الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}. يقول تعالى ذاما للمشركين في اتخاذهم شفعاء من دون الله، وهم الأصنام والأنداد، التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم بلا دليل ولا برهان حداهم على ذلك، وهي لا تملك شيئا من الأمر، بل وليس لها عقل تعقل به، ولا سمع تسمع به، ولا بصر تبصر به، بل هي جمادات أسوأ حالا من الحيوان بكثير. ثم قال: قل: أي يا محمد لهؤلاء الزاعمين أن ما اتخذوه شفعاء لهم عند الله، أخبرهم أن الشفاعة لا تنفع عند الله إلا لمن ارتضاه وأذن له، فمرجعها كلها إليه، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]. {لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} أي: هو المتصرف في جميع ذلك. {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: يوم القيامة، فيحكم بينكم بعدله، ويجزي كلا بعمله. ثم قال تعالى ذاما للمشركين أيضا: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ} أي: إذا قيل: لا إله إلا الله {اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} قال مجاهد: {اشْمَأَزَّتْ} انقبضت. وقال السدي: نفرت. وقال قتادة: كفرت واستكبرت. وقال مالك، عن زيد بن أسلم: استكبرت. كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]، أي: عن المتابعة والانقياد لها. فقلوبهم لا تقبل الخير، ومن لم يقبل الخير يقبل الشر؛ ولهذا قال: {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أي: من الأصنام والأنداد، قاله مجاهد، {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي: يفرحون ويسرون.
{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}. يقول تعالى بعد ما ذكر عن المشركين ما ذكر من المذمة، لهم في حبهم الشرك، ونفرتهم عن التوحيد {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: ادع أنت الله وحده لا شريك له، الذي خلق السموات والأرض وفطرها، أي: جعلها على غير مثال سبق، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: السر والعلانية، {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي: في دنياهم، ستفصل بينهم يوم معادهم ونشورهم، وقيامهم من قبورهم. وقال مسلم في صحيحه: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا عمر بن يونس، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة [رضي الله عنها] بأي شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، وأخبرنا سهيل بن أبي صالح وعبد الله بن عثمان بن خُثَيم، عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، إني أعهد إليك في هذه الدنيا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عندك عهدا تُوَفِّينيه يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد، إلا قال الله، عز وجل، لملائكته يوم القيامة: إن عبدي قد عهد إلي عهدا فأوفوه إياه، فيدخله الله الجنة". قال سهيل: فأخبرت القاسم بن عبد الرحمن أن عونا أخبر بكذا وكذا؟ فقال: ما في أهلنا جارية إلا وهي تقول هذا في خدرها. انفرد به الإمام أحمد. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثني حُييّ بن عبد الله؛ أن أبا عبد الرحمن حدثه قال: أخرج لنا عبد الله بن عمرو قرطاسا وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا يقول: "اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت رب كل شيء، وإله كل شيء، أشهد أن لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، والملائكة يشهدون، أعوذ بك من الشيطان وشركه، وأعوذ بك أن أقترف على نفسي إثما، أو أجره إلى مسلم". قال أبو عبد الرحمن: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه عبد الله بن عمرو أن يقول ذلك حين يريد أن ينام. تفرد به أحمد أيضا. وقال [الإمام] أحمد أيضا: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا ابن عياش ، عن محمد بن زياد الألهاني، عن أبي راشد الحُبْرَاني قال: أتيت عبد الله بن عمرو فقلت له: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فألقى بين يَدَي صحيفة فقال: هذا ما كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرت فيها فإذا فيها أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله، علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر، قل اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت، رب كل شي ومليكه، أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه، أو أقترف على نفسي سوءا، أو أجره إلى مسلم". ورواه الترمذي، عن الحسن بن عرفة، عن إسماعيل بن عياش ، به، وقال: حسن غريب من هذا الوجه. وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، حدثنا شيبان، عن ليث، عن مجاهد قال: قال أبو بكر الصديق: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعي من الليل: "اللهم فاطر السموات والأرض" إلى آخره. وقوله: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} وهم المشركون، {مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ} أي: ولو أن جميع ملك الأرض وضعفه معه {لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ} أي: الذي أوجبه الله لهم يوم القيامة، ومع هذا لا يُتقبل منهم الفداء ولو كان ملء الأرض ذهبا، كما قال في الآية الأخرى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} أي: وظهر لهم من الله من العذاب والنكال بهم ما لم يكن في بالهم ولا في حسابهم،. {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} أي: وظهر لهم جزاء ما اكتسبوا في الدار الدنيا من المحارم والمآثم، {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي: وأحاط بهم من العذاب والنكال ما كانوا يستهزئون به في الدار الدنيا.
{فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. يقول تعالى مخبرا عن الإنسان أنه في حال الضراء يَضْرَع إلى الله، عز وجل، وينيب إليه ويدعوه، وإذا خوله منه نعمة بغى وطغى، وقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} أي: لما يعلم الله من استحقاقي له، ولولا أني عند الله تعالى خصيص لما خَوَّلني هذا! قال قتادة: {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} على خيرٍ عندي. قال الله عز وجل: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أي: ليس الأمر كما زعموا، بل [إنما] أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه، أيطيع أم يعصي؟ مع علمنا المتقدم بذلك، فهي فتنة أي: اختبار، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} فلهذا يقولون ما يقولون، ويدعون ما يدعون. {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: قد قال هذه المقالة وزعم هذا الزعم وادعى هذه الدعوى، كثير ممن سلف من الأمم {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي: فما صح قولهم ولا منعهم جمعهم وما كانوا يكسبون. {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ} أي: من المخاطبين {سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} أي: كما أصاب أولئك، {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} كما قال تعالى مخبرا عن قارون أنه قال له قومه: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:76- 78]، وقال تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35]. وقوله: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي: يوسعه على قوم ويضيقه على آخرين، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: لعبرا وحججا.
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}. هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر. ولا يصح حمل هذه [الآية] على غير توبة؛ لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه. وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف؛ أن ابن جريج أخبرهم: قال يعلى: إن سعيد بن جبير أخبره عن ابن عباس [رضي الله عنهما] ؛ أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا. فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة. فنزل: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]، ونزل [قوله]: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}. وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي، من حديث ابن جريج، عن يعلى بن مسلم المكي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، به. والمراد من الآية الأولى قوله: {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} الآية. [الفرقان:70]. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو قبيل قال: سمعت أبا عبد الرحمن المري يقول: سمعت ثوبان- مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} إلى آخر الآية، فقال رجل: يا رسول الله، فمن أشرك؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: "ألا ومن أشرك" ثلاث مرات. تفرد به الإمام أحمد. وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا روح بن قيس، عن أشعث بن جابر الحداني، عن مكحول، عن عمرو بن عَبَسة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، شيخ كبير يدعم على عصا له، فقال: يا رسول الله إن لي غدرات وفجرات، فهل يغفر لي؟ فقال: "ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟" قال: بلى، وأشهد أنك رسول الله. فقال: "قد غفر لك غدراتك وفجراتك". تفرد به أحمد. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] وسمعته يقول: "{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} ولا يبالي {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}. ورواه أبو داود والترمذي، من حديث ثابت، به. فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد: أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة، ولا يقنطن عبد من رحمة الله، وإن عظمت ذنوبه وكثرت؛ فإن باب التوبة والرحمة واسع، قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة:104]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110]، وقال تعالى في حق المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النساء:146، 145]، وقال {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:73]، ثم قال {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]، وقال {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10]. قال الحسن البصري: انظر إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة!. والآيات في هذا كثيرة جدا. وفي الصحيحين عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث الذي قتل تسعا وتسعين نفسا، ثم ندم وسأل عابدا من عُبَّاد بني إسرائيل: هل له من توبة؟ فقال: لا. فقتله وأكمل به مائة. ثم سأل عالما من علمائهم: هل له من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أمره بالذهاب إلى قرية يعبد الله فيها، فقصدها فأتاه الموت في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأمر الله أن يقيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيهما كان أقرب فهو منها. فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر، فقبضته ملائكة الرحمة. وذكر أنه نأى بصدره عند الموت، وأن الله أمر البلدة الخيرة أن تقترب، وأمر تلك البلدة أن تتباعد هذا معنى الحديث، وقد كتبناه في موضع آخر بلفظه. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، رضي الله عنهما [في] قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} إلى آخر الآية، قال: قد دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله، ومن زعم أن المسيح هو ابن الله، ومن زعم أن عزيرا ابن الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة، يقول الله تعالى لهؤلاء: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74] ثم دعا إلى توبته من هو أعظم قولا من هؤلاء، من قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى} [النازعات:24]، وقال {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]. قال ابن عباس [رضي الله عنهما] من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه. وروى الطبراني من طريق الشعبي، عن شُتَير بن شَكَل أنه قال: سمعت ابن مسعود يقول إن أعظم آية في كتاب الله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} [النحل:90]، وإن أكثر آية في القرآن فرجا في سورة الغرف: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}، وإن أشد آية في كتاب الله تصريفا {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:3، 2]. فقال له مسروق: صدقت. وقال الأعمش، عن أبي سعيد، عن أبي الكنود قال: مر عبد الله- يعني ابن مسعود- على قاص، وهو يذكر الناس، فقال: يا مذكر لم تُقَنِّط الناس؟ ثم قرأ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} رواه ابن أبي حاتم. ذكر أحاديث فيها نفي القنوط: قال الإمام أحمد: حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا أبو عبيدة عبد المؤمن بن عبيد الله ، حدثني أخشن السدوسي قال: دخلت على أنس بن مالك فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "والذي نفسي بيده، لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم الله لغفر لكم، والذي نفس محمد بيده، لو لم تخطئوا لجاء الله بقوم يخطئون، ثم يستغفرون الله فيغفر لهم" تفرد به [الإمام] أحمد . وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى حدثني ليث حدثني محمد بن قيس- قاص عمر بن عبد العزيز- عن أبي صِرْمة، عن أبي أيوب الأنصاري، رضي الله عنه، أنه قال حين حضرته الوفاة: قد كنت كتمت منكم شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أنكم تذنبون، لخلق الله قوما يذنبون فيغفر لهم". هكذا رواه الإمام أحمد، وأخرجه مسلم في صحيحه، والترمذي جميعا، عن قتيبة، عن الليث بن سعد به . ورواه مسلم من وجه آخر به، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي صرمة- وهو الأنصاري صحابي- عن أبي أيوب به. وقال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك الحراني، حدثنا يحيى بن عمرو بن مالك النُّكري قال: سمعت أبي يحدث عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة الذنب الندامة"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون، فيغفر لهم" تفرد به أحمد. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني عبد الأعلى بن حماد النَّرسِي، حدثنا داود بن عبد الرحمن، حدثنا أبو عبد الله مسلمة الرازي، عن أبي عمرو البجلي، عن عبد الملك بن سفيان الثقفي، عن أبي جعفر محمد بن علي، عن محمد بن الحنفية، عن أبيه، علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب العبد المفتن التواب". لم يخرجوه من هذا الوجه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا ثابت وحميد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: إن إبليس- عليه لعائن الله- قال: يا رب، إنك أخرجتني من الجنة من أجل آدم، وإني لا أستطيعه إلا بسلطانك. قال: فأنت مسلط. قال: يا رب، زدني. قال: لا يولد له ولد إلا ولد لك مثله. قال: يا رب، زدني. قال: أجعل صدورهم مساكن لكم، وتجرون منهم مجرى الدم. قال: يا رب، زدني. قال: أجلب عليهم بخيلك ورجلك، وشاركهم في الأموال والأولاد، وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا. فقال آدم [عليه السلام] يا رب، قد سلطته علي، وإني لا أمتنع [منه] إلا بك. قال: لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه من قرناء السوء. قال: يا رب، زدني. قال: الحسنة عشر أو أزيد، والسيئة واحدة أو أمحوها. قال: يا رب، زدني. قال: باب التوبة مفتوح ما كان الروح في الجسد. قال: يا رب، زدني. قال: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}. وقال محمد بن إسحاق: قال نافع: عن عبد الله بن عمير، عن عمر، رضي الله عنه، في حديثه قال: وكنا نقول ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة، عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم. قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم. قال: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أنزل الله فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}. قال عمر، رضي الله عنه: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص قال: فقال هشام: لما أتتني جعلت أقرؤها بذي طُوًى أصَعَّد بها فيه وأصوت ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم أفهمنيها. قال: فألقى الله في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا. فرجعت إلى بعيري فجلست عليه، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. ثم استحث [سبحانه] وتعالى عباده إلى المسارعة إلى التوبة، فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} أي: ارجعوا إلى الله واستسلموا له، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} أي: بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة،. {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وهو القرآن العظيم، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} أي: من حيث لا تعلمون ولا تشعرون. ثم قال: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} أي: يوم القيامة يتحسر المجرم المفرط في التوبة والإنابة، ويود لو كان من المحسنين المخلصين المطيعين لله عز وجل. وقوله: {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} أي: إنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزئ غير موقن مصدق. {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي: تود أن لو أعيدت إلى الدار فتحسن العمل. قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس: أخبر الله سبحانه ، ما العباد قائلون قبل أن يقولوه، وعملهم قبل أن يعملوه، وقال: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]،، {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} فأخبر الله تعالى: أن لو رُدوا لما قدروا على الهدى، وقال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أسود، حدثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول: لو أن الله هداني؟! فتكون عليه حسرة". قال: "وكل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول: لولا أن الله هداني!" قال: "فيكون له الشكر". ورواه النسائي من حديث أبي بكر بن عياش، به. ولما تمنى أهل الجرائم العَودَ إلى الدنيا، وتحسروا على تصديق آيات الله واتباع رسله، قال [الله سبحانه وتعالى] {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} أي: قد جاءتك أيها العبد النادم على ما كان منه آياتي في الدار الدنيا، وقامت حججي عليك، فكذبت بها واستكبرت عن اتباعها، وكنت من الكافرين بها، الجاحدين لها.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}. يخبر تعالى عن يوم القيامة أنه تسود فيه وجوه، وتبيض فيه وجوه، تسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف، وتبيض وجوه أهل السنة والجماعة، قال تعالى هاهنا: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} أي: في دعواهم له شريكا وولدا {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} أي: بكذبهم وافترائهم. وقوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} أي: أليست جهنم كافية لها سجنا وموئلا لهم فيها [دار] الخزي والهوان، بسبب تكبرهم وتجبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب، حدثنا عمي، حدثنا عيسى بن أبي عيسى الخياط، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المتكبرين يحشرون يوم القيامة أشباه الذر في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصغار، حتى يدخلوا سجنا من النار في واد يقال له بولس، من نار الأنيار، ويسقون عصارة أهل النار، ومن طينة الخَبَال". وقوله: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} أي: مما سبق لهم من السعادة والفوز عند الله، {لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} أي: يوم القيامة، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي: ولا يحزنهم الفزع الأكبر، بل هم آمنون من كل فَزَع، مزحزحون عن كل شر، مُؤمَلون كل خير. {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}. يخبر تعالى أنه خالق الأشياء كلها، وربها ومليكها والمتصرف فيها، وكل تحت تدبيره وقهره وكلاءته. وقوله: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ}، قال مجاهد: المقاليد هي: المفاتيح بالفارسية. وكذا قال قتادة، وابن زيد، وسفيان ابن عيينة. وقال السدي: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} أي: خزائن السموات والأرض. والمعنى على كلا القولين: أن أزمَّة الأمور بيده، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ ولهذا قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} أي: حججه وبراهينه {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا غريبا جدًا- وفي صحته نظر- ولكن نذكره كما ذكره، فإنه قال: حدثنا يزيد بن سِنان البصري بمصر، حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا الأغلب بن تميم، عن مخلد بن هذيل العبدي، عن عبد الرحمن المدني، عن عبد الله بن عمر، عن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} فقال: "ما سألني عنها أحد قبلك يا عثمان"، قال: "تفسيرها: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، أستغفر الله، ولا قوة إلا بالله، الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده الخير، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، من قالها يا عثمان إذا أصبح عشر مرار أعطي خصالا ستا: أما أولاهن: فيحرس من إبليس وجنوده، وأما الثانية: فيعطى قنطارا من الأجر، وأما الثالثة: فترفع له درجة في الجنة، وأما الرابعة: فيتزوج من الحور العين، وأما الخامسة: فيحضره اثنا عشر ملكا، وأما السادسة: فيعطى من الأجر كمن قرأ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور. وله مع هذا يا عثمان من الأجر كمن حج وتقبلت حجته، واعتمر فتقبلت عمرته، فإن مات من يومه طبع بطابع الشهداء". ورواه أبو يعلى الموصلي من حديث يحيى بن حماد، به مثله. وهو غريب، وفيه نكارة شديدة، والله أعلم. وقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} ذكروا في سبب نزولها ما رواه ابن أبي حاتم وغيره، عن ابن عباس [رضي الله عنهما أنه قال]: إن المشركين بجهلهم دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة آلهتهم، ويعبدوا معه إلهه، فنزلت: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. وهذه كقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88]. وقوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي: أخلص العبادة لله وحده، لا شريك له، أنت ومن معك، أنت ومن اتبعك وصدقك.
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. يقول تعالى: وما قدر المشركون الله حق قدره، حين عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدرته. قال مجاهد: نزلت في قريش. وقال السدي: ما عظموه حق عظمته. وقال محمد بن كعب: لو قدروه حق قدره ما كذبوه. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله [تعالى] عليهم، فمن آمن أن الله على كل شي قدير، فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره. وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الكريمة، والطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف. قال البخاري: قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} حدثنا آدم، حدثنا شيبان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد: إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع. فيقول: أنا الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية . و[قد] رواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع من صحيحه، والإمام أحمد، ومسلم، والترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما، كلهم من حديث سليمان بن مهران الأعمش، عن إبراهيم عن عبيدة، عن [عبد الله] ابن مسعود، رضي الله عنه، بنحوه. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة، عن عبد الله، رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، فقال: يا أبا القاسم، أبلغك أن الله [تعالى] يحمل الخلائق على إصبع، والسموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع؟ قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. قال: وأنزل الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} إلى آخر الآية. وهكذا رواه البخاري، ومسلم، والنسائي- من طرق- عن الأعمش به. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن حسن الأشقر، حدثنا أبو كدينة، عن عطاء عن أبي الضحى، عن ابن عباس قال: مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فقال: كيف تقول يا أبا القاسم: يوم يجعل الله السماء على ذه- وأشار بالسبابة- والأرض على ذه، والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه- كل ذلك يشير بإصبعه- قال: فأنزل الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية. وكذا رواه الترمذي في التفسير عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن محمد بن الصَّلْت، عن أبي جعفر، عن أبي كدينة يحيى بن المهلب، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، به، وقال: حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. ثم قال البخاري: حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا الليث، حدثنا عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن أبا هريرة، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض". تفرد به من هذا الوجه ، ورواه مسلم من وجه آخر. وقال البخاري- في موضع آخر- : حدثنا مُقَدَّم بن محمد، حدثنا عمي القاسم بن يحيى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع، وتكون السموات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك". تفرد به أيضا من هذا الوجه ، ورواه مسلم من وجه آخر . وقد رواه الإمام أحمد من طريق أخرى بلفظ آخر أبسط من هذا السياق وأطول، فقال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن عبيد الله بن مقسم، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده، يحركها يقبل بها ويدبر: "يمجد الرب نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم". فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا: لَيَخِرَّن به. وقد رواه مسلم، والنسائي، وابن ماجه من حديث عبد العزيز بن أبي حازم- زاد مسلم: ويعقوب بن عبد الرحمن، كلاهما عن أبي حازم، عن عبيد الله بن مقسم، عن ابن عمر، به، نحوه. ولفظ مسلم- عن عبيد الله بن مقسم في هذا الحديث- : أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يأخذ الله سمواته وأرضيه بيده ويقول: أنا الملك، ويقبض أصابعه ويبسطها: أنا الملك، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟. وقال البزار: حدثنا سليمان بن سيف ، حدثنا أبو علي الحنفي، حدثنا عباد المنْقرَي، حدثني محمد بن المنكدر قال: حدثنا عبد الله بن عمر [رضي الله عنهما] ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} حتى بلغ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، فقال المنبر هكذا، فجاء وذهب ثلاث مرات. ورواه الإمام الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث عبيد بن عمير، عن عبد الله بن عمرو، وقال: صحيح. وقال الطبراني في المعجم الكبير: حدثنا عبد الرحمن بن معاوية العُتْبي، حدثنا حيان بن نافع بن صخر بن جويرية، حدثنا سعيد بن سالم القداح، عن معمر بن الحسن، عن بكر بن خُنَيْس، عن أبي شيبة، عن عبد الملك بن عمير، عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفر من أصحابه: "إني قارئ عليكم آيات من آخر سورة الزمر، فمن بكى منكم وجبت له الجنة"؟ فقرأها من عند قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}، إلى آخر السورة، فمنا من بكى، ومنا من لم يبك، فقال الذين لم يبكوا: يا رسول الله لقد جهدنا أن نبكي فلم نبك؟ فقال: "إني سأقرؤها عليكم فمن لم يبك فليتباك". هذا حديث غريب جدا. وأغرب منه ما رواه في المعجم الكبير أيضا: حدثنا هاشم بن مُرْثَد، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، حدثني أبي، حدثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالكالأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يقول: ثلاث خلال غَيَّبتُهُنَّ عن عبادي، لو رآهن رجل ما عمل سوءًا أبدا: لو كشفت غطائي فرآني حتى نستيقن ويعلم كيف أفعل بخلقي إذا أتيتهم، وقبضت السموات بيدي، ثم قبضت الأرض والأرضين، ثم قلت: أنا الملك، من ذا الذي له الملك دوني؟ ثم أريتهم الجنة وما أعددت لهم فيها من كل خير، فيستيقنوها. وأريهم النار وما أعددت لهم فيها من كل شر فيستيقنوها، ولكن عمدا غيبت ذلك عنهم لأعلم كيف يعملون، وقد بينته لهم". وهذا إسناد متقارب، وهي نسخة تروى بها أحاديث جمة، والله أعلم.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ}. يقول تعالى مخبرا عن هول يوم القيامة، وما يكون فيه من الآيات العظيمة والزلازل الهائلة، فقوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}، هذه النفخة هي الثانية، وهي نفخة الصعق، وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السموات والأرض، إلا من شاء الله كما هو مصرح به مفسرا في حديث الصور المشهور. ثم يقبض أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد الحي القيوم الذي كان أولا وهو الباقي آخرا بالديمومة والبقاء، ويقول: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16] ثلاث مرات. ثم يجيب نفسه بنفسه فيقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} أي: الذي هو واحد وقد قهر كل شيء، وحكم بالفناء على كل شيء. ثم يحيي أول من يحيي إسرافيل، ويأمره أن ينفخ في الصور أخرى، وهي النفخة الثالثة نفخة البعث، قال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} أي: أحياء بعد ما كانوا عظاما ورفاتا، صاروا أحياء ينظرون إلى أهوال يوم القيامة، كما قال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات:14، 13]، وقال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا} [الإسراء:52]، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم:25]. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن النعمان بن سالم قال: سمعتيعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود قال: سمعت رجلا قال لعبد الله بن عمرو : إنك تقول: الساعة تقوم إلى كذا وكذا؟ قال: لقد هممت ألا أحدثكم شيئا، إنما قلت: سترون بعد قليل أمرا عظيما. ثم قال عبد الله بن عمرو: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج الدجال في أمتي، فيمكث فيهم أربعين- لا أدري أربعين يوما أو أربعين عاما أو أربعين شهرا أو أربعين ليلة- فيبعث الله عيسى ابن مريم ، كأنه عروة بن مسعود الثقفي، فيظهر فيهلكه الله . ثم يلبث الناس بعده سنين سبعا ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام، فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، حتى لو أن أحدهم كان في كبد جبل لدخلت عليه". قال: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويبقى شرار الناس في خفة الطير، وأحلام السباع، لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا". قال: "فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيأمرهم بالأوثان فيعبدونها، وهم في ذلك دارة أرزاقهم، حسن عيشهم. ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى له، وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه، فيصعق، ثم لا يبقى أحد إلا صعق. ثم يرسل الله- أو: ينزل الله مطرا كأنه الطل- أو الظل شك نعمان- فتنبت منه أجساد الناس. ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: يا أيها الناس، هلموا إلى ربكم: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]، قال: "ثم يقال: أخرجوا بعث النار". قال: "فيقال: كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فيومئذ تبعث الولدان شيبا، ويومئذ يكشف عن ساق". انفرد بإخراجه مسلم في صحيحه. وقال البخاري: حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش قال: سمعت أبا صالح قال: سمعت أبا هريرة [رضي الله عنه] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بين النفختين أربعون" . قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يوما؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبي، قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيت، ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عَجْبُ ذنبه فيه يركب الخلق. وقال أبو يعلى: حدثنا يحيى بن معين، حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سألت جبريل، عليه السلام، عن هذه الآية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} من الذين لم يشأ الله أن يصعقهم؟ قال: هم الشهداء، مقلدون أسيافهم حول عرشه، تتلقاهم ملائكة يوم القيامة إلى المحشر بنجائب من ياقوت نمارها ألين من الحرير، مَدُّ} خطاها مد أبصار الرجال، يسيرون في الجنة يقولون عند طول النزهة: انطلقوا بنا إلى ربنا، عز وجل، لننظر كيف يقضي بين خلقه، يضحك إليهم إلهي، وإذا ضحك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه". رجاله كلهم ثقات إلا شيخ إسماعيل بن عياش، فإنه غير معروف والله أعلم. وقوله: {وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} أي: أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق، تبارك وتعالى، للخلائق لفصل القضاء، {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} قال قتادة: كتاب الأعمال، {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} قال ابن عباس: يشهدون على الأمم بأنهم بلغوهم رسالات الله إليهم، {وَالشُّهَدَاءِ} أي: الشهداء من الملائكة الحفظة على أعمال العباد من خير وشر، {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} أي: بالعدل {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} قال الله [تعالى] : {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، وقال [الله] تعالى: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40]، ولهذا قال: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} أي: من خير أو شر {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ}.
{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}. يخبر تعالى عن حال الأشقياء الكفار كيف يساقون إلى النار؟ وإنما يساقون سوقا عنيفا بزجر وتهديد ووعيد، كما قال تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13] أي: يدفعون إليها دفعا. هذا وهم عطاش ظماء، كما قال في الآية الأخرى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:86، 85]. وهم في تلك الحال صُمُّ وبكم وعمي، منهم من يمشي على وجهه، {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97]. وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} أي: بمجرد وصولهم إليها فتحت لهم أبوابها سريعا، لتعجل لهم العقوبة، ثم يقول لهم خزنتها من الزبانية- الذين هم غلاظ الأخلاق، شداد القوى على وجه التقريع والتوبيخ والتنكيل- : {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} أي: من جنسكم تتمكنون من مخاطبتهم والأخذ عنهم، {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} أي: يقيمون عليكم الحجج والبراهين على صحة ما دعوكم إليه، {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أي: ويحذرونكم من شر هذا اليوم؟ فيقول الكفار لهم: {بَلَى} أي: قد جاءونا وأنذرونا، وأقاموا علينا الحجج والبراهين، {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}. أي: ولكن كذبناهم وخالفناهم، لما سبق إلينا من الشَقْوة التي كنا نستحقها حيث عَدَلْنا عن الحق إلى الباطل، كما قال تعالى مخبرا عنهم في الآية الأخرى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:8- 10]، أي: رجعوا على أنفسهم بالملامة والندامة {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:11] أي: بعدا لهم وخسارا. وقوله هاهنا: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي: كل من رآهم وعلم حالهم يشهد عليهم بأنهم مستحقون للعذاب؛ ولهذا لم يسند هذا القول إلى قائل معين، بل أطلقه ليدل على أن الكون شاهد عليهم بأنهم مستحقون ما هم فيه بما حكم العدل الخبير عليهم به؛ ولهذا قال جل وعلا {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي: ماكثين فيها لا خروج لكم منها، ولا زوال لكم عنها، {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أي: فبئس المصير وبئس المقيل لكم، بسبب تكبركم في الدنيا، وإبائكم عن اتباع الحق، فهو الذي صيركم إلى ما أنتم فيه، فبئس الحال وبئس المآل.
{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}. وهذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون على النجائب وفدا إلى الجنة {زُمَرًا} أي: جماعة بعد جماعة: المقربون، ثم الأبرار، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم كل طائفة مع من يناسبهم: الأنبياء مع الأنبياء والصديقون مع أشكالهم، والشهداء مع أضرابهم، والعلماء مع أقرانهم، وكل صنف مع صنف، كل زمرة تناسب بعضها بعضا. {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} أي: وصلوا إلى أبواب الجنة بعد مجاوزة الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبُوا ونُقُّوا أذن لهم في دخول الجنة، وقد ورد في حديث الصور أن المؤمنين إذا انتهوا إلى أبواب الجنة تشاوروا فيمن يستأذن لهم بالدخول، فيقصدون، آدم، ثم نوحا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم محمدا، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كما فعلوا في العرصات عند استشفاعهم إلى الله، عز وجل، أن يأتي لفصل القضاء، ليظهر شرف محمد صلى الله عليه وسلم على سائر البشر في المواطن كلها. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شفيع في الجنة" وفي لفظ لمسلم: "وأنا أول من يقرع باب الجنة".. وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، حدثنا سليمان، عن ثابت، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد. قال: يقول: بك أُمِرْتُ ألا أفتح لأحد قبلك". ورواه مسلم عن عمرو الناقد وزهير بن حرب، كلاهما عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن سليمان- وهو ابن المغيرة القيسي- عن ثابت، عن أنس، به. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا مَعْمَر عن همام بن منبه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون فيها، ولا يتغوطون فيها. آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة ، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن. لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب واحد يسبحون الله بكرة وعشيا". رواه البخاري عن محمد بن مقاتل، عن ابن المبارك. ورواه مسلم، عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، كلاهما عن معمر بإسناده نحوه . وكذا رواه أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خَيْثَمة، حدثنا جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زُرْعَة، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول زُمْرَة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشدُّ كوكب دُرِّي في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتْفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعا في السماء". وأخرجاه أيضا من حديث جرير. وقال الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الجنة من أمتي زُمْرَة، هم سبعون ألفا، تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر". فقام عُكَّاشة بن مِحْصَن فقال: يا رسول الله ادع الله، أن يجعلني منهم: فقال: "اللهم اجعله منهم". ثم قام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم. فقال صلى الله عليه وسلم: "سبقك بها عُكَّاشة". أخرجاه وقد روى هذا الحديث- في السبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب- البخاري ومسلم، عن ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وعمران بن حصين، وابن مسعود، ورفاعة بن عرابةالجهني، وأم قيس بنت محصن. ولهما عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا- أو: سبعمائة ألف- آخذٌ بعضهم ببعض، حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر".. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن محمد بن زياد قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وعدني ربي، عز وجل، أن يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا، مع كل ألف سبعون ألفا، ولا حساب عليهم ولا عذاب، وثلاث حَثَيَات من حثيات ربي عز وجل". وكذا رواه الوليد بن مسلم، عن صفوان بن عمرو، عن سليم بن عامر [و] أبي اليمان عامر بن عبد الله بن لحُيّ عن أبي أمامة [رضي الله عنه] . ورواه الطبراني، عن عتبة بن عَبْدٍ السُّلمي: "ثم يشفع كل ألف في سبعين ألفا". وروى مثله، عن ثوبان وأبي سعيد الأنماري، وله شواهد من وجوه كثيرة. وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} لم يذكر الجواب هاهنا، وتقديره: حتى إذا جاءوها، وكانت هذه الأمور من فتح الأبواب لهم إكراما وتعظيما، وتلقتهم الملائكة الخزنة بالبشارة والسلام والثناء، لا كما تلقى الزبانية الكفرة بالتثريب والتأنيب، فتقديره: إذا كان هذا سَعِدوا وطابوا، وسُرّوا وفرحوا، بقدر كل ما يكون لهم فيه نعيم. وإذا حذف الجواب هاهنا ذهب الذهن كل مذهب في الرجاء والأمل. ومن زعم أن "الواو" في قوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} واو الثمانية، واستدل به على أن أبواب الجنة ثمانية، فقد أبعد النّجْعَة وأغرق في النزع. وإنما يستفاد كون أبواب الجنة ثمانية من الأحاديث الصحيحة. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله، دعي من أبواب الجنة، وللجنة أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دُعِي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان" فقال أبو بكر، رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله، ما على أحد من ضرورة دُعي، من أيها دعي، فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال: "نعم، وأرجو أن تكون منهم". ورواه البخاري ومسلم، من حديث الزهري، بنحوه. وفيهما من حديث أبي حازم سلمة بن دينار ، عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة ثمانية أبواب، باب منها يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون". وفي صحيح مسلم، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ- أو: فيسبغ الوضوء- ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء".. وقال الحسن بن عرفة: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حُسَين، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن معاذ، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الجنة: لا إله إلا الله". ذكر سعة أبواب الجنة- نسأل الله العظيم من فضله أن يجعلنا من أهلها- : في الصحيحين من حديث أبي زُرْعَة، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] في حديث الشفاعة الطويل: "فيقول الله يا محمد، أدخل من لا حساب عليه. من أمتك من الباب الأيمن، وهم شركاء الناس في الأبواب الأخر. والذي نفس محمد بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة- ما بين عضادتي الباب- لكما بين مكة وهجر- أو هجر ومكة". وفي رواية: "مكة وبصرى". وفي صحيح مسلم، عن عتبة بن غزوان أنه خطبهم خطبة فقال فيها: "ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة، مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام". وفي المسند عن حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثله. وقال عبد بن حميد: حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن ما بين مصراعين في الجنة مسيرة أربعين سنة". وقوله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} أي: طابت أعمالكم وأقوالكم، وطاب سعيكم فطاب جزاؤكم، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادى بين المسلمين في بعض الغزوات: "إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة" وفي رواية: "مؤمنة".. وقوله: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} أي: ماكثين فيها أبدا، لا يبغون عنها حولا. {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} أي: يقول المؤمنون إذا عاينوا في الجنة ذلك الثواب الوافر، والعطاء العظيم، والنعيم المقيم، والملك الكبير، يقولون عند ذلك: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} أي: الذي كان وعدنا على ألسنة رسله الكرام، كما دعوا في الدنيا: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 194]، {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:43]، {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:35، 34]. وقولهم: {وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} قال أبو العالية، وأبو صالح، وقتادة، والسدي، وابن زيد: أي أرض الجنة. وهذه الآية كقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، ولهذا قالوا: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} أي: أين شئنا حللنا، فنعم الأجر أجرنا على عملنا. وفي الصحيحين من حديث الزهري، عن أنس في قصة المعراج قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك". وقال عبد بن حميد: حدثنا روح بن عبادة، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد [رضي الله عنه] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ابن صائد عن تربة الجنة؟ فقال: دَرْمَكة بيضاءُ مِسْك خالص: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق". وكذا رواه مسلم، من حديث أبي مسلمة ، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، به. ورواه مسلم [أيضا] عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة، عن الجُرَيْرِي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد؛ أن ابن صائد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة، فقال: "دَرْمكة بيضاء مسك خالص". وقول ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا}، قال: سيقوا حتى انتهوا إلى باب من أبواب الجنة، فوجدوا عندها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فعمدوا إلى إحداهما فتطهروا منها، فجرت عليهم نضرة النعيم، فلم تُغَير أبشارهم بعدها أبدا، ولم تُشْعَث أشعارهم أبدا بعدها، كأنما دهنوا بالدهان، ثم عمدوا إلى الأخرى كأنما أمروا بها، فشربوا منها، فأذهبت ما كان في بطونهم من أذى أو قذى، وتلقتهم الملائكة على أبواب الجنة: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}. ويلقى كل غلمان صاحبهم يطيفُون به، فعل الولدان بالحميم جاء من الغيبة: أَبْشِر، قد أعَد الله لك من الكرامة كذا وكذا، قد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا. وقال: وينطلق غلام من غلمانه إلى أزواجه من الحور العين، فيقول: هذا فلان- باسمه في الدنيا- فيقلن: أنت رأيته؟ فيقول: نعم. فيستخفهن الفرح حتى تخرج إلى أَسكُفَّة الباب. قال: فيجيء فإذا هو بنمارق مصفوفة، وأكواب موضوعة، وزرابي مبثوثة. قال: ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه ، فإذا هو قد أسس على جندل اللؤلؤ، بين أحمر وأخضر وأصفر [وأبيض]، ومن كل لون. ثم يرفع طرفه إلى سقفه، فلولا أن الله قدره له، لألمَّ أن يذهب ببصره، إنه لمثل البرق. ثم ينظر إلى أزواجه من الحور العين، ثم يتكئ على أريكة من أرائكه، ثم يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] الآية. ثم قال: حدثنا، أبي حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النّهْدِي، حدثنا مسلمة بن جعفر البجلي قال: سمعت أبا معاذ البصري يقول: إن عليا، رضي الله عنه، كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي، بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم يُسْتَقبلون- أو: يُؤْتون- بنوق لها أجنحة، وعليها رحال الذهب، شراك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مد البصر، فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان، فيشربون من إحداهما فيُغْسَل ما في بطونهم من دنس، ويغتسلون من الأخرى، فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبدا، وتجري عليهم نضرة النعيم، فينتهون- أو: فيأتون- باب الجنة، فإذا حلقة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب، فيضربون بالحلقة على الصفيحة ، فيسمع لها طنين يا علي، فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل، فتبعث قَيّمها فيفتح له، فإذا رآه خَرّ له- قال مسلمة: أراه قال: ساجدًا - فيقول: ارفع رأسك، فإنما أنا قَيمك، وُكِّلْتُ بأمرك. فيتبعه ويقفو أثره، فتستخف الحوراء العجلة، فتخرج من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه، ثم تقول: أنت حبي، وأنا حبك، وأنا الخالدة التي لا أموت، وأنا الناعمة التي لا أبأس، وأنا الراضية التي لا أسخط، وأنا المقيمة التي لا أظعن". فيدخل بيتًا من أسّه إلى سقفه مائة ألف ذراع، بناؤه على جندل اللؤلؤ، طرائق أصفر وأخضر وأحمر، ليس فيها طريقة تشاكل صاحبتها، في البيت سبعون سريرا، على كل سرير سبعون حَشْيَة، على كل حشية سبعون زوجة، على كل زوجة سبعون حلة، يرى مُخّ ساقها من باطن الحُلَل، يقضي جماعها في مقدار ليلة من لياليكم هذه. الأنهار من تحتهم تَطّرد، أنهار من ماء غير آسن- قال: صاف، لا كدر فيه- وأنهار من لبن لم يتغير طعمه- قال: لم يخرج من ضروع الماشية- وأنهار من خمر لذة للشاربين- قال: لم تعصرها الرجال بأقدامهم- وأنهار من عسل مصفى- قال: لم يخرج من بطون النحل. يستجني الثمار، فإن شاء قائما، وإن شاء قاعدا، وإن شاء متكئا- ثم تلا {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا} [الإنسان:14]- فيشتهي الطعام فيأتيه طير أبيض- قال: وربما قال: أخضر. قال:- فترفع أجنحتها، فيأكل من جنوبها، أي الألوان شاء، ثم يطير فيذهب ، فيدخل الملك فيقول: سلام عليكم، تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون. ولو أن شعرة من شعر الحوراء وقعت لأهل الأرض، لأضاءت الشمس معها سوادًا في نور". هذا حديث غريب، وكأنه مرسل، والله أعلم.
{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. لما ذكر تعالى حكمه في أهل الجنة والنار، وأنه نزل كُلا في المحل الذي يليق به ويصلح له وهو العادل في ذلك الذي لا يجور- أخبر عن ملائكته أنهم محدقون من حول عرشه المجيد، يسبحون بحمد ربهم، ويمجدونه ويعظمونه ويقدسونه وينزهونه عن النقائص والجور، وقد فصل القضية، وقضى الأمر، وحكم بالعدل؛ ولهذا قال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: بين الخلائق {بِالْحَقِّ}. ثم قال: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: ونطق الكون أجمعه- ناطقه وبهيمه- لله رب العالمين، بالحمد في حكمه وعدله؛ ولهذا لم يسند القول إلى قائل بل أطلقه، فدل على أن جميع المخلوقات شَهِدَت له بالحمد. قال قتادة: افتتح الخلق بالحمد في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ} [الأنعام:1] واختتم بالحمد في قوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. آخر تفسير سورة الزمر ولله الحمد [أولا وآخرًا ظاهرًا وباطنًا].
وهي مكية. قد كره بعض السلف، منهم محمد بن سيرين أن يقال: "الحواميم" وإنما يقال: "آل حم". قال عبد الله بن مسعود: "آل حم" ديباج القرآن. وقال ابن عباس: إن لكل شيء لباباً ولُبَاب القرآن "آل حم"- أو قال: الحواميم. قال مِسْعَر بن كِدَام: كان يقال لهن: "العرائس". روى ذلك كله الإمام العَلم أبو عُبيد القاسم بن سلام، رحمه الله، في كتاب: "فضائل القرآن". وقال حُميد بن زَنْجويه: حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عن عبيد الله قال: إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلا فمر بأثر غيث فبينا هو يسير فيه ويتعجب [منه] ، إذ هبط على روضات دَمِثات فقال: عجبت من الغيث الأول، فهذا أعجب وأعجب فقيل له: إن مثل الغيث الأول مثل عِظَم القرآن، وإن مثل هؤلاء الروضات الدمثات، مثل آل حم في القرآن. أورده البغوي. وقال ابن لَهِيعة عن يزيد بن أبي حبيب: أن الجرّاح بن أبي الجراح حدثه عن ابن عباس، قال: لكل شيء لباب، ولباب القرآن الحواميم. وقال ابن مسعود: إذا وَقعتُ في "آل حم" فقد وقعتُ في روضات أتأنَّق فيهن. وقال أبو عبيد: حدثنا الأشجعي، حدثنا مِسْعر- هو ابن كِدَام- عمن حدثه: أن رجلا رأى أبا الدرداء [رضي الله عنه] يبني مسجداً، فقال له: ما هذا؟ فقال: أبنيه من أجل "آل حم". وقد يكون هذا المسجد الذي بناه أبو الدرداء هو المسجد المنسوب إليه داخل قلعة دمشق. وقد يكون صيانتها وحفظها ببركته وبركة ما وُضع له، فإن هذا الكلام يدل على النصر على الأعداء، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في بعض الغزوات: "إن بَيّتم الليلة فقولوا: حم، لا ينصرون" وفي رواية: "لا تنصرون". وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن الحكم بن ظَبْيان بن خَلف المازني، ومحمد بن الليث الهمداني قالا حدثنا موسى بن مسعود، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي، عن زرارة بن مصعب، عن أبي سلمة، عن أبي هُرَيرة، رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ آية الكرسي وأول حم المؤمن، عُصِم ذلك اليوم من كل سوء". ثم قال: لا نعلمه يُروى إلا بهذا الإسناد. ورواه الترمذي من حديث المليكي، وقال: تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. بسم الله الرحمن الرحيم
|