الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ}. قال ابن جرير: يقول الله تعالى: كما أنزلنا الكُتُب على مَنْ قبلك- يا محمد- من الرسل، كذلك أنزلنا إليك هذا الكتاب. وهذا الذي قاله حسن ومناسبة وارتباط جيد. وقوله: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: الذين أخذوه فتلَوْه حق تلاوته من أحبارهم العلماء الأذكياء، كعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأشباههما. وقوله: {وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ}، يعني العرب من قريش وغيرهم، {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ}، أي: ما يكذب بها ويجحد حقها إلا مَنْ يستر الحق بالباطل، ويغطي ضوء الشمس بالوصائل، وهيهات. ثم قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}، أي: قد لبثت في قومك- يا محمد- ومن قبل أن تأتي بهذا القرآن عُمرا لا تقرأ كتابا ولا تحسن الكتابة، بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب . وهكذا صفته في الكتب المتقدمة، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} الآية [الأعراف: 157]. وهكذا كان، صلوات الله وسلامه عليه [دائما أبدا] إلى يوم القيامة، لا يحسن الكتابة ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده، بل كان له كتاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم. ومن زعم من متأخري الفقهاء، كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه أنه عليه السلام ، كتب يوم الحديبية: "هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله" فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري: "ثم أخذ فكتب": وهذه محمولة على الرواية الأخرى: "ثم أمر فكتب". ولهذا اشتد النكير بين فقهاء المغرب والمشرق على من قال بقول الباجي، وتبرؤوا منه، وأنشدوا في ذلك أقوالا وخطبوا به في محافلهم: وإنما أراد الرجل- أعني الباجي، فيما يظهر عنه- أنه كتب ذلك على وجه المعجزة، لا أنه كان يحسن الكتابة، كما قال، عليه الصلاة والسلام إخبارا عن الدجال: "مكتوب بين عينيه كافر" وفي رواية: "ك فـ ر، يقرؤها كل مؤمن" ، وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت، عليه السلام حتى تعلم الكتابة، فضعيف لا أصل له؛ قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو} أي: تقرأ {مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} لتأكيد النفي، {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} تأكيد أيضا، وخرج مخرج الغالب، كقوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]. وقوله: {إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} أي: لو كنت تحسنها لارتاب بعض الجهلة من الناس فيقول: إنما تعلم هذا من كُتب قبله مأثورة عن الأنبياء، مع أنهم قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الفرقان: 5]،قال الله تعالى: {قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 6]، وقال هاهنا: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي: [هذا] القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق، أمرًا ونهيًا وخبرًا، يحفظه العلماء، يَسَّره الله عليهم حفظًا وتلاوةً وتفسيرًا، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْ نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا". وفي حديث عياض بن حمار ، في صحيح مسلم: "يقول الله تعالى: إني مبتليك ومبتل بك، ومنزل عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظان" . أي: لو غسل الماء المحلَّ المكتوب فيه لما احتيج إلى ذلك المحل، كما جاء في الحديث الآخر: "لو كان القرآن في إهاب، ما أحرقته النار" ، لأنه محفوظ في الصدور، ميسر على الألسنة، مهيمن على القلوب، معجز لفظًا ومعنى؛ ولهذا جاء في الكتب المتقدمة، في صفة هذه الأمة: "أناجيلهم في صدورهم". واختار ابن جرير أن المعنى في قوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}، بل العلم بأنك ما كنت تتلو من قبل هذا الكتاب كتابًا ولا تخطه بيمينك، آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب . ونقله عن قتادة، وابن جريج. وحكى الأول عن الحسن [البصري] فقط. قلت: وهو الذي رواه العوفي عن عبد الله بن عباس، وقاله الضحاك، وهو الأظهر، والله أعلم. وقوله: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ} أي: ما يكذب بها ويبخس حقها ويردها إلا الظالمون، أي: المعتدون المكابرون، الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يونس: 96، 97].
{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. يقول تعالى مخبرًا عن المشركين في تعنتهم وطلبهم آيات- يعنون- ترشدهم إلى أن محمدا رسول الله كما جاء صالح بناقته، قال الله تعالى: {قُلْ} يا محمد: {إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} أي: إنما أمر ذلك إلى الله، فإنه لو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى سؤالكم؛ لأن ذلك سهل عليه، يسير لديه، ولكنه يعلم منكم أنما قصدكم التعنت والامتحان، فلا يجيبكم إلى ذلك، كما قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء: 59]. وقوله: {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي: إنما بعثت نذيرًا لكم بَيِّنَ النذارة فَعَليَّ أن أبلغكم رسالة الله و{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17]، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]. ثم قال تعالى مبينا كثرة جهلهم، وسخافة عقلهم، حيث طلبوا آيات تدلهم على صدق محمد فيما جاءهم [به]- وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، الذي هو أعظم من كل معجزة، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته، بل عن معارضة عشر سور من مثله، بل عن معارضة سورة منه- فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} أي: أولم يكفهم آية أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم، الذي فيه خبر ما قبلهم، ونبأ ما بعدهم، وحكم ما بينهم، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب، ولم تخالط أحدا من أهل الكتاب، فجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى، ببيان الصواب مما اختلفوا فيه، وبالحق الواضح البين الجلي، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 197]، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ} مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى} [طه: 133]. وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا ليث، حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة". أخرجاه من حديث الليث. وقال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: إن في هذا القرآن: {لَرَحْمَةً} أي: بيانًا للحق، وإزاحة للباطل و{ذِكْرَى} بما فيه حلول النقمات ونزول العقاب بالمكذبين والعاصين، {لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. ثم قال تعالى: قل: {كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} أي: هو أعلم بما تفيضون فيه من التكذيب، ويعلم ما أقول لكم من إخباري عنه، بأنه أرسلني، فلو كنت كاذبا عليه لانتقم مني، كما قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ. لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44- 47]، وإنما أنا صادق عليه فيما أخبرتكم به، ولهذا أيدني بالمعجزات الواضحات، والدلائل القاطعات. {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} [أي]: لا تخفى عليه خافية. {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي: يوم معادهم سيجزيهم على ما فعلوا، ويقابلهم على ما صنعوا، من تكذيبهم بالحق واتباعهم الباطل، كذبوا برسل الله مع قيام الأدلة على صدقهم، وآمنوا بالطواغيت والأوثان بلا دليل، سيجازيهم على ذلك، إنه حكيم عليم.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. يقول تعالى مخبرا عن جهل المشركين في استعجالهم عذاب الله أن يقع بهم، وبأس الله أن يحل عليهم، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، وقال هاهنا: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} أي: لولا ما حَتَّم الله من تأخير العذاب إلى يوم القيامة لجاءهم العذاب قريبا سريعا كما استعجلوه. ثم قال: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} أي: فجأة، {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} أي: يستعجلون بالعذاب، وهو واقع بهم لا محالة. قال شعبة، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة قال في قوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}، قال: البحر. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين. حدثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد، حدثنا أبي عن مجالد، عن الشعبي؛ أنه سمع ابن عباس يقول: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}: وجهنم هو هذا البحر الأخضر، تنتثر الكواكب فيه، وتُكور فيه الشمس والقمر، ثم يستوقد فيكون هو جهنم. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عاصم، حدثنا عبد الله بن أمية، حدثني محمد بن حُيَي، حدثنا صفوان بن يعلى، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البحر هو جهنم". قالوا: ليعلى، فقال: ألا ترون أن الله يقول: {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29]، قال: لا والذي نفس يعلى بيده لا أدخلها أبدا حتى أعرض على الله، ولا يصيبني منها قطرة حتى أعرض على الله عز وجل. هذا تفسير غريب، وحديث غريب جدا، والله أعلم. ثم قال تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}، كقوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41]، وقال: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16]، وقال: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء: 39]، فالنار تغشاهم من سائر جهاتهم، وهذا أبلغ في العذاب الحسي. وقوله: {وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، تهديد وتقريع وتوبيخ، وهذا عذاب معنوي على النفوس، كقوله: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ. إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48، 49]، وقال {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ. أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ. اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 13- 16].
{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. هذا أمر من الله لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين، إلى أرض الله الواسعة، حيث يمكن إقامة الدين، بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم؛ ولهذا قال: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}. قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا بَقِيَّةُ بن الوليد، حدثني جُبَيْر بن عمرو القرشي، حدثني أبو سعد الأنصاري، عن أبي يحيى مولى الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصبتَ خيرًا فأقم". ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة، ليأمنوا، على دينهم هناك، فوجدوا هناك خير المنزلين، أصحمة النجاشي ملك الحبشة، رحمه الله، آواهم وأيدهم بنصره، وجعلهم شُيُوما ببلاده. ثم بعد ذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الباقون إلى المدينة النبوية يثرب المطهرة، قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهم ليردوهم إلى بلادهم وقومهم، فغضب النجاشي وقال: لاها الله لا أسلمهم إليهم أبدا ولا أكاد، قوم جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على مَنْ سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان الرجلان. فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى بلادهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم وأحسنت جوارهم ما جاوروني ونزلوا بلادي. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون لهذا الرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول: والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، كائنا في ذلك ما هو كائن، قال: فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، فلما دخلوا عليه سألهم، فقال: ما هذا الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الملل. كهيعص- قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب. فقال: أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده، ونخلع ما كنا نعبد وآباؤنا من دونه، الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قالت: فعد عليه أمور الإسلام. فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله عز جل، فعبدنا الله لا نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل كما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على مَنْ سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: وهل عندك مما جاء به من عند الله شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه علي، فقرأ عليه صدرا من (كهيعص)}. قالت: فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكى أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما يتلى عليهم. وقال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا. لا والله لا أسلمهم إليكما ولا أكاد. قالت: فلما خرجا من عنده. قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا بما أستأصل به خضراءهم. قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة- وكان أتقى الرجلين فينا- : لا تفعل فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يقولون في عيسى قولا عظيما. فأرسل إليهم فسألهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم ليسألهم عنه. قالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم. فقال بعضهم لبعض: ما تقولون في عيسى إن سألكم عنه. قالوا: نقول فيه ما قال الله عز وجل، وما جاء به نبينا، كائنا في ذلك ما هو كائن. قالت: فلما دخلوا عليه. قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم، قالت: فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم. يقول فيه: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ منها عودا، ثم قال له: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود. قالت: فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال. فقال: وإن تناخرتم اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي. والشيوم: الآمنون. مَنْ سَبَّكُم غُرَّم، مَنْ سَبَّكُم غُرَّم، ما أحب أن لي دبرا من ذهب، وأني آذيت رجلا منكم. والدبر: بلسان الحبشة الجبل. وردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين ردَّ علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ، فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما. قالت أم سلمة: فكنت أتعرض لهم ليسبوني فأغرمهم، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار. قالت: فوالله ما أغلا لعلى ذلك، إذ انبرى له رجل من الحبشة ينازعه ملكه. قالت: فوالله، ما أعلمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه، عند ذلك تخوفا من أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي. فيأتي رجلا لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه. قالت: وسار إليه النجاشي وبينهما عرض النيل. قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ رجل يخرج حتى يشهد وقعة القوم ثم يأتينا بخبر القوم؟ قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا، قالت: وكان من أحدث القوم سنا. قالت: فنفخوا له قربة فجعلوها في صدره، ثم سبح حتى خرج إلى النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: ودعونا الله عز وجل للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له من بلاده. قالت: فوالله إنا لعلى ذلك الحال متوقعين لما هو كائن، إذا طلع الزبير يسعى، ويليح بثوبه، ألا أبشروا، قد ظهر النجاشي، وقد أهلك الله عدوه، فوالله ما أعلمنا فرحنا فرحة قط مثلها. قالت: ورجع النجاشي وأهلك الله عدوه، ومكن له فى بلاده، واستوسق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده فى خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة. وروي عن الزبير قال: لما نزل بالنجاشي عدوه من أهل أرضه، جاءه المهاجرون فقالوا: إنا نحب أن نخرج إليهم فنقاتل معك، وترى جراءتنا، ونجزيك بما صنعت بنا فقال: ذو ينصره الله خير من الذي ينصره الناس، فأنى ذلك عليهم" ثم قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أي: أينما كنتم يدرككم الموت، فكونوا في طاعة الله وحيث أمركم الله، فهو خير لكم، فإن الموت لا بد منه، ولا محيد عنه، ثم إلى الله المرجع [والمآب] ، فَمَنْ كان مطيعا له جازاه أفضل الجزاء، ووافاه أتمَّ} الثواب؛ ولهذا قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} أي: لنسكننهم منازل عاليةً في الجنة تجري من تحتها الأنهار، على اختلاف أصنافها، من ماء وخمر، وعسل ولبن، يصرفونها ويجرونها حيث شاؤوا، {خَالِدِينَ فِيهَا} أي: ماكثين فيها أبدا لا يبغون عنها حولا {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}: نعمت هذه الغرفُ أجرًا على أعمال المؤمنين. {الَّذِينَ صَبَرُوا} أي: على دينهم، وهاجروا إلى الله، ونابذوا الأعداء، وفارقوا الأهل والأقرباء، ابتغاء وجه الله، ورجاء ما عنده وتصديق موعوده. قال ابن أبي حاتم، رحمه الله: حدثني أبي، حدثنا صفوان المؤذِنَ، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، عن جده أبي سلام الأسود، حدثني أبو معَاتق الأشعري، أن أبا مالك الأشعري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه: أن في الجنة غُرَفا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدَّها الله لِمَنْ أطعم الطعام، وأطاب الكلام، وأباح الصيام، وأقام الصلاة والناس نيام. [وقوله]:} {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، في أحوالهم كلها، في دينهم ودنياهم. ثم أخبرهم تعالى أن الرزق لا يختص ببقعة، بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين كانوا، بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع وأطيب، فإنهم بعد قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار؛ ولهذا قال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} أي: لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تؤخر شيئًا لغد، {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} أي: الله يقيض لها رزقها على ضعفها، وييسره عليها، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه، حتى الذر في قرار الأرض، والطير في الهواء والحيتان في الماء، قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي، حدثنا يزيد- يعني ابن هارون- حدثنا الجراح بن مِنْهَال الجزري- هو أبو العطوف- عن الزهري، عن رجل، عن ابن عمر قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان المدينة، فجعل يلتقط من التمر ويأكل، فقال لي: "يا بن عمر، ما لك لا تأكل؟" قال: قلت: لا أشتهيه يا رسول الله، قال: "لكني أشتهيه،وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك قيصر وكسرى فكيف بك يا بن عمر إذا بَقِيتَ في قوم يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين؟". قال: فوالله ما برحنا ولا رِمْنا حتى نزلت: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يأمرني بكنز الدنيا، ولا باتباع الشهوات، فَمَنْ كنز دنياه يريد بها حياة باقية فإن الحياة بيد الله، ألا وإني لا أكنز دينارًا ولا درهمًا، ولا أخبئ رزقا لغد ". وهذا حديث غريب، وأبو العطوف الجزري ضعيف. وقد ذكروا أن الغراب إذا فَقسَ عن فراخه البَيض، خرجوا وهم بيضٌ فإذا رآهم أبواهم كذلك، نفرا عنهم أياما حتى يسود الريش، فيظل الفرخ فاتحًا فاه يتفقد أبويه، فيقيض الله له طيرًا صغارًا كالبَرغَش فيغشاه فيتقوت منه تلك الأيام حتى يسود ريشه، والأبوان يتفقدانه كل وقت، فكلما رأوه أبيض الريش نفرا عنه، فإذا رأوه قد اسودّ ريشه عطفا عليه بالحضانة والرزق، ولهذا قال الشاعر: يا رازق النعَّاب في عُشه *** وجَابر العَظْم الكَسِير المهيض وقد قال الشافعي في جملة كلام له في الأوامر، كقول النبي صلى الله عليه وسلم "سافروا تصحوا وترزقوا". قال البيهقي أخبرنا إملاء أبو الحسن علي بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد، أخبرنا محمد بن غالب، حدثني محمد بن سِنان، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن رَدّاد- شيخ من أهل المدينة- حدثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سافروا تصحوا وتغنموا". قال: ورويناه عن ابن عباس. وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لَهِيعة، عن دَرّاج، عن عبد الرحمن بن حُجَيرة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سافروا تربحوا، وصوموا تصحوا، واغزوا تغنموا". وقد ورد مثل حديث ابن عمر عن ابن عباس مرفوعا، وعن معاذ بن جبل موقوفا. وفي لفظ: "سافروا مع ذوي الجدود والميسرة" وقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي: السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وسكناتهم.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}. يقول تعالى مقررا أنه لا إله إلا هو؛ لأن المشركين- الذين يعبدون معه غيره- معترفون أنه المستقل بخلق السموات والأرض والشمس والقمر، وتسخير الليل والنهار، وأنه الخالق الرازق لعباده، ومقدر آجالهم، واختلافها واختلاف أرزاقهم ففاوت بينهم، فمنهم الغني والفقير، وهو العليم بما يصلح كُلا منهم، ومَنْ يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، فذكر أنه المستبدُّ بخلق الأشياء المتفرد بتدبيرها، فإذا كان الأمر كذلك فلم يُعبد غيره؟ ولم يتوكل على غيره؟ فكما أنه الواحد في ملكه فليكن الواحد في عبادته، وكثيرًا ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية. وقد كان المشركون يعترفون بذلك، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك".
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}. يقول تعالى مخبرا عن حقارة الدنيا وزوالها وانقضائها، وأنها لا دوام لها، وغاية ما فيها لهو ولعب: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أي: الحياة الدائمة الحق الذي لا زوال لها ولا انقضاء، بل هي مستمرة أبد الآباد. وقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي: لآثروا ما يبقى على ما يفنى. ثم أخبر تعالى عن المشركين أنهم عند الاضطرار يدعونه وحده لا شريك له، فهلا يكون هذا منهم دائما، {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} كقوله {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء::67]. وقال هاهنا: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}. وقد ذكر محمد بن إسحاق، عن عكرمة بن أبي جهل: أنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ذهب فارًّا منها، فلما ركب في البحر ليذهب إلى الحبشة، اضطربت بهم السفينة، فقال أهلها: يا قوم، أخلصوا لربكم الدعاء، فإنه لا ينجي هاهنا إلا هو. فقال عكرمة: والله إن كان لا ينجي في البحر غيره، فإنه لا يُنَجّي غيره في البر أيضا، اللهم لك عليَّ عهد لئن خرجتُ لأذهبن فلأضعَنّ يدي في يد محمد فلأجدنه رؤوفًا رحيما، وكان كذلك. وقوله: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا}: هذه اللام يسميها كثير من أهل العربية والتفسير وعلماء الأصول لام العاقبة؛ لأنهم لا يقصدون ذلك، ولا شك أنها كذلك بالنسبة إليهم، وأما بالنسبة إلى تقدير الله عليهم ذلك وتقييضه إياهم لذلك فهي لام التعليل. وقد قدَّمْنا تقرير ذلك في قوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8].
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. يقول تعالى ممتنا على قريش فيما أحلهم من حرمه، الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والبادي، ومن دخله كان آمنا، فهم في أمن عظيم، والأعراب حوله ينهب بعضهم بعضا ويقتل بعضهم بعضا، كما قال تعالى: {لإيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1- 4]. وقوله: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} أي: أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به، وعبدوا معه [غيره من] الأصنام والأنداد، و{بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28]، وكفروا بنبي الله وعبده ورسوله، فكان اللائق بهم إخلاص العبادة لله، وألا يشركوا به، وتصديق الرسول وتعظيمه وتوقيره، فكذبوه وقاتلوه وأخرجوه من بين ظهرهم؛ ولهذا سلبهم الله ما كان أنعم به عليهم، وقتل من قتل منهم ببدر، وصارت الدولة لله ولرسوله وللمؤمنين، ففتح الله على رسوله مكة، وأرغم آنافهم وأذل رقابهم. ثم قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} أي: لا أحد أشد عقوبة ممن كذب على الله فقال: إن الله أوحى إليه شيء، ولم يوح إليه شيء. ومن قال: سأنزل مثل ما أنزل الله. وهكذا لا أحد أشد عقوبة ممن كذب بالحق لما جاءه، فالأول مفتر، والثاني مكذب؛ ولهذا قال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}. ثم قال {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} يعني: الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، أي: لنُبَصرنهم سبلنا، أي: طرقنا في الدنيا والآخرة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحَواري، حدثنا عباس الهمداني أبو أحمد- من أهل عكا- في قول الله : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} قال: الذين يعملون بما يعلمون، يهديهم لما لا يعلمون. قال أحمد بن أبي الحواري: فحدثت به أبا سليمان الداراني فأعجبه، وقال: ليس ينبغي لِمَنْ ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر، فإذا سمعه في الأثر عمل به، وحمد الله حين وافق ما في نفسه. وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عيسى بن جعفر- قاضي الري- حدثنا أبو جعفر الرازي، عن المغيرة، عن الشعبي قال: قال عيسى بن مريم، عليه السلام: إنما الإحسان أن تحسن إلى مَنْ أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى مَنْ أحسن إليك. [وفي حديث جبريل لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال: "أخبرني عن الإحسان". قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". [انتهى تفسير سورة العنكبوت، ولله الحمد والمنة ]
مكية. بسم الله الرحمن الرحيم
{الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}. [نزلت] هذه الآيات حين غلب سابور ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم، واضطر هرقل مَلك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية، وحاصره فيها مدة طويلة، ثم عادت الدولة لهرقل، كما سيأتي. قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما، في قوله تعالى: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ} قال: غُلبت وغَلَبت. قال: كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم؛ لأنهم أصحاب أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب، فذُكر ذلك لأبي بكر،، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنهم سيغلبون" فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا. فجعل أجلا خمس سنين، فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ألا جعلتها إلى دُون" أراه قال: "العشر". "قال سعيد بن جبير: البضع ما دون العشر. ثم ظهرت الروم بعد، قال: فذلك قوله: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}. هكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا، عن الحسين بن حُرَيْث، عن معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق الفزاري، عن سفيان بن سعيد الثوري به، وقال الترمذي: حسن غريب، إنما نعرفه من حديث سفيان، عن حبيب. ورواه ابن أبي حاتم، عن محمد بن إسحاق الصاغاني، عن معاوية بن عمرو، به. ورواه ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن سعيد- أو سعيد الثعلبي الذي يقال له: أبو سعد من أهل طرسوس- حدثنا أبو إسحاق الفزاري، فذكره. وعندهم: قال سفيان: فبلغني أنهم غلبوا يوم بدر. حديث آخر: قال سليمان بن مِهْران الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، قال: قال عبد الله: خمس قد مضين: الدخان، واللزام، والبطشة، والقمر، والروم. أخرجاه . وقال ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا المحاربي، عن داود بن أبي هند، عن عامر- هو الشعبي- عن عبد الله- هو ابن مسعود رضي الله عنه- قال: كان فارس ظاهرًا على الروم، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم. وك ان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب وهم أقرب إلى دينهم، فلما نزلت: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ} قالوا: يا أبا بكر، إن صاحبك يقول: إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين؟! قال: صدق. قالوا: هل لك إلى أن نقامرك، فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين، فمضت السبع ولم يكن شيء، ففرح المشركون بذلك وشق على المسلمين، فذُكِر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بضع سنين عندكم"؟ قالوا: دون العشر. قال: "اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل". قال: فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس، ففرح المؤمنون بذلك، وأنزل الله: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ} إلى قوله: {[وَعْدَ اللَّهِ] لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} . حديث آخر: قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أحمد بن عمر الوَكِيعي، حدثنا مُؤَمَّل، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: لما نزلت: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}، قال المشركون لأبي بكر: ألا ترى إلى ما يقول صاحبك؟ يزعم أن الروم تغلب فارس. قال: صدق صاحبي. قالوا: هل لك أن نخاطرك؟ فجعل بينه وبينهم أجلا فحل الأجل قبل أن تغلب الرومُ فارسَ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فساءه ذلك وكرهه، وقال لأبي بكر: "ما دعاك إلى هذا؟" قال: تصديقًا لله ولرسوله. فقال: "تَعَرَّض لهم وأعظم الخَطَر واجعله إلى بضع سنين". فأتاهم أبو بكر فقال لهم: هل لكم في العود، فإن العود أحمد؟ قالوا:نعم. [قال] فلم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارسَ، وربطوا خيولهم بالمدائن، وبنوا الرومية، فجاء به أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا السحت، قال: "تصدق به". حديث آخر: قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، أخبرني ابن أبي الزِّنَاد، عن عروة بن الزبير عن نيَار بن مُكرَم الأسلمي قال: لما نزلت، {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}، فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم؛ لأنهم وإياهم أهل كتاب، وفي ذلك قول الله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}، وكانت قريش تحب ظهور فارس؛ لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}، قال ناس من قريش لأبي بكر: فذاك بيننا وبينك . زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى- وذلك قبل تحريم الرهان- فارتهن أبو بكر والمشركون، وتواضَعُوا الرهان، وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع: ثلاث سنين إلى تسع سنين، فَسمِّ بيننا وبينك وَسَطًا ننتهي إليه. قال: فسموا بينهم ست سنين. قال: فمضت ست السنين قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رهن أبي بكر، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس، فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين، قال: لأن الله قال: {فِي بِضْعِ سِنِينَ}. قال: فأسلم عند ذلك ناس كثير. هكذا ساقه الترمذي، ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد. وقد روي نحو هذا مرسلا عن جماعة من التابعين، مثل عِكْرِمة، والشعبي، ومجاهد، وقتادة، والسُّدِّي، والزهري، وغيرهم. ومن أغرب هذه السياقات ما رواه الإمام سُنَيد بن داود في تفسيره حيث قال: حدثني حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله، عن عكرمة قال: كانت في فارس امرأة لا تلد إلا الملوك الأبطال، فدعاها كسرى فقال: إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشًا وأستعمل عليهم رجلا من بنيك، فأشيري عَليَّ، أيَّهم أستعمل؟ فقالت: هذا فلان، وهو أروغ من ثعلب، وأحذر من صقر. وهذا فرخان، وهو أنفذ من سنان. وهذا شهريراز ، وهو أحلم من كذا- تعني أولادها الثلاثة- فاستعمل أيهم شئت. قال: فإني قد استعملت الحليم. فاستعمل شهريراز، فسار إلى الروم بأهل فارس، فظهر عليهم فقتلهم، وخرّب مدائنهم، وقطع زيتونهم. قال أبو بكر بن عبد الله: فحدثت بهذا الحديث عطاء الخراساني فقال: أما رأيت بلاد الشام؟ قلت: لا قال: أما إنك لو رأيتها لرأيت المدائن التي خربت، والزيتون الذي قطع. فأتيت الشام بعد ذلك فرأيته. قال عطاء الخراساني: حدثني يحيى بن يَعْمَر: أن قيصر بعث رجلا يدعى قطمة بجيش من الروم، وبعث كسرى شهريراز، فالتقيا بأذرعات وبُصرى، وهي أدنى الشام إليكم، فلقيت فارس الروم، فغلبتهم فارس. ففرحت بذلك كفار قريش وكرهه المسلمون. قال عكرمة: ولقي المشركون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب [ونحن أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب] ، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرَنّ عليكم، فأنزل الله: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ}، فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا، فلا تفرحوا، ولا يُقرَّن الله أعينكم، فوالله ليظهرن الله الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم. فقام إليه أبيّ بن خَلَف فقال: كذبت يا أبا فضيل. فقال له أبو بكر: أنت أكذب يا عدو الله. فقال: أناحبُكَ عشر قلائص مني وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غَرِمتُ، وإن ظهرت فارس غرمتَ إلى ثلاث سنين. ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: "ما هكذا ذكرت، إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايدْه في الخَطَر ومادّهْ في الأجل"، فخرج أبو بكر فلقي أبيّا فقال: لعلك ندمت؟ فقال: لا تعال أزايدك في الخَطَر وأمادُّك في الأجل، فاجعلها مائة قلوص لمائة قلوص إلى تسع سنين. قال: قد فعلت، فظهرت الروم على فارس قبل ذلك، فغلبهم المسلمون. قال عكرمة: لما أن ظهرت فارس على الروم، جلس فرخان يشرب وهو أخو شهريراز فقال لأصحابه: لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى. فبلغت كسرى فكتب إلى شهريراز إذا أتاك كتابي [هذا] فابعث إليَّ برأس فرخان. فكتب إليه: أيها الملك، إنك لن تجد مثل فرخان، له نكاية وصوت في العدو، فلا تفعل. فكتب إليه: إن في رجال فارس خلفًا منه، فعجّل إليَّ برأسه. فراجعه، فغضب كسرى فلم يجبه، وبعث بريدا إلى أهل فارس: إني قد نزعت عنكم شهريراز، واستعملت عليكم فرخان. ثم دفع إلى البريد صحيفة لطيفة صغيرة فقال: إذا ولي فرخان الملك، وانقاد له أخوه، فأعطه هذه. فلما قرأ شهريراز الكتاب قال: سمعا وطاعة، ونزل عن سريره، وجلس فرخان، ودفع إليه الصحيفة، قال ائتوني بشهريراز وقَدَّمَه ليضرب عنقه، قال: لا تعجل [عليَّ] حتى أكتب وصيتي، قال: نعم. فدعا بالسَّفط فأعطاهالصحائف وقال: كل هذا راجعتُ فيك كسرى، وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد. فرد الملك إلى أخيه شهريراز وكتب شهريراز إلى قيصر ملك الروم: إن لي إليك حاجة لا تحملها البُرُد ولا تحملها الصّحف، فالقني، ولا تلقني إلا في خمسين روميا، فإني ألقاك في خمسين فارسيا. فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق، وخاف أن يكون قد مكر به، حتى أتاه عيونه أنه ليس معه إلا خمسون رجلا. ثم بسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما، مع كل واحد منهما سكين، فدعيا ترجمانا بينهما، فقال شهريراز إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا، وإن كسرى حَسَدنا وأراد أن أقتل أخي فأبيت، ثم أمر أخي أن يقتلني. وقد خلعناه جميعا، فنحن نقاتله معك. قال: قد أصبتما. ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين فإذا جاوز اثنين فشا. قال: أجل. فقتلا الترجمان جميعا بسكينيهما. [قال] فأهلك الله كسرى، وجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، ففرح والمسلمون معه. فهذا سياق غريب، وبناء عجيب. ولنتكلم على كلمات هذه الآيات الكريمة، فقوله تعالى: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ} قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور، في أول سورة "البقرة". وأما الروم فهم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم، وهم أبناء عم بني إسرائيل، ويقال لهم: بنو الأصفر. وكانوا على دين اليونان، واليونان من سلالة يافث بن نوح، أبناء عم الترك. وكانوا يعبدون الكواكب السيارة السبعة، ويقال لها: المتحيرة، ويصلون إلى القطب الشمالي، وهم الذين أسسوا دمشق، وبنوا معبدها، وفيه محاريب إلى جهة الشمال، فكان الروم على دينهم إلى مبعث المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة، وكان من ملك الشام مع الجزيرة منهم يقال له: قيصر. فكان أول من دخل في دين النصارى من الملوك قسطنطين بن قسطس، وأمه مريم الهيلانية الشدقانية من أرض حران، كانت قد تنصرت قبله، فدعته إلى دينها، وكان قبل ذلك فيلسوفا، فتابعها- يقال: تَقِيَّة- واجتمعت به النصارى، وتناظروا في زمانه مع عبد الله بن أريوس، واختلفوا اختلافا [كثيرًا] منتشرا متشتتا لا ينضبط، إلا أنه اتفق من جماعتهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفًا، فوضعوا لقسطنطين العقيدة، وهي التي يسمونها الأمانة الكبيرة، وإنما هي الخيانة الحقيرة، ووضعوا له القوانين- يعنون كتب الأحكام من تحليل وتحريم وغير ذلك مما يحتاجون إليه، وغَيَّروا دين المسيح، عليه السلام، وزادوا فيه ونقصوا منه. وفصلوا إلى المشرق واعتاضوا عن السبت بالأحد، وعبدوا الصليب وأحلوا الخنزير. واتخذوا أعيادًا أحدثوها كعيد الصليب والقداس والغطاس، وغير ذلك من البواعيث والشعانين، وجعلوا له الباب وهو كبيرهم، ثم البتاركة، ثم المطارنة، ثم الأساقفة والقساقسة، ثم الشمامسة. وابتدعوا الرهبانية. وبنى لهم الملك الكنائسوالمعابد، وأسس المدينة المنسوبة إليه وهي القسطنطينية، يقال: إنه بنى في أيامه اثني عشر ألف كنيسة، وبنى بيت لحم بثلاثة محاريب، وبنت أمه القمامة، وهؤلاء هم الملكية، يعنون الذين هم على دين الملك. ثم حدثت بعدهم اليعقوبية أتباع يعقوب الإسكاف، ثم النسطورية أصحاب نسطورا، وهم فرق وطوائف كثيرة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنهم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة". والغرض أنهم استمروا على النصرانية، كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده، حتى كان آخرهم هرقل. وكان من عقلاء الرجال، ومن أحزم الملوك وأدهاهم، وأبعدهم غورا وأقصاهم رأيا، فتمَلَّكَ عليهم في رياسَة عظيمة وأبهة كبيرة، فناوأه كسرى ملك الفرس، ومَلكَ البلاد كالعراق وخراسان والرّي، وجميع بلاد العجم، وهو سابور ذو الأكتاف. وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر، وله رياسة العجم وحماقة الفرس، وكانوا مجوسا يعبدون النار. فتقدم عن عكرمة أنه بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه، والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده فقهره وكَسَره وقصره، حتى لم يبق معه سوى مدينة قسطنطينية. فحاصره بها مدة طويلة حتى ضاقت عليه، وكانت النصارى تعظمه تعظيما زائدا، ولم يقدر كسرى على فتح البلد، ولا أمكنه ذلك لحصانتها؛ لأن نصفها من ناحية البر ونصفها الآخر من ناحية البحر، فكانت تأتيهم الميرة والمَدَد من هنالك. فلما طال الأمر دبر قيصر مكيدة، ورأى في نفسه خديعة، فطلب من كسرى أن يقلع عن بلاده على مال يصالحه عليه، ويشترط عليه ما شاء. فأجابه إلى ذلك، وطلب منه أموالا عظيمة لا يقدر عليها أحد من ملوك الدنيا، من ذهب وجواهر وأقمشة وجوار وخدام وأصناف كثيرة. فطاوعه قيصر، وأوهمه أن عنده جميع ما طلب، واستقل عقله لما طلب منه ما طلب، ولو اجتمع هو وإياه لعجزت قدرتهما عن جمع عُشْره، وسأل كسرى أن يُمكّنه من الخروج إلى بلاد الشام وأقاليم مملكته، ليسعى في تحصيل ذلك من ذخائره وحواصله ودفائنه، فأطلق سراحه، فلما عزم قيصر على الخروج من مدينة قسطنطينية، جمع أهل ملته وقال: إني خارج في أمر قد أبرمته، في جند قد عينته من جيشي، فإن رجعت إليكم قبل الحول فأنا ملككم، وإن لم أرجع إليكم قبلها فأنتم بالخيار، إن شئتم استمررتم على بيعتي، وإن شئتم وليتم عليكم غيري. فأجابوه بأنك ملكنا ما دمت حيا، ولو غبت عشرة أعوام. فلما خرج من القسطنطينية خرج جريدة في جيش متوسط، هذا وكسرى مُخَيّم على القسطنطينية ينتظره ليرجع، فركب قيصر من فوره وسار مسرعا حتى انتهى إلى بلاد فارس، فعاث في بلادهم قتلا لرجالها ومن بها من المقاتلة، أولا فأولا ولم يزل يقتل حتى انتهى إلى المدائن، وهي كرسي مملكة كسرى، فقتل من بها، وأخذ جميع حواصله وأمواله، وأسر نساءه وحريمه، وحلق رأس ولده، ورَكّبه على حمار وبعث معه من الأساورة من قومه في غاية الهوان والذلة، وكتب إلى كسرى يقول: هذا ما طلبت فخُذه. فلما بلغ ذلك كسرى أخذه من الغم ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، واشتد حنقه على البلد، فاشتد في حصارها بكل ممكن فلم يقدر على ذلك. فلما عجز ركب ليأخذ عليه الطريق من مخاضة جيحون، التي لا سبيل لقيصر إلى القسطنطينية إلا منها، فلما علم قيصر بذلك احتال بحيلة عظيمة لم يسبق إليها، وهو أنه أرصد جنده وحواصله التي معه عند فم المخاضة، وركب في بعض الجيش، وأمر بأحمال من التبن والبعر والروث فحملت معه، وسار إلى قريب من يوم في الماء مصعدا، ثم أمر بإلقاء تلك الأحمال في النهر، فلما مرت بكسرى ظن هو وجنده أنهم قد خاضوا من هنالك، فركبوا في طلبهم فشغرت المخاضة عن الفرس، وقدم قيصر فأمرهم بالنهوض في الخوض، فخاضوا وأسرعوا السير ففاتوا كسرى وجنوده، ودخلوا القسطنطينية. وكان ذلك يوما مشهودًا عند النصارى، وبقي كسرى وجيوشه حائرين لا يدرون ماذا يصنعون. لم يحصلوا على بلاد قيصر، وبلادُهم قد خَرّبتها الروم وأخذوا حواصلهم، وسبوا ذراريهم ونساءهم. فكان هذا من غَلب الروم فارسَ، وكان ذلك بعد تسع سنين من غلب الفرس للروم. وكانت الواقعة الكائنة بين فارس والروم حين غلبت الروم بين أذرعات وبُصرى، على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما، وهي طرف بلاد الشام مما يلي بلاد الحجاز. وقال مجاهد: كان ذلك في الجزيرة، وهي أقرب بلاد الروم من فارس، فالله أعلم. ثم كان غلب الروم لفارس بعد بضع سنين، وهي تسع؛ فإن البِضْعَ في كلام العرب ما بين الثلاث إلى التسع. وكذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي، وابن جرير وغيرهما، من حديث عبد الله بن عبد الرحمن الجُمَحي، عن الزهري، عن عبُيَد الله بن عبد الله، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في مُنَاحَبَة {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} ألا احتطت يا أبا بكر، فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع؟"، ثم قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وروى ابن جرير، عن عبد الله بن عمرو: أنه قال ذلك. وقوله: {لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} أي: من قبل ذلك ومن بعده، فبني على الضم لما قُطع المضاف، وهو قوله: {قَبْلُ} عن الإضافة، ونُويت. {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} أي: للروم أصحاب قيصر ملك الشام، على فارس أصحاب كسرى، وهم المجوس. وقد كانت نصرة الروم على فارس يوم وقعة بدر في قول طائفة كبيرة من العلماء، كابن عباس، والثوري، والسُّدِّي، وغيرهم. وقد ورد في الحديث الذي رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والبزار، من حديث الأعمش، عن عطية عن أبي سعيد قال: لماكان يوم بدر، ظهرت الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين وفرحوا به، وأنزل الله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}. وقال آخرون: بل كان نصرة الروم على فارس عام الحديبية؛ قاله عكرمة، والزهري، وقتادة، وغيرهم . ووجه بعضهم هذا القول بأن قيصر كان قد نذر لئن أظفره الله بكسرى ليمشين من حمص إلى إيليا- وهو بيت المقدس- شكرا لله عز وجل، ففعل، فلما بلغ بيت المقدس لم يخرج منه حتى وافاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه مع دحية بن خليفة، فأعطاه دحية لعظيم بصرى، فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر. فلما وصل إليه سأل من بالشام من عَرَب الحجاز، فأحضرَ له أبو سفيان صخر بن حرب الأموي في جماعة من كفار قريش كانوا في غزة، فجيء بهم إليه، فجلسوا بين يديه، فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا. فقال لأصحابه- وأجلسهم خلفه- : إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذب فكذّبوه. فقال أبو سفيان: فوالله لولا أن يَأثُرُوا عليّ الكذب لكذبت. فسأله هرقل عن نسبه وصفته، فكان فيما سأله أن قال: فهل يغدر؟ قال: قلت: لا ونحن منه في مُدّة لا ندري ما هو صانع فيها- يعني بذلك الهدنة التي كانت قد وقعت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفار قريش يوم الحديبية على وضع الحرب بينهم عشر سنين، فاستدلوا بهذا على أن نصر الروم على فارس كان عام الحديبية؛ لأن قيصر إنما وَفَّى بنذره بعد الحديبية، والله أعلم. ولأصحاب القول الأول أن يجيبوا عن هذا بأن بلاده كانت قد خربت وتشعثت، فما تمكن من وفاء نذره حتى أصلح ما ينبغي إصلاحه وتفقد بلاده، ثم بعد أربع سنين من نصرته وفَّى بنذره، والله أعلم. والأمر في هذا سهل قريب، إلا أنه لما انتصرت فارس على الروم ساء ذلك المؤمنين، فلما انتصرت الروم على فارس فرح المؤمنون بذلك؛ لأن الروم أهل كتاب في الجملة، فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس، كما قال [الله] تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائد: 82، 83]، وقال تعالى هاهنا: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا صَفْوان، حدثنا الوليد، حدثني أسيد الكلابي، قال: سمعت العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه، قال: رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم، كل ذلك في خمس عشرة سنة. وقوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي: في انتصاره وانتقامه من أعدائه، {الرَّحِيمُ} بعباده المؤمنين. وقوله: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} أي: هذا الذي أخبرناك به- يا محمد- من أنا سننصر الروم على فارس، وعد من الله حق، وخَبَر صدق لا يخلف، ولا بد من كونه ووقوعه؛ لأن الله قد جرت سنته أن ينصر أقرب الطائفتين المقتتلتين إلى الحق، ويجعل لها العاقبة، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي: بحكم الله في كونه وأفعاله المحكمة الجارية على وفق العدل. وقوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} أي: أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون عما ينفعهم في الدار الآخرة، كأن أحدهم مُغَفّل لا ذهن له ولا فكرة. قال الحسن البصري: والله لَبَلَغَ} من أحدهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره، فيخبرك بوزنه، وما يحسن أن يصلي. وقال ابن عباس في قوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} يعني: الكفار، يعرفون عمران الدنيا، وهم في أمر الدين جهال.
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ}. يقول تعالى منبهًا على التفكر في مخلوقاته، الدالة على وجوده وانفراده بخلقها، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، فقال: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} يعني به: النظر والتدبر والتأمل لخلق الله الأشياء من العالم العلوي والسفلي، وما بينهما من المخلوقات المتنوعة، والأجناس المختلفة، فيعلموا أنها ما خلقت سُدًى ولا باطلا بل بالحق، وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى، وهو يوم القيامة؛ ولهذا قال: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ}. ثم نبههم على صدق رسله فيما جاءوا به عنه، بما أيدهم به من المعجزات، والدلائل الواضحات، من إهلاك مَنْ كفر بهم، ونجاة مَنْ صدقهم، فقال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ} أي: بأفهامهم وعقولهم ونظرهم وسماعهم أخبار الماضين؛ ولهذا قال: {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}. أي: كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم- أيها المبعوث إليهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وأكثر أموالا وأولادا، وما أوتيتم معشار ما أوتوا، ومُكنوا في الدنيا تمكينا لم تبلغوا إليه، وعمروا فيها أعمارًا طوالا فعمروها أكثر منكم. واستغلوها أكثر من استغلالكم، ومع هذا لما جاءتهم رسلهم بالبينات وفرحوا بما أوتوا، أخذهم الله بذنوبهم، وما كان لهم من الله مِنْ واق، ولا حالت أموالهم ولا أولادهم بينهم وبين بأس الله، ولا دفعوا عنهم مثقال ذرة، وما كان الله ليظلمهم فيما أحل بهم من العذاب والنكال {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي: وإنما أوتوا من أنفسهم حيث كذبوا بآيات الله، واستهزؤوا بها، وما ذاك إلا بسبب ذنوبهم السالفة وتكذيبهم المتقدم؛ ولهذا قال: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ}، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقال: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49]. وعلى هذا تكون السوءى منصوبة مفعولا لأساءوا. وقيل: بل المعنى في ذلك: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى} أي: كانت السوءى عاقبتهم؛ لأنهم كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون. فعلى هذا تكون السوءى منصوبة خبر كان. هذا توجيه ابن جرير ، ونقله عن ابن عباس وقتادة. ورواه ابن أبي حاتم عنهما وعن الضحاك بن مُزاحم، وهو الظاهر، والله أعلم، {وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ}.
{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}. يقول تعالى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي: كما هو قادر على بَداءته فهو قادر على إعادته، {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، أي: يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله. ثم قال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} قال ابن عباس: ييأس المجرمون. وقال مجاهد: يفتضح المجرمون. وفي رواية: يكتئب المجرمون. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ} أي: ما شفعت فيهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله، وكفروا بهم وخانوهم أحوج ما كانوا إليهم. ثم قال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ}: قال قتادة: هي- والله- الفرقة التي لا اجتماع بعدها، يعني: إذا رفع هذا إلى عليين، وخفض هذا إلى أسفل السافلين، فذاك آخر العهد بينهما؛ ولهذا قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} قال مجاهد وقتادة: ينعمون. وقال يحيى بن أبي كثير: يعني سماع الغناء. والحبرة أعم من هذا كله، قال العجاج: الحمد لله الذي أعْطَى الحَبَرْ *** مَوَالِيَ الْحَقّ إن المَوْلى شَكَر
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}. هذا تسبيح منه تعالى لنفسه المقدسة، وإرشاد لعباده إلى تسبيحه وتحميده، في هذه الأوقات المتعاقبة الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه: عند المساء، وهو إقبال الليل بظلامه، وعند الصباح، وهو إسفار النهار عن ضيائه. ثم اعترض بحمده، مناسبة للتسبيح وهو التحميد، فقال: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} أي: هو المحمود على ما خلق في السموات والأرض. ثم قال: {وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} فالعشاء هو: شدة الظلام، والإظهار: قوة الضياء. فسبحان خالق هذا وهذا، فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا، كما قال: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا. وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس: 3، 4]، وقال {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى. وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1، 2]، وقال: {وَالضُّحَى. وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 1، 2]، والآيات في هذا كثيرة. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهيعة، حدثنا زَبَّان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس الجُهَني، عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون". وقال الطبراني: حدثنا مطلب بن شُعَيب الأزدي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث بن سعد، عن سعيد بن بشير، عن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه، عن عبد الله بن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين يصبح: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ}. الآية بكمالها، أدرك ما فاته في يومه،ومَنْ قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته". إسناد جيد ورواه أبو داود في سننه. وقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} هو ما نحن فيه من قدرته على خلق الأشياء المتقابلة. وهذه الآيات المتتابعة الكريمة كلها من هذا النمط، فإنه يذكر فيها خلقه الأشياء وأضدادها، ليدل خلقه على كمال قدرته، فمن ذلك إخراج النبات من الحب، والحب من النبات، والبيض من الدجاج، والدجاج من البيض، والإنسان من النطفة، والنطفة من الإنسان، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. وقوله: {وَيُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} كقوله: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون. وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون} [يس: 33، 34]، وقال: {وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 5- 7]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57]؛ ولهذا قال هاهنا: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}.
|