الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الجلالين ***
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} {أُذِنَ لِلَّذِينَ يقاتلون} أي للمؤمنين أن يقاتلوا، وهذه أوّل آية نزلت في الجهاد {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {ظُلِمُواْ} لظلم الكافرين إياهم {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}.
{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} وهم {الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم بِغَيْرِ حَقّ} في الإِخراج، ما أخرجوا {إِلاَّ أَن يَقُولُواْ} أي بقولهم {رَبُّنَا الله} وحده وهذا القول حق فالإِخراج به إخراج بغير حقَ {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم} بدل بعض من الناس {بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ} بالتشديد للتكثير وبالتخفيف {صوامع} للرهبان {وَبِيَعٌ} كنائس للنصارى {وصلوات} كنائس لليهود بالعبرانية {ومساجد} للمسلمين {يُذْكَرُ فِيهَا} أي المواضع المذكورة {اسم الله كَثِيراً} وتنقطع العبادات بخرابها {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} أي ينصر دينه {إِنَّ الله لَقَوِىٌّ} على خلقه {عَزِيزٌ} منيع في سلطانه وقدرته.
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} {الذين إِنْ مكناهم فِى الارض} بنصرهم على عدوّهم {أَقَامُواْ الصلاة وَاتَوُاْ الزكواة وَأَمَرُواْ بامعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر} جواب الشرط وهو وجوابه صلة الموصول، ويقدّر قبله هم مبتدأ {وَلِلَّهِ عاقبة الامور} أي إليه مرجعها في الآخرة.
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42)} {وَإِن يُكَذّبُوكَ} فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم {فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} تأنيث قَوْم باعتبار المعنى {وَعَادٌ} قوم هود {وَثَمُودُ} قوم صالح.
{وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43)} {وَقَوْمُ إبراهيم وَقَوْمُ لُوطٍ}.
{وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)} {وأصحاب مَدْيَنَ} قوم شعيب {وَكُذّبَ موسى} كذبه القبط لا قومه بنو إسرائيل: أي كذب هؤلاء رسلهم فلك أُسوة بهم {فَأمْلَيْتُ للكافرين} أمهلتهم بتأخير العقاب لهم {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} بالعذاب {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكاري عليهم بتكذيبهم بإهلاكهم؟ والاستفهام للتقرير: أي هو واقع موقعه.
{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)} {فَكَأَيّن} أي كم {مِن قَرْيَةٍ أهلكناها} وفي قراءة «أهلكتها» {وَهِىَ ظالمة} أي أهلها بكفرهم {فَهِىَ خَاوِيَةٌ} ساقطة {على عُرُوشِهَا} سقوفها {وَ} كم من {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} متروكة بموت أهلها {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} رفيع خالٍ بموت أهله.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ} أي كفار مكة {فِى الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ما نزل بالمكذبين قبلهم {أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أخبارهم بالإِهلاك وخراب الديار فيعتبروا؟ {فَإِنَّهَا} أي القصة {لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور} تأكيد.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)} {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} بإنزال العذاب فأنجزه يوم بدر {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ} من أيام الآخرة بسبب العذاب {كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ} بالتاء والياء في الدنيا.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)} {وَكَأَيِّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظالمة ثُمَّ أَخَذْتُهَا} المراد أهلها {وَإِلَىَّ المصير} المرجع.
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)} {قُلْ ياأيها الناس} أي أهل مكة {إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} بيِّن الإنذار وأنا بشير للمؤمنين.
{فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)} {فالذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} من الذنوب {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} هو الجنة.
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)} {والذين سَعَوْاْ فِى ءاياتنا} القرآن بإبطالها {معاجزين} من اتبع النبي أي ينسبونهم إلى العجز، ويثبطونهم عن الإِيمان أو مقدّرين عجزنا عنهم، وفي قراءة «معاجزين» مسابقين لنا، أي يظنون أن يفوتونا بإنكارهم البعث والعقاب {أولئك أصحاب الجحيم} النار.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)} {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ} هو نبيّ أُمِر بالتبليغ {وَلاَ نَبِىّ} أي لم يؤمر بالتبليغ {إِلاَّ إِذَا تمنى} قرأ {أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ} قراءته ما ليس من القرآن مما يرضاه المرسل إليهم، وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النجم بمجلس من قريش بعد {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} [53: 19- 20] بإلقاء الشيطان على لسانه من غير علمه صلى الله عليه وسلم به: (تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهنّ لترتجى) ففرحوا بذلك، ثم أخبره جبريل بما ألقاه الشيطان على لسانه من ذلك فحزن فسلِّي بهذه الآيات ليطمئن {فَيَنسَخُ الله} يبطل {مَا يُلْقِى الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته} يثبتها {والله عَلِيمٌ} بإلقاء الشيطان ما ذكر {حَكِيمٌ} في تمكينه منه يفعل ما يشاء.
{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)} {لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشيطان فِتْنَةً} محنة {لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شقاق ونفاق {والقاسية قُلُوبُهُمْ} أي المشركين عن قبول الحق {وَإِنَّ الظالمين} الكافرين {لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} خلاف طويل مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حيث جرى على لسانه ذكر آلهتهم بما يرضيهم ثم أبطل ذلك.
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)} {وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم} التوحيد والقرآن {أَنَّهُ} أي القرآن {الحق مِن رَّبّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ} تطمئنّ {لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين ءَامَنُواْ إلى صراط} طريق {مُّسْتَقِيمٍ} أي دين الإِسلام.
{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)} {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ} شك {مِنْهُ} أي القرآن بما ألقاه الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ثم أبطل {حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً} أي ساعة موتهم أو القيامة فجأة {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} هو يوم بدر لا خير فيه للكفار كالريح العقيم التي لا تأتي بخير، أو هو يوم القيامة لا ليل بعده.
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)} {الملك يَوْمَئِذٍ} أي يوم القيامة {لِلَّهِ} وحده وما تضمنه من الاستقرار ناصب للظرف {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} بين المؤمنين والكافرين بما بيّن بعده {فالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِى جنات النعيم} فضلاً من الله.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)} {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} شديد بسبب كفرهم.
{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)} {والذين هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ الله} أي طاعته من مكة إلى المدينة {ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً} هو رزق الجنة {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرزقين} أفضل المعطين.
{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)} {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً} بضم الميم وفتحها أي إدخالاً أو موضعاً {يَرْضَوْنَهُ} وهو الجنة {وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ} بنيّاتهم {حَلِيمٌ} عن عقابهم.
{ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)} الأمر {ذلك} الذي قصصناه عليك {وَمَنْ عَاقَبَ} جازى من المؤمنين {بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} ظلما من المشركين: أي قاتلهم كما قاتلوه في الشهر المحرّم {ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ} منهم أي ظلم بإخراجه من منزله {لَيَنصُرَنَّهُ الله إِنَّ الله لَعَفُوٌّ} عن المؤمنين {غَفُورٌ} لهم عن قتالهم في الشهر الحرام.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)} {ذلك} النصر {بِأَنَّ الله يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل} أي يدخل كلا منهما في الآخر بأن يزيد به، وذلك من أثر قدرته تعالى التي بها النصر {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ} دعاء المؤمنين {بَصِيرٌ} بهم حيث جعل فيهم الإِيمان فأجاب دعاءهم.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)} {ذلك} النصر أيضاً {بِأَنَّ الله هُوَ الحق} الثابت {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ} بالياء والتاء يعبدون {مِن دُونِهِ} وهو الأصنام {هُوَ الباطل} الزائل {وَأَنَّ الله هُوَ العلى} أي العالي على كل شيء بقدرته {الكبير} الذي يصغر كلّ شيء سواه.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)} {أَلَمْ تَرَ} تعلم {أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً} مطراً {فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} بالنبات وهذا من أثر قدرته {إِنَّ الله لَطِيفٌ} بعباده في إخراج النبات بالماء {خَبِيرٌ} بما في قلوبهم عند تأخير المطر.
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)} {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} على جهة الملك {وَإِنَّ الله لَهُوَ الغنى} عن عباده {الحميد} لأوليائه.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} {أَلَمْ تَرَ} تعلم {أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الأرض} من البهائم {والفلك} السُّفن {تَجْرِى فِى البحر} للركوب والحمل {بِأَمْرِهِ} بإذنه {وَيُمْسِكُ السماء} من {أن} أو لئلا {تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ} فتهلكوا {إِنَّ الله بالناس لَرءُوفٌ رَّحِيمٌ} في التسخير والإِمساك.
{وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)} {وَهُوَ الذى أَحْيَاكُمْ} بالإِنشاء {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انتهاء آجالكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} عند البعث {إِنَّ الإنسان} أي المشرك {لَكَفُورٌ} لنعم الله بتركه توحيده.
{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)} {لّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} بفتح السين وكسرها شريعة {هُمْ نَاسِكُوهُ} عاملون به {فَلاَ ينازعنك} يراد به لا تنازعهم {فِى الأمر} أي أمر الذبيحة إذ قالوا: ما قتل الله أحقّ أن تأكلوه مما قتلتم {وادع إلى رَبّكَ} أي إلى دينه {وَإِنَّكَ لعلى هُدًى} دينٍ {مُّسْتَقِيمٍ}.
{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68)} {وَإِن جادلوك} في أمر الدين {فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} فيجازيكم عليه، وهذا قبل الأمر بالقتال.
{اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)} {الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} أيها المؤمنون والكافرون {يَوْمَ القيامة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} بأن يقول كل من الفريقين خلافَ قول الآخر.
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} {أَلَمْ تَعْلَمْ} الاستفهام فيه للتقرير {أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السماء والأرض إِنَّ ذلك} أي ما ذكر {فِى كتاب} هو اللوح المحفوظ {إِنَّ ذلك} أي علم ما ذكر {عَلَى الله يَسِيرٌ} سَهْل.
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)} {وَيَعْبُدُونَ} أي المشركون {مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ} هو الأصنام {سلطانا} حجّة {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} أنها آلهة {وَمَا للظالمين} بالإِشراك {مِن نَّصِيرٍ} يمنع عنهم عذاب الله.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)} {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا} من القرآن {بينات} ظاهرات حال {تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر} أي الإِنكار لها: أي أثره من الكراهة والعبوس {يكادون يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتنا} أي يقعون فيهم بالبطش {قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرٍّ مّن ذلكم} أي بأكره إليكم من القرآن المتلوّ عليكم هو {النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ} بأنّ مصيرهم إليها {وَبِئْسَ المصير} هي.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)} {ياأيها الناس} أي أهل مكة {ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ} وهو {إِنَّ الذين تَدْعُونَ} تعبدون {مِن دُونِ الله} أي غيره وهم الأصنام {لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً} اسم جنس، واحدة ذبابة يقع على المذكر والمؤنث {وَلَوِ اجتمعوا لَهُ} لخلقه {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً} مما عليهم من الطيب والزعفران الملطخين به {لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ} لا يستردّوه {مِنْهُ} لعجزهم، فكيف يعبدون شركاء لله تعالى؟ هذا أمر مستغرب عبر عنه بضرب مثل {ضَعُفَ الطالب} العابد {والمطلوب} المعبود.
{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} {مَا قَدَرُواْ الله} عظَّموه {حَقَّ قَدْرِهِ} عظمته إذ أشركوا به ما لم يمتنع من الذباب ولا ينتصف منه {إِنَّ الله لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ} غالب.
{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)} {الله يَصْطَفِى مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس} رسلاً، ونزل لما قال المشركون: أَأُنزل عليه الذكر من بيننا؟ {إِنَّ الله سَمِيعٌ} لمقالاتهم {بَصِيرٌ} بمن يتخذه رسولاً كجبريل وميكائيل وإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم وغيرهم صلى الله عليهم وسلم.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي ما قدّموا وما خلّفوا وما عملوا وما هم عاملون بعد {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)} {ياأيها الذين ءَامَنُواْ اركعوا واسجدوا} أي صلُّوا {وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ} وحدوه {وافعلوا الخير} كصلة الرحم ومكارم الأخلاق {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تفوزون بالبقاء في الجنة.
{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} {وجاهدوا فِى الله} لإِقامة دينه {حَقَّ جهاده} باستفراغ الطاقة فيه ونصب حَقَّ على المصدر {هُوَ اجتباكم} اختاركم لدينه {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ} أي ضيق بأن سهله عند الضرورة كالقصر والتيمم وأكل الميتة والفطر للمرض والسفر {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ} منصوب بنزع الخافض الكاف {إِبْرَاهِيمَ} عطف بيان {هُوَ} أي الله {سماكم المسلمين مِن قَبْلُ} أي قبل هذا الكتاب {وَفِى هذا} أي القرآن {لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ} يوم القيامة أنه بلّغكم {وَتَكُونُواْ} أنتم {شُهَدَاء عَلَى الناس} أن رسلهم بلغوهم {فَأَقِيمُواْ الصلاوة} داوموا عليها {وءَاتُوُاْ الزكواة واعتصموا بالله} ثقوا به {هُوَ مولاكم} ناصركم ومتولّي أموركم {فَنِعْمَ المولى} هو {وَنِعْمَ النصير} أي الناصر لكم.
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} {قَدْ} للتحقيق {أَفْلَحَ} فاز {المؤمنون}.
{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} {الذين هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خاشعون} متواضعون.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)} {والذين هُمْ عَنِ اللغو} من الكلام وغيره {مُّعْرِضُونَ}.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)} {والذين هُمْ للزكواة فاعلون} مؤدّون.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)} {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون} عن الحرام.
{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)} {إِلاَّ على أزواجهم} أي من زوجاتهم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} أي السّراري {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} في إتيانهنّ.
{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)} {فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك} من الزوجات والسراري كالاستمناء بيده {فأولئك هُمُ العادون} المتجاوزن إلى ما لا يحلّ لهم.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)} {والذين هُمْ لأماناتهم} جمعاً ومفرداً {وَعَهْدِهِمْ} فيما بينهم، وبين الله من صلاة وغيرها {راعون} حافظون.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)} {والذين هُمْ على صلواتهم} جمعاً ومفرداً {يُحَافِظُونَ} يقيمونها في أوقاتها.
{أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)} {أولئك هُمُ الوارثون} لا غيرهم.
{الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} {الذين يَرِثُونَ الفردوس} هو جنة أعلى الجنان {هُمْ فِيهَا خالدون} في ذلك إشارة إلى المعاد ويناسبه ذكر المبدأ بعده.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)} {وَ} الله {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} آدم {مِن سلالة} هي من سَلَلْتُ الشيء من الشيء أي استخرجته منه وهو خلاصته {مِن طِينٍ} متعلق بسلالة.
{ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)} {ثُمَّ جعلناه} أي الإِنسان نسل آدم {نُّطْفَةً} منيّاً {فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ} هو الرحم.
{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} دماً جامداً {فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً} لحمة قدر ما يمضغ {فَخَلَقْنَا المضغة عظاما فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً} وفي قراءة «عَظماً» في الموضعين. وخلقنا في المواضع الثلاث بمعنى صيَّرنا {ثُمَّ أنشأناه خَلْقاً ءَاخَرَ} بنفخ الروح فيه {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} أي المقدّرين، ومميز (أحسن) محذوف للعلم به: أي خلقاً.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)} {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيّتُونَ}.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)} {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} للحساب والجزاء.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)} {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرآئِقَ} أي سموات، جمع طريقة لأنها طرق الملائكة {وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق} تحتها {غافلين} أن تسقط عليهم فتهلكهم، بل نمسكها كآية: {وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض}.
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)} {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ} من كفايتهم {فَأَسْكَنَّاهُ فِى الأرض وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لقادرون} فيموتون مع دوابّهم عطشاً.
{فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)} {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جنات مِّن نَّخِيلٍ وأعناب} هما أكثر فواكه العرب {لَّكُمْ فِيهَا فواكه كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} صيفاً وشتاء.
{وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ (20)} {وَ} أنشأنا {شَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنآءَ} جبل بكسر السين وفتحها ومنع الصرف للعلميّة والتأنيث للبقعة {تُنبِتُ} من الرباعي والثلاثي {بالدهن} الباء زائدة على الأوّل ومعدّية على الثاني. وهي شجرة الزيتون {وَصِبْغٍ لِّلأَكِلِيِنَ} عطف على الدهن أي إدام يصبغ اللقمة بغمسها فيه وهو الزيت.
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)} {وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأنعام} الإِبل والبقر والغنم {لَعِبْرَةً} عظة تعتبرون بها {نُّسْقِيكُمْ} بفتح النون وضمها {مِّمَّا فِى بُطُونِهَا} أي اللبن {وَلَكُمْ فيِهَا منافع كَثِيرَةٌ} من الأصواف والأوبار والأشعار وغير ذلك {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}.
{وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)} {وَعَلَيْهَا} أي الإِبل {وَعَلَى الفلك} أي السفن {تُحْمَلُونَ}.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)} {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله} أطيعوه ووحِّدُوه {مَا لَكُم مِّنْ إله غَيْرُهُ} وهو اسم ما وما قبله الخبر، ومن زائدة {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} تخافون عقوبته بعبادتكم غيره؟
{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)} {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ} لأتباعهم {مَا هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ} يتشّرف {عَلَيْكُمْ} بأن يكون متبوعاً وأنتم أتباعه {وَلَوْ شَآءَ الله} أن لا يعبد غيره {لأَنزَلَ ملائكة} بذلك لا بشراً {مَّا سَمِعْنَا بهذا} الذي دعا إليه نوح من التوحيد {فِي ءَابَآئِنَا الأولين} أي الأمم الماضية.
{إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)} {إِنْ هُوَ} ما نوح {إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} حالة جنون {فَتَرَبَّصُواْ بِهِ} انتِظُروه {حتى حِينٍ} إلى زمن موته.
{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)} {قَالَ} نوح {رَبِّ انصرنى} عليهم {بِمَا كَذَّبُونِ} أي بسبب تكذيبهم إياي بأن تهلكهم، قال تعالى مجيباً دعاءه:
{فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)} {فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك} السفينة {بِأَعْيُنِنَا} بمرأى منّا وحفظنا {وَوَحْيِنَا} أمرنا {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا} بإهلاكهم {وَفَارَ التنور} للخباز بالماء وكان ذلك علامة لنوح {فاسلك فِيهَا} أي ادخل في السفينة {مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ} أي ذكر وأنثى أي من كل أنواعهما {اثنين} ذكر وأنثى، وهو مفعول، و«من» متعلقة ب «اسلك». وفي القصة أن الله تعالى حشر لنوح السباع والطير وغيرهما، فجعل يضرب بِيَدَيْهِ فِي كل نوع فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيحملهما في السفينة وفي قراءة «كل» بالتنوين ف «زوجين» مفعول و«اثنين» تأكيد له {وَأَهْلَكَ} أي زوجته وأولاده {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ} بالإهلاك وهو زوجته وولده كنعان، بخلاف سام وحام ويافث فحملهم وزوجاتهم الثلاثة. وفي سورة هود {وَمَنْ ءَامَنَ وَمآ ءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [40: 11] قيل: كانوا ستة رجال ونساءُهم. وقيل: جميع من كان في السفينة ثمانية وسبعون نصفهم رجال وَنِصْفَهُم نساء {وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ} كفروا بترك إهلاكهم {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ}.
{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)} {فَإِذَا استويت} اعتدلت {أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ الذى نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين} الكافرين وإهلاكهم.
{وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)} {وَقُلْ} عند نزولك من الفلك {رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً} بضم الميم وفتح الزاي مصدر أواسم مكان وبفتح الميم وكسر الزاي مكان النزول {مُبَارَكاً} ذلك الإِنزال أو المكان {وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين} ما ذكر.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)} {إِنَّ فِى ذَلِكَ} المذكور من أمر نوح والسفينة وإهلاك الكفار {لأياة} دلالات على قدرة الله تعالى {وإِنْ} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن {كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} مختبرين قوم نوح بإرساله إليهم ووعظه.
{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31)} {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً} قوماً {ءَاخَرِينَ} هم عاد.
{فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)} {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ} هوداً {أَن} أي بأن {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} عقابه فتؤمنون.
{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)} {وَقَالَ الملا مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الأخرة} أي بالمصير إليها {وأترفناهم} نَعَّمناهم {فِي الحياة الدنيا مَا هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ}.
{وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)} {وَ} الله {لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ} فيه قَسَمٌ وشرط والجواب لأوّلهما، وهو مغنٍ عن جواب الثاني {إِنَّكُمْ إِذاً} أي إذا أطعتموه {لخاسرون} أي مغبونون.
{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)} {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وعظاما أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} هو خبر «أنكم» الأولى، و«أنكم» الثانية تأكيد لها لما طال الفصل.
{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)} {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} اسم فعل ماض بمعنى مصدر: أو بَعُدَ بَعُدَ {لِمَا تُوعَدُونَ} من الإِخراج من القبور، واللام زائدة للبيان.
{إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)} {إِنْ هِىَ} أي ما الحياة {إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا} بحياة أبنائنا {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}.
{إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)} {إِنْ هُوَ} ما الرسول {إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} أي مُصَدِّقِين بالبعث بعد الموت.
{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39)} {قَالَ رَبِّ انصرنى بِمَا كَذَّبُونِ}.
{قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)} {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ} من الزمان، و«ما» زائدة {لَّيُصْبِحُنَّ} ليصيرنّ {نادمين} على كفرهم وتكذيبهم.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)} {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} صيحة العذاب والهلاك كائنة {بالحق} فماتوا {فجعلناهم غُثآءً} وهو نبت يبس أي صيَّرْنَاهُمْ مثله في اليبس {فَبُعْداً} من الرحمة {لِّلْقَوْمِ الظالمين} المكذِّبين.
{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ (42)} {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً} أقواماً {ءَاخَرِينَ}.
{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)} {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} بأن تموت قبله {وَمَا يَسْتَئْخِرُونَ} عنه، ذكر الضمير بعد تأنيثه رعاية للمعنى.
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)} {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} بالتنوين وعدمه أي متتابعين بين كل اثنين زمان طويل {كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً} بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية بينها وبين الواو {رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} في الهلاك {وجعلناهم أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}.
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)} {ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هارون بئاياتنا وسلطان مُّبِينٍ} حجّة بيّنة، وهي اليد والعصا وغيرهما من الآيات.
{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)} {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فاستكبروا} عن الإِيمان بها وبالله {وَكَانُواْ قَوْماً عالين} قاهرين بني إسرائيل بالظلم.
{فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)} {فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عابدون} مطيعون خاضعون؟.
{فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)} {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين}.
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)} {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب} التوراة {لَعَلَّهُمْ} أي قومه بني إسرائيلَ {يَهْتَدُونَ} به من الضلالة، وأوتيها بعد هلاك فرعون وقومه جملة واحدة.
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)} {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ} عيسى {وَأُمَّهُ ءَايَةً} لم يقل آيتين، لأن الآية فيهما واحدة: ولادته من غيرفحل {وَءَاوَيْنَاهُمَآ إِلى رَبْوَةٍ} مكان مرتفع وهو بيت المقدس، أو دمشق، أو فلسطين، أقوال {ذَاتِ قَرَارٍ} أي مستوية يستقرّ عليها ساكنوها {وَمَعِينٍ} أي ماء جار ظاهر تراه العيون.
{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} الحلالات {واعملوا صالحا} من فرض ونفل {إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فأجازيكم عليه.
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)} {وَ} اعلموا {إِنَّ هذه} أي ملة الإِسلام {أُمَّتُكُمْ} دينكم أيها المخاطبون أي يجب أن تكونوا عليها {أُمَّةً وَاحِدَةً} حال لازمة. وفي قراءة بتخفيف النون. وفي أخرى بكسرها مشدّدة استئنافاً {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون} فاحذرون.
{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)} {فَتَقَطَّعُواْ} أي الأتباع {أَمَرَهُمْ} دينهم {بَيْنَهُمْ زُبُراً} حال من فاعل «تقطعوا» أي أحزاباً متخالفين كاليهود والنصارى وغيرهم {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ} أي عندهم من الدين {فَرِحُونَ} مسرورون.
{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)} {فَذَرْهُمْ} أي اترك كفار مكة {فِى غَمْرَتِهِمْ} ضلالتهم {حتى حِينٍ} إلى حين موتهم.
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)} {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ} نعطيهم {مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} في الدنيا.
{نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} {نُسَارِعُ} نعجّل {لَهُمْ فِى الخيرات}؟ لا {بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} أن ذلك استدراج لهم.
{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)} {إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ} خوفهم منه {مُشْفِقُونَ} خائفون من عذابه.
{وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58)} {والذين هُم بئايات رَبَّهِمْ} القرآن {يُؤْمِنُونَ} يصدّقون.
{وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)} {والذين هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} معه غيره.
{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)} {والذين يُؤْتُونَ} يعطُون {مَآ ءَاتَواْ} أَعْطَوْا من الصدقة والأعمال الصالحة {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} خائفة أن لا تُقبل منهم {أَنَّهُمْ} يقدّر قبله لام الجرّ {إلى رَبِّهِمْ راجعون}.
{أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} {أولئك يسارعون فِى الخيرات وَهُمْ لَهَا سابقون} في علم الله.
{وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)} {وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} طاقتها، فمن لم يستطع أن يصلي قائماً فليصلّ جالساً، ومن لم يستطع أن يصوم فليأكل {وَلَدَيْنَا} أي عندنا {كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق} بما عملته: وهو اللوح المحفوظ تسطّر فيه الأعمال {وَهُمْ} أي النفوس العاملة {لاَ يُظْلَمُونَ} شيئاً منها، فلا ينقص من ثواب أعمال الخيرات ولا يزاد في السيئات.
{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)} {بَلْ قُلُوبُهُمْ} أي الكفار {فِى غَمْرَةٍ} جهالة {مِّنْ هذا} القرآن {وَلَهُمْ أعمال مِّن دُونِ ذلك} المذكور للمؤمنين {هُمْ لَهَا عاملون} فيعذبون عليها.
{حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)} {حتى} ابتدائية {إِذآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} أغنياءهم ورؤساءهم {بالعذاب} أي السيف يوم بدر {إِذا هُمْ يَجْئَرُونَ} يضجُّونَ يقال لهم:
{لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)} {لاَ تَجْئَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} لا تمنعون.
{قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)} {قَدْ كَانَتْ ءاياتى} من القرآن {تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أعقابكم تَنكِصُونَ} ترجعون القهقري.
{مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)} {مُسْتَكْبِرِينَ} عن الإِيمان {بِهِ} أي بالبيت أو بالحرم بأنهم أهله في أمن، بخلاف سائر الناس في مواطنهم {سامرا} حال أي جماعة يتحدّثون بالليل حول البيت {تَهْجُرُونَ} من الثلاثي: تتركون القرآن، ومن الرباعي أي تقولون غير الحق في النبيّ والقرآن.
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)} {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ} أصله «يتدبروا» فأدغمت التاء في الدال {القول} أي القرآن الدال على صدق النبي {أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَآءَهُمُ الأولين}.
{أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)} {أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}.
{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)} {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} الاستفهام للتقرير بالحق من صدق النبي ومجيء الرسل للأمم الماضية ومعرفة رسولهم بالصدق والأمانة، وأن لا جنون به {بَل} للانتقال {جَآءهُمْ بالحق} أي القرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإِسلام {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارهون}.
{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)} {وَلَوِ اتبع الحق} أي القرآن {أَهْوَآءَهُمْ} بأن جاء بما يهوونه من الشريك والولد لله، تعالى الله عن ذلك. {لَفَسَدَتِ السموات والأرض وَمَن فِيهِنَّ} أي خرجت عن نظامها المشاهد لوجود التمانع في الشيء عادة عند تعدّد الحاكم {بَلْ أتيناهم بِذِكْرِهِمْ} أي القرآن الذي فيه ذكرهم وشرفهم {فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ}.
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)} {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً} أجراً على ما جئتهم به من الإِيمان؟ {فَخَرَاجُ رَبِّكَ} أجره وثوابه ورزقه {خَيْرٌ} وفي قراءة (خَرْجاً) في الموضعين. وفي قراءة أخرى (خراجاً) فيهما {وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} أفضل من أعطى وآجر.
{وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)} {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صراط} طريق {مُّسْتَقِيمٍ} أي دين الإِسلام.
{وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)} {وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} بالبعث والثواب والعقاب {عَنِ الصراط} أي الطريق {لناكبون} عادلون.
{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)} {وَلَوْ رحمناهم وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ} أي جوع أصابهم بمكة سبع سنين {لَّلَجُّواْ} تمادوا {فِي طغيانهم} ضلالتهم {يَعْمَهُونَ} يتردّدون.
{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)} {وَلَقَدْ أخذناهم بالعذاب} الجوع {فَمَا استكانوا} تواضعوا {لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} يرغبون إلى الله بالدعاء.
{حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)} {حتى} ابتدائية {إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا} صاحب {عَذَابٍ شَدِيدٍ} هو يوم بدر بالقتل {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} آيسون من كل خير.
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)} {وَهُوَ الذى أَنشَأَ} خلق {لَكُمُ السمع} بمعنى الأسماع {والأبصار والأفئدة} القلوب {قَلِيلاً مَّا} تأكيد للقلة {تَشْكُرُونَ}.
{وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)} {وَهُوَ الذى ذَرَأَكُمْ} خلقكم {فِى الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تبعثون.
{وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)} {وَهُوَ الذى يُحْىِ} بنفخ الروح في المضغة {وَيُمِيتُ وَلَهُ اختلاف اليل والنهار} بالسواد والبياض والزيادة والنقصان {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} صنعه تعالى فتعتبرون؟
{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)} {بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون}.
{قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)} {قَالُواْ} أي الأولّون {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}؟ لا، وفي الهمزتين في الموضعين التحقيق وتسهيل الثانية وإدخال ألف بينهما على الوجهين.
{لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)} {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابآؤُنَا هذا} أي البعث بعد الموت {مِن قَبْلُ إِن} ما {هاذآ إِلاَّ أساطير} أكاذيب {الأولين} كالأضاحيك والأعاجيب، جمع أسطورة بالضم.
{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)} {قُلْ} لهم {لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ} من الخلق {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} خالقها ومالكها.
{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ} لهم {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} بإدغام التاء الثانية في الذال: تتعظون، فتعلمون أن القادر على الخلق ابتداء قادر على الإِحياء بعد الموت؟
{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)} {قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم} الكرسي؟.
{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} تحذرون عبادة غيره؟.
{قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)} {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ} ملك {كُلِّ شَئ} والتاء للمبالغة {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} يَحمي ولا يُحمى عليه؟ {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)} {سَيَقُولُونَ الله} وفي قراءة: «لله»بلام الجر في الموضعين نظراً إلى أن المعنى: من له ما ذكر؟ {قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ} تخدعون وتصرفون عن الحق عبادة الله وحده؟أي كيف تخيل لكم أنه باطل؟.
{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)} {بَلْ أتيناهم بالحق} بالصدق {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} في نفيه وهو:
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)} {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إله إِذاً} أي لو كان معه إله {لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ} أي انفرد به ومنع الآخر من الاستيلاء عليه {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} مغالبة كفعل ملوك الدنيا {سبحان الله} تنزيهاً له {عَمَّا يَصِفُونَ} ه به مما ذكر.
{عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)} {عالم الغيب والشهادة} ما غاب وما شوهد بالجرّ صفة، والرفع خبر «هو» مُقَدَّراً {فتعالى} تعظم {عَمَّا يُشْرِكُون} ه معه.
{قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)} {قُل رَّبِّ إِمَّا} فيه إدغام نون «إن» الشرطية في «ما» الزائدة {تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُون} ه من العذاب هو صادق بالقتل ببدر.
{رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)} {رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى القوم الظالمين} فأَهْلَكَ بإهلاكهم.
{وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)} {وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لقادرون}.
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)} {ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ} أي الخلة من الصفح والإِعراض عنهم {السيئة} أذاهم إياك، وهذا قبل الأمر بالقتال [5: 9] {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أي يكذبون ويقولون فنجازيهم عليه.
{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)} {وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ} أعتصم {بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} نزغاتهم بما يوسوسون به.
{وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} في أموري، لأنهم إنما يحضرون بسوء.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)} {حتى} ابتدائية {إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت} ورأى مقعده من النار ومقعده من الجنة لو آمن {قَالَ رَبِّ ارجعون} الجمع للتعظيم.
{لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)} {لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا} بأن أشهد أن لا إله إلا الله يكون {فِيمَا تَرَكْتُ} ضيعت من عمري أي في مقابلته قال تعالى: {كَلاَّ} أي لا رجوع {إِنَّهَا} أي «رب ارجعون» {كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} ولا فائدة له فيها {وَمِن وَرَائِهِمْ} أمامهم {بَرْزَخٌ} حاجز يصدّهم عن الرجوع {إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ولا رجوع بعده.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)} {فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور} القرن النفخة الأولى {فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} يتفاخرون بها {وَلاَ يَتَسآءَلُونَ} عنها خلاف حالهم في الدنيا لما يشغلهم من عظم الأمر عند ذلك في بعض مواطن القيامة، وفي بعضها يفيقون. وفي آية: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} [5: 37].
{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)} {فَمَن ثَقُلَتْ موازينه} بالحسنات {فأولئك هُمُ المفلحون} الفائزون.
{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)} {وَمَنْ خَفَّتْ موازينه} بالسيئات {فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} فهم {فِى جَهَنَّمَ خالدون}.
{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)} {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار} تحرقها {وَهُمْ فِيهَا كالحون} شمرت شفاههم العليا والسفلى عن أسنانهم، ويقال لهم:
{أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)} {أَلَمْ تَكُنْ ءاياتى} من القرآن {تتلى عَلَيْكُمْ} تُخَوَّفُونَ بها {فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}.
{قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)} {قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} وفي قراءة «شَقاوتنا» بفتح أوّله وألف وهما مصدران بمعنى {وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ} عن الهداية.
{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)} {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا} إلى المخالفة {فَإِنَّا ظالمون}.
{قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} {قَالَ} لهم بلسان مالك بعد قدر الدنيا مرتين {اخسئوا فِيهَا} أبعدوا في النار أذلاء {وَلاَ تُكَلّمُونِ} في رفع العذاب عنكم فينقطع رجاؤهم.
{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)} {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى} هم المهاجرون {يَقُولُونَ رَبَّنآ ءَامَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الراحمين}.
{فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)} {فاتخذتموهم سِخْرِيّاً} بضم السين وكسرها: مصدر بمعنى الهزء، منهم: بلال وصهيب وعمار وسلمان {حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى} فتركتموه لاشتغالكم بالاستهزاء بهم، فهم سبب الإِنساء فنسب إليهم {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ}.
{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)} {إِنِّى جَزَيْتُهُمُ اليوم} النعيم المقيم {بِمَا صَبَرُواْ} على استهزائكم بهم وأذاكم إياهم {إِنَّهُمْ} بكسر الهمزة {هُمُ الفآئزون} بمطلوبهم استئناف، وبفتحها مفعول ثان لجزيتهم.
{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)} {قَالَ} تعالى لهم بلسان مالك. وفي قراءة: (قل) {كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الأرض} في الدنيا وفي قبوركم {عَدَدَ سِنِينَ} تمييز.
{قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)} {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} شكّوا في ذلك واستقصروه لعظم ما هم فيه من العذاب {فَسْئَلِ العآدين} أي الملائكة المحصين أعمال الخلق.
{قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)} {قَالَ} تعالى لهم بلسان مالك. وفي قراءة «قل» {إِن} ما {لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} مقدار لبثكم من الطول كان قليلاً بالنسبة إلى لبثكم في النار.
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً} لا لحكمة {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} بالبناء للفاعل وللمفعول؟ لا، بل لنتعبدكم بالأمْرِ والنهي، وترجعوا إلينا ونجازي على ذلك {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [56: 51].
{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} {فتعالى الله} عن العبث وغيره مما لا يليق به {الملك الحق لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم} الكرسي الحسن.
{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)} {وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} صفة كاشفة لا مفهوم لها {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ} جزاؤه {عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} لا يسعدون.
{وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)} {وَقُل رَّبِّ اغفر وارحم} المؤمنين، في الرحمة زيادة على المغفرة {وَأَنتَ خَيْرُ الراحمين} أفضل راحم.
|