الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)} وقوله سبحانه: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} أي: شاهداً على كُفْرهم وإيمانهم، {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ}، أي: لا يُؤْذِن لهم في المعذرة، وهذا في موطن دون موطِن، و{يُسْتَعْتَبُونَ} بمعنى: يُعْتِبُونَ؛ تقول: أَعْتَبْتُ الرَّجُلَ، إِذَا كَفَيْتَهُ ما عُتِبَ فيه؛ كما تقول: أشْكَيْتُهُ؛ إِذا كَفَيْتَهُ ما شكا. وقال قومٌ: معناه: لا يُسْألونَ أنْ يرجعوا عمَّا كانوا عَلْيه في الدنيا. وقال الطبريُّ: معنى {يُسْتَعْتَبُونَ} يُعْطَوْن الرجوعَ إلى الدنيا فتقع منهم توبةٌ وعمَلٌ. * ت *: وهذا هو الراجحُ، وهو الذي تدلُّ عليه الأحاديثُ، وظواهر الآياتِ في غيرِ ما موضع. وقوله سبحانه: {وَإِذَا رَءَا الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ} أي: إِذا رأَوْهم بأبصارِهِمْ {قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا...} الآية، كأنهم أرادوا بهذه المقالة تذنيبَ المَعْبُودين، وقوله سبحانه: {فَألْقَوْاْ إِلَيْهِمُ القول...} الآية: الضميرُ في {أَلْقَوْاْ} للمعبودينَ؛ أنطقهم اللَّه بتكذيب المُشْركين، وقد قال سبحانه في آية أخرى: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس: 28] انظر تفسيرها في سورة يونس وغيرها. وقوله: {وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم} الضمير في {أَلْقَوْاْ} هنا عائدٌ على «المشركين»، و{السلم} الاستسلام. وقوله تعالى: {زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب...} الآية: رُوِيَ في ذلك عن ابن مسعود، أنَّ اللَّه سبحانَهُ يسلِّط عليهم عَقَارِبَ وحَيَّاتٍ، لها أنيابٌ، كالنَّخْلِ الطِّوال، وقال عَبْيدُ بنُ عُمَيْرٍ: حَيَّات لها أنيابٌ كالنخْلِ ونحو هذا، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن لجهنَّمَ سواحِلَ، فيها هذه الحياتُ وهذه العقاربُ، فيفر الكافرون إلى السَّواحلِ، فتلقاهم هذه الحيَّاتُ والعقاربُ فيفرُّونَ منها إِلى النار، فتَتْبَعهم حَتَّى تجد حَرَّ النار، فتَرْجِع. قال: وهي في أسْرَابٍ.
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)} وقوله سبحانه: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} يعني: رسولَها، ويجوز أن يبعَثَ اللَّه شهوداً من الصَّالحين مع الرسُلِ، وقد قال بعضُ الصحابة: إِذا رأَيْتُ أحداً على معصية، فانهه، فإن أطاعك، وإِلاَّ كُنْتَ شاهداً عليه يَوْمَ القيامة. وقوله سبحانه: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا على هَؤُلآءِ} الإشارة ب«هؤلاء» إلى هذه الأمَّة. وقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان...} الآية: قال ابن مسعود رضي الله عنه: أجمعُ آية في كتاب اللَّهِ هذه الآية، ورُوِيَ عن عثمانَ بْنِ مظعون رضي الله عنه، أنه قال: لما نزلَتْ هذه الآيةُ، قرأْتُها على أَبي طَالب، فَوجَبَ، وقالَ: يَا آلَ غَالِبٍ، اتَّبِعُوهُ تُفْلِحُوا فواللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ ليأَمرَ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ. قال * ع *: و{العَدْلِ} فعلُ كلِّ مفروضٍ، و{الإحسان} فعلُ كلِّ مندوب إِليه، {وَإِيتَآئِ ذِي القربى}: لفظُ يقتضي صلة الرحِمِ، ويعم جميع إِسداء الخَيْرِ إِلى القرابة، و{الفحشاء} الزنا؛ قاله ابن عبَّاس ويتناولَ اللفْظُ سائر المعاصِي التي شِنْعَتُهَا ظاهرة، {والمنكر} أعمُّ منه؛ لأنه يعمُّ جميع المعاصى والرذائلِ، والإذاءات على اختلاف أنواعها، {البغي} هو إنشاء ظُلْم الإِنسان، والسعاية فيه، «وكُفيلاً» معناه: متكفِّلاً بوفائكم، وباقي الآية بيِّن.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)} وقوله سبحانه: {وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا...} الآية: شَبَّهت هذه الآيةُ الذي يَحْلِفُ أو يعاهِدُ ويُبْرِمُ عَقْده، بالمرأة تغزِلُ غزْلها وتفتِله مُحْكماً، ثم تنقُضُ قُوَى ذلك الغَزْلِ، فتحلُّه بعد إِبرامه، و{أنكاثا} نصبٌ على الحالِ، «والنَّكْث» النقْصُ، والعربُ تقولُ انْتَكَثَ الحَبْلُ، إِذا انتقضَتْ قواه، و«الدَّخَلُ» الدَّغَل بعينه، وهو الذرائِعُ إِلى الخدْع والغدر، وذلك أن المحلوُفَ له مطمئنٌّ، فيتمكنُ الحالفُ مِنْ ضَرَره بما يريدُ. وقوله سبحانه: {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} المعنى: لا تنقضوا الأيمان مِنْ أجْل أنْ تكونَ قبيلةٌ أزَيدَ من قبيلةٍ في العَدَد والعزَّة والقوَّة، و{يَبْلُوكُمُ} أي: يختبركم، والضميرُ في «به» يحتمل أنْ يعود على «الرِّبَا»، أي: أنَّ اللَّه ابتلى عباده بالربا، وطَلَبِ بعضهم الظُّهُورَ على بعضٍ، واختبرهم بذلك؛ ليرى مَنْ يجاهد بنفسِهِ، ممَّن يتَّبِعُ هواها، وباقي الآية وعيدٌ بيوم القيامة.
{وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} وقوله سبحانه: {وَلاَ تَتَّخِذُواْ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ...} الآية: «الدَّخَل»؛ كما تقدَّم: الغوائلُ والخدائعُ، وكرَّر مبالغةً، قال الثعلبيُّ: قال أبو عُبَيْدة: كلُّ أمْرٍ لم يكنْ صحيحاً فهو دَخَل انتهى. وقوله: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} استعارةٌ للمستقيم الحال يقع في شرٍّ عظيم. وقوله سبحانه: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَناً قَلِيلاً...} الآية: هذه آية نهي عن الرُّشَا، وأخْذِ الأموال، ثم أخبر تعالى أنَّ ما عنده مِنْ نعيمِ الجنَّة، ومواهب الآخرة خَيْرٌ لمن اتقى وعَلِمَ واهتدى، ثم بيَّن سبحانه الفرق بين حال الدنيا، وحال الآخرة، بأنَّ هذه تنفد وتنقضي عن الإنسان، أو ينقضي عَنْها، ومِنَنْ الآخرةِ باقيةٌ دائمةٌ، و{صَبَرُواْ} معناه عن الشهوات على مكاره الطاعاتِ، وهذه إشارةٌ إلى الصبر عن شَهْوَةِ كَسْب المال بالوجوهِ المكْرُوهة. واختلف النَّاسُ في معنى «الحياة الطَّيِّبة» فقال ابن عباس: هو الرزقُ الحَلاَل وقال الحسن وعلي بن أبي طالب: هي القناعة. قال * ع *: والذي أقولُ به أنَّ طِيبَ الحياةِ اللازمَ للصالحين إِنما هو بنَشَاطِ نفوسهم ونُبْلها وقُوَّةَ رَجَائِهم، والرَّجَاءُ للنَّفْس أمرٌ مُلِذٌّ، فبهذا تطيب حياتهم، وأنهم احتقروا الدنيا، فزالت همومها عَنْهم، فإِن انَضَافَ إِلى هذا مَالٌ حلالٌ، وصِحَّةٌ أو قناعةٌ، فذلك كمالٌ، وإِلا فالطِّيبُ فيما ذكرناه رَاتِبٌ. وقوله سبحانه: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} الآية: وعْدٌ بنعيمِ الجنَّة. قال أبو حَيَّان: وروي عن نافع: «ولَيَجْزِيَنَّهُمْ» بالياء؛ التفاتاً من ضمير المتكَلِّم إِلى ضمير الغَيْبة، وينبغي أنْ يكون على تقدير قسَمٍ ثانٍ لا معطوفاً على «فَلَنُحْيِيَنَّهُ»، فيكون مِنْ عطف جملةٍ قَسَمِيَّة على جملةٍ قَسَمِيَّة، وكلتاهما محذوفةٌ، وليس من عطفِ جوابٍ، لتغاير الإسناد. انتهى.
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} وقوله سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله...} الآية: التقدير فإذا أخذُتَ في قراءة القُرآن، والاستعاذةُ ندْب، وعن عطاء أنَّ التعُّوذ واجبٌ، ولفظ الاستعاذة هو على رتبة هذه الآية، والرجيم المرْجُوم باللَّعْنة، وهو إبليس ثم أخبر تعالى أنَّ إبليسَ ليس له مَلَكةٌ ولا رياسة، هذا ظاهرُ السُّلْطان عندي في هذه الآية، وذلك أن السلطان إنْ جعلناه الحجَّةَ، فَلَيْسَ لإبليس حجة في الدنيا على أحد لا على مؤمنٍ ولا على كافر، إلا أنْ يتأول متأوِّل: ليس له سلطانٌ يوم القيامة، فيستقيمُ أنْ يكون بمعنى الحُجَّة؛ لأن إبليس له حُجَّة على الكافرين؛ أنَّه دعاهم بغير دَلِيل، فاستجابوا له من قِبَلِ أنفسهم، و{يَتَوَلَّوْنَهُ}: معناه يجعلونه وليًّا، والضمير في «به» يحتملُ أن يعود على اسم اللَّه عزَّ وجلَّ، والظاهر أنه يعودُ على اسْمِ العدوِّ الشيطانِ، بمعنى مِنْ أجله، وبسببه، فكأنه قال: والَّذِينَ هم بَسَبِبه مشركُونَ باللَّه، وهذا الإخبار بأنْ لا سلطانَ للشيطانِ على المؤمنين بَعقِبِ الأَمر بالاستعاذة- يقتضي أنْ الاستعاذةَ تصرْفُ كيده، كأنها متضمِّنة للتوكُّل على اللَّه، والانقطاع إِليه.
{وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} وقوله سبحانه: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} يعني بهذا التبديل النَّسْخَ، {قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ}: أي قال كفَّار مكَّةَ و{رُوحُ القدس}: هو جبريلُ؛ بلا خلاف. وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} قال ابن عباس: كان بمكَّة غلامٌ أعجميٌّ لبعض قريشٍ يقال له: «بلعام»، فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعلِّمه الإِسلام، ويرُومُهُ عليه، فقال بعضُ الكفَّار هذا يُعلِّم محمَّداً، وقيل: اسمُ الغلام «جبر»، وقيل: يَسار، وقيل: يَعيش، والأعجميُّ هو الذي لا يتكلَّم بالعربية، وأما العَجَمِيُّ، فقد يتكلَّم بالعربيَّة، ونسبته قائمة. وقوله: {وهذا} إشارة إلى القرآن والتقدير: وهذا سَرْدُ لسانٍ، أو نطقُ لِسانٍ.
{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} وقوله سبحانه: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب}: بمعنى: إنما يكْذِبُ، وهذه مقاومةٌ للذين قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101، ومَنْ في قوله {مَن كَفَرَ} بدلٌ مِنْ قوله: {الكاذبون}، فروي: أن قوله سبحانه: {وأولئك هُمُ الكاذبون} يراد به مِقْيَسُ بنُ ضَبَابَةَ وأشباهه ممَّن كان آمن، ثم ارتد باختياره مِنْ غيرِ إِكراه. وقوله سبحانه: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ}، أي: كبلالٍ وَعمَّارِ بنِ يَاسِرٍ وأمِّهِ وخَبَّابٍ وصُهَيْبٍ وأشباههم؛ ممَّن كان يُؤْذَى في اللَّه سبحانه، فربَّما سامَحَ بعضُهم بما أراد الكَفَّارُ من القَوْل؛ لِمَا أصابه من تَعْذيبِ الكفرة، فيروى: أنَّ عَمَّار بْنَ ياسِرٍ فعَلَ ذلك، فاستثناه الله في هذه الآية، وبقيَّة الرخْصَةِ عامَّة في الأمرْ بَعْده، " ويروى أن عمَّار بنَ ياسِرٍ شكَا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما صُنعَ به مِنَ العذاب، وما سَامَحَ به من القولِ، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ» قالَ: أَجدُهُ مُطْمِئَناً بالإِيمَانِ، قَالَ: «فأجِبْهُمْ بِلِسَانِكَ؛ فإِنَّهُ لا يَضُرُّكَ، وإِن عادُوا فَعُدْ» ". وقوله سبحانه: {ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} معناه: انبسط إلى الكفر باختياره. * ت *: وقد ذكر * ع * هنا نَبَذاً من مسائِلِ الإِكراه، تركْتُ ذلك خشية التطويل، وإن محلُّ بسطها كُتُبُ الفقْهِ.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)} وقوله سبحانه: {ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا على الأخرة...} الآية: {ذلك} إشارةٌ إِلى الغضب، والعَذَاب الذي تُوُعِّدَ به قبل هذه الآية، والضمير في أنهَمَ لَمِنْ شرح بالكُفَرُ صدْراً.
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)} وقوله سبحانه: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ...} الآية: قال ابنُ إسحاق: نزلَتْ هذه الآية في عَمَّار بنَ ياسِرٍ، وعَيَّاشِ بنِ أبيَ رَبيَعَةَ، والوليدِ بنِ الوليد. قال * ع *: وذِكْرُ عَمَّارٍ في هذا عنْدي غيْرُ قويمٍ، فإنَهُ أرَفَعُ من طبقة هؤلاءِ، وإِنما هؤلاء مَنْ تَابَ ممَّن شرَحَ بالكُفْرِ صدراً، فتح اللَّه له بابَ التوبة في آخر الآية، وقال عكرمةُ والحَسَن: نزلَتْ هذه الآية في شَأنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي سَرْحٍ وأشباهه فكأنه يقول: مِنْ بَعْدِ ما فَتَنَهم الشَّيطانُ، وهذه الآية مدنية بلا خلافٍ، وإِن وجد، فهو ضعيفٌ، وقرأ الجمهور: «مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا»؛ مبنيًّا للمفعول، وقرأ ابن عامر وحْده: «مَنْ بَعْدِ ما فَتَنُوا»- بفتح الفاء والتاء أي فَتَنُوا أنفسهم، والضمير في {بَعْدِهَا} عائدٌ على الفِتْنَةِ، أو على الفَعْلة، أو الهجْرةُ، أو التوبة، والكلامُ يعطيها، وإن لم يَجْر لها ذكْرٌ صريُحُ. وقوله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ}: المعنى لغفورٌ رحيمٌ «ونَفْس» الأولى: هي النفْسُ المعروفةُ، والثانية هي بمعنى الذَّاتِ. * ت *: قال المهدويُّ: يجوز أنْ ينتصب {يَوْمَ}؛ على تقدير لغَفُورٌ رحيمٌ يَوْمَ، فلا يوقَفُ على {رَّحِيمٌ}. وقال * ص *: {يَوْمَ} تأتي ظرفٌ منصوبٌ ب {رَّحِيمٌ} أو مفعولٌ به ب «اذكر» انتهى، وهذا الأخير أظهر، والله أعلم. وقوله سبحانه: {وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ}، أي: يجازي كلُّ منْ أحْسَن بإحسانه، وكلُّ من أساء بإِساءته.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)} وقوله سبحانه: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً...} الآية: قال ابن عبَّاس: القرية؛ هنا مكَّة، والمراد الضمائر كلِّها في الآيةِ أهْلُ القرية، ويتوجَّه عنْدِي في الآيةُ أنها قُصِدَ بها قريةٌ غير معَّينة جُعِلَتْ مثلاً لمكَّة، على معنى التحذير، لأهلها ولغيرها مِنَ القُرَى إِلى يوم القيامة وهو الذي يُفْهَمُ من كلام حَفْصَةَ أمِّ المؤُمنين، و«أَنعَم» جمع نِعْمة. وقوله سبحانه: {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف} استعاراتٌ، أي: لما باشرهم ذلك، صار كاللِّباس، والضميرُ في {جَاءَهُمْ} لأهل مكَّة، والرسولُ محمَّد صلى الله عليه وسلم، و{العذاب}: الجوعُ وأَمْرُ بَدْرٍ ونحو ذلك، إن كانت الآية مدنيةً، وإن كانَتْ مكِّية، فهو الجوع فقطْ. وقوله سبحانه: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حلالا طَيِّباً...} الآية: هذا ابتداءُ كلامٍ آخر، أي: وأنتم أيها المؤمنون، لستُمْ كهذه القريةِ فكُلُوا واشْكُروا اللَّه على تباين حَالِكم، من حال الكَفَرة، وقوله: {حلالا} حالٌ، وقوله: {طَيِّباً}: أي مستَلَذًّا؛ إذ فيه ظهورُ النعمةِ، ويحتمل أن يكون «الطَّيْب» بمعنى الحلالِ، كُرِّر مبالغة وتَأكيداً.
{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)} وقوله سبحانه: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حلال وهذا حَرَامٌ...} الآية: هذه الآية مخاطَبَةٌ للكفَّار الذينَ حرَّموا البحائر والسَّوائب، قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» ومعنى الآية: لا تصفوا الأعيان بأنها حلالٌ أو حرامٌ مِنْ قِبَلِ أنفسكم، إِنما المحرِّم والمحلِّل هو اللَّه سبحانه، قال ابن وَهْب: قال مالكٌ لم يَكُنْ مِنْ فُتْيَا النَّاسِ أنْ يقال لَهُمْ: هَذَا حَلاَلٌ، وهذا حَرَامٌ، ولكنْ يقول: أَنا أَكْرَهُ هذا، ولَمْ أَكُنْ لأصنَعَ هذا، فكان النَّاسُ يطيعون ذلك، ويرضَوْنَه، ومعنى هذا: أنَّ التحليل والتحريمَ إِنما هو للَّه؛ كما تقدم بيانه، فليس لأحدٍ أنْ يصرِّح بهذا في عَيْن من الأعيانِ إلا أنْ يكون الباري تعالى يخبر بذلك عَنْه، وما يؤدِّي إِليه الاجتهادُ أنه حرامٌ يقول فيه: إِني أكْرَهُ كذا، وكذلك كان مَالِكٌ يفعلُ، اقتداء بمن تقدَّم من أهْلِ الفتوى انتهى. وقوله: {متاع قَلِيلٌ} إشارةٌ إلى عيشهم في الدنيا، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بعد ذلك في الآخرة، وقوله: {مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} إِشارةٌ إِلى ما في «سورة الأنعام» من ذي الظُّفَر والشُّحُوم.
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)} وقوله سبحانه: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بجهالة ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} هذه آية تأنيسٍ لجميعِ العالم فهي تتناوَلُ كلَّ كافرٍ وعاصٍ تَابَ من سوءِ حالِهِ، قالتْ فرقة: «الجهالة»؛ هنا: العَمْد، والجهالة؛ عندي في هذا الموضع: ليست ضد العلْم، بل هي تَعَدِّي الطَّوْر ورُكُوب الرأْس. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَليِّ» وقد تقدَّم بيان هذا، وقلَّما يوجَدُ في العصاة مَنْ لم يتقدَّم له علْم بُحَظْر المعصيةِ التي يُوَاقِع. وقوله سبحانه: {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ...} الآية: لما كَشَفَ اللَّه فعْلَ اليهودِ وتحكُّمهم في شرعهم بذكْر ما حرَّم عليهم- أراد أنْ يبيِّن بُعْدَهم عن شرْعِ إِبراهيم عليه السلام، «والأمة»، في اللغة: لفظةٌ مشتركةٌ تقع لِلْحِينِ، وللجَمْعِ الكثير، وللرَّجُل المنفردِ بطريقةٍ وحده، وعلى هذا الوجه سُمِّي إِبراهيم عليه السلام أمة، قال مجاهد: سُمِّيَ إِبراهيم أمةً؛ لانفراده بالإِيمان في وقته مدَّةً مَّا، وفي البخاريِّ؛ أنه قال لِسَارَةَ: «لَيْسَ عَلَى الأرْضِ اليَوْمَ مؤمنٌ غيري وغَيْرُكِ»، وفي البخاريِّ قال ابنُ مسعودِ: الأُمَّة معلِّمُ الخَيْرِ والقانِتُ: المطيعُ الدائِمُ على العبادَةِ، والحَنِيف: المائلُ إلى الخير والصَّلاح. وقوله سبحانه: {وآتيناه فِي الدنيا حَسَنَةً}، الآية «الحسنةُ»: لسَانُ الصدق، وإِمامته لجميعِ الخَلْق؛ هذا قول جميع المفسِّرين، وذلك أنَّ كل أمةٍ متشرِّعة، فهي مقرَّة أنَّ إِيمانها إِيمان إِبراهيم، وأنه قُدْوَتُها، وأنه كان على الصواب. * ت *: وهذا كلامٌ فيه بعض إِجمالٍ، وقد تقدَّم في غير هذا الموضعِ بيانه، فلا نطوِّل بسَرْده. وقوله سبحانه: {أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم...} الآية: ال {مِلَّةَ}: الطريقةُ في عَقَائدِ الشَّرْعِ.
{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} وقوله سبحانه: {إِنَّمَا جُعِلَ السبت...} الآية: أي: لم يكُنْ من ملَّة إِبراهيم، وإِنما جعل اللَّه فرضاً عاقب به القَوْمَ المُخْتَلِفين فيه؛ قاله ابن زَيْد؛ وذلك أن موسى عليه السلام أَمَرَ بَنِي إسرائيل أنْ يجعلوا من الجمعة يوماً مختصًّا بالعبادة، وأمرهم أنْ يكون الجُمُعَةَ، فقال جمهورهم: بلْ يكونُ يَوْمَ السَّبْتِ؛ لأن اللَّه تعالى فَرَغَ فيه من خَلْق مخلوقاته، وقال غيرهم: بَلْ نقبَلُ ما أمَرَ به موسى، فراجَعَهم الجمهورُ، فتابعهم الآخرون، فألزمهم اللَّهُ يَوْمَ السْبتِ إِلزاماً قويًّا، عقوبةً لهم، ثم لم يكُنْ منهم ثبوتٌ، بل عَصَوْا فيه، وتعدَّوْا فأهلكهم، وورد في الحديث الصحيح، " أنَّ اليَهُودَ والنَّصَارَى اختلفوا في اليوم الذي يختصُّ من الجمعة، فأخذ هؤلاء السبْتَ، وأخَذَ هؤلاء الأحدَ، فهدانا اللَّهَ نحْنُ إلى يوم الجمعةِ، قال صلى الله عليه وسلم: «فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي اخْتَلَفوا فِيهِ» " فَلَيْسَ الاختلافُ المذكورُ في الآية هو الاختلافَ في هذا الحديث. * ت *: يعنى أنَّ الاختلاف المذكورَ في الآيةِ هو بَيْنَ اليهود فيما بينهم، والاختلاف المذكور في الحديثِ الصحيحِ هو فيما بَيْنَ اليهودِ والنصارى. وقوله سبحانه: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} هذه الآيةُ نزلَتْ بمكَّة، أمر عليه السلام أنْ يدعو إِلى دينِ اللَّه وشَرْعِهِ بتلطُّف، وهكذا ينبغى أنْ يوعَظَ المسلمون إِلى يوم القيامة.
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} وقوله سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ...} الآية: أطبق أهْل التفسير أنَّ هذه الآية مدنيَّة، نزلَتْ في شأن التمثيل بَحْمَزة وغيره في يَوْمِ أحُدِ، ووقع ذلك في «صحيحِ البخاريِّ» وغيره، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَئِنْ أَظْفَرَنِي اللَّهُ بِهِمْ لأُمثِّلَنَّ بِثَلاَثِين» كتاب «النْحَّاس» وغيره: «بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ»، فقال الناس: إِنْ ظفرنا، لنفعلَنَّ ولنفعَلنَّ، فنزلَتْ هذه الآية، ثم عزم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الصَّبْر عن المجازاة بالتمثيل في القتلى، ويروى أنه عليه السلام قَالَ لأصحابه: «أَمَّا أنا فَأصْبِرُ كَمَا أُمِرْتُ، فَمَاذَا تَصْنَعُونَ؟ فَقَالُوا: نَصْبِرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كما نُدِبْنَا!!!». وقوله: {وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} أي بمعونة اللَّهِ وتأييده على ذلك. وقوله سبحانه: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} قيل: الضمير في قوله: {عَلَيْهِمْ} يعودُ على الكُفار، أي: لا تتأسَّف عليهم أنْ لم يُسْلِمُوا، وقالتْ فرقة: بل يعودُ على القَتْلى حمزة وأصحابه الذين حَزِنَ عليهم صلى الله عليه وسلم والأولُ أصوبُ. {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} قرأ الجمهور: «في ضَيْقٍ»- بفتح الضاد-، وقرأ ابن كثير بكسر الضاد، وهما لغتان. {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا}: أي بالنصْرِ والمعونةِ، و{اتقوا} يريدُ المعاصِيَ، و{مُّحْسِنُونَ} هم الذين يتزيَّدون فيما نُدِبَ إِليه من فِعْلِ الخَيْرِ وصلَّى اللَّهُ على سَيِّدنا محمدٍ وآله وصَحْبه وسلَّم تسليماً.
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} قوله عزَّ وجلَّ: {سبحان الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام}: جل العلماء على أن الإسراء كان بشَخْصه صلى الله عليه وسلم، وأنه ركِب البُرَاق من مكَّة، ووصل إِلى بيت المقدس، وصلَّى فيه، وقالتْ عائشة ومعاوية: إِنما أُسْرِي بِرُوحه، والصحيحُ ما ذهب إليه الجمهورُ، ولو كانتْ منامةً، ما أمكن قريشاً التشنيعُ، ولا فُضِّل أبو بكر بالتصديق، ولا قالَتْ له أمُّ هانئ: لا تحدِّث الناس بهذا، فيكذِّبوك، إِلى غير هذا من الدلائل، وأما قول عائشة فإنها كانت صغيرة، ولا حدثَتْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكذلك معاوية. قال ابن العربيِّ: قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} قال علماؤنا: لو كان للنبيِّ صلى الله عليه وسلم اسم هو أشرَفُ منه، لسماه اللَّه تعالى به في تلك الحَالةِ العَلِيَّة، وقد قال الأستاذ جمال الإِسلام أبو القاسم عبد الكريم بن هَوَازِنَ: لما رَفَعه اللَّه إِلى حضرته السَّنِيَّةِ وأرقاه فوق الكواكِب العُلْويَّة؛ الزمه اسم العبوديَّة، تواضُعاً وإِجلالاً للألوهية. انتهى من «الأحكام». و {سبحان} مصدر معناه: تنزيهاً للَّه، وروى طلحة بن عبيد اللَّه الفَيَّاض أحد العَشَرة، أنه قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ما معنى سبحان اللَّه؟ قال: تَنْزِيهُ اللَّه مِنْ كُلِّ سوء، وكان الإسراء فيما قال مقاتِلٌ وقتادةُ: قبل الهجرة بعامٍ، وقيل: بعام ونصفٍ، والمتحقِّق أن ذلك كان بَعْدَ شَقِّ الصحيفة، وقبل بيعة العقبة، ووقع في «الصحيحين» لشَرِيك بن أبي نَمِرٍ، وَهْمٌ في هذا المعنى؛ فإنه روى حديثَ الإِسراء، فقال فيه: وذلك قبل أنْ يوحى إِليه، ولا خلاف بين المحدِّثين؛ أن هذا وَهْمَ من شريك. قال * ص *: {أسرى بِعَبْدِهِ} بمعنى: سَرَى، وليست همزتُهُ للتعدية، بل ك«سَقَى وَأَسْقَى»، والباء للتعدية، و{لَيْلاً} ظرفٌ للتأكيد؛ لأن السُّرَى لا يكون لغةً إِلا بليلٍ، وقيل: يعنى به في جوف الليل، فلم يكن إِدْلاجاً ولا ادلاجا انتهى. و {المسجد الأقصى}: بيت المقدس، «والأقصى» البعيدُ، والبركة حولَهُ منْ وجهين. أحدهما: النبوَّة والشرائعُ والرسُل الذين كانوا في ذَلِكَ القُطْر، وفي نواحيه. والآخر: النِّعَم من الأشجار والمياه والأرض المفيدة. وقوله سبحانه: {لِنُرِيَهُ} يريد لنري محمَّداً بعينه آياتنا في السموات والملائكة والجَنَّةَ والسِّدْرةَ وغير ذلك من العجائبِ، مما رآه تلك الليلة، ولا خلاف أنَّ في هذا الإِسراء فُرِضَت الصلواتُ الخمسُ على هذه الأمة. وقوله سبحانه: {إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} وعيد للمكذِّبين بأمر الإِسراء، أي: هو السميع لما تقولون، البصير بأفعالكم.
{وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)} {وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب}، أي: التوراة. وقوله: {أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً...} الآية: التقديرُ: فعلنا ذلك؛ لَئِلاَّ تتخذوا يا ذرية ف {ذُرِّيَّةَ}: منصوب على النداء، وهذه مخاطبة للعالَم، ويتجه نصبُ (ذرِّيَّة) على أنه مفعول ب «تتخذوا» ويكون المعنى أَلاَّ يتخذوا بشراً إِلاها من دون اللَّه، وقرأ أبو عمر وحده: «أَلاَّ يَتَّخِذُوا» بالياء، على لفظ الغائب، «والوكيل»؛ هنا من التوكيل، أي: متوكَّلاً عليه في الأمور، فهو ندٌّ للَّه بهذا الوجه، وقال مجاهد: {وَكِيلاً}: «شريكاً»، ووصف نوح بالشُّكْر؛ لأنه كان يحمد اللَّه في كل حالٍ، وعلى كل نعمةٍ من المطعم والمشرب والملبس والبراز وغير ذلك صلى الله عليه وسلم قاله سلمانُ الفارسيُّ وغيره، وقال ابن المبارك في «رقائقه»: أخبرنا ابنُ أبي ذئبٍ عن سعيدٍ المُقْبُرِيِّ عن أبيه عن عبد الله بن سَلاَمٍ: أن موسى عليه السلام قال: يا ربِّ، ما الشكْرُ الذي ينبغي لَكَ؟ قَالَ: يَا مُوسَى لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِي، انتهى، وقد رُوِّيناه مسنداً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أعني قوله: " لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِ اللَّه ". وقوله سبحانَهُ: {وَقَضَيْنَا إلى بَني إسراءيل...} الآية: قالتْ فرقة: {قَضَيْنَا} معناه: في أم الكتاب. قال * ع *: وإنما يُلْبِسُ في هذا المكان تعديةُ {قَضَيْنَا} ب «إلى»، وتلخيصُ المعنى عندي: أنَّ هذا الأمر هو مما قضاه اللَّه عزَّ وجلَّ في أمِّ الكتاب على بني إسرائيل، وألزمهم إياه، ثم أخبرهم به في التَّوْرَاة على لسان موسى، فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمريْنِ جميعاً في إيجازٍ، جعل {قَضَيْنَا} دالَّة على النفوذ في أم الكتاب، وقَرَن بها «إِلى» دالَّةً على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل، والمعنى المقصودُ مفهومٌ خلالَ هذه الألفاظ، ولهذا فسر ابنُ عباس مرةً بأنْ قال: {قَضَيْنَا إلى بَنِي إسراءيل}، معناه: أعلمناهم، وقال مرَّةً: «قضينا عليهم»، و{الكتاب} هنا؛ التوراةُ لأن القَسَم في قوله: {لَتُفْسِدُنَّ} غير متوجِّه مع أنْ نجعل {الكتاب} هو اللوح المحفوظ. وقال * ص *: و{قَضَيْنَا}: مضمَّنٌ معنى «أوْحَيْنَا»؛ ولذلك تعدَّى ب «إلى» وأصله أنْ يتعدَّى بنفسه إِلى مفعولٍ واحدٍ؛ كقوله سبحانه: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} [القصص: 29] انتهى، وهو حسنٌ موافق لكلام * ع *، وقوله «ولتعلُنَّ» أي: لتتجبَّرُنَّ، وتطلبون في الأرض العُلوَّ، ومقتضى الآيات أن اللَّه سبحانه أعْلَمَ بني إسرائيل في التوراة، أنه سيقع منهم عصيانٌ وكفرٌ لِنِعمِ اللَّه، وأنه سيرسل عليهم أمةً تغلبهم وتذلُّهم، ثم يرحمهم بعد ذلك، ويجعل لهم الكَرَّة ويردُّهم إلى حالهم من الظهور، ثم تقع منهم أيضاً تلك المعاصِي والقبائِحَ، فيبعث اللَّه تعالى عليهم أمةً أخرى تخرِّب ديارهم، وتقتلُهم، وتجليهم جلاءً، مبرِّحاً، وأعطى الوجودَ بعد ذلك هذا الأمْرَ كلَّه، قيل: كان بين المرتَيْنِ مِائَتَا سنةٍ، وعَشْرُ سنينَ مُلْكاً مؤيَّداً بأنبياء، وقيل: سبعون سنة.
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)} وقوله سبحانه: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أولاهما} الضمير في قوله: {أولاهما} عائدٌ على قوله {مَرَّتَيْنِ}، وعبَّر عن الشر ب «الوعد»؛ لأنه قد صرَّح بذكْرِ المعاقبة. قال * ص *: {وَعْدُ أولاهما}، أي: موعود، وهو العقاب، لأن الوعد سبق بذلك، وقيلَ: هو على حذف مضاف، أي وعد عقاب أولاهما. انتهى، وهو معنى ما تقدَّم واختلف الناس في العبيد المبعوثِينَ، وفي صورة الحال اختلافا شديداً متباعِداً، عيونُهُ أنَّ بني إِسرائيل عَصَوْا وقتلوا زكريَّاء عليه السلام، فغزاهُمْ سِنْجارِيبُ مَلِك بابل، قاله ابن إسحاق وابن جَبْير. وقال ابن عباس: غزاهُمْ جالوتُ من أهْل الجزيرة، وقيل: غزاهم بُخْتَ نَصَّرَ، وروي أنه دخل قَبْلُ في جيش من الفرس، وهو خامل يسير في مَطْبَخ الملك، فاطلع مِنْ جور بني إِسرائيل على ما لم تعلمه الفُرْسُ، فَلمَّا انصرف الجيشُ، ذكر ذلك للملك الأعظَمِ، فلما كان بعد مدَّة، جعله الملك رئيسَ جيشٍ، وبعثه فخرَّب بيت المقدس، وقتلهم، وأجلاهم، ثم انصرَفَ، فوجد المَلِكَ قد ماتَ، فمَلَكَ موضعه، واستمرت حاله حتى ملك الأرْضَ بعد ذلك، وقالت فرقة: إنما غزاهم بُخْتَ نَصَّرَ في المرَّة الأخيرة حين عَصَوْا وقتلوا يحيى بن زَكَرِيَّاءَ، وصورة قتله: أن الملك أراد أنْ يتزوج بِنْتَ امرأته، فنهاه يحيى عَنْها، فعزَّ ذلك على امرأته، فزَّينت بنْتَها، وجعَلَتها تسقي المَلِك الخمر، وقالت لها: إِذا راوَدَكَ عن نفسك، فتمنَّعي حَتَّى يعطيَكِ المَلِكُ ما تَتَمَنَّيْنَ، فإِذا قال لك: تَمنِّي عَلَيَّ ما أردتِّ، فقولي: رأسَ يحيى بن زكرياء، ففعلَتِ الجارية ذلك، فردَّها الملك مرَّتَيْنِ، وأجابها في الثالثة، فجيء بالرأْسِ في طَسْتٍ، ولسانُهُ يتكلَّم، وهو يقول: لا تحلُّ لك، وجرى دمُ يحيى، فلم ينقطعْ، فجعل الملك عليه التُرابَ، حتى ساوى سور المدينةِ، والدمُ ينبعث، فلما غزاهم المَلِكُ الذي بُعِثَ عليهم بحسب الخِلاَفِ الذي فيه، قَتَلَ منهم على الدمِ سبعين ألْفاً حتى سكَنَ، هذا مقتضى خبرهم، وفي بعض الروايات زيادة ونقصٌ، وقرأ الناس: «فَجَاسُوا»، وقرأ أبو السَّمَّال: بالحاء، وهما بمعنى الغلبةِ والدخولِ قهراً، وقال مُؤَرِّجٌ: جَاسُوا خِلاَلَ الأزِقَّةَ. * ت * قال * ص *: {جَاسُواْ} مضارعُه يَجُوسُ، ومصدره جَوْسٌ وجَوَسَانٌ، ومعناه: التردُّد، و{خِلاَلَ} ظرف، أي: وسط الديار انتهى. وقوله سبحانه: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ...} الآية عبارة عما قاله سبحانه لبني إِسرائيل في التوراة، وجعل «رددنا» موضع «نَرُدُّ»، لما كان وعد اللَّه في غاية الثِّقَة، وأنه واقع لا محالة، فعبَّر عن المستقبل بالماضي، وهذه الكرة هي بعد الجولة الأولى، كما وصفْنا، فغَلَبَتْ بنو إِسرائيل على بيت المقدس، وملَكُوا فيه، وحَسُنت حالهم بُرْهةً من الدهْرِ، وأعطاهم اللَّه الأموالَ والأولادَ وجعلَهم إِذا نفروا إِلى أمْرٍ أكثر النَّاس، فلما قال اللَّه: إِني سأفعل بُكْم هكذا، اعقَّب بوصيَّتهم في قوله: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ. ..} الآية، والمعنى: إِنكم بعملكم تُجَازَوْنَ، و{وَعْدُ الأخرة} معناه: من المرَّتَيْن. وقوله: {لِيَسُوءُواْ} اللام لام أمْرِ، وقيل: المعنى: بعثناهم، ليسوؤوا وليدخلوا، فهي لام كْيِ كلّها، والضمير للعباد أُولي البأس الشديد، و{المسجد} مسجد بيت المقدس، «وتَبَّر» معناه: أفسد بغشمٍ وركوب رأْس. وقوله: {مَا عَلَوْاْ}، أي: ما علوا عليه من الأقطار، وملكوه من البلاد، وقيل: «ما» ظرفية، والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد. وقوله سبحانه: {عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ...} الآية: يقول اللَّه عزَّ وجلَّ لبقية بني إِسرائيل: عسى ربكم إِن أطعتم في أنفسكم واستقمتم أنْ يرحمكم، وهذه العِدَةُ ليست برجوعِ دولةٍ، وإِنما هي بأنْ يرحم المطيع منهم، وكان من الطاعة اتباعهم لعيسى ومحمَّد عليهما السلام، فلم يفعلوا، وعادوا إلى الكفر والمعصية، فعاد عقابُ اللَّه عليهم بِضَرْبِ الذَّلة عليهم، وقتلِهمْ وإذلالِهمْ بِيَدِ كلِّ أمة، و«الحصير»: من الحَصْر بمعنى السَّجْن، وبنحو هذا فسَّره مجاهد وغيره، وقال الحسن: «الحصير» في الآية: أراد به ما يفترشُ ويُبْسَطُ؛ كالحصير المعروف عند الناس. قال * ع *: وذلك الحصيرُ أيضاً هو مأخوذ من الحَصْر.
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)} وقوله سبحانه: {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ...} الآية: {يَهْدِي}، في هذه الآية بمعنى يرشدُ، ويتوجَّه فيها أن تكون بمعنى «يدعو» و«التي» يريد بها الحالَةَ والطريقةَ، وقالتْ فرقة «التي هي أقوم»: لا إله إِلا اللَّه، والأول أعمُّ، «والأجر الكبير» الجنة؛ وكذلك حيثُ وقع في كتاب اللَّه فضْلُ كبير، وأجرٌ كبيرٌ، فهو الجنة، قال البَاجِيُّ قال ابنُ وَهْبٍ: سمعتُ مالكاً يقول: إِن استطعت أن تجعل القرآن إِماماً، فافعلْ، فهو الإِمام الذي يهدي إِلى الجَنَّة. قال أبو سليمان الدارانيُّ: ربَّما أقَمْتُ في الآية الواحدةِ خَمْسَ ليالٍ، ولولا أني أدَعُ التفكُّر فيها، ما جزتها، وقال: إنما يُؤتَى على أحدكم من أنه إِذا ابتدأ السورة، أراد آخرها. قال الباجيُّ. وروى ابن لبابة عن العتبي عن سُحْنُون؛ أنه رأى عبد الرحمن بن القاسم في النومِ، فقال له: ما فعلَ اللَّهُ بك؟ قال: وَجَدتُّ عنده ما أَحْبَبْتُ! قال له: فأي أعمالِكَ وجدتَّ أفضلَ؟ قال: تلاوة القرآن، قال: قلتُ له: فالمسائلُ، فكان يشير بأصبعه؛ كأنه يلشيها، فكنت أسأله عن ابن وَهْب، فيقول لي: هو في عِلِّيِّينَ. انتهى من «سنن الصالحين».
{وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)} وقوله سبحانه: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً}: سقطت الواوُ من {يَدْعُ} في خطِّ المصحف. قال ابن عباس وقتادة ومجاهد: هذه الآية نزلَتْ ذامَّة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم في وقت الغَضَبَ والضَّجَر، فأخبر سبحانه أنهم يدْعُون بالشرِّ في ذلك الوقتِ، كما يدعون بالخير في وقت التثبُّت، فلو أجاب اللَّه دعاءهم، أهلكهم، لكَّنه سبحانه يصفَحُ ولا يجيبُ دعاء الضَّجر المستعجل، ثم عَذَرَ سبحانه بعض العُذْرَ في أن الإِنسان له عَجَلة فطرية، {الإنسان} هنا: يراد به الجنْس؛ قاله مجاهد وغيره. وقال ابن عباس وسليمان: الإِشارة إِلى آدم لما نفخ الرَّوح في رأسه، عَطَس وأبصر، فلما مشى الرُّوح في بدنه قبل ساقيه، أعجبته نفسه، فذهب ليمشي مستعجلاً لذلك، فلم يقدر، والمعنى؛ على هذا فأنتم ذَوُوا عجَلةٍ موروثةٍ من أبيكم، وقالت فرقة: معنى الآية: معاتبة الناس في دعائهم بالشرِّ مكانَ ما يجبُ أنْ يدعوه بالخير. * ت *: قول هذه الفرقة نقله * ع * غير ملخَّص، فأنا لخَّصته. وقوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ...} الآية هنا العلامةُ المنْصُوبة للنَّظَر والعِبْرة. وقوله سبحانه: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اليل} قالتْ فيه فرقة: سببُ تعقيب الفاء أن اللَّه تعالى خَلَق الشمْسَ والقَمَر مضيئَيْنِ، فمحا بعد ذلك القَمَرَ، محاه جبريلُ بجناحه ثلاثَ مرَّات، فمِنْ هنالك كَلَفُهُ، وقالت فرقة: إِن قوله: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اليل} إِنما يريدُ في أصْلِ خلقته، {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً}، أي: يُبْصَرُ بها ومعها، ليبتغي الناس الرزَقَ وَفَضْلَ اللَّهِ، وجعَلَ سبحانه القمَرَ مخالفاً لحالِ الشمْسِ؛ ليعلم به العدَدُ من السنينَ والحسابُ للأشهرِ والأيامِ، ومعرفةُ ذلك في الشرْعِ إِنما هو من جهة القمرِ، لا من جهة الشمس، وحكى عياضٌ في «المدارك» في ترجمة الغازي بن قَيْس قال: روي عن الغازي بن قَيْس؛ أنه كان يقول: ما مِنْ يومٍ يأتي إِلاَّ ويقولُ: أَنَا خَلْقٌ جَدِيد، وعَلَى مَا يُفْعَلُ فيَّ شَهِيد، فَخُذُوا مِنِّي قَبْلَ أنْ أَبِيد، فإِذا أمْسى ذلك اليومُ، خَرَّ للَّهِ ساجِداً، وقال: الحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلنِي الَيْوَم العَقيم. انتهى. «والتفصيل» البيان.
{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} وقوله سبحانه: {وَكُلَّ إنسان ألزمناه طائره} قال ابن عباس: {طائره} ما قُدِّر له وعليه، وخاطب اللَّه العربَ في هذه الآية بما تَعْرِف، وذلك أنه كان مِنْ عادتها التيمُّنُ والتشاؤم بالطَّيْر في كونها سانحةً وبارحةً، وكَثُر ذلك حتَّى فعلته بالظِّباء وحيوانِ الفَلاَ، وسمَّت ذلك كلَّه تَطَيُّراً، وكانتْ تعتقدُ أنَّ تلك الطِّيَرَةَ قاضية بما يلقي الإِنسان من خيرٍ وشرٍّ، فأخبرهم اللَّه تعالى في هذه الآية بأوجز لفظٍ، وأبلغِ إشارةٍ، أن جميع ما يلقى الإنسانُ من خير وشر قد سَبَقَ به القضاء، وألزم حظه وعمله وتكسُّبه في عنقه، وذلك في قوله عزَّ وجلَّ: {وَكُلَّ إنسان ألزمناه طائره فِي عُنُقِهِ}، فعَّبر عن الحظِّ والعمل؛ إِذ هما متلازمانِ، بالطائر؛ قاله مجاهد وقتادة: بحسب معتقد العرب في التطيُّرِ: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كتابا يلقاه مَنْشُوراً}: هذا الكتابُ هو عمل الإِنسان وخطيئاته، {اقرأ كتابك} أي: يقال له: اقرأ كتابك، وأسند الطبريُّ عن الحسن، أنه قال: يا بْنَ آدم بُسِطَتْ لك صحيفةُ، ووُكِلَ بك مَلَكَانِ كريمانِ؛ أحدهما عن يمينِكَ يكتُبُ حسناتِكَ، والآخر عن شمالِكَ يحفظُ سيئاتكَ، فأَمْلِلْ ما شئْتَ وأقلِلْ أو أكِثْر حتَّى إِذا مُتَّ طُوِيَتْ صحيفتُكَ فجعلَتْ في عنقك معَكَ في قَبْرك حتى تَخْرُجَ لك يوم القيامة كتاباً تلقاه منشوراً {اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} قد عَدَلَ واللَّه فيكَ، مَنْ جعلك حسيبَ نَفْسك. قال * ع * فعلى هذه الألفاظِ التي ذكر الحسنُ يكون الطائرُ ما يتحصَّل مع ابْنِ آدم من عمله في قَبْره، فتأمَّل لفظه، وهذا قول ابن عباس، وقال قتادة في قوله: اقرأ كتابك: إِنه سيقرأ يومئذ من لم يكُنْ يقرأ.
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)} وقوله سبحانه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} قرأ الجمهور: «أَمَرْنَا»؛ على صيغة الماضي، وعن نافع وابن كثير، في بعض ما رُوِيَ عنهما: «آمَرْنَا» بمد الهمزة؛ بمعنى كَثَّرنا، وقرأ أبو عمرو بخلاف عنه: «أَمَّرْنَا» بتشديد الميم، وهي قراءة أبي عثمان النَّهْديِّ، وأبي العاليةِ وابن عبَّاسِ، ورُوِيَتْ عن علي، قال الطبري القراءة الأولى معناها: أمرناهم بالطَّاعة، فعصَوْا وفَسَقُوا فيها، وهو قولُ ابن عباس وابنِ جبير، والثانية: معناها: كَثَّرناهم، والثالثة: هي من الإِمارَةِ، أي ملَّكناهم على الناس، قال الثعلبي: واختار أبو عُبَيْد وأبو حاتمٍ قراءة الجمهور، قال أبو عُبَيْد: وإِنما اخترْتُ هذه القراءة، لأنَّ المعاني الثلاثةَ مجتمعةٌ فيها، وهي معنى الأمْرِ والإِمارة والكثرة انتهى. * ت *: وعبارة ابن العربي: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} يعني بالطاعة، ففسقوا بالمخالَفَة انتهى من كلامه على الأفعال الواقعة في القرآن، «والمترف» الغنيُّ من المالِ المتنعِّم، والتُّرْفَةُ: النِّعمة، وفي مُصْحف أبيِّ بن كعب: «قَرْيَةً بَعَثْنَا أكابِرَ مُجْرِمِيها فَمَكَرُوا فيها». وقوله سبحانه: {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول}، أي: وعيدُ اللَّه لها الذي قاله رسولهم، «والتدميرُ» الإِهلاك مع طَمْس الآثار وهَدْمِ البناء. {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون...} الآية: مثال لقريشٍ ووعيدٌ لهم، أي: لستم ببعيد مما حصلوا فيه إِن كذبتم، واختلف في القرن، وقد روى محمَّد بن القاسم في خَتْنِهِ عَبْد اللَّه بن بُسْر، قال: " وضع رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَدَهُ على رأسه، وقال: «سَيَعِيشُ هَذَا الغُلاَمُ قَرْناً» قُلْتُ: كم القَرْنُ؟ قالَ: مِائَةُ سنة " قال محمد بن القاسِمِ: فما زِلْنَا نَعُدُّ له حتى كملِ مِائَةَ سنةٍ، ثم ماتَ رحمه الله. والباء في قوله: {بِرَبِّكَ} زائدةٌ، التقديرٌ وكفَى ربُّكَ، وهذه الباء إِنما تجيء في الأغلب في مَدْحٍ أو ذمٍّ، وقد يجيء «كَفَى» دون باء، كقول الشاعر: [الطويل] .................................... *** كَفَى الشَّيْبُ وَالإِسْلاَمُ لِلمَرْءِ ناهِيَا وكقول الآخر: [الطويل] وَيُخْبرُني عَنْ غَائِبِ المَرْءِ هَدْيُهُ *** كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرْءُ مُخْبِرَا وقوله سبحانه: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ...} الآية: المعنى فإِن اللَّه يعجِّل لمن يريدُ من هؤلاء ما يشاء سبحانه؛ على قراءة النون، أو ما يشاء هذا المريدُ؛ على قراءة الباء، وقوله: {لِمَن نُّرِيدُ} شرط كافٍ على القراءتين، وقال ابن إسحاق الفَزَارِيُّ: المعني لِمَنْ نريدُ هَلَكَتَه، و«المدحورُ» المهان المُبْعَدُ المذَّلل المسخُوطُ عليه. وقوله سبحانه: {وَمَنْ أَرَادَ الأخرة}، أي: إِرادَة يقينِ وإِيمانٍ بها، وباللَّهِ ورسالاتِهِ، ثم شرَطَ سبحانه في مريدِ الآخرة أنْ يَسَعى لها سَعْيَها، وهو ملازمُة أعمالِ الخير على حُكْم الشرع، {فأولئك كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} ولا يشكر اللَّه سعياً ولا عملاً إِلا أثابَ عليه، وغَفَر بسببه؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديثِ الرجُلِ الذي سَقَى الكَلْبَ العاطِشَ: «فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ له». وقوله سبحانه: {كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} يحتملُ أنْ يريد ب«العطاء» الطاعات لمريد الآخرةِ، والمعاصي لمريد العاجلةِ، وروي هذا التأويل عن ابن عباس، ويحتمل أن يريد بالعطاء رزقَ الدنيا، وهو تأويل الحسن بن أبي الحسن، وقتادة، المعنى أنه سبحانه يرزقُ في الدنيا من يريد العاجلَة ومريدَ الآخرة، وإِنما يقع التفاضُلُ والتبايُنُ في الآخرةِ، ويتناسَبُ هذا المعنى مع قوله: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}، أي: ممنوعاً، وقَلَّمَا تصلح هذه العبارةُ لمن يُمَدّ بالمعاصي.
{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)} وقوله: {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} الآية تُدلُّ دلالةً ما على أن العطاء في التي قبلها الرْزُق، وباقي الآية معناه أوضَحُ من أن يبيَّن. وقوله سبحانه: {لاَّ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} هذه الآية خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمراد لجميعِ الخلقِ، قاله الطبري وغيره، ولا مريةَ في ذمِّ مَنْ نحت عوداً أو حجراً، وأشركه في عبادة ربه. قال * ص *: {فَتَقْعُدَ}، أي: فتصير؛ بهذا فسره الفراء وغيرهُ ا ه. «والخذلان»؛ في هذا بإِسلام اللَّه لعبده، ألا يتكفَّل له بنصرٍ، والمخذولُ الذي أسلمه ناصروه، والخَاذِل من الظباء التي تتركُ ولدها.
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)} وقوله سبحانه: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه...} الآية: {قَضَى}، في هذه الآية: هي بمعنى أمر وألزم وأوجب عليكم؛ وهكذا قال الناس، وأقول: إن المعنى وقَضَى ربك أمره، فالمقضِيُّ هنا هو الأمْرُ، وفي مصحفِ ابن مسعود: «وَوَصَّى رَبُّكَ»، وهي قراءة ابن عباس وغيره، والضمير في {تَعْبُدُواْ} لجميع الخلق؛ وعلى هذا التأويل مضى السلفُ والجمهور، ويحتمل أنْ يكون {قَضَى} على مشهورها في الكلامِ، ويكون الضمير في {تَعْبُدُواْ} للمؤمنين من الناس إِلى يوم القيامة. وقوله: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} معنى اللفظة أنها اسمُ فعل؛ كأن الذي يريد أن يقول: أَضْجَرُ أو أتقذَّرُ أو أكْرَه، ونحوَ هذا، يعبِّر إيجازاً بهذه اللفظة، فتعطي معنى الفعْل المذكورِ، وإذا كان النهْيُ عن التأفيفِ فما فوقه من باب أحَرى، وهذا هو مفهومُ الخِطَابِ الذي المسكُوتُ عنه حُكْمُهُ حكْمُ المذكور. قال * ص *: وقرأ الجمهور {الذل} بضم الذال، وهو ضد العِزِّ، وقرأ ابن عباس وغيره بكسرها، وهو الانقيادُ ضدُّ الصعوبة انتهى، وباقي الآية بيِّن. قال ابن الحاجب في «منتهى الوُصول»، وهو المختصَرُ الكَبِير: المفهومُ ما دَلَّ عليه اللفظُ في غَيْرِ مَحَلِّ النُّطْق، وهو: مفهوم موافقة، ومفهومُ مخالفة، فالأول: أنْ يكون حُكْمُ المفهومِ موافقاً للمنطوق في الحُكْم، ويسمَّى فَحْوَى الخطابِ، ولَحْنَ الخِطَابِ، كتحريم الضَّرْبِ من قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} وكالجَزَاء بما فَوْقَ المِثْقالِ من قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة: 8]، وكتأديةِ ما دُونَ القْنطار من قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] وعدم تأدية ما فوق الدينار من قوله تعالى: {بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] وهو من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى، والأعلى على الأدنى، فلذلك كان الحُكم في المسكوتِ أولى، وإِنما يكون ذلك إِذا عُرِفَ المقصودُ من الحُكْم، وأنه أشدُّ مناسبةً في المسكوت؛ كهذه الأمثلة، ومفهومُ المخالفة: أنْ يكونَ المَسْكُوتُ عنه مخالفاً للمنطوقِ به في الحُكْم ويسمَّى دليلَ الخطاب وهو أقسامٌ: مفهومُ الصفة؛ مثل: " في الغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ "، ومفهومُ الشرط، مثل: {وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ} [الطلاق: 6] ومفهوم الغاية، مثل: {حتى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ومفهوم إنَّما مثل: " إنما الرِّبَا في النَّسِيئَةِ " ومفهومُ الاستثناء مِثل: «لا إله إلا الله» ومفهوم العددِ الخاصِّ، مثلَ: {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، ومفهومُ حَصَرْ المبتدإِ مثل: العِالمُ زَيْد، وشرطُ مفهومِ المخالفة عْند قائله ألاَّ يظهر أن المسكوتَ عنه أولى ولا مساوياً؛ كمفهومِ الموافَقَةِ، ولا خرج مَخْرَجَ الأعمِّ الأغلب، مثل: {وَرَبَائِبُكُمُ الاتي فِي حُجُورِكُم} [النساء: 23] فأما مفهومُ الصفةِ، فقال به الشافعيُّ، ونفاه الغَزَّاليُّ وغيره. انتهى. وفسَّر الجمهوُرُ الأوَّابين بالرَّجَّاعين إلى الخير، وهي لفظة لزم عُرْفُها أهْلَ الصلاح. * ت *: قال عَبْدُ الحقِّ الأشَبِيليُّ: وأعَلَمْ أنَّ الميت كالحيِّ فيما يُعْطَاه ويُهْدى إِليه، بل الميت أكثر وأكثر؛ لأن الحي قد يستقلُّ ما يُهْدَى إِليه، ويستحقرُ ما يُتْحَفُ به، والميت لا يستحقر شيئاً من ذلك، ولو كان مقدارَ جناحِ بعوضةٍ، أو وزْنَ مثقالِ ذرةٍ، لأنه يعلم قيمته، وقد كان يقدر عليه، فضيَّعه، وقد قال عليه السلام: " إِذَا مَاتَ الإِنسانُ انقطع عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاِتٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةَ جَارِيَةٍ، أَوْ علْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ " فهذا دعاءُ الولدِ يصلُ إِلى والده، وينتفعُ به، وكذلك أمره عليه السلام بالسَّلاَمِ على أهْلِ القُبُورِ والدعاءِ لهمْ ما ذاك إِلا لكونِ ذلك الدعاءِ لهُمْ والسلام عليهمْ، يصلُ إليهم ويأتيهم، والله أعلم، وروي عنه عليه السلام؛ أنه قال: " لكون الميِّتُ في قَبْرِهِ كالغَرِيقِ يَنْتَظرُ دَعْوَةً تَلْحَقُهُ من ابْنِهِ أَو أَخِيهِ أو صَدِيقِهِ، فَإِذَا لَحِقَتْهُ، كَانَتْ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدَّنْيا وَمَا فِيهَا " والأخبارُ في هذا الباب كثيرةٌ انتهى من «العاقبة». * ت *: وروى مالك في «الموطإ» عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيد بن المسيَّب، أنه قال: كان يقال: إِن الرجُلَ ليُرْفَعُ بدعاءِ ولده من بعده وأشارَ بيَدِهِ نحو السماء. قال أبو عمرو: وقد رُوِّينَاه بإسناده جيِّدٍ، ثم أسند عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ العَبْدَ الدَّرَجَةَ، فَيقُولُ: أَيْ رَبِّ، إِنَّى لي هَذِهِ الدَّرَجَةُ؟ فَيقالُ: باسْتِغْفَارَ وَلَدِكَ لَكَ " انتهى من «التمهيد»، وروِّينا في «سنن أبي داود»؛ " أنَّ رجُلاً مِنْ بني سَلَمَةَ قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَقيَ مِنْ برِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ، أَبُّرُهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ: نَعَمْ الصَّلاَةُ عَلَيْهما، والاسْتِغْفَارُ لَهُما وإِنْفَاذُ عَهْدِهِما مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصَلَةُ الرَّحِمِ التي لاَ تُوَصَلُ إِلاَّ بِهمَا، وإِكْرَامُ صَدِيِقِهَما " انتهى. وقوله سبحانه: {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل...} الآية: قال الجمهورُ: الآية وصيةٌ للنَّاس كلِّهم بصلة قرابتهم، خوطِبَ بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمراد الأمة، «والحَقُّ»، في هذه الآية، ما يتعيَّن له؛ مِنْ صلة الرحم، وسدِّ الخُلْة، والمواساةِ عند الحاجة بالمالِ والمعونةِ بكلِّ وجْه؛ قال بنحو هذا الحسنُ وابن عباس وعكرمة وغيرهم، «والتبذير» إِنفاق المال في فسادٍ أو في سرفٍ في مباحٍ. وقوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ}، أي: عمَّن تقدَّم ذكره من المساكين وابن السبيل، {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا}، أي: فيه ترجيةٌ بفضل اللَّه، وتأنيسٌ بالميعاد الحسنِ، ودعاءٌ في توسعة اللَّه وعطائه، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقولُ بَعْدَ نزولِ هذه الآية، " إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِي: يَرْزُقُنا اللَّهُ وإيَّاكُمْ مِنْ فضله " وال {رَحْمَةٍ} على هذا التأويل: الرزق المنتظر، وهذا قول ابن عباس وغيره، والميسور: من اليسر.
{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)} وقوله سبحانه: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} استعارةٌ لليد المقبوضةِ عن الانفاق جملةً، واستعير لليد التي تستنفِذُ جميعَ ما عنْدها غايةَ البَسْطِ ضِدّ الغُلِّ، وكلُّ هذا في إِنفاق الخير، وأما إِنفاق الفساد، فقليله وكثيره حرامٌ، أو الملامة هنا لاحقةٌ ممن يطلب من المستحقين، فلا يجدُ ما يعطى، «والمحسورُ» الذي قد استنفدَتْ قوته، تقولُ: حَسَرْتُ البَعِيرَ؛ إِذا أتْعَبْتَهُ حتى لم تَبْقَ له قوة؛ ومنه البَصَرِ الحَسِير. قال ابنُ العربيِّ وهذه الآية خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته، وكثيراً ما جاء هذا المعنى في القرآن، فإِن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا كان سيِّدَهم وواسطَتَهم إِلى ربِّهم، عبِّر به عنهم، على عادة العرب في ذلك. انتهى من «الأحكام»، «والحسير»: هو الكالُّ. {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} معنى {يَقْدِرُ} يضيِّق. وقوله سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}، أي: يعلم مصلحة قَوْمٍ في الفقر، ومصلحةَ آخرين في الغنى. وقال بعضُ المفسِّرين: الآية إِشارةٌ إِلى حال العرب التي كانَتْ يصلحها الفَقْرَ، وكانت إِذا شبعتْ، طَغَتْ. * ت *: وهذا التأويلُ يَعْضُدُهُ قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض} [الشورى: 27] ولا خصوصيَّة لذكْر العرب إِلا مِنْ حيث ضَرْبُ المَثَلَ.
{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)} وقوله سبحانه: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إملاق...} الآية: نَهْيٌ عن الوأْدِ الذي كانت العرب تفعله، «والإِملاق». الفقر وعَدَم المال، وروى أبو داود عن ابن عباس، قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كَانَتْ لَهُ ابْنَةٌ فَلمْ يَئِدْهَا، ولَمْ يُهِنْهَا، وَلَمْ يُؤثِرْ وَلَدَهُ عَلَيْهَا- قال: يَعْني الذُّكُورَ- أدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنة " انتهى. والحق الذي تُقْتَلُ به النفس: قد فسَّره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " لاَ يُحِلُّ دَمَ المُسْلِمِ إلاَّ إحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ: كُفْرُ بَعْدَ إِيمَانٍ، أو زناً بَعْدَ إِحْصَانٍ، أوْ قَتْلُ نَفْسٍ " أي: وما في هذا المعنى مِنْ حرابةٍ أو زندقةً ونحو ذلك. {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا} أي: بغير الوجوه المذكورة، {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سلطانا}، ولا مدخل للنساء في ولاية الدَّمِ؛ عند جماعة من العلماءِ، ولهنَّ ذلك عند آخرين، «والسلطان»: الحجة والملك الذي جُعِلَ إِليه من التخيير في قبول الدية أو العفو؛ قاله ابن عبَّاس. قال البخاريُّ: قال ابن عباس: كلُّ سلطانٍ في القرآن فهو حُجَّة. انتهى، وقال قتادةُ: «السلطان» القود. وقوله سبحانه: {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل} المعنى: فلا يَتَعَدَّ الوليُّ أمْرَ اللَّه بأنْ يقتل غير قاتِلِ وليِّه، أو يقتل اثنين بواحدٍ إلى غير ذلك من وجوه التعدِّي، وقرأ حمزة والكسائيُّ، وابن عامر: «فَلاَ تُسْرِفْ»- بالتاء من فوق-، قال الطبري: على الخطاب للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده. قال * ع *: ويصحَّ أنْ يراد به الوليُّ، أي: فلا تسرفْ أيُّها الولي، والضميرُ في «إِنه» عائدٌ على «الوليِّ»، وقيل: على المقتول، وفي قراءة أبي بن كعب: «فَلاَ تُسْرُفوا في القِتَال إِنَّ وليَّ المَقْتُول كانَ مَنْصُوراً»، وباقي الآية تقدَّم بيانه، قال الحسن: {القِسْطَاسِ} هو القَبَّان، وهو القرسطون، وقيل: {القِسْطَاسِ}: هو الميزانُ، صغيراً كان أو كبيراً. قال * ع *: وسمعت أبي رحمه الله تعالى يَقُولُ: رأيْتُ الواعِظَ أبا الفضْلِ الجَوْهَرِيَّ رحمه الله في جامعِ عمرو بن العاص يعظُ النَّاسَ في الوزْن، فقال في جملة كلامه: إِن في هيئة اليَدِ بالميزانِ عِظَةً، وذلك أنَّ الأصابعَ يجيءُ منها صُوَرةُ المكتوبة ألف ولامَانِ وهاء، فكأنَّ الميزان يقولُ: اللَّه، اللَّه. قال * ع *: وهذا وعظٌ جميلٌ، «والتأويل»، في هذه الآية المآلُ؛ قال قتادة، ويحتمل أنْ يكون التأويلُ مصدر تأولَّ، أي: يتأول عليكم الخَيْر في جميع أموركم، إِذا أحسنتم الكيلَ والوَزْن. وقال * ص *: {تَأْوِيلاً} أي: عاقبةً انتهى.
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)} وقوله سبحانه: {وَلاَ تَقْفُ} معناه لا تقُلْ ولا تتَّبع، واللفظة تستعملُ في القَذْف؛ ومنه قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ لاَ نَقْفُوا أُمَّنَا، وَلاَ نَنْتِفى مِنْ أَبِينَا "، وأصل هذه اللفظة من اتباع الأثر، تقول: قَفَوْتُ الأَثَرَ، وحكى الطبريُّ عن فرقةٍ؛ أنها قالَتْ: قَفَا وقَافَ، مثل عَثَا وعَاث، فمعنى الآية: ولا تتبع لسانَكَ من القول من ما لا عِلْمَ لك به، وبالجملة: فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذفِ وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والمُرْدِيَة. {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} عبَّر عن هذه الحواسِّ ب {أولئك}. لأن لها إدراكاً وجعلها في هذه الآية مسؤولة، فهي حالَةُ مَنْ يعقل. * ت *: قال * ص *: وما توهمه ابنُ عطية {أولئك} تختصُّ بمن يعقل ليس كذلك؛ إِذ لا خلاف بين النحاة في جواز إطلاق «أولاء» و«أولئك» على مَنْ لا يعقل. * ت *: وقد نقل * ع * الجَوَازَ عن الزَّجَّاجِ وفي ألفِيَّةِ ابْنِ مالك: [الرجز] وبأولى أَشِرْ لِجَمْعٍ مُطْلَقَا ***.......................... فقال والده بدر الدين: أي سواءٌ كان مذكَّراً أو مؤنَّثاً، وأكثر ما يستعمل فيمن يعقل، وقد يجيء لغيره؛ كقوله: [الكامل] ذُمَّ المَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى *** والعَيْشَ بَعْدَ أُوَلئِكَ الأَيَّامِ وقد حكى * ع * البيْتَ، وقال: الرواية فيه «الأقوامِ»، واللَّه أعلم انتهى. والضمير في {عَنْهُ} يعودُ على ما ليس للإِنسان به عِلْم، ويكون المعنى: إِن اللَّه تعالى يَسْأَل سَمْعَ الإِنسان وبَصَره وفُؤَاده عمَّا قال مما لاَ عْلَم له به، فيقع تكذيبه مِنْ جوارحه، وتلك غايةُ الخزْي، ويحتمل أنْ يعود على {كُلٌّ} التي هي السمْعُ والبصر والفؤاد، والمعنى: إن اللَّه تعالى يسأل الإِنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده. قال صاحبُ «الكَلِمِ الفَارِقِيَّة»: لا تَدَعْ جَدْوَلَ سمِعْكَ يجرى فيه أُجَاج الباطل؛ فيلهب باطنك بنار الحِرْص على العاجل، السَّمْعُ قُمْعٌ تغور فيه المعاني المَسْمُوعة إِلى قرار وعاء القَلْب، فإنْ كانَتْ شريفةً لطيفةً، شرَّفَتْه ولطَّفَتْه وهذَّبَتْه وزكَّتْه، وإِن كانَتْ رذيلةً دنيَّةً، رذَّلَتْه وخبَّثَتْه، وكذلك البصَرُ منْفُذٌ مِنْ منافذ القَلْبِ، فالحواسُّ الخمْسُ كالجداول والرواضِعِ تَرْضَعُ من أثداءِ الأشياء التي تُلاَبِسُها، وتأخذ ما فيها من معانيها وأوصافها، وتؤدِّيها إلى القَلْب وتنهيها. انتهى. وقوله سبحانه: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحًا} قرأ الجمهور {مَرَحاً} بفتح الحاء مصدر: مَرِحَ يَمْرَحُ؛ إِذا تسيَّب مسروراً بدنياه، مقبلاً على راحته، فنُهِيَ الإِنسانُ أنْ يكون مشيه في الأرض على هذا الوجه، وقرأت فرقةٌ: «مَرِحاً» بكسر الراء، ثم قيل له: إِنك أيها المَرِحُ المختال الفخورُ، لمن تَخْرِقَ الأرض، ولن تطاول الجبال بفخْرك وكبْرك، «وخرق الأرض» قَطْعها ومَسْحها واستيفاؤها بالمشْي. وقوله سبحانهُ: {كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ} قرأ نافعٌ وابن كثير وأبو عمرو: «سَيِّئَةً» فالإِشارة بذلك على هذه القراءةِ إلى ما تقدَّم ذكره مما نهي عنه كقوله: {أُفٍّ} [الإسراء: 23] وقذف الناس، والمَرَحِ، وغيرِ ذلك، وقرأ عاصم وابن عامرٍ وحمزةُ والكسائيُّ «سَيِّئُهُ» على إضافة «سَيِّئ» إلى الضمير، فتكون الإِشارة؛ على هذه القراءة إلى جميع ما ذَكَرَ في هذه الآيات؛ من بِرٍّ ومعصيةٍ، ثم اختص ذكْر السَّيِّئ منه، بأنه مكروه عند الله تعالى.
{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)} وقوله سبحانه: {ذلك مِمَّا أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ...} الآية: الإِشارةُ ب {ذلك} إلى هذه الآداب التي تضَّمنتها هذه الآياتُ المتقدِّمة، و{الحكمة} قوانينُ المعاني المُحِكَمة، والأفْعَالِ الفاضلة. * ت *: فينبغي للعاقل أنْ يتأدَّب بآداب الشريعة، وأنْ يحسن العشرْة مع عَبادِ اللَّه، قال الإِمام فَخْرُ الدِّين ابْنُ الخَطِيب في «شرح أسماء اللَّه الحسَنى» كان بعضُ المشايِخِ يقولُ: مَجَامِعُ الخَيْرَاتِ محصُورَةٌ في أمرَيْنِ صِدْقٍ مَعَ الحَقِّ، وخُلُقٍ مع الخَلْقِ انتهى، وذكر هشامُ بنُ عبْدِ اللَّهِ القرطبيُّ في تاريخه المسمَّى ب «بهجة النَّفْسَ»، قال: دخَلَ عبدُ الملكِ بْنُ مَرْوَانَ على معاويةَ، وعنده عَمْرُو بن العاصِي، فلم يَلْبَثْ أنْ نَهَضَ، فقال معاوية لعمْرٍو: ما أكْمَلَ مُرُوءَةَ هذا الفتى! فقال له عمرو: إنه أخذ بأخْلاَقٍ أربعةٍ، وترك أخلاقاً ثلاثةً، أخذ بأحْسَنِ البشر إِذا لقي، وبأحْسن الاستماع إِذا حُدِّثَ، وبأحْسَنِ الحديثِ إِذَا حَدَّث، وبأحسنِ الرَّدِّ إِذا خولِفَ، وتركَ مُزَاحَ من لا يُوثَقُ بعقله، وتَرَكَ مخالَطَةَ لِئَامِ النَّاس، وتَرَكَ مِنَ الحديثِ ما يُعْتَذَرُ منْه انتهى. وقوله سبحانه: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ...} الآية: خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره، «والمدحورُ» المهانُ المُبْعَدُ. وقوله سبحانه: {أفأصفاكم...} الآية خطابٌ للعرب، وتشنيعٌ عليهم فَسَادَ قولهم.
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ}، أي صرَّفنا فيه الحِكَمَ والمواعظ. وقوله سبحانه: {إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} قال سعيدُ بن جُبَيْر وغيره: معنى الكلام: لاَبْتَغَوْا إِليه سبيلاً في إِفساد مُلْكِهِ ومُضَاهَاته في قُدْرته، وعلى هذا: فالآية بيان للتمانُع، وجاريةٌ مع قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. قال * ع *: ونقتضب شيئاً من الدليل على أنه لا يجوزُ أَنْ يكونَ مَعَ اللَّهِ تبارَكَ وتعالى إله غيره؛ على ما قال أبو المَعَالي وغيره: أنا لو فَرَضَناه، لفَرَضْنا أن يريد أحدهما تسكينَ جِسْمٍ والآخرُ تحريكَهُ، ومستحيلٌ أن تنفذ الإِرادتانِ ومستحيلٌ ألاَّ تنفذَا جميعاً، فيكون الجسْمُ لا متحِّركاً، ولا ساكناً، فإِن صحَّت إِرادة أحدهما دون الآخر، فالذي لم تتمَّ إِرادته ليس بإله، فإِن قيل: نفرضهما لا يختلفانِ، قُلْنا: اختلافُهما جائزٌ غيرُ مُمْتَنعٍ عقلاً، والجائز في حُكْمِ الواقعِ، ودليلٌ آخر: أنَّه لو كان الاثنانِ، لم يمتنعْ أنْ يكونوا ثلاثةً، وكذلك ويتسلسل إِلى ما لا نهاية له، ودليلٌ آخر: أنَّ الجزء الذي لا يتجزَّأُ من المخترعات لا تتعلَّق به إِلا قدرةٌ واحدةٌ لا يصحُّ فيها اشتراك، والآخر كذلك دَأَباً، فكل جزءٍ إنما يخترعه واحدٌ، وهذه نبذة شرحُهَا بحَسَبِ التقصِّي يطولُ. وقوله سبحانه: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ...} الآية: اختلف في هذا «التسبيح»، هل هو حقيقةٌ أو مجاز، * ت *: والصوابُ أنه حقيقة، ولولا خشية الإطالة، لأتينا من الدلائل على ذلك بما يُثْلِجُ له الصَّدر.
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)} وقوله سبحانه: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} يعني كفَّارَ مكَّة و{حِجَابًا مَّسْتُورًا} يحتمل أن يريد به حمايةَ نبيِّه منهم وقْتَ قراءته وصلاتِهِ بالمَسْجد الحرام؛ كما هو معلوم مشهورٌ ويحتمل أنه أراد أنه جعل بين فَهْم الكفرة وبَيْنَ فَهْم ما يقرؤه صلى الله عليه وسلم حجاباً، فالآية على هذا التأويل: في معنى التي بعدها. وقال الواحديُّ: قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن...} الآية: نزلَتْ في قومٍ كانوا يؤذون النبيَّ صلى الله عليه وسلم، إِذا قرأ القرآن فحَجَبَه اللَّه عن أعينهم عنْدَ قراءة القرآن، حتى يكونوا يَمُرُّونَ به ولا يَرَوْنَه. وقوله: {مَّسْتُورًا} معناه ساتراً انتهى. «والأكنَّة» جمع كِنَان، وهو ما غطى الشيء، «والوَقْرُ»: الثِّقَل في الأُذُن، المانِعُ من السمعِ، وهذه كلُّها استعاراتٌ للإِضلالِ الذي حَفَّهم اللَّه به. وقوله سبحانُهُ: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ...} الآية: هذا كما تقولُ: فلان يستمعُ بإِعراضٍ وتغافلٍ واستخفافٍ، «وما» بمعنى «الذي»، قيل: المراد بقوله: {وَإِذْ هُمْ نجوى} اجتماعُهم في دار الندوة، ثم انتشرتْ عنهم.
{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)} قوله سبحانه: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال...} الآية: حكى الطبري أنها نزلَتْ في الوليدِ بْنِ المُغِيرة وأصحابه. وقوله سبحانه: {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً}، أي: إلى إِفساد أمرك وإِطفاء نورك، وقولهم: {أَءِذَا كُنَّا عظاما ورفاتا} الآية في إِنكارهم البَعْثَ، وهذا منهم تعجُّب وإنكار واستبعاد و«الرُّفَاتُ» من الأشياء: ما مَرَّ عليه الزمانُ حتى بلغ غايةَ البِلَى، وقربه مِنْ حالة التُّرَابَ. وقال ابن عباس: {رُفَاتاً} غباراً وقال مجاهد: تُرَاباً، وقوله سبحانه: {قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً...} الآية: المعنى: قل لهم، يا محمَّد، كونوا إِن استطعتم هذه الأشياءَ الصَّعبة الممتَنِعَةَ التأتِّي لا بُدَّ من بعثكم، ثم احتَجَّ عليهم سبحانه في الإعادة بالفِطْرة الأولى من حيثُ خلقُهم واختراعهم من تُرَاب. وقوله سبحانه: {فَسَيُنْغِضُونَ} معناه يرفعون ويُخْفِضُون، يريد على جهة التكذيب والاستهزاء. قال الزَّجَّاج: وهو تحريك مَنْ يبطل الشيء ويَسْتَبْطِئُهُ ومنه قول الشاعر: [الرجز] أَنْغَضَ نَحْوِي رَأْسَهُ وَأَقْنَعَا *** كَأَنَّمَا أَبْصَرَ شَيْئاً أَطْمَعَا ويقال: أَنْغَضَتِ السِّنُّ؛ إِذا تحرَّكَتْ، قال الطبري وابنُ سَلاَّمٍ: {عَسَى} من اللَّه واجبةٌ، فالمعنى: هو قريبٌ، وفي ضمن اللفْظِ توَّعد.
{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)} وقوله سبحانه: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ}: بدل من قوله: {قَرِيبًا} ويظهرأنْ يكون المعنى «هو يَوْمَ» جواباً لقولهم: «متى هو»، ويريد يدعوكم من قبوركم بالنفْخ في الصُّور لقيامِ الساعة. وقوله: {فَتَسْتَجِيبُونَ}، أي: بالقيامِ، والعودةِ والنهوضِ نَحْوَ الدعوة. وقوله: {بِحَمْدِهِ} قال ابن جُبَيْر: إِن جميع العالمين يقومُونَ، وهم يَحْمَدُون اللَّه ويمَجِّدونه، لما يظهر لهم مِنْ قُدْرته * ص *: أبو البقاء {بِحَمْدِهِ} أي: حامدين، وقيل: {بِحَمْدِهِ} من قول الرسول، أي: وذلك بحمد اللَّه على صدْقِ خَبَري، ووقع في لفظ * ع * حين قرر هذا المعنى: «عَسَى أن الساعة قريبةٌ» وهو تركيبٌ لا يجوزُ؛ لا تقولُ: عَسَى أنَّ زيداً قائمٌ انتهى. وقوله سبحانه: {وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} يحتملُ معنيين. أحدهما: أنهم لَمَّا رجعوا إلى حالة الحياةِ، وتصرُّف الأجساد، وقع لهم ظَنٌّ أنهم لم ينفصلوا عن حال الدُّنْيا إِلا قليلاً لمغيبِ عِلْم مقدار الزمان عنهم؛ إِذ مَنْ في الآخرة لا يقدِّر زمن الدنيا؛ إِذ هم لا محالة أشدُّ مفارقةً لها من النائمين، وعلى هذا التأويل عوَّل الطبري. والآخر: أنْ يكون الظنُّ بمعنى اليقينِ، فكأنه قال: يوم يَدْعُوكم فتستجيبون بَحْمِدِه، وتتيقنون أنَّكم إِنما لبثتم قليلاً من حيثُ هو منقضٍ منحصرٌ. وحكى الطبريُّ عن قتادة أنهم لما رأوا هولَ يوم القيامة، احتقروا الدُّنْيا، فظنوا أنهم لبثوا فيها قليلاً.
|