الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***
{إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)} {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً} من الأشياء أو شيئاً من الأغناء ان اتبعتهم والجملة مستأنفة مبينة لعلة النهي {وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} لا يواليهم ولا يتبع أهواءهم إلا من كان ظالماً مثلهم. {والله وَلِىُّ المتقين} الذين أنت قدوتهم فدم على ما أنت عليه من توليه سبحانه خاصة والاعراض عما سواه عز وجل بالكلية.
{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)} {هذا} أي القرآن {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} فإن ما فيه من معالم الدين وشعائر الشرائع بمنزلة البصائر في القلوب، وقيل: الإشارة إلى اتباع الشريعة والكلام من باب التشبيه البليغ، وجمع الخبر على الوجهين باعتبار تعدد ما تضمنه المبتدأ واتباع مصدر مضاف فيعم ويخبر عنه بمتعدد أيضاً، وقرىء {هذه} أي الآيات {وهدى} جليل من ورطة الضلالة {وَرَحْمَةً} عظيمة {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} من شأنهم الإيقان بالأمور.
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات} [الجاثية: 12] إلى آخره استئناف مسوق لبيان حال المسيئين والمحسنين إثر بيان حال الظالمين والمتقين، و{أَمْ} منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني، والهمزة لإنكار الحسبان على معنى أنه لا يليق ولا ينبغي لظهور خلافه، والاجتراح الاكتساب ومنه الجارحة للأعضاء التي يكتسب بها كالأيدي، وجاء هو جارحة أهله أي كاسبهم، وقال الراغب: الاجتراح اكتساب الاثم وأصله من الجراحة كما أن الاقتراف من قرف القرحة، والظاهر تفسيره ههنا بالاكتساب لمكان {السيئات} والمراد بها على ما في البحر سيئات الكفر، وقوله تعالى: {أَن نَّجْعَلَهُمْ} ساد مسد مفعولي الحسبان، والجعل بمعنى التصيير وهم مفعوله الأول، وقوله سبحانه: {الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} مفعوله الثاني، وقوله عز وجل: {سَوَآء} بدل من الكاف بناء على أنها اسم بمعنى مثل، وقوله تعالى: {محياهم ومماتهم} فاعل سواء أجرى مجرى مستوٍ كما قالوا: مررت برجل سواء هو والعدم، وضمير الجمع للمجترحين، والمعنى على إنكار حسبان جعل محبا المجترحين ومماتهم مستويين مثلهما للمؤمنين، ومصب الإنكار استواء ذلك فإن المؤمنين تتوافق حالاهم لأنهم مرحومون في المحيا والممات وأولئك تتضاد حالا هم فانهم مرحومون حياة لا موتاً؛ وجوز أن يكون {سَوَآء} حالاً من الضمير في الكاف بناء على ما سمعت من معناها. وتعقب بأنها اسم جامد على صورة الحرف فلا يصح استتار الضمير فيها وقد صرح الفارسي بمنع ذلك، نعم يجوز أن يكون {كالذين} جاراً ومجروراً في موضع المفعول الثاني و{سَوَآء} حالا من الضمير المستتر فيه، وقيل: يجوز أيضاً كونه حالاً من ضمير نجعلهم وكذا يجوز كونه المفعول الثاني، وكون الكاف أو الجار والمجرور حالاً من هذا الضمير، وما ذكر أولاً أظهر وأولى، وجوز كون ضمير الجمع في {محياهم ومماتهم} للمؤمنين فسواء حال من الموصول الثاني ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في {كالذين} لفساد المعنى وكون الضمير للفريقين فسواء حال من مجموع الموصول الثاني وضمير الأول، والمعنى على إنكار حسبان أن يستوي الفريقان بعد الممات في الكرامة أو ترك المؤاخذة كما استويا ظاهراً في الرزق والصحة في الحياة، وجوز أن يكون المعنى على إنكار حسبان جعل الحياتين مستويتين لأن المؤمنين على الطاعة وأولئك على المعاصي وكذلك الموتان لأنهم ملقون بالبشري والرضوان وأولئك بالسوء والخذلان، وقيل: به على تقدير كون الضمير للمجترحين أيضاً: ولم يجوز المدقق الابدال من الكاف على تقدير اشتراك الضمير إذا لمثل هو المشبه و{سَوَآء} جار على المشبه والمشبه به. وقرأ جمهور القراء {سَوَاء محياهم ومماتهم} برفع سواء وما بعده على أن سواء خبر مقدم وما بعده مبتدأ لا العكس لأن سواء نكرة ولا مسوغ للابتداء بها والضمير للمجترحين، والجملة قيل: بدل من المفعول الثاني لنجعل بدل كل من كل أو بدل اشتمال أو بدل بعض، وأياً ما كان ففيه إبدال الجملة من المفرد وقد أجازه أبو الفتح واختاره ابن مالك، وأورد عليه شواهد، قال أبو حيان: لا يتعين فيها البدل، وقال محمد بن عبد الله الاشبيلي المعروف بابن العلج في كتابه البسيط في النحو: لا يصح أن تكون جملة معمولة للأول في موضع البدل فإن كانت غير معمولة فهل تكون جملة بدلاً من جملة لا يبعد عندي جواز ذلك كالعطف والتأكيد اللفظي. وظاهره أنه لا يجوز الإبدال ههنا، وفي البحر يظهر لي أنه لا يجوز إبدال هذه الجملة من ذلك المفعول لأن الجعل بمعنى التصيير ولا يجوز صيرت زيداً أبوه قائم ولا صيرت زيداً غلامه منطلق لأن في ذلك انتقالا من ذات إلى ذات أو من وصف في الذات إلى وصف آخر فيها وليس في تلك الجملة المقدرة مفعولاً ثانياً انتقال مما ذكرنا وفيه بحث لا يخفى، والزمخشري قد نص على جعل الجملة بدلاً من الكاف وهو إمام في العربية، لكن أفاد صاحب الكشف أنه أاد أنه بدل من حيث المعنى لا أنه بدل من ذاك لفظاً قال: لأنه مفرد دال على الذات باعتبار المعنى وهذا دال على المعنى وإن كان الذات يلزم من طريق الضرورة إلا أن يقدر له موصوف محذوف بأن يقدر رجالاً سواء محياهم ومماتهم مثلاً، والمعنى على البدلية كما سمعت في قراءة النصب، وجوز كون الجملة مفعولاً ثانياً و{كالذين} حال من ضمير {نَّجْعَلَهُمْ} ولا يخفى عليك ما عليه وما له، وإذا كان الضمير للمؤمنين فالجملة قيل: حال من الموصول الثاني لا من الضمير في المفعول الثاني للفساد، وتعقب بأن فيه اكتفاء الاسمية الحالية بالضمير وهو غير فصيح على ما قيل: وقيل: استئناف يبين المقتضى للإنكار على حسبان التماثل وهو أن المؤمنين سواء حالهم عند الله تعالى في الدارين بهجة وكرامة فكيف يماثلهم المجترحون، وجوز أن تكون بياناً لوجه الشبه المجمل، وإذا كان الضمير للفريقين فالظاهر أن الجملة كلام مستأنف غير داخل في حكم الإنكار والتساوي حينئذ بين حال المؤمنين بالنسبة إليهم خاصة وحال المجترحين كذلك وتكون الجملة تعليلاً للإنكار في المعنى دالاً على عدم المماثلة لا في الدنيا ولا في الآخرة لأن المؤمنين متساوو المحيا والممات في الرحمة وأولئك متساوو المحيا والممات في النقمة إذ المعنى كما يعيشون يموتون فلما افترق حال هؤلاء وحال هؤلاء حياة فكذلك موتاً، وأما الإبدال فقد علم حاله فتأمل. وقرأ الأعمش {سَوَآء} بالنصب {محياهم} ومماتهم به أيضاً، وخرج الأول على ما سمعت ونصب محياهم ومماتهم على الظرفية لأنهما اسماً زمان أو مصدران أقيما مقام الزمان والعامل إما {سَوَآء} أو {نَّجْعَلَهُمْ}، هذا والآية وإن كانت في الكفار على ما نقل عن البحر وهو ظاهر ما روي عن الكلبي من أن عتبة. وسيبة. والوليد بن عتبة قالوا لعلي كرم الله تعالى وجهه. وحمزة رضي الله تعالى عنه. والمؤمنين: والله ما أنتم على شيء ولئن كان ما تقولون حقاً لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما هو أفضل في الدنيا فنزلت الآية: {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات} الخ. وهي متضمنة للرد عليهم على جميع أوجهها كما يعرف بأدني تدبر يستنبط منها تباين حالي المؤمن العاصي والمؤمن الطائع ولهذا كان كثير من العباد يبكون عند تلاوتها حتى أنها تسمى مبكاة العابدين لذلك، فقد أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد. والطبراني. وجماعة عن أبي الضحى قال: قرأ تميم الداري سورة الجاثية فلما أتى على قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الذين} الآية لم يزل يكررها ويبكي حتى أصبح وهو عند المقام. وأخرج ابن أبي شيبة عن بشير مولى الربيع بن خيثم أن الربيع كان يصلي فمر بهذه الآية {أَمْ حَسِبَ الذين} الخ فلم يزل يرددها حتى أصبح، وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه إذا قرأها: ليت شعري من أي الفريقين أنت. وقال ابن عطية: إن لفظها يعطي أن اجتراح السيئات هو اجتراح الكفر لمعادلته بالإيمان، ويحتمل أن تكون المعادلة بالاجتراح وعمل الصالحات ويون الإيمان في الفريقين ولهذا بكى الخائفون عند تلاوتها. ورأيت كثيراً من المغرورين المستغرقين ليلهم ونهارهم بالفسق والفجور يقولون بلسان القال والحال: نحن يوم القيامة أفضل حالاً من كثير من العابدين وهذا منهم والعياذ بالله تعالى ضلال بعيد وغرور ما عليه مزيد {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} أي ساء حكمهم هذا وهو الحكم بالتساوي فما مصدرية والكلام اخبار عن قبح حكمهم المعهود. ويجوز أن يكون لإنشاء ذمهم على أن {سَاء} بمعنى بئس فما فيه نكرة موصوفة وقعت تمييزاً مفسراً لضمير الفاعل المبهم والمخصوص بالذم محذوف أي بئس شيئاً حكموا به ذلك.
{وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)} {وَخَلَقَ الله السموات والارض بالحق} كأنه دليل على إنكار حسبانهم السابق أو دليل على تساوي محيا كل فريق ومماته وبيان لحكمته على تقدير كون قوله تعالى: {سَوَاء محياهم ومماتهم} [الجاثية: 21] استئنافاً وذلك من حيث أن خلق العالم بالحق المقتضى للعدل يستدعي انتصاف المظلوم من الظالم والتفاوت بين المسيء والمحسن وإذا لم يكن في المحيا كان بعد الممات حتماً {ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} عطف على {بالحق} لأنه في معنى العلة سواء كانت الباء للسببية الغائية أو الملابسة، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن المعنى خلقها ملتبسة ومقرونة بالحكمة والصواب دون العبث والباطل وحاصله خلقها لأجل ذلك أو عطف على علة محذوفة مثل ليدل سبحانه بها على قدرته أو ليعدل، وما موصولة أو مصدرية أي ليجزي كل نفس بالذي كسبته أو بكسبها {وَهُمْ} أي النفوس المدلول عليها بكل نفس {لاَ يُظْلَمُونَ} بنقص ثواب وتضعيف عذاب، والجملة في موضع الحال، وتسمية ذلك ظلماً مع أنه ليس كذلك لأنه منه سبحانه تصرف في ملكه والظلم صرف في ملك الغير بغير إذنه لأنه لو فعله غيره عز وجل كان ظلماً فالكلام على الاستعارة التمثيلية أو أنه لما كان مخالفاً لوعده سبحانه الحق سماه تعالى ظلماً.
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)} {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} تعجيب من حال من ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى فكأنه يعبده فالكلام على التشبيه البليغ أو الاستعارة، والفاء للعطف على مقدر دخلت عليه الهمزة أي أنظرت من هذه حاله فرأيته فإن ذلك مام يقضي منه العجب، وأبو حيان جعل أرأيت بمعنى أخبرني وقال: المفعول الأول من {اتخذ} والثاني محذوف يقدر بعد الصلات أي أيهتدي بدليل {فمن يهديه} والآية نزلت على ما روي عن مقاتل في الحرث بن قيس السهمي كان لا يهوى شيئاً إلا ركبه، وحكمها عام وفيها من ذم اتباع هوى النفس ما فيها، وعن ابن عباس ما ذكر الله تعالى هوى إلا ذمه. وقال وهب: إذا شككت في خير أمرين فانظر أبعدهما من هواك فأته، وقال سهل التستري: هواك داؤك فإن خالفته فدواؤك، وفي الحديث " العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله تعالى " وقال أبو عمران موسى بن عمران الأشبيلي الزاهد: فخالف هواها واعصها إن من يطع *** هوى نفسه ينزع به شر منزع ومن يطع النفس اللجوجة ترده *** وترم به في مصرع أي مصرع وقد ذم ذلك جاهلية أيضاً، ومنه قول عنترة: أني امرؤ سمح الخليقة ما جد *** لا أتبع النفس اللجوج هواها ولعل الأمر غني عن تكثير النقل. وقرأ الأعرج. وأبو جعفر {ءالِهَةً} بتاء التأنيث بدل هاء الضمير، وعن الأعرج أنه قرأ «آلهة» بصيغة الجمع. قال ابن خالويه: كان أحدهم يستحسن حجراً فيعبده فإذا رأى أحسن منه رفضه مائلا إليه، فالظاهر أن آلهة بمعناها من غير تجوز أو تشبيه والهوى بمعنى المهوى مثله في قوله: هواي مع الركب اليمانين مصعد *** {وَأَضَلَّهُ الله} أي خلقه ضالاً أو خلق فيه الضلال أو خذله وصرفه عن اللطف على ما قيل {على عِلْمٍ} حال من الفاعل أي أضله الله تعالى عالماً سبحانه بأنه أهل لذلك لفساد جوهر روحه. ويجوز أن يكون حالا من المفعول أي أضله عالماً بطريق الهدى فهو كقوله تعالى: {فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} [الجاثية: 17] {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} بحيث لا يتأثر بالمواعظ ولا يتفكر في الآيات. {وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة} مانعة عن الاستبصار والاعتبار والكلام على التمثيل، وقرأ عبد الله. والأعمش {غشاوة} بفتح الغين وهي لغة ربيعة، والحسن. وعكرمة. وعبد الله أيضاً بضمها وهي لغة عكلية، وأبو حنيفة. وحمزة. والكسائي. وطلحة. ومسعود بن صالح. والأعمش أيضاً {غشاوة} بفتح الغين وسكون الشين، وابن مصرف. والأعمش أيضاً كذلك إلا أنهما كسرا الغين {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله} أي من بعد اضلاله تعالى إياه، وقيل: المعنى فمن يهديه غير الله سبحانه {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي ألا تلاحظون فلا تذكرون، وقرأ الجحدري {تَذَكَّرُونَ} بالتخفيف، والأعمش «تتذكرون» بتاءين على الأصل.
{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)} {وَقَالُواْ} بيان لاحكام إضلالهم والختم على سمعهم وقلوبهم وجعل غشاوة على أبصارهم فالضمير لمن باعتبار معناه أو للكفرة {مَا هِىَ} أي ما الحياة {إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} التي نحن فيها، ويجوز أن يكون الضمير للحال والحياة الدنيا من جملة الأحوال فيكون المستثنى من جنس المستثنى منه أيضاً لاستثناء حال الحياة الدنيا من أعم الأحوال ولا حاجة إلى تقدير حال مضافاً بعد أداة الاستثناء أي ما الحال إلا حال الحياة الدنيا {نَمُوتُ وَنَحْيَا} حكم على النوع بحملته من غير اعتبار تقديم وتأخير إلا أن تأخير نحي في «النظم الجليل» للفاصلة أي تموت طائفة وتحيا طائفة ولا حشر أصلاً، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير أي نحيا ونموت وليس بذاك، وقيل: أرادوا بالموت عدم الحياة السابق على نفخ الروح فيهم أي نكون نطفاً وما قبلها وما بعدها ونحيا بعد ذلك، وقيل: أرادوا بالحياة بقاء النسل والذرية مجازاً كأنهم قالوا: نموت بأنفسنا ونحيا ببقاء أولادنا وذرارينا، وقيل: أرادوا يموت بعضنا ويحيا بعض على أن التجوز في الإسناد، وجوز أن يريدوا بالحياة على سبيل المجاز إعادة الروح لبدن آخر بطريق التناسخ وهو اعتقاد كثير من عبدة الأصنام ولا يخفى بعد ذلك، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {وَنَحْيَا} بضم النون {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر} أي طول الزمان فالدهر أخص من الزمان وهو الذي ارتضاه السعد، ولهم في ذلك كلام طويل، وقال الراغب: الدهر في الأصل اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة، وهو خلاف الزمان فإنه يقع على المدة القليلة والكثيرة، ودهر فلان مدة حياته، ويقال: دهر فلاناً نائبة دهراً أي نزلت به حكاه الخليل فالدهر ههنا مصدر. وذكر بعض الأجلة أن الدهر بالمعنى السابق منقول من المصدر وأنه يقال: دهره دهراً أي غلبه وإسنادهم الإهلاك إلى الدهر إنكار منهم لملك الموت وقبضه الأرواح بأمر الله عز وجل وكانوا يسندون الحوادث مطلقاً إليه لجهلهم أنها مقدرة من عند الله تعالى، وأشعارهم لذلك مملوءة من شكوى الدهر وهؤلاء معترفون بوجود الله تعالى فهم غير الدهرية فإنهم مع إسنادهم الحوادث إلى الدهر لا يقولون بوجوده سبحانه وتعالى: {عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّا كَبِيرًا} والكل يقول باستقلال الدهر بالتأثر، ولا يبعد أن يكون الزمان عندهم مقدار حركة الفلك كما ذهب إليه معظم الفلاسفة. وقد جاء النهي عن سب الدهر. أخرج مسلم " لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر " وأبو داود. والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم قال الله عز وجل: " يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقل أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره " والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم أيضاً يقول الله عز وجل: " استقرضت عبدي فلم يقرضني وشتمني عبدي وهو لا يدري يقول وادهراه وأنا الدهر " والبيهقي: «لا تسبوا الدهر قال الله عز وجل: " أنا الأيام والليالي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك " ومعنى ذلك أن الله تعالى هو الآتي بالحوادث فإذا سببتم الدهر على أنه فاعل وقع السب على الله عز وجل. وعد بعضهم سبه كبيرة لأنه يؤدي إلى سبه تعالى وهو كفر، وما أدى إليه فأدنى مراتبه أن يكون كفراً. وكلام الشافعية صريح بأن ذلك مكروه لا حرام فضلاً عن كونه كبيرة، والذي يتجه في ذلك تفصيل وهو أن من سبه فإن أراد به الزمن فلا كلام في الكراهة، أو الله عز وجل فلا كلام في الكفر، ومثله إذا أراد المؤثر الحقيقي فإنه ليس إلا الله سبحانه؛ وإن أطلق فهذا محل التردد لاحتمال الكفر وغيره وظاهر كلامهم هنا أيضاً الكراهة لأن المتبادر منه الزمن وإطلاقه على الله تعالى كما قال بعض الأجلة إنماهو بطريق التجوز. ومن الناس من قال: إن سبه كبيرة إن اعتقد أن له تأثيراً فيما نزل به كما كان يعتقد جهلة العرب، وفيه نظر لأن اعتقاد ذكر كفر وليس الكلام فيه، وأنكر بعضهم كون ما في حديث أبي داود. والحاكم «فإني أنا الدهر» بضم الراء وقال: لو كان كذلك كان الدهر من أسمائه تعالى وكان يرويه «فإني أنا الدهر» بفتح الراء ظرفاً لأقلب أي فإني أنا أقلب الليل والنهار الدهر أي على طول الزمان وممره، وفيه أن رواية مسلم فإن الله هو الدهر تبطل ما زعمه، ومن ثم كان الجمهور على ضم الراء. ولا يلزم عليه أن يكون من أسمائه تعالى لما سبق أن ذلك على التجوز، وحكى الراغب عن بعضهم أن الدهر الثاني في حديث مسلم غير الأول وأنه مصدر بمعنى الفاعل، والمعنى أن الله تعالى هو الدهر أي المصرف المدبر المفيض لما يحدث، وفيه بعد. وقرأ عبد الله {إِلا} وتأويله إلا دهر يمر {الدهر وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ} أي بما ذكر من قصر الحياة على ما في الدنيا ونسبة الإهلاك إلى الدهر {مِنْ عِلْمٍ} مستند إلى عقل أو نقل {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد من غير أن يكون لهم ما يصح أن يتمسك به في الجملة، هذا معتقدهم الفاسد في أنفسهم.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)} {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا} الناطقة بالحق الذي من جملته البعث {بينات} واضحات الدلالة على ما نطقت به مما يخالف معتقدهم أو مبينات له {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ} بالنصب على أنه خبر كان واسمها قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بينات مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ} أي في أنا نبعث بعد الموت أي ما كان متمسكاً لهم شيء من الأشياء إلا هذا القول الباطل الذي يستحيل أن يكون حجة، وتسميته حجة لسوقهم إياه مساق الحجة على سبيل التهكم بهم أو أنه من قبيل: تحية بينهم ضرب وجيع *** أي ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة، والمراد نفي أن يكون لهم حجة فإنه لا يلزم من عدم حصول الشيء حالاً كإعادة آبائهم التي طلبوها في الدنيا امتناعه بعد لتمتنع الإعادة إذا قامت القيامة، والخطاب في {ائتوا وَكُنتُمْ} للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين إذ هم قائلون بمقالته صلى الله عليه وسلم من البعث طالبون من الكفرة الإقرار به، وجوز أن يكون له عليه الصلاة والسلام وللأنبياء عليهم السلام الجائين بالبعث وغلب الخطاب على الغيبة. وقال ابن عطية: {ائتوا وَكُنتُمْ} من حيث المخاطبة له صلى الله عليه وسلم والمراد هو وإلهه والملك الذي يذكر عليه الصلاة والسلام نزوله عليه بذلك وهو جبريل عليه السلام، وهو كما ترى. وقرأ الحسن. وعمرو بن عبيد. وابن عامر فيما روى عنه عبد الحميد. وعاصم فيما روى هارون. وحسين عن أبي بكر عنه {حُجَّتَهُمْ} بالرفع على أنه اسم كان وما بعد خبر أي ما كان حجتهم شيئاً من الأشياء إلا هذا القول الباطل، وجواب {إِذَا} ما كان الخ، ولم تقترن بالفاء وإن كانت لازمة في المنفى بما إذا وقعت جواب الشرط لأنها غير جازمة ولا أصلية في الشرطية، وهو سر قول أبي حيان: إن إذا خالفت أدوات الشرط بأن جوابها إذا كان منفياً بما لم تدخل الفاء بخلاف أدوات الشرط فلا بد معها من الفاء نحو إن تزرنا فما جفوتنا فلا حاجة إلى تقدير جواب لها كعمدوا إلى الحجج الباطلة خلافاً لابن هشام. واستدل بوقوع ما ذكر جواباً على أن العمل في إذا ليس للجواب لصدارة ما المانعة منه ولا قائل بالفرق، ولعل من قال بالعمل يقول يتوسع في الظرف ما لم يتوسع في غيره، ثم إن المعنى على الاستقبال لمكان {إِذَا} أي ما تكون حجتهم إلا أن يقولوا ذلك.
{قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)} {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ} ابتداءً {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم على ما دل عليه الحجج لا الدهر كما تزعمون {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} أي فيه وجوز كون الفعل مضمناً معنى مبعوثين أو منتهين ونحوه ومعنى في أظهر أي يجمعكم في يوم القيامة {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي في جمعكم فإن من قدر على البدء قدر على الإعادة والحكمة اقتضت الجمع للجزاء لا محالة في ذلك اليوم والوعد الصدق بالآيات دل على قرعها، وحاصله أن البعث أمر ممكن أخبر به الصادق وتقتضيه الحكمة وكل ما هو كذلك لا محالة واقع والإتيان بالآباء حيث كان منافياً للحكمة التشريعية امتنع إيقاعه {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} استدراك من قوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} وهو من تمام الكلام المأمور به أو كلام مسوق من جهته تعالى تحقيقاً للحق وتنبيهاً على أن ارتيابهم لجهلهم وقصورهم في النظر والتفكر لا لأن فيه شائبة ريب ما.
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)} {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والارض} بيان للاختصاص المطلق والتصرف الكلي فيهما وفيما بينهما بالله عز وجل إثر بيان تصرفه تعالى بالإحياء والإماتة والبعث والجمع للمجازاة فهو تعميم للقدرة بعد تخصيص. {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المبطلون} قال الزمخشري: العامل في {يَوْمٍ تَقُومُ} يخسر ويومئذٍ بدل من يوم تقوم وحكاه ابن عطية عن جماعة، وتقديم الظرف على الفعل للحصر لأن كل خسران عند الخسران في ذلك اليوم كلا خسران، وفيه أيضاً رعاية الفواصل على ما قيل، وتعقب حديث الإبدال بأن التنوين في {يَوْمَئِذٍ} عوض عن الجملة المضاف إليها، والظاهر أنها تقدر بقرينة ما قبل {تَقُومُ الساعة} فيقال ويوم تقوم الساعة يوم إذ تقوم الساعة يخسر المبطلون فيكون تأكيداً لا بدلاً إذ لا وجه له، ولذا قيل: إنه بالتأكيد أشبه، وقول أبي حيان: إن كان بدلاً توكيدياً وهو قليل جاز وإلا فلا لا يسمن ولا يغني؛ وتكلف بعضهم فزعم أن اليوم الثاني بمعنى الوقت الذي هو جزء من يوم قيام الساعة فهو بدل بعض معه عائد مقدر ولما كان فيه ظهور خسرانهم كان هو المقصود بالنسبة، وقالت فرقة: العامل في {يَوْمٍ تَقُومُ} ما يدل عليه الملك قالوا: وذلك أن يوم القيامة أمر ثالث ليس بالسماء ولا بالأرض لتبدلهما فكأنه قيل: ولله ملك السموات والأرض والملك يوم تقوم الساعة، و{يَوْمَئِذٍ} منصوب بيخسر والجملة استئناف وإن كان لها تعلق بما قبلها من جهة تنوين العوض، وقيل: يجوز أن يكون عطفاً على ظرف معمول لملك المذكور كأنه قيل: لله ملك السموات والأرض اليوم ويوم تقوم الساعة وهو كما ترى، و{المبطلون} الداخلون في الباطل، ولعل المراد به أعظم أنواعه وهو الكفر.
{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)} {وترى كُلَّ أُمَّةٍ} من الأمم المجموعة {جَاثِيَةً} باركة على الركب مستوفزة وهي هيئة المذنب الخائف المنتظر لما يكره، وعن ابن عباس جاثية مجتمعة، وعن قتادة جماعات من الجثوة مثلثة الجيم وهي الجماعة تجتمع على جثي أي تراب مجتمع، وعن مؤرج السدوسي جاثية خاضعة بلغة قريش، والخطاب في {تَرَى} لمن يصح منه الرؤية أو لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام وهي بصرية، و{جَاثِيَةً} حال وجوز أن تكون صفة ولو كانت علمية كانت مفعولاً ثانياً، وقرىء {جاذية} بالذال والجذو أشد استيفازاً من الجثو لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه، وجوز أن يكون الجاذي بمعنى الجاثي أبدلت ثاؤه ذالاً فإن الثاء والذال متقارضان كما قيل شحاث وشحاذ {جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كتابها} إلى صحيفة أعمالها التي كتبتها الحفظة لتحاسب، وأفرد على إرادة الجنس وإلا فلكل واحد من كل أمة صحيفة فيها أعماله، وقيل: المراد كتاب نبيها تدعى إليه لينظر هل عملت به أولاً وحكي ذلك عن يحيى بن سلام إلا أنه حمل كل أمة على كل أمة كافرة والظاهر العموم، وقيل: المراد بذلك اللوح المحفوظ أي تدعى إلى ما سبق لها فيه، وقرأ يعقوب {كُلٌّ} بالنصب وخرج على أنه بدل من كل الأول، وجملة {تدعى} صفة، وإبدال الأمة المدعوة إلى كتابها من الأمة الجاثية حسن وجاء ذلك من الوصف، ويقال مثل ذلك فيما إذا كان الجملة حالاً، وإذا كانت الرؤية علمية وجملة {تدعى} مفعولاً ثانياً فالظاهر أنه تأكيد، وجعله تأكيداً مع كون الجملة صفة فيه تخلل التأكيد بين الوصفين وهو كما في «الكشف» غير مستحسن {اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} مقول قول مقدر هو حال أو خبر بعد خبر. وفي الكلام مضاف مقدر أي جزاء ما كنتم الخ أو هو من المجاز.
{هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)} {هذا كتابنا} إلى آخره من تمام ما يقال حينئذٍ، والإشارة إلى الكتاب التي تدعي إليه الأمة المقول لها ذلك، وهو إذا كان صحيفة الأعمال فإضافته إلى ضميره جل شأنه لأدنى ملابسة على التجوز في النسبة الإضافية فإنه تعالى الذي أمر الكتبة أن يكتبوا فيه أعمالهم، وإن كان الكتاب المنزل على نبي تلك الأمة أو اللوح المحفوظ فأمر الإضافة ظاهر، وضمير العظمة على سائر الأوجه لتفخيم شأن الكتاب، وجوز أن يكون الضمير للكتبة والإضافة فيه حقيقية قيل: ويأباه {نَسْتَنسِخُ} إلا أن يجعل بمعنى ننسخ ونكتب وستعلم إن شاء الله تعالى ما فيه، واوظهر عندي حمل الكتاب في الموضعين على صحيفة الأعمال واسم الإشارة مبتدأ وما بعده خبر، وقوله سبحانه: {يَنطِقُ عَلَيْكُم} أي يشهد عليكم {بالحق} من غير زيادة ولا نقص خبر آخر أو حال أو مستأنف، و{بالحق} حال من فاعل {يَنطِقُ} وقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ} إلى آخره تعليل لنطقه عليهم بأعمالهم من غير إخلال بشيء منها أي إنا كنا فيما قبل نستنسخ الملائكة أي نجعلها تنسخ وتكتب {مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الأعمال حسنة كانت أو سيئة، وحقيقة النسخ كتابة من أصل ينظر فيه فكان أفعال العباد هي الأصل على ما في «البحر»، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله تعالى خلق النون وهي الدواة وخلق القلم فقال: اكتب قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول بر أو فاجر ورزق مقسوم حلال أو حرام ثم الزم كل شيء من ذلك بيانه دخوله في الدنيا متى ومقامه فيها كم وخروجه منها كيف ثم جعل على العباد حفظه وعلى الكتاب خزاناً فالحفظة يستنسخون كل يوم من الخوان عمل ذلك اليوم فإذا فني الرزق وانقطع الأمر وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم فتقول الخزنة ما نجد لصاحبكم عندنا شيئاً فترجع فيجدونه قد مات ثم قال ابن عباس ألستم قوماً عرباً تسمعون الحفظة يقولون إن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون وهل يكون الاستسناخ إلا من أصل؟ وفي رواية ابن المنذر. وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن الآية فذكر نحو ما سمعت ثم قال: هل يستنسخ الشيء إلا من كتاب، وكون الاستنساخ من اللوح قد رواه جماعة عنه، وما ذكرناه يصحح أن يكون هذا القول من الملائكة بدون تأويل {نَسْتَنسِخُ} بننسخ كما لا يخفى، وقوله تعالى:
{فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)} وقوله تعالى: {فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ} إلى آخره تفصيل للمجمل المفهوم من قوله تعالى: {يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} [الجاثية: 29] أو يجزون من الوعد والوعيد، والمراد بالرحمة الجنة مجازاً والظرفية على ظاهرها، وقيل: المراد بالرحمة ما يشمل الجنة وغيرها والأول أظهر {ذلك} الذي ذكر من الإدخال في رحمته تعالى: {هُوَ الفوز المبين} الظاهر كونه فوزاً لا فوز وراءه.
{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)} {وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءاياتي تتلى عَلَيْكُمْ} أي فيقال لهم بطريق التقريع والتوبيخ: ألم تكن تأتيكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم فجواب أما القول المقدر، وحذف اكتفاءً بالمقصود وهو المقول وحذفه كثير مقيس حتى قيل هو البحر حدث عنه، وحذف المعطوف عليه لقرينة الفاء العاطفة وأن تلاوة الآيات تستلزم إتيان الرسل معنى، وهذا على ما ذهب إليه الزمخشري والجمهور على أن الهمزة مقدمة من تأخير لصدارتها والفاء على نية التقدير، والتقدير فيقال لهم: ألم تكن الخ فليس هناك سوى حذف القول، وفي «الكشف» لو حمل على أن المحذوف فيوبخون لدلالة ما بعده عليه، وفائدة هذا الأسلوب مع أن الأصل فيدخلهم في عذابهم الدلالة على أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرون بعد في الموقف معذبون بالتوبيخ لكان وجهاً {فاستكبرتم} عن الإيمان بها {وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} قوماً عادتهم الإجرام.
{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)} {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله} أي وما وعده سبحانه من الأمور الآتية أو وعده تعالى بذلك {حَقّ} أي كائن هو أو متعلقه لا محالة ففي الكلام تجوز إما في الطرف أو في النسبة. وقرأ الأعرج. وعمرو بن قائد {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ} بفتح الهمزة على لغة سليم {والساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا} برفع {الساعة} في قراءة الجمهور على العطف على محل إن واسمها على ما ذهب إليه أبو علي وتبعه الزمخشري، ومن زعم أن لاسم إن موضعاً جوز العطف عليه هنا، وزعم أبو حيان أن الصحيح أنه لا يجوز كلا الوجهين وعليه فجملة {الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا} عطف على الجملة السابقة، وقرأ حمزة {والساعة} بالنصب عطفاً على اسم أن وروي ذلك عن الأعمش. وأبي عمرو. وأبي حيوة. وعيسى. والعبسي. والمفضل، وذكر أمر الساعة وإنها لا ريب في وقوعها مع أنها من جملة ما وعد الله تعالى اعتناءً بأمر البعث المقصود بالمقام {قُلْتُمْ} لغاية عتوكم: {مَّا نَدْرِى مَا الساعة} أي أي شيء هي استغراباً لها جداً كما يؤذن به جمع {مَّا نَدْرِى} مع الاستفهام. {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً} استشكل ذلك لما أنه استثناء مفرغ وقد قالوا: لا يجوم تفريغ العامل إلى المفعول المطلق المؤكد فلا يقال: ما ضربت إلا ضرباً لأنه بمنزلة ما ضربت إلا ضربت، وقال الرضي: إن الاستثناء المفرغ يجب أن يستثنى من متعدد مقدر معرب بإعراب المستثنى مستغرق لذلك الجنس حتى يدخل فيه المستثنى بيقين ثم يخرج بالاستثناء وليس مصدر نظن محتملاً مع الظن غيره حتى يخرج الظن منه، وكذا يقال في ما ضربت إلا ضرباً ونحوه وهذا مراد من قال: إنه من قبيل استثناء الشيء من نفسه، واختلفوا في حله فقيل: إن معنى ما نظن ما نفعل الظن كما في نحو قيم وقعد وحينئذٍ يصح الاستثناء ويتغاير مورد النفي والإيجاب من حيث التقدير والتجوز في الاستثناء من العام المقدر وجعل {نَّظُنُّ} في معنى الفعل لا نفعل الظن كأنه قيل: ما نفعل فعلاً إلا الظن، وكذا يقال في أمثاله ومنها قوله الأعشى: وحل به الشيب أثقاله *** وما اغتره الشيب إلا اغترار وارتضاه صاحب الكشف، وقيل: ما نظن بتأويل ما نعتقد ويكون {ظَنّا} مفعولاً به أي ما نعتقد شيئاً إلا ظناً، وارتضاه أبو حيان. وتعقب بأن ظاهر حالهم أنهم مترددون لا معتقدون. وأجيب بأن الاعتقاد المنفي لا ينافي ظاهر حالهم بل يقررها على أتم وجه، وقيل المستثنى ظن أمر الساعة والمستثنى منه مطلق الظن كأنه قيل لا ظن ولا تردد لنا إلا ظن أمر الساعة والتردد فيه فالكلام لنفي ظنهم فيما سوى ذلك مبالغة، وقال الرضي: إن ما ضربت إلا ضرباً يحتمل التعدد من حيث توهم المخاطب إذ ربما تقول ضربت وقد فعلت غير الضرب مما يجري مجراه من مقدماته كالتهديد فتدفع ذلك وتقول ضربت ضرباً فهو نظير جاء زيد زيد فلما كان ضربت محتملاً للضرب وغيره من حيث التوهم صار كالمتعدد الشامل للضرب وغيره، وحاصله أن لاضرب لما احتمل قبل التأكيد والاستثناء فعلاً آخر حمل على العموم بقرينة الاستثناء فيكون المعنى ما فعلت شيئاً إلا ضرباً، وهكذا {مَا نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً} وهذا كالمتحد مع ما ذكرناه أولاً. ورد بأن الاستثناء يقتضي الشمول المحقق ولا يكفي فيه الاحتمال المحقق فضلاً عن المتوهم. وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه إذا تجرد الفعل لمعنى عام صار الشمول محققاً على أن عدم كفاية الشمول الفرضي غير مسلم كما يعرفه من يتتبع موارده، وذهب ابن يعيش. وأبو البقاء إلى أنه على القلب والتقديم والتأخير والأصل ءن نحن إلا نظن ظناً وحكى ذلك عن المبرد، وقد حمل عليه ما حكاه أبو عمرو بن العلاء. وسيبويه من قول العرب: ليس الطيب إلا المسك بالرفع فقال: الأصل ليس إلا الطيب المسك ليكون اسم ليس ضمير الشأن وما بعد إلا مبتدأ وخبراً في موضع الخبر لها، ورده الرضي وقال: إنه تكلف لما فيه من التعقيد المخل بالفصاحة. والمثال المحكي وارد على لغة بني تميم فإنهم عاملوا ليس معاملة ما فاهملوها لانتقاض النفي بإلا، وقيل {ظَنّا} مفعول مطلق لفعل محذوف والمستثنى محذوف والتقدير إن نظن إلا أنكم تظنون ظناً. وحكي عن المبرد أيضاً وفيه حذف إن واسمها وخبرها وإبقاء المصدر وذلك لا يجوز، وفيه أيضاً من التعقيد المخل بالفصاحة ما فيه، ولا أظن صحة حكايته عن المبرد لغاية برودته، وجوز صاحب التقريب أن يكون المراد إن نظن إلا ظناً ضعيفاً فهو مصدر مبين للنوع حذفت صفته كما صرح به في «البحر» لا مؤكد، وهذا يوافق ما ذكره الإمام السكاكي في بحث أن التنكير قد يكون للتحقير. وتعقب بأن قوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} يأباه فإن مقابل الاستيقان مطلق الظن لا الضعيف منه، وقد صرح غير واحد بأن هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها والمراد بها استمرار النفي وتأكيده، قيل: والمعنى وما نحن بمستيقنين إمكان الساعة أي لا نتيقن إمكانها أصلاً فضلاً عن تحقق وقوعها المدلول عليه بقوله تعالى: {إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ والساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا} فقولهم ذلك رد لهذا، ولعل المثبتين لأنفسهم الظن من غير إيقان بأمر الساعة غير القائلين {ما هي إلا حياتنا الدنيا} [الجاثية: 24] فإن ذلك ظاهر في أنهم منكرون للبعث جازمون بنفي الساعة فيكون الكفرة صنفين صنف جازمون بنفيها كأئمتهم وصنف مترددون متحيرون فيها فإذا سمعوا ما يؤثر عن آبائهم أنكروها وإذا سمعوا الآيات المتلوة تقهقر إنكارهم فترددوا. ويحتمل اتحاد قائل ذاك وقائل هذا إلا أن كل قول في وقت وحال فهو مضطرب مختلف الحالات تارة يجزم بالنفي فيقول: {ما هي إلا حياتنا الدنيا} [الجاثية: 24] وأخرى يظن فيقول إن نظن إلا ظناً، وقيل: الجزم هناك بنفي وقوعها والظن من غير إيقان هنا بمجرد إمكانها فهم مترددون بإمكانها الذاتي جازمون بعدم وقوعها بالفعل فتأمل.
{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33)} {وَبَدَا لَهُمْ} أي ظهر لهم حينئذٍ {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ} أي قبائح أعمالهم أي عقوباتها فإن العقوبة تسوء صاحبها وتقبح عنده أو سيآت أعمالهم أي أعمالهم السيآت على أن تكون الإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف والكلام على تقدير مضاف أي ظهر لهم جزاء ذلك أو أن يراد بالسيآت جزاؤها من باب إطلاق السبب على المسبب، وقيل: المراد ظهر لهم الجهات السيئة الغير الحسنة عقلاً لأعمالهم أي جهات قبحها العقلي التي خفيت عليهم في الدنيا بتزيين الشيطان؛ وهو قول بالحسن والقبح العقليين في الأفعال، و{مَا} موصولة، وجوز أن تكون مصدرية فلا تغفل {وَحَاقَ} أي حل {بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} من الجزاء والعقاب.
{وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)} {وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ} نترككم في العذاب من باب إطلاق السبب على المسبب لأن من نسي شيئاً تركه أو نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي غير المبالي به على أن ثم استعارة تمثيلية، وجوز أن يكون استعارة مكنية في ضمير الخطاب. {كَمَا نَسِيتُمْ} في الدنيا {لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا} أي كما تركتم عدته وهي التقوى والإيمان به أو كما لم تبالوا أنتم بلقائه ولم تخطروه ببال كالشيء الذي يطرح نسياً منسياً، وجوز أن يكون التعبير بنسيانه لأن علمه مركوز في فطرتهم أو لتمكنهم منه بظهور دلائله ففي النسيان الأول مشاكلة، وإضافة {لِقَاء} إلى يوم من إضافة المصدر إلى ظرفه فهي على معنى في والمفعول مقدر أي لقاءكم الله تعالى وجزاءه سبحانه في يومكم هذا، وقال العلامة التفتازاني {لِقَاء يَوْمِكُمْ} ك {مَكْرُ الليل} [سبأ: 33] من باب المجاز الحكمي فلذا أجرى المضاف إليه مجرى المفعول به، وإنما لم يجعل من إضافة المصدر إلى المفعول به حقيقة لأن التوبيخ ليس على نسيان لقاء اليوم نفسه بل نسيان ما فيه من الجزاء. وقال بعض الأجلة: لا يخفى أن لقاء اليوم يجوز أن يكون كناية عن لقاء جميع ما فيه وهو أنسب بالمقام لأن السياق لإنكار البعث {وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مّن ناصرين} ما لأحد منكم ناصر واحد يخلصكم منها.
{ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)} {ذلكم} العذاب {بِأَنَّكُمُ} بسبب أنكم {اتخذتم ءايات الله هُزُواً} أي مهزوءاً بها ولم ترفعوا لها رأساً {وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا} فحسبتم أن لا حياة سواها {فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا} أي النار. وقرأ الحسن. وابن وثاب. وحمزة. والكسائي {لاَ يَخْرُجُونَ} مبنياً للفاعل، والالتفات إلى الغيبة للإيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب استهانة بهم أو بنقلهم من مقام الخطابة إلى غيابة النار، وجوز أن يكون هذا ابتداء كلام فلا التفات. {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي يطلب منهم أن يعتبوا ربهم سبحانه أي يزيلوا عتبه جل وعلا، وهو كناية عن إرضائه تعالى أي لا يطلب منهم إرضاؤه عز وجل لفوات أوانه، وقد تقدم في الروم. والسجدة أوجه أخر في ذلك فتذكر.
{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36)} {فَلِلَّهِ الحمد رَبّ السموات *وَرَبّ الارض رَبّ العالمين} تفريع على ما احتوت عليه السورة الكريمة، وقد احتوت على آلاء الله تعالى وأفضاله عز وجل واشتملت على الدلائل الآفاقية والأنفسية وانطوت على البراهين الساطعة والنصوص اللامعة في المبدأ والمعاد، واللام للاختصاص، وتقديم الخبر لتأكيده، وتعريف الحمد للاستغراق أو الجنس، والجملة إخبار عن الاستحقاقه تعالى لما تدل عليه، وجوز أن يراد الإنشاء، وتمام الكلام قد تقدم في الفاتحة، وفي التفريع المذكور على ما قاله بعض الأجلة إشارة إلى أن كفرهم لا يؤثر شيئاً في ربوبيته تعالى ولا يسد طريق إحسانه ورحمته عز وجل: ومن يسد طريق العارض الهطل *** وإنما هم ظلموا أنفسهم، وإجراء ما أجرى من الصفات الدالة على إنعامه تعالى عليه عز وجل كالدليل على استحقاقه تعالى الحمد واختصاصه به جل وعلا؛ وقوله تعالى: {رَبّ العالمين} بدل مما قبل؛ وفي تكرير لفظ الرب تأكيد وإيذان بأن ربوبيته تعالى لكل بطريق الأصالة. وقرأ ابن محيصن برفعه على المدح بإضمار هو.
{وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} {وَلَهُ الكبرياء} فيه من الاختصاص ما في {لِلَّهِ الحمد} [الجاثية: 36] والكبرياء قال ابن الأثير: العظمة والملك، وقال الراغب: الترفع عن الانقياد، وقيل: هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود، وقوله تعالى: {فِي السماوات والارض} في موضع الحال أو متعلق بالكبرياء والتقييد بذلك لظهور آثار الكبرياء وأحكامها فيه، والإظهار في مقام الإضمار لتفخيم شأن الكبرياء، وفي الحديث القدسي «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار» أخرجه الإمام أحمد. ومسلم. وأبو داود. وابن ماحه. وابن أبي شيبة. والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة، وهو ظاهر في عدم اتحاد الكبرياء والعظمة فلا تغفل {وَهُوَ العزيز} الذي لا يغلب {الحكيم} في كل ما قضى وقدر، وفي هذه الجمل إرشاد على ما قيل إلى أوامر جليلة كأنه قيل: له الحمد فاحمدوه تعالى وله الكبرياء فكبروه سبحانه وهو العزيز الحكيم فأطيعوه عز وجل، وجعلها بعضهم مجازاً أو كناية عن الأوامر المذكورة والله تعالى أعلم، هذا ولم أظفر من باب الإشارة بما يتعلق بشيء من آيات هذه السورة الكريمة يفي بمؤنة نقله غير ما يتعلق بقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السموات وَمَا فِي الارض *جَمِيعاً مّنْهُ} [الجاثية: 13] من جعله إشارة إلى وحدة الوجود، وقد مر ما يغني عن نقله، والله عز وجل ولي التوفيق. {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)} {حم تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم} الكلام فيه كالذي تقدم في مطلع السورة السابقة.
{مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)} {مَا خَلَقْنَا السموات والارض} بما فيهما من حيث الجزئية منهما ومن حيث الاستقرار فيهما {وَمَا بَيْنَهُمَا} من المخلوقات {إِلاَّ بالحق} استثناء مفرع من أعم المفاعيل أي إلا خلقاً ملتبساً بالحق الذي تقتضيه الحكمة التكوينية والتشريعية، وفيه من الدلالة على وجود الصانع وصفات كماله وابتناء أفعاله على حكم بالغة وانتهائها إلى غايات جليلة ما لا يخفى، وجوز كونه مفرغاً من أعم الأحوال من فاعل {خَلَقْنَا} أو من مفعوله أي ما خلقناها في حال من الأحوال إلا حال ملابستنا بالحق أو حال ملابستها به {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} عطف على {الحق} بتقدير مضاف أي وبتقدير أجل مسمى، وقدر لأن الخلق إنما يلتبس به لا بالأجل نفسه والمراد بهذا الأجل كما قال ابن عباس يوم القيامة فإنه ينتهي إليه أمور الكل وتبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار، وقيل: مدة البقاء المقدر لكل واحد، ويؤيد الأول قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ عَمَّا أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ} فإن ما أنذروه يوم القيامة وما فيه من الطامة التامة والأهوال العامة لا آخر أعمارهم. وجوز كون {مَا} مصدرية أي عن إنذارهم بذلك الوقت على إضافة المصدر إلى مفعوله الأول القائم مقام الفاعل، والجملة حالية أي ما خلقنا الخلق إلا بالحق وتقدير الأجل الذي يجازون عنده والحال أنهم غير مؤمنين به معرضون عنه غير مستعدين لحلوله.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)} {قُلْ} توبيخاً لهم وتبكيتاً {أَرَءيْتُمْ} أخبروني وقرىء {أَرَأَيْتُكُم} {مَا تَدَّعُونَ} ما تعبدون {مِن دُونِ الله} من الأصنام أو جميع المعبودات الباطلة ولعله الأظهر، والموصول مفعول أول لأرأيتم وقوله تعالى: {أَرُونِىَ} تأكيد له فإنه بمعنى أخبروني أيضاً، وقوله تعالى: {مَاذَا خَلَقُواْ} جوز فيه أن تكون {مَا} اسم استفهام مفعولاً مقدماً لخلقوا و{ذَا} زائدة وأن تكون {مَاذَا} اسماً واحداً مفعولاً مقدماً أي أي شيء خلقوا وأن تكون اسم استفهام مبتدأ أو خبراً مقدماً و{ذَا} اسم موصول خبراً أو مبتدأ مؤخراً وجملة {خَلَقُواْ} صلة الموصول أي ما الذي خلقوه، وعلى الأولين جملة {خَلَقُواْ} مفعول ثان لأرأيتم وعلى ما بعدهما جملة {مَاذَا خَلَقُواْ} وجوز أن يكون الكلام من باب الأعمال وقد أعمل الثاني وحذف مفعول الأول واختاره أبو حيان، وقيل: يحتمل أن يكون {أَرُونِىَ} بدل اشتمال من {أَرَءيْتُمْ} وقال ابن عطية: يحتمل {أَرَءيْتُمْ} وجهين. كونها متعدية و{مَا} مفعولاً لها. وكونها منبهة لا تتعدى و{مَا} استفهامية على معنى التوبيخ، وهذا الثاني قاله الأخفش في {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة} [الكهف: 63]. وقوله تعالى: {مّنَ الارض} تفسير للمبهم في {مَاذَا خَلَقُواْ} قيل: والظاهر أن المراد من أجزاء الأرض وبقعها، وجوز أن يكون المراد ما على وجهها من حيوان وغيره بتقدير مضاف يؤدي ذلك، ويجوز أن يراد بالأرض السفليات مطلقاً ولعله أولى {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ} أي شركة مع الله سبحانه {فِي السموات} أي في خلقها، ولعل الأولى فيها أيضاً أن تفسر بالعلويات. و{أَمْ} جوز أن تكون منقطعة وأن تكون متصلة، والمراد نفي استحقاق آلهتهم للمعبودية على أتم وجه، فقد نفى أولاً: مدخليتها في خلق شيء من أجزاء العالم السفلي حقيقة واستقلالاً، وثانياً: مدخليتها على سبيل الشركة في خلق شيء من أجزاء العالم العلوي، ومن المعلوم أن نفي ذلك يستلزم نفي استحقاق المعبودية؛ وتخصيص الشركة في «النظم الجليل» بقوله سبحانه: {فِي السموات} مع أنه لا شركة فيها وفي الأرض أيضاً لأن القصد إلزامهم بما هو مسلم لهم ظاهر لكل أحد والشركة في الحوادث السفلية ليست كذلك لتملكهم وإيجادهم لبعضها بحسب الصورة الظاهرة. وقيل: الأظهر أن تجعل الآية من حذف معادل {أَمْ} المتصلة لوجود دليله والتقدير الهم شرك في الأرض أم لهم شرك في السموات وهو كما ترى، وقوله تعالى: {ائتونى بكتاب} إلى آخره تبكيت لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقلي فهو من جملة القول أي ائتوني بكتاب الهي كائن {مّن قَبْلِ هذا} الكتاب أي القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك دال على صحة دينكم {أَوْ أثارة مّنْ عِلْمٍ} أي بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين شاهدة باستحقاقهم العبادة، فالإثارة مصدر كالضلالة بمعنى البقية من قولهم: سمنت الناقة على أثارة من لحم أي بقية منه. وقال القرطبي: هي بمعنى الإسناد والرواية، ومنه قول الأعشى: إن الذي فيه تماريتما *** بين للسامع والآثِر وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن. وقتادة: المعنى أو خاصة من علم فاشتقاقها من الأثرة فكأنها قد آثر الله تعالى بها من هي عنده، وقيل: هي العلامة. وأخرج أحمد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والطبراني. وابن مردويه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أو أثارة من علم " قال: الخط، وروي ذلك أيضاً موقوفاً على ابن عباس، وفسر بعلم الرمل كما في حديث أبي هريرة مرفوعاً " كان نبي من الأنبياء يخط فمن صادف مثل خطه علم " وفي رواية عن الحبر أنه قال: أن أثارة من علم {خط} كان يخطه العرب في الأرض، وهذا ظاهر في تقوية أمر علم الرمل وأنه شيء له وجه ويرشد إلى بعض الأمور، وفي ذلك كلام يطلب من محله. وفي «البحر» قيل: إن صح تفسير ابن عباس الأثارة بالخط في التراب كان ذلك من باب التهكم بهم وبأقوالهم ودلائلهم، والتنوين للتقليل و{بِهِ مِنْ عِلْمٍ} صفة أي أو ائتوني بأثارة قليلة كائنة من علم {إِن كُنتُمْ صادقين} في دعواكم فإنها لا تكاد تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو دليل نقلي وحيث لم يقم عليها شيء منهما وقد قاما على خلافها تبين بطلانها. وقرىء {أثارة} بكسر الهمز وفسرت بالمناظرة فإنها تثير المعاني، قيل: وذلك من باب الاستعارة على تشبيه ما يبرز ويتحقق بالمناظرة بما يثور من الغبار الثائر من حركات الفرسان. وقرأ علي. وابن عباس رضي الله تعالى عنهم بخلاف عنهما. وزيد بن علي. وعكرمة. وقتادة. والحسن. والسلمي. والأعمش. وعمرو بن ميمون {أثارة} بغير ألف وهي واحدة جمعها أثر كقترة وقتر، وعلي كرم الله تعالى وجهه. والسلمي. وقتادة أيضاً بإسكان الثاء وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر أي قد قنعت منكم بخبر واحد أو أثر واحد يشهد بصحة قولكم؛ وعن الكسائي ضم الهمزة وإسكان الثاء فهي اسم للمقدار كالغرفة لما يغرف باليد أي ائتوني بشيء ما يؤثر من علم، وروي عنه أيضاً أنه قرأ {أثارة} بكسر الهمزة وسكون الثاء وهي بمعنى الأثرة بفتحتين.
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)} {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ} إنكار لأن يكون أضل من المشركين، وذكر بعض الفضلاء أن المراد نفي أن يكون أحد يساويهم في الضلالة وإن كان سبك التركيب لنفي الأضل، وقد مر ما يتعلق بذلك فتذكر أي هو أضل من كل ضال حيث ترك دعاء المجيب القادر المستجمع لجميع صفات الكل كما يشعر بذلك الاسم الجليل ودعا من ليس شأنه الاستجابة له وإسعافه بمطلوبه {إلى يَوْمِ القيامة} أي ما دامت الدنيا، وظاهره أنه بعدها تقع الاستجابة وليس بمراد لتحقق ما يدل على خلافه، فهذه الغاية على ما في الانتصاف من الغايات المشعرة بأن ما بعدها وإن وافق ما قبلها إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالمباين حتى كأن الحالتين وإن كانتا نوعاً واحداً لتفاوت ما بينهما كالشيء وضده، وذلك أن الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة لا تزيد على عدم الاستجابة، والحالة الثانية التي في القيامة زادت على عدم الاستجابة بالعداوة وبالكفر بعبادتهم إياهم كما ينطق به ما بعد فهو من وادي قوله تعالى: في سورة [الزخرف: 29] {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَء وَءابَاءهُمْ} الآية، ونحوه قوله سبحانه في إبليس: {إِنْ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إلى يَوْمِ الدين} [ص: 78] وقد يقال: المراد بهذه الغاية التأبيد كما قيل في قوله تعالى: {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات} [هود: 107] وقولهم: ما دام ثبير، وقال بعضهم: لا إشكال في الآية لأن الغاية مفهوم فلا تعارض المنطوق، وفيه بحث، ففي «الدرر» و«الينبوع» عن البديع أن الغاية عندنا من قبيل إشارة النص لا المفهوم. وقال الزركشي في شرح جمع الجوامع: ذهب القاضي أبو بكر إلى أن الحكم في الغاية منطوق وادعى أن أهل اللغة صرحوا بأن تعليق الحكم بالغاية موضوع على أن ما بعدها خلاف ما قبلها لأنهم اتفقوا على أنها ليست كلاماً مستقلاً فإن قوله تعالى: {حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (البقرة؛ 230) وقوله سبحانه: {حتى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] لا بد فيه من إضمار لضرورة تتميم الكلام؛ وذلك أن المضمر إما ضد ما قبله أولاً والثاني باطل لأنه ليس في الكلام ما يدل عليه فيقدر حتى يطهرن فاقربوهن، حتى تنكح زوجاً غيره فتحل، قال: والمضمر بمنزلة الملفوظ فإنه إنما يضمر لسبقه إلى ذهن العارف باللسان، وعليه جرى صاحب البديع من الحنفية فقال: هو عندنا من دلالة الإشارة لا من المفهوم، لكن الجمهور على أنه مفهوم ومنعوا وضع اللغة لذلك انتهى، ويعلم من هذا أن قوله في التلويح: إن مفهوم الغاية متفق عليه لا يخلو من الخلل {وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ} الضمير الأول: لمفعول {يَدْعُواْ} أعني {مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ} والثاني: لفاعله، والجمع فيهما باعتبار معنى {مِنْ} كما أن الإفراد فيما سبق باعتبار لفظها أي والذين يدعون من لا يستجيبون لهم عن دعائهم إياهم {غافلون} لا يسمعون ولا يدرون، أما إن كان المدعو جماداً فظاهر، وأما إن كان من ذوي العقول فإن كان من المقبولين المقربين عند الله تعالى فلاشتغاله عن ذلك بما هو فيه من الخير أو كونه في محل ليس من شأن الذي فيه أن يسمع دعاء الداعي للبعد كعيسى عليه الصلاة والسلام اليوم أو لأن الله تعالى يصون سمعه عن سماع ذلك لأنه لكونه مما لا يرضي الله تعالى يؤلمه لو سمعه، وإن كان من أعداء الله تعالى كشياطين الجن والإنس الذين عبدوا من دون الله تعالى فإن كان ميتاً فلاشتغاله بما هو فيه من الشر، وقيل: لأن الميت ليس من شأنه السماع ولا يتحقق منه سماع إلا معجزة كسماع أهل القليب، وفي هذا كلام تقدم بعضه؛ وإن كان حياً فإن كان بعيداً مثلاً فالأمر ظاهر، وإن كان قريباً سليم الحاسة فقيل: الكلام بالنسبة إليه بعد تأويل الغفلة بعدم السماع وعلى التغليب لندرة هذا الصنف. ومن الناس من أول الغفلة بعدم الفائدة وتعقب بأنه حينئذٍ لا يكون لوصفهم بالغفلة بعد وصفهم بعدم الاستجابة كثير فائدة، واعتبر بعضهم التغليب من غير تأويل بمعنى أنه غلب من يتصور منه الغفلة حقيقة على غيره، وهذا كالتغليب في التعبير عن تلك الآلهة بما هو موضوع لأن يستعمل في العقلاء، وإن كانت الآية في عبدة الأصنام ونحوها مما لا يعقل تجوز في الغفلة وكان التعبير بما هو للعاقل لإجراء العبدة إياها مجرى العقلاء. وقال بعضهم: على جعلها في عبدة الأصنام. إن وصفها بما ذكر من ترك الاستجابة والغفلة مع ظهور حالها للتهكم بها فتدبر ولا تغفل.
{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)} {وَإِذَا حُشِرَ الناس} عند قيام القيامة {كَانُواْ} أي المعبودون {لَهُمْ} أي العابدين {أَعْدَاء} شديدي العداوة {وَكَانُواْ} أي المعبودون أيضاً {بِعِبَادَتِهِمْ} أي بعبادة الكفرة إياهم {كافرين} مكذبين، والأمر ظاهر في ذوي العقول. وأما في الأصنام فقد روي أن الله تعالى يخلق لها إدراكاً وينطقها فتتبرأ عن عبادتهم وكذا تكون أعداء لهم، وجوز كون تكذيب الأصنام بلسان الحال لظهور أنهم لا يصلحون للعبادة وأنهم لا نفع لهم كما توهموه أولاً حيث قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله} [الزمر: 3] ورجوا الشفاعة منهم. وفسرت العداوة بالضر على أنها مجاز مرسل عنه فمعنى {كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء} كانوا لهم ضارين، وما ذكرناه في بيان الضمائر هو الظاهر، وقيل: ضمير {هُمْ} المرفوع البارز والمستتر في قوله تعالى: {وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غافلون} [الأحقاف: 5] للكفرة الداعين وضمير {دُعَائِهِمْ} لهم أو للمعبودين، والمعنى أن الكفار عن ضلالهم بأنهم يدعون من لا يستجيب لهم غافلون لا يتأملون ما عليهم في ذلك، وفيه من ارتكاب خلاف الظاهر ما فيه، وفي الضمائر بعد نحو ذلك، والمعنى إذا حشر الناس كان الكفار أعداء لآلهتهم الباطلة لما يرون من ترتب العذاب على عبادتهم إياها وكانوا لذلك منكرين أنهم عبدوا غير الله تعالى كما حكى الله تعالى عنهم أنهم يقولون: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] وتعقب بأن السياق لبيان حال الآلهة معهم لا عكسه، ولأن كفرهم حينئذٍ إنكار لعبادتهم وتسميته كفراً خلاف الظاهر.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)} {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ} أي واضحات أو مبينات ما يلزم بيانه {قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ} أي الآيات المتلوة، ووضع موضع ضميرها تنصيصاً على حقيتها ووجوب الإيمان بها كما وضع الموصول موضع ضمير المتلو عليهم تسجيلاً عليهم بكمال الكفر والضلالة. وجوز كون المراد بالحق النبوة أو الإسلام فليس فيه موضوعاً موضع الضمير، والأول: أظهر، واللام متعلقة بقال على أنها لام العلة أي قالوا لأجل الحق وفي شأنه وما يقال في شأن شيء مسوق لأجله، وجوز تعلقه بكفروا على أنه بمعنى الباء أو حمل الكفر على نقيضه وهو الإيمان فإنه يتعدى باللام نحو {أَنُؤْمِنُ لَكَ} [الشعراء: 111] وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى {لَمَّا جَاءهُمْ} أي في وقت مجيئه إياهم، ويفهم منه في العرف المبادرة وتستلزم عدم التأمل والتدبر فكأنه قيل: بادروا أول سماع الحق من غير تأمل إلى أن قالوا: {هذا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي ظاهر كونه سحراً، وحكمهم بذلك على الآيات لعجزهم عن الإتيان بمثلها، وعلى النبوة لما معها من الخارق للعادة، وعلى الإسلام لتفريقه بين المرء وزوجه وولده.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)} {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} إضراب وانتقال من حكاية شناعتهم السابقة إلى حكاية ما هو أشنع منها وهو الكذب عمداً على الله تعالى فإن الكذب خصوصاً عليه عز وجل متفق على قبحه حتى ترى كل أحد يشمئز من نسبته إليه بخلاف السحر فإنه وإن قبح فليس بهذه المرتبة حتى تكاد تعد معرفته من الأمور المرغوبة، وما في {أَمْ} المنقطعة من الهمزة معنى للإنكار التوبيخي المتضمن للتعجب من نسبته إلى الافتراء مع قولهم: هو سحر لعجزهم عنه، والضمير المنصوب في {افتراه} كما قال أبو حيان {لِلْحَقّ} [الأحقاف: 7] الذي هو الآيات المتلوة، وقال بعضهم: للقرآن الدال عليه ما تقدم أي بل أيقولون افتراه. {قُلْ إِنِ افتريته} على الفرض {فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ الله شَيْئاً} أي عاجلني الله تعالى بعقوبة الافتراء عليه سبحانه فلا تقدرون على كفه عز وجل عن معالجتي ولا تطيقون دفع شيء من عقابه سبحانه عني فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه، فجواب {ءانٍ} في الحقيقة محذوف وهو عاجلني وما ذكر مسبب عنه أقيم مقامه أو تجوز به عنه {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} بالذي تأخذون فيه من القدح في وحي الله تعالى والطعن في آياته وتسميته سحراً تارة وافتراءً أخرى، واستعمال الإفاضة في الأخذ في الشيء والشروع فيه قولاً كان أو فعلاً مجاز مشهور، وأصلها إسالة الماء يقال: أفاض الماء إذا أساله، وما أشرنا إليه من كون {مَا} موصولة وضمير فيه عائد عليه هو الظاهر وجوز كون {مَا} مصدرية وضمير {فِيهِ} للحق أو للقرآن {كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} حيث يشهد لي سبحانه بالصدق والبلاغ وعليكم بالكذب والجحود، وهو وعيد بجزاء إفاضتهم في الطعن في الآيات، واستؤنف لأنه في جواب سؤال مقدر، و{بِهِ} في موضع الفاعل بكفى على أصح الأقوال، و{شَهِيداً} حال و{بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} متعلق به أو بكفى {وَهُوَ الغفور الرحيم} وعد بالغفران والرحمة لمن تاب وآمن وإشعار بحلم الله تعالى عليهم إذ لم يعاجلهم سبحانه بالعقوبة وأمهلهم ليتداركوا أمورهم
{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)} {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرسل} أي بديعاً منهم يعني لست مبتدعاً لأمر يخالف أمورهم بل جئت بما جاؤا به من الدعوة إلى التوحيد أو فعلت نحو ما فعلوا من إظهار ما آتاني الله تعالى من المعجزات دون الإتيان بالمقترحات كلها، فقد قيل: إنهم كانوا يقترحون عليه عليه الصلاة والسلام آيات عجيبة ويسألونه عن المغيبات عناداً ومكابرة فأمر صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم ذلك، ونظير {بدع} الخف بمعنى الخفيف والخل بمعنى الخليل فهو صفة مشبهة أو مصدر مؤول بها، وجوز إبقاؤه على أصله. وقرأ عكرمة. وأبو حيوة. وابن أبي عبلة {كُنتُ بِدْعاً} بفتح الدال، وخرج على أنه جمع بدعة كسدرة وسدر، والكلام بتقدير مضاف أي ذا بدع أو مصدر والاخبار به مبالغة أو بتقدير المضاف أيضاً. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون صفة على فعل كقولهم. دين قيم ولحم زيم أي متفرق، قال في «البحر»: ولم يثبت سيبويه صفة على هذا الوزن إلا عدي حيث قال: ولا نعلمه جاء صفة إلا في حرف معتل يوصف به الجمع وهو قوم عدي، واستدرك عليه زيم وهو استدراك صحيح، وأما قيم فمقصور من قيام ولولا ذلك لصحت عينه كما صحت في حول وعوض، وأما قول العرب: مكان سوى وماء روى ورجل رضا وماء صرى فمتأولة عند التصريفيين إما بالمصدر أو بالقصر، وعن مجاهد. وأبي حيوة {بِدْعاً} بفتح الباء وكسر الدار وهو صفة كحذر. {وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ} أي في الدارين على التفصيل كما قيل. وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال في الآية: أما في الآخرة فمعاذ الله تعالى قد علم صلى الله عليه وسلم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل ولكن ما أدري ما يفعل بي في الدنيا أأخرج كما أخرجت الأنبياء عليهم السلام من قبلي أم أقتل كما قتلت الأنبياء عليهم السلام من قبلي ولا بكم أأمتي المكذبة أم أمتي المصدقة أم أمتي المرمية بالحجارة من السماء قذفاً أم المخسوف بها خسفاً ثم أوحى إليه {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس} [الإسراء: 60] يقول سبحانه: أحطت لك بالعرب أن لا يقتلوك فعرف عليه الصلاة والسلام أنه لا يقتل ثم أنزل الله تعالى {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ وكفى بالله شَهِيداً} [الفتح: 28] يقول: أشهد لك على نفسه أنه سيظهر دينك على الأديان ثم قال سبحانه له عليه الصلاة والسلام في أمته: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] فأخبره الله تعالى بما صنع به وما يصنع بأمته، وعن الكلبي أنه صلى الله عليه وسلم قال له أصحابه وقد ضجروا من أذى المشركين: حتى متى نكون على هذا؟ فقال: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم أأترك بمكة أم أومر بالخروج إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها يعني في منامه ذات نخل وشجر. وحكى في «البحر» عن مالك بن أنس. وقتادة. وعكرمة. والحسن أيضاً. وابن عباس أن المعنى ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، وأخرج أبو داود في ناسخه من طريق عكرمة عن ابن عباس أنه قال في الآية: نسختها الآية التي في الفتح يعني {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] فخرج صلى الله عليه وسلم إلى الناس فبشرهم بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال رجل من المؤمنين: هنيئاً لك يا نبي الله قد علمنا الآن ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى في سورة الأحزاب (47) {وَبَشّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً} وقال سبحانه: {لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم} [الفتح: 5] فبين الله تعالى ما يفعل به وبهم. واستشكل على تقدير صحته بأن النسخ لا يجري في الخبر فلعل المنسوخ الأمر بقوله تعالى: {قُلْ} إن قلنا: إنه هنا للتكرار أو المراد بالنسخ مطلق التغيير. وقال أبو حيان: هذا القول ليس بظاهر بل قد أعلم الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام من أول الرسالة بحاله وحال المؤمن وحال الكافر في الآخرة، وقال الإمام: أكثر المحققين استبعدوا هذا القول واحتجوا بأن النبي لا بد أن يعلم من نفسه كونه نبياً ومتى علم ذلك علم أنه لا يصدر عنه الكبائر وأنه مغفور وإذا كان كذلك امتنع كونه شاكاً في أنه هل هو مغفور له أم لا، وبأنه لا شك أن الأنبياء أرفع حالاً من الأولياء، وقد قال الله تعالى فيهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] فكيف يعتقد بقاء الرسول وهو رئيس الأنبياء وقدوة الأولياء شاكاً في أنه هل هو من المغفورين أم لا، وقد يقال: المراد أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام ما يدري ذلك على التفصيل، وما ذكر لا يتعين فيه حصول العلم التفصيلي لجواز أن يكون عليه الصلاة والسلام قد أعلم بذلك في مبدأ الأمر إجمالاً بل في إعلامه صلى الله عليه وسلم بعد بحال كل شخص شخص على سبيل التفصيل بأن يكون قد أعلم عليه الصلاة والسلام بأحوال زيد مثلاً في الآخرة على التفصيل وبأحوال عمرو وكذلك وهكذا توقف. وفي «صحيح البخاري» وأخرجه الإمام أحمد. والنسائي. وابن مردويه عن أم العلاء، وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت لما مات عثمان بن مظعون: رحمة الله تعالى عليك يا أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله تعالى أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفعل بي ولا بكم قالت أم العلاء: فوالله ما أزكي بعده أحداً، وفي رواية ابن حبان. والطبراني عن زيد بن ثابت أنها قالت لما قبض طب: أبا السائب نفسك إنك في الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم. وما يدريك؟ قالت: يا رسول الله عثمان بن مظعون قال: أجل وما رأينا إلا خيراً والله ما أدري ما يصنع بي، وفي رواية الطبراني. وابن مردويه عن ابن عباس أنه لما مات قالت امرأته أو امرأة: هنيئاً لك ابن مظعون الجنة فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر مغضب وقال: وما يدريك؟ والله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل الله بي فقالت: يا رسول الله صاحبك وفارسك وأنت أعلم فقال: أرجو له رحمة ربه تعالى وأخاف عليه ذنبه، لكن في هذه الرواية أن ابن عباس قال: وذلك قبل أن ينزل {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وعن الضحاك المراد لا أدري ما أومر به ولا ما تؤمرون به في باب التكاليف والشرائع والجهاد ولا في الابتلاء والامتحان، والذي اختاره أن المعنى على نفي الدراية من غير جهة الوحي سواء كانت الدراية تفصيلية أو إجمالية وسواء كان ذلك في الأمور الدنيوية أو الأخروية وأعتقد أنه صلى الله عليه وسلم لم ينتقل من الدنيا حتى أوتي من العلم بالله تعالى وصفاته وشؤنه والعلم بأشياء يعد العلم بها كمالاً ما لم يؤته أحد غيره من العالمين، ولا أعتقد فوات كمال بعدم العلم بحوادث دنيوية جزئية كعدم العلم بما يصنع زيد مثلاً في بيته وما يجري عليه في يومه أو غده، ولا أرى حسناً قول القائل: إنه عليه الصلاة والسلام يعلم الغيب واستحسن أن يقال بدله: إنه صلى الله عليه وسلم أطلعه الله تعالى على الغيب أو علمه سبحانه إياه أو نحو ذلك، وفي الآية رد على من ينسب لبعض الأولياء علم كل شيء من الكليات والجزئيات، وقد سمعت خطيباً على منبر المسجد الجامع المنسوب للشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره يوم الجمة قال بأعلى صوت: يا باز أنت أعلم بي من نفسي، وقال لي بعض: إني لأعتقد أن الشيخ قدس سرهع يعلم كل شيء مني حتى منابت شعري، ومثل ذلك مما لا ينبغي أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف ينسب إلى من سواه؟ فليتق العبد مولاه، وفيما تقدم من الأخبار في شأن عثمان بن مظعون رد أيضاً على من يقول فيمن دونه في الفضل أو من لم يبشره الصادق بالجنة والكرامة نحو ما قيل فيه. نعم ينبغي الظن الحسن في المؤمنين أحياء وأمواتاً ورجاء الخير لكل منهم فالله تعالى أرحم الراحمين، هذا والظاهر أن {مَا} استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء والجملة بعدها خبر وجملة المبتدأ والخبر معلق عنها الفعل القلبي وهو إما متعد لواحد أو اثنين، وجوز أن تكون {مَا} موصولة في محل نصب على المفعولية لفعل الدراية وهو حينئذ متعد لواحد والجملة بعدها صلة، وأن تكون حرفاً مصدرياً فالمصدر مفعول {أَدْرِى} والاستفهامية أقضي لحق مقام التبري عن الدراية، و{لا} لتذكير النفي المنسحب على {مَّا يَفْعَلُ} الخ وتأكيده، ولولا اعتبار الانسحاب لكان التركيب ما يفعل بي وبكم دون {لا} لأنه ليس محلاً للنفي ولا لزيادة لا ونظير ذلك زيادة {مِنْ} في قوله تعالى: {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ أَنَّ *يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ} [البقرة: 105] لانسحاب النفي فإنه إذا انتفت ودادة التنزيل انتفى التنزيل، وزيادة الباء في قوله سبحانه: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذى خَلَقَ السموات والارض وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ} [الأحقاف: 33] لانسحاب النفي، على أن مع ما في حيزها ولولاه ما زيدت الباء في الخبر، وقيل: الأصل ولا ما يفعل بكم فاختصر، وقيل: ولا بكم، وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة {يَفْعَلُ} بالبناء للفاعل وهو ضمير الله عز وجل: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ} أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي على معنى قصر أفعاله صلى الله عليه وسلم على اتباع الوحي، والمراد بالفعل ما يشمل القول وغيره. وهذا جواب عن اقتراحهم الاخبار عما لو يوح إليه عليه الصلاة والسلام من الغيوب، والخطاب السابق للمشركين. وقيل: عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا عن أذية المشركين والخطاب السابق لهم، والأول أوفق لقوله تعالى: {وَمَا أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ} أنذركم عقاب الله تعالى حسبما يوحى إلى {مُّبِينٌ} بين الإنذار بالمعجزات الباهرة، والحصر إضافي. وقرأ ابن عمير {يُوحَى} على البناء للفاعل.
|