الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***
{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)} {فَمَا لَكُمْ} مبتدأ وخبر، والاستفهام للإنكار، والنفي والخطاب لجميع المؤمنين، (وما فيه من معنى التوبيخ لبعضهم)، وقوله سبحانه: {فِى المنافقين} يحتمل كما قال السمين أن يكون متعلقاً بما يدل عليه قوله تعالى: {فِئَتَيْنِ} (من معنى الافتراق) أي فما لكم تفترقون في المنافقين، وأن يكون حالاً من {فِئَتَيْنِ} أي فئتين مفترقتين في المنافقين، فلما قدم نصب على الحال، وأن يكون متعلقاً بما تعلق به الخبر أي أي شيء كائن لكم في أمرهم وشأنهم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وفي انتصاب {فِئَتَيْنِ} وجهان كما في «الدر المصون». وأحدهما: أنه حال من ضمير {لَكُمْ} المجرور والعامل فيه الاستقرار، أو الظرف لنيابته عنه، وهذه الحال لازمة لا يتم الكلام بدونها، وهذا مذهب البصريين في هذا التركيب وما شابهه، وثانيهما: وهو مذهب الكوفيين أنه خبر كان مقدرة أي مالكم في شأنهم كنتم فئتين، ورد بالتزام تنكيره في كلامهم نحو {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] وأما ما قيل على الأول: من أن كون ذي الحال بعضاً من عامله غريب لا يكاد يصح عند الأكثرين فلا يكون معمولاً له، ولا يجوز اختلاف العامل في الحال وصاحبها فمن فلسفة النحو كما قال الشهاب، والمراد إنكار أن يكون للمخاطبين شيء مصحح لاختلافهم في أمر المنافقين، وبيان وجوب قطع القوم بكفرهم وإجرائهم مجرى المجاهرين في جميع الأحكام وذكرهم بعنوان النفاق باعتبار وصفهم السابق. أخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: هم قوم خرجوا من مكة حتى جاءوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ثم ارتدوا بعد ذلك فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فاختلف فيهم المسلمون فقائل يقول: هم منافقون وقائل يقول: هم مؤمنون، فبين الله تعالى نفاقهم وأنزل هذه الآية وأمر بقتلهم. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: «هم ناس تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتولاهم ناس وتبرأ من ولايتهم آخرون وقالوا: تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا فسماهم الله تعالى منافقين وبرأ المؤمنين من ولايتهم وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا»، وأخرج الشيخان والترمذي والنسائي وأحمد وغيرهم عن زيد بن ثابت «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فئتين فرقة تقول: نقتلهم وفرقة تقول: لا فأنزل الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِى المنافقين} الآية كلها» ويشكل على هذا ما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى من جعل هجرتهم غاية للنهي عن توليتهم إلا أن يصرف عن الظاهر كما ستعلمه، وقيل: هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وأخذوا يساراً راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثلوا به فقطعوا يديه ورجليه وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات، ويرده كما قال شيخ الإسلام ما سيأتي إن شاء الله تعالى من الآيات الناطقة بكيفية المعاملة معهم من السلم والحرب وهؤلاء قد أخذوا، وفعل بهم ما فعل من المثلة والقتل ولم ينقل في أمرهم اختلاف المسلمين، وقيل غير ذلك. {والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ} حال من المنافقين مفيد لتأكيد الإنكار السابق، وقيل: من ضمير المخاطبين والرابط الواو، وقيل: مستأنفة والباء للسببية، وما إما مصدرية وإما موصولة، وأركس وركس بمعنى، واختلف في معنى الركس لغة، فقيل: الرد كما قيل في قول أمية بن أبي الصلت: فأركسوا في جحيم النار أنهم *** كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا وهذه رواية الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والمعنى حينئذ والله تعالى ردهم إلى الكفر بعد الإيمان بسبب ما كسبوه من الارتداد واللحوق بالمشركين أو نحو ذلك أو بسبب كسبهم، وقيل: هو قريب من النكس، وحاصله أنه تعالى رماهم منكسين فهو أبلغ من التنكيس لأن من يرمى منكساً في هوة قلما يخلص منها، والمعنى أنه سبحانه بكسبهم الكفر، أو بما كسبوه منه قلب حالهم ورماهم في حفر النيران. وأخرج ابن جرير عن السدي أنه فسر {أَرْكَسَهُمْ} بأضلهم وقد جاء الإركاس بمعنى الإضلال، ومنه: (وأركستني) عن طريق الهدى *** وصيرتني مثلاً للعدا وأخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: المعنى حبسهم في جهنم، والبخاري عنه أن المعنى بددهم أي فرقهم وفرق شملهم، وابن المنذر عن قتادة أهلكهم، ولعلها معان ترجع إلى أصل واحد، وروي عن عبد الله وأبيّ أنهما قرآ ركسوا بغير ألف، وقد قرأ ركّسهم مشدداً. {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله} توبيخ للفئة القائلة بإيمان أولئك المنافقين على زعمهم ذلك، وإشعار بأن يؤدي إلى محاولة المحال الذي هو هداية من أضله الله تعالى، وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم مع أنهم بمعزل من ذلك سعي في هدايتهم وإرادة لها، فالمراد بالموصول المنافقون إلا أن وضع موضع ضميرهم لتشديد الإنكار وتأكيد استحالة الهداية بما ذكر في حيز الصلة، وحمله على العموم، والمذكورون داخلون فيه دخولاً أولياً كما زعمه أبو حيان ليس بشيء، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها للمبالغة في إنكاره ببيان أن إرادته مما لا يمكن فضلاً عن إمكان نفسه، والآية ظاهرة في مذهب الجماعة، وحمل الهداية والإضلال على الحكم بها خلاف الظاهر، ويبعده قوله تعالى: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} فإن المتبادر منه الخلق أي من يخلق فيه الضلال كائناً من كان ويدخل هنا من تقدم دخولاً أولياً فلن تجد له سبيلاً من السبل فضلاً عن أن تهديه إليه، والخطاب في {تَجِدُ} لغير معين، أو لكل أحد من المخاطبين للإشعار (بعدم) الوجدان للكل على سبيل التفصيل، ونفي وجدان السبيل أبلغ من نفي الهادي، وحمل إضلاله تعالى على حكمه وقضائه بالضلال مخل بحسن المقابلة بين الشرط والجزاء، وجعل السبيل بمعنى الحجة، وأن المعنى من يجعله الله تعالى في حكمه ضالاً فلن تجد له في ضلالته حجة كما قال جعفر بن حرب ليس بشيء كما لا يخفى، والجملة إما اعتراض تذييلي مقرر للإنكار السابق مؤكد لاستحالة الهداية، أو حال من فاعل {تُرِيدُونَ} أو {تَهْدُواْ}، والرابط الواو.
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)} {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ} بيان لغلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم إثر بيان كفرهم وضلالتهم في أنفسهم، و{لَوْ} مصدرية لا جواب لها أي تمنوا أن تكفروا؛ وقوله تعالى: {كَمَا كَفَرُواْ} نعت لمصدر محذوف، و( ما) مصدرية أي كفراً مثل كفرهم، أو حال من ضمير ذلك المصدر كما هو رأي سيبويه، ولا دلالة في نسبة الكفر إليهم على أنه مخلوق لهم استقلالاً لا دخل لله تعالى فيه لتكون هذه الآية دليلاً على صرف ما تقدم عن ظاهره كما زعمه ابن حرب لأن أفعال العباد لها نسبة إلى الله تعالى باعتبار الخلق، ونسبة إلى العباد باعتبار الكسب بالمعنى الذي حققناه فيما تقدم، وقوله تعالى: {فَتَكُونُونَ سَوَاء} عطف على {لَوْ تَكْفُرُونَ} داخل معه في حكم التمني أي: ودوا لو تكفرون فتكونون مستوين في الكفر والضلال، وجوز أن تكون كلمة {لَوْ} على بابها، وجوابها محذوف كمفعول (ود) أي ودوا كفركم لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء لسروا بذلك {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء} الفاء فصيحة، وجمع {أَوْلِيَاء} مراعاة لجمع المخاطبين فإن المراد نهي كل من المخاطبين عن اتخاذ كل من المنافقين ولياً أي إذا كان حالهم ما ذكر من الودادة فلا توالوهم. {حتى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ الله} أي حتى يؤمنوا وتحققوا إيمانهم بهجرة هي لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا لغرض من أغراض الدنيا، وأصل السبيل الطريق، واستعمل كثيراً في الطريق الموصلة إليه تعالى وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، والآية ظاهرة في وجوب الهجرة. وقد نص في «التيسير» على أنها كانت فرضاً في صدر الإسلام، وللهجرة ثلاث استعمالات: أحدها: الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام وهو الاستعمال المشهور، وثانيها: ترك المنهيات، وثالثها: الخروج للقتال وعليه حمل الهجرة من قال: إن الآية نزلت فيمن رجع يوم أحد على ما حكاه خبر الشيخين وجزم به في الخازن {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي أعرضوا عن الهجرة في سبيل الله تعالى كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما {فَخُذُوهُمْ} إذا قدرتم عليهم {واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} من الحل والحرم فإن حكمهم حكم سائر المشركين أسراً وقتلاً، وقيل: المراد القتل لا غير إلا أن الأمر بالأخذ لتقدمه على القتل عادة. {وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} أي جانبوهم مجانبة كلية ولا تقبلوا منهم ولاية ولا نصرة أبداً كما يشعر بذلك المضارع الدال على الاستمرار أو التكرير المفيد للتأكيد.
{إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)} {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق} استثناء من الضمير في قوله سبحانه: {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم} [النساء: 89] أي إلا الذين يصلون وينتهون إلى قوم عاهدوكم ولم يحاربوكم وهم بنو مدلج. أخرج ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال: لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم قال سراقة: بلغني أنه عليه الصلاة والسلام يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي من بني مدلج فأتيته فقلت: أنشدك النعمة، فقالوا: مه؛ فقال: دعوه ما تريد؟ قلت: بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم تخش بقلوب قومك عليهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد فقال: اذهب معه فافعل ما يريد فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ومن وصل إليهم من الناس كانوا على مثل عهدهم فأنزل الله تعالى: {وَدُّواْ} [النساء: 89] حتى بلغ {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ} فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك المدلجي وفي بني جذيمة بن عامر، ولا يجوز أن يكون استثناء من الضمير في {فَلاَ تَتَّخِذُواْ} [النساء: 89] وإن كان أقرب لأن اتخاذ الولي منهم حرام مطلقاً. {أَوْ جَاءوكُمْ} عطف على الصلة أي (و) الذين جاءوكم كافين من قتالكم وقتال قومهم، فقد استثنى من المأمور بأخذهم وقتلهم فريقان: من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين؛ ومن أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين، أو عطف على صفة قوم كأنه قيل: إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين، أو إلى قوم كافين عن القتال لكم وعليكم، والأول: أرجح رواية ودراية إذ عليه يكون لمنع القتال سببان: الاتصال بالمعاهدين، والاتصال بالكافين وعلى الثاني: يكون السببان الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين لكن قوله تعالى الآتي: {فَإِنِ اعتزلوكم} الخ يقرر أن أحد السببين هو الكف عن القتال لأن الجزاء مسبب عن الشرط فيكون مقتضياً للعطف على الصلة إذ لو عطف على الصفة كان أحد السببين الاتصال بالكافين لا الكف عن القتال، فإن قيل: لو عطف على الصفة تحققت المناسبة أيضاً لأن سبب منع التعرض حينئذ الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين، والاتصال بهؤلاء وهؤلاء سبب للدخول في حكمهم وقوله سبحانه: {فَإِنِ اعتزلوكم} يبين حكم الكافين لسبق حكم المتصلين بهم، أجيب: بأن ذلك جائز إلا أن الأول أظهر وأجرى على أسلوب كلام العرب لأنهم إذا استثنوا بينوا حكم المستثنى تقريراً وتوكيداً، وقال الإمام: «جعل الكف عن القتال سبباً لترك التعرض أولى من جعل الاتصال بمن يكف عن القتال سبباً (قريباً) لترك التعرض لأنه سبب بعيد» على أن المتصلين بالمعاهدين ليسوا معاهدين لكن لهم حكمهم بخلاف المتصلين بالكافين فإنهم إن كفوا فهم هم وإلا فلا أثر له، وقرأ أبي {جَاءوكُمْ} بغير أو على أنه استئناف وقع جواباً لسؤال كأنه قيل: كيف كان الميثاق بينكم وبنيهم؟ فقيل: جاءوكم الخ، وقيل: يقدر السؤال كيف وصلوا إلى المعاهدين ومن أين علم ذلك وليس بشيء، أو على أنه صفة بعد صفة لقوم، أو بيان ليصلون، أو بدل منه، وضعف أبو حيان البيان بأنه لا يكون في الأفعال، والبدل أنه ليس إياه ولا بعضه ولا مشتملاً عليه، وأجيب بأن الإنتهاء إلى المعاهدين والاتصال بهم حاصله الكف عن القتال فصح جعل مجيئهم إلى المسلمين بهذه الصفة، وعلى هذه العزيمة بياناً لاتصالهم بالمعاهدين، أو بدلاً منه كلاً أو بعضاً أو اشتمالاً وكون ذلك لا يجري في الأفعال لا يقول به أهل المعاني، وقيل: هو معطوف على حذف العاطف وقوله تعالى: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} حال بإضمار قد، ويؤيده قراءة الحسن حصرة صدورهم وكذا قراءة حصرات وحاصرات واحتمال الوصفية السببية لقوم لاستواء النصب والجر بعيد. وقيل: هو صفة لموصوف محذوف هو حال من فاعل جاءوا أي جاءُكم قوماً حصرت صدورهم ولا حاجة حينئذ إلى تقدير قد، وما قيل: إن المقصود بالحالية هو الوصف لأنها حال موطئة فلا بد من قد سيما عند حذف الموصوف فما ذكر التزام لزيادة الإضمار من غير ضرورة غير مسلم، وقيل: بيان لجاءوكم وذلك كما قال الطيبي لأن مجيئهم غير مقاتلين و{حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} أن يقاتلوكم بمعنى واحد، وقال العلامة الثاني: من جهة أن المراد بالمجيء الاتصال وترك المعاندة والمقاتلة لا حقيقة المجيء، أو من جهة أنه بيان لكيفية المجيء، وقيل: بدل اشتمال من {جَاءوكُمْ} لأن المجيء مشتمل على الحصر وغيره، وقيل: إنها جملة دعائية، ورد بأنه لا معنى للدعاء على الكفار بأن لا يقاتلوا قومهم، بل بأن يقع بينهم اختلاف وقتل، والحصر بفتحتين الضيق والانقباض {ءانٍ يقاتلوكم أَوْ يقاتلوا قَوْمَهُمْ} أي عن أن يقاتلوكم، أو لأن، أو كراهة أن {وَلَوْ شَاء الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} بأن قوى قلوبهم وبسط صدورهم وأزال الرعب عنهم {فلقاتلوكم} عقيب ذلك ولم يكفوا عنكم، واللام جوابية لعطفه على الجواب، ولا حاجة لتقدير لو، وسماها مكي وأبو البقاء لام المجازاة والازدواج، وهي تسمية غريبة، وفي الإعادة إشارة إلى أنه جواب مستقل والمقصود من ذلك الامتنان على المؤمنين، وقرىء (فلقتلوكم). بالتخفيف والتشديد {فَإِنِ اعتزلوكم} ولم يتعرضوا لكم {فَلَمْ يقاتلوكم} مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله تعالى {وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم} أي الصلح فانقادوا واستسلموا، وكان إلقاء السلم استعارة لأن من سلم شيئاً ألقاه وطرحه عند المسلم له، وقرىء بسكون اللام مع فتح السين وكسرها {فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم، وفي نفي جعل السبيل مبالغة في عدم التعرض لهم لأن من لا يمر بشيء كيف يتعرض له. وهذه الآيات منسوخة الحكم بآية براءة {فَإِذَا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقد روي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره.
{سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)} {سَتَجِدُونَ ءاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ} هم أناس كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا نبي الله تعالى صلى الله عليه وسلم ويأمنوا قومهم فأبى الله تعالى ذلك عليهم قاله ابن عباس ومجاهد وقيل: الآية في حق المنافقين {كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الفتنة} أي دعوا إلى الشرك كما روي عن السدي وقيل: إلى قتال المسلمين {أُرْكِسُواْ فِيِهَا} أي قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه، يروى عن ابن عباس أنه كان الرجل يقول له قومه: بماذا آمنت؟ فيقول: آمنت بهذا القرد والعقرب والخنفساء {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} بالكف عن التعرض لكم بوجه مّا {وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السلم} أي ولم يلقوا إليكم الصلح والمهادنة {وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ} أي ولم يكفوا أنفسهم عن قتالكم. {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ} أي وجدتموهم وأصبتموهم حيث تمكنتم منهم، وعن بعض المحققين إن هذه الآية مقابلة للآية الأولى، وبينهما تقابل إما بالإيجاب والسلب، وإما بالعدم والملكة لأن إحداهما عدمية والأخرى وجودية وليس بينهما تقابل التضاد ولا تقابل التضايف لأنهما على ما قرروا لا يوجدان إلا بين أمرين وجوديين فقوله سبحانه: {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} مقابل لقوله تعالى: {فَإِنِ اعتزلوكم} [النساء: 90] وقوله جل وعلا: {وَيُلْقُواْ} مقابل لقوله عز شأنه: {وَأَلْقَوْاْ} [النساء: 90] وقوله جل جلاله: {وَيَكُفُّواْ} مقابل لقوله عز من قائل: {فَلَمْ يقاتلوكم} [النساء: 90] والواو لا تقتضي الترتيب، فالمقدم مركب من ثلاثة أجزاء في الآيتين، وهي في الآية الأولى الاعتزال وعدم القتال وإلقاء السلم فبهذه الأجزاء الثلاثة تم الشرط، وجزاؤه عدم التعرض لهم بالأخذ والقتل كما يشير إليه قوله تعالى: {فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء: 90] وفي الآية الثانية عدم الاعتزال وعدم إلقاء السلم وعدم الكف عن القتال، فبهذه الأجزاء الثلاثة تم الشرط، وجزاؤه الأخذ والقتل المصرح به بقوله سبحانه: {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم}. ومن هذا يعلم أن {وَيَكُفُّواْ} بمعنى لم يكفوا عطف على المنفي لا على النفي بقرينة سقوط النون الذي هو علامة الجزم، وعطفه على النفي والجزم بأن الشرطية لا يصح لأنه يستلزم التناقض لأن معنى {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} إن لم يكفوا، وإذا عطف {وَيَكُفُّواْ} على النفي يلزم اجتماع عدم الكف والكف، وكلام الله تعالى منزه عنه، وكذا لا يصح كون قوله سبحانه: {وَيَكُفُّواْ} جملة حالية أو استئنافية بيانية أو نحوية لاستلزام كل منهما التناقض مع أنه يقتضي ثبوت النون في {يكفوا} على ما هو المعهود في مثله، وأبو حيان جعل الجزاء في الأول: مرتباً على شيئين وفي الثانية: على ثلاثة، والسر في ذلك الإشارة إلى مزيد خباثة هؤلاء الآخرين، وكلام العلامة البيضاوي بيض الله تعالى غرة أحواله في هذا المقام لا يخلو عن تعقيد، وربما لا يوجد له محمل صحيح إلا بعد عناية وتكلف فتأمل جداً {ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ} الموصوفون بما ذكر من الصفات الشنيعة. {جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سلطانا مُّبِيناً} أي حجة واضحة فيما أمرناكم به في حقهم لظهور عداوتهم ووضوح كفرهم وخباثتهم، أو تسلطاً لا خفاء فيه من حيث أذنا لكم في أخذهم وقتلهم.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)} {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} شروع في بيان حال المؤمنين بعد بيان حال الكافرين والمنافقين، وقيل: لما رغب سبحانه في قتال الكفار ذكر إثره ما يتعلق بالمحاربة في الجملة أي ما صح له وليس من شأنه {أَن يَقْتُلَ} بغير حق {مُؤْمِناً} فإن الإيمان زاجر عن ذلك {إِلاَّ خَطَئاً} فإنه مما لا يكاد يحترز عنه بالكلية وقلما يخلو المقاتل عنه، وانتصابه إما على أنه حال أي ما كان له أن يقتل مؤمناً في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ، أو على أنه مفعول له أي ما كان له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ، أو على أنه صفة للمصدر أي إلا قتلا خطأ فالاستثناء في جميع ذلك مفرغ وهو استثناء متصل على ما يفهمه كلام بعض المحققين، ولا يلزم جواز القتل خطأ شرعاً حيث كان المعنى أن من شأن المؤمن أن لا يقتل إلا خطأ. وقال بعضهم: الإستثناء في الآية منقطع أي لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر، وقيل: إلا بمعنى ولا، والتقدير وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً عمداً ولا خطأ، وقيل: الإستثناء من مؤمن أي إلا خاطئاً، والمختار مع الفصل الكثير في مثل ذلك النصب، والخطأ ما لا يقارنه القصد إلى الفعل أو الشخص، أو لا يقصد به زهوق الروح غالباً، أو لا يقصد به محظور كرمي مسلم في صف الكفار مع الجهل بإسلامه، وقرىء خطاء بالمد وخطا بوزن عمى بتخفيف الهمزة، أخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي أن عياش بن أبي ربيعة المخزومي وكان أخا أبي جهل والحرث بن هشام لأمهما أسلم وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان أحب ولد أمه إليها فشق ذلك عليها فحلفت أن لا يظلها سقف بيت حتى تراه، فأقبل أبو جهل والحرث حتى قدما المدينة فأخبرا عياشاً بما لقيت أمه، وسألاه أن يرجع معهما فتنظر إليه ولا يمنعاه أن يرجع وأعطياه موثقاً أن يخليا سبيله بعد أن تراه أمه فانطلق معهما حتى إذا خرجا من المدينة عمداً إليه فشداه وثاقاً وجلداه نحواً من مائة جلدة، وأعانهما على ذلك رجل من بني كنانة فحلف عياش ليقتلن الكناني إن قدر عليه فقدما به مكة فلم يزل محبوساً حتى فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فخرج عياش فلقي الكناني وقد أسلم، وعياش لا يعلم بإسلامه فضربه حتى قتله فأخبر بعد بذلك فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فنزلت، وروي مثل ذلك عن مجاهد وعكرمة. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد " أنها نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان في سرية فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له فوجد رجلاً من القوم في غنم له فحمل عليه بالسيف، فقال: لا إله إلا الله فبدر فضربه، ثم جاء بغنمه إلى القوم ثم وجد في نفسه شيئاً فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا شققت عن قلبه وقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه؟ا فقال: كيف بي يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: فكيف بلا إلا إلا الله؟ا وتكرر ذلك قال أبو الدرداء فتمنيت أن ذلك اليوم مبتدأ إسلامي ثم نزل القرآن " {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي فعليه (أي فواجبة) تحرير رقبة والتحرير الإعتاق؛ وأصل معناه جعله حراً أي كريماً لأنه يقال لكل مكرم حر، ومنه حر الوجه للخد وأحرار الطير، وكذا تحرير الكتاب من هذا أيضاً، والمراد بالرقبة النسمة تعبيراً عن الكل بالجزء، قال الراغب: إنها في المتعارف للمماليك كما يعبر بالرأس والظهر عن المركوب، فيقال: فلان يربط كذا رأساً وكذا ظهراً {مُؤْمِنَةٍ} محكوم بإيمانها وإن كانت صغيرة، وإلى ذلك ذهب عطاء، وعن ابن عباس والشعبي وإبراهيم والحسن لا يجزىء في كفارة القتل الطفل ولا الكافر، وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال في حرف أبي: (فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزىء فيها صبي)، وفي الآية رد على من زعم جواز عتق كتابي صغير أو مجوسي كبير أو صغير، واستدل بها على عدم إجزاء نصف رقبة ونصف أخرى {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ} أي مؤداة إلى ورثة القتيل يقتسمونها بينهم على حسب الميراث، فقد أخرج أصحاب «السنن الأربعة» عن الضحاك بن سفيان الكلابي قال: كتب إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها، ويقضي منها الدين وتنفذ الوصية ولا فرق بينها وبين سائر التركة، وعن شريك لا يقضى من الدية دين ولا تنفذ وصية. وعن ربيعة الغرة لأم الجنين وحدها؛ وذلك خلاف قول الجماعة، وتجب الرقبة في مال القاتل، والدية تتحملها عنه العاقلة، فإن لم تكن فهي في بيت المال، فإن لم يكن ففي ماله. {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} أي يتصدق أهله عليه، وسمي العفو عنها صدقة حثا عليه، وقد أخرج الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم: " كل معروف صدقة " وهو متعلق بعليه قبل، أو بمسلمة أي فعليه الدية أو يسلمها في جميع الأحيان إلا حين أن يتصدق أهله بها فحينئذ تسقط ولا يلزم تسليمها، وليس فيه كما قيل دلالة على سقوط التحرير حتى يلزم تقدير عليه آخر قبل قوله: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ} فالمنسبك في محل نصب على الإستثناء، وقال الزمخشري: إن المنسبك في محل النصب على الحال من القاتل أو الأهل أو الظرف، وتعقبه أبو حيان بأن كلا التخريجين خطأ لأن {ءانٍ} والفعل لا يجوز وقوعهما حالاً، ولا منصوباً على الظرفية كما نص عليه النحاة وذكر أن بعضهم استشهد على وقوع {ءانٍ} وصلتها موقع ظرف الزمان بقوله: فقلت لها لا تنكحيه فإنه *** لأول سهم (أن) يلاقي مجمعا أي لأول سهم زمان ملاقاته، وابن مالك كما قال السفاقسي يقدر في الآية والبيت حرف الجر أي بأن يصدقوا وبأن يلاقي، وقرأ أبي إلا أن يتصدقوا. {فَإن كَانَ} أي المقتول خطأ {مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ} أي كفار يناصبونكم الحرب {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ولم يعلم به القاتل لكونه بين أظهر قومه بأن أتاهم بعد ( أن أسلم) لمهم، أو بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم، والآية نزلت كما قال ابن جبير في مرداس بن عمرو لما قتله خطأ أسامة بن زيد {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} أي فعلى قاتله الكفارة دون الدية إذ وراثة بينه وبين أهله {وَإِن كَانَ} أي المقتول المؤمن ما روي عن جابر بن زيد {مِن قَوْمٍ} كفار {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق} أي عهد مؤقت أو مؤبد {فِدْيَةٌ} أي فعلى قاتله دية {مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ} من أهل الإسلام إن وجدوا، ولا تدفع إلى ذوي قرابته من الكفار وإن كانوا معاهدين إذ لا يرث الكافر المسلم، ولعل تقديم هذا الحكم كما قيل مع تأخير نظيره فيما سلف للإشعار بالمسارعة إلى تسليم الدية تحاشياً عن توهم نقض الميثاق {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً} كما هو حكم سائر المسلمين، ولعل إفراده بالذكر ما قيل أيضاً مع اندراجه في حكم ما سبق في قوله سبحانه: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً} الخ لبيان أن كونه فيما بين المعاهدين لا يمنع وجوب الدية كما منعه كونه بين المحاربين. وقيل: المراد بالمقتول هنا أحد أولئك القوم المعاهدين فيلزم قاتله تحرير الرقبة، وأداء الدية إلى أهله المشركين للعهد الذي بيننا وبينهم، وروي ذلك عن ابن عباس والشعبي وأبي مالك، واستدل بها على أن دية المسلم والذمي سواء لأنه تعالى ذكر في كل الكفارة والدية فيجب أن تكون ديتهما سواءاً كما أن الكفارة عنهما سواء. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال: بلغنا أن دية المعاهد كانت كدية المسلم ثم نقصت بعد في آخر الزمان فجعلت مثل نصف دية المسلم؛ وأخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن دية أهل الكتاب كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم النصف من دية المسلمين وبذلك أخذ مالك. وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه دية اليهودي والنصراني نصف دية المسلم ودية المجوسي ثلثا عشرها، وزعم بعضهم وجوب الدية أيضاً فيما إذا كان المقتول من قوم عدو لنا وهو مؤمن لعموم الآية الأولى، وأن السكوت عن الدية في آيته لا ينفيها، وإنما سكت عنها لأنه لا يجب فيه دية تسلم إلى أهله لأنهم كفار بل تكون لبيت المال، فأراد أن يبين بالسكوت أن أهله لا يستحقون شيئاً، وقال آخرون إن الدية تجب في المؤمن إذا كان من قوم معاهدين، وتدفع إلى أهله الكفار وهم أحق بديته لعهدهم، ولعل هؤلاء لا يعدون ذلك إرثاً إذ لا يرث الكافر ولو معاهداً المسلم كما برهن عليه. {الهدى فَمَن لَّمْ يَجِدْ} رقبة يحررها بأن لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها من الثمن {فَصِيَامُ} أي فعليه صيام {شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} قال مجاهد: لا يفطر فيهما ولا يقطع صيامهما، فإن فعل من غير مرض ولا عذر استقبل صيامهما جميعاً، فإن عرض له مرض أو عذر صام ما بقي منهما، فإن مات ولم يصم أطعم عنه ستين مسكيناً لكل مسكين مدّ، رواه ابن أبي حاتم. وأخرج عنه أيضاً أنه قال: فمن لم يجد دية أو عتاقة فعليه الصوم، وبه أخذ من قال: إن الصوم لفاقد الدية والرقبة يجزيه عنهما، والاقتصار على تقدير الرقبة مفعولاً هو المروي عن الجمهور وأخرج ابن جرير عن الضحاك أنه قال: الصيام لمن لم يجد رقبة، وأما الدية فواجبة لا يبطلها شيء، ثم قال وهو الصواب لأن الدية في الخطأ على العاقلة والكفارة على القاتل، فلا يجزىء صوم صائم عما لزم غيره في ماله، واستدل بالآية من قال: إنه لا إطعام في هذه الكفارة، ومن قال: ينتقل إليه عند العجز عن الصوم قاسه على الظهار وهو أحد قولين للشافعي رحمه الله تعالى، وبذكر الكفارة في الخطأ دون العمد، من قال: أن لا كفارة في العمد، والشافعي يقول: هو أولى بها من الخطأ {تَوْبَةً} نصب على أنه مفعول له أي شرع لكم ذلك توبة أي قبولاً لها من تاب الله تعالى عليه إذا قبل توبته، وفيه إشارة إلى التقصير بترك الاحتياط. وقيل: التوبة هنا بمعنى التخفيف أي شرع لكم هذا تخفيفاً عليكم، وقيل: إنه منصوب على الحالية من الضمير المجرور في عليه بحذف المضاف أي فعليه صيام شهرين حال كونه ذا توبة، وقيل: على المصدرية أي تاب عليكم توبة، وقوله سبحانه: {مِنَ الله} متعلق بمحذوف وقع صفة للنكرة أي توبة كائنة من الله تعالى. {وَكَانَ الله عَلِيماً} بجميع الأشياء التي من جملتها حال هذا القاتل {حَكِيماً} في كل ما شرع وقضى من الأحكام التي من جملتها ما شرع وقضى في شأنه.
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً} بأن يقصد قتله بما يفرق الأجزاء، أو بما لا يطيقه ألبتة عالماً بإيمانه، وهو نصب على الحال من فاعل {يُقْتَلُ}. وروي عن الكسائي أنه سكن التاء وكأنه فر من توالي الحركات {فَجَزَاؤُهُ} الذي يستحقه بجنايته {جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا} أي ماكثاً إلى الأبد، أو مكثاً طويلاً إلى حيث شاء الله تعالى، وهو حال مقدرة من فاعل فعل مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل: فجزاؤه أن يدخل جهنم خالداً. وقال أبو البقاء: هو حال من الضمير المرفوع أو المنصوب في يجزاها المقدر، وقيل: هو المنصوب لا غير ويقدر جازاه، وأيد بأنه أنسب بعطف ما بعده عليه لموافقته له صيغة، ومنع جعله حالاً من الضمير المجرور في {فَجَزَاؤُهُ} لوجهين، أحدهما: أنه حال من المضاف إليه، وثانيهما: أنه فصل بين الحال وذيها بخبر المبتدأ، وقوله سبحانه: {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ} عطف على مقدر تدل عليه الشرطية دلالة واضحة كأنه قيل: بطريق الاستئناف تقريراً لمضمونها حكم الله تعالى بأن جزاءه ذلك وغضب عليه أي انتقم منه على ما عليه الأشاعرة {وَلَعَنَهُ} أي أبعده عن رحمته بجعل جزائه ما ذكر، وقيل: هو وما بعده معطوف على الخبر بتقدير أن وحمل الماضي على معنى المستقبل أي فجزاؤه جهنم وأن يغضب الله تعالى عليه الخ {وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} لا يقادر قدره. والآية كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني أنه أسلم هو وأخوه هشام وكانا بالمدينة فوجد مقيس أخاه هشاماً ذات يوم قتيلاً في الأنصار في بني النجار فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من قريش من بني فهر ومعه مقيس إلى بني النجار ومنازلهم يومئذ بقباء أن ادفعوا إلى مقيس قاتل أخيه إن علمتم ذلك وإلا فادفعوا إليه الدية فلما جاءهم الرسول قالوا: السمع والطاعة لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم والله تعالى ما نعلم له قاتلاً ولكن نؤدّي الدية فدفعوا إلى مقيس مائة من الإبل دية أخيه، فلما انصرف مقيس والفهري راجعين من قباء إلى المدينة، وبينهما ساعة عمد مقيس إلى الفهري رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله وارتد عن الإسلام، وفي رواية أنه ضرب به الأرض وفضخ رأسه بين حجرين وركب جملاً من الدية وساق معه البقية ولحق بمكة، وهو يقول في شعر له: قتلت به فهراً وحملت عقله *** سراة بني النجار أرباب (قارع) وأدركت ثأري واضجعت موسدا *** وكنت إلى الأوثان أول راجع فنزلت هذه الآية مشتملة على إبراق وإرعاد وتهديد وإبعاد، وقد تأيدت بغير ما خبر ورد عن سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج أحمد والنسائي عن معاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل ذنب عسى الله تعالى أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً، وأخرج ابن المنذر عن أبي الدرداء مثله، وأخرج ابن عدي والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أعان على دم امرىء مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة الله تعالى "، وأخرجا عن البراء بن عازب " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لزوال الدنيا وما فيها أهون عند الله تعالى من قتل مؤمن ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله تعالى النار "، وفي رواية الأصبهاني عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال: " لو أن الثقلين اجتمعوا على قتل مؤمن لأكبهم الله تعالى على مناخرهم في النار، وإن الله تعالى حرم الجنة على القاتل والآمر "، واستدل بذلك ونحوه من القوارع المعتزلة على خلود من قتل مؤمناً متعمداً في النار، وأجاب بعض المحققين بأن ذلك خارج مخرج التغليظ في الزجر لا سيما الآية لاقتضاء النظم له فيها كقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ} [آل عمران: 97] في آية الحج، وقول صلى الله عليه وسلم للمقداد بن الأسود كما في «الصحيحين» حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده في الحرب " لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال "، وعلى ذلك يحمل ما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نازلت ربي في قاتل المؤمن أن يجعل له توبة فأبى عليَّ " وما أخرجه عن سعيد بن عينا أنه قال: «كنت جالساً بجنب أبي هريرة رضي الله تعالى عنه إذ أتاه رجل فسأله عن قاتل المؤمن هل له من توبة؟ فقال: لا والذي لا إله إلا هو لا يدخل الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط2. وشاع القول بنفي التوبة عن ابن عباس، وأخرجه غير واحد عنه وهو محمول على ما ذكرنا، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن حميد والنحاس عن سعيد بن عبيدة أن ابن عباس كان يقول: لمن قتل مؤمناً توبة فجاءه رجل فسأله ألمن قتل مؤمناً توبة؟ قال: لا إلا النار فلما قام الرجل قال له جلساؤه: ما كنت هكذا تفتينا كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمناً توبة مقبولة فما شأن هذا اليوم؟ا قال: إني أظنه رجلاً مغضباً يريد أن يقتل مؤمناً فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك، وكان هذا أيضاً شأن غيره من الأكابر فقد قال سفيان: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له فإذا ابتلى رجل قالوا له: تب، وأجاب آخرون بأن المراد من الخلود في الآية المكث الطويل لا الدوام لتظاهر النصوص الناطقة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم، وأخرج ابن المنذر عن عون بن عبد الله أنه قال: (فجزاؤه جهنم إن هو جازاه)، وروي مثله بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: وهذا كما يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر: إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب، ثم إن لم يجازه لم يكن ذلك منه كذباً، والأصل في هذا على ما قال الواحدي: إن الله عز وجل يجوز أن يخلف الوعيد وإن امتنع أن يخلف الوعد، وبهذا وردت السنة ففي حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من وعده الله تعالى على عمله ثواباً فهو منجزه له، ومن أوعده على عمله عقاباً فهو بالخيار " «ومن أدعية الأئمة الصادقين رضي الله تعالى عنهم: يا من إذا وعد وفا، وإذا توعد عفا»، وقد افتخرت العرب بخلف الوعيد، ولم تعده نقصاً كما يدل عليه قوله: وإني إذا أوعدته أو وعدته *** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي واعترض بأن الوعيد قسم من أقسام الخبر، وإذا جاز الخلف فيه وهو كذب لإظهار الكرم، فلم لا يجوز في القصص والأخبار لغرض من الأغراض، وفتح ذلك الباب يفضي إلى الطعن في الشرائع كلها. والقائلون بالعفو عن بعض المتوعدين منهم من زعم أن آيات الوعيد إنشاء، ومنهم من قال: إنها أخبار إلا أن هناك شرطاً محذوفاً للترهيب فلا خلف بالعفو فيها، وقال شيخ الإسلام: «والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل لأنه إخبار منه تعالى بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه (بذلك) كيف لا وقد قال عز وجل: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] ولو كان هذا إخباراً بأنه سبحانه يجزي كل سيئة بمثلها لعارضه قوله جل شأنه: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وهذا مأخوذ من كلام أبي صالح وبكر بن عبد الله، واعترضه أبو علي الجبائي بأن ما لا يفعل لا يسمى جزاءاً ألا ترى أن الأجير إذا استحق الأجرة فالدراهم التي عند مستأجره لا تسمى جزاءاً ما لم تعط له وتصل إليه؟ وتعقبه الطبرسي «بأن هذا لا يصح لأن الجزاء عبارة عن المستحق سواء فعل أم لم يفعل، ولهذا يقال: جزاء المحسن الإحسان وجزاء المسيء الإساءة، وإن لم يتعين المحسن والمسيء حتى يقال: فعل ذلك معهما أو لم يفعل، ويقال لمن قتل غيره: جزاء هذا أن يقتل، (وهو كلام صادق وإن لم يفعل القتل) وإنما لا يقال للدراهم: إنها جزاء الأجير لأن الأجير إنما يستحق الأجرة في الذمة لا في الدراهم المعينة، فللمستأجر أن يعطيه منها ومن غيرها». واعترض بأنا سلمنا أنه لا يلزم في الجزاء أن يفعل إلا أن كثيراً من الآيات كقوله تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 8] يدل على أنه تعالى يوصل الجزاء إلى المستحقين ألبتة، وفي الآية ما يشير إليه؛ ولا يخفى ما فيه لأن الآيات التي فيها أنه تعالى يوصل الجزاء إلى مستحقه كلها في حكم آيات الوعيد والعفو فيه جائز، فلا معنى للقول بالبت، ومن هنا قيل: إن الآية لا تصلح دليلاً للمعتزلة مع قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48]. وقد أخرج البيهقي عن قريش بن أنس قال: «كنت عند عمرو بن عبيد في بيته فأنشأ يقول: يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي الله تعالى فيقول لي: لم قلت: إن القاتل في النار؟ فأقول أنت قلته ثم تلا هذه الآية {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً} الخ فقلت له: وما في البيت أصغر مني أرأيت إن قال لك فإني قد قلت: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] فمن أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا؟ قال: فما استطاع أن يرد عليَّ شيئاً»، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن المنذر عن إسماعيل بن ثوبان قال: «جالست الناس قبل الداء الأعظم في المسجد الأكبر فسمعتهم يقولون لما نزلت {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً} الآية: قال المهاجرون والأنصار وجبت لمن فعل هذا النار حتى نزلت {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الخ، فقال المهاجرون والأنصار يصنع الله تعالى ما شاء» وبآية المغفرة ردّ ابن سيرين على من تمسك بآية الخلود وغضب عليه وأخرجه من عنده وكون آية الخلود بعد تلك الآية نزولاً بستة أشهر، أو بأربعة أشهر كما روي عن زيد بن ثابت لا يفيد شيئاً، ودعوى النسخ في مثل ذلك مما لا يكاد يصح كما لا يخفى، وأجاب بعض الناس بأن حكم الآية إنما هو للقاتل المستحل وكفره مما لا شك فيه فليس ذلك محلاً للنزاع، ويدل عليه أنها نزلت في الكناني حسبما مرت حكايته، وقد روى عن عكرمة وابن جريج وجماعة أنهم فسروا {مُّتَعَمّداً} بمستحيلاً؛ واعترض بأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وبأن تفسير المتعمد بالمستحل مما لا يكاد يقبل إذ ليس هو معناه لغة ولا شرعاً فإن التزم المجاز فلا دليل عليه وسبب النزول لا يصلح أن يكون دليلاً لما علمت الآن على أنه يفوت التقابل بين هذا القتل المذكور في هذه الآية والقتل المذكور في الآية السابقة وهو الخطأ الصرف، وقيل: إن الاستحلال يفهم من تعليق القتل بالمؤمن لأنه مشتق؛ وتعليق الحكم بالمشتق يفيد علية مبدأ الاشتقاق، فكأنه قيل: ومن يقتل مؤمناً لأجل إيمانه ولا شك أن من يقتله لذلك لا يكون إلا مستحلاً فلا يكون إلا كافراً فيخرج هذا القاتل عن محل النزاع وإن لم يعتبر سبب النزول، واعترض بأن المؤمن وإن كان مشتقاً في الأصل إلا أنه عومل معاملة الجوامد، ألا ترى أن قولك كلمت مؤمناً مثلاً لا يفهم منه أنك كلمته لأجل إيمانه؟ ولو أفاد تعليق الحكم بالمؤمن العلية لكان ضرب المؤمن وترك السلام عليه والقيام له كقتله كفراً ولا قائل به، واعتبار الاشتقاق تارة وعدم اعتباره أخرى خارج عن حيز الاعتبار فليفهم، ثم إنه سبحانه ذكر هنا حكم القتل العمد الأخروي، ولم يذكر حكمه الدنيوي اكتفاءاً بما تقدم في آية البقرة. (178).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)} {خَبِيراً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ} شروع في التحذير عما يوجب الندم من قتل من لا ينبغي قتله. {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ الله} أي سافرتم للغزو على ما يدل عليه السباق والسياق {فَتَبَيَّنُواْ} أي فاطلبوا بيان الأمر في كل ما تأتون وتذرون ولا (تعملوا) فيه من غير تدبر وروية، وقرأ حمزة وعلي وخلف فتثبتوا أي فاطلبوا ثبات الأمر ولا تعجلوا فيه، والمعنيان متقاربان، وصيغة التفعيل بمعنى الاستقبال، ودخلت الفاء لما في {إِذَا} من معنى الشرط كأنه قيل: إن غزوتم فتبينوا {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام} أي حياكم بتحية الإسلام ومقابلها تحية الجاهلية كأنعم صباحاً وحياك الله تعالى وقرأ حمزة وخلف وأهل الشام السلم بغير ألف، وفي بعض الروايات عن عاصم أنه قرأ السلم بكسر السين وفتح اللام، ومعناه في القرائتين الاستسلام والانقياد، وبه فسر بعضعم {السلام} أيضاً في القراءة المشهورة، واللام على ما قال السمين: للتبليغ، والماضي بمعنى المضارع، و( من) موصولة أو موصوفة، والمراد النهي عما هو نتيجة لترك المأمور به، وتعيين مادة مهمة من المواد التي يجب فيها التبيين والتثبيت، وتقييد ذلك بالسفر لأن عدم التبيين كان فيه لا لأنه لا يجب إلا فيه، والمعنى لا تقولوا لمن أظهر لكم ما يدل على إسلامه: {لَسْتَ مُؤْمِناً} وإنما فعلت ذلك خوف القتل بل اقبلوا منه ما أظهر وعاملوه بموجبه. وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه ومحمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنهما وأبي جعفر القاري أنهم قرؤوا {مُؤْمِناً} بفتح الميم الثانية أي مبذولاً لك الأمان. {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا} أي تطلبون ماله الذي هو حطام سريع الزوال وشيك الانتقال، والجملة في موضع الحال من فاعل {تَقُولُواْ} مشعراً بما هو الحامل لهم على العجلة، والنهي راجع إلى القيد والمقيد، وقوله تعالى: {فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} تعليل للنهي عن القيد بما فيه من الوعد الضمني كأنه قيل: لا تبتغوا ذلك العرض القليل الزائل فإن عنده سبحانه وفي مقدوره مغانم كثيرة يغنمكموها فيغنيكم عن ذلك، وقوله سبحانه: {كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} تعليل للنهي عن المقيد باعتبار أن المراد منه ردّ إيمان الملقي لظنهم أن الإيمان العاصم ما ظهرت على صاحبه دلائل تواطىء الباطن والظاهر ولم تظهر فيه، واسم الإشارة إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فيه حيز الصلة، والفاء في {فَمَنْ} للعطف على {كُنتُمْ} وقدم خبرها للقصر المفيد لتأكيد المشابهة كأنه قيل: لا تردّوا إيمان من حياكم بتحية الإسلام وتقولوا إنه ليس بإيمان عاصم ولا يعد المتصف به مؤمناً معصوماً لظنكم اشتراط التواطؤ في العصمة ومجرد التحية لا يدل عليه، فإنكم كنتم أنتم في مبادىء إسلامكم مثل هذا الملقي في عدم ظهور شيء للناس منكم غير ما ظهر منه لكم من التحية ونحوها، ولم يظهر منكم ما تظنونه شرطاً مما يدل على التواطؤ، ومجرد أن الدخول في الإسلام لم يكن تحت ظلال السيوف لا يدل على ذلك فمنّ الله تعالى عليكم بأن قبل ذلك منكم ولم يأمر بالفحص عن تواطؤ ألسنتكم وقلوبكم، وعصم بذلك دماءكم وأموالكم، فإذا كان الأمر كذلك {فَتَبَيَّنُواْ} هذا الأمر ولا تعجلوا وتدبروا ليظهر لكم أن ظاهر الحال كاف في الإيمان العاصم حيث كفى فيكم من قبل، وأخر هذا التعليل على ما قيل لما فيه من نوع تفصيل ربما يخلّ تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم مع ما فيه من مراعاة المقارنة بين التعليل السابق وبين ما علل به، أو لأن في تقديم الأول إشارة ما إلى ميل القوم نحو ذلك العرض، وأن سرورهم به أقوى، ففي تقديمه تعجيل لمسرتهم، وفيه نوع حط عليهم رفع الله تعالى قدرهم ورضي المولى عز شأنه عنهم أو لأنه أوضح في التعليل من التعليل الأخير وأسبق للذهن منه، ولعله لم يعطف أحد التعليلين على الآخر لئلا يتوهم أنهما تعليلا شيء واحد أو أن مجموعهما علة، وقيل: موافقة لما علل بهما من القيد والمقيد حيث لم يتمايزا بالعطف، وقيل: إنما لم يعطف لأن الأول تعليل للنهي الثاني بالوعد بأمر أخروي لأن المعنى لا تبتغوا عرض الحياة الدنيا لأن عنده سبحانه ثواباً كثيراً في الآخرة أعده لمن لم يبتغ ذلك، وعبر عن الثواب بالمغانم مناسبة للمقام، والتعليل الثاني للنهي الأول ليس كذلك، وذكر الزمخشري وغيره في الآية ما رده شيخ الإسلام بما يلوح عليه مخايل التحقيق، وقال بعض الناس فيها: إن المعنى كما كان هذا الذي قتلتموه مستخفياً بدينه في قومه خوفاً على نفسه منهم كنتم أنتم مستخفين بدينكم حذراً من قومكم على أنفسكم، فمنّ الله تعالى عليكم بإظهار دينه وإعزاز أهله حتى أظهرتم الإسلام بعدما كنتم تكتمونه من أهل الشرك فتبينوا نعمة الله تعالى عليكم، أو تبينوا أمر من تقتلونه، ولا يخفى أن هذا وإن كان بعضه مروياً عن ابن جبير غير واف بالمقصود على أن القول بأن المخاطبين كانوا مستخفين بدينهم حذراً من قومهم في حيز المنع اللهم إلا أن يقال: إن كون البعض كان مستخفياً كاف في الخطاب، وقيل: إن قوله سبحانه: {فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} منقطع عما قبله، وذلك أنه تعالى لما نهى القوم عن قتل من ذكر أخبرهم بعد بأنه منّ عليهم بأن قبل توبتهم عن ذلك الفعل المنكر، ثم أعاد الأمر بالتبيين مبالغة في التحذير، أو أمر بتبيين نعمته سبحانه شكراً لما منّ عليهم به وهو كما ترى. واختلف في سبب الآية، فأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن حميد وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنماً له فسلم عليهم فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا فعمدوا له فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت». وأخرج ابن جرير عن السدي قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها أسامة بن زيد إلى بني ضمرة فلقوا رجلاً منهم يدعى مرداس بن نهيك معه غنيمة له وجمل أحمر فآوى إلى كهف جبل واتبعه أسامة فلما بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه ثم أقبل عليهم فقال: السلام عليكم أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فشد عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أسامة أحب أن يثني عليه خيراً ويسأل عنه أصحابه، فلما رجعوا لم يسألهم عنه فجعل القوم يحدثون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: يا رسول الله لو رأيت أسامة وقد لقيه رجل فقال الرجل: لا إله إلا الله محمد رسول الله فشد عليه فقتله وهو معرض عنهم فلما أكثروا عليه رفع رأسه إلى أسامة فقال: كيف أنت ولا إله إلا الله؟ا فقال يا رسول الله إنما قالها متعوذاً يتعوذ بها فقال عليه الصلاة والسلام: هلا شققت عن قلبه فنظرت إليه؟ا» ثم نزلت الآية. وأخرج عن ابن زيد أنها نزلت في رجل قتله أبو الدرداء، وذكر من قصته مثل ما ذكر من قصة أسامة، والاقتصار على ذكر تحية الإسلام على هذا مع أنها كانت مقرونة بكلمة الشهادة للمبالغة في النهي والزجر، والتنبيه على كمال ظهور خطئهم ببيان أن التحية كانت كافية في المكافة والانجزار عن التعرض لصاحبها فكيف وهي مقرونة بتلك الكلمة الطيبة، واستدل بالآية وسياقها على صحة إيمان المكره وأن المجتهد قد يخطىء وإن خطأه مغتفر، وجه الدلالة على الأول أنه مع ظن القاتلين أن إسلام من ذكر لخوف القتل وهو إكراه معنى أنكر عليهم قتله فلولا صحة إسلامه لم ينكر، ووجه الدلالة على الثاني أنه أمر فيها بالتبيين المشعر بأن العجلة خطأ. ووجه الدلالة على الثالث مأخوذ من السياق وعدم الوعيد على ترك التبيين، وذهب بعضهم إلى أنه لا عذر في ترك التثبت في مثل هذه الأمور، وأن المخطىء آثم، واحتج على ذلك بما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي عن الحسن «أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهبوا يتطرقون فلقوا ناساً من العدو فحملوا عليهم فهزموهم فشد رجل منهم فتبعه رجل يريد متاعه فلما غشيه بالسنان قال: إني مسلم إني مسلم فأوجره السنان فقتله وأخذ متيعه، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام للقاتل: أقتلته بعد ما قال: إني مسلم؟ا قال: يا رسول الله إنما قالها متعوذاً قال: أفلا شققت عن قلبه؟ا قال: لم يا رسول الله؟ قال: لتعلم أصادق هو أو كاذب؟ قال: كنت عالم ذلك يا رسول الله قال عليه الصلاة والسلام: إنما كان يبين عنه لسانه إنما كان يعبر عنه لسانه، قال: فما لبث القاتل أن مات فحفر له أصحابه فأصبح وقد وضعته الأرض، ثم عادوا فحفروا له، فأصبح وقد وضعته الأرض إلى جنب قبره، قال الحسن فلا أدري كم قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: دفناه مرتين أو ثلاثاً كل ذلك لا تقبله الأرض فلما رأينا الأرض لا تقبله أخذنا برجله فألقيناه في بعض تلك الشعاب» فأنزل الله تعالى قوله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ} الآية، وفي رواية عبد الرزاق عن قتادة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الأرض أبت أن تقبله فألقوه في غار من الغيران " ووجه الدلالة في هذا على الإثم ظاهر، وأجيب بأن هذا القاتل لعله لم يفعل ذلك لكون المقتول غير مقبول الإسلام عنده بل لأمر آخر، واعتذر بما اعتذر كاذباً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد وابن المنذر والطبراني وجماعة عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال: «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحرث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود معه متيع له ووطب من لبن فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينه وبينه فقتله وأخذ متيعة فلما قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ} الخ، والظاهر أن الرجل المبهم في خبر الحسن هو هذا الرجل المصرح به في هذا الخبر، وهو يدل على أن القتل كان لشيء كان في القلب من ضغائن قديمة، وإنما قلنا: إن هذا هو الظاهر لما في خبر ابن عمر أن محلما بن جثامة لما رجع جاء النبي صلى الله عليه وسلم في بردين فجلس بين يديه عليه الصلاة والسلام ليستغفر له فقال: لا غفر الله تعالى لك، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه فما مضت ساعة حتى مات ودفنوه فلفظته الأرض فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم ولكن الله تعالى أراد أن يعظكم، ثم طرحوه بين صدفي جبل وألقوا عليه الحجارة، فإن الذي يميل القلب إليه اتحاد القصة، واعترض على القول بعدم الوعيد بأ قوله تعالى: {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} يستفاد منه الوعيد أي أنه سبحانه لم يزل ولا يزال بكل ما تعملونه من الأعمال الظاهرة والخفية وبكيفياتها، ويدخل في ذلك التثبيت وتركه دخولاً أولياً مطلع أتم اطلاع فيجازيكم بحسب ذلك إن خيراً فخير وإن شراً فشر، والجملة تعليل بطريق الاستئناف، وقرىء بفتح {ءانٍ} على أنه معمول لتبينوا أو على حذف لام التعليل.
{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)} {لاَّ يَسْتَوِى القاعدون} شروع في الحث على الجهاد ليأنفوا عن تركه وليرغبوا عما يوجب خللاً فيه، والمراد بالقاعدين الذين أذن لهم في القعود عن الجهاد اكتفاءاً بغيرهم، وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هم القاعدون عن بدر؛ وهو الظاهر الموافق للتاريخ على ما قيل، وقال أبو حمزة: إنهم المتخلفون عن تبوك، وروي أن الآية نزلت في كعب بن مالك من بني سلمة ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف والربيع وهلال بن أمية من بني واقف حين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة. {مِنَ المؤمنين} حال من القاعدين، وجوز أن يكون من الضمير المستتر فيه، وفائدة ذلك الإيذان من أول الأمر بأن القعود عن الجهاد لا يقعد بهم عن الإيمان، والإشعار بعلة استحقاقهم لما سيأتي من الحسنى أي لا يعتدل المتخلفون عن الجهاد حال كونهم كائنين من المؤمنين {غَيْرُ أُوْلِى الضرر} بالرفع على أنه صفة للقاعدون وهو إن كان معرفة، و{غَيْرِ} لا تتعرف في مثل هذا الموضع لكنه غير مقصود منه قاعدون بعينهم بل الجنس، فأشبه الجنس فصح وصفه بها، وزعم عصام الدين إن {غَيْرِ} هنا معرفة، و{غَيْرُ أُوْلِى الضرر} بمعنى لا ضرر له. ونقل عن الرضي وبه ضعف ما تقدم أن المعرف باللام المبهم وإن كان في حكم النكرة لكنه لا يوصف بما توصف به النكرة، بل يتعين أن تكون صفته جملة فعلية فعلها مضارع كما في قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني *** فأصد ثم أقول ما يعنيني واستحسن بعضهم جعله بدلاً من {القاعدون} لأن أل فيه موصولة، والمعروف إرادة الجنس في المعرف بالألف واللام، وبينهما فرق، وجوز الزجاج الرفع على الاستثناء، وتبعه الواحدي فيه، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب على أنه حال، وهو نكرة لا معرفة، أو على الاستثناء ظهر إعراب ما بعده عليه، وقرىء بالجر على أنه صفة للمؤمنين، أو بدل منه وكون النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة أكثري لاكلي، والضرر المرض والعلل التي لا سبيل معها إلى الجهاد، وفي معناها أو هو داخل فيها العجز عن الأهبة، وقد نزلت الآية وليس فيها {غَيْرُ أُوْلِى الضرر} ثم نزل بعد، فقد روى مالك عن الزهري عن خارجة بن زيد قال: قال زيد بن ثابت: «كنت أكتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في كتف لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون وابن أم مكتوم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد أنزل الله تعالى في فضل الجهاد ما أنزل وأنا رجل ضرير فهل لي من رخصة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أدري قال زيد: وقلمي رطب ما جف حتى غشي النبي صلى الله عليه وسلم الوحي ووقع فخذه على فخذي حتى كادت تدق من ثقل الوحي، ثم جلى عنه، فقال لي: أكتب يا زيد {غَيْرُ أُوْلِى الضرر}». {والمجاهدون فِى سَبِيلِ الله} في منهاج دينه {بأموالهم} إنفاقاً فيما يوهن كيد الأعداء {وَأَنفُسِهِمْ} حملاً لها على الكفاح عند اللقاء، وكلا الجارين متعلق بالمجاهدون وأوردوا بهذا العنوان دون عنوان الخروج المقابل لوصف المعطوف عليه، وقيده بما قيده مدحاً لهم وإشعاراً بعلة استحقاقهم لعلو المرتبة مع ما فيه من حسن موقع السبيل في مقابلة القعود كما قيل، وقيل: إنما أوردوا بعنوان الجهاد إشعاراً بأن القعود كان عنه ولكن ترك التصريح به هناك رعاية لهم في الجملة، وقدم ( القاعدون) على المجاهدين ولم يؤخر عنهم ليتصل التصريح بتفضيلهم بهم، وقيل: للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبىء عنه عدم الاستواء من جهة القاعدين لا من جهة مقابليهم، فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصاناً وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد، لكن المتبادر اعتباره بحسب قصور القاصر، وعليه قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات والنور} (الرعد؛ 16) إلى غير ذلك، وأما قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] فلعل تقديم الفاضل فيه لأن صلته ملكة لصلة المفضول. وأنت تعلم أنه لا تزاحم في النكات وأنه قد يكون في شيء واحد جهة تقديم وجهة تأخير، فتعتبر هذه تارة وتلك أخرى، وإنما قدم سبحانه وتعالى هنا ذكر الأموال على الأنفس وعكس في قوله عز شأنه: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم} [التوبة: 111] لأن النفس أشرف من المال فقدم المشتري النفس تنبيهاً على أن الرغبة فيها أشد وأخر البائع تنبيهاً على أن المماكسة فيها أشد فلا يرضى ببذلها إلا في فائدة. وعلى ذلك النمط جاء أيضاً قوله تعالى: {فَضَّلَ الله المجاهدين} في سبيله {بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القاعدين} من المؤمنين غير أولي الضرر {دَرَجَةً} لا يقادر قدرها ولا يبلغ كنهها، وهذا تصريح بما أفهمه نفي المساواة فإنه يستلزم التفضيل إلى أنه لم يكتف بما فهم اعتناءاً به وليتمكن أشدّ تمكن، ولكون الجملة مبينة وموضحة لما تقدم لم تعطف عليه، وجوز أن تكون جواب سؤال ينساقه إليه المقال كأنه قيل: كيف وقع ذلك التفضيل؟ فقيل: فضل الله الخ، واللام كما أشرنا إليه في الجمعين للعهد ولا يأباه كون مدخولها وصفاً كما قيل إذ كثيراً ما ترد أل فيه للتعريف كما صرح به النحاة، و( درجة) منصوب على المصدر لتضمنها التفضيل لأنها المنزلة والمرتبة وهي تكون في الترقي والفضل، فوقعت موقع المصدر كأنه قيل: فضلهم تفضيلة، وذلك مثل قولهم: ضربته سوطاً أي ضربة، وقيل: على الحال أي ذوي درجة، وقيل: على التمييز، وقيل: على تقدير حذف الجار أي بدرجة، وقيل: هو واقع موقع الظرف أي في درجة ومنزلة، وقوله تعالى: {وَكُلاًّ} مفعول أول لما يعقبه قدم عليه لإفادة القصر تأكيداً للوعد، وتنوينه عوض عن المضاف إليه أي كل واحد من الفريقين المجاهدين والقاعدين {وَعَدَ الله} المثوبة {الحسنى} وهي الجنة كما قال قتادة وغيره لا أحدهما فقط، وقرأ الحسن وكل بالرفع على الابتداء، فالفعول الأول وهو العائد في جملة الخبر محذوف أي وعده، وكأن التزام النصب في المتواترة لأن قبله جملة فعلية وبذلك خالف ما في الحديد و( الحسنى) على القراءتين هو المفعول الثاني، والجملة اعتراض جيء به تداركاً لما عسى يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول. وقوله سبحانه: {وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين} عطف على ما قبله، وأغنت أل عن ذكر ما ترك على سبيل التدريج من القيود، وإنما لم يعتبر التدريج في ترك ما ذكر مع القاعدين أولاً بأن يترك من المؤمنين فقط، ويذكر {غَيْرُ أُوْلِى الضرر} في الآية الأولى ويتركهما معاً في الآية الثانية، بل تركهما دفعة واحدة عند أول قصد التدريج قيل: لأن قيد {غَيْرُ أُوْلِى الضرر} كان بعد السؤال كما يشير إليه سبب النزول. وفي بعض أخباره أن ابن أم مكتوم لما نزلت الآية جعل يقول: أي رب أين عذري أي رب أين عذري؟؟ فنزل ذلك فانسدت باب الحاجة إليه، وقنع السائل بذكره مرة فأسقط مع ما معه الساقط لذلك القصد دفعة، ولا كذلك ما ذكر مع المجاهدين، فإن الإيتان به كان عن محض الفضل والامتنان من غير سابقة سؤال فلما فتحت باب الإسقاط اعتبر فيه التدريج فرقاً بين المقامين، وقوله تعالى: {أَجْراً عَظِيماً} مصدر مؤكد لفضل وهو وإن كان بمعنى أعطى الفضل وهو أعم من الأجر لأنه ما يكون في مقابلة أمر لكن أريد به هنا الأخص لأنه في مقابلة الجهاد، ويجوز أن يبقى على معناه، و{أَجْراً} مفعول به ولتضمنه معنى الإعطاء نصب المفعول أي أعطاهم زيادة على القاعدين أجراً عظيماً، وقيل: هو منصوب بنزع الخافض أي فضلهم بأجر. وجعله صفة لقوله تعالى:
{دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)} {درجات} قدم عليها فانتصب على الحال، ولكونه مصدراً في الأصل يستوي فيه الواحد وغيره جاز نعت الجمع به بعيد، وجوز في {درجات} أن يكون بدلاً من {أَجْراً} [النساء: 95] بدل الكل مبيناً لكمية التفضيل، وأن يكون حالاً أي ذوي درجات، وأن يكون واقعاً موقع الظرف أي في درجات، وقوله سبحانه: {مِنْهُ} متعلق بمحذوف وقع صفة لدرجات دالة على فخامتها وعلو شأنها، أخرج عبد بن حميد عن ابن محيرز أنه قال: هي سبعون درجة ما بين الدرجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين سنة، وأخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من رضي بالله تعالى رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد عليه الصلاة والسلام رسولاً وجبت له الجنة فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها علي يا رسول الله فأعادها عليه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: وأخرى يرفع الله تعالى بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله تعالى»، وعن السدي أنها سبعمائة، وجوز أن يكون انتصاب درجات على المصدرية كما في قولك: ضربته أسواطاً أي ضربات، كأنه قيل: فضلهم تفضيلات، وجمع القلة هنا قائم مقام جمع الكثرة، وقيل: إنه على بابه. والمراد بالدرجات ما ذكر في آية براءة {مَا كَانَ لاهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الاعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذلك} إلى قوله سبحانه: {لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120، 121] ونسب إلى عبد الله بن زيد. وقوله عز شأنه: {وَمَغْفِرَةٌ} عطف على {درجات} الواقع بدلاً من {أَجْراً} [النساء: 95] بدل الكل إلا أن هذا بدل البعض منه لأن بعض الأجر ليس من باب المغفرة، أي ومغفرة عظيمة لما يفرط منهم من الذنوب التي لا يكفرها سائر الحسنات التي يأتي بها القاعدون، (فحينئذ) تعدّ من خصائصهم، وقوله تعالى: {وَرَحْمَةً} عطف عليه أيضاً وهو بدل الكل من {أَجْراً}، وجوز أن يكون انتصابهما بفعل مقدر أي غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة. هذا ولعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبىء عن المغايرة، وتقييده تارة بدرجة وأخرى بدرجات مع اتحاد المفضل والمفضل عليه حسبما يستدعيه الظاهر إما لتنزيل الاختلاف العنواني بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتي تمهيداً لسلوك طريق الإبهام ثم التفسير روْماً لمزيد التحقيق والتقرير المؤذن بأن فضل المجاهدين بمحل لا تستطيع طير الأفكار الخضر أن تصل إليه، ولما كان هذا مما يكاد أن يتوهم منه حرمان القاعدين اعتنى سبحانه بدفع ذلك بقوله عز قائلاً: {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} [النساء: 95] ثم أراد جل شأنه تفسير ما أفاده التنكير بطريق الإبهام بحيث يقطع احتمال كونه للوحدة، فقال ما قال وسد باب الاحتمال. ولا يخفى ما في الإبهام والتفسير من اللطف، وأما ما قيل من إفراد الدرجة أولا لأن المراد هناك تفضيل كل مجاهد، والجمع ثانياً لأن المراد فيه تفضيل الجمع ففي الدرجات مقابلة الجمع بالجمع، فلكل مجاهد درجة ومآل العبارتين واحد والاختلاف تفنن، فمن الكلام الملفوظ لا من اللوح المحفوظ، وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات، وفي هذا رغب الراغب، واستطيبه الطيبي على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم الله تعالى عاجلاً في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيقي بكونه درجة واحدة، وبالتفضيل الثاني ما ادخره سبحانه لهم من الدرجات العالية والمنازل الرفيعة المتعالية عن الحصر كما ينبىء عنه تقديم الأول وتأخير الثاني وتوسيط الوعد بالجنة بينهما، كأنه قيل: فضلهم عليهم في الدنيا درجة واحدة، وفي الأخرى درجات لا تحصى، وقد وسط بينهما في الذكر ما هو متوسط بينهما في الوجود أعني الوعد بالجنة توضيحاً لحالهما ومسارعة إلى تسلية المفضول كذا قرره الفاضل مولانا شيخ الإسلام، وقيل: المراد من التفضيل الأول رضوان الله تعالى ونعيمه الروحاني، ومن التفضيل الثاني نعيم الجنة المحسوس، وفيه أن عطف المغفرة والرحمة يبعد هذا التخصيص، وقيل: المراد من المجاهدين الأولين من جاهد الكفار، ومن المجاهدين الآخرين من جاهد نفسه، وزيد لهم في الأجر لمزيد فضلهم كما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» وفيه أن السياق وسبب النزول يأبيان ذلك، والحديث الذي ذكره لا أصل له كما قال المحدثون. وقيل المراد من القاعدين في الأول الأضراء، وفي الثاني غيرهم كما قال ابن جريج، وأخرج عنه ابن جرير، وفيه من تفكيك النظم ما لا يخفى. بقي أن الآية لا تدل نصاً على حكم أولي الضرر بناءاً على التفسير المقبول عندنا، نعم في بعض الأحاديث ما يؤذن بمساواتهم للمجاهدين، فقد صح من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة قال: «إن في المدينة لأقواماً ما سرتم من سير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر» وعليه دلالة مفهوم الصفة والاستثناء في {غَيْرُ أُوْلِى الضرر} [النساء: 95]، وعن الزجاج أنه قال: إلا أولوا الضرر فإنهم يساوون المجاهدين، وعن بعضهم إن هذه المساواة مشروطة بشريطة أخرى غير الضرر قد ذكرت في قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى} إلى قوله سبحانه: {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (التوبة؛ 91) والذي يشهد له النقل والعقل أن الأضراء أفضل من غيرهم درجة كما أنهم دون المجاهدين في الدرجة الدنيوية، وأما إنهم مساوون لهم في الدرجة الأخروية فلا قطع به، والآية على ما قاله ابن جريج تدل على أنهم دونهم في ذلك أيضاً. وقد أخرج ابن المنذر من طريق ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن ابن أم مكتوم كان بعد نزول الآية يغزو، ويقول: ادفعوا إليَّ اللواء وأقيموني بين الصفين فإني لن أفر، وأخرج ابن منصور عن أنس بن مالك أنه قال: لقد رأيت ابن أم مكتوم بعد ذلك في بعض مشاهد المسلمين ومعه اللواء، ويعلم من نفي المساواة في صدر الآية المستلزم للتفضيل المصرح به بعد بين المجاهد بالمال والنفس والقاعد نفيها بين المجاهد بأحدهما والقاعد؛ واحتمال أن يراد من الآية نفي المساواة بين القاعد عن الجهاد بالمال والمجاهد به وبين القاعد عن الجهاد بالنفس والمجاهد بها بأن يكون المراد بالمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم المجاهدين فيه بأموالهم، والمجاهدين فيه بأنفسهم وبالقاعدين أيضاً قسمي القاعد، ويكون المراد نفي المساواة بين كل قسم من القاعد ومقابله بعيد جداً، واحتج بها كمال قال ابن الغرس: من فضل الغنى على الفقر بناءاً على أنه سبحانه فضل المجاهد بماله على المجاهد بغير ماله، ولا شك أن الدرجة الزائدة من الفضل للمجاهد بماله إنما هي من جهة المال، واستدلوا بها أيضاً على تفضيل المجاهد بمال نفسه على المجاهد بمال يعطاه من الديوان ونحوه {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} تذييل مقرر لما وعد سبحانه من قبل.
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)} {إِنَّ الذين توفاهم الملئكة} بيان لحال القاعدين عن الهجرة إثر بيان القاعدين عن الجهاد، أو بيان لحال القاعدين عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه من المنافقين عقب بيان حال القاعدين من المؤمنين، و{توفاهم} يحتمل أن يكون ماضياً، وتركت علامة التأنيث للفصل ولأن الفاعل غير مؤنث حقيقي، ويحتمل أن يكون مضارعاً، وأصله تتوفاهم فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً، وهو لحكاية الحال الماضية، ويؤيد الأول قراءة من قرأ ( توفتهم)، والثاني قراءة إبراهيم {توفاهم} بضم التاء على أنه مضارع وفيت بمعنى أن الله تعالى يوفي الملائكة أنفسهم، فيتوفونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها، وإلى ذلك أشار ابن جني، والمراد من التوفي قبض الروح، وهو الظاهر الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنه. وعن الحسن أن المراد به الحشر إلى النار، والمراد من الملائكة ملك الموت وأعوانه، وهم كما في «البحر» ستة: ثلاثة لأرواح المؤمنين، وثلاثة لأرواح الكافرين، وعن الجمهور أن المراد بهم ملك الموت فقط وهو من إطلاق الجمع مراداً به الواحد تفخيماً له وتعظيماً لشأنه، ولا يخفى أن إطلاق الجمع على الواحد لا يخلو عن بعد، والتحقيق أنه لا مانع من نسبة التوفي إلى الله تعالى وإلى ملك الموت وإلى أعوانه، والوجه في ذلك أن الله تعالى هو الآمر بل هو الفاعل الحقيقي، والأعوان هم المزاولون لإخراج الروح من نحو العروق والشرايين والعصب، والقاطعون لتعلقها بذلك، والملك هو القابض المباشر لأخذها بعد تهيئتها، وفي القرآن {الله يَتَوَفَّى الانفس} (الزمر؛ 42) و{يتوفاكم مَّلَكُ الموت الذى وُكّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] و{تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] ومثله {توفاهم الملئكة}. {ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} بترك الهجرة واختيار مجاورة الكفار الموجبة للإخلال بأمور الدين، أو بنفاقهم وتقاعدهم عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعانتهم الكفرة، فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس «أنه كان قوم بمكة قد أسلموا فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهوا أن يهاجروا وخافوا فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية». وأخرج ابن جرير عن الضحاك «إن هؤلاء أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فلم يخرجوا معه إلى المدينة وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر فأصيبوا فيمن أصيب فأنزل الله فيهم هذه الآية» وروي عن عكرمة أن الآية نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة والحرث بن زمعة بن الأسود وقيس بن الوليد بن المغيرة وأبي العاص بن منبه بن الحجاج، وعلي بن أمية بن خلف كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر مع المشركين من قريش فقتلوا هناك كفاراً، ورواه أبو الجارود عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه، و{ظَالِمِى} منصوب على الحالية من ضمير المفعول في {توفاهم} وإضافته لفظية فلا تفيده تعريفاً، والأصل ظالمين أنفسهم. {قَالُواْ} أي الملائكة عليهم السلام للمتوفين توبيخاً لهم بتقصيرهم في إظهار إسلامهم وإقامة أحكامه وشعائره أو قالوا تقريعاً لهم وتوبيخاً بما كانوا فيه من مساعدة الكفرة وتكثير سوادهم وانتظامهم في عسكرهم وتقاعدهم عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم {فِيمَ كُنتُمْ} أي في أي شيء كنتم من أمور دينكم وحذفت ألف ما الاستفهامية المجرورة وفاءاً بالقاعدة، وتكتب متصلة تنزيلاً لها مع ما قبلها منزلة الكلمة الواحدة، ولهذا تكتب إلى وعلى وحتى في إلام وعلام وحتى م بالألف ما لم يوقف على م بالهاء، ولكن السؤال كما علمت طابقه الجواب بقوله تعالى: {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الارض} وإلا فالظاهر في الجواب كنا في كذا، أو لم نكن في شيء، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية سؤال الملائكة كأنه قيل: فماذا قال أولئك المتوفون في الجواب؟ فقيل: قالوا في جوابهم: كنا مستضعفين في أرض مكة بين ظهراني المشركين الأقرباء. والمراد أنهم اعتذروا عن تقصيرهم في إظهار الإسلام وإدخالهم الخلل فيه بالاستضعاف والعجز عن القيام بمواجب الدين بين أهل مكة فلذا قعدوا وناموا، أو تعللوا عن الخروج معهم؛ والانتظام في ذلك الجمع المكسر بأنهم كانوا مقهورين تحت أيديهم، وأنهم فعلوا ذلك كارهين، وعلى التقديرين لم تقبل الملائكة ذلك منهم كما يشير إليه قوله سبحانه: {قَالُواْ} أي الملائكة {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا} أي إن عذركم عن ذلك التقصير بحلولكم بين أهل تلك الأرض أبرد من الزمهرير إذ يمكنكم حل عقدة هذا الأمر الذي أخل بدينكم بالرحيل إلى قطر آخر من الأرض تقدرون فيه على إقامة أمور الدين كما فعل من هاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، أو إن تعللكم عن الخروج مع أعداء الله تعالى لما يغيظ رسوله صلى الله عليه وسلم بأنكم مقهورون بين أولئك الأقوام غير مقبول لأنكم بسبيل من الخلاص عن قهرهم متمكنون من المهاجرة عن مجاورتهم والخروج من تحت أيديهم. {فَأُوْلَئِكَ} الذي شرحت حالهم الفظيعة {مَأْوَاهُمُ} أي مسكنهم في الآخرة {جَهَنَّمَ} لتركهم الفريضة المحتومة، فقد كانت الهجرة واجبة في صدر الإسلام، وعن السدي كان يقول: من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر، والأصح الأول أو لنفاقهم وكفرهم ونصرتهم أعداء الله تعالى على سيد أحبائه عليه الصلاة والسلام، وعدم التقييد بالتأييد ليس نصاً في العصيان بما دون الكفر، وإنما النص التقييد بعدمه، واسم الإشارة مبتدأ أول، و{مَأْوَاهُمُ} مبتدأ ثان، و{جَهَنَّمَ} خبر الثاني وهما خبر الأول، والرابط الضمير المجرور، والمجموع خبر إن، والفاء لتضمن اسمها معنى الشرط، وقوله سبحانه: {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} في موضع الحال من الملائكة، وقد معه مقدرة في المشهور، وجعله حالاً من الضمير المفعول بتقدير قد أولا، ولهم آخراً بعيد، أو هو الخبر والعائد فيه محذوف أي لهم، والجملة المصدرة بالفاء معطوفة عليه مستنتجة منه ومما في (خبره)، ولا يصح جعل شيء من {قَالُواْ} الثاني، والثالث خبراً لأنه جواب، ومراجعة فمن قال: لو جعل {قَالُواْ}: الثاني خبراً لم يحتج إلى تقدير عائد فقد وهم، وقيل: الخبر محذوف تقديره هلكوا ونحوه، و{تهاجروا} منصوب في جواب الاستفهام وقوله تعالى: {الشراب وَسَاءتْ} من باب بئس أي بئست {مَصِيراً} والمخصوص بالذم مقدر أي مصيرهم أو جهنم. واستدل بعضهم بالآية على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه، وهو مذهب الإمام مالك، ونقل ابن العربي وجوب الهجرة من البلاد الوبيئة أيضاً، وفي «كتاب الناسخ والمنسوخ» أنها كانت فرضاً في صدر الإسلام فنسخت وبقي ندبها، وأخرج الثعلبي من حديث الحسن مرسلاً " من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم " وقد قدمنا لك ما ينفعك هنا فتذكر.
{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)} {إِلاَّ المستضعفين} استثناء منقطع (لأن الموصول وضمائره)، والإشارة إليه بأولئك لمن توفته الملائكة ظالماً لنفسه، فلم يندرج فيهم المستضعفون المذكورون، وقيل: إنه متصل والمستثنى منه {فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [النساء: 97] وليس بشيء أي إلا الذين عجزوا عن الهجرة وضعفوا {مِنَ الرجال} كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام والوليد بن الوليد {والنساء} كأم الفضل لبابة بنت الحرث أم عبد الله بن عباس وغيرها {والولدان} كعبد الله المذكور وغيره رضي الله تعالى عنهم، والجار حال من المستضعفين، أو من الضمير المستتر فيه أي كائنين من هؤلاء، وذكر الولدان للقصد إلى المبالغة في وجوب الهجرة والأمر بها حتى كأنها مما كلف بها الصغار، أو يقال: إن تكليفهم عبارة عن تكليف أوليائهم بإخراجهم من ديار الكفر، وأن المراد بهم المراهقون، أو من قرب عهده بالصغر مجازاً كما مر في اليتامى أو أن المراد التسوية بين هؤلاء في عدم الإثم والتكليف، أو أن العجز ينبغي أن يكون كعجز الولدان، أو المراد بهم العبيد والإماء. {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} أي لا يجدون أسباب الهجرة ومباديها {وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} أي ولا يعرفون طريق الموضع المهاجر إليه بأنفسهم أو بدليل، والجملة صفة لما بعد (من)، أو للمستضعفين لأن المراد به الجنس سواء كانت أل موصولة أو حرف تعريف وهو في المعنى كالنكرة، أو حال منه، أو من الضمير المستتر فيه، وجوز أن تكون مستأنفة مبينة لمعنى الاستضعاف المراد هنا
{فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)} {فَأُوْلَئِكَ} أي المستضعفون {عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} فيه إيذان بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى أن المضطر الذي تحقق عدم وجوبها عليه ينبغي أن يعد تركها ذنباً، ولا يأمن، ويترصد الفرصة ويعلق قلبه بها. {وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً} تذييل مقرر لما قبله بأتم وجه.
|