الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***
{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187)}. {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ} فيهما {مِنْ شَيْءٍ} أي: وينظروا إلى ما خلق الله من شيء ليستدلوا بها على وحدانيته. {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} أي: لعل أن يكون قد اقترب أجلهم فيموتوا قبل أن يؤمنوا ويصيروا إلى العذاب، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي: بعد القرآن يؤمنون. يقول: بأي كتاب غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يصدِّقون، وليس بعده نبي ولا كتاب، ثم ذكر علة إعراضهم عن الإيمان فقال: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} قرأ أهل البصرة وعاصم بالياء ورفع الراء، وقرأ حمزة والكسائي بالياء وجزم الراء، لأن ذكر الله قد مر قبله، وجزم الراء مردود على "يضلل" وقرأ الآخرون: بالنون ورفع الراء على أنه كلام مستأنف. {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} يترددون متحيرين. قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} قال قتادة: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا متى الساعة؟ فأنزل الله تعالى: "يسئلونك عن الساعة" يعني: القيامة، {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} قال ابن عباس رضي الله عنهما: منتهاها. وقال قتادة: قيامها، وأصله الثبات، أي: مثبتها؟ {قُلْ} يا محمد {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} استأثر بعملها ولا يعلمها إلا هو، {لا يُجَلِّيهَا} لا يكشفها ولا يظهرها. وقال مجاهد: لا يأتي بها، {لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} يعني: ثقل علمها وخفي أمرها على أهل السموات والأرض، وكل خفي ثقيل. قال الحسن: يقول إذا جاء ثقلت وعظمت على أهل السموات والأرض، {لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً} فجأة على غفلة. أخبرنا عبد الواحد المليحي، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، حدثنا أبو الزناد عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها". {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} أي: عالم بها من قولهم أحفيت في المسألة، أي: بالغت فيها، معناه: كأنك بالغت في السؤال عنها حتى علمتها، {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أن علمها عند الله حتى سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم عنها.
{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)}. {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن أهل مكة قالوا: يا محمد، ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتريه وتربح فيه عند الغلاء؟ وبالأرض التي يريد أن تجذب فترتحل منها إلى ما قد أخصبت؟ فأنزل الله تعالى "قل لا أملك لنفسي نفعا" أي: لا أقدر لنفسي نفعا، أي: اجتلاب نفع بأن أربح ولا ضرا، أي دفع ضر بأن ارتحل من أرض تريد أن تجدب إلا ما شاء الله أن أملكه. {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} أي: لو كنت أعلم الخصب والجدب لاستكثرت من الخير، أي: من المال لسنة القحط {وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} أي: الضر والفقر والجوع. وقال ابن جريج: "قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا" يعني: الهدى والضلالة، (ولو كنت أعلم الغيب) أي: متى أموت، لاستكثرت من الخير، يعني: من العمل الصالح وما مسني السوء. قال ابن زيد: واجتنبت ما يكون من الشر واتقيته. وقيل: معناه ولو كنت أعلم الغيب أي متى الساعة لأخبرتكم حتى تؤمنوا وما مسني السوء بتكذيبكم. وقيل: ما مسني السوء: ابتداء، يريد: وما مسني الجنون لأنهم كانوا ينسبونه إلى الجنون. {إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ} لمن لا يصدق بما جئت به، {وَبَشِيرٌ} بالجنة، {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدِّقون.
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)}. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني: آدم، {وَجَعَلَ} وخلق {مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني: حواء، {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} ليأنس بها ويأوي إليها {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} أي: واقعها وجامعها {حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا} وهو أول ما تحمل المرأة من النطفة يكون خفيفا عليها، {فَمَرَّتْ بِهِ} أي: استمرت به وقامت وقعدت به، لم يثقلها، {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} أي: كبر الولد في بطنها وصارت ذات ثقل بحملها ودنت ولادتها، {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} يعني آدم وحواء، {لَئِنْ آتَيْتَنَا} يا ربنا {صَالِحًا} أي: بشرا سويا مثلنا، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} قال المفسرون: فلما حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل، فقال لها: ما الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري. قال: إني أخاف أن يكون بهمية، أو كلبا، أو خنزيرا، وما يدريك من أين يخرج؟ من دبرك فيقتلك، أو من قبلك وينشق بطنك، فخافت حواء من ذلك، وذكرت ذلك لآدم عليه السلام فلم يزالا في هم من ذلك، ثم عاد إليها فقال: إني من الله بمنزلة، فإن دعوت الله أن يجعله خلقا سويا مثلك ويسهل عليك خروجه تسمّيه عبد الحارث؟- وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث- فذكرت ذلك لآدم، فقال: لعله صاحبنا الذي قد علمتِ، فعاودها إبليس، فلم يزل بهما حتى غرهما، فلما ولدت سمياه عبد الحارث. قال الكلبي: قال إبليس لها: إن دعوت الله فولدت إنسانا أتسمينه بي؟ قالت: نعم، فلما ولدت قال سميه بي، قالت: وما اسمك قال الحارث، ولو سمى لها نفسه لعرفته فسمته عبد الحارث. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت حواء تلد لآدم فيسميه عبد الله، وعبيد اللهُ وعبد الرحمن، فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس وقال: إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث، فولدت فسمياه عبد الحارث فعاش. وجاء في الحديث: "خدعهما إبليس مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض". وقال ابن زيد: ولد لآدم ولد فسماه عبد الله فأتاهما إبليس فقال لهما: ما سميتما ابنكما؟ قالا عبد الله- وكان قد ولد لهما قبل ذلك ولد فسمياه عبد الله فمات- فقال إبليس: أتظنان أن الله تارك عبده عندكما، لا والله ليذهبن به كما ذهب بالآخر، ولكن أدلكم على اسم يبقى لكما ما بقيتما، فسمياه عبد شمس. والأول أصح، فذلك قوله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا}. {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا} بشرا سويا {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} قرأ أهل المدينة وأبو بكر: "شركا" بكسر الشين والتنوين، أي: شركة. قال أبو عبيدة: أي حظا ونصيبا، وقرأ الآخرون: "شركاء" بضم الشين ممدودا على جمع شريك، يعني: إبليس، أخبر عن الواحد بلفظ الجمع. أي: جعلا له شريكا إذ سمياه عبد الحارث، ولمن يكن هذا إشراكا في العبادة ولا أن الحارث ربهما، فإن آدم كان نبيا معصوما من الشرك، ولكن قصد إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمه، وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به أنه مملوك، كما يطلق اسم الرب على ما لا يراد به أنه معبود هذا، كالرجل إذا نزل به ضيف يسمي نفسه عبد الضيف، على وجه الخضوع لا على أن الضيف ربه، ويقول للغير: أنا عبدك. وقال يوسف لعزيز مصر: إنه ربي، ولم يرد به أنه معبوده، كذلك هذا. وقوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} قيل: هذا ابتداء كلام وأراد به إشراك أهل مكة، ولئن أراد به ما سبق فمستقيم من حيث أنه كان الأولى بهما أن لا يفعلا ما أتيا به من الإشراك في الاسم. وفي الآية قول آخر: وهو أنه راجع إلى جميع المشركين من ذرية آدم، وهو قول الحسن وعكرمة، ومعناه: جعل أولادهما شركاء، فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم، كما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء في تعييرهم بفعل الآباء فقال: "ثم اتخذتم العجل"، "وإذ قتلتم نفسا" خاطب به اليهود الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك الفعل من آبائهم. وقيل: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادا فهودوا ونصروا، وقال ابن كيسان: هم الكفار سموا أولادهم عبد العزى وعبد اللات وعبد مناة ونحوه. وقال عكرمة: خاطب كل واحد من الخلق بقوله خلقكم أي خلق كل واحد من أبيه وجعل منها زوجها، أي: جعل من جنسها زوجها، وهذا قول حسن، لولا قول السلف مثل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن المسيب وجماعة المفسرين أنه في آدم وحواء.
{أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)}. قال الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا} يعني: إبليس والأصنام، {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي: هم مخلوقون. {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} أي: الأصنام لا تنصر من أطاعها، {وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} قال الحسن: لا يدفعون عن أنفسهم مكروه من أراد بهم بكسر أو نحوه ثم خاطب المؤمنين فقال: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى}. {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى} إن تدعوا المشركين إلى الإسلام، {لا يَتَّبِعُوكُمْ} قرأ نافع بالتخفيف وكذلك: "يتبعهم الغاوون" في الشعراء (الآية 224) وقرأ الآخرون بالتشديد فيهما وهما لغتان، يقال: تبعه تبعا وأتبعه إتباعا. {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ} إلى الدين، {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} عن دعائهم لا يؤمنون، كما قال: "سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" (البقرة- 6) وقيل: "وإن تدعهم إلى الهدى" يعني: الأصنام، لا يتبعوكم لأنها غير عاقلة. {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني الأصنام، {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} يريد أنها مملوكة أمثالكم. وقيل: أمثالكم في التسخير، أي: أنهم مسخرون مذللون لما أريد منهم. قال مقاتل: قوله "عباد أمثالكم" أراد به الملائكة، والخطاب مع قوم كانوا يعبدون الملائكة. والأول أصح. {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنها آلهة، قال ابن عباس: فاعبدوهم، هل يثيبونكم أو يجاوزونكم إن كنتم صادقين أن لكم عندها منفعة؟ ثم بيّن عجزهم فقال: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا}.
{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)}. {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} قرأ أبو جعفر بضم الهاء هنا وفي القصص والدخان، وقرأ الآخرون بكسر الطاء، {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أراد أن قدرة المخلوقين تكون بهذه الجوارح والآلات، وليست للأصنام هذه الآلات، فأنتم مفضلون عليها بالأرجل الماشية والأيدي الباطشة والأعين الباصرة والآذان السامعة، فكيف تعبدون من أنتم أفضل وأقدر منهم؟ {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} يا معشر المشركين، {ثُمَّ كِيدُونِ} أنتم وهم، {فَلا تُنْظِرُونِ} أي: لا تمهلوني واعجلوا في كيدي. قوله: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} يعني القرآن، أي أنه يتولاني وينصرني كما أيدني بإنزال الكتاب، {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد الذين لا يعدلون بالله شيئا فالله يتولاهم بنصره فلا يضرهم عداوة من عاداهم {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا} يعني الأصنام، {وَتَرَاهُمْ} يا محمد {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} يعني الأصنام، {وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} وليس المراد من النظر حقيقة النظر، إنما المراد منه: المقابلة، تقول العرب: داري تنظر إلى دارك، أي: تقابلها. وقيل: وتراهم ينظرون إليك أي: كأنهم ينظرون إليك، كقوله تعالى: "وترى الناس سكارى" (الحج 2)، أي: كأنهم سكارى هذا قول أكثر المفسرين. وقال الحسن: "وإن تدعوهم إلى الهدى" يعني: المشركين لا يسمعوا ولا يعقلوا ذلك بقلوبهم، وتراهم ينظرون إليك بأعينهم وهم لا يبصرون بقلوبهم. قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} قال عبد الله بن الزبير: أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يأخذ العفو من أخلاق الناس. وقال مجاهد: خذ العفو يعني العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس، وذلك مثل قبول الاعتذار والعفو والمساهلة وترك البحث عن الأشياء ونحو ذلك. ورُوي أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: "ما هذا؟ قال لا أدري حتى أسأله، ثم رجع فقال: إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك". وقال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي والضحاك والكلبي: يعي خُذْ ما عفا لك من الأموال وهو الفضل عن العيال، وذلك معنى قوله: "يسألونك ماذا ينفقون قل العفو" (البقرة- 219)، ثم نسخت هذه بالصدقات المفروضات. قوله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أي: بالمعروف، وهو كل ما يعرفه الشرع. وقال عطاء: وأمر بالعرف يعني بلا إله إلا الله. {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} أبي جهل وأصحابه، نسختها آية السيف. وقيل: إذا تسفه عليك الجاهل فلا تقابله بالسفه، وذلك مثل قوله: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" (الفرقان- 63)، وذلك سلام المتاركة. قال جعفر الصادق: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية. أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجرجاني ثنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي، ثنا الهيثم بن كليب، ثنا أبو عيسى الترمذي، ثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الله الجدلي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح". ثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي ثنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الواعظ ثنا عماد بن محمد البغدادي ثنا أحمد بن محمد عن سعيد الحافظ ثنا محمد بن إسماعيل ثنا عمر بن إبراهيم يعني الكوفي ثنا يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وإتمام محاسن الأفعال".
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)}. قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} أي: يصيبك ويعتريك ويعرض لك من الشيطان نزغ نخسة، والنزغ من الشيطان الوسوسة. وقال الزجاج: النزغ أدنى حركة تكون من الآدمي، ومن الشيطان أدنى وسوسة. وقال عبد الرحمن بن زيد: لما نزلت هذه الآية: "خذ العفو"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف يا رب والغضب"؟ فنزل: "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله" أي: استجر بالله {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا} يعني المؤمنين، {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} قرأ ابن كثير وأهل البصرة والكسائي: "طيف"، وقرأ الآخرون "طائف" بالمد والهمز، وهما لغتان كالميت والمائت، ومعناهما: الشيء يلم بك. وفرق قوم بينهما، فقال أبو عمرو: الطائف ما يطوف حول الشيءُ والطيف: اللمة والسوسة، وقيل: الطائف ما طاف به من وسوسة الشيطان، والطيف اللمم والمس. {تَذَكَّرُوا} عرفوا، قال سعيد بن جبير: هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر الله تعالى فيكظم الغيظ. وقال مجاهد: هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه. {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} أي يبصرون مواقع خطاياهم بالتذكر والتفكر. قال السدي: إذا زلوا تابوا. وقال مقاتل: إن المتقي إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية، فأبصر فنزغ عن مخالفة الله.
{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)}. قوله: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ} يعني إخوان الشياطين من المشركين يمدونهم، أي: يمدهم الشيطان. قال الكلبي: لكل كافر أخ من الشياطين. {فِي الْغَيِّ} أي: يطلبون هم الإغواء حتى يستمروا عليه. وقيل: يزيدونهم في الضلالة. وقرأ أهل المدينة: "يمدونهم" بضم الياء وكسر الميم، من الإمداد، والآخرون: بفتح الياء وضم الميم وهما لغتان بمعنى واحد. {ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} أي: لا يكفون. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات، ولا الشياطين يمسكون عنهم، فعلى هذا قوله: "ثم لا يقصرون" من فعل المشركين والشياطين جميعا. قال الضحاك ومقاتل: يعني المشركين لا يقصرون عن الضلالة ولا يبصرونها، بخلاف ما قال في المؤمنين: "تذكروا فإذا هم مبصرون". {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ} يعني: إذا لم تأت المشركين بآية، {قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا} هلا افتعلتها وأنشأتها من قبل نفسك واختيارك؟ تقول العرب: اجتبيت الكلام إذا اختلقته. قال الكلبي: كان أهل مكة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الآيات تعنتا فإذا تأخرت اتهموه وقالوا: لولا اجتبيتها؟ أي: هلا أحدثتها وأنشأتها من عندك؟ {قُلْ} لهم يا محمد {إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} ثم قال: {هَذَا} يعني: القرآن {بَصَائِرُ} حجج وبيان وبرهان {مِنْ رَبِّكُمْ} واحدتها بصيرة، وأصلها ظهور الشيء واستحكامه حتى يبصره الإنسان، فيهتدي به يقول: هذا دلائل تقودكم إلى الحق. {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. قوله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فذهب جماعة إلى أنها في القراءة في الصلاة، روي عن أبي هريرة كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأمروا بالسكوت والاستماع إلى قراءة القرآن. وقال قوم: نزلت في ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام. وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة. وقال الكلبي: كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سمع ناسا يقرأون مع الإمام فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفقهوا وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا كما أمركم الله؟ وهذا قول الحسن والزهري والنخعي: أن الآية في القراءة في الصلاة. وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد: إن الآية في الخطبة، أمروا بالإنصات لخطبة الإمام يوم الجمعة. وقال سعيد بن جبير: هذا في الإنصات يوم الأضحى والفطر ويوم الجمعة، وفيما يجهر به الإمام. وقال عمر بن عبد العزيز: يجب الإنصات لقول كل واعظ. والأول أولاها، وهو أنها في القراءة في الصلاة لأن الآية مكية والجمعة وجبت بالمدينة. واتفقوا على أنه مأمور بالإنصات حالة ما يخطب الإمام. أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ثنا أبو العباس الأصم ثنا الربيع ثنا الشافعي ثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت". واختلف أهل العلم في القراءة خلف الإمام في الصلاة: فذهب جماعة إلى إيحابها سواء جهر الإمام بالقراءة أو أسر. رُوي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، ومعاذ، وهو قول الأوزاعي والشافعي. وذهب قوم إلى أنه يقرأ فيما أسر الإمام فيه بالقراءة ولا يقرأ إذا جهر، يروى ذلك عن ابن عمر، وهو قول عروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وبه قال الزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وإسحاق. وذهب قوم إلى أنه لا يقرأ سواء أسر الإمام أو جهر، يروى ذلك عن جابر، وبه قال الثوري وأصحاب الرأي ويتمسك من لا يرى القراءة خلف الإمام بظاهر هذه الآية، ومن أوجبها قال الآية في غير الفاتحة وإذا قرأ الفاتحة يتبع سكتات الإمام ولا ينازع الإمام في القراءة. والدليل عليه: ما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي، ثنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، ثنا أبو العباس المحبوبي، ثنا أبو عيسى الترمذي، ثنا هناد، ثنا عبدة بن سليمان، عن وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وإذا قرأ فأنصتوا" وإجماع الجميع على أن على من سمع خطبة الجمعة ممن عليه الجمعة، الاستماع والإنصات لها، مع تتابع الأخبار بالأمر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لا وقت يجب على أحد استماع القرآن والإنصات لسامعه، من قارئه، إلا من هاتين الحالتين، على اختلاف في إحداهما، وهي حالة أن يكون خلف إمام مؤتم به وقد صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا من قوله: "إذا قرأ الإمام فأنصتوا" فالإنصات خلفه لقراءته واجب على من كان به مؤتما سامعا قراءته، بعموم ظاهر القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". محمد بن إسحاق عن مكحول، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: "إني أراكم تقرأون وراء إمامكم"؟ قال: قلنا يا رسول الله إي والله، قال: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها".
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)}. قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} قال ابن عباس: يعني بالذكر: القراءة في الصلاة، يريد يقرأ سرا في نفسه، {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} خوفا، أي: تتضرع إليّ وتخاف مني هذا في صلاة السر. وقوله: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} أراد في صلاة الجهر لا تجهر جهرا شديدا، بل في خفض وسكون، يسمع من خلفك، وقال مجاهد وابن جريج: أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع إليه في الدعاء والاستكانة دون رفع الصوت والصياح بالدعاء {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} أي: بالبكر والعشيات، واحد آصال: أصيل مثل يمين وأيمان، وهو ما بين العصر والمغرب. {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} يعني: الملائكة المقربين بالفضل والكرامة، {لا يَسْتَكْبِرُونَ} لا يتكبرون، {عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ} وينزهونه ويذكرونه، فيقولون: سبحان الله. {وَلَهُ يَسْجُدُونَ}. أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنبأنا أحمد بن الحسن الحيري، أنبأنا حاجب بن أحمد الطوسي، ثنا عبد الرحيم بن منيب، ثنا يعلى بن عبيد عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي، فيقول: يا ويله أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار" أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ثنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، ثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، ثنا حميد بن زنجويه، ثنا محمد بن يوسف، ثنا الأوزاعي، عن الوليد بن هشام، عن معدان قال: سألت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: حدثني حديثا ينفعني الله به، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها سيئة".
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)}. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ} الآية، قال أهل التفسير: سبب نزول هذه الآية هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "من أتى مكان كذا فله من النفل كذا ومن قتل قتيلا فله كذا ومن أسر أسيرا فله كذا"، فلما التقوا تسارع إليه الشبان وأقام الشيوخ ووجوه الناس عند الرايات، فلما فتح الله على المسلمين جاءوا يطلبون ما جعل لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الأشياخ: كنا ردءا لكم ولو انهزمتم لانحزتم إلينا، فلا تذهبوا بالغنائم دوننا، وقام أبو اليسر بن عمرو الأنصاري أخو بني سلمة فقال: يا رسول الله إنك وعدت أن من قتل قتيلا فله كذا ومن أسر أسيرا فله كذا وإنا قد قتلنا منهم سبعين وأسرنا منهم سبعين، فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال: والله يا رسول الله ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو، ولكن كرهنا أن نعري مصافك فيعطف عليه خيل من المشركين فيصيبوك، فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال سعيد: يا رسول الله إن الناس كثير والغنيمة دون ذلك، فإن تعط هؤلاء الذين ذكرت لا يبقى لأصحابك كبير شيء، فنزلت: "يسألونك عن الأنفال". وقال ابن إسحاق: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما في العسكر فجمع فاختلف المسلمون فيه، فقال من جمعه: هو لنا، قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل كل امرئ ما أصاب، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو: لولا نحن ما أصبتموه، وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد رأينا أن نقتل العدو وأن نأخذ المتاع ولكنا خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدو، وقمنا دونه فما أنتم بأحق به منا. وروى مكحول عن أبي أمامة الباهلي قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، قال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت، حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا عن بواء- يقول على السواء- وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وصلاح ذات البين. وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: لما كان يوم بدر قتل أخي عمير، وقتلت سعيد بن العاص بن أمية، وأخذت سيفه، وكان يسمى ذا الكثيفة، فأعجبني فجئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف. فقال: ليس هذا لي ولا لك، اذهب فاطرحه في القَبَض، فطرحته ورجعت، وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلاحي، وقلت: عسى أن يعطى هذا السيف من لم يَبْلُ بلائي فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني الرسول، وقد أنزل الله عز وجل: "يسألونك عن الأنفال"، الآية. فخفت أن يكون قد نزل فيَّ شيء، فلما انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي، وإنه قد صار لي الآن فاذهب فخذه فهو لك". وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت المغانم لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء، وما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به فمن حبس منه إبرة أو سلكا فهو غلول. قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ} أي: عن حكم الأنفال وعلمها، وهو سؤال استخبار لا سؤال طلب، وقيل: هو سؤال طلب. قاله الضحاك وعكرمة. وقوله: {عَنِ الأنْفَالِ} أي: من الأنفال، عن بمعنى من. وقيل: عن صلة أي: يسألونك الأنفال، وهكذا قراءة ابن مسعود بحذف عن. والأنفال: الغنائم، واحدها: نَفَل، وأصله الزيادة، يقال: نفلتك وأنفلتك، أي: زدتك، سميت الغنائم أنفالا لأنها زيادة من الله تعالى لهذه الأمة على الخصوص. وأكثر المفسرين على أن الآية في غنائم بدر. وقال عطاء: هي ما شذ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال، من عبد أو أمة ومتاع فهو للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما شاء. قوله تعالى: {قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} يقسمها كما شاء واختلفوا فيه، فقال مجاهد وعكرمة والسدي: هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول" الآية. كانت الغنائم يومئذ للنبي صلى الله عليه وسلم فنسخها الله عز وجل بالخمس. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي ثابتة غير منسوخة، ومعنى الآية: قل الأنفال لله مع الدنيا والآخرة وللرسول يضعها حيث أمره الله تعالى، أي: الحكم فيها لله ولرسوله، وقد بيّن الله مصارفها في قوله عز وجل: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه" الآية. {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} أي: اتقوا الله بطاعته وأصلحوا الحال بينكم بترك المنازعة والمخالفة، وتسليم أمر الغنيمة إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} يقول ليس المؤمن الذي يخالف الله ورسوله، إنما المؤمنون الصادقون في إيمانهم، {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} خافت وفرقت قلوبهم، وقيل: إذا خُوِّفوا بالله انقادوا خوفا من عقابه. {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} تصديقا ويقينا. وقال عمير بن حبيب وكانت له صحبة: إن للإيمان زيادة ونقصانا، قيل: فما زيادته؟ قال: إذا ذكرنا الله عز وجل وحمدناه فذلك زيادته، وإذا سهونا وغفلنا فذلك نقصانه، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي: إن للإيمان فرائض وشرائط وشرائع وحدودا وسننا فمن استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان. {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي: يفوضون إليه أمورهم ويثقون به ولا يرجون غيره ولا يخافون سواه. {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} يعني يقينا: قال ابن عباس: برئوا من الكفر. قال مقاتل: حقا لا شك في إيمانهم. وفيه دليل على أنه ليس لكل أحد أن يصف نفسه بكونه مؤمنا حقا لأن الله تعالى إنما وصف بذلك قوما مخصوصين على أوصاف مخصوصة، وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه. وقال ابن أبي نجيح: سأل رجل الحسن فقال: أمؤمن أنت؟ فقال: إن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب، فأنا بها مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" الآية، فلا أدري أمنهم أنا أم لا؟ وقال علقمة: كنا في سفر فلقينا قوما فقلنا: من القوم؟ قالوا: نحن المؤمنون حقا، فلم ندر ما نجيبهم حتى لقينا عبد الله بن مسعود فأخبرناه بما قالوا، قال: فما رددتم عليهم؟ قلنا: لم نرد عليهم شيئا، قال أفلا قلتم أمن أهل الجنة أنتم؟ إن المؤمنين أهل الجنة. وقال سفيان الثوري: من زعم أنه مؤمن حقا أو عند الله، ثم لم يشهد أنه في الجنة فقد آمن بنصف الآية دون النصف. {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قال عطاء: يعني درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم. وقال الربيع بن أنس: سبعون درجة ما بين كل درجتين حَضَرُ الفرس المئُضَمَّر سبعين سنة. {وَمَغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} حسن يعني ما أعد لهم في الجنة.
{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)}. قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} اختلفوا في الجالب لهذه الكاف التي في قوله {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} قال المبرد: تقديره الأنفال لله وللرسول وإن كرهوا، كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن كرهوا. وقيل: تقديره امض لأمر الله في الأنفال وإن كرهوا كما مضيت لأمر الله في الخروج من البيت لطلب العير وهم كارهون. وقال عكرمة: معناه فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن ذلك خير لكم، كما أن إخراج محمد صلى الله عليه وسلم من بيته بالحق خير لكم، وإن كرهه فريق منكم. وقال مجاهد: معناه كما أخرجك ربك من بيتك بالحق على كره فريق منهم، كذلك يكرهون القتال ويجادلون فيه. وقيل: هو راجع إلى قوله: "لهم درجات عند ربهم"، تقديره: وَعْدُ الله الدرجات لهم حق ينجزه الله عز وجل كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، فأنجز الوعد بالنصر والظفر. وقيل: الكاف بمعنى على، تقديره: امض على الذي أخرجك ربك. وقال أبو عبيدة: هي بمعنى القسم مجازا، والذي أخرجك، لأن "ما" في موضع الذي، وجوابه "يجادلونك"، وعليه يقع القسم، تقديره: يجادلونك والله الذي أخرجك ربك من بيتك بالحق. وقيل: الكاف بمعنى "إذ" تقديره: واذكر إذ أخرجك ربك. قيل: المراد بهذا الإخراج هو إخراجه من مكة إلى المدينة. والأكثرون على أن المراد منه إخراجه من المدينة إلى بدر، أي: كما أمرك ربك بالخروج من بيتك إلى المدينة بالحق قيل: بالوحي لطلب المشركين {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} منهم، {لَكَارِهُونَ}. {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ} أي: في القتال، {بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ} وذلك أن المؤمنين لما أيقنوا بالقتال كرهوا ذلك، وقالوا: لم تعلمنا أنا نلقى العدو فنستعد لقتالهم، وإنما خرجنا للعير، فذلك جدالهم بعدما تبين لهم أنك لا تصنع إلا ما أمرك، وتبين صدقك في الوعد، {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} لشدة كراهيتهم القتال، {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} فيه تقديم وتأخير، تقديره: وإن فريقا من المؤمنين لكارهون كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون يجادلونك في الحق بعدما تبيّن. قال ابن زيد: هؤلاء المشركون جادلوه في الحق كأنما يساقون إلى الموت حين يدعون إلى الإسلام لكراهيتهم إياه وهم ينظرون. قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} قال ابن عباس وابن الزبير ومحمد بن إسحاق والسدي أقبل أبو سفيان من الشام في عير لقريش في أربعين راكبا من كفار قريش، فيهم: عمرو بن العاص، ومخرمة بن نوفل الزهري، وفيها تجارة كثيرة، وهي اللطيمة حتى إذا كانوا قريبا من بدر، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فندب أصحابه إليه وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدد، وقال: هذه عير قريش فيها أموالكم فاخرجوا إليها لعل الله تعالى أن ينفلكموها، فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا. فلما سمع أبو سفيان بمسير النبي صلى الله عليه وسلم استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لعيرهم في أصحابه، فخرج ضمضم سريعا إلى مكة. وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له: يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني وخشيت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عليّ ما أحدثك. قال لها: وما رأيت؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناس قد اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس، فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضَّت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا دخلتها منها فلقة. فقال العباس: والله إن هذه لرؤيا رأيت! فاكتميها ولا تذكريها لأحد. ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان له صديقا فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه عتبة ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش. قال العباس: فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا، قال: فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم، فقال لي أبو جهل: يا بني عبد المطلب متى حدثت هذه النبيَّة فيكم؟ قلت: وما ذاك؟ قال: الرؤيا التي رأت عاتكة؟ قلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم؟ قد زعمت عاتكة في رؤياها انه قال انفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك ما قالت حقا فسيكون، وإن تمض الثلاث، ولم يكن من ذلك شيء، نكتب عليكم كتابا إنكم أكذب أهل بيت في العرب. فقال العباس: والله ما كان مني إليه كبير إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا، ثم تفرقنا فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم تكن عندك غيرة لشيء مما سمعت؟ قال: قلت والله قد فعلت ما كان مني إليه من كثير، وأيم الله لأتعرضن له فإن عاد لأكفينكه. قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى أن قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه، قال: فدخلت المسجد فرأيته، فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به، وكان رجلا خفيفا، حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النظر، إذ خرج نحو باب المسجد يشتد. قال: قلت في نفسي: ما له لعنه الله؟ أكل هذا فرقا مني أن أشاتمه؟ قال: فإذا هو قد سمع ما لم أسمع، صوت ضمضم بن عمرو، وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره، وقد جدع بعيره وحوّل رحله وشق قميصه وهو يقول: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث. قال: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر، فتجهز الناس سراعا فلم يتخلف من أشراف قريش أحد إلا أن أبا لهب قد تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة. فلما اجتمعت قريش للمسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة بن الحارث، فقالوا: نخشى أن يأتونا من خلفنا فكاد ذلك أن يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وكان من أشراف بني بكر، فقال: أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه. فخرجوا سراعا، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، في ليال مضت من شهر رمضان، حتى إذا بلغ واديا يقال له ذَفِران، فأتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عيرهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالروحاء أخذ عينا للقوم فأخبره بهم. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا عينا له من جهينة حليفا للأنصار يدعى عبد الله بن أريقط فأتاه بخبر القوم وسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل جبريل وقال: إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشا، وكانت العير أحب إليهم، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في طلب العير وحرب النفير، فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك فوالله ما نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد يعني مدينة الحبشة، لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشيروا علي أيها الناس" وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا على من دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال: قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئتنا به هو الحق أعطيناك على ذلك عهودا ومواثيق على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب صدق في اللقاء ولعل الله تعالى يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك، ثم قال: "سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم". قال ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان"، قال ويضع يده على الأرض هاهنا وهاهنا، قال فما ماط أحد عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} أي: الفريقين إحداهما أبو سفيان مع العير والأخرى أبو جهل مع النفير. {وَتَوَدُّونَ} أي: تريدون {أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} يعني العير التي ليس فيها قتال. والشوكة: الشدة والقوة. ويقال السلاح. {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ} أي يظهره ويعليه، {بِكَلِمَاتِهِ} بأمره إياكم بالقتال. وقيل بعداته التي سبقت من إظهار الدين وإعزازه، {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} أي: يستأصلهم حتى لا يبقى منهم أحد، يعني: كفار العرب.
{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)}. {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} ليثبت الإسلام، {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} أي: يفني الكفر {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} المشركون. وكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة ليلة من شهر رمضان. قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} تستجيرون به من عدوكم وتطلبون منه الغوث والنصر. روي عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا دخل العريش هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، واستقبل القبلة ومد يده فجعل يهتف بربه عز وجل: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه عز وجل مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأخذ أبو بكر رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك منا شدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله عز وجل "إذ تستغيثون ربكم" {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ} مرسل إليكم مددا وردءا لكم، {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} قرأ أهل المدينة ويعقوب "مردفين" بفتح الدال، أي: أردف الله المسلمين وجاء بهم مددا. وقرأ الآخرون بكسر الدال، أي: متتابعين بعضهم في إثر بعض، يقال: أردفته وردفته بمعنى تبعته. يُروى أنه نزل جبريل في خمسمائة وميكائيل في خمسمائة في صورة الرجال على خيل بلق عليهم ثياب بيض وعلى رءوسهم عمائم بيض، قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ناشد ربه عز وجل وقال أبو بكر: إن الله منجز لك ما وعدك فخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش ثم انتبه، فقال: "يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرس يقوده على ثناياه النقع". أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا إبراهيم بن موسى، ثنا عبد الوهاب، ثنا خالد، عن عكرمة عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب". وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض ويوم حنين عمائم خضر، ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الأيام، وكانوا يكونون فيما سواه عددا ومددا. وروي عن أبي أسيد مالك بن ربيعة قد شهد بدرا أنه قال بعدما ذهب بصره: لو كنت معكم اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة.
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)}. قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} يعني: الإمداد بالملائكة، {إِلا بُشْرَى} أي: بشارة {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "يغشاكم" بفتح الياء، "النعاس" رفع على أن الفعل له، كقوله تعالى في سورة آل عمران "أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم" (آل عمران- 154) وقرأ أهل المدينة: "يغشيكم" بضم الياء وكسر الشين مخففا، "النعاس" نصب، كقوله تعالى: "كأنما أغشيت وجوههم"، وقرأ الآخرون بضم الياء وكسر الشين مشددا، "النعاس" نصب، على أن الفعل لله عز وجل، كقوله تعالى: "فغشاها ما غشى" (النجم- 54)، والنعاس: النوم الخفيف. {أَمَنَةً} أمنا {مِنْهُ} مصدر أمنت أمنا وأمنة وأمانا. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: النعاس في القتال أمنة من الله وفي الصلاة وسوسة من الشيطان. {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} وذلك أن المسلمين نزلوا يوم بدر على كثيب أعفر، تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب، وسبقهم المشركون إلى ماء بدر وأصبح المسلمون بعضهم محدثين وبعضهم مجنبين، وأصابهم الظمأ، ووسوس إليهم الشيطان، وقال: تزعمون أنكم على الحق وفيكم نبي الله وأنكم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون محدثين ومجنبين، فكيف ترجون أن تظهروا عليهم؟ فأرسل الله عز وجل عليهم مطرا سال منه الوادي فشرب المؤمنون واغتسلوا، وتوضأوا وسقوا الركاب، وملأوا الأسقية، وأطفأ الغبار، ولبَّد الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام، وزالت عنهم وسوسة الشيطان، وطابت أنفسهم، فذلك قوله تعالى: "وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به" من الأحداث والجنابة. {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} وسوسته، {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} باليقين والصبر {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ} حتى لا تسوخ في الرمل بتلبيد الأرض. وقيل: يثبت به الأقدام بالصبر وقوة القلب. {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ} الذين أمد بهم المؤمنين، {أَنِّي مَعَكُمْ} بالعون والنصر، {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} أي: قووا قلوبهم. قيل: ذلك التثبيت حضورهم معهم القتال ومعونتهم، أي: ثبتوهم بقتالكم معهم المشركين. وقال مقاتل: أي: بشروهم بالنصر، وكان الملك يمشي أمام الصف في صورة الرجل ويقول: أبشروا فإن الله ناصركم. {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} قال عطاء: يريد الخوف من أوليائي، {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ} قيل: هذا خطاب مع المؤمنين. وقيل: هذا خطاب مع الملائكة، وهو متصل بقوله "فثبتوا الذين آمنوا"، وقوله: "فوق الأعناق" قال عكرمة: يعني الرءوس لأنها فوق الأعناق. وقال الضحاك: معناه فاضربوا الأعناق، وفوق صلة كما قال تعالى: "فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب"، (محمد- 4)، وقيل: معناه فاضربوا على الأعناق. فوق بمعنى: على. {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} قال عطية: يعني كل مفصل. وقال ابن عباس وابن جريج والضحاك: يعني الأطراف. والبنان جمع بنانة، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين. قال ابن الأنباري: ما كانت الملائكة تعلم كيف يقتل الآدميون، فعلّمهم الله عز وجل. أخبرنا إسماعيل بن عبد القادر الجرجاني، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أنا محمد بن عيسى الجلودي، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا زهير بن حرب، ثنا عمرو بن يونس الحنفي، ثنا عكرمة بن عمار، ثنا أبو زميل هو سماك الحنفي ثنا عبد الله بن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذا سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد حطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة". فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. وروي عن أبي داود المازني وكان شهد بدرا قال: إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري. وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: والله، لقد رأيتنا يوم بدر، وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك، فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف. وقال عكرمة، قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، وأسلمت أم الفضل وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا وكنت رجلا ضعيفا وكنت أعمل القداح وأنحتها في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس أنحت القداح، وعندي أم الفضل جالسة، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينما هو جالس إذ قال الناس هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال أبو لهب: إلي يا ابن أخي فعندك الخبر، فجلس إليه والناس قيام عليه، قال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: لا شيء والله إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاءوا وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض، لا والله ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء، قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة، قال فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة، فثاورته، فاحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، وكنت رجلا ضعيفا فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة فلقت في رأسه شجة منكرة، وقالت: تستضعفه أن غاب عنه سيده؟ فقام موليا ذليلا فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته". وروى مقسم عن ابن عباس قال: كان الذي أسر العباس أبو اليسر، كعب بن عمرو أخو بني سلمة، وكان أبو اليسر رجلا مجموعا، وكان العباس رجلا جسيما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر، كيف أسرت العباس؟ قال: يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده، هيئته كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أعانك عليه ملك كريم".
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)}. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ} خالفوا الله، {وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. {ذَلِكُمْ} أي: هذا العذاب والضرب الذي عجلته لكم أيها الكفار ببدر، {فَذُوقُوهُ} عاجلا {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ} أي: واعلموا وأيقنوا أن للكافرين أجلا في المعاد، {عَذَابِ النَّارِ} روى عكرمة عن ابن عباس قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس دونها شيء، فناداه العباس وهو أسير في وثاقه: لا يصلح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لمه؟ قال: لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} أي مجتمعين متزاحمين بعضكم إلى بعض، والتزاحف: التداني في القتال: والزحف مصدر؛ لذلك لم يجمع، كقولهم: قوم عدل ورضا. قال: الليث: الزحف جماعة يزحفون إلى عدولهم بمرة، فهم الزحف والجمع: الزحوف. {فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ} يقول: فلا تولوهم ظهوركم، أي تنهزموا فإن المنهزم يولى دبره. {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} ظهره، {إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} أي منعطفا يرى من نفسه الانهزام، وقصده طلب الغرة وهو يريد الكرة، {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} أي: منضما صائرا إلى جماعة من المؤمنين يريد العود إلى القتال. ومعنى الآية النهي عن الانهزام من الكفار والتولي عنهم، إلا على نية التحرف للقتال والانضمام إلى جماعة من المسلمين ليستعين بهم ويعودون إلى القتال، فمن ولى ظهره لا على هذه النية لحقه الوعيد، كما قال تعالى: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} اختلف العلماء في هذه الآية فقال أبو سعيد الخدري: هذا في أهل بدر خاصة، ما كان يجوز لهم الانهزام لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معهم، ولم يكن لهم فئة يتحيزون إليها دون النبي صلى الله عليه وسلم، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين، فأما بعد ذلك فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض فيكون الفار متحيزا إلى فئة فلا يكون فراره كبيرة، وهو قول الحسن وقتادة والضحاك. قال يزيد بن أبي حبيب أوجب الله النار لمن فر يوم بدر، فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال: "إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم" (آل عمران- 155)، ثم كان يوم حنين بعده فقال: "ثم وليتم مدبرين" (التوبة 0 25) "ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء" (التوبة- 27). وقال عبد الله بن عمر: كنا في جيش بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة فانهزمنا، فقلنا: يا رسول الله نحن الفرارون قال: "بل أنتم الكرارون، أنا فئة المسلمين". وقال محمد بن سيرين: لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر فقال: لو انحاز إلي كنت له فئة فأنا فئة كل مسلم. وقال بعضهم: حكم الآية عام في حق كل من ولى منهزما. جاء في الحديث: "من الكبائر الفرار من الزحف". وقال عطاء بن أبي رباح: هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل: "الآن خفف الله عنكم" (الأنفال- 66) فليس لقوم أن يفروا من مثلهم فنسخت تلك إلا في هذه العدة وعلى هذا أكثر أهل العلم أن المسلمين إذا كانوا على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا أو يولوا ظهورهم إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة، وإن كانوا أقل من ذلك جاز لهم أن يولوا ظهورهم وينحازوا عنهم قال ابن عباس: "من فر من ثلاثة فلم يفر، ومن اثنين فقد فر".
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)}. قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} قال مجاهد سبب هذه الآية أنهم لما انصرفوا عن القتال كان الرجل يقول: أنا قتلت فلانا ويقول الآخر مثله، فنزلت الآية. ومعناه: فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم ولكن الله قتلهم بنصره إياكم وتقويته لكم. وقيل: لكن الله قتلهم بإمداد الملائكة. {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} قال أهل التفسير والمغازي: ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فانطلقوا حتى نزلوا بدرا، ووردت عليهم روايا قريش، وفيهم أسلم، غلام أسود لبني الحجاج، وأبو يسار، غلام لبني العاص بن سعيد، فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: أين قريش؟ قالا هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى- والكثيب: العقنقل- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما: كم القوم؟ قالا كثير، قال: ما عدتهم؟ قالا لا ندري، قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا يوما عشرة ويوما تسعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القوم ما بين التسعمائة إلى الألف" ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري ابن هشام، وحكيم بن حزام، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها" فلما أقبلت قريش ورآها رسول الله تصوب من العقنقل، وهو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي، قال لهم: هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم كفا من حصى عليه تراب، فرمى به في وجوه القوم، وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق منهم مشرك إلا دخل في عينيه وفمه ومنخريه منها شيء، فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم. وقال قتادة، وابن زيد: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاث حصيات فرمى بحصاة في ميمنة القوم وبحصاة في ميسرة القوم وبحصاة بين أظهرهم، وقال: شاهت الوجوه، فانهزموا، فذلك قوله تعالى: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى"، إذ ليس في وسع أحد من البشر أن يرمي كفا من الحصا إلى وجوه جيش فلا يبقى فيهم عين إلا ويصيبها منه شيء. وقيل: معناه الآية وما بلغت إذ رميت ولكن الله بلغ. وقيل: وما رميت بالرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم حتى انهزموا، {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا} أي: ولينعم على المؤمنين نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لدعائكم، {عَلِيمٌ} بنياتكم.
{ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)}. {ذَلِكُمْ} الذي ذكرت من القتل والرمي والبلاء الحسن، {وَأَنَّ اللَّهَ} قيل: فيه إضمار، أي: واعلموا أن الله {مُوهِنُ} مضعف، {كَيْدِ الْكَافِرِينَ} قرأ ابن كثير ونافع وأهل البصرة: "موهن" بالتشديد والتنوين، "كيد" نصب، وقرأ الآخرون "موهن" بالتخفيف والتنوين إلا حفصا، فإنه يضيفه فلا ينون ويخفض "كيد". قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر لما التقى الناس: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لم نعرف فأحنه الغداة، فكان هو المستفتح على نفسه. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: قال عبد الرحمن بن عوف: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان، حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه: يا عم أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي وما تصنع به؟ فقال: عاهدت الله عز وجل إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه. فقال لي الآخر سرا من صاحبه مثله، فما سرني أني بين رجلين بمكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه، وهما ابنا عفراء. وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا محمد بن المثنى، ثنا ابن أبي عدي، عن سليمان التيمي عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم: "من ينظر لنا ما صنع أبو جهل"؟ قال: فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد، قال: فأخذ بلحيته فقال: أنت أبو جهل؟ فقال: وهل فوق رجل قتله قومه أو قتلتموه. قال محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر قال: قال معاذ بن عمرو بن الجموح لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه أمر بأبي جهل بن هشام أن يلتمس في القتلى، فقال: اللهم لا يعجزنك، قال فلما سمعتها جعلته من شأني فعمدت نحوه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه. قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي، فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي، وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني جعلت عليها قدمي، ثم تمطيت بها حتى طرحتها، ثم مر بأبي جهل وهو عقير معوذ بن عفراء، فضربه حتى أثبته، فتركه وبه رمق، فمر عبد الله بن مسعود بأبي جهل قال عبد الله بن مسعود: وجدته بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلي على عنقه، ثم قلت: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبماذا أخزاني، أعمد من رجل قتلتموه أخبرني لمن الدائرة؟ قلت: لله ولرسوله. وروي عن ابن مسعود أنه قال: قال لي أبو جهل: لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا، ثم احتززت رأسه، ثم جئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله هذا رأس أبي جهل، فقال: آلله الذي لا إله غيره؟ قلت: نعم، والذي لا إله غيره، ثم ألقيته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله عز وجل. وقال السدي والكلبي: كان المشركون حين خرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين ففيه نزلت: "إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح" أي: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر. وقال عكرمة: قال المشركون والله لا نعرف ما جاء به محمد فافتح بيننا وبينه بالحق، فأنزل الله عز وجل: "إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح" أي: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء. وقال أبي بن كعب: هذا خطاب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى للمسلمين: "إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح" أي: إن تستنصروا فقد جاءكم الفتح والنصر. أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد، ثنا عبد الرحيم بن منيب، ثنا الفضل بن موسى، ثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن خباب رضي الله عنه قال: شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تدعو الله لنا، ألا تستنصر لنا؟ فجلس محمارا لونه أو وجهه فقال لنا: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، ويحفر له في الأرض ثم يجاء بالمنشار فيجعل فوق رأسه ثم يجعل بفرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب، وما يصرفه عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب منكم من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله، ولكنكم تعجلون". قوله: {وَإِنْ تَنْتَهُوا} يقول للكفار، إن تنتهوا عن الكفر بالله وقتال نبيه صلى الله عليه وسلم، {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا} لحربه وقتاله، {نَعُدْ} بمثل الواقعة التي وقعت بكم يوم بدر. وقيل: وإن تعودوا إلى الدعاء والاستفتاح نعد للفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم، {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ} جماعتكم، {شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} قرأ أهل المدينة وابن عامر وحفص "وأن الله" بفتح الهمزة، أي: ولأن الله مع المؤمنين، كذلك "لن تغني عنكم فئتكم شيئا"، وقيل: هو عطف على قوله: "ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين"، وقرأ الآخرون: "وإن الله" بكسر الألف على الابتداء.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}. قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ} أي: لا تعرضوا عنه، {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} القرآن ومواعظه. {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} أي: يقولون بألسنتهم سمعنا بآذاننا وهم لا يسمعون، أي لا يتعظون ولا ينتفعون بسماعهم فكأنهم لم يسمعوا. قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ} أي: شر من دب على وجه الأرض من خلق الله {الصُّمُّ الْبُكْمُ} عن الحق فلا يسمعونه ولا يقولونه، {الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} أمر الله عز وجل، سماهم دواب لقلة انتفاعهم بعقولهم، كما قال تعالى: "أولئك كالأنعام بل هم أضل"، (الأعراف- 179) قال ابن عباس: هم نفر من بني عبد الدار بن قصي، كانوا يقولون: نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد، فقتلوا جميعا بأحد، وكانوا أصحاب اللواء لم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة. {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ} أي: لأسمعهم سماع التفهم والقبول، {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} بعد أن علم أن لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك، {لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} لعنادهم وجحودهم الحق بعد ظهوره. وقيل: إنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: أحيي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك بالنبوة فنؤمن بك، فقال الله عز وجل: "ولو أسمعهم" كلام قصي "لتولوا وهم معرضون".
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)}. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} يقول أجيبوهما بالطاعة، {إِذَا دَعَاكُمْ} الرسول صلى الله عليه وسلم، {لِمَا يُحْيِيكُمْ} أي: إلى ما يحييكم. قال السدي: هو الإيمان، لأن الكافر ميت فيحيا بالإيمان. وقال قتادة: هو القرآن فيه الحياة وبه النجاة والعصمة في الدارين. وقال مجاهد: هو الحق. وقال ابن إسحاق: هو الجهاد أعزكم الله به بعد الذل. وقال القتيبي: بل الشهادة قال الله تعالى في الشهداء: "بل أحياء عند ربهم يرزقون" (آل عمران 0 169). وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أبي بن كعب، رضي الله عنه، وهو يصلي، فدعاه فعجل أبي في صلاته، ثم جاء فقال رسول الله: "ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟ قال: كنت في الصلاة، قال: أليس يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}؟ فقال: لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلا أجبت وإن كنت مصليا". قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} قال سعيد بن جبير وعطاء: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان. وقال الضحاك: يحول بين الكافر والطاعة، ويحول بين المؤمن والمعصية. وقال مجاهد: يحول بين المرء وقلبه فلا يعقل ولا يدري ما يعمل. وقال السدي: يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه. وقيل: هو أن القوم لما دعوا إلى القتال في حالة الضعف ساءت ظنونهم واختلجت صدورهم فقيل لهم: قاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فيبدل الخوف أمنا والجبن جرأة. {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيجزيكم بأعمالكم. أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أنا محمد بن حماد، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان رسول الله يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، قالوا: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: "القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها". {وَاتَّقُوا فِتْنَةً} اختبارا وبلاء {لا تُصِيبَنَّ} قوله: "لا تصيبن" ليس بجزاء محض، ولو كان جزاء لم تدخل فيه النون، لكنه نفي وفيه طرف من الجزاء كقوله تعالى: "يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده" (النمل- 18) وتقديره واتقوا فتنة إن لم تتقوها أصابتكم، فهو كقول القائل: انزل عن الدابة لا تطرحنك، فهذا جواب الأمر بلفظ النهي، معناه إن تنزل لا تطرحك. قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعناه: اتقوا فتنة تصيب الظالم وغير الظالم. قال الحسن: نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير رضي الله عنهم. قال الزبير: لقد قرأنا هذه الآية زمانا وما أرانا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها، يعني ما كان يوم الجمل. وقال السدي ومقاتل والضحاك وقتادة: هذا في قوم مخصوصين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم الفتنة يوم الجمل. وقال ابن عباس: أمر الله عز وجل المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم. أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أنا أبو طاهر الحارثي، أنا محمد بن يعقوب الكسائي، أنا عبد الله بن محمود، أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، ثنا عبد الله بن المبارك، عن سيف بن أبي سليمان، قال: سمعت عدي بن عدي الكندي يقول: حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة". وقال ابن زيد: أراد بالفتنة افتراق الكلمة ومخالفة بعضهم بعضا. أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به". قوله {لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} يعني: العذاب، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)}. قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ} يقول: واذكروا يا معشر المهاجرين إذ أنتم قليل في العدد، مستضعفون في أرض مكة، في ابتداء الإسلام، {تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} يذهب بكم الناس، يعني: كفار مكة. وقال عكرمة: كفار العرب: وقال وهب: فارس والروم، {فَآوَاكُمْ} إلى المدينة، {وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} أي: قواكم يوم بدر بالأنصار. وقال الكلبيك قواكم يوم بدر بالملائكة، {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} يعني: الغنائم، أحلها لكم ولم يحلها لأحد قبلكم، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
|