الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***
{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)} {الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه} يحتمل النصب والرفع، والأول إما على الاتباع أو القطع أي أذمّ والثاني إما على الثاني من احتمالي الأول أو على الابتداء، والخبر جملة {أولئك هُمُ الخاسرون} وعلى هذا تكون الجملة كأنها كلام مستأنف لا تعلق لها إلا على بعد. والنقض فسخ التركيب، وأصله يكون في الحبل ونقيضه الإبرام وفي الحائط ونحوه، ونقيضه البناء. وشاع استعمال النقض في إبطال العهد كما قال الزمخشري من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار ثم يرمزوا بذكر شيء من روادفه فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه نحو قولك: عالم يغترف منه الناس، وشجاع يفترس أقرانه. والحاصل أن في الآية استعارة بالكناية، والنقض استعارة تحقيقية تصريحية حيث شبه إبطال العهد بإبطال تأليف الجسم، وأطلق اسم المشبه به على المشبه لكنها إنما جازت وحسنت بعد اعتبار تشبيه العهد بالحبل، فبهذا الاعتبار صارت قرينة على استعارة الحبل للعهد، ومن هنا يظهر أن الاستعارة المكنية قد توجد بدون التخييلية وأن قرينتها قد تكون تحقيقية، وتحقيق البحث يطلب من محله، والعهد الموثق، وعهد إليه في كذا إذا أوصاه ووثقه عليه، واستعهد منه إذا اشترط عليه، واستوثق منه. والمراد بالعهد ههنا إما العهد المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عباده تعالى الدالة على وجوده ووحدته وصدق رسله صلى الله عليه وسلم، وفي نقضها لهم ما لا يخفى من الذمّ لأنهم نقضوا ما أبرمه الله تعالى من الأدلة التي كررها عليهم في الأنفس والآفاق وبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنزل الكتب مؤكداً لها، والناقضون على هذا جميع الكفار. وأما المأخوذ من جهة الرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره. وذكره في الكتب المتقدمة ولم يخالفوا حكمه. والناقضون حينئذٍ أهل الكتاب والمنافقون منهم حيث نبذوا كل ذلك وراء ظهورهم وبدلوا تبديلاً، والنقض على هذا عند بعضهم أشنع منه على الأول، وعكس بعض ولكل وجهة وقيل: الأمانة التي حملها الإنسان بعد إباء السموات والأرض عن أن يحملنها، وقيل: هو ما أخذ على بني إسرائيل من أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، إلى غير ذلك من الأقوال وهي مبنية على الاختلاف في سبب النزول والظاهر العموم. و{مِنْ} للابتداء وكون المجرور بها موضعاً انفصل عنه الشيء وخرج، وتدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل، وفيه إرشاد إلى عدم اكتراثهم بالعهد فأثر ما استوثق الله تعالى منهم نقضوه وقيل: صلة وهو بعيد، والميثاق مفعال وهو في الصفات كثير كمنحار ويكون مصدراً عند أبي البقاء والزمخشري كميعاد بمعنى الوعد، وأنكره جماعة وقالوا: هو اسم في موضع المصدر كما في قوله: أكفراً بعد رد الموت عني *** وبعد (عطاءك) المائة الرتاعا ويكون اسم آلة كمحراث ولم يشع هذا وليس بالبعيد، والمراد به ما وثق الله تعالى به عهده من الآيات والكتب، أو ما وثقوه به من القبول والالتزام، والضمير للعهد لأنه المحدث عنه. ويجوز عوده إلى الله تعالى ولم يجوزه الساليكوتي لأن المعنى لا يتم بدون اعتبار العهد فهو أهم من ذكر الفاعل، ولأن الرجوع إلى المضاف خلاف الأصل، وأفهم كلام أبي البقاء أن الميثاق هنا مصدر بمعنى التوثقة، وفي الضمير الاحتمالان فإن عاد إلى اسم الله تعالى كان المصدر مضافاً إلى الفاعل، وإن إلى العهد كان مضافاً إلى المفعول. وحديث الرجوع إلى المضاف خصه بعض المحققين في غير الإضافة اللفظية، وأما فيها فمطرد كثير، وما نحن فيه كذلك لأنه مصدر أو مؤل بمشتق فيكون كقولك أعجبني ضرب زيد وهو قائم، والوجه أنها في نية الانفصال. {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} {مَا} المقطوعة موصولة، أو نكرة موصوفة عند أبي البقاء، وفي المراد بها أقوال: الأول: رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعوه بالتكذيب والعصيان قاله الحسن وفيه استعمال (ما) لمن يعقل بل سيد العقلاء بل العقل والثاني: القول فإنه تعالى أمر أن يوصل بالعمل فلم يصلوه ولم يعملوا، وظاهر أنها نزلت في المنافقين الثالث: التصديق بالأنبياء أمروا بوصله فقطعوه بتكذيب بعض وتصديق بعض الرابع: الرحم والقرابة قاله قتادة، وظاهره أنه أراد كفار قريش وأشباههم الخامس: الأمر الشامل لما ذكر مما يوجب قطعه قطع الوصلة بين الله تعالى وبين العبد المقصودة بالذات من كل وصل وفصل، ولعل هذا هو الأوجه لأن فيه حمل اللفظ على مدلوله من العموم ولا دليل واضح على الخصوص. ورجح بعضهم ما قبله بأن الظاهر أن هذا توصيف للفاسقين بأنهم يضيعون حق الخلق بعد وصفهم بتضييع حق الحق سبحانه، وتضييع حقه بنقض عهده وحق خلقه بتقطيع أرحامهم وليس بالقوي. والأمر القول الطالب للفعل مع علو عند المعتزلة أو استعلاء عند أبي الحسين، ويفسدهما ظاهر قوله تعالى حكاية عن فرعون: {مَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 0 11] ويطلق على التكلم بالصيغة وعلى نفسها، وفي موجبها خلاف، وهذا هو الأمر الطلبي. وقد نقل إلى الأمر الذي يصدر عن الشخص لأنه يصدر عن داعية تشبه الأمر فكأنه مأمور به أو لأنه من شأنه أن يؤمر به كما سمي الخطب والحال العظيمة شأناً. وهو مصدر في الأصل بمعنى القصد وسمي به ذلك لأن من شأنه أن يقصد. وذهب الفقهاء إلى أن الأمر مشترك بين القول والفعل لأنه يطلق عليه مثل {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 79]. و{أَن يُوصَلَ} يحتمل النصب والخفض على أنه بدل من {مَا} أو من ضميره، والثاني: أولى للقرب ولأن قطع ما أمر الله تعالى بوصله أبلغ من قطع وصل ما أمر الله تعالى به نفسه، واحتمال الرفع بتقدير هو أو النصب بالبدلية من محل المجرور أو بنزع الخافض أو أنه مفعول لأجله أي لأن أو كراهية أن ليس بشيء كما لا يخفى. {وَيُفْسِدُونَ فِي الارض أولئك هُمُ الخاسرون} إفسادهم باستدعائهم إلى الكفر والترغيب فيه وحمل الناس عليه أو بإخافتهم السبل وقطعهم الطرق على من يريد الهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أو بأنهم يرتكبون كل معية يتعدى ضررها ويطير في الآفاق شررها ولعل هذا أولى. وذكر في (الأرض) إشارة إلى أن المراد فساد يتعدى دون ما يقف عليهم. و{أولئك} إشارة إلى {الفاسقين} [البقرة: 26] باعتبار ما فصل من صفاتهم القبيحة، وفيه رمز إلى أنهم في المرتبة البعيدة من الذم وحصر الخاسرين عليهم باعتبار كمالهم في الخسران حيث أهملوا العقل عن النظر ولم يقنصوا المعرفة المفيدة للحياة الأبدية والمسرة السرمدية، واشتروا النقض بالوفاء، والفساد بالصلاح، والقطيعة بالصلة، والثواب بالعقاب فضاع منهم الطلبتان رأس المال والربح وحصل لهم الضرر الجسيم وهذا هو الخسران العظيم. وفي الآية ترشيح للاستعارة المقدرة التي تتضمنها الآيات السابقة فافهم.
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)} {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} التفات إلى خطاب أولئك بعد أن عدد قبائحهم المستدعية لمزيد سخطه تعالى عليهم والإنكار إذا وجه إلى المخاطب كان أبلغ من توجيهه إلى الغائب وأردع له لجواز أن لا يصله. و{كَيْفَ} اسم إما ظرف وعزي إلى سيبويه فمحلها نصب دائماً، أو غير ظرف وعزي إلا الأخفش فمحلها رفع مع المبتدأ، ونصب مع غيره، وادعى ابن مالك أن أحداً لم يقل بظرفيتها إذ ليست زماناً ولا مكاناً لكن لكونها تفسر بقولك على أي حال أطلق اسم الظرف عليها مجازاً، واستحسنه ابن هشام ودخول الجر عليها شاذ. وأكثر ما تستعمل استفهاماً والشرط بها قليل والجزم غير مسموع، وأجازه قياساً الكوفيون وقطرب، والبدل منها أو الجواب إذا كانت مع فعل مستغن منصوب ومع ما لا يستغني مرفوع إن كان مبتدأ ومنصوب إن كان ناسخاً. وزعم ابن موهب أنها تأتي عاطفة وليس بشيء، وهي هنا للاستخبار منضماً إليه الإنكار والتعجيب لكفرهم بإنكار الحال الذي له مزيد اختصاص بها وهي العلم بالصانع والجهل به، ألا يرى أنه ينقسم باعتبارهما فيقال: كافر معاند وكافر جاهل؟ فالمعنى أفي حال العلم تكفرون أم في حال الجهل وأنتم عالمون بهذه القصة؟ وهو يستلزم العلم بصانع موصوف بصفات منزه عن النقصان، وهو صارف قوي عن الكفر، وصدور الفعل عن القادر مع الصارف القوي مظنة تعجيب وتوبيخ، وفيه إيذان بأن كفرهم عن عناد وهو أبلغ في الذم. وفيه من المبالغة أيضاً ما ليس في (أتكفرون) لأن الإنكار الذي هو نفي قد توجه للحال التي لا تنفك، ويلزم من نفيها نفي صاحبها بطريق البرهان، وإن شئت عممت الحال. وإنكار أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها مع أن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال يستدعي إنكار وجود الكفر بذلك الطريق، ولا يرد أن الاستخبار محال على اللطيف الخبير عز شأنه لأنه إما أن يكون بمعنى طلب الخبر فلا نسلم المحالية إذ قد يكون لتنبيه المخاطب وتوبيخه ولا يقتضي جهل المستخبر ولا يلزم من ضم الإنكار والتعجيب إليه وهما من المعاني المجازية للاستفهام الجمع بين الحقيقة والمجاز إن كان الاستخبار حقيقة للصيغة، وبين معنيين مجازيين إن كان مجازاً لأن الانفهام بطريق الاستتباع واللزوم لا من حاق الوسط، أو أنه تجوّز على تجوّز لشهرة الاستفهام في معنى الاستخبار حتى كأنه حقيقة فيه، وإما أن يكون بمعنى الاستفهام فنقول: لا قدح في صدوره ممن يعلم المستفهم عنه لأنه كما في «الاتقان» طلب الفهم. أما فهم المستفهم وهو محال عليه تعالى أو وقوع فهمه ممن لا يفهم كائناً من كان ولا استحالة فيه منه تعالى، وكذا لا استحالة في وقوع التعجيب منه تعالى بل قالوا: إذا ورد التعجب من الله جل وعلا لم يلزم محذور إذ يصرف إلى المخاطب أو يراد غايته أو يرجع إلى مذهب السلف، وأتى سبحانه بتكفرون ولم يأت بالماضي وإن كان الكفر قد وقع منهم لأن الذي أنكر الدوام والمضارع هو المشعر به ولئلا يكون في الكلام توبيخ لمن وقع منه الكفر ممن آمن كأكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم. {وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ما قبل {ثُمَّ} حال من ضمير {تَكْفُرُونِ} بتقدير قد لا محالة خلافاً لمن وهم فيه. والمعنى: كيف تكفرون وقد خلقكم، فعبر عن الخلق بذلك، ولما كان مركوزاً في الطباع ومخلوقاً في العقول أن لا خالق إلى الله كانت حالا تقتضي أن لا تجامع الكفر، والجمل بعد مستأنفة لا تعلق لها بالحال ولذا غايرت ما قبلها بالحرف والصيغة، ولك أن تجعل جميع الجمل مندرجة في الحال وهو في الحقيقة العلم بالقصة كأنه قيل: كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة وبأولها وآخرها، فلا يضر اشتمالها على ماض ومستقبل، وكلاهما لا يصح أن يقع حالا، ورجح هذا جمع محققون، والحياة قوة تتبع الاعتدال النوعي ويفيض منها سائر القوى، وقيل: القوة الحساسة والعضو المفلوج حي وإلا لتسارع إليه الفساد، وعدم الاحساس بالفعل لا يدل على عدم القوة لجواز فقدان الأثر لمانع. وكأنهم أرادوا من ذلك قوة اللمس لأن مغايرة الحياة لما عداه من الحواس ظاهرة فإنها مختصة بعضو دون عضو، وأنها مفقودة في بعض أنواع الحيوانات، وأنه يلزم تعدد الحياة بالنوع في شخص واحد إن قيل بكون الحياة كل واحد منها. وتركبها في الخارج إن أريد مجموعها، وتطلق مجازاً على القوة النامية لأنها من طلائعها ومقدماتها، وعلى ما يخص الإنسان من الفضائل كالعقل والعلم والإيمان من حيث إنها كمالها وغايتها، والموت مقابل لها في كل مرتبة والكل في كتاب الله تعالى وحياته سبحانه وتعالى صحة اتصافه جل شأنه بالعلم والقدرة أو معنى قائم بذاته تعالى يقتضي ذلك، وأين التراب من رب الأرباب. ثم إن للناس في المراد بما في الآية الكريمة أقوالاً شتى، والمروى عن ابن عباس، وابن مسعود، ومجاهد رضي الله تعالى عنهم أن المراد بالموت الأول العدم السابق، والاحياء الأول الخلق والموت الثاني المعهود في الدار الدنيا، والحياة الثانية البعث للقيامة، واختاره بعض المحققين وادعى أن قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أمواتا} وإسناده آخر الاماتة إليه تعالى مما يقويه، واختار آخرون أن كونهم أمواتاً هو من وقت استقرارهم نطفاً في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها، وأن الحياة الأولى نفخ الروح بعد تلك الأطوار، والاماتة هي المعهودة والاحياء بعدها هو البعث يوم ينفخ في الصور ولعله أقرب من الأول، وإطلاق الأموات على تلك الأجسام مجاز إن فسر الموت بعدم الحياة عمن اتصف به، وحقيقة إن فسر بعدم الحياة عما من شأنه، قاله الساليكوتي، ويفهم كلام بعضهم: أنه على معنى كالأموات على التفسير الثاني وإن فسر بعدم الحياة مطلقاً كان حقيقة وهو المشهور وأبعد الأقوال عندي حمل الموت الأول على المعهود بعد انقضاء الأجل، والإحياء الأول على ما يكون للمسألة في القبر فيكون قد وضع الماضي موضع المستقبل لتحقق الوقوع، ثم لا دليل في الآية على المختار لنفي عذاب القبر إذ نهاية ما فيها عدم ذكر الإحياء المصحح له، ونحن لا نستدل لها بذلك الوجه عليه ولنا والحمد لله تعالى في ذلك المطلب أدلة شتى، وكذا لا دليل للمجسمة القائلين بأنه تعالى في مكان في {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} لأن المراد بالرجوع إليه الجمع في المحشر حيث لا يتولى الحكم سواه والأمر يومئذ لله، ووراء هذا من المقال مالا يخفى على العارفين، وفي قوله تعالى: {تُرْجَعُونَ} على البناء للمفعول دون يرجعكم المناسب للسياق مراعاة لتناسب رؤوس الآي مع وجود التناسب المعنوي للسباق، ولهذا قيل إن قراءة الجمهور أفصح من قراءة يعقوب ومجاهد، وجماعة {تُرْجَعُونَ} مبنياً للفاعل، ولا يرد أن الآية إذا كانت خطاباً للكفار ومعنى العلم ملاحظ فيها امتنع خطابهم بما بعد ثم وثم من الفعلين لأنهم لا يعلمون ذلك لأن تمكنهم من العلم لوضوح الأدلة آفاقية وأنفسية وسطوع أنوارها عقلية ونقلية منزل منزل العلم في إزاحة العذر، وبهذا يندفع أيضاً ما قيل: هم شاكون في نسبة ما تقدم إليه تعالى فكيف يتأتى ذلك الخطاب به، ويحتمل كما قيل: أن يكون الخطاب في الآية للمؤمن والكافر فإنه سبحانه لما بين دلائل التوحيد أيضاً من قوله سبحانه: {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} إلى {فَلاَ تَجْعَلُواْ} [البقرة: 1 2، 22] ودلائل النبوة من {وَإِن كُنتُمْ} إلى {إِن كُنتُمْ} [البقرة: 3 2] وأوعد بـ {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} [البقرة: 4 2] الآية، ووعد بـ {وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ} [البقرة: 5 2] الخ أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامة من قوله: {وَكُنتُمْ أمواتا} إلى {هُمْ فِيهَا خالدون} [البقرة: 8 2 9 3] والخاصة من {مَعِىَ بَنِى إسراءيل} إلى {مَا نَنسَخْ} [البقرة: 0 4 106] واستقبح صدور الكفر مع تلك النعم منهم توبيخاً للكافر وتقريراً للمؤمن وعد الإماتة نعمة لأنها وصلة إلى الحياة الأبدية واجتماع المحب بالحبيب، وقد يقال: إن المعدود عليهم كذلك هو المعنى المنتزع من القصة بأسرها. ومن الاشارة قول ابن عطاء {وَكُنتُمْ أمواتا} بالظاهر {فأحياكم} بمكاشفة الأسرار {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عن أوصاف العبودية {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بأوصاف الربوبية، وقال فارس: {وَكُنتُمْ أمواتا} بشواهدكم {فأحياكم} بشواهده {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عن شاهدكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بقيام الحق {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} عن جميع ما لكم فتكونون له.
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)} {هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً} معطوف على قوله تعالى: {وَكُنتُمْ} [البقرة: 28] وترك الحرف إما لكونه كالنتيجة له أو للتنبيه على الاستقلال في إفادة ما أفاده، وذكر أنه بيان نعمة أخرى مترتبة على الأولى، وأريد بترتبها أن الانتفاع بها يتوقف عليها فإن النعمة إنما تسمى نعمة من حيث الانتفاع بها، و{هُوَ} لغير المتكلم والمخاطب، وفيه لغات: تخفيف الواو مفتوحة؛ وحذفها في الشعر، وتشديدها لهمدان، وتسكينها لأسد وقيس، و{هُوَ} عند أهل الله تعالى اسم من أسمائه تعالى ينبىء عن كنه حقيقته المخصوصة المبرأة عن جميع جهات الكثرة، و{هُوَ} اسم مركب من حرفين الهاء والواو، والهاء أصل، والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع فليس في الحقيقة إلا حرف واحد دال على الواحد الفرد الذي لا موجود سواه وكل شيء هالك إلا وجهه، ولمزيد ما فيه من الأسرار اتخذه الأجلة مداراً لذكرهم وسراجاً لسرهم، وهو جار مع الأنفاس، ومسماه غائب عن الحدس والقياس، وفي {جَعَلَ} الضمير مبتدأ والموصول خبراً من الدلالة على الجلالة ما لا يخفى، وتقديم الظرف على المفعول الصريح لتعجيل المسرة واللام للتعليل والانتفاع أي: خلق لأجلكم جميع ما في الأرض لتنتفعوا به في أمور دنياكم بالذات أو بالواسطة وفي أمور دينكم بالاستدلال والاعتبار. واستدل كثير من أهل النسة الحنفية والشافعية بالآية على إباحة الأشياء النافعة قبل ورود الشرع، وعليه أكثر المعتزلة، واختاره الإمام في «المحصول»، والبيضاوي في «المنهاج2. واعترض بأن اللام تجيء لغير النفع ك {إنٍ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] وأجيب بأنها مجاز لاتفاق أئمة اللغة على أنها للملك ومعناه الاختصاص النافع، وبأن المراد النفع بالاستدلال، وأجيب بأن التخصيص خلاف الظاهر مع أن ذلك حاصل لكل مكلف من نفسه فيحمل على غيره، وذهب قوم إلى أن الأصل في الأشياء قبل الحظر، وقال قوم بالوقف لتتعارض الأدلة عندهم، واستدلت الإباحية بالآية على مدعاهم قائلين إنها تدل على أن ما في الأرض جميعاً خلق للكل فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلا، ويرده أنها تدل على أن الكل للكل، ولا ينافي اختصاص البعض بالبعض لموجب، فهناك شبه التوزيع، والتعيين يستفاد من دليل منفصل، ولا يلزم اختصاص كل شخص بشيء واحد كما ظنه الساليكوتي، و{مَا} تعم جميع ما في الأرض لأنفسها إذ لا يكون الشيء ظرفاً لنفسه إلا أن يراد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو ويكفي في التحدر العرش المحيط، أو تجعل الجهة اعتبارية، نعم قيل: تعم كل جزء من أجزاء الأرض فإنه من جملة ضروراتها ما فيها ضرورة وجود الجزء في الكل والمغايرة اعتبارية والقول: بأن الكلام على تقدير معطوف أي خلق ما في الأرض والأرض لا أرضي به، وبعضهم لم يتكلف شيئاً من ذلك، واستغنى بتقدم الامتنان بالأرض في قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الارض فِرَاشاً} [البقرة: 22] و{جَمِيعاً} حال مؤكدة من كلمة {مَا} ولا دلالة لها كما ذكره البعض على الاجتماع الزماني وهذا بخلاف معاً، وجعله حالا من ضمير {لَكُمْ} يضعفه السياق لأنه لتعداد النعم دون المنعم عليه مع أن مقام الامتنان يناسبه المبالغة في كثرة النعم، ولاعتبار المبالغة لم يجعلوه حالاً من الأرض أيضاً. {ثُمَّ استوى إِلَى السماء} أي علا إليها وارتفع من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحديد قاله الربيع أو قصد إليها بإرادته قصداً سوياً بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من قولهم: استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء قاله الفراء وقيل: استولى وملك كما في قوله: فلما (علونا واستوينا عليهم) *** تركناهم صرعى لنسر وكاسر وهو خلاف الظاهر لاقتضائه كون {إلى} بمعنى على، وأيضاً الاستيلاء مؤخر عن وجود المستولي عليه فيحتاج إلى القول بأن المراد استولى على إيجاد السماء فلا يقتضي تقدم الوجود، ولا يخفى ما فيه. والمراد بالسماء الاجرام العلوية أو جهة العلو. وثم قيل: للتراخي في الوقت، وقيل: لتفاوت ما بين الخلقين، وفضل خلق السماء على خلق الأرض، والناس مختلفون في خلق السماء وما فيها، والأرض وما فيها باعتبار التقدم والتأخر لتعارض الظواهر في ذلك، فذهب بعض إلى تقدم خلق السموات لقوله تعالى: {أَمِ السماء بناها رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضحاها والارض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا ومرعاها والجبال أرساها} [النازعات: 7 2 2 3] وذهب آخرون إلى تقدم خلق الأرض لقوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الارض فِى يَوْمَيْنِ} إلى قوله سبحانه: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وبارك فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات فِى يَوْمَيْنِ وأوحى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا} [فصلت: 9 2 1] وجمع بعضهم فقال: إن {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا} [النازعات: 31] بدل أو عطف بيان لدحاها أي بسطها مبين للمراد منه فيكون تأخرها ليس بمعنى تأخر ذاتها بل بمعنى تأخر خلق ما فيها وتكميله وترتيبه بل خلق التمتع والانتفاع به فإن البعدية كما تكون باعتبار نفس الشيء تكون باعتبار جزئه الأخير. وقيده المذكور كما لو قلت: بعثت إليك رسولاً ثم كنت بعثت فلاناً لينظر ما يبلغه فبعث الثاني، وإن تقدم لكن ما بعث لأجله متأخر فجعل نفسه متأخراً. وما رواه الحاكم والبيهقي بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في التوفيق بين الآيتين يشير إلى هذا، ولا يعارضه ما رواه ابن جرير وغيره وصححوه عنه أيضاً «إن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض فقال: خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والإثنين، وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، فهذه أربعة فقال تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ} إلى {سَوَاء لّلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9 0 1] وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة» لجواز أن يحمل على أنه خلق مادة ذلك وأصوله إذ لا يتصور المدائن والعمران والخراب قبل، فعطفه عليه قرينة لذلك، واستشكال الإمام الرازي تأخر التدحية عن خلق السماء بأن الأرض جسم عظيم فامتنع انفكاك خلقها عن التدحية فإذا كانت التدحية متأخرة كان خلقها أيضاً متأخراً مبني كما قيل: على الغفلة لأن من يقول بتأخر دحوها عن خلقها لا يقول بعظمها ابتداء بل يقول: إنها في أول الخلق كانت كهيئة الفهر ثم دحيت، فيتحقق الانفكاك ويصح تأخر دحوها عن خلقها، وقوله قدس سره: إن خلق الأشياء في الأرض لا يمكن إلا إذا كانت مدحوة لا يخفى دفعه بناء على أن المراد بذلك خلق المواد والأصول لا خلق الأشياء فيها كما هو اليوم. وقال بعض المحققين: اختلف المفسرون في أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض أو مؤخر؟ نقل الإمام الواحدي عن مقاتل الأول واختاره المحققون ولم يختلفوا في أن جميع ما في الأرض مما ترى مؤخر عن خلق السموات السبع بل اتفقوا عليه، فحينئذ يجعل الخلق في الآية الكريمة بمعنى التقدير لا الإيجاد أو مبعناه ويقدر الإرادة ويكون المعنى أراد خلق ما في الأرض جميعاً لكم على حد {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6] و{إِذَا وَإِذَا قَرَأْتَ} [الإسراء: 5 4] ولا يخالفه {والارض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} [النازعات: 0 3] فإن المتقدم على خلق السماء إنما هو تقدير الأرض وجميع ما فيها، أو إرادة إيجادها والمتأخر عن خلق السماء إيجاد الأرض وجميع ما فيها فلا إشكال، وأما قوله سبحانه وتعالى: {خَلَقَ الارض فِى يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] فعلى تقدير الإرادة، والمعنى أراد خلق الأرض، وكذا {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} [فصلت: 10] ينبغي أن يكون بمعنى أراد أن يجعل، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] فإن الظاهر أن المراد ائتيا في الوجود، ولو كانت الأرض موجودة سابقة لما صح هذا فكأنه سبحانه قال: أئنكم لتكفرون بالذي أراد إيجاد الأرض وما فيها من الرواسي والأقوات في أربعة أيام ثم قصد إلى السماء فتعلقت إرادته بإيجاد السماء والأرض فأطاعا بأمر التكوين فأوجد سبع سموات في يومين وأوجد الأرض وما فيها في أربعة أيام. بقي هاهنا: بيان النكتة في تغيير الأسلوب حيث قدم في الظاهر هاهنا وفي {حم} السجدة خلق الأرض وما فيها على خلق السموات وعكس في النازعات ولعل ذلك لأن المقام في الأولين مقام الامتنان فمقتضاه تقديم ما هو نعمة نظراً إلى المخاطبين فكأنه قال سبحانه وتعالى: هو الذي دبر أمركم قبل خلق السماء قم خلق السماء، والمقام في الثالثة مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل على كمالها، هذا والذي يفهم من بعض عبارات القوم قدس الله تعالى أسرارهم أن المحدد ويقال له سماء أيضاً مخلوق قبل الأرض وما فيها، وأن الأرض نفسها خلقت بعد، ثم بعد خلقها خلقت السموات السبع، ثم بعد السبع خلق ما في الأرض من معادن ونبات، ثم ظهر عالم الحيوان، ثم عالم الإنسان، فمعنى {خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض} حينئذ قدره أو أراد إيجاده أو أوجد مواذه، ومعنى {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} [فصلت: 10] الخ في الآية الأخرى على نحو هذا، وخلق الأرض فيها على ظاهره ولا يأباه قوله سبحانه: {فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائتيا} [فصلت: 11] الخ لجواز حمله على معنى ائتيا بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وإبراز ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة، أو إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة أو ليأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما، وبعد هذا كله لا يخلو البحث من صعوبة، ولا زال الناس يستصعبونه من عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى الآن، ولنا فيه إن شاء الله تعالى عودة بعد عودة، ونسأل الله تعالى التوفيق. {الله سَبْعَ سماوات} الضمير للسماء إن فسرت بالأجرام، وجاز أن يرجع إليها بناء على أنها جمع أو مؤلة به، وإلا فمبهم يفسره ما بعده على حد نعم رجلا وفيه من التفخيم والتشويق والتمكين في النفس ما لا يخفى، وفي نصب {سَبْعَ} خمسة أوجه: البدل من المبهم، أو العائد إلى السماء، أو مفعول به أي سوى منهن، أو حال مقدرة، أو تمييز، أو مفعول ثان لسوى بناء على أنها بمعنى صير ولم يثبت والبدلية أرجع لعدم الاشتقاق وبعدها الحالية كما في «البحر» وأريد بسواهن أتمهن وقومهن وخلقهن ابتداء مصونات عن العوج والفطور لا أنه سبحانه وتعالى سواهن بعد أن لم يكن كذلك فهو على حد قولهم: ضيق فم البئر ووسع الدار، وفي مقارنة التسوية والاستواء حسن لا يخفى لا يقال إن أرباب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك، وهل هي إلا سموات؟ لأنا نقول هم شاكون إلى الآن في النقصان والزيادة فإن ما وجدوه من الحركات يمكن ضبطها بثمانية وسبعة بل بواحد، وبعضهم أثبتوا بين فلك الثوابت والأطلس كرة لضبط الميل الكلي، وقال بعض محققيهم: لم يتبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة أو كرات منطوية بعضها على بعض، وأطال الإمام الرازي الكلام في ذلك وأجاد، على أنه إن صح ما شاع فليس في الآية ما يدل على نفي الزوائد بناء على ما اختاره الإمام من أن مفهوم العدد ليس بحجة، وكلام البيضاوي في «تفسيره» يشير إليه خلافاً لما في «منهاجه» الموافق لما عليه الإمام الشافعي ونقله عنه الغزالي في «المنخول»، وذكر الساليكوتي أن الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد والخلاف في ذلك مشهور وإذا قلنا بكروية العرش والكرسي لم يبق كلام. {وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} تذييل مقرر لما قبله من خلق السموات والأرض وما فيها على هذا النمط العجيب والأسلوب الغريب {مَّا ترى فِى خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3، 4] وفي {عَلِيمٌ} من المبالغة ما ليس في عالم وليس ذلك راجعاً إلى نفس الصفة لأن علمه تعالى واحد لا تكثر فيه لكن لما تعلق بالكلي والجزئي والموجود والمعدوم والمتناهي وغير المتناهي وصف نفسه سبحانه بما دل على المبالغة والشيء هنا عام باق على عمومه لا تخصيص فيه بوجه خلافاً لمن ضل عن سواء السبيل، والجار والمجرور متعلق بعليم وإنما تعدى بالباء مع أنه من علم وهو متعد بنفسه، والتقوية تكون باللام لأن أمثلة المبالغة كما قالوا: خالفت أفعالها لأنها أشبهت أفعل التفضيل لما فيها من الدلالة على الزيادة فأعطيت حكمه في التعدية وهو أنه إن كان فعله متعدياً فإن أفهم علماً أو جهلاً تعدى بالباء كأعلم به وأجهل به، وعليم به وجهول به وأعلم من يضل على التأويل وإلا تعدى باللام كاضرب لزيد و{فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] وإلا تعدى بما يتعدى به فعله كاصبر على النار، وصبور على كذا ولعل ذلك أغلبي إذ يقال رحيم به فافهم.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّي جَاعِلٌ فِى الارض خَلِيفَةً} لما امتن سبحانه على من تقدم بما تقدم أتبع ذلك بنعمة عامة وكرامة تامة والإحسان إلى الأصل إحسان إلى الفرع والولد سر أبيه و( إذ) ظرف زمان للماضي مبني لشبهه بالحرف وضعا وافتقاراً ويكون ما بعدها جملة فعلية أو اسمية، ويستفاد الزمان منها بأن يكون ثاني جزأيها فعلاً أو يكون مضمونها مشهوراً بالوقوع في الزمان المعين، وإذا دخلت على المضارع قلبته إلى الماضي، وهي ملازمة للظرفية إلا أن يضاف إليها زمان، وفي وقوعها مفعولاً به أو حرف تعليل أو مفاجاة أو ظرف مكان أو زائدة خلاف، وفي «البحر» إنها لا تقع، وإذا استفيد شيء من ذلك فمن المقام، واختلف المعربون فيها هنا فقيل: زائدة وبمعنى قد، وفي موضع رفع أي ابتداء خلقكم إذ وفي موضع نصب بمقدر أي ابتداء خلقكم أو أحياكم إذ ويعتبر وقتاً ممتداً لا حين القول، ويقال: بعدها ومعمول لخلقكم المتقدم والواو زائدة والفصل بما يكاد أن يكون سورة، ومتعلق باذكر ويكفي في صحة الظرفية ظرفية المفعول كرميت الصيد في الحرم وهذه عدة أقوال بعضها غير صحيح والبعض فيه تكلف، فاللائق أن تجعل منصوبة بقالوا الآتي وبينهما تناسب ظاهر والجملة بما فيها عطف على ما قبلها عطف القصة على القصة كذا قيل، وأنت تعلم أن المشهور القول الأخير ولعله الأولى فتدبر، ولا يخفي لطف الرب هنا مضافاً إلى ضميره صلى الله عليه وسلم بطريق الخطاب وكان في تنويعه والخروج من عامه إلى خاصه رمزاً إلى أن المقبل عليه بالخطاب له الحظ الأعظم والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها فهو صلى الله عليه وسلم على الحقيقة الخليفة الأعظم في الخليقة والإمام المقدم في الأرض والسموات العلى، ولولاه ما خلق آدم بل ولا ولا ولله تعالى در سيدي ابن الفارض حيث يقول عن لسان الحقيقة المحمدية: وإني وإن كنت ابن آدم صورة *** فلي فيه معنى شاهد بأبوتي واللام الجارة للتبليغ، والملائكة جمع ملئك على وزن شمائل وشمأل وهو مقلوب مالك صفة مشبهة عند الكسائي، وهو مختار الجمهور من الألوكة وهي الرسالة، فهم رسل إلى الناس وكالرسل إليهم، وقيل: لا قلب فابن كيسان إلى أنه فعال من الملك بزيادة الهمزة لأنه مالك ما جعله الله تعالى إليه أو لقوته فإن (م لـ ك) يدور مع القوة والشدة يقال: ملكت العجين شددت عجنه، وهو اشتقاق بعيد، وفعال قليل، وأبو عبيدة إلى أنه مفعل من لاك إذا أرسل مصدر ميمي بمعنى المفعول؛ أو اسم مكان على المبالغة، وهو اشتقاق بعيد أيضاً، ولم يشتهر لاك، وكثر في الاستعمال الكني إليه أي كن لي رسولا ولم يجىء سوى هذه الصيغة فاعتبره مهموز العين، وإن أصله ألاكني، وبعض جعله أجوف من لاك يلوك، والتاء لتأنيث الجمع، وقيل: للمبالغة ولم يجعل لتأنيث اللفظ كالظلمة لاعتبارهم التأنيث المعنوي في كل جمع حيث قالوا: كل جمع مؤنث بتأويل الجماعة وقد ورد بعير تاء في قوله: أبا خالد صلت عليك الملائك واختلف الناس في حقيقتها بعد اتفاقهم على أنها موجودة سمعاً أو عقلاً، فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام نورانية، وقيل: هوائية قادرة على التشكل والظهور بأشكال مختلفة بإذن الله تعالى، وقالت النصارى: إنها الأنفس الناطقة المفارقة لأبدانها الصافية الخيرة، والخبيثة عندهم شياطين، وقال عبدة الأوثان: إنها هذه الكواكب السعد منها ملائكة الرحمة، والنحس ملائكة العذاب. والفلاسفة يقولون: إنها جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة، وصرح بعضهم بأنها العقول العشرة والنفوس الفلكية التي تحرك الأفلاك، وهي عندنا منقسمة إلى قسمين. قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق والتنزه عن الاشتغال بغيره {يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 0 2]، وهم العليون والملائكة المقربون. وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم {لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] وهم {المدبرات أمْراً} [النازعات: 5] فمنهم سماوية ومنهم أرضية، ولا يعلم عددهم إلى الله. وفي الخبر «أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع» وهم مختلفون في الهيآت متفاوتون في العظم، لا يراهم على ما هم عليه إلا أرباب النفوس القدسية. وقد يظهرون بأبدان يشترك في رؤيتها الخاص والعام وهم على ما هم عليه، حتي قيل: إن جبريل عليه السلام في وقت ظهوره في صورة دحية الكلبي بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يفارق سدرة المنتهى، ومثله يقع للكمل من الأولياء، وهذا ما وراء طور العقل وأنا به من المؤمنين وقد ذكر أهل الله قدس الله تعالى أسرارهم أن أول مظهر للحق جل شأنه العما، ولما انصبغ بالنور فتح فيه صور الملائكة المهيمين الذين هم فوق عالم الأجساد الطبيعية ولا عرش ولا مخلوق تقدمهم. فلما أوجدهم تجلى لهم باسمه الجميل فهاموا في جلال جماله، فهم لا يفيقون، فلما شاء أن يخلق عالم التدوين والتسطير عين واحداً من هؤلاء وهو أول ملك ظهر عن ملائكة ذلك النور سماه العقل والقلم، وتجلى في مجلى التعليم الوهبي بما يريد إيجاده من خلقه لا إلى غاية، فقبل بذاته علم ما يكون، وما للحق من الأسماء الإلهية الطالبة صدور هذا العالم الخلقي، فاشتق من هذا العقل ما سماه اللوح، وأمر القلم أن يتدلى إليه ويودع فيه ما يكون إلى يوم القيامة لا غير. فجعل لهذا العلم ثلثمائة وستين سناً من كونه قلما، ومن كونه عقلاً ثلثمائة وستين تجلياً أو رقيقة كل سن أو رقيقة تفترق من ثلثمائة وستين صنفاً من العلوم الإجمالية فيفصلها في اللوح، وأول علم حصل فيه علم الطبيعة فكانت دون النفس، وهذا كله في عالم النور الخالص، ثم أوجد سبحانه الظلمة المحضة التي هي في مقابلة هذا النور بمنزلة العدم المطلق المقابل للوجود المطلق فأفاض عليها النور إفاضة ذاتية بمساعدة الطبيعة، فلأم شعثها ذلك النور فظهر العرش، فاستوى عليه اسم الرحمن بالاسم الظاهر فهو أول ما ظهر من عالم الخلق، وخلق من ذلك النور الممتزج الملائكة الحافين، وليس لهم شغل إلا كونهم حافين من حول العرش يسبحون بحمد ثم أوجد الكرسي في جوف هذا العرش، وجعل فيه ملائكة من جنس طبيعته، فكل فلك أصل لما خلق فيه من عماره، كالعناصر فيما خلق فيها من عمارها، وقسم في هذا الكرسي الكلمة إلى خبر وحكم، وهما القدمان اللتان تدلتا له من العرش كما ورد في الخبر. ثم خلق في جوف الكرسي الأفلاك فلكا في جوف فلك، وخلق في كل فلك عالماً منه يعمرونه، وزينها بالكواكب {وأوحى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا} [فصلت: 2 1] إلى أن خلق صور المولدات، وتجلى لكل صنف منها بحسب ما هي عليه، فتكون من ذلك أرواح الصور وأمرها بتدبيرها وجعلها غير منقسمة بل ذاتاً واحدة، وميز بعضها عن بعض فتميزت وكان تمييزها بحسب قبول الصور من ذلك التجلي، وهذه الصور في الحقيقة كالمظاهر لتلك الأرواح، ثم أحدث سبحانه الصور الجسدية الخيالية بتجل آخر، وجعل لكل من الأرواح والصور غذاء يناسبه، ولا يزال الحق سبحانه يخلق من أنفاس العالم ملائكة ما داموا متنفسين، وسبحان من يقول للشيء كن فيكون. إذا علمت ذلك فاعلم أنهم اختلفوا في الملائكة المقول لهم، فقيل: كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص، فشمل المهيمين وغيرهم، وقيل: ملائكة الأرض بقرينة أن الكلام في خلافة الأرض، وقيل: إبليس ومن كان معه في محاربة الجن الذين أسكنوا الأرض دهراً طويلاً ففسدوا فبعث الله تعالى عليهم جنداً من الملائكة يقال لهم الجن أيضاً وهم خزان الجنة اشتق لهم اسم منها فطردوهم إلى شعوب الجبال والجزائر. والذي عليه السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم، أنهم ما عدا العالمين ممن كان مودعا شيئاً من أسماء الله تعالى وصفاته، وأن العالمين غير داخلين في الخطاب ولا مأمورين بالسجود لاستغراقهم وعدم شعورهم بسوى الذات، وقوله تعالى: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 57] يشير إلى ذلك عندهم، وجعلوا من أولئك الملك المسمى بالروح وبالقلم الأعلى وبالعقل الأول وهو المرآة لذاته تعالى، فلا يظهر بذاته إلا في هذا الملك، وظهوره في جميع المخلوقات إنما هو بصفاته فهو قطب العالم الدنيوي والأخروي وقطب أهل الجنة والنار وأهل الكثيب والأعراف، وما من شيء إلا ولهذا الملك فيه وجه يدور ذلك المخلوق على وجهه فهو قطبه، وهو قد كان عالماً بخلق آدم ورتبته، فإنه الذي سطر في اللوح ما كان وما يكون، واللوح قد علم علم ذوق ما خطه القلم فيه، وقد ظهر هذا الملك بكماله في الحقيقة المحمدية كما يشير إليه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 2 5] ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أفضل خلق الله تعالى على الإطلاق، بل هو الخليفة على الحقيقة في السبع الطباق، وليس هذا بالبعيد فليفهم. وجاعل اسم فاعل من الجعل بمعنى التصيير فيتعدى لاثنين، والأول: هنا خليفة، والثاني: {فِى الارض} أو بمعنى الخلق فيتعدى لواحد، فـ {فِى الارض} متعلق بخليفة، وقدم للتشويق وعمل الوصف لأنه بمعنى الاستقبال ومعتمد على مسند إليه، ورجح في «البحر» كونه بمعنى الخلق لما في المقابل، ويلزم على كونه بمعنى التصيير ذكر خليفة أو تقديره فيه. والمراد من الأرض إما كلها وهو الظاهر، وبه قال الجمهور، أو أرض مكة، وروي هذا مرفوعاً والظاهر أنه لم يصح، وإلا لم يعدل عنه، وخص سبحانه الأرض لأنها من عالم التغيير والاستحالات، فيظهر بحكم الخلافة فيها حكم جميع الأسماء الإلهية التي طلب الحق ظهوره بها بخلاف العالم الأعلى؛ والخليفة من يخلف غيره وينوب عنه، والهاء للمبالغة، ولهذا يطلق على المذكر، والمشهور أن المراد به آدم عليه السلام وهو الموافق للرواية ولإفراد اللفط ولما في السياق، ونسبة سفك الدم والفساد إليه حينئذٍ بطريق التسبب أو المراد بمن يفسد الخ من فيه قوة ذلك، ومعنى كونه خليفة أنه خليفة الله تعالى في أرضه، وكذا كل نبي استخلفهم في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به تعالى، ولكن لقصور المستخلف عليه لما أنه في غاية الكدورة والظلمة الجسمانية، وذاته تعالى في غاية التقدس، والمناسبة شرط في قبول الفيض على ما جرت به العادة الإلهية فلا بد من متوسط ذي جهتي تجرد وتعلق ليستفيض من جهة ويفيض بأخرى. وقيل: هو وذريته عليه السلام، ويؤيده ظاهر قول الملائكة، فإلزامهم حينئذٍ بإظهار فضل آدم عليهم لكونه الأصل المستتبع من عداه، وهذا كما يستغني بذكر أبي القبيلة عنهم، إلا أن ذكر الأب بالعلم وما هنا بالوصف، ومعنى كونهم خلفاء أنهم يخلفون من قبلهم من الجن بني الجان أو من إبليس ومن معه من الملائكة المبعوثين لحرب أولئك على ما نطقت به الآثار، أو أنه يخلف بعضهم بعضاً، وعند أهل الله تعالى المراد بالخليفة آدم وهو عليه السلام خليفة الله تعالى وأبو الخلفاء والمجلي له سبحانه وتعالى، والجامع لصفتي جماله وجلاله، ولهذا جمعت له اليدان وكلتاهما يمين، وليس في الموجودات من وسع الحق سواه، ومن هنا قال الخليفة الأعظم صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق آدم على صورته أو على صورة الرحمن» وبه جمعت الأضداد وكملت النشأة وظهر الحق، ولم تزل تلك الخلافة في الإنسان الكامل إلى قيام الساعة وساعة القيام، بل متى فارق هذا الإنسان العالم مات العالم لأنه الروح الذي به قوامه، فهو العماد المعنوي للسماء، والدار الدنيا جارحة من جوارح جسد العالم الذي الإنسان روحه. ولما كان هذا الاسم الجامع قابل الحضرتين بذاته صحت له الخلافة وتدبير العالم والله سبحانه الفعال لما يريد، ولا فاعل على الحقيقة سواه وفي المقام ضيق، والمنكرون كثيرون ولا مستعان إلا بالله عز وجل. وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة تعليم المشاورة لأن هذه المعاملة تشبهها أو تعظيم شأن المجعول وإظهار فضله ويحتمل أنه سبحانه أراد بذلك تعريف آدم عليه السلام لهم ليعرفوا قدره لأنه باطن عن الصورة الكونية بما عنده من الصورة الإلهية وما يعرفه لبطونه من الملأ الأعلى إلا اللوح والقلم، وكان هذا القول على ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره في دولة السنبلة بعد مضي سبعة عشر ألف سنة من عمر الدنيا ومن عمر الآخرة التي لا نهاية له في الدوام ثمانية آلاف سنة، ومن عمر العالم الطبيعي المقيد بالزمان المحصور بالمكان إحدى وسبعون ألف سنة من السنين المعروفة الحاصلة أيامها من دورة الفلك الأول وهو يوم وخمسا يوم من أيام ذي المعارج ولله تعالى الأمر من قبل ومن بعد، وقرأ زيد بن علي (خليقة) بالقاف والمعنى واضح. {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء} استكشاف عن الحكمة الخفية وعما يزيل الشبهة وليس استفهاماً عن نفس الجعل والاستخلاف لأنهم قد علموه قبل، فالمسؤول عنه هو الجعل ولكن لا باعتبار ذاته بل باعتبار حكمته ومزيل شبهته، أو تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها، أو يستخلف مكان أهل الفساد مثلهم أو مكان أهل الطاعة أهل المعصية، وقيل استفهام محض حذف فيه المعادل أي: أتجعل فيها من يفسد أم تجعل من لا يفسد وجعله بعضهم من الجملة الحالية أي: أتجعل فيها كذا ونحن نسبح بحمدك أم نتغير واختار ذلك شيخنا علاء الدين الموصلي روح الله تعالى روحه، والأدب يسكتني عنه، وعلى كل تقدير ليست الهمزة للإنكار كما زعمته الحشوية مستدلين بالآية على عدم عصمة الملائكة لاعتراضهم على الله تعالى وطعنهم في بني آدم، ومن العجيب أن مولانا الشعراني وهو من أكابر أهل السنة بل من مشايخ أهل الله تعالى نقل عن شيخه الخواص أنه خص العصمة بملائكة السماء معللاً له بأنهم عقول مجردة بلا منازع ولا شهوة، وقال: إن الملائكة الأرضية غير معصومين ولذلك وقع إبليس فيما وقع إذ كان من ملائكة الأرض الساكنين بجبل الياقوت بالمشرق عند خط الاستواء فعليه لا يبعد الاعتراض ممن كان في الأرض والعياذ بالله تعالى، ويستأنس له بما ورد في بعض الأخبار أن القائلين كانوا عشرة آلاف نزلت عليهم نار فأحرقتهم، وعندي أن ذلك غير صحيح، وقيل: إن القائل إبليس وقد كان إذ ذاك معدوداً في عداد الملائكة ويكون نسبة القول إليهم على حد بنو فلان قتلوا فلاناً والقاتل واحد منهم، والوجه ما قررنا وتكرار الظرف للدلالة على الإفراط في الفساد ولم يكرره بعد للاكتفاء مع ما في التكرار مما لا يخفى. والسفك الصب والإراقة ولا يستعمل إلا في الدم أو فيه وفي الدمع والعطف من عطف الخاص على العام للإشارة إلى عظم هذه المعصية لأنه بها تتلاشى الهياكل الجسمانية، والدماء جمع دم لامه ياء أو واو وقصره وتضعيفه مسموعان، وأصله فعل أو فعل، والمراد بها المحرمة بقرينة المقام، وقيل: الاستغراق فيتضمن جميع أنواعها من المحظور وغيره والمقصود عدم تمييزه بينها، وقرأ ابن أبي عبلة يسفك بضم الفاء، ويسفك من أسفك وبالتضعيف من سفك، وقرأ ابن هرمز بنصب الكاف وخرج على النصب في جواب الاستفهام، وقرىء على البناء للمجهول، والراجع إلى من حينئذٍ سواء جعل موصولاً أو موصوفاً محذوف أي فيهم وحكم الملائكة بالإفساد والسفك على الإنسان بناءً على بعض هاتيك الوجوه ليس من ادعاء علم الغيب أو الحكم بالظن والتخمين ولكن بإخبار من الله تعالى ولم يقص علينا فيما حكي عنهم اكتفاءً بدلالة الجواب عليه للإيجاز كما هو عادة القرآن، ويؤيد ذلك ما روي في بعض الآثار أنه لما قال الله تعالى ذلك قالوا: وما يكون من ذلك الخليفة؟ قال: تكون له ذرية يفسدون في الأرض ويقتل بعضهم بعضاً فعند ذلك قالوا: ربنا {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء} وقيل: عرفوا ذلك من اللوح ويبعده عدم علم الجواب، ويحتاج الجواب إلى تكلف، وقيل: عرفوه استنباطاً عما ركز في عقولهم من عدم عصمة غيرهم المفضي إلى العلم بصدور المعصية عمن عداهم المفضي إلى التنازع والتشاجر إذ من لا يرحم نفسه لا يرحم غيره، وذلك يفضي إلى الفساد وسفك الدماء، وقيل: قياساً لأحد الثقلين على الآخر بجامع اشتراكهما في عدم العصمة ولا يخفى ما في القولين، ويحتمل أنهم علموا ذلك من تسميته خليفة لأن الخلافة تقتضي الإصلاح وقهر المستخلف عليه وهو يستلزم أن يصدر منه فساد إما في ذاته بمقتضى الشهوة أو في غيره من السفك أو لأنها مجلي الجلال كما أنها مجلي الجمال، ولكل آثار، والإفساد والسفك من آثار الجلال وسكتوا عن آثار الجمال إذ لا غرابة فيها وهم على كل تقدير ما قدروا الله تعالى حق قدره ولا يخل ذلك بهم ففوق كل ذي علم عليم. {وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ} حال من ضمير الفاعل في {أَتَجْعَلُ} وفيها تقرير لجهة الإشكال، والمعنى تستخلف من ذكر ونحن المعصومون وليس المقصود إلا الاستفسار عن المرجح لا العجب والتفاخر حتى يضر بعصمتهم كما زعمت الحشوية، ولزوم الضمير، وترك الواو في الجملة الاسمية إذا وقعت حالاً مؤكدة غير مسلم كما في «شرح التسهيل» وصيغة المضارع للاستمرار، وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للاختصاص. ومن الغريب جعل الجملة استفهامية حذف منها الأداة، وكذا المعادل والتسبيح في الأصل مطلق التبعيد، والمراد به تبعيد الله تعالى عن السوء وهو متعد بنفسه ويعدى باللام إشعاراً بأن إيقاع الفعل لأجل الله تعالى وخالصاً لوجهه سبحانه فالمفعول المقدر ههنا يمكن أن يكون باللام على وفق قرينه، وأن يكون بدونه كما هو أصله، و{بِحَمْدِكَ} في موضع الحال والباء لاستدامة الصحبة والمعية، وإضافة الحمد إما إلى الفاعل والمراد لازمه مجازاً من التوفيق والهداية، أو إلى المفعول أي متلبسين بحمدنا لك على ما وفقتنا لتسبيحك، وفي ذلك نفي ما يوهمه الإسناد من العجب، وقيل: المراد به تسبيح خاص وهو سبحان ذي الملك والملكوت سبحانه ذي العظمة والجبروت سبحان الحي الذي لا يموت ويعرف هذا بتسبيح الملائكة، أو سبحان الله وبحمده وفي حديث عن عبادة بن الصامت عن أبي ذر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله تعالى لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده " أي وبحمده نسبح، والتقديس في المشهور كالتسبيح معنى، واحتاجوا لدفع التكرار إلى أن أحدهما باعتبار الطاعات والآخر باعتبار الاعتقادات، وقيل: التسبيح تنزيهه تعالى عما لا يليق به، والتقديس تنزيهه في ذاته عما لا يراه لائقاً بنفسه فهو أبلغ ويشهد له أنه حيث جمع بينهما آخر نحو سبوح قدوس ويحتمل أن يكون بمعنى التطهير، والمراد نسبحك ونطهر أنفسنا من الأدناس أو أفعالنا من المعاصي فلا نفعل فعلهم من الإفساد والسفك أو نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك، ولام {لَكَ} إما للعلة متعلق بنقدس والحمل على التنازع مما فيه تنازع أو معدية للفعل كما في سجدت لله تعالى أو للبيان كما في سفهاً لك فمتعلقها حينئذٍ خبر مبتدأ محذوف أو زائدة والمفعول هو المجرور، ثم الظاهر أن قائل هذه الجملة هو قائل الجملة الأولى، وأغرب الشيخ صفي الدين الخزرجي في كتابه «فك الأزرار» فجعل القائل مختلفاً، وبين ذلك بأن الملائكة كانوا حين ورود الخطاب عليهم مجملين وكان إبليس مندرجاً في جملتهم فورد الجواب منهم مجملاً، فلما انفصل إبليس عن جملتهم بإبائه انفصل الجواب إلى نوعين، فنوع الاعتراض منه، ونوع التسبيح والتقديس ممن عداه، فانقسم الجواب إلى قسمين كانقسام الجنس إلى جنسين، وناسب كل جواب من ظهر عنه، فالكلام شبيه بقوله تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ} [البقرة: 135] وهو تأويل لا تفسير. {قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي أعلم من الحكم في ذلك ما أنتم بمعزل عنه، وقيل: أراد بذلك علمه بمعصية إبليس وطاعة آدم، وقيل: بأنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء وصالحون، وقيل: الأحسن أن يفسر هذا المبهم بما أخبر به تعالى عنه بقوله سبحانه: {إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والارض} [البقرة: 33] ويفهم من كلام القوم قدس الله تعالى أسرارهم، أن المراد من الآية بيان الحكمة في الخلافة على أدق وجه وأكمله، فكأنه قال جل شأنه أريد الظهور بأسمائي وصفاتي ولم يكمل ذلك بخلقكم فإني أعلم ما لا تعلمونه لقصور استعدادكم ونقصان قابليتكم، فلا تصلحون لظهور جميع الأسماء والصفات فيكم، فلا تتم بكم معرفتي ولا يظهر عليكم كنزي، فلا بد من إظهار من تم استعداده، وكملت قابليته ليكون مجلي لي ومرآة لأسمائي وصفاتي ومظهراً للمتقابلات فيّ، ومظهراً لما خفي عندي، وبي يسمع وبي يبصر وبي وبي، وبعد ذاك يرق الزجاج والخمر، وإلى الله عز شأنه يرجع الأمر. و{أَعْلَمُ} فعل مضارع، واحتمال أنه أفعل تفضيل مما لا ينبغي أن يخرج عليه كتاب الله سبحانه كما لا يخفى.
{وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)} {وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسماء كُلَّهَا} عطف على {قَالَ} [البقرة: 0 3]، وفيه تحقيق لمضمون ما تقدم، وظاهر الابتداء بحكاية التعليم يدل على أن ما مر من المقاولة إنما جرت بعد خلقه عليه السلام بمحضر منه بأن قيل إثر نفخ الروح فيه: إن جاعل إياه خليفة، فقيل ما قيل، وقيل: إنه معطوف على محذوف، أي فخلق وعلم، أو فخلقه وسواه ونفخ فيه الروح وعلم، أو فجعل في الأرض خليفة وعلم، وإبراز اسمه عليه السلام للتنصيص عليه والتنويه بذكره. وآدم صرح الجواليقي وكثيرون أنه عربي ووزنه أفعل من الأدمة بضم فسكون السمرة وياما أحيلاها في بعض، وفسرها أناس بالبياض أو الأدمة بفتحتين الأسوة والقدوة أو من أديم الأرض ما ظهر منها. وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه غير واحد، أنه تعالى قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها، فخلق منها آدم، فلذلك تأتي بنوه أخيافاً، أو من الأدم أو الأدمة، الموافقة والألفة، وأصله أأدم بهمزتين فأبدلت الثانية ألفاً لسكونها بعد فتحة، ومنع صرفه للعلمية ووزن الفعل، وقيل: أعجمي ووزنه فاعل بفتح العين ويكثر هذا في الأسماء كشالخ وآزر ويشهد له جمعه على أوادم بالواو لا أآدم بالهمزة، وكذا تصغيره على أويدم لا أؤيدم واعتذر عنه الجوهري بأنه ليس للهمزة أصل في البناء معروف، فجعل الغالب عليها الواو ولم يسلموه له، وحينئذٍ لا يجري الاشتقاق فيه لأنه من تلك اللغة لا نعلمه ومن غيرها لا يصح، والتوافق بين اللغات بعيد، وإن ذكر فيه فذاك للإشارة إلى أنه بعد التعريب ملحق بكلامهم، وهو اشتقاق تقديري اعتبروه لمعرفة الوزن والزائد فيه من غيره، ومن أجراه فيه حقيقة كمن جمع بين الضب والنون، ولعل هذا أقرب إلى الصواب. والأسماء جمع اسم وهو باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشيء ودليلاً يرفعه إلى الذهن من الألفاظ الموضوعة بجميع اللغات والصفات والأفعال، واستعمل عرفاً في الموضوع لمعنى مفرداً كان أو مركباً مخبراً عنه أو خبراً أو رابطة بينهما، وكلا المعنيين محتمل. والعلم بالألفاظ المفردة والمركبة تركيباً خبرياً أو إنشائياً يستلزم العلم بالمعاني التصورية والتصديقية. وإرادة المعنى المصطلح مما لا يصلح لحدوثه بعد القرآن. وقال الإمام: المراد بالأسماء صفات الأشياء ونعوتها وخواصها، لأنها علامات دالة على ماهياتها، فجاز أن يعبر عنه بالأسماء، وفيه كما قال الشهاب نظر إذ لم يعهد إطلاق الاسم على مثله حتى يفسر به النظم، وقيل: المراد بها أسماء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وعزي إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: اللغات، وقيل: أسماء الملائكة، وقيل: أسماء النجوم، وقال الحكيم الترمذي: أسماؤه تعالى، وقيل وقيل وقيل. والحق عندي ما عليه أهل الله تعالى، وهو الذي يقتضيه منصب الخلافة الذي علمت، وهو أنها أسماء الأشياء علوية أو سفلية جوهرية أو عرضية، ويقال لها أسماء الله تعالى عندهم باعتبار دلالتها عليه، وظهوره فيها غير متقيد بها. ولهذا قالوا: إن أسماء الله تعالى غير متناهية، إذ ما من شيء يبرز للوجود من خبايا الجود، إلا وهو اسم من أسمائه تعالى وشأن من شؤونه عز شأنه، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن. ومن هنا قال قدس سره: إن الوجود وإن تعدد ظاهرا *** وحياتكم ما فيه إلا أنتم لكن للفرق مقام وللجمع مقام ولكل مقام مقال، ولولا المراتب لتعطلت الأسماء والصفات، وتعليمها له عليه السلام على هذا ظهور الحق جل وعلا فيه منزهاً عن الحلول والاتحاد والتشبيه بجميع أسمائه وصفاته المتقابلة حسب استعداده الجامع بحيث علم وجه الحق في تلك الأشياء، وعلم ما انطوت عليه وفهم ما أشارت إليه، فلم يخف عليه منها خافية ولم يبق من أسرارها باقية، فيالله هذا الجرم الصغير كيف حوى هذا العلم الغزير. واختلف الرسميون بينهم في كيفية التعليم بعد أن فسر بأنه فعل يترتب عليه العلم غالباً، وبعد حصول ما يتوقف عليه من جهة المتعلم كاستعداده لقبول الفيض وتلقيه من جهة المعلم لا تخلف. فقيل: بأن خلق فيه عليه السلام بموجب استعداده علماً ضرورياً تفصيلياً بتلك الأسماء وبمدلولاتها وبدلالتها ووجه دلالتها، وقيل: بأن خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة مستعداً لإدراك أنواع المدركات، وألهمه معرفة ذوات الأشياء وأسمائها وخواصها ومعارفها وأصول العلم وقوانين الصناعات وتفاصيل آلاتها وكيفيات استعمالاتها فيكون ما مر من المقاولة قبل خلقه عليه السلام، والقول: بأن التعليم على ظاهره وكان بواسطة ملك غير داخل في عموم الخطاب بـ {أنبؤوني} مما لا أرتضيه، اللهم إلا إن صح خبر في ذلك، ومع هذا أقول: للخبر محمل غير ما يتبادر مما لا يخفى على من له ذوق، وقيل: غير ذلك. ثم إن هذا التعليم لا يقتضي تقدم لغة اصطلاحية كما زعمه أبو هاشم واحتج عليه بوجوه ردت في «التفسير الكبير»، إذ لو افتقر لتسلسل الأمر أو دار، والإمام الأشعري يستدل بهذه الآية على أن الواضع للغات كلها هو الله تعالى ابتداءً ويجوز حدوث بعض الأوضاع من البشر كما يضع الرجل علم ابنه. والمعتزلة يقولون: الواضع من البشر آدم أو غيره ويسمى مذهب الاصطلاح. وقيل: وضع الله تعالى بعضها ووضع الباقي البشر وهو مذهب التوزيع وبه قال الأستاذ، والمسألة مفصلة بأدلتها وما لها وما عليها في أصول الفقه. وقرأ اليماني: {تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ} مبنياً للمفعول، وفي «البحر» أن التضعيف للتعدية وهي به سماعية، وقيل: قياسية، والحريري في شرح لمحته» يزعم أن علم المتعدي لاثنين يتعدى به إلى ثلاثة، وقد وهم في ذلك. {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة} أي المسميات المفهومة من الكلام وتذكير الضمير على بعض الوجوه لتغليب ما اشتملت عليه من العقلاء، وللتعظيم بتنزيلها منزلتهم في رأي على البعض الآخر. وقيل: الضمير للأسماء باعتبار أنها المسميات مجازاً على طريق الاستخدام. ومن قال: الاسم عين المسمى قال: الأسماء هي المسميات والضمير لها بلا تكلف وإليه ذهب مكي والمهدوي ويرد عليه أن {أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء} يدل على أن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات لا عن نفسها وإلا لقيل: أنبؤوني بهؤلاء، فلا بد أن يكون المعروض غير المسؤول عنه فلا يكون نفس الأسماء، ومعنى عرض المسميات تصويرها لقلوب الملائكة، أو إظهارها لهم كالذر، أو إخبارهم بما سيوجده من العقلاء وغيرهم إجمالاً، وسؤالهم عما لا بد لهم منه من العلوم والصنائع التي بها نظام معاشهم ومعادهم إجمالاً أيضاً، وإلا فالتفصيل لا يمكن علمه لغير اللطيف الخبير، فكأنه سبحانه قال: سأوجد كذا وكذا فأخبروني بما لهم وما عليهم، وما أسماء تلك الأنواع من قولهم: عرضت أمري على فلان فقال لي كذا، فلا يرد أن المسميات عند بعض أعيان ومعان، وكيف تعرض المعاني كالسرور والحزن والجهل والعلم، وعندي أن عرض المسميات عليهم يحتمل أن يكون عبارة عن اطلاعهم على الصور العلمية والأعيان الثابتة التي قد يطلع عليها في هذه النشأة بعض عباد الله تعالى المجردين، أو إظهار ذلك لهم في عالم تتجسد فيه المعاني وهذا غير ممتنع على الله تعالى بل إن المعاني الآن متشكلة في عالم الملكوت بحيث يراها من يراها، ومن أحاط خبراً بعالم المثال لم يستبعد ذلك، وقيل: إنهم شهدوا تلك المسميات في آدم عليه السلام، وهو المراد بعرضها: وتزعم أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر وقرأ أبيّ: {ثُمَّ عَرْضُهَا} وعبد الله: {عرضهن} والمعنى عرض مسمياتها أو مسمياتهن، وقيل: لا تقدير. {الملائكة فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء} تعجيز لهم وليس من التكليف بما لا يطاق على ما وهمَ وفيه إشارة إلى أن أمر الخلافة والتصرف والتدبير وإقامة المعدلة بغير وقوف على مراتب الاستعدادات ومقادير الحقوق مما لا يكاد يمكن، فكيف يروم الخلافة من لا يعرف ذلك، أو من لا يعرف الألفاظ أنفسها؟ا هيهات ذلك أبعد من العيوق وأعز من بيض الأنوق وعندي أن المراد إظهار عجزهم وقصور استعدادهم عن رتبة الخلافة الجامعة للظاهر والباطن بأمرهم بالإنباء بتلك الأسماء على الوجه الذي أريد منها، والعاجز عن نفس الإنباء أعجز عن التحلي المطلوب في ذلك المنصب المحبوب: كيف الوصول إلى سعاد ودونها *** قلل الجبال ودونهن حتوف الرجل حافية ومالي مركب *** والكف صفر والطريق مخوف والإنباء في الأصل مطلق الإخبار وهو الظاهر هنا ويطلق على الإخبار بما فيه فائدة عظيمة ويحصل به علم أو غلبة ظن، وقال بعضهم: إنه إخبار فيه إعلام، ولذلك يجري مجرى كل منهما، واختاره هنا على ما قيل للإيذان برفعة شأن الأسماء وعظم خطرها؛ وهذا مبني، على أن النبأ إنما يطلق على الخبر الخطير والأمر العظيم، وفي استعمال ثم فيما تقدم والفاء هنا ما لا يخفى من الاعتناء بشأن آدم عليه السلام وعدمه في شأنهم. وقرأ الأعمش: {أَنبِئُونِى} بغير همز {إِن كُنتُمْ صادقين} أي فيما اختلج في خواطركم من أني لا أخلق خلقاً إلا أنتم أعلم منه وأفضل وهذا هو التفسير المأثور فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الملائكة قالوا: لن يخلق الله تعالى خلقاً أكرم عليه منا ولا أعلم، وفي الكلام دلالة عليه، فإن {وَنَحْنُ نُسَبّحُ} [البقرة: 30] الخ يدل على أفضليتهم، وتنزيه الله تعالى وتقديسه أو تقديسهم أنفسهم يدل على كمال العلم أيضاً. وقيل: إن المعنى {إِن كُنتُمْ صادقين} في زعمكم أنكم أحق بالاستخلاف أو في أن استخلافهم لا يليق فأثبتوه ببيان ما فيكم من الشرائط السابقة وليس هذا من المعصية في شيء لأنه شبهة اختلجت، وسألوا عما يزيحها وليس باختياري، ولا يرد أن الصدق والكذب إنما يتعلق بالخبر وهم استخبروا ولم يخبروا لأنا نقول: هما يتطرقان إلى الإنشاءات بالقصد الثاني، ومن حيث ما يلزم مدلولها، وإن لم يتطرقا إليها بالقصد الأول ومن حيث منطوقها، وجواب {ءانٍ} في مثل هذا الموضع محذوف عند سيبويه وجمهور البصريين يدل عليه السابق، وهو هنا {أَنبِئُونِى} وعند الكوفيين وأبي زيد والمبرد أن الجواب هو المتقدم، وهذا هو النقل الصحيح عمن ذكر في المسألة، ووهم البعض فعكس الأمر، ومن زعم أن {ءانٍ} هنا بمعنى إذا الظرفية فلا تحتاج إلى جواب فقد وهمَ، وكأنه لما رأى عصمة الملائكة وظن من الآية ما يخل بها، ولم يجد لها محملاً مع إبقاء {ءانٍ} على ظاهرها افتقر إلى ذلك، والحمد لله تعالى على ما أغنانا من فضله ولم يحوجنا إلى هذا ولا إلى القول بأن الغرض من الشرطية التوكيد لما نبههم عليه من القصور والعجز، فحاصل المعنى حينئذٍ أخبروني ولا تقولوا إلا حقاً كما قال الإمام.
{قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)} {قَالُواْ سبحانك لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} استئناف واقع موقع الجواب كأنه قيل: فماذا؟ قالوا إذا ذاك: هل خرجوا عن عهدة ما كلفوه أولاً؟ فقيل: {قَالُواْ}: الخ. وذكر غير واحد أن الجمل المفتتحة بالقول إذا كانت مرتباً بعضها على بعض في المعنى فالأفصح أن لا يؤتى فيها بحرف اكتفاء بالترتيب المعنوي، وقد جاء في سورة الشعراء من ذلك كثير، بل القرآن مملوء منه، وسبحان قيل: إنه مصدر، وفعله سبح مخففاً بمعنى نزه، ولا يكاد يستعمل إلا مضافاً، إما للمفعول أو الفاعل منصوباً بإضمار فعل وجوباً، وقوله: سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به *** وقبلنا سبح الجودي والجمد شاذ كقوله: سبحانك اللهم ذا السبحان *** ومجئيه منادى مما زعمه الكسائي ولا حجة له وذهب جماعة إلى أنه علم للتسبيح بمعنى التنزيه لا مصدر سبح بمعنى قال: سبحان الله لئلا يلزم الدور ولأن مدلول ذلك لفظ ومدلول هذا معنى واستدل على ذلك بقوله: قد قلت لما جاءني فخره *** سبحان من علقمة الفاخر إذ لولا أنه عَلَمٌ لوجب صرفه لأن الألف والنون في غير الصفات إنما تمنع مع العلمية، وأجيب بأن سبحان فيه على حذف المضاف إليه أي سبحان الله وهو مراد للعلم به، وأبقى المضاف على حاله مراعاة لأغلب أحواله وهو التجرد عن التنوين وقيل: (من) زائدة والإضافة لما بعدها على التهكم والاستهزاء به، ومن الغريب قول بعض: إن معنى {سبحانك} تنزيه لك بعد تنزيه، كما قالوا في لبيك إجابة بعد إجابة، ويلزم على هذا ظاهراً أن يكون مثنى ومفرده سبحا وأن لا يكون منصوباً بل مرفوع وأنه لم تسقط النون للإضافة وإنما التزم فتحها، ويا سبحان الله تعالى لمن يقول ذلك، والغرض من هذا الجواب الاعتراف بالعجز عن أمر الخلافة، والقصور عن معرفة الأسماء على أبلغ وجه كأنهم قالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا ولم تعلمنا الأسماء فكيف نعلمها؟ وفيه إشعار بأن سؤالهم لم يكن إلا استفساراً، إذ لا علم لهم إلا من طريق التعليم، ومن جملته علمهم بحكمة الاستخلاف مما تقدم فهو بطريق التعليم أيضاً فالسؤال المترتب هو عليم سؤال مستفسر لا معترض وثناءً عليه تعالى بما أفاض عليهم مع غاية التواضع ومراعاة الأدب وترك الدعوى، ولهذا كله لم يقولوا لا علم لنا بالأسماء مع أنه كان مقتضى الظاهر ذلك، ومن زعم عدم العصمة جعل هذا توبة، والإنصاف أنه يشبهها ولكن لا عن ذنب مخل بالعصمة بل عن ترك أولى بالنسبة إلى علو شأنهم ورفعة مقامهم إذ اللائق بحالهم على العلات أن يتركوا الاستفسار ويقفوا مترصدين لأن يظهر حقيقة الحال. و( ما) عند الجمهور موصولة حذف عائدها وهي إما في موضع رفع على البدل أو نصب على الاستثناء. وحكى ابن عطية عن الزهراوي أنها في موضع نصب بـ {عَلَّمْتَنَا} ويتكلف لتوجيهه بأن الاستثناء منقطع، فـ {إِلا} بمعنى لكن. و{مَا} شرطية والجواب محذوف كأنهم نفوا أولاً سائر العلوم ثم استدركوا أنه في المستقبل أي شيء علمهم علموه ويكون ذلك أبلغ في ترك الدعوى كما لا يخفى. {إِنَّكَ أَنتَ العليم الحكيم} تذييل يؤكد مضمون الجملة السابقة، ولما نفوا العلم عن أنفسهم أثبتوه لله تعالى على أكمل أوصافه وأردفوه بالوصف بالحكمة لما تبين لهم ما تبين وأصل الحكمة المنع ومنه حكمة الدابة لأنها تمنعها عن الاعوجاج، وتقال للعلم لأنه يمنع عن ارتكاب الباطل، ولإتقان الفعل لمنعه عن طرق الفساد والاعتراض وهو المراد ههنا لئلا يلزم التكرار، فمعنى الحكيم ذو الحكمة، وقيل: المحكم لمبدعاته، قال في «البحر»: وهو على الأول صفة ذات، وعلى الثاني صفة فعل، والمشهور أنه إن أريد به العليم كان من صفات الذات أو الفاعل لما لا اعتراض عليه كان من صفات الفعل فافهم. وقدم سبحانه الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة لمناسبة ما تقدم من {أنبؤني} [البقرة: 31] و{سبحانك لاَ عِلْمَ لَنَا} ولأن الحكمة لا تبعد عن العلم وليكون آخر مقالتهم مخالفاً لما يتوهم من أولها، و{أَنتَ} يحتمل أن يكون فصلاً لا محل له على المشهور يفيد تأكيد الحكم، والقصر المستفاد من تعريف المسند، وقيل: هو تأكيد لتقرير المسند إليه، ويسوغ في التابع ما لا يسوغ في المتبوع، وقيل: مبتدأ خبره ما بعده، والحكيم إما خبر بعد خبر أو نعت له وحذف متعلقهما لإفادة العموم، وقد خصهما بعض فقال: العليم بما أمرت ونهيت الحكيم فيما قضيت وقدرت والعموم أولى.
{قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)} {قَالَ يَاءادَمُ ءادَمَ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ} نادى سبحانه آدم باسمه العلم كما هو عادته جل شأنه مع أنبيائه ما عدا نبينا صلى الله عليه وسلم حيث ناداه بـ {ياأيها النبى} [الأنفال: 4 6] و{ياأيهاالرسول} [المائدة: 1 4] لعلو مقامه ورفعة شأنه إذ هو الخليفة الأعظم، والسر في إيجاد آدم. ولم يقل سبحانه أنبئني كما وقع في أمر الملائكة مع حصول المراد معه أيضاً، وهو ظهور فضل آدم إبانة لما بين الرتبتين من التفاوت، وإنباء للملائكة بأن علمه عليه السلام واضح لا يحتاج إلى ما يجري مجرى الامتحان وأنه حقيق أن يعلم غيره أو لتكون له عليه السلام منة التعليم كاملة حيث أقيم مقام المفيد وأقيموا مقام المستفيدين منه، أو لئلا تستولي عليه الهيبة فإن إنباء العالم ليس كإنباء غيره. والمراد بالإنباء هنا الإعلام لا مجرد الإخبار كما تقدم. وفيه دليل لمن قال: إن علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة، ومنع قوم ذلك في الطبقة العليا منهم، وحمل عليه {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] وأفهم كلام البعض منع حصول العلم المرقي لهم فلعل ما يحصل علم قال: لا حال والفرق ظاهر لمن له ذوق، وقرأ ابن عباس: {أَنبِئْهُم} بالهمز وكسر الهاء وأنبيهم بقلب الهمزة ياء، وقرأ الحسن: أنبهم كأعطهم، والمراد بالأسماء ما عجزوا عن علمها واعترفوا بالقصور عن بلوغ مرتبتها، والضمير عائد على المعروضين على ما تقدم. {فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم} عطف على جملة محذوفة والتقدير فانبأهم بها فلما أنبأهم الخ، وحذفت لفهم المعنى، وإظهار الأسماء في موقع الإضمار لإظهار كمال العناية بشأنها مع الإشارة إلى أنه عليه السلام أنبأهم بها على وجه التفصيل دون الإجمال. وعلمهم بصدقه من القرائن الموجبة له والأمر أظهر من أن يخفى، ولا يبعد إن عرفهم سبحانه الدليل على ذلك واحتمال أن يكون لكل صنف منهم لغة أو معرفة بشيء ثم حضر جميعهم فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة أو ذلك الشيء بعيد. {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والارض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} جواب لـ {مَا} وتقرير لما مر من الجواب الإجمالي واستحضار له على وجه أبسط من ذلك وأشرح. ولا يخفى ما في الآية من الإيجاز، إذ كان الظاهر أعلم غيب السموات والأرض وشهادتهما وأعلم ما كنتم تبدون وما كنتم تكتمون وما ستبدون وتكتمون، إلا أنه سبحانه اقتصر على غيب السموات والأرض لأنه يعلم منه شهادتهما بالأولى، واقتصر من الماضي على المكتوم لأنه يعلم منه البادي كذلك وعلى المبدأ من المستقبل لأنه قبل الوقوع خفي، فلا فرق بينه وبين غيره من خفياته وتغيير الأسلوب حيث لم يقل: وتكتمون لعله لإفادة استمرار الكتمان فالمعنى أعلم ما تبدون قبل أن تبدوه وأعلم ما تستمرون على كتمانه، وذكر الساليكوتي أن كلمة كان صلة غير مفيدة لشيء إلا محض التأكيد المناسب للكتمان، ثم الظاهر من الآية العموم ومع ذلك {مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] أعم مفهوماً لشموله غيب الغيب الشامل لذات الله تعالى وصفاته وخصها قوم فمن قائل: غيب السموات أكل آدم وحواء من الشجرة، وغيب الأرض قتل قابيل هابيل. ومن قائل: الأول: ما قضاه من أمور خلقه والثاني: ما فعلوه فيها بعد القضاء، ومن قائل: الأول: ما غاب عن المقربين مما استأثر به تعالى من أسرار الملكوت الأعلى والثاني: ما غاب عن أصفيائه من أسرار الملك الأدنى وأمور الآخرة، والأولى وما أبدوه قبل قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا} [البقرة: 0 3] وما كتموه، قولهم: لن يخلق الله تعالى أكرم عليه منا، وقيل: ما أظهروه بعد من الامتثال. وقيل: ما أسره إبليس من الكبر، وإسناد الكتم إلى الجميع حينئذٍ من باب بنو فلان قتلوا فلاناً والقاتل واحد منهم ومعنى الكتم على كل حال عدم إظهار ما في النفس لأحد ممن كان في الجمع، وليس المراد أنهم كتموا الله تعالى شيئاً بزعمهم فإن ذلك لا يكون حتى من إبليس وأبدى سبحانه العامل في {مَا تُبْدُونَ} الخ اهتماماً بالإخبار بذلك المرهب لهم والظاهر عطفه على الأول فهو داخل معه تحت ذلك القول، ويحتمل أن يكون عطفاً على جملة {أَلَمْ أَقُلْ} فلا يدخل حينئذٍ تحته.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لاِدَمَ} الظرف متعلق بمقدر دل عليه الكلام كانقادوا وأطاعوا والعطف من عطف القصة على القصة وفي كل تعداد النعمة مع أن الأول تحقيق للفضل وهذا اعتراف به ولا يصح عطف الظرف على الظرف بناءاً على اللائق الذي قدمناه لاختلاف الوقتين، وجوز على أن نصب السابق بمقدر، والسجود في الأصل تذلل مع انخفاض بانحناء وغيره، وفي الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة وفي المعنى المأمور به هنا خلاف فقيل: المعنى الشرعي، والمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى وآدم إما قبلة أو سبب واعترض بأن لو كان كذلك ما امتنع إبليس، وبأنه لا يدل على تفضيله عليه السلام عليهم. وقوله تعالى: {قَالَ أَرَءيْتَكَ هذا الذى كَرَّمْتَ} [الإسراء: 2 6] يدل عليه ألا ترى أن الكعبة ليست بأكرم ممن سجد إليها وأجيب بالتباس الأمر على إبليس، وبأن التكريم يجعله جهة لهذه العبادة دونهم، ولا يخفى ما فيه من الدلالة على عظمة الشأن كما في جعل الكعبة قبلة من بين سائر الأماكن ومن الناس من جوّز كون المسجود له آدم عليه السلام حقيقة مدعياً أن السجود للمخلوق إنما منع في شرعنا وفيه أن السجود الشرعي عبادة، وعبادة غيره سبحانه شرك محرم في جميع الأديان والأزمان ولا أراها حلت في عصر من الأعصار. وقيل: المعنى اللغوي ولم يكن فيه وضع الجباه بل كان مجرد تذلل وانقياد، فاللام إما باقية على ظاهرها، وإما بمعنى إلى مثلها في قول حسان رضي الله عنه: أليس أول من صلى لقبلتكم *** وأعرف الناس بالقرآن والسنن أو للسببية، مثلها في قوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 8 7] وحكمة الأمر بالسجود إظهار الاعتراف بفضله عليه السلام، والاعتذار عما قالوا فيه مع الإشارة إلى أن حق الأستاذ على من علمه حق عظيم، وغير سبحانه الأسلوب حيث قال أولاً: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} [البقرة: 0 3] وهنا {وَإِذَا قُلْنَا} بضمير العظمة لأن في الأول خلق آدم واستخلافه، فناسب ذكر الربوبية مضافاً إلى أحب خلفائه إليه وهنا المقام مقام إبراد أمر يناسب العظمة وأيضاً في السجود تعظيم، فلما أمر بفعله لغيره أشار إلى كبريائه الغنية عن التعظيم. وقرأ أبو جعفر بضم تاء {الملائكة} اتباعاً لضم الجيم، وهي لغة أزدشنوأة وهي لغة غريبة عربية وليست بخطأ كما ظن الفارسي فقد روي أن امرأة رأت بناتها مع رجل، فقالت: أفي السوأ تنتنه تريد أفي السوأة أنتنه. {فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ} الفاء لإفادة مسارعتهم في الامتثال وعدم تثبطهم فيه، وإبليس اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، ووزنه فعليل قاله الزجاج. وقال أبو عبيدة وغيره: إنه عربي مشتق من الإبلاس وهو الإبعاد من الخير أو اليأس من رحمة الله تعالى، ووزنه على هذا مفعيل، ومنعه من الصرف حينئذٍ لكونه لا نظير له في الأسماء؛ واعترض بأن ذلك لم يعد من موانع الصرف مع أن له نظائر كإحليل وإكليل وفيه نظر، وقيل: لأنه شبيه بالأسماء الأعجمية إذ لم يسم به أحد من العرب، وليس بشيء، واختلف الناس فيه هل هو من الملائكة أم من الجن؟ فذهب إلى الثاني جماعة مستدلين بقوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن} [الكهف: 0 5] وبأن الملائكة لا يستكبرون وهو قد استكبر، وبأن الملائكة كما روي مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها خلقوا من النور وخلق الجن من مارج من نار وهو قد خلق مما خلق الجن كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ص: 6 7] وعد تركه السجود إباءاً واستكباراً حينئذٍ إما لأنه كان ناشئاً بين الملائكة مغموراً بالألوف منهم فغلبوا عليه وتناوله الأمر ولم يمتثل، أو لأن الجن أيضاً كانوا مأمورين مع الملائكة، لكنه استغنى بذكرهم لمزيد شرفهم عن ذكر الجن، أو لأنه عليه اللعنة كان مأموراً صريحاً لا ضمناً كما يشير إليه ظاهر قوله تعالى: {إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 2 1] وضمير {فَسَجَدُواْ} راجع للمأمورين بالسجود. وذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين إلى الأول مستدلين بظاهر الاستثناء وتصحيحه بما ذكر تكلف لأنه وإن كان واحداً منهم لكن كان رئيسهم ورأسهم كما نطقت به الآثار فلم يكن مغموراً بينهم، ولأن صرف الضمير إلى مطلق المأمورين مع أنه في غاية البعد لم يثبت، إذ لم ينقل أن الجن سجدوا لآدم سوى إبليس، وكونه مأموراً صريحاً الآية غير صريحة فيه ودون إثباته خرط القتاد واقتضاءً ما ذكر من الآية كونه من جنس الجن ممنوع لجواز أن يراد كونه منهم فعلاً، وقوله تعالى: {فَفَسَقَ} كالبيان له، ويجوز أيضاً أن يكون {كَانَ} بمعنى صار كما روي أنه مسخ بسبب هذه المعصية فصار جنياً كما مسخ اليهود فصاروا قردة وخنازير سلمنا لكن لا منافاة بين كونه جناً وكونه ملكاً، فإن الجن كما يطلق على ما يقابل الملك يقال على نوع منه على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكانوا خزنة الجنة أو صاغة حليهم. وقيل: صنف من الملائكة لا تراهم الملائكة مثلنا، أو أنه يقال للملائكة جن أيضاً كما قاله ابن إسحاق لاجتنانهم واستتارهم عن أعين الناس، وبذلك فسر بعضهم قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} [الصافات: 158] وورد مثله في كلام العرب، فقد قال الأعشى في سيدنا سليمان عليه السلام: وسخر من جن الملائك تسعة *** قياماً لديه يعملون بلا أجر وكون الملائكة لا يستكبرون وهو قد استكبر لا يضر، إما لأن من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم العصمة على العكس منا وفي «عقيدة أبي المعين النسفي» ما يؤيد ذلك، وإما لأن إبليس سلبه الله تعالى الصفات الملكية وألبسه ثياب الصفات الشيطانية فعصى عند ذلك والملك ما دام ملكاً لا يعصي. ومن ذا الذي يامِيّ لا يتغير *** وكونه مخلوقاً من نار وهم مخلوقون من نور غير ضار أيضاً ولا قادح في ملكيته لأن النار والنور متحدا المادة بالجنس واختلافهما بالعوارض، على أن ما في أثر عائشة رضي الله تعالى عنها من خلق الملائكة من النور جار مجرى الغالب وإلا خالفه كثير من ظواهر الآثار إذ فيها أن الله تعالى خلق ملائكة من نار وملائكة من ثلج وملائكة من هذا وهذه، وورد أن تحت العرش نهراً إذا اغتسل فيه جبريل عليه السلام وانتفض يخلق من كل قطرة منه ملك، وأفهم كلام البعض أنه يحتمل أن ضرباً من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات كالبررة والفسقة من الإنس والجن يشملهما وكان إبليس من هذا الصنف، فعده ما شئت من ملك وجن وشيطان، وبذلك يحصل الجمع بين الأقوال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. ثم المشهور أن الاستثناء متصل إن كان من الملائكة، ومنقطع إن لم يكن منهم، وقد علمت تكلفهم لاتصاله مع قولهم بالثاني، وقد شاع عند النحاة والأصوليين أن المنقطع هو المستثنى من غير جنسه، والمتصل هو المستثنى من جنسه، قال القرافي في «العقد المنظوم»: وهو غلط فيهما، فإن قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة} [النساء: 9 2] و{لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى} [الدخان: 6 5] و{مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ} [النساء: 2 9] الاستثناء فيه منقطع مع أن المستثنى من جنس ما قبله فيبطل الحدان، والحق أن المتصل ما حكم فيه على جنس ما حكمت عليه أولاً بنقيض ما حكمت به ولا بد من هذين القيدين فمتى انخرم أحدهما فهو منقطع بأن كان غير الجنس سواء حكم عليه بنقيضه أو لا نحو رأيت القوم إلا فرساً، فالمنقطع نوعان، والمتصل نوع واحد، ويكون المنقطع كنقيض المتصل، فإن نقيض المركب بعدم أجزائه، فقوله تعالى: {ءامِنِينَ لاَ يَذُوقُونَ} الخ منقطع بسبب الحكم بغير النقيض، لأن نقيضه ذاقوه فيها وليس كذلك وكذلك {إِلا أَن تَكُونَ تجارة} لأنها لا تؤكل بالباطل بل بحق وكذلك {إِلا} لأنه ليس له القتل مطلقاً وإلا لكان مباحاً فتنوع المنقطع حينئذٍ إلى ثلاثة، الحكم على الجنس بغير النقيض، والحكم على غيره به أو بغيره، والمتصل نوع واحد فهذا هو الضابط وقيل: العبرة بالاتصال والانفصال الدخول في الحكم وعدمه لا في حقيقة اللفظ وعدمه، فتأمل ترشد. وأفهم كلام القوم نفعنا الله تعالى بهم أن جميع المخلوقات علويها وسفليها سعيدها وشقيها مخلوق من الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وسلم كما يشير إليه قول النابلسي قدس سره دافعاً ما يرد على الظاهر: طه النبي تكونت من نوره *** كل الخليقة ثم لو ترك القطا وفي الآثار ما يؤيد ذلك، إلا أن الملائكة العلويين خلقوا منه عليه الصلاة والسلام من حيث الجمال، وإبليس من حيث الجلال، ويؤل هذا بالآخرة إلى أن إبليس مظهر جلال الله سبحانه وتعالى، ولهذا كان منه ما كان ولم يجزع ولم يندم ولم يطلب المغفرة لعلمه أن الله تعالى يفعل ما يريده وأن ما يريده سبحانه هو الذي تقتضيه الحقائق، فلا سبيل إلى تغييرها وتبديلها، واستشعر ذلك من ندائه بإبليس ولم يكن اسمه من قبل بل كان اسمه عزازيل أو الحرث، وكنيته أبا مرة ووراء ذلك ما لم يمكن كشفه والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل وفي قوله تعالى: {إِبْلِيسَ أبى واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} نوع إشارة إلى بعض ما ذكر، والجملة استئناف جواب لمن قال ما فعل، وقيل: إن الفعلين الأولين في موضع نصب على الحال أي آبيا مستكبراً {وَكَانَ مِنَ الكافرين} مستأنف أو في موضع الحال، وقيل: الجمل الثلاث تذييل بعد تذييل، والاباء الامتناع مع الأنفة والتمكن من الفعل، ولهذا كان قولك أبي زيد الظلم أبلغ من لم يظلم ولافادة الفعل النفي صح بعده الاستثناء المفرغ ك {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 2 3] وقوله: أبى الله إلا عدله ووفاءه *** فلا النكر معروف ولا العرف ضائع والفعل منه أبى بالفتح، وعليه لا يكون يأبى قياسياً. وقد سمع أبى كرضي فالمضارع حينئذ قياسي والمفعول هنا محذوف أي السجود، والاستكبار التكبر وهو مما جاء فيه استفعل بمعنى تفعل، وقيل: التكبر أن يرى الشخص نفسه أكبر من غيره وهو مذموم وإن كان أكبر في الواقع، والاستكبار طلب ذلك بالتشبع، وقدم الإباء عليه وإن كان متأخراً عنه في الرتبة لأنه من الأحوال الظاهرة بخلاف الاستكبار فإنه نفساني. أو لأن المقصود الإخبار عنه بأنه خالف حاله حال الملائكة فناسب أن يبدأ أولاً بتأكيد ما حكم به عليه في الاستثناء أو بإنشاء الإخبار عنه بالمخالفة فبدأ بذلك على أبلغ وجه (وكان) على بابها والمعنى كان في علم الله تعالى من الكافرين أو كان من القوم الكافرين الذين كانوا في الأرض قبل خلق آدم، وقيل: بمعنى صار وهو مما أثبته بعض النحاة قال ابن فورك: وترده الأصول ولأنه كان الظاهر حينئذ فكان بالفاء ثم إن كفره ليس لترك الواجب كما زعم الخوارج متمسكين بهذه الآية لأنه لا يوجب ذلك في ملتنا على ما دلت عليه القواطع، وإيجابه قبل ذلك غير مقطوع به بل باستقباحه أمر الله تعالى بالسجود لمن يعتقد أنه خير منه وأفضل كما يدل عليه الإباء والاستكبار وقال أبو العالية: معنى {مِنَ الكافرين} من العاصين ثم الظاهر أن كفره كان عن جهل بأن استرد سبحانه منه ما أعاره من العلم الذين كان مرتديا به حين كان طاووس الملائكة وأظافير القضاء إذا حكت أدمت، وقسى القدر إذا رمت أصمت وكان سراح الوصل أزهر بيننا *** فهبت به ريح من البين فانطفي وقيل: عن عناد حمله عليه حب الرياسة والإعجاب بما أوتي من النفاسة ولم يدر المسكين أنه لو امتثل ارتفع قدره وسما بين الملأ الأسمى فنحره ولكن: إذا لم يكن عون من الله للفتى *** فأول ما يجني عليه اجتهاده وكم أرقت هذه القصة جفوناً، وأراقت من العيون عيوناً فإن إبليس كان مدة في دلال طاعته يختال في رداء مرافقته ثم صار إلى ما ترى وجرى ما به القلم جرى: وكنا وليلى في صعود من الهوى *** فلما توافينا ثبت وزلت ومن هنا قال الشافعية والأشعرية وبقولهم أقول في هذه المسألة: إن العبرة بالإيمان الذي يوافي العبد عليه ويأتي متصفاً به في آخر حياته وأول منازل آخرته، ولذا يصح أنا مؤمن إن شاء الله تعالى بالشك، ولكن ليس في الإيمان الناجز بل في الإيمان الحقيقي المعتبر عند الموت وختم الأعمال، وقد صح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه كما أورده الزرقاني أن من تمام إيمان العبد أن يستثنى إذ عواقب المؤمنين مغيبة عندهم وهو القاهر فوق عباده وفي الصحيح عن جابر «كان صلى الله عليه وسلم يكثر من قوله يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك» وخبر «من قال أنا مؤمن إن شاء الله تعالى فليس له من الإسلام نصيب» موضوع باتفاق المحدثين، وأنا مؤمن بغيره إن شاء الله تعالى، هذا واعلم أن الذي تقتضيه هذه الآية الكريمة، وكذا التي في الاعراف، وبني إسرائيل، والكهف وطه أن سجود الملائكة ترتب على الأمر التنجيزي الوارد بعد خلقه ونفخ الروح فيه، وهو الذي يشهد له النقل والعقل إلا أن ما في الحجر (28 0 3) من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّى خالق بَشَرًا مِّن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ساجدين فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} وكذا ما في ص تستدعي ظاهراً ترتبه على ما فيها من الأمر التعليقي من غير أن يتوسط بينهما شيء غير الخلق وتوابعه، وبه قال بعضهم. وحمل ما في تلك الآيات من الأمر على حكاية الأمر التعليقي بعد تحقق المعلق به إجمالاً فإنه حينئذ يكون في حكم التنجيز، و{ثُمَّ} في آية الأعراف للتراخي الرتبي أو التراخي في الأخبار، أو يقال: إن الأمر التعليقي لما كان قبل تحقق المعلق به بمنزلة العدم في عدم إيجاب المأمور به جعل كأنه إنما حدث بعد تحققه، فحكى على صورة التنجيز، ولما رأى بعضهم أن هذا مؤد إلى أن ما جرى في شأن الخلافة وما قالوا وما سمعوا إنما جرى بعد السجود المسبوق بمعرفة جلالة قدره عليه السلام، وخروج إبليس من البين باللعن، وبعد مشاهدتهم لكل ذلك وهو خرق لقضية النقل بل خرق في العقل اضطر إلى القول بأن السجود كان مرتين، وهيهات لا يصلح العطار ما أفسد الدهر، فالحق الحقيق مادلت عليه هاتيك الآيات، وما استدل به المخالف لا ينتهض دليلاً لأن الشرط إن كان قيداً للجزاء كان معناه على تقدير صدق إذا سويته أطلب بناء على أن الشرط قيد للطلب على ما صرح به العلامة التفتازاني من أن معنى قولنا: إن جاءك زيد فأكرمه، أي على تقدير صدق إن جاءك زيد أطلب منك إكرامه، وإن كان الحكم بين الشرط والجزاء فالجزاء الطلبي لا بد من تأويله بالخبر أي يستحق أن يقال في حقه أكرمه، وعلى التقديرين كان مدلول {فَقَعُواْ لَهُ ساجدين} [الحجر: 9 2] طلباً استقلالياً لا حالياً فلا يلزم تحقق الأمر بالسجود قبل التسوية، نعم لو كان الشرط قيداً للمطلوب لا للطلب يكون المعنى الطلب في الحال للسجود وقت التسوية فيفيد تقدم الأمر على التسوية، وقول مولانا الرازي قدس سره: إن الآية كما تدل على تقدم الأمر بالسجود على التسوية تفيد أن التعليم والانباء كان بعد السجود لأنها تدل على أن آدم عليه السلام كما صار حياً صار مسجوداً للملائكة لأن الفاء في {فَقَعُواْ} للتعقيب لا يخفى ما فيه لأن الفاء للسببية لا للعطف، وهو لا يقتضي التعقيب كما في قوله تعالى: {ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة مِن} [الجمعه: 9]، وقوله سبحانه: {فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 7 3]، ومن الناس من حمل نفخ الروح في الآية على التعليم لما اشتهر أن العلم حياة والجهل موت، وأنت في غنى عنه، والله الموفق.
|