الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَاتْلُ) عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي قَالُوا: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}، مِنْ قَوْمِكَ {نَبَأَ نُوحٍ}، يَقُولُ: خَبَرَ نُوحٍ {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي}، يَقُولُ: إِنْ كَانَ عَظُمَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَشِقَّ عَلَيْكُمْ، {وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ}، يَقُولُ، وَوَعْظِي إِيَّاكُمْ بِحُجَجِ اللَّهِ، وَتَنْبِيهِي إِيَّاكُمْ عَلَى ذَلِكَ {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ}، يَقُولُ: إِنْ كَانَ شَقَّ عَلَيْكُمْ مَقَامِي بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ، فَعَزَمْتُمْ عَلَى قَتْلِي أَوْ طَرْدِي مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، فَعَلَى اللَّهِ اتِّكَالِي وَبِهِ ثِقَتِي، وَهُوَ سَنَدِي وَظَهْرِي {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ}، يَقُولُ: فَأَعِدُّوا أَمْرَكُمْ، وَاعْزِمُوا عَلَى مَا تَنْوُونَ عَلَيْهِ فِي أَمْرِي. يُقَالُ مِنْهُ: “ أَجْمَعْتُ عَلَى كَذَا “ بِمَعْنَى: عَزَمْتُ عَلَيْهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ لَمْ يُجْمِعْ عَلَى الصَّوْمِ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صَوْمَ لَه» “، بِمَ “ عَنَى: مِنْ لَمْ يَعْزِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمُنَى لَا تَنْفَعُ *** هَلْ أَغْدُوَنْ يَوْمًا وَأَمْرِي مُجْمَعُ وَرُوِيَ عَنِ الْأَعْرَجِ فِي ذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ هَارُونَ عَنِ اَسَيِّدٍ عَنِ الْأَعْرَجِ: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ}، يَقُولُ: أَحْكِمُوا أَمْرَكُمْ، وَادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ. وَنُصِبَ قَوْلُهُ: {وَشُرَكَاءَكُمْ}، بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ لَهُ، وَذَلِكَ: “ وَادْعَوْا شُرَكَاءَكُمْ “ وَعَطَفَ بِـ “ الشُّرَكَاءِ “ عَلَى قَوْلِهِ: (أَمْرَكُمْ)، عَلَى نَحْوِ قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى *** مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا فَالرُّمْحُ لَا يُتَقَلَّدُ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيمَا أُظْهِرَ مِنَ الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى مَا حُذِفَ، اكْتُفِيَ بِذِكْرِ مَا ذَكَرَ مِنْهُ مِمَّا حَذَفَ، فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَشُرَكَاءَكُمْ}. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ: {وَشُرَكَاءَكُمْ} نَصْبًا، وَقَوْلُهُ: (فَأَجْمِعُوا) بِهَمْزِ الْأَلِفِ وَفَتْحِهَا، مِنْ: “ أَجْمَعْتُ أَمْرِي فَأَنَا أُجْمِعُهُ إِجْمَاعًا. وَذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ}، بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَهَمْزِهَا {وَشُرَكَاؤُكُمْ}، بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى: وَأَجْمَعُوا أَمْرَكُمْ، وَلِيَجْمَعْ أَمْرَهُمْ أَيْضًا مَعَكُمْ شُرَكَاؤُكُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ}، بِفَتْحِ الْأَلْفِ مِنْ “ أَجْمَعُوا “ وَنَصَبَ “ الشُّرَكَاءَ “ لِأَنَّهَا فِي الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَلِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهَا، وَرَفَضَ مَا خَالَفَهَا، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهَا بِمَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ وَالسَّهْوُ. وَعَنِّي بِـ “ الشُّرَكَاءِ “، آلِهَتَهُمْ وَأَوْثَانَهُمْ. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً}، يَقُولُ: ثُمَّ لَا يُكِنُّ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ مُلْتَبِسًا مُشْكِلًا مُبْهَمًا. مِنْ قَوْلِهِمْ: “ غُمَّ عَلَى النَّاسِ الْهِلَالُ “ وَذَلِكَ إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَتَبَيَّنُوهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَاجِ: بَلْ لَوْ شَهِدْتِ النَّاسَ إِذْ تُكُمُّوا *** بِغُمّةٍ لَوْ لَمْ تُفَرَّجْ غُمُّوا وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ “ الْغَمِّ “ لِأَنَّ الصَّدْرَ يَضِيقُ بِهِ، وَلَا يَتَبَيَّنُ صَاحِبُهُ لِأَمْرِهِ مَصْدَرًا يَصْدُرُهُ يَتَفَرَّجُ عَلَيْهِ مَا بِقَلْبِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُخَنْسَاءَ: وَذِي كُرْبَةٍ رَاخَى ابْنُ عَمْرٍو خِنَاقَهُ *** وَغُمَّتَهُ عَنْ وَجْهِهِ فَتَجَلَّتِ وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: {أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً}، قَالَ: لَا يَكْبُرُ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: ثُمَّ امْضُوا إِلَيَّ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ وَافْرَغُوا مِنْهُ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ}، قَالَ: اقْضُوا إِلَيَّ مَا كُنْتُمْ قَاضِينَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ}، قَالَ: اقْضُوا إِلَيَّ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: امْضُوا إِلَيَّ، كَمَا يُقَالُ: “ قَدْ قَضَى فُلَانٌ “ يُرَادُ: قَدْ مَاتَ وَمَضَى. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ مَعْنَاهُ: ثُمَّ افْرَغُوا إِلَيَّ، وَقَالُوا: “ الْقَضَاءُ “ الْفَرَاغُ، وَالْقَضَاءُ مِنْ ذَلِكَ. قَالُوا: وَكَأَنَّ “ قَضَى دَيْنَهُ “ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ فَرَغَ مِنْهُ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ: {ثُمَّ أَفْضُوا إِلَيَّ}، بِمَعْنَى: تَوَجَّهُوا إِلَيَّ حَتَّى تَصِلُوا إِلَيَّ، مِنْ قَوْلِهِمْ: “ قَدْ أَفْضَى إِلَيَّ الْوَجَعِ وَشَبْهِهِ “. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تُنْظِرُونِ}، يَقُولُ: وَلَا تُؤَخِّرُونَ. مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: “ أَنْظَرْتُ فُلَانًا بِمَا لِي عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ “. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ قَوْلِ نَبِيِّهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: إِنَّهُ بِنُصْرَةِ اللَّهِ لَهُ عَلَيْهِمْ وَاثِقٌ، وَمِنْ كَيْدِهِمْ وَبَوَائِقِهِمْ غَيْرُ خَائِفٍ, وَإِعْلَامٌ مِنْهُ لَهُمْ أَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، يَقُولُ لَهُمُ: امْضُوا مَا تُحَدِّثُونَ أَنْفُسَكُمْ بِهِ فِيَّ، عَلَى عَزْمٍ مِنْكُمْ صَحِيحٍ، وَاسْتَعِينُوا مَنْ شَايَعَكُمْ عَلَيَّ بِآلِهَتِكُمُ الَّتِي تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَا تُؤَخِّرُوا ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَا بِهِ وَاثِقٌ أَنَّكُمْ لَا تَضُرُّونِي إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خَبَرًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ فَإِنَّهُ حَثٌّ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّأَسِّي بِهِ، وَتَعْرِيفٌ مِنْهُ سَبِيلَ الرَّشَادِ فِيمَا قَلَّدَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالْبَلَاغِ عَنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبَرًا عَنْ قِيلِ نَبِيِّهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أَيُّهَا الْقَوْمُ، عَنِّي بَعْدَ دِعَائِي إِيَّاكُمْ، وَتَبْلِيغِ رِسَالَةِ رَبِّي إِلَيْكُمْ، مُدْبِرِينَ، فَأَعْرَضْتُمْ عَمَّا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، وَالْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَإِخْلَاصِ الْعِِبَادَةِ لَهُ، وَتَرْكِ إِشْرَاكِ الْآلِهَةِ فِي عِبَادَتِهِ، فَتَضْيِيعٌ مِنْكُمْ وَتَفْرِيطٌ فِي وَاجِبِ حَقِّ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، لَا بِسَبَبٍ مِنْ قَبْلِي، فَإِنِّي لَمْ أَسْأَلْكُمْ عَلَى مَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ أَجْرًا، وَلَا عِوَضًا أَعْتَاضُهُ مِنْكُمْ بِإِجَابَتِكُمْ إِيَّايَ إِلَى مَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْهُدَى، وَلَا طَلَبْتُ مِنْكُمْ عَلَيْهِ ثَوَابًا وَلَا جَزَاءً {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّ جَزَائِي وَأَجْرَ عَمَلِي وَثَوَابَهُ إِلَّا عَلَى رَبِّي، لَا عَلَيْكُمْ، أَيُّهَا الْقَوْمُ، وَلَا عَلَى غَيْرِكُمْ {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، وَأَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُذْعِنِينَ لَهُ بِالطَّاعَةِ، الْمُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، الْمُذَلِّلِينَ لَهُ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَبِأَمْرِهِ آمُرُكُمْ بِتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِوَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَكَذَّبَ نُوحًا قَوْمُهُ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ عَنِ اللَّهِ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ “ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ “ مِمَّنْ حَمَلَ مَعَهُ فِي “ الْفَلَكِ “ يَعْنِي فِي السَّفِينَةِِ “ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ “، يَقُولُ: وَجَعَلَنَا الَّذِينَ نَجَّيْنَا مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ بَعْدَ أَنْ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَبُوا بِآيَاتِنَا، يَعْنِي حُجَجَنَا وَأَدِلَّتَنَا عَلَى تَوْحِيدِنَا، وَرِسَالَةِ رَسُولِنَا نُوحٍ. يَقُولُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ فَانْظُرْ “، يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذِرِينَ “ وَهُمُ الَّذِينَ أُنْذِرُهُمْ نُوحٌ عُقَابَ اللَّهِ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَعِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ. يَقُولُ لَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: انْظُرْ مَاذَا أَعْقُبُهُمْ تَكْذِيبُهُمْ رَسُولَهُمْ، فَإِنَّ عَاقِبَةَ مِنْ كَذَّبَكَ مِنْ قَوْمِكَ إِنْ تَمَادَوْا فِي كُفْرِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ، نَحْوُ الَّذِي كَانَ مِنْ عَاقِبَةِ قَوْمِ نُوحٍ حِينَ كَذَّبُوهُ. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَلْيَحْذَرُوا أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِثْلَ الَّذِي حَلَّ، بِهِمْ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِ نُوحٍ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَأَتَوْهُمْ بِبَيِّنَاتٍ مِنَ الْحُجَجِ وَالْأَدِلَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لِلَّهِ رُسُلٌ، وَأَنَّ مَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ حَقٌّ {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}، يَقُولُ: فَمَا كَانُوا لِيُصَدِّقُوا بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُمْ بِمَا كَذَّبَ بِهِ قَوْمُ نُوحٍ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مِنْ قَبْلِهِمْ {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَمَا طَبَعْنَا عَلَى قُلُوبِ أُولَئِكَ فَخَتَمْنَا عَلَيْهَا، فَلَمْ يَكُونُوا يَقْبَلُونَ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ نَصِيحَتَهُمْ، وَلَا يَسْتَجِيبُونَ لِدُعَائِهِمْ إِيَّاهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ، بِمَا اجْتُرِمُوا مِنَ الذُّنُوبِ وَاكْتَسَبُوا مِنَ الْآثَامِ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ مَنِ اعْتَدَى عَلَى رَبِّهِ فَتَجَاوَزَ مَا أَمَرَّهُ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِهِ، وَخَالَفَ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ رُسُلَهُمْ مِنْ طَاعَتِهِ، عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ رَبَّهُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْآخَرِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أَرْسَلْنَاهُمْ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ إِلَى قَوْمِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ ابْنِي عِمْرَانَ، إِلَى فِرْعَوْنَ مِصْرَ وَمَلَئِهِ، يَعْنِي: وَأَشْرَافَ قَوْمِهِ وَسَادَتَهُمْ {بِآيَاتِنَا}، يَقُولُ: بِأَدِلَّتِنَا عَلَى حَقِيقَةِ مَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِذْعَانِ لِلَّهِ بِالْعُبُوديَّةِ، وَالْإِقْرَارِ لَهُمَا بِالرِّسَالَةِ {فَاسْتَكْبَرُوا}، يَقُولُ: فَاسْتَكْبَرُوا عَنِ الْإِقْرَارِ بِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مُوسَى وَهَارُونُ {وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}، يَعْنِي: آثِمِينَ بِرَبِّهِمْ، بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا}، يَعْنِي: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بَيَانُ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مُوسَى وَهَارُونُ وَذَلِكَ الْحُجَجُ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا، وَهِيَ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ {قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ}، يَعْنُونَ أَنَّهُ يَبِينُ لِمَنْ رَآهُ وَعَايَنَهُ أَنَّهُ سِحْرٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ {قَالَ مُوسَى}، لَهُمْ: {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ}، مِنْ عِنْدِ اللَّهِ {أَسِحْرٌ هَذَا}؟. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي سَبَبِ دُخُولِ أَلْفِ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: {أَسِحْرٌ هَذَا}؟ فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: أُدْخِلَتْ فِيهِ عَلَى الْحِكَايَةِ لِقَوْلِهِمْ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: {أَسِحْرٌ هَذَا}؟ فَقَالَ: أَتَقُولُونَ: {أَسِحْرٌ هَذَا}؟ وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: إِنَّهُمْ قَالُوا: “ هَذَا سِحْرٌ “ وَلَمْ يَقُولُوهُ بِالْأَلْفِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا جَاءَ بِغَيْرِ أَلْفٍ. قَالَ: فَيُقَالُ: فَلِمَ أُدْخِلَتِ الْأَلْفُ؟ فَيُقَالُ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ قِيلِهِمْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ سِحْرٌ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِلْجَائِزَةِ إِذَا أَتَتْهُ: أَحُقٌّ هَذَا؟ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ حَقٌّ. قَالَ: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَى التَّعَجُّبِ مِنْهُمْ: أَسْحَرُ هَذَا؟ مَا أَعْظَمَهُ! قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى ذَلِكَ فِي هَذَا بِالصَّوَابِ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: {أَسِحْرٌ هَذَا}، مِنْ قِيلِ مُوسَى، مُنْكِرًا عَلَى فِرْعَوْنِ وَمَلَئِهِ قَوْلَهُمْ لِلْحَقِّ لِمَا جَاءَهُمْ: “ سِحْرٌ “، فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: قَالَ مُوسَى لَهُمْ: {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ} وَهِيَ الْآيَاتُ الَّتِي أَتَاهُمْ بِهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حُجَّةً لَهُ عَلَى صِدْقِهِ سِحْرٌ، أَسِحْرٌ هَذَا الْحَقُّ الَّذِي تَرَوْنَهُ؟ فَيَكُونُ “ السِّحْرُ “ الْأَوَّلُ مَحْذُوفًا، اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ قَوْلِ مُوسَى {أَسِحْرٌ هَذَا}، عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ فِي الْكَلَامِ، كَمَا قَالَ ذُو الرُّمَّةِ. فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ، أَوْ حِينَ نَصَّبَتْ *** لَهُ مِنْ خَدَّا آذَانِهَا وَهْوَ جَانِحُ يُرِيدُ: أَوْ حِينَ أَقْبَلَ، ثُمَّ حَذَفَ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} [سُورَةَ الْإِسْرَاءِ: 7]، وَالْمَعْنَى: بَعَثْنَاهُمْ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ فَتَرَكَ ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، فِي أَشْبَاهٍ لِمَا ذَكَرْنَا كَثِيرَةٍ، يُتْعِبُ إِحْصَاؤُهَا. وَقَوْلُهُ: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} يَقُولُ: وَلَا يَنْجَحُ السَّاحِرُونَ وَلَا يَبْقَوْنَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا أَجِئْتِنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ لِمُوسَى: {أَجِئْتِنَا لِتَلْفِتَنَا}، يَقُولُ: لِتَصْرِفَنَا وَتَلْوِيَنَا {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} مِنْ قَبْلِ مَجِيئِكَ، مِنَ الدِّينِ. يُقَالُ مِنْهُ: “ لَفَتَ فُلَانٌ [عُنُقَ فُلَانٍ “ إِذَا لَوَاهَا، كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ]: لَفْتًا وَتَهْزِيعًا سَوَاءَ اللَّفْتِ *** “ التَّهْزِيعُ “: الدَّقُّ، وَ“ اللِّفْتُ “ اللَّيُّ، كَمَا:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: {لِتَلْفِتَنَا}، قَالَ: لَتَلْوِيَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا. وَقَوْلُهُ: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ}، يَعْنِي الْعَظَمَةَ، وَهِيَ “ الْفِعْلِيَاءِ “ مِنْ “ الْكِبَرِ“. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الرِّقَاعِ: سُؤْدَدًا غَيْرَ فَاحِشٍ لَا يُدَا *** نِيهِ تِجِبَّارَةٌ وَلَا كِبْرِياءُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ}، قَالَ: الْمَلِكُ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ}، قَالَ: السُّلْطَانُ فِي الْأَرْضِ. قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: بَلَغَنِي، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْمَلِكُ فِي الْأَرْضِ. قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ}، قَالَ: الطَّاعَةُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} قَالَ: الْمَلِكُ. قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: السُّلْطَانُ فِي الْأَرْضِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَاتُ الْمَعَانِي، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلِكَ سُلْطَانٌ، وَالطَّاعَةُ مُلْكٌ، غَيْرَ أَنَّ مَعْنَى “ الْكِبْرِيَاءِ “ هُوَ مَا ثَبَتَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، ثُمَّ يَكُونُ ذَلِكَ عَظَمَةٌ بِمَلِكٍ وَسُلْطَانٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}، يَقُولُ: “ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا “ يَا مُوسَى وَهَارُونُ “ بِمُؤْمِنِينَ “ يَعْنِي بِمُقِرِّينَ بِأَنَّكُمَا رَسُولَانِ أَرْسَلْتُمَا إِلَيْنَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَ فِرْعَوْنُ لِقَوْمِهِ: ائْتُونِي بِكُلِّ مِنْ يَسْحَرُ مِنَ السَّحَرَةِ، عَلِيمٍ بِالسِّحْرِ {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ} فِرْعَوْنَ قَالَ مُوسَى: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}، مِنْ حِبَالِكُمْ وَعِصِيِّكُمْ. وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ قَدْ تُرِكَ، وَهُوَ: “ فَأَتَوْهُ بِالسَّحَرَةِ، فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ “ وَلَكِنِ اكْتَفَى بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ}، عَلَى ذَلِكَ، فَتَرَكَ ذِكْرَهُ. وَكَذَلِكَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}، مَحْذُوفٌ أَيْضًا قَدْ تُرِكَ ذَكَرُهُ، وَهُوَ: {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى}، وَلَكِنِ اكْتَفَى بِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، فَتُرِكَ ذِكْرُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا أَلْقَوْا مَا هُمْ مُلْقُوهُ، قَالَ لَهُمْ مُوسَى: مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ مِنْ مُوسَى عَنِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ سِحْرٌ. كَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى تَأْوِيلِهِمْ: قَالَ مُوسَى: الَّذِي جِئْتُمْ بِهِ أَيُّهَا السَّحَرَةُ، هُوَ السِّحْرُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَبَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ الْبَصْرِيِّينَ: {مَا جِئْتُمْ بِهِ آلسِّحْرُ} عَلَى وَجْهِ الِاسْتِفْهَامِ مِنْ مُوسَى إِلَى السَّحَرَةِ عَمَّا جَاؤُوا بِهِ، أَسِحْرُ هُوَ أَمْ غَيْرُهُ؟ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ لَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، لِأَنَّ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ شَاكًّا فِيمَا جَاءَتْ بِهِ السَّحَرَةُ أَنَّهُ سِحْرٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، فَيَحْتَاجُ إِلَى اسْتِخْبَارُ السَّحَرَةِ عَنْهُ، أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ وَأُخْرَى أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَدْ كَانَ عَلَى عِلْمٍ مِنَ السَّحَرَةِ، إِنَّمَا جَاءَ بِهِمْ فِرْعَوْنُ لِيُغَالِبُوهُ عَلَى مَا كَانَ جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي كَانَ اللَّهُ آتَاهُ، فَلَمْ يَكُنْ يَذْهَبُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُصَدِّقُونَهُ فِي الْخَبَرِ عَمَّا جَاءُوهُ بِهِ مِنَ الْبَاطِلِ، فَيَسْتَخْبِرُهُمْ أَوْ يَسْتَجِيزُ اسْتِخْبَارَهُمْ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ عَالِمٌ بِبُطُولِ مَا جَاؤُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَتَاهُ. وَمُبْطِلٌ كَيْدَهُمْ بِحَدِّهِ. وَهَذِهِ أَوْلَى بِصِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأُخْرَى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا وَجْهُ دُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي “ السِّحْرِ “ إِنَّ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ فِي نَظِيرِ هَذَا أَنْ يَقُولُوا: “ مَا جَاءَنِي بِهِ عَمْرٌو دِرْهَمٌ وَالَّذِي أَعْطَانِي أَخُوكَ دِينَارٌ “، وَلَا يَكَادُونَ أَنْ يَقُولُوا: الَّذِي أَعْطَانِي أَخُوكَ الدِّرْهَمُ وَمَا جَاءَنِي بِهِ عَمْرٌو الدِّينَارُ؟ قِيلَ لَهُ: بَلَى، كَلَامُ الْعَرَبِ إِدْخَالُ “ الْأَلِفِ وَاللَّامِ “ فِي خَبَرِ “ مَا “ وَ“ الَّذِي “ إِذَا كَانَ الْخَبَرُ عَنْ مَعْهُودٍ قَدْ عَرَفَهُ الْمُخَاطِبُ وَالْمُخَاطَبُ، بَلْ لَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ إِلَّا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ حِينَئِذٍ خَبَرٌ عَنْ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مَعْرُوفٍ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ، وَإِنَّمَا يَأْتِي ذَلِكَ بِغَيْرِ “ الْأَلِفِ وَاللَّامِ “، إِذَا كَانَ الْخَبَرُ عَنْ مَجْهُولٍ غَيْرِ مَعْهُودٍ وَلَا مَقْصُودٍ قَصْدَ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، فَحِينَئِذٍ لَا تَدْخُلُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْخَبَرِ. وَخَبَرُ مُوسَى كَانَ خَبَرًا عَنْ مَعْرُوفٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَ السَّحَرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ نُسِبَتْ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَمًا لَهُ عَلَى صِدْقِهِ وَنُبُوَّتِهِ، إِلَى أَنَّهُ سِحْرٌ، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: السِّحْرُ الَّذِي وَصَفْتُمْ بِهِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ أَيُّهَا السَّحَرَةُ، هُوَ الَّذِي جِئْتُمْ بِهِ أَنْتُمْ، لَا مَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَنَا. ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ. فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ}، يَقُولُ: سَيَذْهَبُ بِهِ، فَذَهَبَ بِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، بِأَنْ سَلَّطَ عَلَيْهِ عَصَا مُوسَى قَدْ حَوَّلَهَا ثُعْبَانًا يَتَلَقَّفُهُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}، يَعْنِي: أَنَّهُ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ مِنْ سَعَى فِي أَرْضِ اللَّهِ بِمَا يَكْرَهُهُ، وَعَمِلَ فِيهَا بِمَعَاصِيهِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: {مَا أَتَيْتُمْ بِهِ سِحْرٌ}. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: {مَا جِئْتُمْ بِهِ سِحْرٌ}، وَذَلِكَ مِمَّا يُؤَيِّدُ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ بِنَحْوِ الَّذِي اخْتَرْنَا مِنَ الْقِرَاءَةِ فِيهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ لِلسَّحَرَةِ: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ}، يَقُولُ: وَيَثْبُتُ اللَّهُ الْحَقَّ الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ، فَيُعْلِيهِ عَلَى بَاطِلِكُمْ، وَيُصَحِّحُهُ “ بِكَلِمَاتِهِ “ يَعْنِي: بِأَمْرِهِ {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}، يَعْنِي الَّذِينَ اكْتَسَبُوا الْإِثْمَ بِرَبِّهِمْ، بِمَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمْ يُؤْمَنْ لِمُوسَى، مَعَ مَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنَ الْحُجَجِ وَالْأَدِلَّةِ {إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} خَائِفِينَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الذَّرِّيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الذَّرِّيَّةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْقَلِيلُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ}، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: “ الذَّرِّيَّةُ “: الْقَلِيلُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرْنَا عُبَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ}، “ الذَّرِّيَّةُ “ الْقَلِيلُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [سُورَةَ الْأَنْعَامِ: 133] وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةُ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِطُولِ الزَّمَانِ، لِأَنَّ الْآبَاءَ مَاتُوا وَبَقِيَ الْأَبْنَاءُ، فَقِيلَ لَهُمْ “ ذَرِّيَّةٌ “ لِأَنَّهُمْ كَانُوا ذُرِّيَّةَ مَنْ هَلَكَ مِمَّنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ عَنْ عَنْبَسَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ}، قَالَ: أَوْلَادُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ طُولِ الزَّمَانِ، وَمَاتَ آبَاؤُهُمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ}، قَالَ: أَوْلَادُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى مِنْ طُولِ الزَّمَانِ وَمَاتَ آبَاؤُهُمْ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ}، قَالَ: أَبْنَاءُ أُولَئِكَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، فَطَالَ عَلَيْهِمُ الزَّمَانُ وَمَاتَتْ آبَاؤُهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ}، قَالَ: كَانَتِ الذُّرِّيَّةُ الَّتِي آمَنَتْ لِمُوسَى مِنْ أُنَاسٍ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ يَسِيرُ، مِنْهُمْ: امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَخَازِنُ فِرْعَوْنَ، وَامْرَأَةُ خَازِنِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خَبَرٌ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ، وَذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ}، يَقُولُ: بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَهَذَا الْخَبَرُ، يُنْبِئُ عَنْ أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ “ الذَّرِّيَّةَ “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَهُوَ أَنَّ “ الذَّرِّيَّةَ “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أُرِيدَ بِهَا ذُرِّيَّةَ مِنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَهَلَكُوا قَبْلَ أَنْ يُقِرُّوا بِنُبُوَّتِهِ لِطُولِ الزَّمَانِ، فَأَدْرَكَتْ ذُرِّيَّتَهُمْ، فَآمَنَ مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ اللَّهُ بِمُوسَى. وَإِنَّمَا قُلْتُ: “ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ “ لِأَنَّهُ لَمْ يَجُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرٌ لِغَيْرِ مُوسَى، فَلَأَنْ تَكُونُ “ الْهَاءُ “، فِي قَوْلِهِ: “ مِنْ قَوْمِهِ “مِنْ ذِكْرِ مُوسَى لِقُرْبِهَا مِنْ ذِكْرِهِ، أُولَى مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ ذِكْرِ فِرْعَوْنَ لِبُعْدِ ذِكْرِهِ مِنْهَا، إِذْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ ذَلِكَ دَلِيلٌ، مِنْ خَبَرٍ وَلَا نَظَرٍ. وَبَعْدُ، فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ: {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ}، الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ الْهَاءَ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ}، مِنْ ذِكْرِ مُوسَى لَا مِنْ ذِكْرِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْ ذِكْرِ فِرْعَوْنَ لَكَانَ الْكَلَامُ “ عَلَى خَوْفٍ مِنْهُ “ وَلَمْ يَكُنْ {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ}. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي عَلَى حَالِ خَوْفٍ مِمَّنْ آمَنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ مُوسَى بِمُوسَى فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ، مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ خَائِفُونَ مِنْ فِرْعَوْنِ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنُوهُمْ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ: “ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ “ لِأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ إِنَّمَا كَانَتْ أُمَّهَاتُهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَآبَاؤُهُمْ مِنَ الْقِبْطِ، فَقِيلَ لَهُمْ “ الذَّرِّيَّةُ “، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، كَمَا قِيلَ لِأَبْنَاءِ الْفُرْسِ الَّذِينَ أُمَّهَاتُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ وَآبَاؤُهُمْ مِنَ الْعَجَمِ: “ أَبْنَاءُ “. وَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَعْنَى “ الذَّرِّيَّةِ “ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: أَنَّهَا أَعْقَابُ مِنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {ذُرِّيَّةَ مِنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ}، [سُورَةَ الْإِسْرَاءِ: 3]، وَكَمَا قَالَ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ} ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ}، [سُورَةَ الْأَنْعَامِ: 84، ]، فَجَعَلَ مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَمَلَئِهِمْ)، فَإِنَّ “ الْمَلَأَ “: الْأَشْرَافُ. وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمِنْ أَشْرَافِهِمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِيمَنْ عَنَى الْهَاءِ وَالْمِيمِ اللَّتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: (وَمَلَئِهِمْ)، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: عَنَى بِهَا الذَّرِّيَّةََ. وَكَأَنَّهُ وَجَّهَ الْكَلَامَ إِلَى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ} وَمَلَأِ الذَّرِّيَّةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيَّ أَهْلِ الْكُوفَةِ: عَنَى بِهِمَا فِرْعَوْنَ. قَالَ: وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ وَفِرْعَوْنُ وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا ذَكَّرَ بِخَوْفٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ قُدُومٍ مِنْ سَفَرٍ، ذَهَبَ الْوَهْمُ إِلَيْهِ وَإِلَى مِنْ مَعَهُ. وَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: “ قَدِمَ الْخَلِيفَةُ فَكَثُرَ النَّاسُ “ تُرِيدُ، بِمَنْ مَعَهُ “ وَقَدِمَ فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ “، لِأَنَّكَ تَنْوِي بِقُدُومِهِ قُدُومَ مِنْ مَعَهُ. قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ أَنْ تُرِيدَ أَنْ بِـ “ فِرْعَوْنَ “ آلَ فِرْعَوْنَ وَتُحْذَفُ “ الْآلُ “، فَيَجُوزُ، كَمَا قَالَ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}، [سُورَةَ يُونُسَ: 82]، يُرِيدُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَمَثْلُهُ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، [سُورَةَ الطَّلَاقِ: 1]. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قَوْلُ مِنْ قَالَ: “ الْهَاءُ وَالْمِيمُ “ عَائِدَتَانِ عَلَى “ الذُّرِّيَّةِ “. وَوَجَّهَ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى أَنَّهُ: عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَأِ الذَّرِّيَّةِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي ذُرِّيَّةِ الْقَرْنِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى مِنْ كَانَ أَبُوهُ قِبْطِيًا وَأُمُّهُ إِسْرَائِيلِيَّةً. فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ مِنْهُمْ، كَانَ مَعَ فِرْعَوْنَ عَلَى مُوسَى. وَقَوْلُهُ: {أَنْ يَفْتِنَهُمْ}، يَقُولُ: كَانَ إِيمَانُ مَنْ آمَنِ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمِ مُوسَى عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ “ أَنْ يَفْتِنَهُمْ “ بِالْعَذَابُ، فَيَصُدَّهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَيَحْمِلَهُمْ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ إِيمَانِهِمْ وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ. وَقَالَ: {أَنْ يَفْتِنَهُمْ}، فَوَحَّدَ وَلَمْ يَقِلْ: “ أَنْ يَفْتِنُوهُمْ “ لِدَلِيلِ الْخَبَرِ عَنْ فِرْعَوْنَ بِذَلِكَ: أَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ، لِمَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ}. وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ}، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَجَبَّارٌ مُسْتَكْبِرٌ عَلَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ “ وَإِنَّهُ لِمَنِ الْمُسْرِفِينَ “ وَإِنَّهُ لِمَنِ الْمُتَجَاوِزِينَ الْحَقَّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ كَفْرُهُ بِاللَّهِ وَتَرْكُهُ الْإِيمَانَ بِهِ، وَجُحُودُهُ وَحْدَانِيَّةُ اللَّهِ، وَادِّعَاؤُهُ لِنَفْسِهِ الْأُلُوهَةَ، وَسَفْكُهُ الدِّمَاءَ بِغَيْرِ حِلِّهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبَرًا عَنْ قِيلِ مُوسَى نَبِيِّهِ لِقَوْمِهِ: يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ أَقْرَرْتُمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَصَدَّقْتُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا}، يَقُولُ: فَبِهِ فَثِقُوا، وَلِأَمْرِهِ فَسَلَّمُوا، فَإِنَّهُ لَنْ يَخْذُلَ وَلَيَّهُ، وَلَنْ يُسَلِّمَ مِنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ {إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}، يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ مُذْعِنِينَ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ، فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَقَالَ قَوْمٌ يَا مُوسَى لِمُوسَى: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا}، أَيْ بِهِ وَثِقْنَا، وَإِلَيْهِ فَوَّضْنَا أَمْرَنَا. وَقَوْلُهُ: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُخْبِرًا عَنْ قَوْمِ مُوسَى أَنَّهُمْ دَعَوْا رَبَّهُمْ فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا لَا تَخْتَبِرْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ، وَلَا تَمْتَحِنُهُمْ بِنَا! يَعْنُونَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي سَأَلُوهُ رَبَّهُمْ مِنْ إِعَاذَتِهِ ابْتِلَاءَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بِهِمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَأَلُوهُ أَنْ لَا يُظْهِرَهُمْ عَلَيْهِمْ، فَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا سُلِّطُوا عَلَيْهِمْ لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْهِ وَهَوَانِ الْآخَرِينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، قَالَ: لَا يَظْهَرُوا عَلَيْنَا، فَيَرَوْا أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنَّا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عِمْرَانََ بْنِ حُدَيْرٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، قَالَ: قَالُوا: لَا تُظْهِرْهُمْ عَلَيْنَا فَيَرَوْا أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنَّا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، قَالَ: لَا تُسَلِّطْهُمْ عَلَيْنَا، فَيَزْدَادُوا فِتْنَةً. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: لَا تُسَلِّطْهُمْ عَلَيْنَا فَيَفْتِنُونَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، لَا تُسَلِّطْهُمْ عَلَيْنَا فَيَفْتِنُونَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، قَالَ: لَا تُسَلِّطْهُمْ عَلَيْنَا فَيُضِلُّونَا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرْنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ وَقَالَ أَيْضًا: فَيَفْتِنُونَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنْ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، لَا تُعَذِّبْنَا بِأَيْدِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَلَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ، فَيَقُولُ قَوْمُ فِرْعَوْنَ: “ لَوْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ مَا سُلِّطْنَا عَلَيْهِمْ وَلَا عُذِّبُوا “، فَيَفْتَتِنُوا بِنَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، قَالَ: لَا تُعَذِّبْنَا بِأَيْدِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَلَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ، فَيَقُولُ قَوْمُ فِرْعَوْنَ: “ لَوْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ مَا سُلِّطْنَا عَلَيْهِمْ وَلَا عُذِّبُوا “، فَيَفْتَتِنُوا بِنَا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ عَنْ عَنْبَسَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، قَالَ: لَا تُصِبْنَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ وَلَا بِأَيْدِيهِمْ، فَيَفْتَتِنُوا وَيَقُولُوا: “ لَوْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ مَا سُلِّطْنَا عَلَيْهِمْ وَلَا عُذِّبُوا “. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍفِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، لَا تَبْتَلِنَا رَبَّنَا فَتُجْهِدْنَا، وَتَجْعَلْهُ فِتْنَةً لَهُمْ، هَذِهِ الْفِتْنَةَ. وَقَرَأَ: {فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ}، [سُورَةَ الصَّافَّاتِ: 63]، قَالَ الْمُشْرِكُونَ، حِينَ كَانُوا يُؤْذُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَيَرْمُونَهُمْ، أَلَيْسَ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ وَسُوءًا لَهُمْ، وَهِيَ بَلِيَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ؟. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ رَغِبُوا إِلَى اللَّهِ فِي أَنْ يُجِيرَهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِحْنَةً لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ وَبَلَاءً، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَمْرٍ كَانَ لَهُمْ مَصْدَةً عَنِ اتِّبَاعِ مُوسَى وَالْإِقْرَارِ بِهِ، وَبِمَا جَاءَهُمْ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ “ فِتْنَةً “ وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ لَهُمْ إِبْعَادًا مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَكَذَلِكَ مِنَ الْمُصِدَّةِ كَانَ لَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ: أَنْ لَوْ كَانَ قَوْمُ مُوسَى عَاجَلَتْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِحْنَةٌ فِي أَنْفُسِهِمْ، مِنْ بَلِيَّةٍ تَنْزِلُ بِهِمْ، فَاسْتَعَاذَ الْقَوْمُ بِاللَّهِ مِنْ كُلِّ مَعْنًى يَكُونُ صَادًّا لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ بِأَسْبَابِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَنَجِّنَا يَا رَبَّنَا بِرَحْمَتِكَ، فَخَلِّصْنَا مِنْ أَيْدِي الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ؛ قَوْمِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُمْ كَانَ يَسْتَعْبِدُونَهُمْ وَيَسْتَعْمِلُونَهُمْ فِي الْأَشْيَاءِ الْقَذِرَةِ مِنْ خِدْمَتِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنِ اتَّخَذَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا. يُقَالُ مِنْهُ: “ تَبَوَّأَ فَلَانٌ لِنَفْسِهِ بَيْتًا “ إِذَا اتَّخَذَهُ. وَكَذَلِكَ تَبَوَّأَ مُصْحَفًا “ إِذَا اتَّخَذَهُ، “ وَبَوَّأْتُهُ أَنَا بَيْتًا “: إِذَا اتَّخَذْتَهُ لَهُ. {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةٍ}، يَقُولُ: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَسَاجِدَ تُصَلُّونَ فِيهَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ نَحْوَ الَّذِي قُلْنَا فِيهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، قَالَ: مَسَاجِدُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ خَصِيفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، قَالَ: أُمِرُوا أَنْ يَتَّخِذُوهَا مَسَاجِدَ. قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا خَصِيفٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، قَالَ: كَانُوا يَفْرَقُونَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أَنْ يُصَلُّوا، فَقَالَ لَهُمْ: {اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، يَقُولُ: اجْعَلُوهَا مَسْجِدًا حَتَّى تُصَلُّوا فِيهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ وَابْنُ حُمَيْدٍ قَالَا حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، قَالَ: خَافُوا، فَأُمِرُوا أَنْ يُصَلَّوا فِي بُيُوتِهِمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قَالَ: كَانُوا خَائِفِينَ، فَأُمِرُوا أَنْ يَصِلُوا فِي بُيُوتِهِمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنْ خَصِيفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، قَالَ: كَانُوا خَائِفِينَ فَأُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، قَالَ: كَانُوا لَا يُصَلُّونَ إِلَّا فِي الْبِيَعِ، وَكَانُوا لَا يُصَلُّونَ إِلَّا خَائِفِينَ، فَأُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ. قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانُوا خَائِفِينَ، فَأُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ. قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، قَالَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَخَافُ فِرْعَوْنَ فَأُمِرُوا أَنْ يَجْعَلُوا بُيُوتَهُمْ مَسَاجِدَ يُصَلُّونَ فِيهَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: أَخْبَرْنَا أَبُو جَعْفَرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، يَقُولُ: مَسَاجِدُ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، قَالَ: كَانُوا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ يَخَافُونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ عَنْ أَبِي سِنَانٍ عَنِ الضَّحَّاكِ: {أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا}، قَالَ: مَسَاجِدُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، قَالَ: كَانُوا خَائِفِينَ، فَأُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍفِي قَوْلِهِ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، قَالَ: قَالَ أَبِي اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مَسَاجِدَكُمْ تُصَلُّونَ فِيهَا، تِلْكَ “ الْقِبْلَةُ “. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَاجْعَلُوا مَسَاجِدَكُمْ قِبَلَ الْكَعْبَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْمِنْهَالِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، يَعْنِي الْكَعْبَةَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}، قَالَ: قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُظْهِرَ صَلَاتَنَا مَعَ الْفَرَاعِنَةِ! فَأَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ، وَأُمِرُوا أَنْ يَجْعَلُوا بُيُوتَهُمْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، يَقُولُ: وَجِّهُوا بُيُوتَكُمْ “ مَسَاجِدَكُمْ “ نَحْوَ الْقِبْلَةِ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [سُورَةَ النُّورِ: 36]. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي يَحْيَى عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، قَالَ: قِبَلَ الْقِبْلَةِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، قَالَ: نَحْوَ الْكَعْبَةِ، حِينَ خَافَ مُوسَى وَمِنْ مَعَهُ مِنْ فِرْعَوْنَ أَنْ يُصَلُّوا فِي الْكَنَائِسِ الْجَامِعَةِ، فَأُمِرُوا أَنْ يَجْعَلُوا فِي بُيُوتِهِمْ مَسَاجِدَ مُسْتَقْبِلَةً الْكَعْبَةَ يُصَلُّونَ فِيهَا سِرًّا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، ثُمَّ ذَكَرَ مَثَلَهُ سَوَاءً. قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا}، مَسَاجِدَ. قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: فِي قَوْلِهِ: {أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا}، قَالَ: مِصْرُ “ الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ “. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، قَالَ: وَذَلِكَ حِينَ مَنَعَهُمْ فِرْعَوْنُ الصَّلَاةَ، فَأُمِرُوا أَنْ يَجْعَلُوا مَسَاجِدَهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ، وَأَنْ يُوَجَّهُوا نَحْوَ الْقِبْلَةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: {بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، قَالَ: نَحْوَ الْقِبْلَةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ عَنْ أَبِي سِنَانٍ عَنِ الضَّحَّاكِ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} قَالَ: مَسَاجِدُ {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، قَالَ: قَبْلَ الْقِبْلَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ يُقَابِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، قَالَ: يُقَابِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، الْقَوْلُ الَّذِي قَدَّمْنَا بَيَانَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ مَعَانِي “ الْبُيُوتِ “ وَإِنْ كَانَتِ الْمَسَاجِدُ بُيُوتًا الْبُيُوتُ الْمَسْكُونَةُ، إِذَا ذَكَّرَتْ بِاسْمِهَا الْمُطْلَقِ دُونَ الْمَسَاجِدِ. لِأَنَّ “ الْمَسَاجِدَ “ لَهَا اسْمٌ هِيَ بِهِ مَعْرُوفَةٌ، خَاصٌّ لَهَا، وَذَلِكَ “ الْمَسَاجِدُ “. فَأَمَّا “ الْبُيُوتُ “ الْمُطْلَقَةُ بِغَيْرِ وَصْلِهَا بِشَيْءٍ، وَلَا إِضَافَتِهَا إِلَى شَيْءٍ، فَالْبُيُوتُ الْمَسْكُونَةُ. وَكَذَلِكَ “ الْقِبْلَةُ “ الْأَغْلَبُ مِنَ اسْتِعْمَالِ النَّاسِ إِيَّاهَا فِي قَبْلِ الْمَسَاجِدِ وَلِلصَّلَوَاتِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ غَيْرَ جَائِزٍ تَوْجِيهُ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ إِلَّا إِلَى الْأَغْلَبِ مِنْ وُجُوهِهَا الْمُسْتَعْمَلِ بَيْنَ أَهْلِ اللِّسَانِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ، دُونَ الْخَفِيِّ الْمَجْهُولِ، مَا لَمْ تَأْتِ دَلَالَةٌ تَدُلُّ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى قَوْلِهِ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، دَلَّالَةٌ تَقْطَعُ الْعُذْرَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ غَيْرَ الظَّاهِرِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَمْ يَجُزْ لَنَا تَوْجِيهُهُ إِلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ الَّذِي وَصَفْنَا. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ (قِبْلَةً) {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَدُّوا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ بِحُدُودِهَا فِي أَوْقَاتِهَا.. وَقَوْلُهُ: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَبَشِّرِ مُقِيمِي الصَّلَاةِ الْمُطِيعِي اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ الْمُؤْمِنِينَ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ مِنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَرَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَ مُوسَى يَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَعْطَيْتَ فِرْعَوْنَ وَكُبَرَاءَ قَوْمِهِ وَأَشْرَافَهُمْ وَهُمْ “ الْمَلَأُ “ “ زِينَةً “، مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا وَأَثَاثِهَا {وَأَمْوَالًا} مِنْ أَعْيَانِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}، يَقُولُ مُوسَى لِرَبِّهِ: رَبَّنَا أَعْطَيْتَهُمْ مَا أَعْطَيْتَهُمْ مِنْ ذَلِكَ لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}، بِمَعْنَى: لِيُضِلُّوا النَّاسَ، عَنْ سَبِيلِكَ، وَيَصُدُّوهُمْ عَنْ دِينِكَ. وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ: {لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}، بِمَعْنَى: لِيَضِلُّوا هُمْ عَنْ سَبِيلِكَ، فَيَجُورُوا عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَفَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، أَعْطَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، مَا أَعْطَاهُمْ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا وَأَمْوَالِهَا، لِيُضِلُّوا النَّاسَ عَنْ دِينِهِ أَوْ لِيَضِلُّوا هُمْ عَنْهُ؟ فَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ، فَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ مَا أَعْطَاهُمْ لِذَلِكَ، فَلَا عَتَبَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا تَوَهَّمْتَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى هَذِهِ “ اللَّامِ “ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: (لِيَضِلُّوا). فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: مَعْنَى ذَلِكَ: رَبَّنَا فَضَلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، كَمَا قَالَ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}، [سُورَةَ الْقَصَصِ: 8]، أَيْ فَكَانَ لَهُمْ وَهُمْ لَمْ يَلْتَقِطُوهُ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدْوًا وَحَزَنًا، وَإِنَّمَا الْتَقَطُوهُ فَكَانَ لَهُمْ. قَالَ: فَهَذِهِ “ اللَّامُ “ تَجِيءُ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ بَعْضٌ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: هَذِهِ “ اللَّامُ “ “ لَامُ كَيْ “ وَمَعْنَى الْكَلَامِ: رَبَّنَا أَعْطَيْتَهُمْ مَا أَعْطَيْتَهُمْ، كَيْ يُضِلُّوا ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ آخَرُ: هَذِهِ اللَّامَاتُ فِي قَوْلِهِ: (لِيُضِلُّوا) وَ {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا}، وَمَا أَشْبَهَهَا بِتَأْوِيلِ الْخَفْضِ: آتَيْتَهُمْ مَا أَتَيْتَهُمْ لِضَلَالِهِمْ وَالْتَقَطُوهُ لِكَوْنِهِ لِأَنَّهُ قَدْ آلَتِ الْحَالَةُ إِلَى ذَلِكَ. وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ “ لَامَ كَيْ “ فِي مَعْنَى “ لَامِ الْخَفْضِ “ وَ“ لَامَ الْخَفْضِ “ فِي مَعْنَى “ لَامِ كَيْ “، لِتَقَارُبِ الْمَعْنَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} [سُورَةَ التَّوْبَةِ: 95] أَيْ لِإِعْرَاضِكُمْ، وَلَمْ يَحْلِفُوا لِإِعْرَاضِهِمْ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: سَمَوْتَ وَلَمْ تَكُنْ أَهْلًا لِتَسْمُو *** وَلَكِنَّ الْمُضَيِّعَ قَدْ يُصَابُ قَالَ: وَإِنَّمَا يُقَالُ: “ وَمَا كُنْتَ أَهْلًا لِلْفِعْلِ “ وَلَا يُقَالُ “ لِتَفْعَلَ “ إِلَّا قَلِيلًا. قَالَ: وَهَذَا مِنْهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهَا “ لَامُ كَيْ “ وَمَعْنَى الْكَلَامِ: رَبُّنَا أَعْطَيْتَهُمْ مَا أَعْطَيْتَهُمْ مِنْ زِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْأَمْوَالِ لِتَفْتِنَهُمْ فِيهِ، وَيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ عِبَادَكَ، عُقُوبَةً مِنْكَ. وَهَذَا كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}، [سُورَةَ الْجِنِّ: 17]. وَقَوْلُهُ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} هَذَا دُعَاءٌ مِنْ مُوسَى، دَعَا اللَّهَ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ أَنْ يُغَيِّرَ أَمْوَالَهُمْ عَنْ هَيْئَتِهَا، وَيُبَدِّلَهَا إِلَى غَيْرِ الْحَالِ الَّتِي هِيَ بِهَا، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا}، [سُورَةَ النِّسَاءِ: 47]. يَعْنِي بِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نُغَيِّرَهَا عَنْ هَيْئَتِهَا الَّتِي هِيَ بِهَا. يُقَالُ مِنْهُ: “ طَمَسْتُ عَيْنَهُ أَطْمِسُهَا وَأَطْمُسُهَا طَمْسًا وَطُمُوسًا “. وَقَدْ تَسْتَعْمِلُ الْعَرَبُ“ الطَّمْسَ “ فِي الْعُفُوِّ وَالدُّثُورِ، وَفِي الِانْدِقَاقِ وَالدُّرُوسِ، كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: مِنْ كُلِّ نَضَّاحَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ *** عُرْضَتُهَا طَامِسُ الْأَعْلَامِ مَجْهُولُ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فِيهِ مِثْلَ قَوْلِنَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنُ زَائِدَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: بَلَغَنَا عَنِ الْقُرَظِيِّ فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ}، قَالَ: اجْعَلْ سُكَّرَهُمْ حِجَارَةً. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: اجْعَلْ سُكَّرَهُمْ حِجَارَةً. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: {اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} قَالَ: اجْعَلْهَا حِجَارَةً. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: {اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ}، قَالَ: صَارَتْ حِجَارَةً. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ}، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ زُرُوعَهُمْ تَحَوَّلَتْ حِجَارَةً. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ}، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ حَرْثًا لَهُمْ صَارَتْ حِجَارَةً. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عَقَبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ}، قَالَ: يَقُولُونَ: صَارَتْ حِجَارَةً. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ. قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: أَخْبَرْنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ}، قَالَ: صَارَتْ حِجَارَةً. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرْنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ}، قَالَ: بَلَغْنَا أَنْ حُرُوثًا لَهُمْ صَارَتْ حِجَارَةً. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ}، قَالَ: جَعَلَهَا اللَّهُ حِجَارَةً مَنْقُوشَةً عَلَى هَيْئَةٍ مَا كَانَتْ. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍفِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ}، قَالَ: قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَقَدْ أَصَابَهُمْ ذَلِكَ، طَمَسَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَصَارَتْ حِجَارَةً، ذَهَبِهِمْ وَدَرَاهِمِهِمْ وَعَدَسِهِمْ، وَكُلُّ شَيْءٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: أَهْلَكَهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ}، قَالَ: أَهْلِكْهَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ}، يَقُولُ: دَمِّرْ عَلَيْهِمْ وَأَهْلِكْ أَمْوَالَهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَاطْبَعْ عَلَيْهَا حَتَّى لَا تَلِينَ وَلَا تَنْشَرِحَ بِالْإِيمَانِ، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقَالَ مُوسَى قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ فِرْعَوْنَ: “ رَبَّنَا اشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ “ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وَحَالَ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ حَتَّى أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ الْإِيمَانُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، يَقُولُ: وَاطْبَعْ عَلَى قُلُوبِهِمْ {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}، وَهُوَ الْغَرَقُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، بِالضَّلَالَةِ. قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، قَالَ: بِالضَّلَالَةِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، يَقُولُ: أَهْلِكْهُمْ كُفَّارًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: فَلَا يُصَدِّقُوا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَيُقِرُّوا بِوَحْدَانِيَّتِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْمُوجِعَ، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَلَا يُؤْمِنُوا}، بِاللَّهِ فِيمَا يَرَوْنَ مِنَ الْآيَاتِ {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرْنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: سَمِعْتُ الْمُنْقِرِيِّ يَقُولُ: {فَلَا يُؤْمِنُوا}، يَقُولُ: دَعَا عَلَيْهِمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَوْضِعِ: (يُؤْمِنُوا). فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: هُوَ نَصْبٌ، لِأَنَّ جَوَابَ الْأَمْرِ بِالْفَاءِ، أَوْ يَكُونُ دُعَاءً عَلَيْهِمْ إِذْ عَصَوْا. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هُوَ نَصْبٌ، عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}. وَقَالَ آخِرُ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: مَوْضِعُهُ جَزْمٌ، عَلَى الدُّعَاءِ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِمْ، بِمَعْنَى: فَلَا آمَنُوا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَلا يَنْبَسِطْ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْكَ مَا انْزَوَى *** وَلَا تَلْقَنِي إِلَّا وَأَنْفُكَ رَاغِمُ بِمَعْنَى: “ فَلَا انْبَسَطَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْكَ مَا انْزَوَى “، “ وَلَا لَقِيتَنِي “، عَلَى الدُّعَاءِ. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيَّ الْكُوفَةِ يَقُولُ: هُوَ دُعَاءٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ فَلَا يُؤْمِنُوا. قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهَا جَوَابًا لِمَسْأَلَتِهِ إِيَّاهُ، لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ خَرَجَتْ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ، فَتَجْعَلُ: {فَلَا يُؤْمِنُوا}، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْجَوَابِ، وَلَيْسَ يَسْهُلُ. قَالَ: وَيَكُونُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: يَا نَاقُ سِيرِي عَنَقًا فَسِيحَا *** إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَريحَا قَالَ: وَلَيْسَ الْجَوَابُ يَسْهُلُ فِي الدُّعَاءِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ عَلَى الدُّعَاءِ، بِمَعْنَى: فَلَا آمَنُوا وَإِنَّمَا اخْتَرْتُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ دُعَاءٌ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، فَإِلْحَاقُ قَوْلِهِ: {فَلَا يُؤْمِنُوا} إِذْ كَانَ فِي سِيَاقِ ذَلِكَ بِمَعْنَاهُ أَشْبَهُ وَأُولَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: مَعْنَاهُ: حَتَّى يَرَوُا الْغَرَقَ وَقَدْ ذَكَّرْنَا الرِّوَايَةَ عَنْهُ بِذَلِكَ مِنْ بَعْضِ وُجُوهِهَا فِيمَا مَضَى. حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}، قَالَ: الْغَرَقُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ إِجَابَتِهِ لِمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَارُونَ دُعَاءَهُمَا عَلَى فِرْعَوْنَ وَأَشْرَافِ قَوْمِهِ وَأَمْوَالِهِمْ. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (قَالَ) اللَّهُ لَهُمَا: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا}، فِي فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وَأَمْوَالِهِمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ نُسِبَتْ “ الْإِجَابَةُ “ إِلَى اثْنَيْنِ وَ“ الدُّعَاءُ “ إِنَّمَا كَانَ مِنْ وَاحِدٍ؟ قِيلَ: إِنِ الدَّاعِيَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا، فَإِنَّ الثَّانِي كَانَ مُؤَمِّنًا، وَهُوَ هَارُونُ فَلِذَلِكَ نُسِبَتِ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِمَا، لِأَنَّ الْمُؤَمِّنَ دَاعٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا}، قَالَ: كَانَ مُوسَى يَدْعُو وَهَارُونُ يُؤْمِنُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا}. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، أَنَّ الْعَرَبَ تُخَاطِبُ الْوَاحِدَ خِطَابَ الِاثْنَيْنِ، وَأَنْشَدَ فِي ذَلِكَ: فَقُلْتُ لِصَاحِبِي لَا تُعْجِلَانَا *** بِنَزْعِ أُصُولِهِ وَاجْتَزَّ شِيحَا حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عُدَيٍّ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} قَالَ: دَعَا مُوسَى وَأَمَّنَ هَارُونُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي وَزَيْدُ بْنُ حَبَابٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: دَعَا مُوسَى وَأَمَّنَ هَارُونُ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ شَيْخٍ لَهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: دَعَا مُوسَى وَأَمَّنَ هَارُونُ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ عَنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا}، قَالَ: دَعَا مُوسَى، وَأَمَّنَ هَارُونُ. قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: دَعَا مُوسَى وَأَمَّنَ هَارُونُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا}. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرْنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: “ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا “ قَالَ: كَانَ مُوسَى يَدْعُو وَهَارُونُ يُؤَمِّنُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} لِمُوسَى وَهَارُونُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ عِكْرِمَةَ: أَمَّنَ هَارُونُ عَلَى دُعَاءِ مُوسَى فَقَالَ اللَّهُ: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا}. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ هَارُونُ يَقُولُ: آمِينَ, فَقَالَ اللَّهُ: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} فَصَارَ التَّأْمِينُ دَعْوَةً صَارَ شَرِيكَهُ فِيهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (فَاسْتَقِيمَا)، فَإِنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالثَّبَاتِ عَلَى أَمْرِهِمَا، مِنْدُعَاءِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِلَى الْإِجَابَةِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ عِقَابُ اللَّهِ الَّذِي أَخْبَرَهُمَا أَنَّهُ أَجَابَهُمَا فِيهِ، كَمَا:- حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (فَاسْتَقِيمَا): فَامْضِيَا لِأَمْرِي، وَهِيَ الِاسْتِقَامَةُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَقُولُونَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ مَكَثَ بَعْدَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، يَقُولُ: وَلَا تَسْلُكَانِّ طَرِيقَ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ حَقِيقَةَ وَعْدِي، فَتَسْتَعْجِلَانِ قَضَائِي، فَإِنَّ وَعْدِي لَا خَلْفَ لَهُ، وَإِنَّ وَعِيدِي نَازِلٌ بِفِرْعَوْنَ وَعَذَابِي وَاقِعٌ بِهِ وَبِقَوْمِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَطَعْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ حَتَّى جَاوَزُوهُ {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ}، يَقُولُ: فَتَبِعَهُمْ فِرْعَوْنُ (وَجُنُودُهُ). يُقَالُ مِنْهُ “ أَتْبَعْتُهُ “ وَ“ تَبِعَتُهُ “ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَدْ كَانَ الْكِسَائِيُّ فِيمَا ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْهُ يَقُولُ: إِذَا أُرِيدَ أَنَّهُ أَتْبَعَهُمْ خَيْرًا أَوْ شَرًّا فَالْكَلَامُ “ أَتْبَعَهُمْ “ بِهَمْزِ الْأَلِفِ، وَإِذَا أُرِيدَ: اتَّبَعَ أَثَرَهُمْ، أَوِ اقْتَدَى بِهِمْ، فَإِنَّهُ مِنَ “ اتَّبَعْتُ “ مُشَدَّدَةَ التَّاءِ غَيْرَ مَهْمُوزَةِ الْأَلِفِ. (بَغْيًا) عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَمِنْ مَعَهُمَا مِنْ قَوْمِهِمَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ (وَعَدْوًا)، يَقُولُ: وَاعْتِدَاءً عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: “ عَدَا فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ فِي الظُّلْمِ، يَعْدُو عَلَيْهِ عَدْوًا “ مِثْلُ “ غَزَا يَغْزُو غَزْوًا “. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: {بَغْيًا وَعُدُوًا}، وَهُوَ أَيْضًا مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: “ عَدَا يَعْدُو عُدُوًّا “، مِثْلُ: “ عَلَا يَعْلُو عُلُوًّا “. {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} يَقُولُ: حَتَّى إِذَا أَحَاطَ بِهِ الْغَرَقُ, وَفِي الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ، قَدْ تَرَكَ ذِكْرَهُ لِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ: “ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا فِيهِ “ فَغَرَّقْنَاهُ {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ}. وَقَوْلُهُ: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبَرًا عَنْ قِيلِ فِرْعَوْنَ حِينَ أَشَفَى عَلَى الْغَرَقِ، وَأَيْقَنَ بِالْهِلْكَةِ: (آمَنْتُ)، يَقُولُ: أَقْرَرْتُ، {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ}. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: (أَنَّهُ) بِفَتْحِ الْأَلْفِ مِنْ “ أَنَّهُ “ عَلَى إِعْمَالِ “ آمَنْتُ “ فِيهَا وَنَصْبِهَا بِهِ. وَقَرَأَ آخَرُونَ: {آمَنْتُ إِنَّهُ} بِكَسْرِ الْأَلْفِ مِنْ “ إِنَّهُ “ عَلَى ابْتِدَاءِ الْخَبَرِ. وَهِيَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ الْكُوفِيِّينَ. وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، وَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: اجْتَمَعَ يَعْقُوبُ وَبَنُوهُ إِلَى يُوسُفَ، وَهُمُ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ، وَخَرَجُوا مَعَ مُوسَى مِنْ مِصْرَ حِينَ خَرَجُوا وَهُمْ سِتُّ مِائَةِ أَلْفٍ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُمْ فِرْعَوْنُ فَرَأَوْهُ قَالُوا: يَا مُوسَى أَيْنَ الْمُخْرِجُ؟ فَقَدْ أَدْرَكْنَا، قَدْ كُنَّا نَلْقَى مِنْ فِرْعَوْنَ الْبَلَاءَ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، وَيَبِسَ لَهُمُ الْبَحْرُ، وَكَشَفَ اللَّهُ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَخَرَجَ فِرْعَوْنُ عَلَى فَرَسٍ؛ حِصَانٍ أَدْهَمَ عَلَى لَوْنِهِ مِنَ الدُّهْمِ ثَمَانِ مِائَةِ أَلْفٍ سِوَى أَلْوَانِهَا مِنَ الدَّوَابِّ، وَكَانَتْ تَحْتَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَسٌ وَدِيقٌ لَيْسَ فِيهَا أُنْثَى غَيْرُهَا، وَمِيكَائِيلَ يَسُوقُهُمْ، لَا يَشِذُّ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَّا ضَمَّهُ إِلَى النَّاسِ. فَلَمَّا خَرَجَ آخِرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، دَنَا مِنْهُ جِبْرِيلُ وَلَصِقَ بِهِ، فَوَجَدَ الْحِصَانُ رِيحَ الْأُنْثَى، فَلَمْ يَمْلِكْ فِرْعَوْنُ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا، وَقَالَ: أَقْدِمُوا، فَلَيْسَ الْقَوْمُ أَحَقُّ بِالْبَحْرِ مِنْكُمْ! ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ حَتَّى إِذَا هَمَّ أَوَّلُهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا، ارْتَطَمَ وَنَادَى فِيهَا: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، وَنُودِيَ: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلٌ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَرْفَعُهُ أَحَدُهُمَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ جِبْرَائِيلَ كَانَ يَدُسُّ فِي فَمِ فِرْعَوْنَ الطِّينَ مَخَافَةَ أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدِ الْعَنْقَزِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «جَعَلَ جِبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدُسُّ أَوْ: يَحْشُو فِي فَمِ فِرْعَوْنَ الطِّينَ، مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ». حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ عَنْ عَنْبَسَةَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَاذَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « قَالَ لِي جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَغَطُّهُ وَأَدُسُّ مِنَ الْحَالِ فِي فِيهِ، مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ فَيَغْفِرَ لَهُ! يَعْنِي فِرْعَوْنَ ». حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِمَا أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ قَالَ: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ}، فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخِذٌ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ وَأَدَسِّيهِ فِي فِيهِ؛ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرٌو عَنْ حَكَّامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ “ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ “ جَعَلَ جِبْرِيلُ يَحْشُوا فِي فِيهِ الطِّينَ وَالتُّرَابَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ}، قَالَ: » أَخَذَ جِبْرَائِيلُ مِنْ حَمْأَةِ الْبَحْرِ فَضَرَبَ بِهَا فَاهُ أَوْ قَالَ: مَلَأَ بِهَا فَاهُ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: خَطَبَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ فَحَمِدَ اللَّهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَبْدًا طَاغِيًا نَاسِيًا لِذِكْرِ اللَّهِ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، قَالَ اللَّهُ: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}. قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ جَعَلَ جِبْرِيلُ يَحْشُو فِي فِيهِ التُّرَابَ خَشْيَةَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ. قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ عِيسَى بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: مَا حَسَدْتُ أَحَدًا مِنْ بَنِي آدَمَ الرَّحْمَةَ إِلَّا فِرْعَوْنَ فَإِنَّهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ: خَشِيتُ أَنْ تَصِلَ إِلَى الرَّبِّ فَيَرْحَمَهُ، فَأَخَذْتُ مِنْ حَمْأَةِ الْبَحْرِ وَزَبَدِهِ، فَضَرَبْتُ بِهِ عَيْنَيْهِ وَوَجْهَهُ. قَالَ: أَخْبَرْنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ عُمَرَ بْنِ يَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَقَدْ حَشَوْتُ فَاهُ الْحَمْأَةَ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مُعَرِّفًا فِرْعَوْنَ قُبْحَ صَنِيعِهِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ وَإِسَاءَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ أَيَّامَ صِحَّتِهِ، بِتَمَادِيهِ فِي طُغْيَانِهِ، وَمَعْصِيَتِهِ رَبَّهُ، حِينَ فَزِعَ إِلَيْهِ فِي حَالَ حُلُولِ سَخَطِهِ بِهِ وَنُزُولِ عِقَابِهِ، مُسْتَجِيرًا بِهِ مِنْ عَذَابِهِ الْوَاقِعِ بِهِ، لِمَا نَادَاهُ وَقَدْ عَلَتْهُ أَمْوَاجُ الْبَحْرِ، وَغَشِيَتْهُ كُرَبُ الْمَوْتِ: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} لَهُ، الْمُنْقَادِينَ بِالذِّلَّةِ لَهُ، الْمُعْتَرِفِينَ بِالْعُبُودِيَّةِ الْآنَ تُقِرُّ لِلَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَتَسْتَسْلِمُ لَهُ بِالذِّلَّةِ، وَتُخْلِصُ لَهُ الْأُلُوهَةَ، وَقَدْ عَصَيْتَهُ قَبْلَ نُزُولِ نِقْمَتِهِ بِكَ، فَأَسْخَطْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ، وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، الصَّادِّينَ عَنْ سَبِيلِهِ؟ فَهَلَّا وَأَنْتَ فِي مَهَلٍ، وَبَابُ التَّوْبَةِ لَكَ مُنْفَتِحٌ، أَقْرَرْتَ بِمَا أَنْتَ بِهِ الْآنَ مُقِرٌّ؟
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِفِرْعَوْنَ: الْيَوْمَ نَجْعَلُكَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ بِبَدَنِكَ، يَنْظُرُ إِلَيْكَ هَالِكًا مِنْ كَذَّبَ بِهَلَاكِكَ {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}، يَقُولُ: لِمَنْ بَعْدَكَ مِنَ النَّاسِ عِبْرَةً يَعْتَبِرُونَ بِكَ، فَيَنْزَجِرُونَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَالْكَفْرِ بِهِ وَالسَّعْيِ فِي أَرْضِهِ بِالْفَسَادِ. وَ“ النَّجْوَةُ “ الْمَوْضِعُ الْمُرْتَفِعُ عَلَى مَا حَوْلَهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ: فَمَنْ بِعَقْوَتِهِ كَمَنْ بِنَجْوَتِهِ *** وَالْمُسْتَكِنُّ كَمَنْ يَمْشِي بِقِرْوَاحِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي السَّلِيلِ عَنْ قَيْسِ بْنِ عِبَادٍ وَغَيْرِهِ قَالَ: قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ فِرْعَوْنُ! قَالَ: فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ مِثْلَ الثَّوْرِ الْأَحْمَرِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ سَعِيدٍ الْجَرِيرِيِّ عَنْ أَبِي السَّلِيلِ عَنْ قَيْسِ بْنِ عِبَاد قَالَ وَكَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ أَوْ: أَحْدَثِ النَّاسِ عَنْ بَنَى إِسْرَائِيلَ قَالَ: فَحَدَّثَنَا أَنَّ أَوَّلَ جُنُودِ فِرْعَوْنَ لِمَا انْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ، هَابَتِ الْخَيْلُ اللِّهْبَ. قَالَ: وَمُثِّلَ لِحِصَانٍ مِنْهَا فَرَسٌ وَدِيقٌ، فَوَجَدَ رِيحَهَا أَحْسَبُهُ أَنَا قَالَ: فَانْسَلَّ فَاتَّبَعَتْهُ. قَالَ: فَلَمَّا تَتَامَّ آخِرُ جُنُودِ فِرْعَوْنَ فِي الْبَحْرِ، وَخَرَجَ آخِرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أُمِرَ الْبَحْرُ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: مَا مَاتَ فِرْعَوْنُ وَمَا كَانَ لِيَمُوتَ أَبَدًا! فَسَمِعَ اللَّهُ تَكْذِيبَهُمْ نَبِيَّهُ، قَالَ: فَرَمَى بِهِ عَلَى السَّاحِلِ كَأَنَّهُ ثَوْرٌ أَحْمَرُ، يَتَرَاءَاهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ}، قَالَ: “ بَدَنُهُ “، جَسَدُهُ، رَمَى بِهِ الْبَحْرُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} قَالَ: بِجَسَدِكَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا جَاوَزَ مُوسَى الْبَحْرَ بِجَمِيعِ مَنْ مَعَهُ، التَّقَى الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ يَعْنِي عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَأَغْرَقَهُمْ، فَقَالَ أَصْحَابُ مُوسَى: إِنَّا نَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ فِرْعَوْنُ غَرِقَ، وَلَا نُؤْمِنُ بِهَلَاكِهِ! فَدَعَا رَبَّهُ فَأَخْرَجَهُ فَنَبَذَهُ الْبَحْرُ، حَتَّى اسْتَيْقَنُوا بِهَلَاكِهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}، يَقُولُ: أَنْكَرَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَذْفَهُ اللَّهُ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}، قَالَ: لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ لَمْ تُصَدِّقْ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ بِذَلِكَ، فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ آيَةً وَعِظَةً. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي السَّلِيلِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عِبَاد أَوْ غَيْرِهِ، بِنَحْوِ حَدِيثِ ابْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ}، قَالَ: بِجَسَدِكَ. قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ}، قَالَ: بِجَسَدِكَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: كَذَّبَ بَعْضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَوْتِ فِرْعَوْنَ فَرَمَى بِهِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ لِيَرَاهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، قَالَ أَحْمَرُ: كَأَنَّهُ ثَوْرٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: تَنْجُو بِجَسَدِكَ مِنَ الْبَحْرِ، فَنُخْرِجُهُ مِنْهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}، يَقُولُ: أَنْجَى اللَّهُ فِرْعَوْنَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْبَحْرِ، فَنَظَرُوا إِلَيْهِ بَعْدَ مَا غَرِقَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ: (بِبَدَنِكَ)؟ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْجِيَهُ بِغَيْرِ بَدَنِهِ، فَيَحْتَاجُ الْكَلَامُ إِلَى أَنْ يُقَالَ فِيهِ (بِبَدَنِكَ)؟ قِيلَ: كَانَ جَائِزًا أَنْ يُنْجِيَهُ بِهَيْئَتِهِ حَيًّا كَمَا دَخَلَ الْبَحْرَ. فَلَمَّا كَانَ جَائِزًا ذَلِكَ قِيلَ: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ}، لِيَعْلَمَ أَنَّهُ يُنَجِّيهِ بِالْبَدَنِ بِغَيْرِ رُوحٍ، وَلَكِنْ مَيْتًا. وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}. ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا}، يَعْنِي: عَنْ حُجَجِنَا وَأَدِلَّتِنَا عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ وَالْأُلُوهَةَ لَنَا خَالِصَةٌ (لَغَافِلُونَ)، يَقُولُ: لَسَاهُونَ، لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهَا وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنَازِلَ صِدْقٍ. قِيلَ: عَنَى بِذَلِكَ الشَّأْمَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَقِيلَ: عَنَى بِهِ الشَّأْمَ وَمِصْرَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ وَأَبُو خَالِدٍ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ: {مُبَوَّأَ صِدْقٍ}، قَالَ: مَنَازِلَ صِدْقٍ مِصْرَ وَالشَّأْمَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: {مُبَوَّأَ صِدْقٍ}، قَالَ: بَوَّأَهُمُ اللَّهُ الشَّأْمَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ}، الشَّامَ. وَقَرَأَ: {إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [سُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ: 71] وَقَوْلُهُ: {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، يَقُولُ: وَرَزَقَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ حَلَالِ الرِّزْقِ وَهُوَ (الطَّيِّبُ). وَقَوْلُهُ: {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ}، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَمَا اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَعَلْنَا بِهِمْ هَذَا الْفِعْلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى جَاءَهُمْ مَا كَانُوا بِهِ عَالِمِينَ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْمَعَيْنِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ وَالْإِقْرَارِ بِهِ وَبِمَبْعَثِهِ، غَيْرَ مُخْتَلِفِينَ فِيهِ بِالنَّعْتِ الَّذِي كَانُوا يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَآمَنَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْهُمْ كَانُوا عَدَدًا قَلِيلًا. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْمَعْلُومُ الَّذِي كَانُوا يَعْلَمُونَهُ نَبِيًّا لِلَّهِ فَوَضَعَ (الْعِلْمُ) مَكَانُ (الْمَعْلُومِ). وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ (الْعِلْمَ) هَا هُنَا، كِتَابَ اللَّهِ وَوَحْيَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍفِي قَوْلِهِ: {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ}، قَالَ: (الْعِلْمُ)، كِتَابُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ، وَأَمْرُهُ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ، وَهَلِ اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ؟ أَهْلُ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ, هَلِ اقْتَتَلُوا إِلَّا عَلَى الْبَغْيِ قَالَ: وَ“ الْبَغْيُ “ وَجْهَانِ: وَجْهُ النَّفَاسَةِ فِي الدُّنْيَا وَمَنِ اقْتَتَلَ عَلَيْهَا مِنْ أَهْلِهَا، وَبَغَيٌ فِي “ الْعِلْمِ “، يَرَى هَذَا جَاهِلًا مُخْطِئًا، وَيَرَى نَفْسَهُ مُصِيبًا عَالِمًا، فَيَبْغِي بِإِصَابَتِهِ وَعِلْمِهِ عَلَى هَذَا الْمُخْطِئِ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ رَبَّكَ، يَا مُحَمَّدُ يَقْضِي بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فِيمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ أَمْرِي فِي الدُّنْيَا يَخْتَلِفُونَ، بِأَنْ يُدْخِلَ الْمُكَذِّبِينَ بِكَ مِنْهُمُ النَّارَ، وَالْمُؤْمِنِينَ بِكَ مِنْهُمُ الْجَنَّةَ، فَذَلِكَ قَضَاؤُهُ يَوْمَئِذٍ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنْ كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ فِي شَكٍّ مِنْ حَقِيقَةِ مَا اخْتَرْنَاكَ فَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ، مِنْ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي نُبُوَّتِكَ قَبْلَ أَنْ تَبْعَثَ رَسُولًا إِلَى خَلْقِهِ، لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَكَ عِنْدَهُمْ مَكْتُوبًا، وَيَعْرِفُونَكَ بِالصِّفَةِ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مَوْصُوفٌ فِي كِتَابِهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ}، مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَنَحْوِهِ، مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْإِيمَانِ بِكَ مِنْهُمْ، دُونَ أَهْلِ الْكَذِبِ وَالْكُفْرِ بِكَ مِنْهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ}، قَالَ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، الَّذِينَ أَدْرَكُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَآمَنُوا بِهِ، يَقُولُ: فَاسْأَلْهُمْ إِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ بِأَنَّكَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍفِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلَكَ}، قَالَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَآمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرْنَا عُبَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ}، يَعْنِي أَهْلَ التَّقْوَى وَأَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، مِمَّنْ أَدْرَكَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَوَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَكٍّ مِنْ خَبَرِ اللَّهِ أَنَّهُ حَقٌّ يَقِينٍ، حَتَّى قِيلَ لَهُ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ}؟ قِيلَ: لَا وَكَذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ}، فَقَالَ: لَمْ يَشُكِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْأَلْ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ}، قَالَ: مَا شَكَّ وَمَا سَأَلَ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرْنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمَنْصُورٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: لَمْ يَشُكَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْأَلْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ}، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ}، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ. فَإِنْ قَالَ: فَمَا وَجْهُ مَخْرَجِ هَذَا الْكَلَامِ، إِذَنْ، إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتَ؟ قِيلَ: قَدْ بَيَّنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، اسْتِجَازَةَ الْعَرَبِ قَوْلَ الْقَائِلِ مِنْهُمْ لِمَمْلُوكِهِ: “ إِنْ كُنْتَ مَمْلُوكِي فَانْتَهِ إِلَى أَمْرِي “ وَالْعَبْدُ الْمَأْمُورُ بِذَلِكَ لَا يَشُكُّ سَيِّدُهُ الْقَائِلُ لَهُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَبْدُهُ. كَذَلِكَ قَوْلُ الرَّجُلِ مِنْهُمْ لِابْنِهِ: “ إِنْ كُنْتَ ابْنِي فَبَرَّنِي “، وَهُوَ لَا يَشُكُّ فِي ابْنِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِمْ صَحِيحٌ مُسْتَفِيضٌ فِيهِمْ، وَذَكَرْنَا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ، وَأَنَّ مِنْهُ قَوْلَ اللَّهِ: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، [سُورَةَ الْمَائِدَةِ: 116]، وَقَدْ عَلِمَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ عِيسَى لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ. وَهَذَا مِنْ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاكًّا فِي حَقِيقَةِ خَبَرِ اللَّهِ وَصِحَّتِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ كَانَ عَالَمًا، وَلَكِنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَاطَبَهُ خِطَابَ قَوْمِهِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، إِذْ كَانَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ نَزَلَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} الْآيَةَ، فَهُوَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ مُبْتَدَأٌ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أُقْسِمُ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ الْيَقِينُ مِنَ الْخَبَرِ بِأَنَّكَ لِلَّهِ رَسُولٌ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَعْلَمُونَ صِحَّةَ ذَلِكَ، وَيَجِدُونَ نَعْتَكَ عِنْدَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}، يَقُولُ: فَلَا تَكُونُنَّ مِنَ الشَّاكِّينَ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ وَحَقِيقَتِهِ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خُوطِبَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِهَا بَعْضُ مِنْ لَمْ يَكُنْ صَحَّتْ، بَصِيرَتُهُ بِنُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِمَّنْ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ بِلِسَانِهِ، تَنْبِيهًا لَهُ عَلَى مَوْضِعِ تُعْرُّفِ حَقِيقَةِ أَمْرِهِ الَّذِي يُزِيلُ اللَّبْسَ عَنْ قَلْبِهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}، [سُورَةَ الْأَحْزَابِ: 1]، كَانَ قَوْلًا غَيْرَ مَدْفُوعَةٍ صِحَّتُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَيَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تَكُونُنَّ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِحُجَجِ اللَّهِ وَأَدِلَّتِهِ، فَتَكُونَ مِمَّنْ غُبِنَ حَظُّهُ، وَبَاعَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَرِضَاهُ، بِسَخَطِهِ وَعِقَابِهِ.
|