الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***
{رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} {ربنا آتهم} يعنون السادة والكبراء {ضعفين من العذاب} يعني ضعفي عذاب غيرهم {والعنهم لعناً كبيراً} قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين أذوا موسى فبرأه الله مما قالوا} يعني فطهره الله مما قالوا فيه {وكان عند الله وجيهاً} يعني كريماً ذا جاه وقد قال ابن عباس كان حظياً عند الله لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه، وقيل كان مستجاب الدعوة وقيل كان محببا مقبولاً واختلفوا فيما أوذي به موسى، فروى أبو هريرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل، وحده فقالوا والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر قال فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال فجمع موسى، بأثره يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس فقام الحجر حتى نظر إليه قال فأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضرباً» قال أبو هريرة والله إن بالحجر ندباً ستة أو سبعة من ضرب موسى الحجر أخرجه البخاري ومسلم وللبخاري، قال قال رسول الله صلى الله عليه سلم «إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى شيء من جسده استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص وإما أدرة وإما آفة وأن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى فخلا يوماً وحده، فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وأن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى العصا وطلب الحجر وجعل يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، ورأوه عرياناً أحسن ما خلق الله، وبرأة مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه ولبسه وطفق بالحجر ضرباً بعصاه فوالله إن بالحجر لندبا من أثر الضرب ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً» فذلك قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً} الأدرة عظم الخصية لنفخة فيها، وقوله فجمع أي أسرع وقوله ثوبي حجر أي دع ثوبي يا حجر قوله وطفق أي جعل يضرب الحجر، وقوله ندباً هو بفتح النون والدال وهو الأصح وأصله أثر الجرح، إذا لم يرتفع عن الجلد فشبه به الضرب، بالحجر، المحدثون يقولون ندبا بسكون الدال وقيل في معنى الآية أن أذاهم إياه، أنه لما مات هارون في التيه ادعوا على موسى أنه قتله فأمر الله تعالى الملائكة حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله فبرأه الله مما قالوا: وقيل إن قارون استأجر بغياً لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمها الله، وبرأ موسى من ذلك وأهلك قارون (ق) عن عبد الله بن مسعود قال «لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة بن حصن مثل ذلك وأعطى ناساً من أشراف العرب وآثرهم في القسمة فقال رجل والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله فقلت والله لأخبرن رسول لله صلى الله عليه وسلم قال فأتيته فأخبرته بما قال: فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال «فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ثم قال: يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» الصرف بكسر الصاد صبغ أحمر يصبغ به الأديم. قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً}. قال ابن عباس صواباً وقيل: عدلاً وقيل صدقاً وقيل قول هو لا إله إلا الله {يصلح لكم أعمالكم} قال ابن عباس: يتقبل حسناتكم {ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} أي ظفر بالخير العظيم. قوله عز وجل {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال} الآية قال ابن عباس: أراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده عرضها على السموات والأرض والجبال على أنهم إذا أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذبهم وقال ابن مسعود: الأمانة أداء الصلوات وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت وصدق الحديث، وقضاء الدين والعدل في المكيال والميزان وأشد من هذا كله الودائع وقيل: جميع ما أمروا به ونهوا عنه وقيل هي الصوم وغسل الجنابة وما يخفى من الشرائع، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص أول ما خلق الله من الإنسان الفرج وقال: هذه الأمانة استودعكها فالفرج أمانة والأذن أمانة والعين أمانة واليد أمانة والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له، وفي رواية عن ابن عباس هي أمانات الناس والوفاء بالعهود فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمناً، ولا معاداً في شيء لا في قليل ولا كثير فعرض الله تعالى هذه الأمانة على أعيان السموات ولأرض والجبال وهذا قول جماعة من التابعين وأكثر السلف فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة بما فيها قلن وما فيها قال: إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن قلن يا رب نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً وقلن ذلك خوفاً وخشية وتعظيماً لدين الله تعالى: أن لا يقوموا بها لا معصية ولا مخالفة لأمره، وكان العرض عليهم تخييراً لا إلزاماً، ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها والجمادات كلها خاضعة لله عز وجل، مطيعة لأمره ساجدة له قال بعض أهل العلم ركب الله تعالى فيهن العقل والفهم حين عرض عليهم الأمانة، حتى عقلن الخطاب وأجبن بما أجبن وقيل المراد من العرض على السموات والأرض، هو العرض على أهلها من الملائكة دون أعيانها، والقول الأول أصح وهو قول العلماء {فأبين أن يحملنها وأشفقن منها} أي خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب {وحملها الإنسان} يعني آدم قال الله عز وجل لآدم إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم تطقها، فهل أنت آخذها بما فيها قال يا رب، وما فيها قال: إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت فتحملها آدم فقال: بين أذني وعاتقي قال الله أما إذا تحملت فسأعينك وأجعل لبصرك حجاباً فإذا خشيت أن لا تنظر إلى ما لا يحل فارخ عليه حجابه واجعل للسانك لحيين وغلاقاً فإذا خشيت فأغلقه، واجعل لفرجك لباساً فلا تكشفه على ما حرمت عليك قال مجاهد فما كان بين أن تحملها، وبين أن أخرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر وقيل إن ما كلف الإنسان حمله بلغ من عظمه، وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله تعالى من الإجرام، وأقواه وأشده أن يحتمله ويستقبل به فأبى حمله وأشفق منه وحمله الإنسان على ضعفه وضعف قوته {إنه كان ظلوماً جهولاً}. قال ابن عباس: إنه كان ظلوماً لنفسه جهولاً بأمر ربه وما تحمل من الأمانة وقيل ظلوماً حين عصى ربه جهولاً أي لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة وقيل ظلوماً جهولاً حيث حمل الأمانة، ثم لم يف بها وضمنها ولم يف بضمانها وقيل في تفسير الآية أقوال أخر، وهو أن الله تعالى ائتمن السموات والأرض والجبال على كل شيء، وائتمن آدم وأولاده على شيء فالأمانة في حق الأجرام العظام هي الخضوع والطاعة لما خلقهن له، وقوله فأبين أن يحملنها أي أدين الأمانة ولم يخن فيها وأما الأمانة في حق بني آدم، فهي ما ذكر من الطاعة والقيام بالفرائض وقوله وحملها الإنسان أي خان فيها، وعلى هذا القول حكي عن الحسن أنه قال الإنسان هو الكافر والمنافق حملا الأمانة وخانا فيها، والقول الأول هو قول السلف وهو الأولى.
فصل في الأمانة (ق) عن حذيفة بن اليمان قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا انتظر الآخر حدثنا «إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة» ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبراً، وليس فيه شيء ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله، فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً حتى يقال: للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ولقد أتى على زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلماً ليردنه على دينه، ولئن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنه على ساعيه وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً» قوله: نزلت الأمانة في جذر قلوب الرجال جذر الشيء أصله والوكت الأثر اليسير، كالنقطة في الشيء من غير لونه، والمجل غلظ الجلد من أثر العمل وقيل إنما هو النفطات في الجلد، وقد فسره الحديث والمنتبر المنتفخ وليس فيه شيء (خ) عن أبي هريرة قال «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم فجاء أعرابي فقال متى الساعة فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث فقال بعض القوم سمع ما قال فكره ما قال وقال بعضهم لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قال:» أين السائل عن الساعة قال: ها أنا يا رسول الله قال إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال: كيف إضاعتها يا رسول الله قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة «وعنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم» أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك «أخرجه أبو داود والترمذي. وقال حديث حسن غريب.
{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)} قوله تعالى: {ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} أي بما خانوا الأمانة ونفقضوا العهد {ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات} أي يهديهم ويرحمهم بما أدوا من الأمانة. وقيل: عرضنا الأمانة ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذبهما الله، ويظهر إيمان المؤمن فيتوب عليه أي يعود عليه بالرحمة والمغفرة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات {وكان الله غفوراً رحيماً} والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} قوله عز وجل: {الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض} معناه أن كل نعمة من الله، فهو الحقيق بأن يحمد ويثنى عليه من أجلها، ولما قال: الحمد لله وصف ملكه فقال: الذي له ما في السموات وما في الأرض أي ملكاً وخلقاً {وله الحمد في الآخرة} أي كما هو له في الدنيا لأن النعم في الدارين كلها منه، فكما أنه المحمود على نعم الدنيا فهو المحمود على نعم الآخرة وقيل: الحمد في الآخرة هو حمد أهل الجنة كما ورد «يلهمون التسبيح والحمد كما يلهمون النفس» {وهو الحكيم} أي الذي أحكم أمور الدارين {الخبير} أي بكل ما كان وما يكون {يعلم ما يلج في الأرض} أي من المطر والكنوز والأموات {وما يخرج منها} أي من النبات والشجر والعيون والمعادن والأموات إذا بعثوا {وما ينزل من السماء} أي من المطر والثلج والبرد، وأنواع البركات والملائكة {وما يعرج فيها} أي في السماء من الملائكة وأعمال العباد {وهو الرحيم الغفور} أي للمفرطين في أداء ما وجب عليهم من شكر نعمه قوله تعالى {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة} معناه أنهم أنكروا البعث وقيل: استبطؤوا ما وعدوه من قيام الساعة على سبيل اللهو والسخرية {قل بلى وربي لتأتينكم} يعني الساعة {عالم الغيب} أي لا يفوت علمه شيء من الخفيات وإذا كان كذلك اندرج في علمه، وقت قيام الساعة وأنها أتية {لا يعزب عنه} أي لا يغيب عنه {مثقال ذرة} يعني وزن ذرة {في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك} أي من الذرة {ولا أكبر إلا من كتاب مبين} يعني في اللوح المحفوظ {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة} أي لذنوبهم {ورزق كريم} يعني الجنة.
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)} {والذين سعوا في آياتنا} يعني في ابطال أدلتنا معجزين يعني يحسبون أنهم يفوتوننا {أولئك لهم عذاب من رجز أليم} قيل الرجز سوء العذاب {ويرى الذين أوتوا العلم} يعني مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم {الذي أنزل إليك من ربك} يعني القرآن {وهو الحق} يعني أنه من عند الله {ويهدي} أي القرآن {إلى صراط العزيز الحميد} أي إلى دين الإسلام {وقال الذين كفروا} أي المنكرين للبعث المتعجبين منه {هل ندلكم} أي قال بعضهم لبعض هل ندلكم {على رجل ينبئكم} يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم معناه يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب وهي أنكم {إذا مزقتم كل ممزق} أي قطعتم كل تقطيع وفرقتم كل تفريق، وصرتم تراباً {إنكم لفي خلق جديد} أي يقول إنكم تبعثون وتنشئون خلقاً جديداً بعد أن تكونوا رفاتاً وتراباً {أفترى على الله كذباً} أي أهو مفتر على الله كذباً فيما ينسب إليه من ذلك؟ {أم به جنة} أي جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه قال الله تعالى: رداً عليهم ليس بمحمد صلى الله عليه وسلم من الافتراء والجنون شيء وهو مبرأ منهما {بل الذين لا يؤمنون بالآخرة} يعني منكري البعث {في العذاب والضلال البعيد} أي عن الحق في الدنيا {أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض} أي فيعلموا أنهم حيث كانوا في أرضي وتحت سمائي، فإن أرضي وسمائي محيطة بهم لا يخرجون من أقطارها وأنا قادر عليهم {إن نشأ نخسف بهم الأرض} أي كما خسفنا بقارون {أو نسقط عليهم كسفاً من السماء} أي كما فعلنا بأصحاب الأيكة {إن في ذلك} أي فبما ترون في السماء والأرض {لآية} أي تدل على قدرتنا على البعث بعد الموت {لكل عبد منيب} أي تائب راجع إلى الله تعالى بقلبه. قوله عز وجل {ولقد آتينا داود منا فضلاً} يعني النبوة والكتاب. وقيل الملك وقيل هو جميع ما أوتي من حسن الصوت، وغير ذلك مما خص به {يا جبال أوبي معه} أي وقلنا يا جبال سبحي معه إذا سبح وقيل: رجعي معه إذا رجع ونوحي معه إذا ناح {والطير} أي وأمرنا الطير أن تسبح معه فكان داود إذا نادى بالتسبيح أو بالناحية أجابته الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه وقيل كان داود إذا لحقه ملل أو فتور أسمعه الله تعالى تسبيح الجبال فينشط له {وألنا له الحديد} يعني كان الحديد في يده كالشمع أو كالعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة قيل سبب ذلك أن داود عليه السلام لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج إلى الناس متنكراً فإذا رأى إنسانا لا يعرفه تقدم إليه، وسأله عن داود فيقول له ما تقول في داود وإليكم هذا أي رجل هو فيثنون عليه ويقولون خيرا فقيض الله له ملكا في صورة آدمي، فلما رآه داود تقدم إليه على عادته فسأله فقال الملك: نعم الرجل هو لولا خصلة فيه فراع داود عليه الصلاة والسلام، ذلك، وقال ما هي يا عبد الله قال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال قال فتنبه لذلك وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يستغني به عن بيت المال فيتقوت منه ويطعم عياله فألان الله له الحديد وعلمه صنعة الدروع وأنه أول من اتخذها، وكانت قبل ذلك صفائح وقيل إنه كان يبيع كل درع بأربعة آلاف فيأكل منها، ويطعم عياله ويتصدق منها على الفقراء والمساكين وقد صح في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده» {أن اعمل سابغات} أي دروعاً كوامل واسعات طوالاً تسحب في الأرض قيل: كان يعمل كل يوم درعاً {وقدر في السرد} أي ضيق في نسخ الدرع وقيل قدر المسامير في حلق الدرع ولا تجعل المسامير دقاقا فتفلت ولا تثبت، ولا غلاظاً فتكسر الحلق وقيل قدر في السرد أي اجعله على القصد وقدر الحاجة {واعملوا صالحاً} يريد داود وآله {إني بما تعملون بصير}. قوله تعالى {ولسليمان الريح} أو وسخرنا لسليمان الريح {غدوها شهر ورواحها شهر} معناه أن مسير غدو تلك الريح المسخرة له مسيرة شهر ومسير رواحها مسيرة شهر فكانت تسير به في يوم واحد مسيرة شهرين، قيل كان يغدو من دمشق فيقيل باصطخر وبينهما مسيرة شهر، ثم يروح من اصطخر فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع وقيل إنه كان يتغذى بالري ويتعشى بسمرقندى {وأسلنا له عين القطر} أي أذبنا له عين النحاس قال أهل التفسير: أجريب له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء، وكان بأرض اليمن وقيل أذاب الله لسليمان النحاس كما ألان لداود الحديد {ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه} أي بأمر ربه قال ابن عباس سخر الله الجن لسليمان عليه الصلاة والسلام، وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به {ومن يزغ} أي يعدل {منهم} من الجن {عن أمرنا} أي الذي أمرنا به من طاعة سليمان {نذقه من عذاب السعير} قيل هذا في الآخرة وقيل: في الدنيا وذلك أن الله تعالى وكل بهم ملكاً بيده سوط من نار فمن زاغ منهم عن طاعة سليمان ضربه بذلك السوط ضربة أحرقته.
{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)} {يعملون له ما يشاء من محاريب} أي مساجد وقيل: هي الأبنية المرتفعة والقصور والمجالس الشريفة المصونة عن الابتذال، كان مما عملوا له بيت المقدس وذلك أن داود عليه الصلاة والسلام ابتدأه ورفعه قامة رجل، فأوحى الله إليه لم أقض ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان أقضي إتمامه على يديه فلما توفي داود عليه السلام واستخلف سليمان عليه الصلاة والسلام أحب إتمام بيت المقدس فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال، وخص كل طائفة بعمل فارسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والبلور من معادنهما وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفائح وجعلها اثني عشر ربضا وأنزل على كل ربض منها سبطاً من الأسباط، فلما فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فرقاً منهم من يستخرج الذهب والفضة من معادنهما، ومنهم من يستخرج الجواهر واليواقيت والدر الصافي من أماكنها، ومنهم من يأتيه بالمسك والعنبر والطيب من أماكنها فأتى من ذلك بشيء كثير لا يحصيه إلا الله تعالى ثم أحضر الصناع وأمرهم بنحت تلك الأحجار وتصييرها ألواحاً وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلئ فبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين البلور الصافي وسقفه بأنواع الجواهر الثمينة، وفصص سقوفه وحيطانه باللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفيروزج فلم يكن على وجه تلك الأرض يومئذ بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد فكان يضيء في الظلمة، كالقمر ليلة البدر فلما فرغ منه جمع إليه أحبار بني إسرائيل، وأعلمهم أنه بناه لله تعالى وأن كل شيء فيه خالص له واتخذ ذلك اليوم عيداً. روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل، حكماً يوافق حكمه فأوتيه وسأل الله تعالى ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه إلا أخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه» أخرجه النسائي ولغير النسائي، «سأل ربه ثلاثاً فأعطاه اثنتين، وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة» وذكر نحوه قوله لا ينهزه أي لا ينهضه إلا الصلاة قالوا: فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان عليه الصلاة والسلام حتى غزاه بختنصر فخرب المدينة، وهدم المسجد وأخذ ما فيه من الذهب والفضة وسائر أنواع الجواهر، وحمله إلى دار ملكه بالعراق وبنى الشياطين لسليمان باليمن قصوراً وحصوناً عجيبة من الصخر. وقوله عز وجل {وتماثيل} أي ويعملون له تماثيل أي صوراً من نحاس ورخام وزجاج قيل كانوا يصورون السباع والطيور وغيرها، وقيل كانوا يصورون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة قيل: يحتمل أن اتخاذ الصور كان مباحاً في شريعتهم وهذا مما يجوز أن يختلف فيه الشرائع، لأنه ليس من الأمور القبيحة في العقل كالقتل والظلم والكذب ونحوها مما يقبح في كل الشرائع قيل: عملوا له أسدين تحت كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط له الأسدان ذراعيهما، وإذا جلس أظله النسران بأجنحتهما وقيل: عملوا له الطواويس والعقبان والنسور على درجات سريره وفوق كرسيه لكي يهابه من أراد الدنو منه {وجفان} أي قصاع {كالجواب} أي كالحياض التي يجبى فيها الماء أي يجتمع قيل كان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها {وقدور راسيات} أي ثابتات على أثافيها لا تحرك، ولا تنزل عن أماكنها لعظمهن وكان يصعد إليها بالسلالم وكان باليمن {اعلموا آل داود شكراً} أي وقلنا يا آل داود واعملوا بطاعة الله تعالى شكراً على نعمه قيل: المراد من آل داود نفسه وقيل داود وسليمان وأهل بيته قال ثابت البناني كان داود نبي الله عليه الصلاة والسلام قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ليل أو نهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي {وقليل من عبادي الشكور} أي قليل العامل بطاعتي شكراً لنعمتي. قوله تعالى {فلما قضينا عليه الموت} أي على سليمان قال: العلماء: كان سليمان يتجرد للعبادة في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر فيدخل فيه ومعه طعامه وشرابهم فدخله المرة التي مات فيها وكان سبب ذلك أنه كان لا يصبح يوماً إلا وقد نبتت في محرابه ببيت المقدس شجرة فيسألها: ما اسمك؟ فتقول: كذا وكذا فيقول لأي شيء خلقت؟ فتقول: لكذا وكذا فيأمر بها فتقطع. فإن كانت لغرس أمره بها فغرست وإن كانت لدواء كتب ذلك حتى نبتت الخروبة فقال: لها ما أنت قالت أنا الخروبة قال ولأي شيء نبت قالت لخراب مسجدك، قال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس، ثم نزعها وغرسها في حائط له ثم قال: اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب شيئاً، ويعلمون ما في غد ثم دخل المحراب وقام يصلي على عادته متكئاً على عصاه فمات قائماً، وكان للمحراب كوى من بين يديه، ومن خلقه فكان الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملون في حياة سليمان، وينظرون إليه ويحسبون أنه حي ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته، وانقطاعه قبل ذلك فمكثوا يدأبون بعد موته حولاً كاملاً حتى أكلت الأرضة عصا سليمان، فخر ميتاً فعلموا بموته قال ابن عباس: فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب فذلك قوله تعالى {ما دلهم على موته إلا دابة الأرض} يعني الأرضة {تأكل منسأته} قال البخاري يعني عصاه {فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} معناه علمت الجن وأيقنت أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في التعب والشقاء مسخرين لسليمان، وهو ميت ويظنونه حياً أراد الله تعالى بذلك أن يعلم الجن أنه لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا يظنون ذلك لجهلهم وقيل في معنى الآية أنه ظهر أمر الجن وانكشف للانس أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك ذكر أهل التاريخ أن سليمان ملك، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وبقي في الملك مدة أربعين سنة وشرع في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه، وتوفي وهو ابن ثلاث وخمسين.
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)} وقوله عز وجل: {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية} عن فروة بن مسيك المرادي قال: «لما أنزل في سبأ ما أنزل قال رجل يا رسول الله: وما سبأ أرض أو امرأة قال: ليس بأرض ولا امرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسان وعاملة، وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار، فقال رجل: يا رسول الله وما أنمار؟ قال الذين منهم خثعم وبجيلة» أخرجه الترمذي مع زيادة. وقال حديث حسن غريب وسبأ هو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان في مسكنهم أي بمأرب من أرض اليمن، آية أي دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا ثم فسر الآية فقال تعالى {جنتان} أي بستانان {عن يمين وشمال} يعني عن يمين الوادي وشماله وقيل عن يمين من أتاهما وشماله وقيل كان لهم واد قد أحاطت بهم الجنتان {كلوا} أي قيل لهم كلوا {من رزق ربكم} أي من ثمار الجنتين قيل كانت المرأة تحمل مكتلها على رأسها وتمر بالجنتين فيمتلئ المكتل من أنواع الفواكه من غير أن تمس بيدها شيئاً {واشكروا له} أي على ما رزقكم من النعمة واعملوا بطاعته {بلدة طيبة} أي أرض مأرب، وهي سبأ بلدة طيبة فسيحة، ليست بسبخة وقيل: لم يكن يرى في بلدتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا حية، ولا عقرب وكان الرجل يمر ببلدتهم، وفي ثيابه القمل فيموت القمل من طيب الهواء {ورب غفور} قال وهب أي وربكم إن شكرتم على ما رزقكم رب غفور لمن شكره. قوله عز وجل: {فأعرضوا} قال وهب: أرسل الله إليهم ثلاثة عشر نبياً فدعوهم إلى الله تعالى وذكروهم بنعمه عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم وقالوا ما نعرف الله علينا نعمة فقولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع فذلك إعراضهم {فأرسلنا عليهم سيل العرم} العرم الذي لا يطاق قيل: كان ماء أحمر أرسله الله تعالى عليهم من حيث شاء وقيل: العرم السكر الذي يحبس الماء وقيل: العرم الوادي. قال ابن عباس: ووهب وغيرهما، كان لهم سد بنته بلقيس وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم، فأمرت بواديهم فسد بالصخر والقار بين الجبلين وجعلت لهم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض وبنت دونه بركة ضخمة وجعلت فيها اثني عشر مخرجاً على عدة أنهار هم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء، وإذا اسغنوا عنه سدوها فإذا جاءهم المطر اجتمع إليهم ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه إلى البركة، فكانوا يسقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفذ الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة، فكانت تقسمه بينهم على ذلك فبقيوا بعدها مدة، فلما طغوا وكفروا سلط الله عليهم جرذاً يسمى الخلد فنقب السد من أسفله فغرق الماء جناتهم وأخرب أرضهم وقال وهب رأوا فيما يزعمون ويجدون في علمهم أن الذي يخرب سدهم فأرة فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة فلما جاء زمان ما أراد الله تعالى بهم من التغريق أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرار فساورتها، حتى استأخرت عنها الهرة فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد، وحفرت حتى أوهنت المسيل وهم لا يعلمون بذلك فلما جاء السيل وجد خللاً فدخل منه حتى اقتلع السد، وفاض الماء حتى علا أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم الرمل فغرقوا ومزقوا كل ممزق، حتى صاروا مثلاً عند العرب يقولون ذهبوا أيدي سبأ، وتفرقوا أيادي سبا فذلك قوله تعالى فأرسلنا عليهم سيل العرم {وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط} قيل هو شجر الأراك وثمره البربر وقيل: كل نبت أخذ طعماً من المرارة حتى لا يمكن أكله، فهو خمط وقيل هو ثمر شجرة يقال له فسوة الضبع على صور الخشخاش يتفرك ولا ينتفع به {وأثل} قيل هو الطرفاء وقيل شجر يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه {وشيء من سدر قليل} هو شجر معروف ينتفع بورقة في الغسل وثمره النبق ولم يكن السدر الذي بدلوه مما ينتفع به بل كان سدراً برياً لا يصلح لشيء قيل: كان شجر القوم من خير الشجر فصيره الله من شر الشجر بأعمالهم.
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)} قوله تعالى: {ذلك جزيناهم بما كفروا} أي ذلك فعلنا بهم جزاء كفرهم {وهل نجازي إلا الكفور} أي هل يكافأ بعمله إلا الكفور لله في نعمه، قيل المؤمن يجزي ولا يجزى يجازى بحسناته، ولا يكافأ بسيئاته {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها} أي بالماء والشجر، وهي قرى الشام {قرى ظاهرة} أي متواصلة تظهر الثانية من الأولى لقربها منها قيل: كان متجرهم من اليمن إلى الشام فكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى وكانوا لا يحتاجون إلى حمل زاد من سبأ إلى الشام، وقيل: كانت قراهم أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام {وقدرنا فيها السير} أي قدرنا سيرهم بين هذه القرى فكان سيرهم في الغدو والرواح على قدر نصف يوم، فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى القرية ذات مياه وأشجار، فكان مابين اليمن والشام كذلك {سيروا} أي وقلنا لهم سيروا {فيها ليالي وأياماً} أي في أي وقت شئتم {آمنين} أي لا تخافون عدواً ولا جوعاً ولا عطشاً فبطروا النعمة، وسئموا الراحة وطغوا ولم يصبروا على العافية فقالوا: لو كانت جناتنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيها وطلبوا الكد والتعب في الأسفار {فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا} وقرئ باعد بين أسفارنا أي اجعل بيننا وبين الشام مفاوز وفلوات لنركب فيها الرواحل، ونتزود الأزواد فلما تمنوا ذلك عجل الله لهم الإجابة {وظلموا أنفسهم} أي بالبطر والطغيان {فجعلناهم أحاديث} أي عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم {ومزقناهم كل ممزق} أي فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق قيل: لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد فأما غسان فلحقوا بالشام ومر الأزد إلى عمان وخزاعة إلى تهامة ومر الأوس والخزرج إلى يثرب، وكان الذين قدم منهم المدينة عمرو بن عامر، وهو جد الأوس والخزرج ولحق آل خزيمة بالعراق {إن في ذلك لآيات} أي لعبراً ودلالات {لكل صبار} أي عن المعاصي {شكور} أي لله على نعمه قيل، من المؤمن صابر على البلاء شاكر للنعماء وقيل: المؤمن إذا أعطى شكر وإذا ابتلي صبر. قوله عز وجل {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه} قيل على أهل سبأ وقيل على الناس كلهم {فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين} قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني المؤمنين كلهم لأنهم لم يتبعوه في أصل الدين، وقيل هو خاص بالمؤمنين الذين يطيعون الله ولا يعصونه قال ابن قتيبة: إن إبليس لما سأل النظرة فأنظره الله قال لأغوينهم ولأضلنهم ولم يكن مستيقناً وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم وإنما قاله ظناً فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم وقال الحسن إنه لم يسل عليهم سيفاً، ولا ضربهم بسوط إنما وعدهم ومناهم فاغتروا {وما كان له عليهم من سلطان} يعني ما كان تسليطنا إياه عليهم {إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك} يعني لنرى ونميز المؤمن من الكافر وأراد علم الوقوع، والظهور إذا كان معلوماً عنده لأنه عالم الغيب {وربك على كل شيء حفيظ} يعني رقيب وقيل حفيظ بمعنى حافظ. قوله تعالى {قل} يعني قل يا محمد لكفار مكة {ادعوا الذين زعمتم} يعني أنهم آلهة {من دون الله} والمعنى ادعوهم ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سني الجوع، ثم وصف عجز الآلهة فقال تعالى {لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض} يعني من خير وشر ونفع وضر {وما لهم} يعني للآلهة {فيهما} يعني في السموات، الأرض {من شرك} يعني من شركة {وما له} يعني لله {منهم} يعني من الآلهة {من ظهير} عون.
{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)} {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} يعني أذن الله له في الشفاعة قاله تكذيباً للكفار حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله وقيل: يجوز أن يكون المعنى إلا لمن أذن الله في أن يشفع له {حتى إذا فزع عن قلوبهم} معناه كشف الفزع وأخرج عن قلوبهم قيل هم الملائكة وسبب ذلك من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله تعالى (خ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها» فإذا فزع عن قلوبهم {قالوا ماذا قال ربكم قالوا} الذي قال {الحق وهو العلي الكبير} وللترمذي «إذا قضى الله في السماء أمراً ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاً لقوله كأنه سلسة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ما ذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير» قال الترمذي حديث حسن صحيح قوله: خضعاً جمع خاضع وهو المنقاد المطمئن والصفوان الحجر الأملس عن ابن مسعود رضي الله عنه قال «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كجر السلسلة على الصفاة، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا جاء فزع عن قلوبهم فيقولون يا جبريل ماذا قال ربك؟ فيقول الحق فيقولون الحق» أخرجه أبو داود. الصلصلة صوت الأجراس الصلبة بعضها على بعض، وقيل: إنما يفزعون حذراً من قيام الساعة، قيل كانت الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام خمسمائة سنة أو ستمائة، لم تسمع الملائكة فيها صوت وحي فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم كلم جبريل بالرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم، عند أهل السموات من أشراط الساعة، فصعقوا مما سمعوا خوفاً من قيام الساعة فلما انحدر جبريل جعل يمر بأهل كل سماء، فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم: قالوا الحق يعني الوحي وهو العلي الكبير وقيل: الموصوفون بذلك هم المشركون وقيل إذا كشف الفزع عن قلوبهم عند نزول الموت قالت الملائكة لهم ماذا قال ربكم في الدنيا لإقامة الحجة عليهم؟ قالوا: الحق فأقروا به حين لم ينفعهم الإقرار وهو العلي الكبير أي ذو العلو والكبرياء. قوله عز وجل {قل من يرزقكم من السموات والأرض} يعني المطر والنبات {قل الله} يعني إن لم يقولوا إن رزاقنا هو الله فقل: أنت إن رازقكم هو الله {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} معناه ما نحن وأنتم على أمر واحد بل أحد الفريقين مهتد والآخر ضال، وهذا ليس على طريق الشك بل جهة الإلزام والإنصاف في الحجاج، كما يقول القائل أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق وصاحبه كاذب فالنبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه على الهدى ومن خالفه في ضلال فكذبهم من غير أن يصرح بالتكذيب ومنه بيت حسان: أتهجوه ولست له بكفء *** فشركما لخيركما الفداء وقيل أو بمعنى الآية إنا لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين {قل لا تسألون عما أجرمنا} أي تؤاخذون به {ولا نسأل عما تعملون} أي من الكفر والتكذيب وقيل أراد بالإجرام الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن وبالعمل الكفر والمعاصي العظام {قل يجمع بيننا ربنا} أي يوم القيامة {ثم يفتح} يعني يقضي ويحكم {بيننا بالحق} يعني بالعدل {وهو الفتاح} يعني القاضي {العليم} يعني بما يقضي {قل أروني} أعلموني {الذين ألحقتم به} يعني بالله {شركاء} يعني الأصنام التي أشركوها معه في العبادة هل يخلقون أو يرزقون وأراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله {كلا} كلمة ردع لهم عن مذهبهم والمعنى أرتدعوا فإنهم لا يخلقون ولا يرزقون {بل هو العزيز} أي الغالب على أمره {الحكيم} أي تدبير خلقه فأنى يكون له شريك في ملكه. قوله عز وجل {وما أرسلناك إلا كافة للناس} يعني للناس كلهم عامة أحمرهم وأسودهم عربيهم وعجميهم وقيل الرسالة عامة لهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد (ق) عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهور، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» في الحديث بيان الفضائل التي خص الله بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء، وأن هذه الخمسة لم تكن لأحد ممن كان قبله من الأنبياء، وفيه اختصاصه بالرسالة العامة لكافة الخلق الإنس والجن وكان النبي قبله يبعث إلى قومه أو إلى أهل بلده فعمت رسالة نبينا صلى الله عليه سلم، جميع الخلق وهذه درجة خص بها دون سائر الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، وقيل في المعنى كافة أي كافأتكفهم عما هم عليه من الكفر فتكون الهاء للمبالغة {بشيراً} أي لمن آمن بالجنة {ونذيراً} أي لمن كفر بالنار {ولكن أكثر الناس لا يعلمون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} يعني يوم القيامة {قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون ساعة ولا تستقدمون} معناه لا تتقدمون على يوم القيامة وقيل: عن يوم الموت ولا تتأخرون عنه بأن يزاد في آجالهم أو ينقص منها {وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه} يعني التوراة والإنجيل {ولو ترى} أي يا محمد {إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول} معناه ولو ترى في الآخرة موقفهم وهم يتجاذبون أطراف المحاورة ويتراجعونها بينهم لرأيت العجب {يقول الذين استضعفوا} وهم الأتباع {للذين استكبروا} وهو القادة والأشراف {لولا أنتم لكنا مؤمنين} يعني أنتم منعتمونا عن الإيمان بالله ورسوله.
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)} {قال الذين استكبروا} أي أجاب المتبوعون في الكفر {للذين استضعفوا أنحن صددناكم} أي منعناكم {عن الهدى} أي عن الإيمان {بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين} أي بترك الإيمان {وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار} أي مكركم بنا في الليل والنهار وقيل مكر الليل والنهار هو طول السلام في الدنيا وطول الأمل فيها {إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً} أي هو قول القادة للأتباع إن ديننا الحق وإن محمد كذاب ساحر وهذا تنبيه للكفار أن تصير طاعة بعضهم لبعض في الدنيا سبب عداوتهم في الآخرة {وأسروا الندامة} أي أظهروها وقيل: أخفوها وهو من الأضداد {لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا} أي في النار الأتباع والمتبوعين جميعاً {هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} أي من الكفر والمعاصي في الدنيا. قوله عز وجل {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها} أي رؤساؤها وأغنياؤها {إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا} يعني المترفين والأغنياء للفقراء الذين آمنوا {نحن أكثر أموالاً وأولاداً} يعني لو لم يكن الله راضياً بما نحن عليه من الدين والعمل الصالح لم يخولنا أموالاً ولا أولاداً {وما نحن بمعذبين} أي إن الله قد أحسن إلينا في الدنيا بالمال والولد فلا يعذبنا في الآخرة {قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} يعني أنه تعالى يبسط الرزق ابتلاء وامتحاناً ولا يدل البسط على رضا الله تعالى ولا التضييق على سخطه {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أي إنها كذلك {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى} أي بالتي تقربكم عندنا تقريباً {إلا} أي لكن {من آمن وعمل صالحاً} قال ابن عباس يريد إيمانه وعلمه يقربه مني {فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا} أي يضعف الله لهم حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة عشر إلى سبعمائة {وهم في الغرفات آمنون والذين يسعون في آياتنا} أي يعملون في إبطال حججنا {معاجزين} أي معاندين يحسبون أنهم يعجزوننا ويفوتنا {أولئك في العذاب محضرون}. قوله تعالى عز وجل {قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} أي يعطي خلفه إذا كان في غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه ويعوضه لا معوض سواه إما عاجلاً بالمال أو بالقناعة التي هي كنز لا ينفد، وإما بالثواب في الاخرة الذي كل خلف دونه، وقيل ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم من خير فهو يخلفه على المنفق. قال مجاهد: من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد، فإن الرزق مقسوم ولعل ما قسم له قليل، وهو ينفق نفقة الموسع عليه فينفق جميع ما في يده ثم يبقى طول عمره في فقره، ولا يتأولن وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه فإن هذا في الآخرة ومعنى الآية ما كان من خلف فهو منه (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تبارك وتعالى: أنفق ينفق عليك» ولمسلم «يا ابن آدم أنفق أنفق عليك» (ق) عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكاً تلفاً» (م) عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً وما تواضع لله إلا رفعه الله» {وهو خير الرازقين} أي خير من يعطي ويرزق لأن ما رزق غيره من سلطان يرزق جنده أو سيد يرزق مملوكه أو رجل يرزق عياله فهو من رزق الله أجراه الله على أيدي هؤلاء وهو الرزاق الحقيقي الذي لا رازق سواه.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)} قوله تعالى: {ويوم نحشرهم جميعاً} يعني هؤلاء الكفار {ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} أي في الدنيا وهذا استفهام تقريع وتقرير للكفار فتتبرأ الملائكة منهم من ذلك وهو قوله تعالى {قالوا سبحانك} أي تنزيها لك {أنت ولينا من دونهم} أي نحن نتولاك ولا نتولاهم فبينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم {بل كانوا يعبدون الجن} يعني الشياطين. فان قلت قد عبدوا الملائكة فكيف وجه قوله بل كانوا يعبدون الجن. قلت أراد أن الشياطين زينوا لهم عبادة الملائكة فأطاعوهم في ذلك فكانت طاعتهم للشياطين عبادة لهم وقيل صوروا لهم صوراً وقالوا لهم هذه صور الملائكة فاعبدها فعبدوها وقيل كانوا يدخلون في أجواف الأصنام فيعبدون بعبادتها {أكثرهم بهم مؤمنون} يعني مصدقون للشياطين قال الله تعالى {فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً} أي شفاعة {ولا ضراً} أي بالعذاب يريد أنهم عاجزون ولا نفع عندهم ولا ضر {ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل} يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم {يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى} يعنون القرآن {وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين وما آتيناهم} يعني هؤلاء المشركين {من كتب يدرسونها} أي يقرؤونها {وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير} أي لم يأت العرب قبلك نبي ولا أنزل إليهم كتاب {وكذب الذين من قبلهم} أي من الأمم السالفة رسلنا {وما بلغوا} يعني هؤلاء المشركين {معشار} أي عشر {ما آتيناهم} أي أعطينا الأمم الخالية من القوة والنعمة وطول الأعمار {فكذبوا رسلي فكيف كان نكير} أي إنكاري عليهم يحذر بذلك كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية. قوله عز وجل {قل إنما أعظكم} أي آمركم وأوصيكم {بواحدة} أي بخصلة واحدة ثم بين تلك الخصلة فقال تعالى {أن تقوموا لله} أي لأجل الله {مثنى} أي اثنين {وفرادى} أي واحداً واحداً {ثم تتفكروا} أي تجتعوا جميعاً فتنظروا وتتحاوروا وتتفكروا في حال محمد صلى الله عليه وسلم فتعلموا أن {ما بصاحبكم من جنة} ومعنى الآية إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم وهي أن تقوموا لله وليس المراد به القيام على القدمين ولكن هو الانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمة فتقوموا لوجه الله خالصاً ثم تتفكروا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به أمان الاثنان فيتفكران، ويعرض كل منهما محصول فكره على صاحبه لينظرا فيه نظر متصادقين متناصفين لا يميل بهما اتباع الهوى وأما الفرد فيفكر في نفسه أيضاً بعدل ونصفة هل رأينا في هذا الرجل جنوناً قط أو جربنا عليه كذباً قط وقد علمتم أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما به من جنة بل قد علمتم أنه من أرجح قريش عقلاً وأوزنهم حلماً وأحدهم ذهناً وأرصنهم رأياً وأصدقهم قولاً وأزكاهم نفساً، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال ويمدحونه به وإذا علمتم ذلك كفاكم أن تطالبوه بآية وإذا جاء بها تبين أنه نبي نذير مبين صادق فيما جاء به وقيل: تم الكلام عند قوله: تتفكروا أي في السموات والأرض فتعلموا أنه خالقها واحد لا شريك له ثم ابتدأ فقال ما بصاحبكم من جنة {إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد قل ما سألتكم} أي على تبليغ الرسالة {من أجر} أي جعل {فهل لكم} أي لم أسألكم شيئاً {إن أجري} أي ثوابي {إلا على الله وهو على كل شيء شهيد قل إن ربي يقذف بالحق} أي يأتي بالوحي من السماء فيقذفه إلى الأنبياء {علام الغيوب} أي خفيات الأمور {قل جاء الحق} أي القرآن والإسلام {وما يبدئ الباطل وما يعيد} أي ذهب الباطل وزهق فلم تبق منه بقية تبدئ شيئاً أو تعيده وقيل الباطل هو إبليس والمعنى لا يخلق إبليس أحداً ابتداء ولا يبعثه إذا مات وقيل الباطل الأصنام.
{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)} {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي} وذلك أن كفار مكة كانوا يقولون له إنك قد ضللت حين تركت دين آبائك فقال الله تعالى قل إن ضللت فيما تزعمون أنتم فإنما أضل على نفسي أي إثم ضلالتى على نفسي {وإن اهتديت فبما يوحي إليَّ ربي} أي في القرآن والحكمة {إنه سميع قريب} قوله عز وجل {ولو ترى} أي يا محمد {إذ فزعوا} أي عند البعث أي حين يخرجون من قبورهم وقيل عند الموت {فلا فوت} أي لا يفوتوننا ولا نجاة لهم {وأخذوا من مكان قريب} قيل من تحت أقدامهم، وقيل أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها حيثما كانوا فإنهم من الله قريب لا يفوتونه، ولا يعجزونه وقيل: من مكان قريب يعني عذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر وقيل: هو خسف بالبيداء ومعنى الآية ولو ترى إذ فزعوا لرأيت أمراً تعتبر به {وقالوا آمنا به} أي حين عاينوا العذاب قيل هو عند اليأس وقيل هو عند البعث {وأنى لهم التناوش} أي التناول والمعنى كيف لهم تناول ما بعد عنهم وهو الإيمان والتوبة وقد كان قريباً منهم في الدنيا فضيعوه وقال ابن عباس يسألون الرد إلى الدنيا فيقال وأنى لهم الرد إلى الدنيا {من مكان بعيد} أي من الآخرة إلى الدنيا {وقد كفروا به من قبل} أي القرآن وقيل بمحمد صلى الله عليه وسلم من قبل أن يعاينوا العذاب وأهوال القيامة {ويقذفون بالغيب من مكان بعيد} قيل هو الظن لأن علمه غاب عنهم والمكان البعيد بعدهم عن علم ما يقولون، والمعنى يرمون محمداً صلى الله عليه وسلم بما لا يعلمون من حيث لا يعلمون وهو قولهم إنه شاعر ساحر كاهن لا علم له بذلك وقيل يرجمون بالظن يقولون لا بعث ولا جنة ولا نار {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} أي الإيمان والتوبة والرجوع إلى الدنيا ونعيمها وزهرتها {كما فعل بأشياعهم} أي بنظرائهم ومن كان على مثل حالهم من الكفار {من قبل} أي لم تقبل منهم التوبة في وقت اليأس {إنهم كانوا في شك} أي من البعث ونزول العذاب بهم {مريب} أي موقع الريبة والتهمة، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} قوله عز وجل {الحمد لله فاطر السموات والأرض} أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق {جاعل الملائكة رسلاً} أي إلى الأنبياء {أولي أجنحة} أي ذوي أجنحة {مثنى وثلاث ورباع} أي بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة أجنحة وبعضهم له أربعة {يزيد في الخلق ما يشاء} أي يزيد في خلق الأجنحة ما يشاء. قال عبد الله بن مسعود في قوله {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح، وقيل في قوله {يزيد في الخلق ما يشاء} هو حسن الصوت وقيل حسن الخلق وتمامه وقيل هو الملاحة في العينين وقيل هو العقل والتمييز {إن الله على كل شيء قدير} أي مما يريد أن يخلقه. قوله تعالى {ما يفتح الله للناس من رحمة} قيل المطر وقيل من خير ورزق {فلا ممسك لها} أي لا يستطيع أحد حبسها {وما يمسك فلا مرسل له من بعده} أي لا يقدر أحد على فتح ما أمسك {وهو العزيز} يعني فيما أمسك {الحكيم} أي فيما أرسل (م) عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد» والجد الغنى والبخت أي لا ينفع المبخوت والغني حظه وغناه لأنهما منك إنما ينفعه الإخلاص والعمل بطاعتك.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)} قوله عز وجل: {يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم} قيل الخطاب لأهل مكة ونعمة الله عليهم إسكانهم الحرم ومنع الغارات عنهم {هل من خالق غير الله} أي لا خالق إلا الله وهو استفهام تقرير وتوبيخ {يرزقكم من السماء} أي المطر {والأرض} أي النبات {لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} أي من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد الله وإنكار البعث وأنتم مقرون بأن الله خالقكم ورازقكم {وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك} يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم {وإلى الله ترجع الأمور} أي فجزي المكذب من الكفار بتكذيبه. قوله تعالى {يا أيها الناس إن وعد الله حق} أي وعد القيامة {فلا تغرنكم الحياة الدنيا} أي لا تخد عنكم بلذاتها وما فيها عن عمل الآخرة وطلب ما عند الله {ولا يغرنكم بالله الغرور} أي لا يقل لكم اعملوا ما شئتم فان الله يغفر كل ذنب وخطيئة ثم بين الغرور من هو فقال تعالى {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً} أي عادوه بطاعة الله ولا تطيعوه فيما يأمركم به من الكفر والمعاصي {إنما يدعوا حزبه} أي أشياعه وأولياءه {ليكونوا من أصحاب السعير} ثم بين حال موافقيه ومخالفته فقال تعالى {الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير}. قوله عز وجل {أفمن زين له سوء عمله} قال ابن عباس نزلت في أبي جهل ومشركي مكة وقيل نزلت في أصحاب الأهواء والبدع ومنه الخوارج الذي يستحلون دماء المسلمين وأموالهم وليس أصحاب الكبائر من الذنوب منهم لأنهم لا يستحلونها ويعتقدون تحريمها مع ارتكابهم إياها ومعنى زين له شبه له وموه عليه قبيح عمله {فرآه حسناً} وفي الآية حذف مجازه أفمن زين له سوء عمله فرأي الباطل حقاً كمن هداه الله فرأى الحق حقاً والباطل باطلاً {فان الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء} وقيل مجاز الآية أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} فان الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء والحسرة شدة الحزن على ما فات والمعنى لا تغتم بكفرهم وهلاكهم إن لم تؤمنوا {إن الله عليم بما يصنعون} فيه وعيد العقاب على سوء صنيعهم {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً} أي تزعجه من مكانه وقيل تجمعه وتجيء به {فسقناه} أي فنسوقه {إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور} أي مثل إحياء الموات نشور الأموات روى ابن الجوزي في تفسيره عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه فقال «هل مررت بواد أهلك محلا ثم مررت به يهتز خضراً قلت نعم قال كذلك يحيي الله الموتى وتلك آيتة في خلقه» قوله تعالى {من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً} قيل معناه من كان يريد أن يعلم لمن العزة فلله العزة جميعاً وقيل معناه من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله هو دعاء إلى طاعة من له العزة أي فليطلب العزة من عند الله بطاعته، وذلك أن الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا بها التعزز، فبين الله أن لا عزة إلا لله ولرسوله ولأوليائه المؤمنين {إليه} يعني إلى الله {يصعد الكلم الطيب} قيل هو لا إله إلا الله وقيل هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر روى البغوي باسناده عن ابن مسعود قال «إذا حدثتكم حديثاً أنبأتكم بمصداقه من كتاب الله عز وجل ما من عبد مسلم يقول خمس كلمات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله، إلا أخذهن ملك تحت جناحه ثم يصعد بهن فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بها وجه رب العالمين، ومصداقه من كتاب الله قوله: إليه يصعد الكلم الطيب» هذا حديث موقوف على ابن مسعود وفي إسناد الحجاج بن نصير ضعيف، وقيل الكلم الطيب ذكر الله تعالى وقيل معنى إليه يصعد أي يقبل الكلم الطيب {والعمل الصالح يرفعه} قال ابن عباس أي يرفع العمل الصالح الكلم الطيب، وقيل الكلم الطيب ذكر الله والعمل الصالح أداء الفرائض فمن ذكر الله، ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله وليس الإيمان بالتمني وليس بالتحلي ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال فمن قال حسناً وعمل غير صالح رد الله عليه قوله ومن قال حسناً وعمل صالحاً يرفعه العمل ذلك بأن الله يقول إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وجاء في الحديث «لا يقبل الله قولاً إلا بعمل ولا عملاً إلا بنية» وقيل الهاء في يرفعه راجعة إلى العمل الصالح أي الكلم الطيب يرفع العمل الصالح فلا يقبل عملا إلا أن يكون صادراً عن توحيد وقيل معناه العمل الصالح يرفعه الله وقيل العمل الصالح هو الخالص، وذلك أن الإخلاص سبب قبول الخيرات من الأقوال والأفعال {والذين يمكرون السيئات} أي يعملون السيئات أي الشرك وقيل يعني الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة وقيل هم أصحاب الرياء {لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور} أي يبطل ويهلك في الآخرة.
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19)} قوله عز وجل: {والله خلقكم من تراب} يعني آدم {ثم من نطفة} يعني ذريته {ثم جعلكم أزواجاً} يعني أصنافاً ذكراناً واناثاً وقيل زوج بعضكم بعضاً {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر} يعني لا يطول عمر أحد {ولا ينقص من عمره} يعني عمر آخر، وقيل ينصرف إلى الأول قال سعيد بن جبير، مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا سنة، ثم يكتب أسفل من ذلك ذهب يوم ذهب يومان، ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره، وقيل معناه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب قال كعب الأحبار حين حضرت عمر الوفاة والله لو دعا عمر به أن يؤخر أجله لأخر، فقيل له إن الله تعالى يقول {فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} قال: هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد ذلك وقرأ هذه الآية {إلا في كتاب} يعني اللوح المحفوظ {إن ذلك على الله يسير} أي كتابة الآجال والأعمال على الله هين. قوله تعالى {وما يستوي البحران} يعني العذب والمالح ثم وصفهما فقال {هذا عذب فرات} أي طيب يكسر العطش {سائغ شرابه} أي سهل في الحلق هنيء مريءٍ {وهذا ملح أجاج} أي شديد الملوحة يحرق الحلق بملوحته وقيل هو المر {ومن كل} يعني من البحرين {تأكلون لحماً طرياً} يعني السمك {وتستخرجون} يعني من الملح دون العذب {حلية تلبسونها} يعني اللؤلؤ والمرجان وقيل نسب اللؤلؤ إليهما لأنه يكون في البحر المالح عيون عذبة فتمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ منهما {وترى الفلك فيه مواخر} يعني جواري مقبلة ومدبرة بريح واحدة {لتبتغوا من فضله} يعني بالتجارة {ولعلكم تشكرون} يعني تشكرون الله على نعمه {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه} يعني الأصنام {ما يملكون من قطمير} هو لفافة النواة وهي القشرة الرقيقة التي تكون على النواة {إن تدعوهم} يعني الأصنام {لا يسمعوا دعاءكم} يعني أنهم جماد {ولو سمعوا} أي على سبيل الفرض والتمثيل {ما استجابوا لكم} أي ما أجابوكم وقيل ما نفعوكم {يوم القيامة يكفرون بشرككم} أي يتبرؤون منكم ومن عبادتكم إياها {ولا ينبئك مثل خبير} يعني نفسه أي لا ينبئك أحد مثلي لأني عالم بالأشياء قوله تعالى {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله} يعني إلى فضله وإحسانه والفقير المحتاج إلى من سواه والخلق كلهم محتاجون إلى الله فهم الفقراء {والله هو الغني} عن خلقه لا يحتاج إليهم {الحميد} يعني المحمود في إحسانه إليهم المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه {إن يشأ يذهبكم} لاتخاذكم أنداداً وكفركم بآياته {ويأت بخلق جديد} يعني يخلق بعدكم من يعبده ولا يشرك به شيئاً {وما ذلك على الله بعزيز} أي يمتنع {ولا تز وازرة وزر أخرى} يعني أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الي اقترفته لا تؤاخذ بذنب غيرها فان قلت كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم. قلت هذه الآية في الضالين وتلك في المضلين أنهم يحملون أثقال من أضلوه من الناس مع أثقال أنفسهم وذلك كله من كسبهم {وإن تدع مثقلة إلى حملها} معناه وإن تدع نفس مثقلة بذنوبها إلى حمل ذنوب غيرها {ولا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى} يعني ولو كان المدعو ذا قرابة كالأب والأم والابن والأخ قال ابن عباس يعلق الأب والأم بالابن فيقول يا بني احمل عني بعض ذنوبي فيقول لا أستطيع حسبي ما علي {إنما تنذر الذي يخشون ربهم بالغيب} يعني يخافون ربهم {بالغيب} يعني لم يروه والمعنى وإنما ينفع إنذارك الذين يخشون ربهم بالغيب {وأقاموا الصلاة ومن تزكى} يعني أصلح وعمل خيراً {فانما يتزكى لنفسه} يعني لها ثوابه {وإلى الله المصير وما يستوي الأعمى والبصير} يعني الجاهل والعالم وقيل الأعمى عن الهدى وهو الشرك والبصير بالهدى وهو المؤمن.
{وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} {ولا الظلمات ولا النور} يعني الكفر والإيمان {ولا الظل ولا الحرور} يعني الجنة والنار وقال ابن عباس: الحرور الريح الحارة بالليل والسموم بالنهار {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} يعني المؤمنين والكفار وقيل العلماء والجهال {إن الله يسمع من يشاء} يعني حتى يتعظ ويجيب {وما أنت بمسمع من في القبور} يعني الكفار شبههم بالأموات في القبور لأنهم لا يجيبون إذا دعوا {إن أنت إلا نذير} أي ما أنت إلا منذر تخوفهم النار {إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً} يعني بشيراً بالثواب لمن آمن ونذيراً بالعقاب لمن كفر {وإن من أمة} أي من جماعة كثيرة فيما مضى {إلا خلا} أي سلف {فيها نذير} أي نبي منذر. فان قلت كم من أمة في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يخل فيها نذير. قلت: إذا كانت آثار النذارة باقية لم تخل من نذير إلا أن تندرس، وحين اندرست آثار رسالة عيسى عليه السلام بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم وآثار نذارته باقية إلى يوم القيامة لأنه لا نبي بعده {وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات} أي بالمعجزات الدالة على نبوتهم {وبالزبر} أي الصحف {وبالكتاب المنير} أي الواضح قيل أراد بالكتاب التوراة والإنجيل والزبور وقيل ذكر الكتاب بعد الزبر تأكيداً {ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء} يعني المطر {فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها} يعني أجناسها من الرمان والتفاح والتين والعنب والرطب ونحوها وقيل يعني ألوانها في الحمرة والصفرة والخضرة وغير ذلك مما لا يحصر ولا يعد {ومن الجبال جدد بيض وحمر} يعني الخطط والطرق في الجبال {مختلف ألوانها} يعني منها ما هو أبيض ومنها ما هو أحمر ومنها ما هو أصفر {وغرابيب سود} يعني شديدة السواد كما يقال أسود غربيب تشبيهاً بلون الغراب {ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه} يعني خلق مختلف ألوانه {كذلك} يعني كاختلاف الثمرات والجبال وتم الكلام ها هنا، ثم ابتدأ فقال تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} قال ابن عباس يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني وقيل: عظموه وقدروا قدره وخشوه حق خشيته ومن ازداد به علماً ازداد به خشية (ق) عن عائشة قالت صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فرخص فيه فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد الله ثم قال «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية» قولها فرخص فيه أي لم يشدد فيه قولها فتنزه عن أقوام أي تباعد عنه وكرهه قوم (ق) عن أنس قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجوههم لهم خنين الخنين بالخاء المعجمة، هو البكاء مع غنة وانتشاق الصوت من الأنف وقال مسروق كفى بخشية الله علماً وكفى بالاغترار بالله جهلاً وقال رجل للشعبي أفتني أيها العالم فقال الشعبي إنما العالم من خشي الله عز وجل وقال مقاتل أشد الناس خشية لله أعلمهم به، وقال الربيع بن أنس: من لم يخش الله فليس بعالم {إن الله عزيز} أي من ملكه {غفور} يعني لذنوب عباده وهو تعليل لوجوب الخشية لأنه المثيب المعاقب وإذا كان كذلك فهو أحق أن يخشى ويتقى. قوله عز وجل {إن الذين يتلون كتاب الله} أي يداومون على قراءته ويعلمون ما فيه ويعملون به {وأقاموا الصلاة} أي ويقيمون الصلاة في أوقاتها {وأنفقوا مما رزقناهم} يعني في سبيل الله {سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور} يعني لن تفسد ولن تهلك والمراد من التجارة ما وعد الله من الثواب {ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} قال ابن عباس سوى الثواب يعني مما لم تر عين ولم تسمع أذن {إنه غفور شكور} قال ابن عباس: يغفر العظيم من ذنوبهم ويشكر اليسير من أعمالهم {والذي أوحينا إليك من الكتاب} يعني القرآن {هو الحق مصدقاً لما بين يديه} يعني من الكتب {إن الله بعباده لخبير بصير}. قوله تعالى {ثم أورثنا الكتاب} يعني أوحينا إليك الكتاب وهو القرآن ثم أورثناه يعني حكمنا بتوريثه وقيل أورثناه بمعنى نورثه {الذين اصطفينا من عبادنا} قال ابن عباس يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الله اصطفاهم على سائر الأمم واختصهم بكرامته بأن جعلهم أتباع سيد الرسل وخصهم بحمل أفضل الكتب ثم قسمهم ورتبهم فقال تعالى {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} روي عن أسامة بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلهم من هذه الأمة» ذكره البغوي بغير سند وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية «{ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله} قال هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة» أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن غريب. وعن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية على المنبر {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له» قال أبو قلابة أحد رواته فحدثت به يحيى بن معين فجعل يتعجب منه أخرجه البغوي بسنده وروي بسنده عن ثابت «أن رجلاً دخل المسجد فقال اللهم ارحم غربتي وآنس وحشتي وسق إلي جليساً صالحاً فقال أبو الدرداء لئن كنت صادقاً لأنا أسعد بك منك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} قال أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً وأما ظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم ثم يدخل الجنة ثم قرأ هذه الآية {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور}» وقال عقبة بن صهبان: سألت عائشة عن قول الله عز وجل {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} الآية. فقالت: يا بني كلهم في الجنة أما السابق فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم، فجعلت نفسها معنا «وقال ابن عباس السابق المؤمن المخلص والمقتصد المرائي والظالم الكافر، نعمة الله غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة فقال {جنات عدن يدخلونها} وقيل الظالم هم أصحاب المشأمة والمقتصد أصحاب الميمنة، والسابق هم السابقون المقربون من الناس كلهم وقيل: السابق من رجحت حسناته على سيئاته، والمقتصد من استوت سيئاته وحسناته والظالم من رجحت سيئاته على حسناته وقيل الظالم من كان ظاهرة خيراً من باطنه والمقتصد الذي استوى ظاهره وباطنه والسابق الذي باطنه خير من ظاهره وقيل الظالم التالي للقرآن ولم يعمل به والمقتصد التالي له العامل به والسابق القارئ له العالم به العامل بما فيه وقيل الظالم أصحاب الكبائر والمقتصد أصحاب الصغائر والسابق الذي لم يرتكب صغيرة ولا كبيرة وقيل الظالم الجاهل، والمقتصد المتعلم والسابق العالم. فان قلت لم قدم الظالم ثم المقتصد ثم السابق. قلت: قال جعفر الصادق بدأ بالظالمين إخباراً بأنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفاء ثم ثنى بالمقتصدين، لأنهم بين الخوف والرجاء ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره، وكلهم في الجنة وقيل رتبهم الترتيب على مقامات الناس، لأن أحوال العباد ثلاثة معصية وغفلة ثم توبة، ثم قربة فإذا عصى الرجل دخل في حيز الظالمين، فاذا تاب دخل جملة المقتصدين فاذا صحت توبته وكثرت عبادته ومجاهدته دخل في عداد السابقين وقيل قدم الظالم لكثرة الظلم وغلبته ثم المقتصد قليل بالاضافة إلى الظالمين، والسابق أقل من القليل فلهذا أخرهم ومعنى سابق بالخيرات أي بالأعمال الصالحة إلى الجنة، أو إلى رحمة الله {بإذن الله} أي بأمر الله وإرادته {ذلك هو الفضل الكبير} يعني إيراثهم لكتابن واصطفاءهم ثم أخبر بثوابهم
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} فقال تعالى: {جنات عدن يدخلونها} يعني الأصناف الثلاثة {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير} تقدم تفسيره {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} قال ابن عباس حزن النار وقيل حزن الموت وقيل حزن الذنوب والسيئات وخوف رد الطاعات وأنهم لا يدرون ما يصنع بهم وقيل حزن زوال النعم وتقليب القلوب وخوف العاقبة وقيل حزن أهوال يوم القيامة وهموم الحصر والمعيشة في الدنيا وقيل ذهب عن أهل الجنة كل حزن كان لمعاش أو معاد. روى البغوي بسنده عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» {إن ربنا لغفور شكور} يعني غفر العظيم من الذنوب وشكر القليل من الأعمال {الذي أحلنا} يعني أنزلنا {دار المقامة} أي الإقامة {من فضله} أي لا بأعمالنا {لا يمسنا فيها نصب} أي لا يصيبنا فيها عناء ولا مشقة {ولا يمسنا فيها لغوب} أي إعياء من التعب.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)} قوله تعالى: {والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا} أي فيستريحوا مما هم فيه {ولا يخفف عنهم من عذابها} أي من عذاب النار {كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون} أي يستغيثون ويصيحون {فيها} يقولون {ربنا أخرجنا} أي من النار {نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل} أي في الدنيا من الشرك والسيئات فيقول الله تعالى توبيخاً لهم {أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} قيل: هو البلوغ وقيل ثمان عشرة سنة وقيل أربعون سنة وقال ابن عباس ستون سنة ويروى ذلك عن علي وهو العمر الذي أعذر الله تعالى لابن آدم (خ) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أعذر الله إلى كل امرئ آخر أجله حتى بلغ ستين سنة» عنه بإسناد الثعلبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين» {وجاءكم النذير} يعني محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن قاله ابن عباس: وقيل هو الشيب والمعنى أو لم نعمركم حتى شبتم. ويقال الشيب: نذير الموت وفي الأثر «ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها استعدي فقد قرب الموت» {فذقوا} أي يقال لهم ذوقوا العذاب {فما للظالمين من نصير} أي لهم من مانع يمنعهم من عذابه {إن الله عالم غيب السموات والأرض إنه عليم بذات الصدور} يعني إنه إذا علم ذلك هو أخفى ما يكون، فقد علم غيب كل شيء في العالم. قوله تعالى {هو الذي جعلكم خلائف في الأرض} أي يخلف بعضكم بعضاً وقيل جعلكم أمة خلفت من قبلها من الأمم ورأت ما ينبغي أن يعتبر بهن وقيل جعلكم خلفاء في أرضه وملككم منافعها مقاليد التصرف فيها لتشكروه بالتوحيد والطاعة {فمن كفر} أي جحد هذه النعمة وغطمها {فعليه كفره} أي وبال كفره {ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً} يعني غضباً وقيل المقت أشد البغض {ولا يزيد الكافرين كفرم إلا خساراً} يعني في الآخرة {قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله} يعني الأصنام جعلتموها شركاء بزعمكم {أروني ماذا خلقوا من الأرض} يعني أي جزء استبدوا بخلقه من الأرض {أم لهم شرك في السموات} أي خلق في السموات والأرض {أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه} أي على حجة وبرهان من ذلك {بل إن يعد الظالمون بعضهم} يعني الرؤساء {بعضاً إلا غروراً} يعني قولهم هؤلاء الأصنام شفعاؤنا عند الله. قوله عز وجل {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا} يعني لكي لا تزولا فيمنعهما من الزوال والوقوع وكانتا جديرتين بأن تزولا وتهدهد العظم كلمة الشرك {ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده} يعني ليس يمسكهما أحد سواه {إنه كان حليماً غفوراً} يعني غير معاجل بالعقوبة حيث أمسكهما وكانتا قد همتا بعقوبة الكفار لولا حلمه وغفرانه {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} يعني كفار مكة وذلك لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم وأقسموا بالله لو جاءنا نذير لنكونن أهدى ديناً منهم وذلك قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعث محمد كذبوه فأنزل الله هذه الآية {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} {لئن جاءهم نذير} يعني رسول {ليكونن أهدى من إحدى الأمم} يعني اليهود والنصارى {فلما جاءهم نذير} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {ما زادهم} مجيئه {إلا نفوراً} يعني تباعدا عن الهدى {استكباراً في الأرض} يعني عتواً وتكبراً عن الإيمان به {ومكر السيئ} يعني عمل القبيح وهو اجتماعهم على الشرك وقيل هو مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله} يعني لا يحل ولا يحيط إلا بأهله فقتلوا يوم بدر قال ابن عباس عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك {فهل ينظرون} أي ينظرون {إلا سنة الأولين} يعني أن ينزل العذاب بهم كما نزل بمن مضى من الكفار {فلن تجد لسنة الله تبديلاً} أي تغييراً {ولن تجد لسنة الله تحويلاً} أي تحويل العذاب عنهم إلى غيرهم.
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)} {أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين قبلهم} معناه أنهم يعتبرون بمن مضى وبآثارهم وعلامات هلاكهم {وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه} أي ليفوت عنه {من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا} أي من الجرائم {ما ترك على ظهرها} أي ظهر الأرض {دابة} أي من نسمة تدب عليها يريد بني آدم وغيرهم كما أهلك من كان في زمن نوح بالطوفان إلا من كان في السفينة {ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} يعني يوم القيامة {فإذا جاء أجلهم فان الله كان بعباده بصيراً} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يريد أهل طاعته وأهل معصيته وقيل بصيراً بمن يستحق العقوبة وبمن يستحق الكرامة والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.
|