الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الجلالين ***
{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)} {تِلْكَ القرى} التي مرّ ذكرها {نَقُصُّ عَلَيْكَ} يا محمد {مِنْ أَنبَآئِهَا} أخبار أهلها {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} المعجزات الظاهرات {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} عند مجيئهم {بِمَا كَذَّبُواْ} كفروا به {مِن قَبْلُ} مجيئهم بل استمروا على الكفر {كذلك} الطبع {يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين}.
{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)} {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم} أي الناس {مِّنْ عَهْدٍ} أي وفاء بعهدهم يوم أخذ الميثاق {وَإِن} مخففة {وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لفاسقين}.
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)} {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم} أي الرسل المذكورين {موسى بئاياتنآ} التسع {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ} قومه {فَظَلَمُواْ} كفروا {بِهَا فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} بالكفر من إهلاكهم.
{وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)} {وَقَالَ موسى يافرعون إِنِّى رَسُولٌ مِن رَّبِّ العالمين} إليك فكذبه.
{حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)} {حَقِيقٌ} جدير {على أَن} أي بأن {لآ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق} وفي قراءة بتشديد الياء، ف «حقيق» مبتدأ وخبره «أن» وما بعدها {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِىَ} إلى الشام {بَنِى إسراءيل} وكان اسْتَعْبَدَهم.
{قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)} {قَالَ} فرعون له {إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَةٍ} على دعواك {فَأْتِ بِهآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} فيها.
{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)} {فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} حية عظيمة.
{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)} {وَنَزَعَ يَدَهُ} أخرجها من جيبه {فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ} ذات شعاع {للناظرين} خلاف ما كانت عليه من الأدمة.
{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)} {قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ} فائق في علم السحر. وفي (الشعراء) [34: 26] أنه من قول فرعون نفسه، فكأنهم قالوه معه على سبيل التشاور.
{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)} {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}.
{قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)} {قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} أَخِّرْ أمرهما {وَأَرْسِلْ فِى المدآئن حاشرين} جامعين.
{يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)} {يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحر} وفي قراءة (سحَّار) {عَلِيمٍ} يَفْضُل موسى في علم السحر فَجُمِعُوا.
{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)} {وَجَآءَ السحرة فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ} وفي قراءة أئن بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية وإدخال ألف بينهما على الوجهين {لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين}؟
{قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)} {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين}.
{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)} {قَالُواْ ياموسى إَمَّآ أَن تُلْقِىَ} عصاك {وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} ما معنا.
{قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)} {قَالَ أَلْقَوْاْ} أمر للإذن بتقديم إلقائهم توصلاً به إلى إظهار الحق {فَلَمَّآ أَلْقَوْاْ} حبالهم وعصيهم {سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس} صرفوها عن حقيقة إدراكها {واسترهبوهم} خوّفوهم حيث خيّلوها حيات تسعى {وَجآءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)} {وَأَوْحَيْنآ إلى موسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ} بحذف إحدى التاءين في الأصل: تبتلع {مَا يَأْفِكُونَ} يقلبون بتمويههم.
{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)} {فَوَقَعَ الحق} ثبت وظهر {وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من السحر.
{فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)} {فَغُلِبُواْ} أي فرعون وقومه {هُنَالِكَ وانقلبوا صاغرين} صاروا ذليلين.
{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)} {وَأُلْقِىَ السحرة ساجدين}.
{قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121)} {قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبِّ العالمين}.
{رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)} {رَبِّ موسى وهارون} لعلمهم بأن ما شاهدوه من العصا لا يتأتى بالسحر.
{قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)} {قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنْتُمْ} بتحقيق الهمزتين وإبدال الثانية ألفاً {بِهِ} بموسى {قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ} أنا {لَكُمْ إِنَّ هذا} الذي صنعتموه {لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى المدينة لِتُخْرِجُواْ مِنْهآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ما ينالكم مني.
{لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)} {لأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خلاف} أي يَدَ كُلِّ واحد اليمنى ورجله اليسرى {ثُمَّ لاَصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}.
{قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)} {قَالُواْ إِنَّآ إلى رَبِّنَا} بعد موتنا بأي وجه كان {مُنقَلِبُونَ} راجعون في الآخرة.
{وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)} {وَمَا تَنقِمُ} تنكر {مِنَّآ إِلآ أَنْ ءَامَنَّا بئايات رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} عند فعل ما توعَّدنا به لئلا نرجع كفاراً {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}.
{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)} {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ} له {أَتَذَرُ} تترك {موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الأرض} بالدعاء إلى مخالفتك {وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ} وكان صنع لهم أصناماً صغاراً يعبدونها وقال: أنا ربكم وربها، ولذا قال: {أنا ربكم الأعلى} [23: 79] {قَالَ سَنُقَتِّلُ} بالتشديد والتخفيف {أَبْنَآءَهُمْ} المولودين {وَنَسْتَحْيِى} نستبقي {نِسَآءَهُمْ} كفعلنا بهم من قبل {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون} قادرون ففعلوا بهم ذلك فشكا بنو إسرائيل.
{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)} {قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله واصبروا} على أذاهم {إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا} يعطيها {مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة} المحمودة {لِّلْمُتَّقِينَ} لله.
{قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)} {قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرض فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فيها.
{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)} {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ بالسنين} بالقحط {وَنَقْصٍ مِّن الثمرات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} يتعظون فيؤمنون.
{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)} {فَإِذَا جآءَتْهُمُ الحسنة} الخصب والغنى {قَالُواْ لَنَا هذه} أي نستحقها، ولم يشكروا عليها {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} جدب وبلاء {يَطَّيَّرُواْ} يتشاءموا {بموسى وَمَن مَّعَهُ} من المؤمنين {أَلآ إِنَّمَا طائرهم} شؤمهم {عَندَ الله} يأتيهم به {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أنَّ ما يصيبهم من عنده.
{وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)} {وَقَالُواْ} لموسى {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءَايَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} فدعا عليهم.
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)} {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان} وهو ماء دخل بيوتهم ووصل إلى حلوق الجالسين سبعة أيام {والجراد} فأكل زرعهم وثمارهم كذلك {والقمل} السوس أو هو نوع من القراد فتتبع ما تركه الجراد {والضفادع} فملأت بيوتهم وطعامهم {والدم} في مياههم {ءايات مُّفَصَّلاَتٍ} مبينات {فاستكبروا} عن الإِيمان بها {وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ}.
{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)} {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز} العذاب {قَالُواْ ياموسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} من كشف العذاب عنا إن آمنا {لَئِنْ} لام قسم {كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إسراءيل}.
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)} {فَلَمَّا كَشَفْنَا} بدعاء موسى {عَنْهُمُ الرجز إلى أَجَلٍ هُم بالغوه إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} ينقضون عهدهم ويصرون على كفرهم.
{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)} {فانتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم فِي اليم} البحر المالح {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {كَذَّبُواْ بئاياتنا وَكَانُواْ عَنْهَا غافلين} لا يتدبرونها.
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)} {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} بالاستعباد، وهم بنو إسرائيل {مشارق الأرض ومغاربها التى باركنا فِيهَا} بالماء والشجر صفة للأرض وهي الشام {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحسنى} وهي قوله: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِى الأرض} [5: 28] الخ {على بَنِى إسراءيل بِمَا صَبَرُواْ} على أذى عدوّهم {وَدَمَّرْنَا} أهلكنا {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} من العمارة {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} بكسر الراء وضمها، يرفعون من البنيان.
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)} {وجاوزنا} عبرنا {بِبَنِى إسراءيل البحر فَأَتَوْاْ} فمرّوا {على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ} بضم الكاف وكسرها {على أَصْنَامٍ لَّهُمْ} يقيمون على عبادتها {قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها} صنماً نعبده {كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} حيث قابلتم نعمة الله عليكم بما قلتموه.
{إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)} {إِنَّ هؤلاءآء مُتَبَّرٌ} هالك {مَّا هُمْ فِيهِ وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
{قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)} {قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها} معبوداً، وأصله (أبغي لكم) {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين} في زمانكم بما ذكره في قوله.
{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)} {وَ} اذكروا {إِذْ أنجيناكم} وفي قراءة «أنجاكم» {مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ} يكلفونكم ويذيقونكم {سُوءَ العذاب} أشَدَّه وهو {يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ} يستبقون {نِسآءَكُمْ وَفِى ذلكم} الإِنجاء أوالعذاب {بَلآءٌ} إنعام أو ابتلاء {مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ} أفلا تتعظون فتنتهوا عما قلتم؟.
{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)} {وواعدنا} بألف ودونها {موسى ثلاثين لَيْلَةً} نكلمه عند انتهائها بأن يصومها، وهي (ذو القعدة) فصامها، فلما تمَّت أنكر خُلُوفَ فمه فاستاك، فأمره الله بعشرة أخرى ليكلِّمه بخلُوف فمه كما قال تعالى: {وأتممناها بِعَشْرٍ} من ذي الحجة {فَتَمَّ ميقات رَبِّهِ} وقت وعده بكلامه إياه {أَرْبَعِينَ} حال {لَيْلَةً} تمييز {وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هارون} عند ذهابه إلى الجبل للمناجاة {اخلفنى} كن خليفتي {فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ} أمرهم {وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} بموافقتهم على المعاصي.
{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)} {وَلَمَّا جَآءَ موسى لميقاتنا} أي للوقت الذي وعدناه للكلام فيه {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} بلا واسطة كلاماً سمعه من كل جهة {قَالَ رَبِّ أَرِنِى} نفسك {أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن ترانى} أي لا تقدر على رؤيتي، والتعبير به دون «لن أُرَى» يفيد إمكان رؤيته تعالى {ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} الذي هو أقوى منك {فَإِنِ اسْتَقَرَّ} ثبت {مَكَانَهُ فَسَوْفَ ترانى} أي تثبت لرؤيتي، وإلا فلا طاقة لك {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ} أي ظهر من نوره قدر نصف أنملة الخنصر كما في حديث صححه الحاكم {لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} بالقصر والمدّ، أي مدكوكاً مستوياً بالأرض {وَخَرَّ موسى صَعِقًا} مغشياً عليه لهول ما رأى {فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سبحانك} تنزيهاً لك {تُبْتُ إِلَيْكَ} من سؤال ما لم أُومَر به {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} في زماني.
{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)} {قَالَ} تعالى له {ياموسى إِنْى اصطفيتك} اخترتك {عَلَى الناس} أهل زمانك {برسالاتي} بالجمع والإِفراد {وبكلامي} أي تكليمي إياك {فَخُذْ مآ ءَاتَيْتُكَ} من الفضل {وَكُنْ مِّنَ الشاكرين} لأنعمي.
{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)} {وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الألواح} أي ألواح التوراة، وكانت من سدر الجنة أو زبرجد أو زمرد سبعة أو عشرة {مِن كُلِّ شَئ} يحتاج إليه في الدين {مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً} تبيينا {لّكُلِّ شَئ} بدل من الجار والمجرور قبله {فَخُذْهَا} قبله: «قلنا» مقدّراً {بِقُوَّةٍ} بجدّ واجتهاد {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} فرعون وأتباعه وهي مصر لتعتبروا بهم.
{سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)} {سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي} دلائل قدرتي من المصنوعات وغيرها {الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} بأن أخذلهم فلا يتفكرون فيها {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِنْ يَرَوْاْ سَبِيلَ} طريق {الرشد} الهدى الذي جاء من عند الله {لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} يسلكوه {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغى} الضلال {يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلك} الصرف {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بئاياتنا وَكَانواْ عَنْها غافلين} تقدّم مثله.
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)} {والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا وَلِقَآءَ الأخرة} البعث وغيره {حَبِطَتْ} بطلت {أعمالهم} ما عملوه في الدنيا من خير، كصلة رحم وصدقة فلا ثواب لهم لعدم شرطه {هل} ما {يُجْزَوْنَ إِلاَّ} جزاء {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من التكذيب والمعاصي.
{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)} {واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ} أي بعد ذهابه إلى المناجاة {مِنْ حُلِيِّهِمْ} الذي استعاروه من قوم فرعون بعلَّة عرس فبقي عندهم {عِجْلاً} صاغه لهم منه السامريّ {جَسَداً} بدل لحماً ودماً {لَّهُ خُوَارٌ} أي صوت يسمع، انقلب كذلك بوضع التراب الذي أخذه من حافر فرس جبريل في فمه فإنّ أثره الحياة فيما يوضع فيه، ومفعول (اتخذ) الثاني محذوف: أي إلها {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} فكيف يُتَّخذ إلهاً {اتخذوه} إلهاً؟ {وَكَانُواْ ظالمين} باتخاذه.
{وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)} {وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ} أي ندموا على عبادته {وَرَأَوُاْ} أي: علموا {أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ} بها وذلك بعد رجوع موسى {قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا} بالياء والتاء فيهما {لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين}.
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)} {وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان} من جهتهم {أَسِفاً} شديد الحزن {قَالَ} لهم {بِئْسَمَا} أي بئس خلافة {خَلَفْتُمُونِى} ها {مِن بَعْدِى} خلافتكم هذه حيث أشركتم {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الالواح} ألواح التوراة غضبا لربه فتكسرت {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} أي بشعره بيمينه، ولحيته بشماله {يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} غضباً {قَالَ} يا {ابن أُمَّ} بكسر الميم وفتحها، أراد: أمي، وذكرُها أعطف لقلبه {إِنَّ القوم استضعفونى وَكَادُواْ} قاربوا {يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ} تُفرح {بِىَ الأعدآء} بإهانتك إياي {وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ القوم الظالمين} بعبادة العجل في المؤاخذة.
{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)} {قَالَ رَبِّ اغفر لِى} ما صنعت بأخي {وَلأَخِى} أشركه في الدعاء إرضاء له ودفعاً للشماتة به {وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين}.
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)} قال تعالى: {إِنَّ الذين اتخذوا العجل} إلهاً {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ} عذاب {مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِى الحياة الدنيا} فعذبوا بالأمر بقتل أنفسهم وضربت عليهم الذلة إلى يوم القيامة {وكذلك} كما جزيناهم {نَجْزِى المفترين} على الله بالإِشراك وغيره.
{وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)} {والذين عَمِلُواْ السيئات ثُمَّ تَابُواْ} رجعوا عنها {مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُواْ} بالله {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي التوبة {لَغَفُورٌ} لهم {رَّحِيمٌ} بهم.
{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)} {وَلَمَّا سَكَتَ} سكن {عَن مُّوسَى الغضب أَخَذَ الألواح} التي ألقاها {وَفِى نُسْخَتِهَا} أي ما نُسِخَ فيها، أي كُتِبَ {هُدًى} من الضلالة {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} يخافون، وأدخل اللام على المفعول لتقدمه.
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} {واختار موسى قَوْمَهُ} أي من قومه {سَبْعِينَ رَجُلاً} ممن لم يعبد العجل بأمره تعالى {لميقاتنا} أي للوقت الذي وعدناه بإتيانهم منه ليعتذروا من عبادة أصحابهم العجل فخرج بهم {فَلَمَّآ أَخَذَتْهُمُ الرجفة} الزلزلة الشديدة، قال ابن عباس: لأنهم لم يزايلوا قومهم حين عبدوا العجل، قال: وهم غير الذين سألوا الرؤية وأخذتهم الصاعقة {قَالَ} موسى {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ} أي قبل خروجي بهم ليعاين بنو إسرائيل ذلك ولا يتهموني {وإياى أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا} استفهام استعطاف، أي لا تعذبنا بذنب غيرنا {إن} ما {هِىَ} أي الفتنة التي وقع فيها السفهآءُ {إِلاَّ فِتْنَتُكَ} ابتلاؤك {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ} إضلاله {وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ} هدايته {أَنتَ وَلِيُّنَا} متولي أمورنا {فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين}.
{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)} {واكتب} أوجب {لَنَا فِى هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الأخرة} حسنة {إِنَّا هُدْنَآ} تبنا {إِلَيْكَ قَالَ} تعالى: {عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ} تعذيبه {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ} عمَّت {كُلَّ شَئ} في الدنيا {فَسَأَكْتُبُهَا} في الآخرة {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكواة والذين هُمْ بئاياتنا يُؤْمِنُونَ}.
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبى الأمى} محمداً صلى الله عليه وسلم {الذى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التوراة والإنجيل} باسمه وصفته {يَأْمُرُهُم بالمعروف وينهاهم عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات} مما حُرم في شرعهم {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبائث} من الميتة ونحوها {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} ثقلهم {والأغلال} الشدائد {التى كَانَتْ عَلَيْهِمْ} كقتل النفس في التوبة، وقطع أثر النجاسة {فالذين ءَامَنُواْ بِهِ} منهم {وَعَزَّرُوهُ} ووقّروه {وَنَصَرُوهُ واتبعوا النور الذى أُنزِلَ مَعَهُ} أي القرآن {أولئك هُمُ المفلحون}.
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} {قُلْ} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم {ياأيها الناس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الذى لَهُ مُلْكُ السماوات والارض لآ إله إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَئَامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ النبى الأمى الذى يُؤْمِنُ بالله وكلماته} القرآن {واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ترشدون.
{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)} {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ} جماعة {يَهْدُونَ} الناس {بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} في الحكم.
{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)} {وقطعناهم} فرَّقنا بني إسْرائيل {اثنتى عَشْرَةَ} حال {أَسْبَاطًا} بدل منه، أي قبائل {أُمَمًا} بدل مما قبله {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ} في التيه {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر} فضربه {فانبجست} انفجرت {مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا} بعدد الأسباط {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} سبط منهم {مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام} في التيه من حر الشمس {وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى} هما التُّرَنْجَبِين والطير السماني بتخفيف الميم والقصر وقلنا لهم {كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)} {وَ} اذكر {إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية} بيت المقدس {وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ} أمرنا {حِطَّةٌ وادخلوا الباب} أي باب القرية {سُجَّدًا} سجود انحناء {نَّغْفِرْ} بالنون، والتاء مبنياً للمفعول {لَكُمْ خطيئاتكم سَنَزِيدُ المحسنين} بالطاعة ثواباً.
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)} {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الذى قِيلَ لَهُمْ} فقالوا: (حبة في شعرة) ودخلوا يزحفون على أستاههم {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا} عذاباً {مّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ}.
{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)} {وَاسْئَلْهُمْ} يا محمد توبيخاً {عَنِ القرية التى كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر} مجاورة بحر القلزم وهي (أيلة)، ما وقع بأهلها؟ {إِذْ يَعْدُونَ} يعتدون {فِى السبت} بصيد السمك المأمورين بتركه فيه {إِذْ} ظرف ل (يعدون) {تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} ظاهرة على الماء {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ} لا يعظمون السبت: أي سائر الأيام {لاَ تَأْتِيهِمْ} ابتلاء من الله {كذلك نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} ولما صادوا السمك افترقت القرية أثلاثاً: ثلث صادوا معهم، وثلث نهوهم، وثلث أمسكوا عن الصيد والنهي.
{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)} {وَإِذْ} عطف على «إذ» قبله {قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ} لم تصد ولم تنه: لمن نهى {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا قَالُواْ} موعظتنا {مَعْذِرَةً} نعتذر بها {إلى رَبِّكُمْ} لئلا ننسب إلى تقصير في ترك النهي {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الصيد.
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)} {فَلَمَّا نَسُواْ} تركوا {مَا ذُكِّرُواْ} وعظوا {بِهِ} فلم يرجعوا {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ} بالاعتداء {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} شديد {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}.
{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} {فَلَمَّا عَتَوْاْ} تكبروا {عَنْ} ترك {مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين} صاغرين فكانوها، وهذا تفصيل لما قبله. قال ابن عباس: ما أدري ما فعل بالفرقة الساكنة؟ وقال عكرمة: لم تهلك لأنها كرهت ما فعلوه وقالت: (لم تعظون)؟ الخ. وروى الحاكم عن ابن عباس: أنه رجع إليه وأعجبه.
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)} {وَإِذْ تَأَذَّنَ} أعلم {رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ} أي اليهود {إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ العذاب} بالذل وأخذ الجزية فبعث عليهم سليمان وبعده بختنصر فقتلهم وسباهم وضرب عليهم الجزية فكانوا يؤدّونها إلى المجوس إلى أن بعث نبينا صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب} لمن عصاه {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ} لأهل طاعته {رَّحِيمٌ} بهم.
{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)} {وقطعناهم} فرقناهم {فِي الأرض أُمَمًا} فرقاً {مِّنْهُمُ الصالحون وَمِنْهُمْ} ناس {دُونِ ذَلِكَ} الكفار والفاسقون {وبلوناهم بالحسنات} بالنعم {والسيئات} النقم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن فسقهم.
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)} {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب} التوراة عن آبائهم {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى} أي حطام هذا الشيء الدنيء أي الدنيا من حلال وحرام {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} ما فعلناه {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} الجملة حال، أي يرجون المغفرة وهم عائدون إلى ما فعلوه مصرون عليه، وليس في التوراة وَعْدُ المغفرة مع الإِصرار {أَلَمْ يُؤْخَذْ} استفهام تقرير {عَلَيْهِم ميثاق الكتاب} الإِضافة بمعنى في {أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق وَدَرَسُواْ} عطف على «يؤخذ» قرؤوا {مَا فِيهِ} فلِمَ كذبوا عليه بنسبة المغفرة إليه مع الإِصرار؟ {والدار الأخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الحرام {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} بالياء والتاء. أنها خير فيؤثرونها على الدنيا؟
{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} {والذين يُمَسِّكُونَ} بالتشديد والتخفيف {بالكتاب} منهم {وَأَقَامُواْ الصلاة} كعبد الله بن سلام وأصحابه {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} الجملة خبر (الذين). وفيه وضع الظاهر موضع المضمر أي (أجرهم).
{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)} {وَ} اذكر {إِذْ نَتَقْنَا الجبل} رفعناه من أصله {فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ} أيقنوا {أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} ساقط عليهم بوعد الله إياهم بوقوعه إن لم يقبلوا أحكام التوراة وكانوا أَبَوْها لثقلها فقبلوا وقلنا لهم {خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} بجد واجتهاد {واذكروا مَا فِيهِ} بالعمل به {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)} {و} اذكر {إِذْ} حين {أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ} بدل اشتمال مما قبله بإِعادة الجار {ذُرِّيّتِهِمْ} بأن أخرج بعضهم من صلب بعض من صلب آدم، نسلاً بعد نسل، كنحو ما يتوالدون كالذر بنعمان يوم عرفة ونصب لهم دلائل على ربوبيته وركب فيهم عقلاً {وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ} قال {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} أنت ربنا {شَهِدْنَا} بذلك والإِشهاد ل {أن} لا {يَقُولُواْ} بالياء والتاء في الموضعين، أي الكفار {يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا} التوحيد {غافلين} لا نعرفه.
{أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)} {أَوْ يَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ} أي قبلنا {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ} فاقتدينا بهم {أَفَتُهْلِكُنَا} تعذبنا {بِمَا فَعَلَ المبطلون} من آبائنا بتأسيس الشرك؟ المعنى لا يمكنهم الاحتجاج بذلك مع إشهادهم على أنفسهم بالتوحيد. والتذكير به على لسان صاحب المعجزة قائم مقام ذكره في النفوس.
{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)} {وكذلك نفَصِّلُ الأيات} نبيِّنها مثل ما بينا الميثاق ليتدبروها {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن كفرهم.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)} {واتل} يا محمد {عَلَيْهِمْ} أي اليهود {نَبَأَ} خبر {الذى ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ مِنْهَا} خرج بكفره كما تخرج الحية من جلدها وهو بلعم بن باعوراء من علماء بني إسرائيل، سئل أن يدعو على موسى وأُهدي إليه شيء، فدعا فانقلب عليه واندلع لسانه على صدره {فَأَتْبَعَهُ الشيطان} فأدركه فصار قرينه {فَكَانَ مِنَ الغاوين}.
{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)} {وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه} إلى منازل العلماء {بِهَا} بأن نوفقه للعمل {ولكنه أَخْلَدَ} سكن {إِلَى الأرض} أي الدنيا ومال إليها {واتبع هواه} في دعائه إليها فوضعناه {فَمَثَلُهُ} صفته {كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ} بالطرد والزجر {يَلْهَثْ} يدلع لسانه {أَوْ} إن {تَتْرُكْهُ يَلْهَث} وليس غيره من الحيوان كذلك، وجملتا الشرط حال: أي لاهثاً ذليلاً بكل حال، والقصد التشبيه في الوضع والخسة، بقرينة (الفاء) المشعرة بترتيب ما بعدها على ما قبلها من الميل إلى الدنيا واتباع الهوى، وبقرينة قوله {ذلك} المثل {مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا فاقصص القصص} على اليهود {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} يتدبرون فيها فيؤمنون.
{سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)} {سَآءَ} بئس {مَثَلاً القوم} أي مثل القوم {الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} بالتكذيب.
{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)} {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون}.
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} خلقنا {لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} الحق {وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَّ يسْمعُونَ بِهَآ} دلائل قدرة الله بصر اعتبار {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاظ {أولئك كالأنعام} في عدم الفقه والبصر والاستماع {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} من الأنعام لأنها تطلب منافعها وتهرب من مضارّها وهؤلاء يقدمون على النار معاندة {أولئك هُمُ الغافلون}.
{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} {وَللَّهِ الأسمآء الحسنى} التسعة والتسعون الوارد بها الحديث، و(الحسنى) مؤنث (الأحسن) {فادعوه} سمّوه {بِهَا وَذَرُواْ} اتركوا {الذين يُلْحِدُونَ} من «ألحد ولحد»، يميلون عن الحق {فِى أسمائه} حيث اشتقوا منها أسماء لآلهتهم: كاللات من (الله)، والعُزَّى من (العزيز)، ومناة من (المنان) {سَيُجْزَوْنَ} في الآخرة جزاء {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وهذا قبل الأمر بالقتال.
{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)} {وَمِمَّنْ خَلَقْنآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} هم أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم كما في حديث.
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)} {والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا} القرآن من أهل مكة {سَنَسْتَدْرِجُهُم} نأخذهم قليلاً قليلاً {مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ}.
{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} {وَأُمْلِى لَهُمْ} أمهلهم {إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} شديد لا يطاق.
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)} {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} فيعلموا {مَا بِصَاحِبِهِم} محمد صلى الله عليه وسلم {مِّن جِنَّةٍ} جنون {إن} ما {هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} بيِّن الإِنذار؟
{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)} {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ} ملك {السموات والأرض و} في {مَا خَلَقَ الله مِن شَئ} بيان ل «ما» فيستدلوا به على قدرة صانعه ووحدانيته؟ {وَ} في {أن} أي إنه {عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب} قرُب {أَجَلُهُمْ} فيموتوا كفارا فيصيروا إلى النار فيبادروا إلى الإِيمان {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ} أي القرآن {يُؤْمِنُونَ}؟
{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)} {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} بالياء والنون مع الرفع استئنافاً، والجزم عطفاً على محل ما بعد الفاء {فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ} يترددون تحيُّراً.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)} {يَسْأَلُونَكَ} أي أهل مكة {عَنِ الساعة} القيامة {أَيَّانَ} متى {مرساها قُلْ} لهم {إِنَّمَا عِلْمُهَا} متى تكون {عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا} يظهرها {لِوَقْتِهَآ} اللام بمعنى (في) {إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ} عظمت {فِي السموات والأرض} على أهلهما لهولها {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} فجأة {يَسْئَلُونَكَ كأَنَّكَ حَفِيٌّ} مبالغ في السؤال {عَنْهَا} حتى علمتها {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} تأكيد {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أن علمها عنده تعالى.
{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} {قُل لآ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا} أجلبه {وَلاَ ضَرّاً} أدفعه {إِلاَّ مَا شَآءَ الله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب} ما غاب عني {لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مَسَّنِىَ السوء} من فقر وغيره لاحترازي عنه باجتناب المضارّ {إن} ما {أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ} بالنار للكافرين {وَبَشِيرٌ} بالجنة {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)} {هُوَ} أي الله {الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} أي آدم {وَجَعَلَ} خَلق {مِنْهَا زَوْجَهَا} حوّاء {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} ويألفها {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} جامعها {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا} هو النطفة {فَمَرَّتْ بِهِ} ذهبت وجاءت لخفته {فَلَمَّآ أَثْقَلَت} كبر الولد في بطنها وأشفقا أن يكون الولد بهيمة {دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا لَئِنْ ءَاتَيْتَنَا} ولداً {صالحا} سَوِيّاً {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} لك عليه.
{فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)} {فَلَمَّآ ءاتاهما} ولداً {صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ} وفي قراءة بكسر الشين والتنوين: أي شريكاً {فِيمَآ ءاتاهما} بتسميته عبد الحارث ولا ينبغي أن يكون عبداً إلا الله، وليس بإِشراك في العبودية لعصمة آدم. وروى سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه عبد الحارث فإِنه يعيش، فسمته فعاش، فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره " رواه الحاكم وقال: صحيح، والترمذي وقال: حسن غريب {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي أهل مكة به من الأصنام، والجملة مسببة عطف على «خلقكم» وما بينهما اعتراض.
{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)} {أَيُشْرِكُونَ} به في العبادة {مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}.
{وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)} {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ} أي لعابديهم {نَصْرًا وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} بمنعها ممن أراد بهم سُوءاً من كسر أو غيره، والاستفهام للتوبيخ.
{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)} {وَإِن تَدْعُوهُمْ} أي الأصنام {إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ} بالتخفيف والتشديد {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ} إليه {أَمْ أَنتُمْ صامتون} عن دعائهم لا يتبعون لعدم سماعهم.
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)} {إِنَّ الذين تَدْعُونَ} تعبدون {مِن دُونِ الله عِبَادٌ} مملوكة {أَمْثَالُكُمْ فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} دعاءكم {إِن كُنتُمْ صادقين} في أنها آلهة، ثم بين غاية عجزهم وفضل عابديهم عليهم فقال:
{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)} {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهآ أَمْ} بل أ {لَهُمْ أَيْدٍ} جمع (يد) {يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ} بل أ {لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهآ أَمْ} بل أ {لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ}؟ استفهام إنكاري: أي ليس لهم شيءٌ من ذلك مما هو لكم، فكيف تعبدونهم وأنتم أتمُّ حالاً منهم؟ {قُلْ} لهم يا محمد {ادعوا شُرَكَآءَكُمْ} إلى هلاكي {ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} تمهلونِ فإني لا أبالي بكم.
{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)} {إِنَّ وَلِيِّىَ الله} متولي أموري {الذى نَزَّلَ الكتاب} القرآن {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين} بحفظه.
{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)} {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} فكيف أُبالي بهم؟.
{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)} {وَإِن تَدْعُوهُمْ} أي الأصنام {إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ وتراهم} أي الأصنام يا محمد {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} أي يقابلونك كالناظر {وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}.
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} {خُذِ العفو} اليسر من أخلاق الناس ولا تبحث عنها {وَأْمُرْ بالعرف} المعروف {وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين} فلا تقابلهم بسفههم.
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} {وإِمَّا} فيه إدغام نون «إن» الشرطية في «ما» المزيدة {يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ} أي إن يصرفك عما أمرت به صارف {فاستعذ بالله} جواب الشرط، وجواب الأمر محذوف: أي يدفعه عنك {إِنَّهُ سَمِيعٌ} للقول {عَلِيمٌ} بالفعل.
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ} أصابهم {طَآئِفٌ} وفي قراءة «طيف» أي شيء ألمّ بهم {مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ} عقاب الله وثوابه {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} الحق من غيره فيرجعون.
{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)} {وإخوانهم} أي إخوان الشياطين من الكفار {يَمُدُّونَهُمْ} أي الشياطين {فِى الغى ثُمَّ} هم {لاَ يُقْصِرُونَ} يكفون عنه بالتبصر كما تبصَّر المتقون.
{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)} {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم} أي أهل مكة {بآية} مما اقترحوا {قَالُواْ لَوْلاَ} هلا {اجتبيتها} أنشأتها من قِبَل نفسك {قُلْ} لهم {إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَىَّ مِن رَّبِّى} وليس لي أن آتي من عند نفسي بشيء {هذا} القرآن {بَصَآئِرَ} حجج {مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} {وَإِذَا قُرِئ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ} عن الكلام {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} نزلت في ترك الكلام في الخطبة وعبَّر عنها بالقرآن لاشتمالها عليه، وقيل في قراءة القرآن مطلقاً.
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)} {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} أي سرّاً {تَضَرُّعًا} تذللاً {وَخِيفَةً} خوفاً منه {وَ} فوق السرّ {وَدُونَ الجهر مِنَ القول} أي قصداً بينهما {بالغدو والأصال} أوائل النهار وأواخره {وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين} عن ذكر الله.
{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)} {إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ} أي الملائكة {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} يتكبَّرون {عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ} يُنَزِّهونه عَما لا يليق به {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} أي يخصونه الخضوع والعبادة فكونوا مثلهم.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)} {يَسْأَلُونَكَ} يا محمد {عَنِ الأنفال} الغنائم لمن هي؟ {قُلْ} لهم {الأنفال لِلَّهِ والرسول} يجعلانها حيث شاءَا فقسمها صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء. رواه الحاكم في المستدرك {فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} أي حقيقة ما بينكم بالمودّة وترك النزاع {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} حقاً.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} {إِنَّمَا المؤمنون} الكاملون الإِيمان {الذين إِذَا ذُكِرَ الله} أي وعيده {وَجِلَتْ} خافت {قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءاياته زَادَتْهُمْ إيمانا} تصديقاً {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} به يثقون لا بغيره.
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} {الذين يُقِيمُونَ الصلاة} يأتون بها بحقوقها {وَمِمَّا رزقناهم} أعطيناهم {يُنفِقُونَ} في طاعة الله.
{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} {أولئك} الموصوفون بما ذكر {هُمُ المؤمنون حَقّاً} صدقاً بلا شك {لَّهُمْ درجات} منازل في الجنة {عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} في الجنة.
{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)} {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} متعلق ب «أخرج» {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لكارهون} الخروج، والجملة حال من كاف «أخرجك» و«كما» خبر مبتدأ محذوف: أي هذه الحال في كراهتهم لها مثل إخراجِكَ في حال كراهتهم، وقد كان خيراً لهم، فكذلك هذه أيضاً، وذلك أنّ أبا سفيان قدم بِعِيرٍ من الشام، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليغنموها، فعلمت قريش فخرج أبو جهل ومقاتلو مكة ليذبُّوا عنها وهم النفير، وأخذ أبو سفيان بالعير طريق الساحل فنجت، فقيل لأبي جهل ارجع فأبى وسار إلى بدر، فشاورالنبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال: " إنّ الله وعدني إحدى الطائفتين "، فوافقوه على قتال النفير، وكره بعضهم ذلك وقالوا: لم نستعد له، كما قال تعالى:
{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)} {يجادلونك فِي الحق} القتال {بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ} ظهر لهم {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ} إليه عياناً في كراهتهم له.
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)} {وَ} اذكر {إِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطآئفتين} العير أو النفير {أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ} تريدون {أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة} أي البأس والسلاح وهي العير {تَكُونُ لَكُمْ} لقلة عَدَدِها وعُددها بخلاف النفير {وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ} يظهره {بكلماته} السابقة بظهور الإِسلام {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} آخرهم بالاستئصال فأمركم بقتال النفير.
{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)} {لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ} يمحق {الباطل} الكفر {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} المشركون ذلك.
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} اذكر {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} تَطْلبونَ منه الغوث بالنصر عليهم {فاستجاب لَكُمْ أَنِّي} أي بأني {مُمِدُّكُمْ} معينكم {بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ} متتابعين يردف بعضهم بعضاً، وعدهم بها أولاً ثم صارت ثلاثة آلاف ثم خمسة كما في (آل عمران) [125: 3]. وقرئ [شذوذاً] «بآلُفٍ» [جمع (ألْف)] كأفلُس جمع [(فَلَسْ)].
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} {وَمَا جَعَلَهُ الله} أي الإِمداد {إِلاَّ بشرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)} اذكر {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً} أمناً مما حصل لكم من الخوف {مِنْهُ} تعالى {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مآءً لّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} من الأحداث والجَنَابَات {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان} وسوسته إليكم بأنكم لو كنتم على الحقّ ما كنتم ظمأى محدثين والمشركون على الماء {وَلِيَرْبِطَ} يحبس {على قُلُوبِكُمْ} باليقين والصبر {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام} أن تسوخ في الرمل.
{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)} {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الملائكة} الذين أمدّ بهم المسلمين {أنِّى} أي بأني {مَّعَكُمْ} بالعون والنصر {فَثَبّتُواْ الذين ءَامَنُواْ} بالإِعانة والتبشير {سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} الخوف {فاضربوا فَوْقَ الأعناق} أي الرؤوس {واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} أي أطراف اليدين والرجلين، فكان الرجل يقصد ضرب رقبة الكافر فتسقط قبل أن يصل إليه سيفه، ورماهم صلى الله عليه وسلم بقبضة من حصى فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه منها شيء فُهزِمُوا.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)} {ذلك} العذاب الواقع بهم {بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ} خالفوا {الله وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} له.
{ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)} {ذلكم} العذاب {فَذُوقُوهُ} أيها الكفار في الدنيا {وَأَنَّ للكافرين} في الآخرة {عَذَابَ النار}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)} {ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً} أي مجتمعين كأنهم لكثرتهم يزحفون {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} منهزمين.
{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)} {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ} أي يوم لقائهم {دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً} منعطفاً {لِّقِتَالٍ} بأن يريهم الفرَّة مكيدة وهو يريد الكَرَّة {أَوْ مُتَحَيِّزاً} منضماً {إلى فِئَةٍ} جماعة من المسلمين يستنجد بها {فَقَدْ بَآءَ} رجع {بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} المرجع هي، وهذا مخصوص بما إذا لم يزد الكفار على الضعف.
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)} {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} ببدر بقوّتكم {ولكن الله قَتَلَهُمْ} بنصره إياكم {وَمَا رَمَيْتَ} يا محمد أعين القوم {إِذْ رَمَيْتَ} بالحصى لأنّ كفاً من الحصى لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر {ولكن الله رمى} بإيصال ذلك إليهم، فعل ذلك ليقهر الكافرين {وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ بَلآءً} عطاء {حَسَنًا} هو الغنيمة {إِنَّ الله سَمِيعٌ} لأقوالهم {عَلِيمٌ} بأحوالهم.
{ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)} {ذلكم} الإِبلاء حقّ {وَأَنَّ الله مُوهِنُ} مضعف {كَيْدِ الكافرين}.
{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)} {إِن تَسْتَفْتِحُواْ} أيها الكفار أي تطلبوا الفتح أي القضاء حيث قال أبو جهل منكم: اللهم أيُّنَا كان أقطعَ للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة: أي أهلكه {فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} القضاء بهلاك من هو كذلك وهو أبو جهل ومن قتل معه دون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {وَإِن تَنتَهُواْ} عن الكفر والحرب {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ} لقتال النبي صلى الله عليه وسلم {نَعُدْ} لنصره عليكم {وَلَن تُغْنِىَ} تدفع {عَنكُمْ فِئَتُكُمْ} جماعاتكم {شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين} بكسر «إن» استئنافاً وفتحها على تقدير اللام.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)} {ياأيها الذين ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ} تعرضوا {عَنْهُ} بمخالفة أمره {وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} القرآن والمواعظ.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)} {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} سماع تدبر واتعاظ وهم المنافقون أو المشركون.
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)} {إِنَّ شَرَّ الدوآب عِندَ الله الصم} عن سماع الحق {البكم} عن النطق به {الذين لاَ يَعْقِلُونَ} ه.
{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا} صلاحاً بسماع الحق {لأَسْمَعَهُمْ} سماعَ تفهُّم {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} فرضاً وقد علم أن لا خير فيهم {لَتَوَلَّواْ} عنه {وَهُم مُّعْرِضُونَ} عن قبوله عناداً وجحوداً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} {مُّعْرِضُونَ ياأيها الذين ءَامَنُواْ استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} بالطاعة {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} من أمر الدين لأنه سبب الحياة الأبدية {واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} فلا يستطيع أن يؤمن أو يكفر إلا بإرادته {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيجازيكم بأعمالكم.
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)} {واتقوا فِتْنَةً} إن أصابتكم {لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} بل تعمهم وغيرهم، واتقاؤها بإنكار موجبها من المنكر {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} لمن خالفه.
{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)} {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الأرض} أرض مكة {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس} يأخذكم الكفار بسرعة {فَآوَاكُمْ} إلى المدينة {وَأَيَّدَكُم} قوّاكم {بِنَصْرِهِ} يوم بدر بالملائكة {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات} الغنائم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)} ونزل في أبي لبابة مروان بن عبد المنذر وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لينزلوا على حكمه، فاستشاروه فأشار إليهم أنه الذبح لأن عيالهُ وماله فيهم {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول} لا {تَخُونُواْ أماناتكم} ما ائتمنتم عليه من الدين وغيره. {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)} {واعلموا أَنَّمَآ أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ} لكم صادّة عن أمور الآخرة {وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} فلا تُفَوِّتوه بمراعاة الأموال والأولاد والخيانة لأجلهم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)} ونزل في توبته {عَظِيمٌ ياأيها الذين ءَامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الله} بالإِنابة وغيرها {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} بينكم وبين ما تخافون فتنجونِ {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم {والله ذُو الفضل العظيم}.
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} {وَ} اذكر يا محمد {إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ} وقد اجتمعوا للمشاورة في شأنك بدار الندوة {لِيُثْبِتُوكَ} يوثقوك ويحبسوك {أَوْ يَقْتُلُوكَ} كلهم قِتْلِةَ رجل واحد {أَوْ يُخْرِجُوكَ} من مكة {وَيَمْكُرُونَ} بك {وَيَمْكُرُ الله} بهم بتدبير أمرك بأن أوحى إليك ما دبّروه وأمرك بالخروج {والله خَيْرُ الماكرين} أعلمهم به.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)} {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا} القرآن {قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هاذآ} قاله النضر بن الحارث لأنه كان يأتي الحيرة يتجر فيشتري كتب أخبار الأعاجم ويحدّث بها أهل مكة {إن} ما {هذا} القرآن {إلآ أساطير} أكاذيب {الاولين}.
{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)} {وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا} الذي يقرؤه محمد {هُوَ الحق} المنزل {مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} مؤلم على إنكاره: قاله النضر أوغيره على سبيل الاستهزاء أوالإيهام أنه على بصيرة وجَزْم ببطلانه.
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} قال تعالى {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ} بما سألوه {وَأَنتَ فِيهِمْ} لأن العذاب إذا نزل عمَّ ولم تعذَّب أُمة إلا بعد خروج نبيها والمؤمنين منها {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} حيث يقولون في طوافهم: غفرانك غفرانك، وقيل: هم المؤمنون المستضعفون فيهم كما قال تعالى {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [25: 48].
{وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)} {وَمَا لَهُمْ أَ} ن {لا يُعَذّبْهُمُ الله} بالسيف بعد خروجك والمستضعفين، وعلى القول الأوّل هي ناسخة لما قبلها، وقد عذَّبهم الله ببدر وغيرها {وَهُمْ يَصُدُّونَ} يمنعون النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين {عَنِ المسجد الحرام} أن يطوفوا به {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءَهُ} كما زعموا {أن} ما {أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أن لا ولاية لهم عليه.
{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)} {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً} صفيراً {وَتَصْدِيَةً} تصفيقاً أي جعلوا ذلك موضع صلاتهم التي أُمروا بها {فَذُوقُواْ العذاب} ببدر {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم} في حرب النبي صلى الله عليه وسلم {لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ} في عاقبة الأمر {عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} ندامة لفواتها وفوات ما قصدوه {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} في الدنيا {و الذين كَفَرُواْ}. منهم {إلَى جَهَنَّمَ} في الآخرة {يُحْشَرُونَ} يساقون
{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)} {لِيَمِيزَ} متعلق ب (تكون) بالتخفيف والتشديد أي يفصل {الله الخبيث} الكافر {مِنَ الطيب} المؤمن {وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً} يجمعه متراكماً بعضه على بعض {فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أولئك هُمُ الخاسرون}.
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38)} {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} كأبي سفيان وأصحابه {إِن يَنتَهُواْ} عن الكفر وقتال النبي صلى الله عليه وسلم {يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} من أعمالهم {وَإِن يَعُودُواْ} إلى قتاله {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاولين} أي سنتنا فيهم بالإِهلاك فكذا نفعل بهم.
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)} {وقاتلوهم حَتَّى لاَ تَكُونَ} توجد {فِتْنًةٌ} شرك {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلِهِ} وحده لايعبد غيره {فإِنِ انتهوا} عن الكفر {فَإنَّ اللهَ بِمِا يَعْمَلُونَ بَصِرٌ} فيجازيهم به.
{وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)} {وَإِن تَوَلَّوْاْ} عن الإِيمان {فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ} ناصركم ومتولي أموركم {نِعْمَ المولى} هو {وَنِعْمَ النصير} أي الناصر لكم.
|