو الداني في كتاب البيان. وأما كلماته، فقال الفضل بن شاذان، عن عطاءِ بن يسار: سبع وسبعون ألف كلمة وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة. وأما حروفُه، فقال عبد الله بن كثير، عن مجاهد: هذا ما أحصينا من القرآن وهو ثلاثُمائِة ألفِ حرف وواحدٌ وعشرون ألفَ حَرْفٍ ومائَةٌ وثمانونَ حرفًا. وقال الفضل، عن عطاء بن يسار: ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون ألفًا وخمسة عشر حرفًا. وقال سَلام أبو محمد الحمانيّ: إنّ الحجاج جمع القراء والحفاظ والكُتَّاب فقال: أخبروني عن القرآن كُلِّه كم من حرفٍ هو؟ قال: فحسبناه فأجمعوا أنه ثلاثُمائة ألفِ حَرْف وأربعون ألفًا وسبعمائة وأربعون حرفًا. قال: فأخبروني عن نصفه. فإذا هو إلى الفاء من قوله في الكهف: {وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف: 19]، وثُلثه الأول عند رأس مائة آية من براءة، والثاني على رأس مائة أو إحدى ومائة من الشعراء، والثالث إلى آخره. وسُبُعُه الأول إلى الدال من قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} [النساء: 55]. والسُّبُع الثاني إلى الباء من قوله في الأعراف: {حَبِطَتْ} [الأعراف: 147]، والثالث إلى الألف الثانية من: {أُكُلَهَا} في الرعد [الرعد: 35]، والرابع إلى الألف من قوله في الحج: {جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج: 67]، والخامس إلى الهاء من قوله في الأحزاب: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} [الأحزاب: 36]، والسادس إلى الواو من قوله في الفتح: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 6]، والسابع إلى آخر القرآن. قال سلام أبو محمد: عملنا ذلك في أربعة أشهر. قالوا: وكان الحجاج يقرأ في كلِّ ليلةٍ ربع القرآن، فالأول إلى آخر الأنعام، والثاني إلى {وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف: 19]، والثالث إلى آخر الزمر، والرابع إلى آخر القرآن. وقد ذكر الشيخ أبو عمرو الداني في كتابه البيان خلافًا في هذا كله، والله أعلم. وأما التحزيب والتجزئة فقد اشتهرت الأجزاء من ثلاثين كما في الربعات في المدارس وغيرها، وقد ذكرنا فيما تقدم الحديث الوارد في تحزيب الصحابة للقرآن، والحديث في مسند أحمدَ وسُنَن أبي داودَ وابن ماجَهْ وغيرهما عن أوس بن حُذَيفة أَنَّه سَأَلَ أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في حياته: كيف يُحَزِّبون القرآن؟ قالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرَةَ وثلاثَ عَشْرَةَ، وحزْبُ المُفَصَّل من قاف حتى يختم. قال القرطبي: أجمعوا أنه ليس في القرآن شيء من التراكيب الأعجمية؟ وأجمعوا أن فيه أعلامًا من الأعجمية كإبراهيم ونوح، ولوط، واختلفوا: هل فيه شيء من غير ذلك بالأعجمية؟ فأنكر ذلك الباقلاني والطبري وقالا ما وقع فيه ما يوافق الأعجمية، فهو من باب ما توافقت فيه اللغات.
فقيل: من الإبانة والارتفاع. قال النابغة: ألم تر أنَّ الله أعطاكَ سورَةً *** تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونها يَتَذَبْذَبُ فكأن القارئ يتنقل بها من منزلة إلى منزلة. وقيل: لشرفها وارتفاعها كسور البلد. وقيل: سميت سُورَةً لكونها قِطْعةً من القرآن وجزءًا منه، مأخوذ من أسآر الإناء وهو البقية، وعلى هذا فيكون أصلها مهموزًا، وإنما خففت فأبدلت الهمزة واوًا لانضمام ما قبلها. وقيل: لتمامها وكمالها لأن العرب يسمون الناقة التامة سُورَةً. قلت: ويحتمل أن يكون من الجمع والإحاطة لآياتها كما سُمِّي سورُ البلد لإحاطته بمنازِلِه ودُورِه، والله أعلم. وجمع السورة سُوَرٌ بفتح الواو، وقد تُجمع على سُورَاتٍ وسُوْرَات. وأما الآية فمن العلامَةِ على انقطاع الكلام الذي قبلها عن الذي بعدها وانفصاله، أي: هي بائنة من أختها. قال الله تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} [البقرة: 248]، وقال النابغة: تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرفْتُها *** لستَّةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُ وقيل: لأنها جماعةُ حروفٍ من القرآن وطائفة منه، كما يقال: خرج القوم بآيتهم، أي: بجماعتهم. قال الشاعر خَرَجْنَا من النَّقبين لا حَىَّ مِثلُنا *** بآيتنا نزجِي اللقاحَ المَطَافِلا وقيل: سُمِّيت آيةً لأنها عَجَبٌ يَعْجِز البشر عن التكلّم بمثلها. قال سيبويه: وأصلها أَيَيَة مثل أَكَمَة وشَجَرَة، تحرَّكت الياءُ وافتتح ما قبلها فقلبت ألفًا فصارت آية، بهمزة بعدها مدة. وقال الكسائي: آيِيَة على وزن آمِنة، فَقُلِبت ألفًا، ثم حُذفت لالتباسها. وقال الفَرَّاء: أصلها أَيَّة -بتشديد الياء- فقُلِبَت الأولى ألفًا، كراهيةَ التشديد فصارت آية، وجمعُها: آىٌ وآياىٌ وآياتٌ. وأما الكلمة فهي اللفظ الواحد، وقد تكون على حرفين مثل: ما ولا وله ولك، وقد يكون أكثر. وأكثر ما يكون عشرة أحرف: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} [النور: 55]، و{أَنُلْزِمُكُمُوهَا} [هود: 28]، {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} [الحجر: 22]، وقد تكون الكلمة آية، مثل: والفجر، والضحى، والعَصْر، وكذلك: الم، وطه، ويس، وحم -في قول الكوفيين- و{حم عسق} عندهم كلمتان. وغيرهم لا يسمى هذه آيات بل يقول: هي فواتح السُّوَرِ. وقال أبو عَمْرو الدانيّ: لا أعلم كلمةً هي وحدها آيةٌ إلا قوله: {مُدْهَامَّتَانِ} في سورة الرحمن [الرحمن: 64]. آخر المقدمة
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يقال لها: الفاتحة، أي فاتحة الكتاب خطا، وبها تفتح القراءة في الصلاة ويقال لها أيضا: أم الكتاب عند الجمهور، وكره أنس، والحسن وابن سيرين كرها تسميتها بذلك، قال الحسن وابن سيرين: إنما ذلك اللوح المحفوظ، وقال الحسن:الآيات المحكمات:هن أم الكتاب، ولذا كرها -أيضا -أن يقال لها أم القرآن وقد ثبت في[الحديث] الصحيح عند الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم " ويقال لها: الحمد، ويقال لها:الصلاة، لقوله عليه السلام عن ربه: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي " الحديث. فسميت الفاتحة: صلاة؛ لأنها شرط فيها. ويقال لها: الشفاء؛ لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعا: "فاتحة الكتاب شفاء من كل سم". ويقال لها:الرقية؛ لحديث أبي سعيد في الصحيح حين رقى بها الرجل السليم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أنها رقية؟". وروى الشعبي عن ابن عباس أنه سماها: أساس القرآن، قال: فأساسها بسم الله الرحمن الرحيم، وسماها سفيان بن عيينة: الواقية. وسماها يحيى بن أبي كثير: الكافية؛ لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها، كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة: "أم القرآن عوض من غيرها، وليس غيرها عوضا عنها". ويقال لها: سورة الصلاة والكنز ذكرهما الزمخشري في كشافه. وهي مكية، قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية، وقيل مدنية، قاله أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري. ويقال: نزلت مرتين: مرة بمكة، ومرة بالمدينة، والأول أشبه لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87]، والله أعلم. وحكى أبو الليث السمرقندي أن نصفها نزل بمكة ونصفها الآخر نزل بالمدينة، وهو غريب جدًا، نقله القرطبي عنه. وهي سبع آيات بلا خلاف، [وقال عمرو بن عبيد: ثمان، وقال حسين الجعفي: ستة وهذان شاذان]. وإنما اختلفوا في البسملة: هل هي آية مستقلة من أولها كما هو عند جمهور قراء الكوفة وقول الجماعة من الصحابة والتابعين وخلق من الخلف، أو بعض آية أو لا تعد من أولها بالكلية، كما هو قول أهل المدينة من القراء والفقهاء؟ على ثلاثة أقوال، سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله تعالى، وبه الثقة. قالوا: وكلماتها خمس وعشرون كلمة، وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفًا. قال البخاري في أول كتاب التفسير: وسميت أم الكتب، أنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة وقيل: إنما سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته. قال ابن جرير: والعرب تسمي كل جامع أمر أو مقدم لأمر -إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع -أُمًّا، فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ، أمّ الرأس، ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أُمًّا، واستشهد بقول ذي الرمة: على رأسه أم لنا نقتدي بها *** جماع أمور ليس نعصي لها أمرا يعني: الرمح. قال: وسميت مكة: أم القرى لتقدمها أمام جميعها وجمعها ما سواها، وقيل: لأن الأرض دحيت منها. ويقال لها أيضًا: الفاتحة؛ لأنها تفتتح بها القراءة، وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الإمام، وصح تسميتها بالسبع المثاني، قالوا: لأنها تثنى في الصلاة، فتقرأ في كل ركعة، وإن كان للمثاني معنى آخر غير هذا، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله.قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا ابن أبي ذئب وهاشم بن هاشم عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأم القرآن: "هي أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم ". ثم رواه عن إسماعيل بن عمر عن ابن أبي ذئب به، وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثني يونس بن عبد الأعلى، أنا ابن وهب، أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هي أم القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السبع المثاني ".وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره: حدثنا أحمد بن محمد بن زياد، ثنا محمد بن غالب بن حارث، ثنا إسحاق بن عبد الواحد الموصلي، ثنا المعافى بن عمران، عن عبد الحميد بن جعفر، عن نوح بن أبي بلال، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله رب العالمين سبع آيات: بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم، وهي أم الكتاب ". وقد رواه الدارقطني أيضا عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه أو مثله، وقال: كلهم ثقات.وروى البيهقي عن علي وابن عباس وأبي هريرة أنهم فسروا قوله تعالى: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] بالفاتحة، وأن البسملة هي الآية السابعة منها، وسيأتي تمام هذا عند البسملة. وقد روى الأعمش عن إبراهيم قال: قيل لابن مسعود: لِمَ لَمْ تكتب الفاتحة في مصحفك؟ قال: لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة. قال أبو بكر بن أبي داود: يعني حيث يقرأ في الصلاة، قال: واكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها. وقد قيل: إن الفاتحة أول شيء نزل من القرآن، كما ورد في حديث رواه البيهقي في دلائل النبوة ونقله الباقلاني أحد أقوال ثلاثة هذا [أحدها] وقيل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} كما في حديث جابر في الصحيح. وقيل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] وهذا هو الصحيح، كما سيأتي تقريره في موضعه، والله المستعان.
ذكر ما ورد في فضل الفاتحة قال الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، رحمه الله، في مسنده: حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، حدثني خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد بن المُعَلَّى، رضي الله عنه، قال: كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أجبه حتى صلَّيت وأتيته، فقال: "ما منعك أن تأتيني؟". قال: قلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي. قال: "ألم يقل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] ثم قال: "لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد". قال: فأخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك قلت: "لأعلمنك أعظم سورة في القرآن". قال: "نعم، الحمد لله رب العالمين هي: السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته". وهكذا رواه البخاري عن مسدد، وعلي بن المديني، كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان، به. ورواه في موضع آخر من التفسير، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من طرق عن شعبة، به. ورواه الواقدي عن محمد بن معاذ الأنصاريّ، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد بن المُعَلَّى، عن أبي بن كعب، فذكر نحوه. وقد وقع في الموطأ للإمام مالك بن أنس، ما ينبغي التنبيه عليه، فإنه رواه مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحُرَقي: أن أبا سعيد مولى عامر بن كريز أخبرهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب، وهو يصلي في المسجد، فلما فرغ من صلاته لحقه، قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على يدي، وهو يريد أن يخرج من باب المسجد، ثم قال: "إني لأرجو ألا تخرج من باب المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها". قال أبيّ: فجعلت أبطئ في المشي رجاء ذلك، ثم قلت: يا رسول الله، ما السورة التي وعدتني؟ قال: "كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال: فقرأت عليه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حتى أتيت على آخرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي هذه السورة، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت".فأبو سعيد هذا ليس بأبي سعيد بن المُعَلّى، كما اعتقده ابن الأثير في جامع الأصول ومن تبعه، فإن ابن المعلى صحابي أنصاري، وهذا تابعي من موالي خزاعة، وذاك الحديث متصل صحيح، وهذا ظاهره أنه منقطع، إن لم يكن سمعه أبو سعيد هذا من أبيّ بن كعب، فإن كان قد سمعه منه فهو على شرط مسلم، والله أعلم. على أنه قد روي عن أبيّ بن كعب من غير وجه كما قال الإمام أحمد: حدثنا عفَّان، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب، وهو يصلي، فقال: "يا أبي "، فالتفت ثم لم يجبه، ثم قال: أبي، فخفف. ثم انصرف إلى رسول الل ه صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليك أيْ رسول الله. فقال: "وعليك السلام " [قال] " ما منعك أيْ أبيّ إذ دعوتك أن تجيبني؟". قال: أيْ رسول الله، كنت في الصلاة، قال: "أولست تجد فيما أوحى الله إلي {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]". قال: بلى يا رسول الله، لا أعود، قال: "أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟ " قلت: نعم، أي رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو ألا أخرج من هذا الباب حتى تعلمها " قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي يحدثني، وأنا أتبطأ ، مخافة أن يبلغ قبل أن يقضي الحديث، فلما دنونا من الباب قلت: أيْ رسول الله، ما السورة التي وعدتني قال: "ما تقرأ في الصلاة؟". قال: فقرأت عليه أم القرآن، قال: "والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها؛ إنها السبع المثاني". ورواه الترمذي، عن قتيبة، عن الدَّرَاوَرْدِي، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، فذكره، وعنده: إنها من السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته، ثم قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي الباب، عن أنس بن مالك، ورواه عبد الله بن [الإمام] أحمد، عن إسماعيل بن أبي مَعْمَر، عن أبي أسامة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن أبي بن كعب، فذكره مطولا بنحوه، أو قريبا منه.وقد رواه الترمذي والنسائي جميعا عن أبي عمار حسين بن حريث، عن الفضل بن موسى، عن عبد الحميد بن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي "، هذا لفظ النسائي. وقال الترمذي: حسن غريب. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا هاشم، يعني ابن البريد حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل، عن ابن جابر، قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أهراق الماء، فقلت: السلام عليك يا رسول الله. فلم يرد عليّ، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله. فلم يرد عليّ، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فلم يرد عليّ. قال: فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، وأنا خلفه حتى دخل رحله، ودخلت أنا المسجد، فجلست كئيبًا حزينًا، فخرج عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تطهر، فقال: "عليك السلام ورحمة الله، وعليك السلام ورحمة الله، وعليك السلام ورحمة الله " ثم قال: "ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بأَخْير سورة في القرآن؟ " قلت: بلى يا رسول الله. قال: "اقرأ: الحمد لله رب العالمين، حتى تختمها".هذا إسناد جيد، وابن عقيل تحتج به الأئمة الكبار، وعبد الله بن جابر هذا هو الصحابي، ذكر ابن الجوزي أنه هو العبديّ، والله أعلم. ويقال: إنه عبد الله بن جابر الأنصاري البياضي، فيما ذكره الحافظ ابن عساكر.واستدلوا بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض، كما هو المحكي عن كثير من العلماء، منهم: إسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن العربي، وابن الحصار من المالكية. وذهبت طائفة أخرى إلى أنه لا تفاضل في ذلك؛ لأن الجميع كلام الله، ولئلا يوهم التفضيل نقص المفضل عليه، وإن كان الجميع فاضلا نقله القُرطُبي عن الأشعريّ، وأبي بكر الباقلاني، وأبي حاتم بن حبان البستي، ويحيى بن يحيى، ورواية عن الإمام مالك [أيضا]. حديث آخر: قال البخاري في فضائل القرآن: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا وهب، حدثنا هشام، عن محمد، بن معبد، عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا في مسير لنا، فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سليم، وإن نَفَرَنَا غُيَّب، فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نَأبِنُه برقية، فرقاه، فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبنا، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية، أو كنت ترقي؟ قال: لا ما رقيت إلا بأم الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئا حتى نأتي، أو نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "وما كان يُدْريه أنها رقية، أقسموا واضربوا لي بسهم". وقال أبو معمر: حدثنا عبد الوارث، حدثنا هشام، حدثنا محمد بن سيرين، حدثني معبد بن سيرين، عن أبي سعيد الخدري بهذا. وهكذا رواه مسلم، وأبو داود من رواية هشام، وهو ابن حسان، عن ابن سيرين، به. وفي بعض روايات مسلم لهذا الحديث: أن أبا سعيد هو الذي رقى ذلك السليم، يعني: اللديغ يسمونه بذلك تفاؤلا. حديث آخر: روى مسلم في صحيحه، والنسائي في سننه، من حديث أبي الأحوص سلام بن سليم، عن عمار بن رُزَيق، عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل، إذ سمع نقيضًا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال: هذا باب قد فتح من السماء، ما فتح قط. قال: فنزل منه ملك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، ولن تقرأ حرفًا منهما إلا أوتيته. وهذا لفظ النسائي. ولمسلم نحوه حديث آخر: قال مسلم: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، هو ابن راهويه، حدثنا سفيان بن عيينة، عن العلاء، يعني ابن عبد الرحمن بن يعقوب الحُرَقي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها أم القرآن فهي خِداج -ثلاثًا- غير تمام". فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام، قال: اقرأ بها في نفسك؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله عز وجل: قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، قال مجدني عبدي " -وقال مرة: "فوض إلي عبدي -فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7]، قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل". وهكذا رواه النسائي، عن إسحاق بن راهويه. وقد روياه -أيضًا- عن قتيبة، عن مالك، عن العلاء، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة، عن أبي هريرة، به وفي هذا السياق: "فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل". وكذا رواه ابن إسحاق، عن العلاء، وقد رواه مسلم من حديث ابن جُرَيْج، عن العلاء، عن أبي السائب هكذا. ورواه -أيضًا- من حديث ابن أبي أويس، عن العلاء، عن أبيه وأبي السائب، كلاهما عن أبي هريرة. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وسألت أبا زُرْعَة عنه فقال: كلا الحديثين صحيح، من قال: عن العلاء، عن أبيه، وعن العلاء عن أبي السائب. وقد روى هذا الحديث عبد الله ابن الإمام أحمد، من حديث العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن أبيّ بن كعب مطولا. قال ابن جرير: حدثنا صالح بن مسمار المروزي، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا عَنْبسة بن سعيد، عن مُطَرَّف بن طريف، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرَة، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، وله ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: أثنى علي عبدي. ثم قال: هذا لي وله ما بقي " وهذا غريب من هذا الوجه. ثم الكلام على ما يتعلق بهذا الحديث مما يختص بالفاتحة من وجوه: أحدها: أنه قد أطلق فيه لفظ الصلاة، والمراد القراءة كقوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [الإسراء: 110]، أي: بقراءتك كما جاء مصرحًا به في الصحيح، عن ابن عباس وهكذا قال في هذا الحديث: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل " ثم بيّن تفصيل هذه القسمة في قراءة الفاتحة فدل على عظم القراءة في الصلاة، وأنها من أكبر أركانها، إذ أطلقت العبادة وأريد بها جزء واحد منها وهو القراءة؛ كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلاة في قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، والمراد صلاة الفجر، كما جاء مصرحا به في الصحيحين: من أنه يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، فدل هذا كله على أنه لا بد من القراءة في الصلاة، وهو اتفاق من العلماء. ولكن اختلفوا في مسألة نذكرها في الوجه الثاني، وذلك أنه هل يتعين للقراءة في الصلاة فاتحة الكتاب، أم تجزئ هي أو غيرها؟ على قولين مشهورين، فعند أبي حنيفة ومن وافقه من أصحابه وغيرهم أنها لا تتعين، بل مهما قرأ به من القرآن أجزأه في الصلاة، واحتجوا بعموم قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]، وبما ثبت في الصحيحين، من حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " قالوا: فأمره بقراءة ما تيسر، ولم يعين له الفاتحة ولا غيرها، فدل على ما قلناه. والقول الثاني: أنه تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، ولا تجزئ الصلاة بدونها، وهو قول بقية الأئمة: مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم وجمهور العلماء؛ واحتجوا على ذلك بهذا الحديث المذكور، حيث قال صلوات الله وسلامه عليه: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِدَاج " والخداج هو: الناقص كما فسَّر به في الحديث: "غير تمام". واحتجوا -أيضًا- بما ثبت في الصحيحين من حديث الزهريّ، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصّامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن " والأحاديث في هذا الباب كثيرة، ووجه المناظرة هاهنا يطول ذكره، وقد أشرنا إلى مأخذهم في ذلك، رحمهم الله. ثم إن مذهب الشافعيّ وجماعة من أهل العلم: أنه تجب قراءتها في كل ركعة. وقال آخرون: إنما تجب قراءتها في معظم الركعات، وقال الحسن وأكثر البصريين: إنما تجب قراءتها في ركعة واحدة من الصلوات، أخذا بمطلق الحديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي: لا تتعين قراءتها، بل لو قرأ بغيرها أجزأه لقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]، [كما تقدم] والله أعلم. وقد روى ابن ماجه من حديث أبي سفيان السعدي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد مرفوعًا: "لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها". وفي صحة هذا نظر، وموضح تحرير هذا كله في كتاب الأحكام الكبير، والله أعلم. الوجه الثالث: هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء: أحدها: أنه تجب عليه قراءتها، كما تجب على إمامه؛ لعموم الأحاديث المتقدمة. والثاني: لا تجب على المأموم قراءة بالكلية لا الفاتحة ولا غيرها، لا في الصلاة الجهرية ولا السرية، لما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " ولكن في إسناده ضعف. ورواه مالك، عن وهب بن كَيْسَان، عن جابر من كلامه. وقد روي هذا الحديث من طرق، ولا يصح شيء منها عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. والقول الثالث: أنه تجب القراءة على المأموم في السرية، لما تقدم، ولا تجب في الجهرية لما ثبت في صحيح مسلم، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ فإذا كبَّر فكبّروا، وإذا قرأ فأنصتوا " وذكر بقية الحديث. وهكذا رواه أهل السنن؛ أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وإذا قرأ فأنصتوا ". وقد صححه مسلم بن الحجاج أيضا، فدل هذان الحديثان على صحة هذا القول وهو قول قديم للشافعي، رحمه الله، ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل. والغرض من ذكر هذه المسائل هاهنا بيان اختصاص سورة الفاتحة بأحكام لا تتعلق بغيرها من السور، والله أعلم. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهريّ، حدثنا غسان بن عبيد، عن أبي عمران الجَوْني، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وضعت جنبك على الفراش، وقرأت فاتحة الكتاب و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فقد أمنت من كل شيء إلا الموت "
الكلام على تفسير الاستعاذة قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 199، 200]، وقال تعالى: {ادفع بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 96 -98] وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34 -36]. فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها، وهو أن الله يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه، ليرده عنه طبعُهُ الطَّيب الأصل إلى الموادة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة؛ إذ لا يقبل مصانعة ولا إحسانا ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم، لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل؛ كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27] وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] وقال {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا} [الكهف: 50]، وقد أقسم للوالد إنه لمن الناصحين، وكذب، فكيف معاملته لنا وقد قال: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83]، وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 98، 99] قالت طائفة من القراء وغيرهم: نتعوذ بعد القراءة، واعتمدوا على ظاهر سياق الآية، ولدفع الإعجاب بعد فراغ العبادة؛ وممن ذهب إلى ذلك حمزة فيما ذكره ابن قلوقا عنه، وأبو حاتم السجستاني، حكى ذلك أبو القاسم يوسف بن علي بن جُبارة الهذلي المغربي في كتاب " الكامل". وروي عن أبي هريرة -أيضا- وهو غريب. [ونقله فخر الدين محمد بن عمر الرازي في تفسيره عن ابن سيرين في رواية عنه قال: وهو قول إبراهيم النخعي وداود بن علي الأصبهاني الظاهري، وحكى القرطبي عن أبي بكر بن العربي عن المجموعة عن مالك، رحمه الله تعالى، أن القارئ يتعوذ بعد الفاتحة، واستغربه ابن العربي. وحكى قول ثالث وهو الاستعاذة أولا وآخرا جمعا بين الدليلين نقله فخر الدين]. والمشهور الذي عليه الجمهور أن الاستعاذة لدفع الوسواس فيها، إنما تكون قبل التلاوة، ومعنى الآية عندهم: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] أي: إذا أردت القراءة كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} الآية [المائدة: 6] أي: إذا أردتم القيام. والدليل على ذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؛ قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا محمد بن الحسن بن آتش حدثنا جعفر بن سليمان، عن علي بن علي الرفاعي اليشكري، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل فاستفتح صلاته وكبَّر قال: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك". ويقول: "لا إله إلا الله " ثلاثًا، ثم يقول: "أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم، من هَمْزه ونَفْخِه ونَفْثه". وقد رواه أهل السنن الأربعة من رواية جعفر بن سليمان، عن علي بن علي، وهو الرّفاعي، وقال الترمذي: هو أشهر حديث في هذا الباب. وقد فسَر الهمز بالموتة وهي الخنق، والنَّفخ بالكبر، والنفث بالشعر. كما رواه أبو داود وابن ماجه من حديث شعبة، عن عمرو بن مُرّة، عن عاصم العَنزيّ، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل في الصلاة، قال: "الله أكبر كبيرًا، ثلاثًا، الحمد لله كثيرا، ثلاثًا، سبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من هَمْزه ونَفْخه ونفْثه". قال عمرو: وهمزه الموتة، ونفخه الكبر، ونفثه الشعر. وقال ابن ماجه: حدثنا علي بن المنذر، حدثنا ابن فُضيل، حدثنا عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، وهَمْزه ونفخه ونفثه". قال: همزه: الموتة، ونَفْثُه: الشعر، ونفخه: الكِبْر. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف، حدثنا شريك، عن يعلى بن عطاء، عن رجل حدثه: أنه سمع أبا أمامة الباهلي يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبَّر ثلاثًا، ثم قال: "لا إله إلا الله " ثلاث مرات، وسبحان الله وبحمده "، ثلاث مرات. ثم قال: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه.وقال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده: حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان الكوفي، حدثنا علي بن هشام بن البريد عن يزيد بن زياد، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب، قال: تلاحى رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فَتَمزّع أنف أحدهما غضبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم شيئا لو قاله ذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة، عن يوسف بن عيسى المروزي، عن الفضل بن موسى، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد، به. وقد روى هذا الحديث أحمد بن حنبل، عن أبي سعيد، عن زائدة، وأبو داود عن يوسف بن موسى، عن جرير بن عبد الحميد، والترمذي، والنسائي في اليوم والليلة عن بُنْدَار، عن ابن مهدي، عن الثوري، والنسائي -أيضًا- من حديث زائدة بن قدامة، ثلاثتهم عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل، قال: استَب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب أحدهما غضبًا شديدًا حتى خُيّل إليّ أن أحدهما يَتَمزّع أنفه من شدة غضبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد من الغضب " قال: ما هي يا رسول الله؟ قال: "يقول: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم". قال: فجعل معاذ يأمره، فأبى [ومحك]، وجعل يزداد غضبًا. وهذا لفظ أبي داود.وقال الترمذي: مرسل، يعني أن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يلق معاذ بن جبل، فإنه مات قبل سنة عشرين. قلت: وقد يكون عبد الرحمن بن أبي ليلى سمعه من أبيّ بن كعب، كما تقدم وبلغه عن معاذ بن جبل، فإن هذه القصة شهدها غير واحد من الصحابة، رضي الله عنهم. قال البخاري: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عدي بن ثابت، قال: قال سليمان بن صُرَد: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن عنده جلوس، فأحدهما يسب صاحبه مغضَبًا قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني لست بمجنون. وقد رواه -أيضًا- مع مسلم، وأبي داود، والنسائي، من طرق متعددة، عن الأعمش، به. وقد جاء في الاستعاذة أحاديث كثيرة يطول ذكرها هاهنا، وموطنها كتاب الأذكار وفضائل الأعمال، والله أعلم. وقد رُوِيَ أن جبريل عليه السلام، أوّل ما نزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالاستعاذة، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشر بن عمارة، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد، استعذ. قال: "أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم " ثم قال: قل: بسم الله الرحمن الرحيم. ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} قال عبد الله: وهي أول سورة أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم، بلسان جبريل.وهذا الأثر غريب، وإنما ذكرناه ليعرف، فإن في إسناده ضعفًا وانقطاعًا، والله أعلم. مسألة: وجمهور العلماء على أن الاستعاذة مستحبة ليست بمتحتمة يأثم تاركها، وحكى فخر الدين عن عطاء بن أبي رباح وجوبها في الصلاة وخارجها كلما أراد القراءة قال: وقال ابن سيرين: إذا تعوذ مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب، واحتج فخر الدين لعطاء بظاهر الآية: {فَاسْتَعِذْ} وهو أمر ظاهره الوجوب وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها، ولأنها تدرأ شر الشيطان وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولأن الاستعاذة أحوط وهو أحد مسالك الوجوب. وقال بعضهم: كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته، وحكي عن مالك أنه لا يتعوذ في المكتوبة ويتعوذ لقيام شهر رمضان في أول ليلة منه.
مسألة: وقال الشافعي في الإملاء، يجهر بالتعوذ، وإن أسر فلا يضر، وقال في الأم بالتخيير لأنه أسر ابن عمر وجهر أبو هريرة، واختلف قول الشافعي فيما عدا الركعة الأولى: هل يستحب التعوذ فيها؟ على قولين، ورجح عدم الاستحباب، والله أعلم. فإذا قال المستعيذ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كفى ذلك عند الشافعي وأبي حنيفة وزاد بعضهم: أعوذ بالله السميع العليم، وقال آخرون: بل يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم، قاله الثوري والأوزاعي وحكي عن بعضهم أنه يقول: أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم لمطابقة أمر الآية ولحديث الضحاك عن ابن عباس المذكور،والأحاديث الصحيحة، كما تقدم، أولى بالاتباع من هذا، والله أعلم.
مسألة: ثم الاستعاذة في الصلاة إنما هي للتلاوة وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: بل للصلاة، فعلى هذا يتعوذ المأموم وإن كان لا يقرأ، ويتعوذ في العيد بعد الإحرام وقبل تكبيرات العيد، والجمهور بعدها قبل القراءة. ومن لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث، وتطييب له وتهيؤ لتلاوة كلام الله وهي استعانة بالله واعتراف له بالقدرة وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله الذي خلقه، ولا يقبل مصانعة، ولا يدارى بالإحسان، بخلاف العدو من نوع الإنسان كما دلت على ذلك آيات القرآن في ثلاث من المثاني، وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا} [الإسراء: 65]، وقد نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري يوم بدر، ومن قتله العدو البشري كان شهيدًا، ومن قتله العدو الباطني كان طرِيدًا، ومن غلبه العدو الظاهر كان مأجورًا، ومن قهره العدو الباطن كان مفتونا أو موزورًا، ولما كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه استعاذ منه بالذي يراه ولا يراه الشيطان.
فصل[في الاستعاذة]: والاستعاذة هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر، والعياذة تكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب جلب الخير كما قال المتنبي: يا من ألوذ به فيما أؤمله *** ومن أعوذ به ممن أحاذره لا يجبر الناس عظما أنت كاسره *** ولا يهيضون عظما أنت جابره
فصل معنى الاستعاذة ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أي: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه؛ فإن الشيطان لا يكفُّه عن الإنسان إلا الله؛ ولهذا أمر الله تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليرده طبعه عمَّا هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرير بالطبع ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه، وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة، قوله في الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} [الأعراف: 199]، فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر، ثم قال: {وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]، وقال تعالى في سورة " قد أفلح المؤمنون ": {ادفع بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 96 -98]، وقال تعالى في سورة " حم السجدة ": {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34 -36]. والشيطان في لغة العرب مشتق من شَطَن إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير، وقيل: مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار، ومنهم من يقول: كلاهما صحيح في المعنى، ولكن الأول أصح، وعليه يدل كلام العرب؛ قال أمية بن أبي الصلت في ذكر ما أوتي سليمان، عليه السلام: أيما شاطِنٍ عصاه عكاه *** ثمّ يُلْقى في السِّجْن والأغلال فقال: أيما شاطن، ولم يقل: أيما شائط. وقال النابغة الذبياني -وهو: زياد بن عمرو بن معاوية بن جابر بن ضباب بن يربوع بن مرة بن سعد بن ذُبْيان-: نأت بسعاد عنك نَوًى شَطُونُ *** فبانت والفؤادُ بها رَهِينُ يقول: بعدت بها طريق بعيدة. [وقال سيبويه: العرب تقول: تشيطن فلان إذا فَعَل فِعْل الشيطان ولو كان من شاط لقالوا: تشيط].والشيطان مشتق من البعد على الصحيح؛ ولهذا يسمون كل ما تمرد من جني وإنسي وحيوان شيطانًا، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]. وفي مسند الإمام أحمد، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر، تعوّذ بالله من شياطين الإنس والجن "، فقلت: أو للإنس شياطين؟ قال: "نعم".وفي صحيح مسلم عن أبي ذر -أيضًا- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود". فقلت: يا رسول الله، ما بال الكلب الأسود من الأحمر والأصفر فقال: "الكلب الأسود شيطان ".وقال ابن وهب: أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ركب برْذونًا، فجعل يتبخْتر به، فجعل لا يضربه فلا يزداد إلا تبخترًا، فنزل عنه، وقال: ما حملتموني إلا على شيطان، ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي. إسناده صحيح. والرّجيم: فعيل بمعنى مفعول، أي: إنه مرجوم مطرود عن الخير كله، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5]، وقال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 6 -10]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 16 -18]، إلى غير ذلك من الآيات. [وقيل: رجيم بمعنى راجم؛ لأنه يرجم الناس بالوساوس والربائث والأول أشهر]. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم}. افتتح بها الصحابةُ كتاب الله، واتّفق العلماء على أنها بعض آية من سورَة النمل، ثمّ اختلفوا: هل هي آية مستقلة في أوّل كل سورة، أو من أول كل سورة كتبت في أوّلها، أو أنها بعض آية من أوّل كل سورة، أو أنها كذلك في الفاتحة دون غيرها، أو أنها [إنما] كتبت للفصل، لا أنها آية؟ على أقوال للعلماء سلفًا وخلفًا، وذلك مبسوط في غير هذا الموضع. وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وأخرجه الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في مستدركه أيضًا، وروي مرسلا عن سعيد بن جُبَير. وفي صحيح ابن خزيمة، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وعدّها آية، لكنه من رواية عمر بن هارون البلخي، وفيه ضعف، عن ابن جُرَيْج، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عنها.وروى له الدارقطني متابعًا، عن أبي هريرة مرفوعًا. وروى مثله عن علي وابن عباس وغيرهما. وممن حكي عنه أنها آية من كل سورة إلا براءة: ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وأبو هريرة، وعليّ. ومن التابعين: عطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، ومكحول، والزهري، وبه يقول عبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، في رواية عنه، وإسحاق بن رَاهوَيه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، رحمهم الله. وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما: ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وقال الشافعي في قول، في بعض طرق مذهبه: هي آية من الفاتحة وليست من غيرها، وعنه أنها بعض آية من أول كل سورة، وهما غريبان. وقال داود: هي آية مستقلة في أول كل سورة لا منها، وهذه رواية عن الإمام أحمد بن حنبل. وحكاه أبو بكر الرازي، عن أبي الحسن الكرخي، وهما من أكابر أصحاب أبي حنيفة، رحمهم الله.هذا ما يتعلق بكونها من الفاتحة أم لا. فأمَّا ما يتعلق بالجهر بها، فمفرّع على هذا؛ فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها، وكذا من قال: إنها آية من أوّلها، وأمَّا من قال بأنها من أوائل السور فاختلفوا؛ فذهب الشافعي، رحمه الله، إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة والسورة، وهو مذهب طوائف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين سلفًا وخلفًا، فجهر بها من الصحابة أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، ومعاوية، وحكاه ابن عبد البر، والبيهقي عن عمر وعليّ، ونقله الخطيب عن الخلفاء الأربعة، وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ، وهو غريب. ومن التابعين عن سعيد بن جبير، وعِكْرِمة، وأبي قِلابة، والزهري، وعليّ بن الحسين، وابنه محمد، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وسالم، ومحمد بن كعب القرظي، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وأبي وائل، وابن سيرين، ومحمد بن المنْكَدِر، وعلي بن عبد الله بن عباس، وابنه محمد، ونافع مولى ابن عمر، وزيد بن أسلم، وعمر بن عبد العزيز، والأزرق بن قيس، وحبيب بن أبي ثابت، وأبي الشعثاء، ومكحول، وعبد الله بن مَعْقِل بن مُقَرِّن. زاد البيهقيّ: وعبد الله بن صفوان، ومحمد بن الحنفية. زاد ابن عبد البر: وعمرو بن دينار. والحُجَّة في ذلك أنها بعض الفاتحة، فيجهر بها كسائر أبعاضها، وأيضًا فقد روى النسائي في سننه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في مستدركه، عن أبي هريرة أنه صلى فجهر في قراءته بالبسملة، وقال بعد أن فرغ: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم. وصححه الدارقطني والخطيب والبيهقي وغيرهم. وروى أبو داود والترمذي، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم. ثم قال الترمذي: وليس إسناده بذاك. وقد رواه الحاكم في مستدركه، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال: صحيح وفي صحيح البخاري، عن أنس بن مالك أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كانت قراءته مدا، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم. وفي مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، وصحيح ابن خزيمة، ومستدرك الحاكم، عن أم سلمة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. وقال الدارقطني: إسناده صحيح. وروى الشافعي، رحمه الله، والحاكم في مستدركه، عن أنس: أن معاوية صلى بالمدينة، فترك البسملة، فأنكر عليه من حضره من المهاجرين ذلك، فلما صلى المرّة الثانية بسمل. وفي هذه الأحاديث، والآثار التي أوردناها كفاية ومقنع في الاحتجاج لهذا القول عما عداها، فأما المعارضات والروايات الغريبة، وتطريقها، وتعليلها وتضعيفها، وتقريرها، فله موضع آخر. وذهب آخرون إلى أنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة، وهذا هو الثابت عن الخلفاء الأربعة وعبد الله بن مغفل، وطوائف من سلف التابعين والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة، والثوري، وأحمد بن حنبل. وعند الإمام مالك: أنه لا يقرأ البسملة بالكلية، لا جهرًا ولا سرًا، واحتجوا بما في صحيح مسلم، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين. وبما في الصحيحين، عن أنس بن مالك، قال: صلَّيْتُ خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين. ولمسلم: لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أوّل قراءة ولا في آخرها. ونحوه في السنن عن عبد الله بن مُغَفَّل، رضي الله عنه. فهذه مآخذ الأئمة، رحمهم الله، في هذه المسألة وهي قريبة؛ لأنهم أجمعوا على صحة صلاة من جهر بالبسملة ومن أسر، ولله الحمد والمنة.
فصل في فضلها قال الإمام العالم الحبر العابد أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم، رحمه الله، في تفسيره: حدثنا أبي، حدثنا جعفر بن مسافر، حدثنا زيد بن المبارك الصنعاني، حدثنا سلام بن وهب الجَنَديّ، حدثنا أبي، عن طاوس، عن ابن عباس؛ أن عثمان بن عفان سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بسم الله الرحمن الرحيم. فقال: "هو اسم من أسماء الله، وما بينه وبين اسم الله الأكبر، إلا كما بين سواد العينين وبياضهما من القرب". وهكذا رواه أبو بكر بن مَرْدُويه، عن سليمان بن أحمد، عن عليّ بن المبارك، عن زيد بن المبارك، به. وقد روى الحافظ ابن مَرْدُويه من طريقين، عن إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن مِسْعَر، عن عطية، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتَّاب ليعلمه، فقال المعلم: اكتب، قال ما أكتب؟ قال: بسم الله، قال له عيسى: وما باسم الله؟ قال المعلم: ما أدري. قال له عيسى: الباء بَهاءُ الله، والسين سناؤه، والميم مملكته، والله إله الآلهة، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة". وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن العلاء الملقب: زِبْرِيق، عن إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُلَيْكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود، ومسعر، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكره. وهذا غريب جدًا، وقد يكون صحيحًا إلى من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون من الإسرائيليات لا من المرفوعات، والله أعلم. وقد روى جُوَيبر، عن الضحَّاك، نحوه من قبله. وقد روى ابن مَرْدُويه، من حديث يزيد بن خالد، عن سليمان بن بريدة، وفي رواية عن عبد الكريم أبي أمية، عن ابن بريدة، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت عليّ آية لم تنزل على نبي غير سليمان بن داود وغيري، وهي بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ". وروي بإسناده عن عبد الكبير بن المعافى بن عمران، عن أبيه، عن عمر بن ذَرّ، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله، قال: لما نزل {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هرب الغيم إلى المشرق، وسكنت الرياح، وهاج البحر، وأصغت البهائم بآذانها، ورُجِمت الشياطين من السماء، وحلف الله تعالى بعزته وجلاله ألا يسمى اسمه على شيء إلا بارك فيه. [وقال وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ليجعل الله له من كل حرف منها جنة من كل واحد، ذكره ابن عطية والقرطبي ووجهه ابن عطية ونصره بحديث: "فقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها" لقول الرجل: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، من أجل أنها بضعة وثلاثون حرفا وغير ذلك]. وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عاصم، قال: سمعت أبا تميمة يحدث، عن رديف النبي صلى الله عليه وسلم قال: عثر بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: تَعِس الشيطان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقل تعس الشيطان. فإنك إذا قلت: تعس الشيطان تعاظم، وقال: بقوتي صرعته، وإذا قلت: باسم الله، تصاغر حتى يصير مثل الذباب". هكذا وقع في رواية الإمام أحمد وقد روى النسائي في اليوم والليلة، وابن مَرْدُويه في تفسيره، من حديث خالد الحذاء، عن أبي تميمة هو الهجيمي، عن أبي المليح بن أسامة بن عمير، عن أبيه، قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وقال: "لا تقل هكذا، فإنه يتعاظم حتى يكون كالبيت، ولكن قل: بسم الله، فإنه يصغر حتى يكون كالذبابة".فهذا من تأثير بركة بسم الله؛ ولهذا تستحب في أوّل كل عمل وقول. فتستحب في أوّل الخطبة لما جاء: "كل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو أجذم" ، [وتستحب البسملة عند دخول الخلاء ولما ورد من الحديث في ذلك]، وتستحب في أوّل الوضوء لما جاء في مسند الإمام أحمد والسنن، من رواية أبي هريرة، وسعيد بن زيد، وأبي سعيد مرفوعًا: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه"، وهو حديث حسن. ومن العلماء من أوجبها عند الذكر هاهنا، ومنهم من قال بوجوبها مطلقًا، وكذا تستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وجماعة، وأوجبها آخرون عند الذكر، ومطلقا في قول بعضهم، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله، وقد ذكر الرازي في تفسيره في فضل البسملة أحاديث منها: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتيت أهلك فسم الله؛ فإنه إن ولد لك ولد كتب لك بعدد أنفاسه وأنفاس ذريته حسنات" وهذا لا أصل له، ولا رأيته في شيء من الكتب المعتمد عليها ولا غيرها. وهكذا تستحب عند الأكل لما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لربيبه عمر بن أبي سلمة: "قل: باسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك". ومن العلماء من أوجبها والحالة هذه، وكذلك تستحب عند الجماع لما في الصحيحين، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدًا". ومن هاهنا ينكشف لك أن القولين عند النحاة في تقدير المتعلق بالباء في قولك: باسم الله، هل هو اسم أو فعل متقاربان وكل قد ورد به القرآن؛ أما من قدره باسم، تقديره: باسم الله ابتدائي، فلقوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 41]، ومن قدره بالفعل [أمرًا وخبرًا نحو: أبدَأ ببسم الله أو ابتدأت ببسم الله]،فلقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] وكلاهما صحيح، فإن الفعل لا بُدّ له من مصدر، فلك أن تقدر الفعل ومصدره، وذلك بحسب الفعل الذي سميت قبله، إن كان قيامًا أو قعودًا أو أكلا أو شربًا أو قراءة أو وضوءًا أو صلاة، فالمشروع ذكر [اسم] الله في الشروع في ذلك كله، تبركًا وتيمنًا واستعانة على الإتمام والتقبل، والله أعلم؛ ولهذا روى ابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث بشر بن عُمَارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: إن أوّل ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: "يا محمد قل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: قال له جبريل: قل: باسم الله يا محمد، يقول: اقرأ بذكر الله ربك، وقم، واقعد بذكر الله. [هذا] لفظ ابن جرير. وأما مسألة الاسم: هل هو المسمى أو غيره؟ ففيها للناس ثلاثة أقوال: [أحدها: أن الاسم هو المسمى، وهو قول أبي عبيدة وسيبويه، واختاره الباقلاني وابن فورك، وقال فخر الدين الرازي -وهو محمد بن عمر المعروف بابن خطيب الري- في مقدمات تفسيره: قالت الحشوية والكرامية والأشعرية: الاسم نفس المسمى وغير التسمية، وقالت المعتزلة: الاسم غير المسمى ونفس التسمية، والمختار عندنا: أن الاسم غير المسمى وغير التسمية، ثم نقول: إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات مقطعة وحروف مؤلفة، فالعلم الضروري حاصل أنه غير المسمى، وإن كان المراد بالاسم ذات المسمى، فهذا يكون من باب إيضاح الواضحات وهو عبث، فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى العبث. ثم شرع يستدل على مغايرة الاسم للمسمى، بأنه قد يكون الاسم موجودًا والمسمى مفقودًا كلفظة المعدوم، وبأنه قد يكون للشيء أسماء متعددة كالمترادفة وقد يكون الاسم واحدًا والمسميات متعددة كالمشترك، وذلك دال على تغاير الاسم والمسمى، وأيضا فالاسم لفظ وهو عرض والمسمى قد يكون ذاتا ممكنة أو واجبة بذاتها، وأيضًا فلفظ النار والثلج لو كان هو المسمى لوجد اللافظ بذلك حر النار أو برد الثلج ونحو ذلك، ولا يقوله عاقل، وأيضا فقد قال الله تعالى: {وللهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا"، فهذه أسماء كثيرة والمسمى واحد وهو الله تعالى، وأيضا فقوله: {وللهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} أضافها إليه، كما قال: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74، 96] ونحو ذلك. والإضافة تقتضي المغايرة وقوله: {فَادْعُوهُ بِهَا} أي: فادعوا الله بأسمائه، وذلك دليل على أنها غيره، واحتج من قال: الاسم هو المسمى، بقوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 78] والمتبارك هو الله. والجواب: أن الاسم معظم لتعظيم الذات المقدسة، وأيضا فإذا قال الرجل: زينب طالق، يعني امرأته طالق، طلقت، ولو كان الاسم غير المسمى لما وقع الطلاق، والجواب: أن المراد أن الذات المسماة بهذا الاسم طالق. قال الرازي: وأما التسمية فإنها جعل الاسم معينا لهذه الذات فهي غير الاسم أيضا، والله أعلم]. {الله} عَلَمٌ على الرب تبارك وتعالى، يقال: إنه الاسم الأعظم؛ لأنه يوصف بجميع الصفات، كما قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22 -24]، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له، كما قال تعالى: {وللهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وقال تعالى: {قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] وفي الصحيحين، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة"، وجاء تعدادها في رواية الترمذي، [وابن ماجه وبين الروايتين اختلاف زيادات ونقصان، وقد ذكر فخر الدين الرازي في تفسيره عن بعضهم أن لله خمسة آلاف اسم: ألف في الكتاب والسنة الصحيحة، وألف في التوراة، وألف في الإنجيل، وألف في الزبور، وألف في اللوح المحفوظ]. وهو اسم لم يسم به غيره تبارك وتعالى؛ ولهذا لا يعرف في كلام العرب له اشتقاق من فعل ويفعل، فذهب من ذهب من النحاة إلى أنه اسم جامد لا اشتقاق له. وقد نقل القرطبي عن جماعة من العلماء منهم الشافعي والخطابي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم، وروي عن الخليل وسيبويه أن الألف واللام فيه لازمة. قال الخطابي: ألا ترى أنك تقول: يا الله، ولا تقول: يا الرحمن، فلولا أنه من أصل الكلمة لما جاز إدخال حرف النداء على الألف واللام.وقيل: إنه مشتق، واستدلوا عليه بقول رؤْبَة بن العَجّاج: لله در الغانيات المُدّه *** سبحن واسترجعن من تألهي فقد صرح الشاعر بلفظ المصدر، وهو التأله، من أله يأله إلاهة وتألهًا، كما روي أن ابن عباس قرأ: "ويذرك وَإلاهَتَك" قال: عبادتك، أي: أنه كان يُعْبَد ولا يَعْبُد، وكذا قال مجاهد وغيره. وقد استدل بعضهم على كونه مشتقا بقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ} [الأنعام: 3] أي: المعبود في السماوات والأرض، كما قال: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، ونقل سيبويه عن الخليل: أن أصله: إلاه، مثل فعال، فأدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة، قال سيبويه: مثل الناس، أصله: أناس، وقيل: أصل الكلمة: لاه، فدخلت الألف واللام للتعظيم وهذا اختيار سيبويه. قال الشاعر: لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب *** عني ولا أنت دياني فتخزوني قال القرطبي: بالخاء المعجمة، أي: فتسوسني، وقال الكسائي والفراء: أصله: الإله حذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية، كما قال: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف: 38] أي: لكن أنا، وقد قرأها كذلك الحسن، قال القرطبي: ثم قيل: هو مشتق من وله: إذا تحير، والوله ذهاب العقل؛ يقال: رجل واله، وامرأة ولهى، وماء موله: إذا أرسل في الصحاري، فالله تعالى تتحير أولو الألباب والفكر في حقائق صفاته، فعلى هذا يكون أصله: ولاه، فأبدلت الواو همزة، كما قالوا في وشاح: أشاح، ووسادة: أسادة، وقال فخر الدين الرازي: وقيل: إنه مشتق من ألهت إلى فلان، أي: سكنت إليه، فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره، والأرواح لا تفرح إلا بمعرفته؛ لأنه الكامل على الإطلاق دون غيره قال الله تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] قال: وقيل: من لاه يلوه: إذا احتجب. وقيل: اشتقاقه من أله الفصيل، إذ ولع بأمه، والمعنى: أن العباد مألوهون مولعون بالتضرع إليه في كل الأحوال، قال: وقيل: مشتق من أله الرجل يأله: إذا فزع من أمر نزل به فألهه، أي: أجاره، فالمجير لجميع الخلائق من كل المضار هو الله سبحانه؛ لقوله تعالى: "{وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88]، وهو المنعم لقوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] وهو المطعم لقوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] وهو الموجد لقوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]. وقد اختار فخر الدين أنه اسم علم غير مشتق البتة، قال: وهو قول الخليل وسيبويه وأكثر الأصوليين والفقهاء، ثم أخذ يستدل على ذلك بوجوه: منها: أنه لو كان مشتقًا لاشترك في معناه كثيرون، ومنها: أن بقية الأسماء تذكر صفات له، فتقول: الله الرحمن الرحيم الملك القدوس، فدل أنه ليس بمشتق، قال: فأما قوله تعالى: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ} [إبراهيم: 1، 2] على قراءة الجر فجعل ذلك من باب عطف البيان، ومنها قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، وفي الاستدلال بهذه على كون هذا الاسم جامدًا غير مشتق نظر، والله أعلم. وحكى فخر الدين عن بعضهم أنه ذهب إلى أن اسم الله تعالى عبراني لا عربي، ثم ضعفه، وهو حقيق بالتضعيف كما قال، وقد حكى فخر الدين هذا القول ثم قال: واعلم أن الخلق قسمان: واصلون إلى ساحل بحر المعرفة، ومحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه الجهالة؛ فكأنهم قد فقدوا عقولهم وأرواحهم، وأما الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور وفسحة الكبرياء والجلال، فتاهوا في ميادين الصمدية، وبادوا في عرصة الفردانية، فثبت أن الخلق كلهم والهون في معرفته، وروي عن الخليل بن أحمد أنه قال: لأن الخلق يألهون إليه بنصب اللام وجرها لغتان، وقيل: إنه مشتق من الارتفاع، فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع: لاها، وكانوا يقولون إذا طلعت الشمس: لاهت. وأصل ذلك الإله، فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة، فالتقت اللام التي هي عينها مع اللام الزائدة في أوّلها للتعريف فأدغمت إحداهما في الأخرى، فصارتا في اللفظ لامًا واحدة مشددة، وفخمت تعظيما، فقيل: الله. {الرحمن الرحيم} اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، ورحمن أشد مبالغة من رحيم، وفي كلام ابن جرير ما يُفْهِم حكاية الاتفاق على هذا، وفي تفسير بعض السلف ما يدل على ذلك، كما تقدم في الأثر، عن عيسى عليه السلام، أنه قال: والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة. وقد زعم بعضهم أنه غير مشتق إذ لو كان كذلك لاتصل بذكر المرحوم وقد قال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]، وحكى ابن الأنباري في الزاهر عن المبرد: أن الرحمن اسم عبراني ليس بعربي، وقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن: وقال أحمد بن يحيى: الرحيم عربي، والرحمن عبراني، فلهذا جمع بينهما. قال أبو إسحاق: وهذا القول مرغوب عنه. وقال القرطبي: والدليل على أنه مشتق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسمًا من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته". قال: وهذا نص في الاشتقاق فلا معنى للمخالفة والشقاق. قال: وإنكار العرب لاسم الرحمن لجهلهم بالله وبما وجب له، قال القرطبي: هما بمعنى واحد كندمان ونديم قاله أبو عبيد، وقيل: ليس بناء فعلان كفعيل، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل نحو قولك: رجل غضبان، وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول، قال أبو علي الفارسي: الرحمن: اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى، والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين، قال الله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]، وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، أي أكثر رحمة، ثم حكي عن الخطابي وغيره: أنهم استشكلوا هذه الصفة، وقالوا: لعله أرفق كما جاء في الحديث: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله وإنه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف". وقال ابن المبارك: الرحمن إذا سئل أعطى، والرحيم إذا لم يسأل يغضب، وهذا كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي صالح الفارسي الخوزي عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يسأل الله يغضب عليه"، وقال بعض الشعراء: لا تطلبن بني آدم حاجة *** وسل الذي أبوابه لا تغلق الله يغضب إن تركت سؤاله *** وبني آدم حين يسأل يغضب قال ابن جرير: حدثنا السري بن يحيى التميمي، حدثنا عثمان بن زُفَر، سمعت العَرْزَميّ يقول: الرحمن الرحيم، قال: الرحمن لجميع الخلق، الرحيم، قال: بالمؤمنين. قالوا: ولهذا قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59] وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته، وقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] فخصهم باسمه الرحيم، قالوا: فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه، والرحيم خاصة بالمؤمنين، لكن جاء في الدعاء المأثور: رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما. واسمه تعالى الرحمن خاص به لم يُسم به غيره كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ولما تجهرم مسيلمة الكذاب وتسمى برحمن اليمامة كساه الله جلباب الكذب وشهر به؛ فلا يقال إلا مسيلمة الكذاب، فصار يُضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر من أهل المدر، وأهل الوبر من أهل البادية والأعراب. وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن؛ لأنه أكد به، والتأكيد لا يكون إلا أقوى من المؤكَّد، والجواب أن هذا ليس من باب التوكيد، وإنما هو من باب النعت [بعد النعت] ولا يلزم فيه ما ذكروه، وعلى هذا فيكون تقدير اسم الله الذي لم يسم به أحد غيره، ووصفه أولا بالرحمن الذي منع من التسمية به لغيره، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]. وإنما تجهرم مسيلمة اليمامة في التسمي به ولم يتابعه على ذلك إلا من كان معه في الضلالة. وأما الرحيم فإنه تعالى وصف به غيره حيث قال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] كما وصف غيره بذلك من أسمائه في قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2]. والحاصل: أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره، ومنها ما لا يسمى به غيره، كاسم الله والرحمن والخالق والرزاق ونحو ذلك؛ فلهذا بدأ باسم الله، ووصفه بالرحمن؛ لأنه أخص وأعرف من الرحيم؛ لأن التسمية أولا إنما تكون بأشرف الأسماء، فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص. فإن قيل: فإذا كان الرحمن أشد مبالغة؛ فهلا اكتفى به عن الرحيم؟ فقد روي عن عطاء الخراساني ما معناه: أنه لما تسمى غيره تعالى بالرحمن، جيء بلفظ الرحيم ليقطع التوهم بذلك، فإنه لا يوصف بالرحمن الرحيم إلا الله تعالى. كذا رواه ابن جرير عن عطاء. ووجهه بذلك، والله أعلم. وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن، حتى رد الله عليهم ذلك بقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]؛ ولهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعَلي: "اكتب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "، فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم. رواه البخاري، وفي بعض الروايات: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة. وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60].
|