الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الجلالين ***
{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)} {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَئْذِنُونَكَ} في التخلُّف {وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} تقدّم مثله.
{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)} {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ} في التخلف {إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} من الغزو {قُلْ} لهم {لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} نصدقكم {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} أي أخبرنا بأحوالكم {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ} بالبعث {إلى عالم الغيب والشهادة} أي الله {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فيجازيكم عليه.
{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)} {سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم} رجعتم {إِلَيْهِمُ} من تبوك أنهم معذورون في التخلف {لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} بترك المعاتبة {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ} قَذَرٌ لخبث باطنهم {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)} {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين} أي عنهم، ولا ينفع رضاكم مع سخط الله.
{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)} {الأعراب} أهل البدو {أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} من أهل المدن لجفائهم وغلظ طباعهم وبعدهم عن سماع القرآن {وَأَجْدَرُ} أولى {أ} ن أي بأن {لا يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ} من الأحكام والشرائع {والله عَلِيمٌ} بخلقه {حَكِيمٌ} في صنعه بهم.
{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)} {وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ} في سبيل اللّهِ {مَغْرَمًا} غرامة وخسراناً لأنه لا يرجو ثوابه بل ينفقه خوفاً وهم بنو (أسد) و(غطفان) {وَيَتَرَبَّصُ} ينتظر {بِكُمُ الدوائر} دوائر الزمان أن تنقلب عليكم فيتخلصوا. {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء} بالضم والفتح: أي يدور العذاب والهلاك عليهم لا عليكم {والله سَمِيعٌ} لأقوال عباده {عَلِيمٌ} بأفعالهم.
{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)} {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الأخر} ك (جُهينة) و(مزينة) {وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ} في سبيل الله {قربات} تقرّبه {عِندِ الله وَأُبَلّغُكُمْ} وسيلة إلى {صلوات} دعوات {الرسول} له {أَلآ إِنَّهَا} أي نفقتهم {قُرْبَةٌ} بضم الراء وسكونها {لَهُمْ} عنده {سَيُدْخِلُهُمُ الله فِى رَحْمَتِهِ} جنته {إِنَّ الله غَفُورٌ} لأهل طاعته {رَّحِيمٌ} بهم.
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار} وهم من شهد بدراً أو جميع الصحابة. {والذين اتبعوهم} إلى يوم القيامة {بإحسان} في العمل {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} بطاعته {وَرَضُواْ عَنْهُ} بثوابه {وَأَعَدَّ لَهُمْ جنات تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} وفي قراءة بزيادة «من» {خالدين فِيهَا أَبَداً ذلك الفوز العظيم}.
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)} {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم} يا أهل المدينة {مِّنَ الاعراب منافقون} ك (أسلم) و(أشجع) و(غفار) {وَمِنْ أَهْلِ المدينة} منافقون أيضاً {مَرَدُواْ عَلَى النفاق} لَجُّوا فيه واستمرّوا {لاَ تَعْلَمُهُمْ} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} بالفضيحة أو القتل في الدنيا وعذاب القبر {ثُمَّ يُرَدُّونَ} في الآخرة {إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} هو النار.
{وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)} {وَ} قوم {ءَاخَرُونَ} مبتدأ {اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} من التخلف نعته، والخبر {خَلَطُواْ عَمَلاً صالحا} وهو جهادهم قبل ذلك أو اعترافهم بذنوبهم أو غير ذلك {وَءَاخَرَسَيِّئاً} وهو تخلّفهم {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} نزلت في أبي لبابة وجماعة أوثقوا أنفسهم في سواري المسجد لما بلغهم ما نزل في المتخلفين وحلفوا لا يحلهم إلا النبي صلى الله عليه وسلم فحلَّهم لما نزلت.
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)} {خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} من ذنوبهم فأخذ ثلث أموالهم وتصدّق بها {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي ادع لهم {إِنّ صلواتك سَكَنٌ} رحمة {لَهُمْ} وقيل طمأنينة بقبول توبتهم {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)} {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ} يقبل {الصدقات وَأَنَّ الله هُوَ التواب} على عباده بقبول توبتهم {الرحيم} بهم؟ والاستفهام للتقرير، والقصد به تهييجهم إلى التوبة والصدقة.
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} {وَقُلْ} لهم أو الناس {اعملوا} ما شئتم {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون وَسَتُرَدُّونَ} بالبعث {إلى عالم الغيب والشهادة} أي الله {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يجازيكم به.
{وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)} {وَءَاخَرُونَ} من المتخلفين {مُرْجَؤُونَ} بالهمز وتركه (مرْجَونَ) مؤخرون عن التوبة {لاْمْرِ الله} فيهم بما يشاء {إِمَّا يُعَذّبُهُمْ} بأن يميتهم بلا توبة {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ والله عَلِيمٌ} بخلقه {حَكِيمٌ} في صنعه بهم، وهم الثلاثة الآتون بعد: (مرارة بن الربيع) و(كعب بن مالك) و(هلال بن أمية): تخلفوا كسلاً وميلاً إلى الدعة لا نفاقاً ولم يعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كغيرهم، فوقف أمرَهم خمسين ليلة وهجرهم الناس حتى نزلت توبتهم بعد.
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)} {وَ} منهم {الذين اتخذوا مَّسْجِدًا} وهم اثنا عشر من المنافقين {ضِرَارًا} مضارة لأهل مسجد (قباء) {وَكُفْراً} لأنهم بَنَوه بأمر (أبي عامر) الراهب ليكون معقلاً له يقدّم فيه من يأتي من عنده، وكان ذهب ليأتي بجنود من قيصر لقتال النبي صلى الله عليه وسلم {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين} الذين يُصلّون بقباء بصلاة بعضهم في مسجدهم {وَإِرْصَادًا} ترقباً {لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ} أي قبل بنائه وهو أبو عامر المذكور {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ} ما {أَرَدْنآ} ببنائه {إِلاَّ} الفعلة {الحسنى} من الرفق بالمسكين في المطر والحرّ والتوسعة على المسلمين {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون} في ذلك.
{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} وكانوا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه فنزل {لاَ تَقُمْ} تصلِّ {فِيهِ أَبَدًا} فأرسل جماعة هدموه وحرّقوه وجعلوا مكانه كُناسة تلقى فيها الجيف {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ} بنيت قواعده {عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} وضع يوم حللت بدار الهجرة وهو مسجد (قباء) كما في البخاري {أَحَقُّ} منه {أن} أي بأن {تَقُومُ} تصلي {فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ} هم الأنصار {يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين} أي يثيبهم، وفي إدغام التاء في الأصل في الطاء، روى ابن خزيمة في صحيحه عن عُوَيْمِ بن ساعدة أنه صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد (قباء) فقال: «إنّ الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تَطَهَّرون به؟» قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود وكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا. وفي حديث رواه البزار: فقالوا (نُتْبعُ الحجارة بالماء)، فقال: «هو ذاك فعليكموه».
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)} {أفمن أسس بنيانه على تقوى} مخافة {من الله و} رجاء {رضوان} منه {خير أم من أسس بنيانه على شفا} طرف {جرف} بضم الراء وسكونها جانب {هار} مشرف على السقوط {فانهار به} سقط مه بانيه {في نار جهنم} خير تمثيل للبناء على ضد التقوى بما يؤول إليه والاستفهام للتقرير أي الأول خير وهو خير مثال مسجد قباء والثاني مثال مسجد الضرار {والله لا يهدي القوم الظالمين}
{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)} {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ رِيبَةً} شكّا {فِى قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ} تنفصل {قُلُوبُهُمْ} بأن يموتوا {والله عَلِيمٌ} بخلقه {حَكِيمٌ} في صنعه بهم.
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم} بأن يبذلوها في طاعته كالجهاد {بِأَنَّ لَهُمُ الجنة يقاتلون فِى سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} جملة استئناف بيان للشراء. وفي قراءة بتقديم المبني للمفعول. أي فَيُقْتَلُ بعضُهم ويقاتِل الباقي {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا} مصدران منصوبان بفعلهما المحذوف {فِي التوراة والإنجيل والقرءان وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} أي لا أحد أوفى منه {فاستبشروا} فيه التفات عن الغيبة {بِبَيْعِكُمُ الذى بَايَعْتُمْ بِهِ وذلك} البيع {هُوَ الفوز العظيم} المنيل غاية المطلوب.
{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)} {التائبون} رفع على المدح بتقدير مبتدأ من الشرك والنفاق {العابدون} المخلصون العبادة لله {الحامدون} له على كل حال {السائحون} الصائمون {الراكعون الساجدون} أي المصلّون {الأمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر والحافظون لِحُدُودِ الله} لأحكامه بالعمل بها {وَبَشِّرِ المؤمنين} بالجنة.
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)} ونزل في استغفاره صلى الله عليه وسلم لعمِّه أبي طالب واستغفار بعض الصحابة لأبويه المشركين {مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ والذين ءَامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قربى} ذوي قرابة {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم} النار، بأن ماتوا على الكفر.
{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)} {وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} بقوله: {سأستغفر لك ربِّي} [47: 19] رجاء أن يُسلم {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} بموته على الكفر {تَبَرَّأَ مِنْهُ} وترك الاستغفار له {إِنَّ إبراهيم لأَوَّاهٌ} كثير التضرع والدعاء {غَفُورٌ حَلِيمٌ} صبور على الأذى.
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)} {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} للإِسلام {حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} من العمل فلا يتقوه فيستحقوا الإِضلال {إِنَّ الله بِكُلِّ شَئ عَلِيمٌ} ومنه مستحق الإِضلال والهداية.
{إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)} {أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض يُحْىِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ} أيها الناس {مِن دُونِ الله} أي غيره {مِن وَلِىٍّ} يحفظكم منه {وَلاَ نَصِيرٍ} يمنع عنكم ضرره.
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)} {لَقَدْ تَابَ الله} أي أدام توبته {على النبى والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِى سَاعَةِ العسرة} أي وقتها، وهي حالهم في غزوة (تبوك): كان الرجلان يقتسمان تمرة، والعشرة يتعقبون البعير الواحد، واشتدّ الحرّ حتى شربوا الفرث {مِن بَعْدِ مَا كَادَ تَزِيغُ} بالتاء والياء. تميل {قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} عن اتباعه إلى التخلف لما هم فيه من الشدّة {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} بالثبات {إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ}.
{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)} {وَ} تاب {على الثلاثة الذين خُلِّفُواْ} عن التوبة عليهم بقرينة {حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ} أي مع رحبها أي سعتها فلا يجدون مكاناً يطمئنون إليه {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} قلوبهم للغم والوحشة بتأخير توبتهم فلا يسعها سرورٌ ولا أُنس {وَظَنُّواْ} أيقنوا {أن} مخففة {لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} وفَّقهم للتوبة {لِيَتُوبُواْ إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} {ياأيها الذين ءَامَنُواْ اتقوا الله} بترك معاصيه {وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} في الأيمان والعهود: بأن تلزموا الصدق.
{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)} {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله} إذا غزا {وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} بأن يصونوها عما رضيه لنفسه من الشدائد، وهو نهي بلفظ الخبر {ذلك} أي النهي عن التخلف {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} عطش {وَلاَ نَصَبٌ} تعب {وَلاَ مَخْمَصَةٌ} جوع {فِى سَبِيلِ الله وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا} مصدر بمعنى (وطأ) {يَغِيظُ} يغضب {الكفار وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ} للّهِ {نَّيْلاً} قتلاً أو أسرا أو نهبا {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} ليجازَوْا عليه {إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} أي أجرهم بل يثيبهم.
{وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)} {وَلاَ يُنفِقُونَ} فيه {نَفَقَةً صَغِيرَةً} ولو تمرة {وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا} بالسير {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ} ذلك {لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي جزاءه.
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} ولما وبخوا على التخلف وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرية نفروا جميعاً فنزل: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ} إلى الغزو {كآفَّةً فَلَوْلاَ} فهلا {نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} قبيلة {مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} جماعة ومكث الباقون {لِّيَتَفَقَّهُواْ} أي الماكثون {فِى الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ} من الغزو بتعليمهم ما تعلّموه من الأحكام {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} عقاب الله بامتثال أمره ونهيه. قال ابن عباس: فهذه مخصوصة بالسرايا، والتي قبلها بالنهي عن تخلف واحد فيما إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)} {ياأيها الذين ءَامَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار} أي الأقرب فالأقرب منهم {وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} شدّة: أي أغلظوا عليهم {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} بالعون والنصر.
{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)} {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} من القرآن {فَمِنْهُمْ} أي المنافقين {مَن يِقُولُ} لأصحابه استهزاء {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إيمانا} تصديقاً؟ قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذين ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إيمَانَاً} لتصديقهم بها {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون بها.
{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} {وَأَمَّا الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} ضعف اعتقاد {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} كفراً إلى كفرهم لكفرهم بها {وَمَاتُواْ وَهُمْ كافرون}.
{أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)} {أَوْ لاَ يَرَوْنَ} بالياء: أي المنافقون، والتاء: أيها المؤمنون {أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ} يُبْتلون {فِى كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} بالقحط والأمراض {ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ} من نفاقهم {وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} يتعظون.
{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)} {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} فيها ذكرهم وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} يريدون الهرب يقولون {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} إذا قمتم؟ فإن لم يرهم أحد قاموا وإلا ثبتوا {ثُمَّ انصرفوا} على كفرهم {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم} عن الهدى {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} الحق لعدم تدبرهم.
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي منكم محمد صلى الله عليه وسلم {عَزِيزٌ} شديد {عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي عنتكم، أي مشقتكم ولقاؤكم المكروه {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أن تهتدوا {بالمؤمنين رَءُوفٌ} شديد الرحمة {رَّحِيمٌ} يريد لهم الخير.
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)} {فَإِن تَوَلَّوْاْ} عن الإِيمان بك {فَقُلْ حَسْبِىَ} كافيّ {الله لآ إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} به وثقت لا بغيره {وَهُوَ رَبُّ العرش} الكرسي {العظيم} خصه بالذكر لأنه أعظم المخلوقات. وروى الحاكم في المستدرك عن أبيّ بن كعب قال: آخر آية نزلت «لقد جاءكم رسول» إلى آخر السورة.
{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)} {الر} الله اعلم بمراده بذلك {تِلْكَ} أي هذه الآيات {ءايات الكتاب} القرآن، والإِضافة بمعنى (مِنْ) {الحكيم} المحكم.
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)} {أَكَانَ لِلنَّاسِ} أي أهل مكة استفهام إنكار، والجار والمجرور حال من قوله {عَجَبًا} بالنصب خبر «كان» وبالرفع اسمها، والخبر وهو اسمها على الأولى {أَنْ أَوْحَيْنَآ} أي إيحاؤنا {إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} محمد صلى الله عليه وسلم {أَن} مفسرة {أَنذِرِ} خَوِّف {الناس} الكافرين بالعذاب {وَبَشِّرِ الذين ءَامَنُواْ} أي ب {أنّ لَهُمْ قَدَمَ} سلف {صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} أي أجراً حسناً بما قدّموه من الأعمال {قَالَ الكافرون إِنَّ هذا} القرآن المشتمل على ذلك {لساحر مُّبِينٌ} بيِّن وفي قراءة (لساحر) والمشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)} {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} من أيام الدنيا أي في قدرها لأنه لم يكن ثَمَّ شمسٌ ولا قمر، ولو شاء لخلقهن في لمحة والعدول عنه لتعليم خلقه التثبت {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} استواء يليق به {يُدَبِّرُ الأمر} بين الخلائق {مَّا مِن} زائدة {شَفِيعٍ} يشفع لأحد {إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} ردّاً لقولهم: إن الأصنام تشفع لهم {ذلكم} الخالق المدبِّر {الله رَبُّكُمْ فاعبدوه} وَحِّدُوهُ {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} بإدغام التاء في الأصل في الذال.
{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)} {إِلَيْهِ} تعالى {مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّاً} مصدران منصوبان بفعلهما المقدَّر {إِنَّهُ} بالكسر استئنافاً، والفتح على تقدير اللام {يَبْدَؤُاْ الخلق} أي بدأه بالإِنشاء {ثُمَّ يُعِيدُهُ} بالبعث {لِيَجْزِىَ} يثيب {الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} ماء بالغ نهاية الحرارة {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم {بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} أي بسبب كفرهم.
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)} {هُوَ الذى جَعَلَ الشمس ضِيآءً} ذات ضياء: أي نور {والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ} من حيث سيره {مَنَازِلَ} ثمانية وعشرين منزلاً في ثمان وعشرين ليلة من كل شهر ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوماً أو ليلة إن كان تسعة وعشرين يوماً {لِّتَعْلَمُواْ} بذلك {عَدَدَ السنين والحساب مَا خَلَقَ الله ذلك} المذكور {إِلاَّ بالحق} لا عبثاً تعالى عن ذلك {يُفَصِّلُ} بالياء والنون: يبين {الأيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} يتدبرون.
{إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)} {إِنَّ فِى اختلاف اليل والنهار} بالذهاب والمجيء والزيادة والنقصان {وَمَا خَلَقَ الله فِى السماوات} من ملائكة وشمس وقمر ونجوم وغير ذلك {وَ} في {الأرض} من حيوان وجبال وبحار وأنهار وأشجار وغيرها {لأيات} دلالات على قدرته تعالى {لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} ه فيؤمنون: خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بها.
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)} {إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} بالبعث {وَرَضُواْ بالحياة الدنيا} بدل الآخرة لإِنكارهم لها {واطمأنوا بِهَا} سكنوا إليها {والذين هُمْ عَنْ ءاياتنا} دلائل وحدانيتنا {غافلون} تاركون النظر فيها.
{أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)} {أولئك مأواهم النار بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من الشرك والمعاصي.
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)} {إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ} يُرشدهم {رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} به بأن يجعل لهم نوراً يهتدون به يوم القيامة {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار فِي جنات النعيم}.
{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)} {دعواهم فِيهَا} طلبهم لما يشتهونه في الجنة أن يقولوا {سبحانك اللهم} أي يا الله، فإذا ما طلبوه وجدوه بين أيديهم {وَتَحِيَّتُهُمْ} فيما بينهم {فِيهَا سلام وَءَاخِرُ دعواهم أَنِ} مفسرة {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين}.
{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)} ونزل لما استعجل المشركون العذاب: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم} أي كاستعجالهم {بالخير لَقُضِىَ} بالبناء للمفعول وللفاعل {إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} بالرفع والنصب، بأن يهلكهم ولكن يمهلهم {فَنَذَرُ} نترك {الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِى طغيانهم يَعْمَهُونَ} يتردّدون متحيّرين.
{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)} {وَإِذَا مَسَّ الإنسان} الكافر {الضر} المرض والفقر {دَعَانَا لِجَنبِهِ} أي مضطجعاً {أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا} أي في كل حال {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ} على كفره {كَأَن} مخففة واسمها محذوف: أي كأنه {لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرِّ مَّسَّهُ كذلك} كما زُيّن له الدعاء عند الضرّ والإِعراض عند الرخاء {زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ} المشركين {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)} {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون} الأمم {مِن قَبْلِكُمْ} يا أهل مكة {لَمَّا ظَلَمُواْ} بالشرك {وَ} قد {جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} الدلالات على صدقهم {وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} عطف على «ظلموا» {كذلك} كما أهلكنا أولئك {نَجْزِي القوم المجرمين} الكافرين.
{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)} {ثُمَّ جعلناكم} يا أهل مكة {خلائف} جمع (خليفة) {فِى الأرض مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فيها، وهل تعتبرون بهم فتصدّقوا رسلنا؟.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا} القرآن {بينات} ظاهرات حال {قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} لا يخافون البعث {ائت بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هاذآ} ليس فيه عيب آلهتنا {أَوْ بَدِّلْهُ} من تلقاء نفسك {قُلْ} لهم {مَّا يَكُونُ} ينبغي {لِى أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآئِ} قِبَلِ {نَفْسِى إِنْ} ما {أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى} بتبديله {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هو يوم القيامة.
{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)} {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلآ أدراكم} أعلمكم {بِهِ} و«لا» نافية عطف على ما قبله. وفي قراءة بلام جواب «لو» أي: لأعلَمكم به على لسان غيري {فَقَدْ لَبِثْتُ} مكثت {فِيكُمْ عُمُراً} سنين أربعين {مِّن قَبْلِهِ} لا أحدثكم بشيء {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أنه ليس من قبلي؟.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)} {فَمَنْ} أي لا أحد {أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} بنسبة الشريك إليه {أَوْ كَذَّبَ بئاياته} القرآن {إِنَّهُ} أي الشأن {لاَ يُفْلِحُ} يَسْعد {المجرمون} المشركون.
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أي غيره {مَا لاَ يَضُرُّهُمْ} إن لم يعبدوه {وَلاَ يَنفَعُهُمْ} إن عبدوه وهو الأصنام {وَيَقُولُونَ} عنها {هؤلاء شفعاؤنا عِندَ الله قُلْ} لهم {أَتُنَبِّئُونَ الله} تخبرونه {بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السماوات وَلاَ فِى الأرض} استفهام إنكار، أي: لو كان له شريك لَعَلِمَهُ، إذ لا يخفى عليه شيء {سبحانه} تنزيهاً له {وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ه معه.
{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)} {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} على دين واحد وهو الإِسلام من لدن آدم إلى نوح. وقيل من عهد إبراهيم إلى عمرو بن لحيِّ {فاختلفوا} بأن ثبت بعض وكفر بعض {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} بتأخير الجزاء إلى يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي الناس في الدنيا {فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من الدين بتعذيب الكافرين.
{وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)} {وَيَقُولُونَ} أي أهل مكة {لَوْلاَ} هلا {أُنزِلَ عَلَيْهِ} على محمد صلى الله عليه وسلم {ءَايَةٌ مّن رَّبِّهِ} كما كان للأنبياء من الناقة والعصا واليد {فَقُلْ} لهم {إِنَّمَا الغيب} ما غاب عن العباد: أي أمره {لِلَّهِ} ومنه الآيات فلا يأتي بها إلا هو، وإنما عليَّ التبليغ {فانتظروا} العذاب إن لم تؤمنوا {إِنِّى مَعَكُم مِّنَ المنتظرين}.
{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)} {وَإِذَا أَذَقْنَا الناس} أي كفار مكة {رَحْمَةً} مطراً وخصباً {مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ} بؤس وجدب {مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِى ءَايَاتِنَا} بالاستهزاء والتكذيب {قُلْ} لهم {الله أَسْرَعُ مَكْرًا} مجازاة {إِنَّ رُسُلَنَا} الحفظة {يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} بالتاء والياء.
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)} {هُوَ الذى يُسَيِّرُكُمْ} وفي قراءة «ينشركم» {فِى البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك} السفن {وَجَرَيْنَ بِهِم} فيه التفات عن الخطاب {بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} لَيّنة {وَفَرِحُواْ بِهَا جآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} شديدة الهبوب تكسر كل شيء {وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي أُهلكوا {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} الدعاء {لَئِنْ} لام القسم {أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه} الأهوال {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} الموحّدين.
{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)} {فَلَمّآ أنجاهم إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الحق} بالشِّرك {ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ} ظلمكم {على أَنفُسِكُمْ} لأن إثمه عليها، هو {متاع الحياة الدنيا} تمتعون فيها قليلاً {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ} بعد الموت {فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فنجازيكم عليه. وفي قراءة بنصب «متاع» أي: تتمتعون.
{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} {إِنَّمَا مَثَلُ} صفة {الحياة الدنيا كَمَاءٍ} مطرٍ {أنزلناه مِنَ السمآء فاختلط بِهِ} بسببه {نَبَاتُ الأرض} واشتبك بعضه ببعض {مِمَّا يَأْكُلُ الناس} من البُرِّ والشعير وغيرهما {والأنعام} من الكلأ {حتى إِذآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا} بهجتها من النبات {وازينت} بالزهر، وأصله: (تزينت)، أُبدلت التاء زاياً وأدغمت في الزاي {وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قادرون عَلَيْهَا} متمكنون من تحصيل ثمارها {أتاها أَمْرُنَا} قضاؤنا أو عذابنا {لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فجعلناها} أي زرعها {حَصِيداً} كالمحصود بالمناجل {كَأَنَ} مخففة أي كأنها {لَّمْ تَغْنَ} تكن {بالأمس كذلك نُفَصِّلُ} نبيِّن {الأيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)} {والله يَدْعُو إلى دَارِ السلام} أي السلامة وهي الجنة بالدعاء إلى الإِيمان {وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ} هدايته {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} دين الإِسلام.
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)} {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} بالإِيمان {الحسنى} الجنة {وَزِيَادَةٌ} هي النظر إليه تعالى كما في حديث مسلم {وَلاَ يَرْهَقُ} يغشى {وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ} سواد {وَلاَ ذِلَّةٌ} كآبة {أولئك أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون}.
{وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)} {والذين} عطف على (الذين أحسنوا)، أي وللذين {كَسَبُواْ السيئات} عملوا الشرك {جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ} زائدة {عَاصِمَ} مانع {كَأَنَّمَآ أُغْشِيَتْ} أُلبست {وُجُوهُهُمْ قِطَعًا} بفتح الطاء جمع (قطعة)، وإسكانها أي جزءاً {مِّنَ اليل مُظْلِمَاً أولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون}.
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)} {وَ} اذكر {يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} أي الخلق {جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ} نُصِبَ ب (الزموا) مقدّراً {أَنتُمْ} تأكيد للضمير المستتر في الفعل المقدّر ليعطف عليه {وَشُرَكَآؤُكُمْ} أي الأصنام {فَزَيَّلْنَا} ميَّزنا {بَيْنَهُمْ} وبين المؤمنين كما في آية {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} [59: 36] {وَقَالَ} لهم {شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} «ما» نافية، وقدّم المفعول للفاصلة.
{فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)} {فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن} مخففة أي إنا {كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لغافلين}.
{هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)} {هُنَالِكَ} أي ذلك اليوم {تَبْلُواْ} من البلوى. وفي قراءة (تتلو) بتاءين من التلاوة {كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} قدّمت من العمل {وَرُدُّواْ إِلَى الله مولاهم الحق} الثابت الدائم {وَضَلَّ} غاب {عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} عليه من الشركاء.
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)} {قُلْ} لهم {مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السمآء} بالمطر {والأرض} بالنبات {أَمَّن يَمْلِكُ السمع} بمعنى الأسماع أي خلقها {والأبصار وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى وَمَن يُدَبِّرُ الأمر} بين الخلائق؟ {فَسَيَقُولُونَ} هو {الله فَقُلْ} لهم {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} ه فتؤمنون؟.
{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} {فَذَلِكُمُ} الفّعال لهذه الأشياء {الله رَبُّكُمُ الحق} الثابت {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} استفهام تقرير أي ليس بعده غيره، فمن أخطأ الحق- وهو عبادة الله- وقع في الضلال {فإنى} كيف {تُصْرَفُونَ} عن الإِيمان مع قيام البرهان؟.
{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)} {كذلك} كما صُرِفَ هؤلاء عن الإِيمان {حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين فَسَقُواْ} كفروا. وهي {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} الآية، أو هي {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}.
{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)} {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ الله يَبْدؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ فأنى تُؤْفَكُونَ} تصرفون عن عبادته مع قيام الدليل؟.
{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)} {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الحق} بنصب الحجج وخلق الاهتداء؟ {قُلِ الله يَهْدِى لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الحق} وهو الله {أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى} يهتدى {إِلاَّ أَن يهدى} أحق أن يتبع؟ استفهام تقرير وتوبيخ، أي الأوّل أحق {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا الحكم الفاسد من اتباع ما لا يحق اتباعه؟.
{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)} {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ} في عبادة الأصنام {إِلاَّ ظَنّاً} حيث قلدوا فيه آباءهم {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا} فيما المطلوب منه العلم {إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} فيجازيهم عليه.
{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)} {وَمَا كَانَ هذا القرءان أَن يفترى} أي افتراء {مِن دُونِ الله} أي غيره {ولكن} أُنْزِلَ {تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب {وَتَفْصِيلَ الكتاب} تبيين ما كتبه الله من الأحكام وغيرها {لاَ رَيْبَ} شك {فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين} متعلق بتصديق أو ب «أنزل» المحذوف، وقرئ برفع «تصديق»، و«تفصيل» بتقدير «هو».
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)} {أَمْ} بل أ {يَقُولُونَ افتراه} اختلقه محمد {قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} في الفصاحة والبلاغة على وجه الافتراء فإنكم عربيون فصحاء مثلي {وادعوا} للإِعانة عليه {مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله} أي غيره {إِن كُنتُمْ صادقين} في أنه افتراء. فلم يقدروا على ذلك.
{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)} قال تعالى {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} أي القرآن ولم يتدبروه {وَلَمَّا} لم {يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} عاقبة ما فيه من الوعيد {كذلك} التكذيب {كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} رسلهم {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين} بتكذيب الرسل: أي آخر أمرهم من الهلاك، فكذلك نُهلك هؤلاء.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)} {وَمِنْهُمْ} أي أهل مكة {مَن يُؤْمِنُ بِهِ} لعلم الله ذلك منه {وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} أبداً {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين} تهديد لهم.
{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)} {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل} لهم {لِّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} أي لكلٍّ جزاء عمله {أَنتُمْ بَرِيئونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِئ مّمَّا تَعْمَلُونَ} وهذا منسوخ بآية السيف [5: 9].
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)} {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} إذا قرأت القرآن {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم} شبَّههم بهم في عدم الانتفاع بما يتلى عليهم {وَلَوْ كَانُواْ} مع الصمم {لاَ يَعْقِلُونَ} يتدبرون؟.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)} {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِى العمى وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ}؟ شبَّههم بهم في عدم الاهتداء بل أعظم {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور} [46: 22].
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)} {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنَ} أي كأنهم {لَّمْ يَلْبَثُواْ} في الدنيا أو القبور {إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النهار} لهول ما رأوا، وجملة التشبيه حال من الضمير {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} يعرف بعضهم بعضاً إذا بعثوا ثم ينقطع التعارف لشدّة الأهوال، والجملة حال مقدرة أو متعلق الظرف {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله} بالبعث {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}.
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)} {وَإِمَّا} فيه إدغام نون «إن» الشرطية في «ما» المزيدة {نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ} به من العذاب في حياتك، وجواب الشرط محذوف: أي فذاك {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل تعذيبهم {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ الله شَهِيدٌ} مُطَّلع {على مَا يَفْعَلُونَ} من تكذيبهم وكفرهم فيعذبهم أشدّ العذاب.
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)} {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} من الأمم {رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ} إليهم فكذبوه {قُضِىَ بَيْنَهُمْ بالقسط} بالعدل فيعذبون وينجَّى الرسول ومَن صدَّقه {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} بتعذيبهم بغير جُرم فكذلك نفعل بهؤلاء.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)} {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} للعذاب {إِن كُنتُمْ صادقين} فيه؟.
{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)} {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّاً} أدفعه {وَلاَ نَفْعاً} أجلبه {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} أن يقدرني عليه، فكيف أملك لكم حلول العذاب؟ {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} مدّة معلومة لهلاكهم {إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَئَخِرُونَ} يتأخّرون عنه {سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} يتقدّمون عليه.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)} {قُلْ أَرَءَيْتُمْ} أخبروني {إِنْ أتاكم عَذَابُهُ} أي الله {بياتا} ليلاً {أَوْ نَهَارًا مَّاذَا} أيّ شيء {يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ} أي العذاب {المجرمون} المشركون؟ فيه وضع الظاهر موضع المضمر، وجملة الاستفهام جواب الشرط: كقولك إذا أتيتك ماذا تعطيني؟ والمراد به التهويل أي ما أعظم ما استعجلوه.
{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)} {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} حلّ بكم {ءَامَنْتُمْ بِهِ} أي الله أو العذاب عند نزوله، والهمزة لإِنكار التأخير، فلا يقبل منكم ويقال لكم {ءآلئان} تؤمنون {وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} استهزاء؟.
{ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)} {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد} أي الذي تخلدون فيه {هَلْ} ما {تُجْزَوْنَ إِلاَّ} جزاء {بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}.
{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)} {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ} يستخبرونك {أَحَقٌّ هُوَ} أي ما وعدتنا به من العذاب والبعث؟ {قُلْ إِى} نعم {وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآأَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بفائتين العذاب.
{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)} {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} كفرت {مَّا فِى الأرض} جميعاً من الأموال {لاَفْتَدَتْ بِهِ} من العذاب يوم القيامة {وَأَسَرُّواْ الندامة} على ترك الإِيمان {لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} أي أخفاها رؤساؤهم عن الضعفاء الذين أضلوهم مخافة التعيير {وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ} بين الخلائق {بالقسط} بالعدل {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} شيئاً.
{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)} {أَلآ إِنَّ للَّهِ مَا فِى السماوات والأرض أَلآَ إِنَّ وَعْدَ الله} بالبعث والجزاء {حَقٌّ} ثابت {ولكن أَكْثَرَهُمْ} أي الناس {لاَّ يَعْلَمُونَ} ذلك.
{هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)} {هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} {ياأيها الناس} أي أهل مكة {قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبِّكُمْ} كتاب فيه ما لكم وما عليكم، وهو القرآن {وَشِفَآءٌ} دواء {لِمَا فِى الصدور} من العقائد الفاسدة والشكوك {وَهُدَىً} من الضلال {وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} به.
{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} {قُلْ بِفَضْلِ الله} الإِسلام {وَبِرَحْمَتِهِ} القرآن {فبذلك} الفضل والرحمة {فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} من الدنيا بالياء والتاء.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} {قُلْ أَرَءَيْتُمْ} أخبروني {مَّآ أَنزَلَ الله} خلق {لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً} كالبحيرة والسائبة والميتة {قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} في ذلك التحليل والتحريم؟ لا {أَمْ} بل {عَلَى الله تَفْتَرُونَ} تَكْذِبون بنسبة ذلك إليه.
{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)} {وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} أي: أيُّ شيء ظنهم به {يَوْمَ القيامة}؟ أيحسبون أنه لا يعاقبهم؟ لا {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} بإمهالهم والإِنعام عليهم {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ}.
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)} {وَمَا تَكُونُ} يا محمد {فِى شَأْنٍ} أمر {وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ} أي من الشأن أو الله {مِن قُرْءَانٍ} أنزله عليك {وَلاَ تَعْمَلُونَ} خاطبه وأمته {مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} رقباء {إِذْ تُفِيضُونَ} تأخذون {فِيهِ} أي العمل {وَمَا يَعْزُبُ} يغيب {عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ} وزن {ذَرَّةٍ} أصغر نملة {فِي الأرض وَلاَ فِى السمآء وَلآ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلآ أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ} بيّن: هو اللوح المحفوظ.
{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} {أَلآ إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} في الآخرة.
{الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)} هم {الذين ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} الله بامتثال أمره ونهيه.
{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} {لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا} فسرت في حديث صححه الحاكم بالرؤيا الصالحة: يراها الرجل أو تُرَى له {وَفِي الأخرة} الجنة والثواب {لاَ تَبْدِيلَ لكلامات الله} لا خلف لمواعيده {ذلك} المذكور {هُوَ الفوز العظيم}.
{وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)} {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} لك: «لست مرسلاً» وغيره {إِن} استئناف {العزة} القوّة {للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السميع} للقول {العليم} بالفعل فيجازيهم وينصرك.
{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)} {أَلآ إِنَّ لِلَّهِ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض} عبيداً وملكاً وخلقاً {وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ} يعبدون {مِن دُونِ الله} أي غيره أصناماً {شُرَكَآءَ} له على الحقيقة تعالى عن ذلك {إِن} ما {يَتَّبِعُونَ} في ذلك {إِلاَّ الظن} أي ظنهم أنها آلهة تشفع لهم {وَإِنْ} ما {هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يَكذبِون في ذلك.
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)} {هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً} إسناد الإِبصار إليه مجاز لأنه يبصر فيه {إِنَّ فِى ذلك لأيات} دلالات على وحدانيته تعالى {لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع تدبر واتعاظ.
{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)} {قَالُواْ} أي اليهود والنصارى ومن زعم أن الملائكة بنات الله {اتخذ الله وَلَدًا} قال تعالى لهم {سبحانه} تنزيهاً له عن الولد {هُوَ الغنى} عن كل أحد وإنما يَطلب الولد من يحتاج إليه {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ملكاً وخلقاً وعبيداً {إِنْ} ما {عِندَكُمْ مِّن سلطان} حجة {بهذا} الذي تقولونه {أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} استفهام توبيخ.
{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)} {قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} بنسبة الولد إليه {لاَ يُفْلِحُونَ} لا يسعدون.
{مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)} لهم {متاع} قليل {فِى الدنيا} يتمتعون به مدّة حياتهم {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} بالموت {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد} بعد الموت {بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)} {واتل} يا محمد {عَلَيْهِمْ} أي كفار مكة {نَبَأَ} خبر {نُوحٍ} ويبدل منه {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقوم إِنْ كَانَ كَبُرَ} شق {عَلَيْكُمْ مَّقَامِى} لبثي فيكم {وَتَذْكِيرِى} وعظي إياكم {بئايات الله فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ} اعزموا على أمر تفعلونه بي {وَشُرَكَآءَكُمْ} الواو بمعنى (مع) {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} مستوراً بل أظهروه وجاهروني به {ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ} امضوا في ما أردتموه {وَلاَ تُنظِرُونِ} تمهلون، فإني لست مبالياً بكم.
{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)} {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} عن تذكيري {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} ثواب عليه فتولوا {إِنْ} ما {أَجْرِىَ} ثوابي {إِلاَّ عَلَى الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين}.
{فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)} {فَكَذَّبُوهُ فنجيناه وَمَن مَّعَهُ فِى الفلك} السفينة {وجعلناهم} أي من معه {خلائف} في الأَرض {وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا} بالطوفان {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المنذرين} من إهلاكهم، فكذلك نفعل بمن كذبك.
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)} {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ} أي نوح {رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ} كإبراهيم وهود وصالح {فَجَآءُوهُمْ بالبينات} المعجزات {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} أي قبل بعث الرسل إليهم {كذلك نَطْبَعُ} نختم {على قُلوبِ المعتدين} فلا تقبل الإِيمان، كما طبعنا على قلوب أولئك.
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)} {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى وهارون إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} قومه {بئاياتنا} التسع {فاستكبروا} عن الإِيمان بها {وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ}.
{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)} {فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} بيِّن ظاهر.
{قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)} {قَالَ موسى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ} إنه لسحر {أَسِحْرٌ هذا}؟ وقد أفلح من أتى به وأبطل سحر السحرة {وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون} والاستفهام في الموضعين للإِنكار.
{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)} {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا} لتردّنا {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابآءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء} الملك {فِى الأرض} أرض مصر {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} مصدّقين.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79)} {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتونى بِكُلِّ ساحر عَلِيمٍ} فائق في علم السحر.
{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)} {فَلَمَّا جَاء السحرة قَالَ لَهُمْ موسى} بعدما قالوا له {إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} [115: 7] {أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ}.
{فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)} {فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ} حبالهم وعصيَّهم {قَالَ موسى مَا} استفهامية مبتدأ، خبره {جِئْتُمْ بِهِ ءآلسحر} بدل، وفي قراءة (السحر) بهمزة واحدة: (إخبار) ف «ما» اسم موصول مبتدأ {إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} أي سيمحقه {إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين}.
{وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)} {وَيُحِقُّ} يثبت ويظهر {الله الحق بكلماته} بمواعيده {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون}.
{فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)} {فَمآ ءَامَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ} طائفة {مِنْ} أولاد {قَوْمِهِ} أي فرعون {على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} يصرفهم عن دينه بتعذيبه {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ} متكبِّر {فِى الأرض} أرض مصر {وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين} المتجاوزين الحدّ بادّعاء الربوبية.
{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)} {وَقَالَ موسى ياقوم إِن كُنتُمْ ءَامَنْتُمْ بالله فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ}.
{فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)} {فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين} أي لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق فيفتتنوا بنا.
{وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)} {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين}.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)} {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا} اتخذا {لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} مصلًّى تصلّون فيه لتأمنوا من الخوف وكان فرعون منعهم من الصلاة {وَأَقِيمُوا الصلاوة} أتموها {وَبَشِّرِ المؤمنين} بالنصر والجنة.
{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)} {وَقَالَ موسى رَبَّنآ إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وأموالا فِى الحياة الدنيا رَبَّنَا} آتيتهم ذلك {لِيُضِلُّواْ} في عاقبته {عَن سَبِيلِكَ} دينك {رَبَّنَا اطمس على أموالهم} امسخها {واشدد على قُلُوبِهِمْ} اطبع عليها واستوثق {فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} المؤلم. دعا عليهم وأمَّن هارون على دعائه.
{قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)} {قَالَ} تعالى {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} فمسخت أموالهم حجارة ولم يؤمن فرعون حتى أدركه الغرق {فاستقيما} على الرسالة والدعوة إلى أن يأتيهم العذاب {وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} في استعجال قضائي. روي أنه مكث بعدها أربعين سنة.
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)} {وجاوزنا بِبَنِى إسراءيل البحر فَأَتْبَعَهُمْ} لحقهم {فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا} مفعول له {حتى إِذآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ} أي بأنه، وفي قراءة بالكسر استئنافاً {لآ إله إِلاَّ الذى ءَامَنَتْ بِهِ بَنواْ إسراءيل وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} كرّره ليقبل منه فلم يقبل، ودسَّ جبريل في فيه من حمأة البحر مخافة أن تناله الرحمة وقال له:
{آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)} {;ءآلئان} تؤمن {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين} بضلالك وإضلالك عن الإِيمان.
{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)} {فاليوم نُنَجِّيكَ} نخرجك من البحر {بِبَدَنِكَ} جسدك الذي لا روح فيه {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ} بعدَك {ءَايَةً} عبرة فيعرفوا عبوديتك ولا يقدموا على مثل فعلك. وعن ابن عباس: أن بعض بني إسرائيل شكُّوا في موته فأُخرج لهم لِيَرَوْه {وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الناس} أي أهل مكة {عَنْ ءاياتنا لغافلون} لا يعتبرون بها.
{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)} {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا} أنزلنا {بَنِى إسراءيل مُبَوَّأَ صِدْقٍ} منزل كرامة وهو الشام ومصر {ورزقناهم مِّنَ الطيبات فَمَا اختلفوا} بأن آمن بعض وكفر بعض {حتى جآءَهُمُ العلم إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أمر الدين بإنجاء المؤمنين وتعذيب الكافرين.
{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)} {فَإِن كُنتَ} يا محمد {فِي شَكٍّ مّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} من القصص فرضاً {فَسْئَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب} التوراة {مِن قَبْلِكَ} فإنه ثابت عندهم يخبروك بصدقه قال صلى الله عليه وسلم «لا أشك ولا أسأل» {لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} الشاكِّين فيه.
{وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)} {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بئآيات الله فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين}.
{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96)} {إِنَّ الذين حَقَّتْ} وجبت {عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} بالعذاب {لاَ يُؤْمِنُونَ}.
{وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)} {وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءَايَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم}.
{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)} {فَلَوْلا} فهلا {كَانَتْ قَرْيَةٌ} أريد أهلها {ءَامَنتُ} قبل نزول العذاب بها {فَنَفَعَهَآ إيمانها إِلاَّ} لكن {قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ} عند رؤية أمارة العذاب ولم يؤخّروا إلى حلوله {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزى فِى الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حِينٍ} انقضاء آجالهم.
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)} {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لأَمَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس} بما لم يشأه الله منهم {حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} لا.
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)} {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} بإرادته {وَيَجْعَلُ الرجس} العذاب {عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} يتدبرون آيات الله.
{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} {قُلْ} لكفار مكة {انظروا مَاذَا} أي الذي {فِي السماوات والأرض} من الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى {وَمَا تُغْنِى الأيات والنذر} جمع (نذير) أي الرسل {عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} في علم الله أي ما تنفعهم؟.
{فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)} {فَهَلْ} فما {يَنتَظِرُونَ} بتكذيبك {إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم: أي مثل وقائعهم من العذاب {قُلْ فانتظروا} ذلك {إِنِّى مَعَكُم مِّنَ المنتظرين}.
{ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)} {ثُمَّ نُنَجِّى} المضارع لحكاية الحال الماضي {رُسُلَنَا والذين ءَامَنُواْ} من العذاب {كذلك} الإِنجاء {حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِى المؤمنين} النبّي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين تعذيب المشركين.
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)} {قُلْ ياأيها الناس} أي أهل مكة {إِن كُنتُمْ فِى شَكٍّ مِّن دِينِى} أنه حق {فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أي غيره وهو الأصنام لشككم فيه {ولكن أَعْبُدُ الله الذى يتوفاكم} بقبض أرواحكم {وَأُمِرْتُ أَنْ} أي بأن {أَكُونَ مِنَ المؤمنين}.
{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)} {وَ} قيل لي {أَن أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} مائلاً إليه {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين}.
{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)} {وَلاَ تَدْعُ} تعبد {مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ} إن عبدته {وَلاَ يَضُرُّكَ} إن لم تعبده {فَإِن فَعَلْتَ} ذلك فرضاً {فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظالمين}.
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} {وَإِن يَمْسَسْكَ} يصبك {الله بِضُرٍّ} كفقر ومرض {فَلاَ كَاشِفَ} رافع {لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ} دافع {لِفَضْلِهِ} الذي أرادك به {يُصَيبُ بِهِ} أي بالخير {مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغفور الرحيم}.
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)} {قُلْ ياأيها الناس} أي أهل مكة {قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ} لأن ثواب اهتدائه له {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} لأن وبال ضلاله عليها {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} فأجبركم على الهدى.
{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)} {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ} من ربك {واصبر} على الدعوة وأذاهم {حتى يَحْكُمَ الله} فيهم بأمره {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} أَعْدَلُهُم، وقدْ صبر حتى حكم على المشركين بالقتال وأهل الكتاب بالجزية.
|