الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} أي نخبرك ونحدثك من قص أثره إذا اتبعه كأن المحدث يتبع ما حدث به وذكره شيئاً فشيئاً ومثل ذلك تلى {أَحْسَنَ القصص} أي أحسن الاقتصاص فنصبه على المصدرية إما لاضافته إلى المصدر. أو لكونه في الأصل صفة مصدر أي قصصا أحسن القصص، وفيه مع بيان الواقع إيهام لما في اقتصاص أهل الكتاب من القبح والخلل، والمفعول به محذوف أي مضمون هذا القرآن، والمراد به هذه السورة، وكذا في قوله عز وجل: {بِمَا أَوْحَيْنَا} أي بسبب إيحائنا. {إِلَيْكَ هذا القرءان} والتعرض لعنوان قرآنيتها لتحقيق أن الاقتصاص ليس بطريق الإلهام أو الوحي غير المتلو، ولعل كلمة {هذا} للإيماء إلى تعظيم المشار إليه. وقيل: فيها إيماء إلى مغايرة هذا القرآن لما في قوله تعالى: {قُرْءاناً عَرَبِيّاً} [يوسف: 2] بأن يكون المراد بذلك المجموع وفيه تأمل، وأحسنيته لأنه قد قص على أبدع الطرائق الرائعة الرائقة، وأعجب الأساليب الفائقة اللائقة كما لا يكاد يخفى على من طالع القصة من كتب الأولين وإن كان لا يميز الغث من السمين ولا يفرق بين الشمال واليمين، وجوز أن يكون هذا المذكور مفعول {نَقُصُّ}. وصرح غير واحد أن الآية من باب تنازع الفعلين، والمذهب البصري أولى هنا أما لفظاً فظاهر وأما معنى فلأن القرآن كما سمعت السورة وإيقاع الإيحاء عليها أظهر من أيقاع {نَقُصُّ} باعتبار اشتمالها على القصة وما هو أظهر أولى بإعمال صريح الفعل فيه، وفيه من تفخيم القرآن وإحضار ما فيه من الإعجاز وحسن البيان ما ليس في إعمال {نقصذ صريحاً، وجوز تنزيل أحد الفعلين منزلة اللازم، ويجوز أن يكون دأحسنذ مفعولاً به لنقص، والقصص: إما فعل بمعنى مفعول كالنبأ والخبر أو مصدر سمي به المفعول كالخلق والصيد أي نقص عليك أحسن ما يقص من الأنباء وهو قصة آل يعقوب عليه السلام، ووجه أحسنيتها اشتمالها على حاسد ومحسود. ومالك ومملوك. وشاهد ومشهود، وعاشق ومعشوق. وحبس وإطلاق. وخصب وجدب. وذنب وعفو. وفراق ووصال. وسقم وصحة. وحل وارتحال. وذل وغز، وقد أفادت أنه لا دافع لقضاء الله تعالى ولا مانع من قدره وأنه سبحانه إذا قضى لإنسان بخير ومكرمة فلو أن أهل العالم اجتمعوا على دفع ذلك لم يقدروا وأن الحسد سبب الخذلان والنقصان. وأن الصبر مفتاح الفرج. وأن التدبير من العقل وبه يصلح أمر المعاض إلى غير ذلك مما يعجز عن بيانه بنان التحرير. وقيل: إنما كانت {أحسن} لأن غالب من ذكر فيها كان مآله إلى السعادة، وقيل: المقصوص أخبار الإمام السالفة والقرون الماضية لا قصة آل يعقوب فقط، والمراد بهذا القرآن ما اشتمل على ذلك، و{أَحْسَنُ} ليس أفعل تفضيل بل هو بمعنى حسن كأنه قيل: حسن القصص من باب إضافة الصفة إلى الموصوف أي القصص الحسن، والقول عليه عند الجمهور ما ذكرنا، قيل: ولكونها بتلك المثابة من الحسن تتوفر الدواعي إلى نقلها ولذا لم تتكرر كغيرها من القصص، وقيل: سبب ذلك من افتتان امرأة ونسوة بأبدع الناس جمالاً، ويناسب ذلك عدم التكرار لما فيه من الأعضاء والستر، وقد صحح الحاكم في مستدركه حديث النهي عن تعليم النساء سورة يوسف، وقال الإستاذ أبو إسحق: إنما كرر الله تعالى قصص الأنبياء وساق هذه القصة مساقاً واحداً إشارة إلى عجز العرب كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: إن كان من تلقاء نفسي فافعلوا في قصة يوسف ما فعلت في سائر القصص وهو وجه حسن إلا أنه يبقى عليه أن تحصيص سورة يوسف لذلك يحتاج إلى بيان فإن سوق قصة آدم عليه السلام مثلاً مساقاً واحداً يتضمن الإشارة إلى ذلك أيضاً بعين ما ذكر، وقال الجلال السيوطي: ظهر لي وجه في سوقها كذلك وهو أنها نزلت بسبب طلب الصحابة أن يقص عليهم فنزلت مبسوطة تامة ليحصل لهم مقصود القصص من الاستيعاب وترويح النفس بالإحاطة ولا يخفى ما فيه، وكأنه لذلك قال: وأقوى ما يجاب به أن قصص الأنبياء إنما كررت لأن المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم والحاجة داعية إلى ذلك كتكرير تكذيب الكفار للرسول الله صلى الله عليه وسلم فكلما كذبوا أنزلت قصة منذرية بحلول العذاب كما حل بالمكذبين، ولهذا قال سبحانه في آيات: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاولين} [الأنفال: 38] {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ} [الأنعام: 6] وقصة يوسف لم يقصد منها ذلك، وبهذا أيضاً يحصل الجواب عن عدم تكرير قصة أصحاب الكهف. وقصة ذي القرنين. وقصة موسى مع الخضر. وقصة الذبيح، ثم قال: فإن قلت: قد تكررت قصة ولادة يحيى وولادة عيسى عليهما السلام مرتين وليست من قبيل ما ذكرت {قُلْتَ} الأولى في سورة {كهيعص} [مريم: 1] وهي مكية أنزلت خطاباً لأهل مكة، والثانية في سورة آل عمران وهي مدنية أنزلت خطاباً لليهود ولنصارى نجران حين قدموا ولهذا اتصل بهذا ذكر المحاجة والمباهلة اه. واعترض بأن قصة آدم عليه السلام كررت مع أنه ليس المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم، وأجيب بأنها وإن لم يكن المقصود بها إفادة ما ذكر إلا أن فيها من الزجر عن المعصية ما فيها فهي أشبه قصة بتلك القصص التي كررت لذلك فافهم {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ} أي قبل إيحائنا إليك ذلك {لَمِنَ الغافلين} عنه لم يخطر ببالك ولم يقرع سمعك، وهذا تعليل لكونه موحى كما ذكره بعض المحققين والأكثر في مثله ترك الواو، والتعبير عن عدم العلم بالغفلة لا جلال شأن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا العدول عن لغافلا إلى ما في النظم الجليل عند بعض، ويمكن أن يقال: إن الشيء إذا كان بديعاً وفيه نوع غرابة إذا وقف عليه قيل للمخاطب: كنت عن هذا غافلاً فيجوز أن يقصد الإشارة إلى غرابة تلك القصة فيكون كالتأكيد لما تقدم إلا أن فيه ما لا يخفى وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واللام فارقة، وجملة {كُنتُ} الخ خبر إن.
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)} {إِذْ قَالَ يُوسُفُ} نصب باضمار اذكر بناءاً على تصرفها، وذكر الوقت كناية عن ذكر ما حدث فيه والكلام شروع في إنجاز ما وعد سبحانه، وحكى مكى أن العامل في {إِذْ} {الغافلين} [يوسف: 3] وقال ابن عطية: يجوز أن يكون العامل فيها {نَقُصُّ} [يوسف: 3]، وروي ذلك عن الزجاج على معنى نقص عليك الحال {إِذْ} الخ. وهي للوقت المطلق المجرد عن اعتبار المضي، وفي كلا الوجهين ما فيه. واستظهر أبو حيان بقاءها على معناها الأصلي وأن العامل فيها {قَالَ يَاءادَمُ بَنِى} [يوسف: 5] كما تقول: إذ قام زيد قام عمرو، ولا يخلو عن بعد، وجوز الزمخشري كونها بدلاً من {حُسْنُ القصص} [يوسف: 3] على تقدير جعله مفعولاً به وهو بدل اشتمال، وأورد أنه إذا كان بدلاً من المفعول يكون الوقت مقصوصاً ولا معنى له، وأجيب بأن المراد لازمة وهو اقتصاص قول يوسف عليه السلام فإن اقتصاص وقت القول ملزوم لاقتصاص القول. واعترض بأنه يكون بدل بعض أو كل لا اشتمال، وأجيب بأنه إنما يلزم ما ذكر لو كان الوقت بمعنى القول وهو إما عين المقصوص أو بعضه، أما لو بقي على معناه وجعل مقصوصاً باعتبار ما فيه فلا يرد الاعتراض. هذا ولم يجوزوا البدلية على تقدير نصب {أَحْسَنَ القصص} على المصدرية، وعللك ذلك بعدم صحة المعنى حينئذ وبقيام المانع عربية، أما الأول فلأن المقصوص في ذلك الوقت لا الاقتصاص. وأما الثاني فلأن أحسن الاقتصاص مصدر فلو كان الظرف بدلاً وهو المقصود بالنسبة لكان مصدراً أيضاً وهو غير جائز لعدم صحة تأويله بالفعل، وأورد على هذا أن المصدر كما يكون ظرفاً نحو أتيتك طلوع الشمس يكون الظرف أيضاً مصدراً ومفعولاً مطلقاً لسدّه مسدّ المصدر كما فيقوله: لم تغتمض عيناك ليلة أرمد *** فانهم صرحوا كما في التسهيل وشروحه أن ليلة مفعول مطلق أي اغتماض ليلة، وما ذكر من حديث التأويل بالفعل فهو من الأوهام الفارغة، نعم إذا ناب عن المصدر ففي كونه بد اشتمال شبهة وهو شيء آخر غير ما ذكر، وعلى الأول أنه وإن لم يشتمل الوقت على الاقتصاص فهو مشتمل على المقصوص فلم لم يتجز البدلية بهذه الملابسة؟ ورد بأن مثل هذه الملابسة لا تصحح البدلية، ونقل عن الرضى أن الاشتمال ليس كاشتمال الظرف على المظروف بل كونه دالاً عليه إجمالاً ومتقاضياً له بوجه مّا بحيث تبقى النفس عند ذكر الأول متشوقة إلى الثاني منتظرة له فيجيء الثاني مبيناً لما أجمل فيه فإن لم يكن كذلك يكن بدل غلط وعلى هذا يقال في عدم صحة البدلية: إن النفس إنما تتشوق لذكر وقت الشيء لا لذكر وقت لازمه ووقت القول ليس وقتاً للاقتصاص، و{يُوسُفَ} علم أعجمي لا عربي مشتق من الأسف وسمي به لأسف أبيه عليه، أو أسفه على أبيه. أو أسف من يراه على مفارقته لمزيد حسنه كما قيل، وإلا لا نصرف لأنه ليس فيه غير العلمية ولا يتوهمن أن فيه وزن الفعل أيضاً إذ ليس لنا فعل مضارع مضموم الأول. والثالث، وكذا يقال في يونس، وقرىء بفتح السين وكسرها على ما هو الشائع في الأسماء الأعجمية من التغيير لا على أنه مضارع بني للمفعول أو للفاعل من آسف لأن القراءة المشهورة شهدت بعجميته ولا يجوز أن يكون أعجمياً وغير أعجمي قاله غير واحد لكن في الصحاح أن يعفر ولد الأسود الشاعر إذا قلته بفتح الياء لم تصرفه لأنه مثل يقتل. وقال يونس: سمعت رؤبة يقول: أسود بن يعفر بضم الياء وهذا ينصرف لأنه قد زال عنه شبه الفعل اه. وصرحوا بأن هذا مذهب سيبويه، وأن الأحفش خالفه فمنه صرفه لعروض الضم للاتباع، وعلى هذا يحتمل أن يقال: إنه عربي ومنع من الصرف على قراءة الفتح والكسر للعلمية ووزن الفعل، وكذا على قراءة الضم بناءاً على ما يقوله الأخفش ويلتزم كون ضم ثالثه اتباعاً لضم أوله، وأجيب بأنه لو كان عربياً لوقع فيه الخلاف كما وقع في يعفر، والظاهر أن أعجميته متحققة عندهم ولذا التزموا منعه من الصرف لها وللعلمية ولا التفات لذلك الاحتمال. وقرأ طلحة بن مصرف يؤسف بالهمز وفتح السين، وقد جاء فيه الضم والكسر مع الهمز أيضاً فيكون فيه ست لغات {لاِبِيهِ} يعقوب بن إسحق بن إبراهيم، وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم». نسب كأن عليه من شمس الضحى *** توراً ومن ضوء الصباح عموداً {ياأبت} أصلح يا أبي فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في كون كل منهما من حروف الزيادة ويضم إلى الإسم في آخره ولهذا قلبها هاءاً في الوقف ابن كثير. وابن عامر، وخالف الباقون فأبقوها تاءاً في الوقف وكسرت لأنها عوض عن الياء التي هي أخت الكسرة فحركت بحركة تناسب أصلها لا لتدل على الياء ليكون ذلك كالجمع بين عوضين أو بين العوض والمعوض، وجعل الزمخشري هذه الكسرة كسرة الياء زحلقت إلى التاء لما فتح ما قبلها للروم فتح ما قبل تاء التأنيث، وقرأ ابن عامر. وأبو جعفر. والاعرج بفتحها لأن أصلها وهو الياء إذا حرك حرك بالفتح، وقيل: لأن أصل {يا أبت} يا أبتا بأن قلبت الياء ألفاً ثم حذفت وأبقيت فتحتها دليلاً عليها، وتعقب بأن يا أبتا ضعيف كيا أبتي حتى قيل: إنه يحتص بالضرورة كقوله: يا أبتا علك أو عساكا *** وقال الفراء. وأبو عبيدة: وأبو حاتم: إن الألف المحذوفة من يا أبتا للندبة، ورد بأن الموضع ليس موض ندبة، وعن قطرب أن الأصل يا أبة بالتنوين فحذف والنداء باب حذف، ورد بأن التنوين لا يحذف من المنادي المنصوب نحو يا ضاربا رجلاً، وقرىء بضم التاء إجراءاً لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء من غير اعتبار التعويض، وأنت تعلم أن ضم المنادي المضاف شاذ وإنما لم تسكن مع الباء التي وقعت هي عوضاً عنها تسكن لأنها حرف صحيح منزل منزلة الاسم فيجب تحريكها ككاف الخطاب. وزعم بعضهم أن الياء أبدلت تاءاً لأنها تدل على المبالغة والتعظيم في نحو علامة. ونسابة، والأب. والأم مظنة التعظيم فعلى هذا لا حذف ولا تعويض، والتاء حينئد اسم، فقد صرحوا أن الاسم إذا كان على حرف واحد وأبدل لا يخرج عن الاسمية، وقال الكوفيون: إن التاء لمجرد التأنيث وياء الإضافة مقدرة، ويأباه عدم سماع يا بتي في السعة، وكذا سماع فتحها على ما قيل، وتعقب بأن تاء لات للتأنيث عند الجمهور وكذا تاء ربت. وثمت وهي مفتوحة {لاِبِيهِ ياأبت إِنّى رَأَيْتُ} أي في المنام كما يقتضيه كلام ابن عباس. وغيره، وكذا قوله سبحانه: {اَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ} [يوسف: 5] و{هذا} [يوسف: 100] تأويل رؤياي، فإن مصدر رأى الحلمية الرؤيا ومصدر البصرية الرؤية في المشهور، ولذا خطىء المتنبي في قوله: ورؤياك أحلى في العيون من الغمض *** وذهب السهيلي. وبعض اللغويين إلى أن الرؤيا سمعت من العرب بمعنى الرؤيا ليلاً ومطلقاً، واستدل بعضهم لكون رأى حلمية بأن ذلك لو وقع يقظة وهو أمر خارق للعادة لشاع وعد مجعزة ليعقوب عليه السلام أو إرهاصاً ليوسف عليه السلام، وأجيب بأنه يجوز أن يكون في زمان يسير من الليل والناس غافلون، والحق أنها حلمية، ومثل هذا الاحتمال مما لا يلتفت إليه. وقرأ أبو جعفر {إِنّى} بفتح الياء {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} وهي جربان. والطارق. والذيال. وقابس. وعمودان. والفيلق. والمصبح. والفزع. ووثاب. وذو الكتفين. والضروج، فقد روي عن جابر أن سناناً اليهودي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني يا محمد عن النجوم التي رآهن يوسف فسكت فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك فقال عليه الصلاة والسلام: هل أنت مؤمن إن أخبرتك؟ قال: نعم فعد صلى الله عليه وسلم ما ذكر فقال اليهودي: أي والله إنها لأسماؤها. وأخرج السهيلي عن الحرث بن أبي أسامة نحو ذلك إلا أنه ذكر النطح بدل المصبح، وأخرج الخبر الأول جماعة من المفسرين. وأهل الأخبار وصححه الحاكم، وقال: إنه على شرط مسلم، وقال أبو زرعة. وابن الجوزي: إنه منكر موضوع. وقرأ الحسن. وطلحة بن سليمان. وغيرهما {أَحَدَ عَشَرَ} بسكون العين لتاولي الحركات وليظهر جعل الاسمين إسماً واحداً {والشمس والقمر} عطف على ما قبل. وزعم بعضهم أن الواو للمعية وليس بذاك وتخصيصهما بالذكر وعدم الاندراج في عموم الكواكب لاختصاصهما بالشرف وتأخيرهما لأن سجودهما أبلغ وأعلى كعباً فهو من باب لا يعرفه فلان ولا أهل بلده، وتقديم الشمس على القمر لما جرت عليه عادة القرآن إذا جمع الشمس والقمر، وكان ذلك إما لكونها أعظم جرماً وأسطع نوراً وأكثر نفعاً من القمر وإما لكونها أعلى مكاناً منه وكون فلكها أبسط من فلكه على ما زعمه أهل الهيئة وكثير من غيرهم، وإما لأنها مفيضة النور عليه كما ادعاه غير واحد، واستأنس له بقوله سبحانه: {هُوَ الذى جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُوراً} [يونس: 5] وإنما أورد الكلام على هذا الأسلوب ولم يطو ذكر العدد لأن المقصود الأصلي أن يتطابق المنام ومن هو في شأنهم وبترك العدد يفوت ذلك {رَأَيْتُهُمْ لِى ساجدين} استظهر في البحر أن {رَأَيْتَهُمْ} تأكيد لما تقدم تطرية للعهد كما في قوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وعظاما أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35] واختار الزمخشري التأسيس وأن الكلام جواب سؤال مقدر كأن يعقوب عليه السلام قال له عند قوله: {رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشمس والقمر} كيف رأيتها؟ سائلاً عن حال رؤيتها فقال: {رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ} وكأنه لا يرى أن رأي الحلمية مما تتعدى إلى مفعولين كالعلمية ليلتزم كون المفعول الثاني للفعل الأول محذوفاً، ويرى أنه تتعدى لواحد كالبصرية فلا حذف، و{ساجدين} حال عنده كما يشير إليه كلامه، والمشهور عند الجمهور أنه تتعدى إلى مفعولين ولا يحذف ثانيهما اقتصاراً. وجوز أن يكون مذهبه القول بالتعدي إلى ما ذكر إلا أنه يقول بجواز ما منعوه من الحذف، وأنت تعلم أن استظهره في البحر سالم عن المخالفة والنظرية أمر معهود في الكتاب الجليل وإنما أجريت هذه المتعاطفات مجرى العقلاء في الضمير جمع الصفة لوصفها بصفة العقلاء أعني السجود سواء كان المراد منه التواضع أو السجود الحقيقي وءعطاء الشيء الملابس لآخر من بعض الوجوه حكماً من أحكامه إظهاراً لأثر الملابسة والمقاربة شائع في الكلام القديم والحديث، وفي الكلام على ما قيل: استعارة مكنية بتشبيه المذكورات بقوم عقلاء ساجدين والضمير والسجود قرينة أو أحدهما قرينة تخييلية والآخر ترشيح. وذهب جماعة من الفرسفة إلى أن الكواكب أحياء ناطقة، واستدل لهم بهذه الآية ونظائرها وكثير من ظواهر الكتاب والسنة يشهد لهم، وليس في القول بذلك إنكار ما هو من ضروريات الدين، وتقديم الجار والمجرور لإظهار العناية والاهتمام مع ما في ضمنه على ما قيل: من رعاية الفواصل، وكانت هذه الرؤية فيما قيل: ليلة الجمعة، وأخرج أبو الشيخ عن ابن منبه أنها كانت ليلة القدر، ولعله لا منافاة لظهور إمكان كون ليلة واحدة ليلة القدر وليلة الجمعة، واستشكل كونها في ليلة القدر بأنها من خواص هذه الأمة، وأجيب بأن ما هو من الخواص تضعيف ثواب العمل فيها إلى ما قص الله سبحانه وكان عمره عليه السلام حين رأى ذلك اثنتي عشرة سنة فيما يروى عن وهب. وقيل: سبع عشرة سنة، وكان قد رأى قبل وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصا طوالاً كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيع فقال: إياك أن تذكر هذا لاخوتك، وتعبير هذه العصى لاحدى عشرة هو بعينه تعبيراً لاحد عشر كوكباً فإن كلا منهما إشارة إ لى إخوته، وليس في الرؤيا الأولى ما يشير إليه الشمس والقمر في الرؤية الثانية، ولا ضرورة إلى التزام القول باتحاد المنامين بأن يقال: إنه عليه السلام رأى في كل أحد عشر شيثاً إلا أن ذلك في الأول عصى وفي الثاني كواكب، ويكون عطف الشمس والقمر على ما قبله من قبيل عطف ميكائيل وجبريل عليهما السلام على الملائكة كما يوهمه كلام بعضهم، وعبرت الشمس بأبيه. والقمر بأمه اعتباءاً للمكان والمكانة. وروي ذلك عن قتادة. وعن السدى أن القمر خالته لأن أمه راحيل قد ماتت، والقول: بأن الله تعالى أحياها بعد لتصديق رؤياه لا يخفى حاله، وعن ابن جريج أن الشمس أمّه. والقمر أبوه وهو اعتبار للتأنيث والتذكير، وقد تعبر الشمس بالملك. وبالذهب. وبالزوجة الجميلة، والقمر بالأمير، والكواكب بالرؤساء وكذا بالعلماء أيضاً. وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أن رؤية القمر تؤوّل على أحد سبعة عشر وجهاً، ملك. أو وزير أو نديم الملك. أو رئيس. أو شريف. أو جارية. أو غلام. أو أمر باطل. أو وال. أو عالم مفسد. أو رجل معظم. أو والد. أو والدة. أو زوجة. أو بعل لها. أو ولد. أو عظمة، ولعل ذلك مبني على اختلاف الرائي وكيفية الرؤية، وزعم بعضهم أنه عليه السلام لم يكن رأى الكواكب ولا الشمس والقمر وإنما رأى إخوته وأبويه إلا أنه عبر عنهم بذلك على طريقة الاستعارة التصريحة وهو خلاف الظاهر جداً وكياد يعدّ من كلام النائم، ويؤيد ظاهر ما نقله كثير من المفسرين أنه عليه السلام رأى الكواكب والشمس والقمر قد نزلت فسجدت له فقص ذلك على أبيه.
{قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)} {قَالَ يابنى} صغره للشفقة ويسمى النحاة مثل هذا تصغير التحبيب، وما ألطف قول بعض المتأخرين: قد صغر الجوهر في ثغره *** لكنه تصغير تحبيب ويحتمل أن يكون لذلك ولصغر السن، وفتح الياء قراءة حفص، وقرأ الباقون بكسرها، والجملة استئناف مبني على سؤال كأنه قيل: فماذا قال الأب بعد سماع هذه الرأية العجيبة من ابنه؟ فقيل: قال: {أَوْ بَنِى} {لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا} أي فيحتالوا لإهلاكك حيلة عظيمة لا تقدر على التفصي عنها أو خفية لا تتصدى لمدافعتها، وإنما قال له ذلك لما أنه عليه السلام عرف من رؤياه أن سيبلغه الله تعالى مبلغاً جليلاً من الحكمة ويصطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين فخاف عليه حسد الاخوة وبغيهم فقال له ذلك صيانة لهم من الوقوع فيما لا ينبغي في حقه وله من معاناة المشاق ومقاساة الأحزان وإن كان واثقاً بأنهم لا يقدرون على تحويل ما دلت عليه الرؤيا وأنه سبحانه سيحقق ذلك لا محالة وطمعاً في حصوله بلا مشقة وليس ذلك من الغيبة المحظورة في شيء، والرؤيا مصدر رأى الحلمية الدالة على ما يقع في النوم سواء كان مرئياً أم لا على ما هو المشهور، والرؤية مصدر رأى البصرية الدالة على إدراك مخصوص، وفرق بين مصدر المعنيين بالتأنيثين، ونظير ذلك القربة للتقرب المعنوي بعبادة ونحوها، والقربى للتقرب النسبي وحقيقتها عند أهل السنة كما قال محيى الدين النووي نقلاً عن المازني: أن الله سبحانه يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان وهو سبحانه يخلق ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة، وقد جعل سبحانه تلك الاعتقادات علماً على أمور أخر يخلقها في ثاني الحال، ثم إن ما يكون علماً ما يسر يخلقه بغير حضرة الشيطان. وما يكون علماً على ما يضريخلقه بحضرته. ويسمى الأول رؤيا وتضاف إليه تعالى إضافة تشريف، والثاني حلماً وتضاف إلى الشيطان كما هو الشائع من إضافة الشيء المكروه إليه، وإن كان الكل منه تعالى، وعلى ذلك جاء قوله صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا من الله تعالى والحلم من الشيطان» وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنها من الله تعالى فليحمد الله تعالى وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم ومن شرها ولا يذكرها لأحد فانها لن تضره» وصح عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فيبصق عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم وليتحول عن جنبه الذي كان عليه " ولا يبعد جعل الله تعالى ما ذكر سبباً للسلامة عن المكروه كما جعل الله الصدقة سبباً لدفع البلاء وإن لم نعرف وجه مدخلية البصق عن اليسار والتحول عن الجنب الذي كان عليه مثلاً في السببية، وقيل: هي أحاديث الملك الموكل بالأرواح إن كانت صادقة. ووسوسة الشيطان والنفس إن كانت كاذبة، ونسب هذا إلى المحدثين، وقد يجمع بين القولين بأن مقصود القائل بأنها اعتقادات يخلقها الله تعالى في قلب الخ أنها اعتقادات تخلق كذلك بواسطة حديث الملك. أو بواسطة وسوسة الشيطان مثلاً، والمسببات في المشهور عن الاشاعرة مخلوقة له تعالى عنه الأسباب لا بها فتدبر. وقال غير واحد من المتفلسفة هي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك، والصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ فتتصور بما فيها مما يليق بها من المعاني الحاصلة هناك، ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبها فترسلها إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة، ثم إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية استغنت عن التعبير وإلا احتاجت إليه. وذكر بعض أكابر الصوفير ما يقرب من هذا، وهو: أن الرؤيا من أحكام حضرة المثال المقيد المسمى بالخيال وهو قد يتأثر من العقول السماوية والنفوس الناطقة المدركة للمعاني الكلية والجزئية فيظهر فيه صور مناسبة لتلك المعاني وقد يتأثر من القوى الوهمية المدركة للمعاني الجزئية فقط فيظهر فيه صورة تناسبها، وهذا قد يكون بسبب سوء مزاج الدماغ وقد يكون بسبب توجه النفس بالقوة الوهمية إلى إيجاد صورة من الصور كمن يتخيل صورة محبوبة الغائب عنه تخيلاً قوياً فتظهر صورته في خياله فيشاهده، وهي أول مبادي الوحي الالهي في أهل العناية لأن الوحي لا يكون إلا بنزول الملك وأول نزوله في الحضرة الخيالية ثم الحسية، وقد صح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رأيا إلا جاءت مثل فلق الصبح» والمرئي على ما قال بعضهم: سواء كان على صورته الأصلية أو لا يكون بإرادة المرئى. وقد يكون بارادة الرائي، وقد يكون باردتهما معاً. وقد يكون لا بارادة من شيء منهما، فالأول كظهور الملك على نبي من الأنبياء عليهم السلام في صورة من الصور وظهور الكمل من الأناسي على بعض الصالحين في صورة غير صورهم، والثاني كظهور روح من الأرواح الملكية أو الإنسانية باستنزال الكامل إياه إلى عالمه ليكشف معنى ما مختصاً علمه به، والثالث كظهور جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم باستزاله إياه وبعص الحق سبحنه إياه إليه صلى الله عليه وسلم، والرابع كرؤية زيد مثلا صورة عمرو في النوم من غير قصد وإرادة منهما، وكانت رؤيا عليه السلام من هذا القسم لظهور أنها لو كانت بأرادة الاخوة لعلموا فلم يكن للنهي عن الاقتصاص معنى، ويشير إلى أنها لم تكن بقصده قوله بعد: {قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا} [يوسف: 100] هذا والمنقول عن المتكلمين أنها خيالات باطلة وهو من الغرابة بمكان بعد شهادة الكتاب والسنة بصحتها، ووجه ذلك بعض المحققين بأن مرادهم أن كون ما يختيله النائم إدراكاً بالبصر رؤية، وكون ما يتخيله إدراكاً بالسمع باطلاً فلا ينافي حقيقة ذلك بمعنى كونه أمارة لبعض الأشاء كذلك الشيء نفسه أو ما يضاحيه ويحاكيه، وقد مر الكلام في ذلك فتيقظ. والمشهور الذي تعاضدت فيه الروايات أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، ووجه ذلك عند جمع أنه صلى الله عليه وسلم بقي حسبما أشارت عائشة رضي الله تعالى عنها ستة أشهر يرى الوحي مناماً قم جاءه الملك يقظة وستة أشهر بالنسبة إلى ثلاث وعشرين سنة جزء من ست وأربعين جزءاً. وذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه عليه الصلاة والسلام على ستة وأربعين نوعاً: مثل النفث في الروع. وتمثل الملك له بصورة دحية رضي الله تعالى عنه مثلاً. وسماعه مثل صلصلة الجرس إلى غير ذلك، ولذا قال صلى الله عليه وسلم ما قال، وذكر الحافظ العسقلاني أن كون الرؤيا الصادقة جزء من كذا من النبوة إنما هو باعتبار صدقها لا غير وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبياً وليس كذلك، وقد تقدم لك أن في بعض الروايات ما فيه مخالفة لما في هذه الروايات من عدة الأجزاء، ولعل المقصود من كل ذلك على ما قيل: مدح الرؤيا الصادقة والتنويه برفعة شأنها لا خصوصية العدد ولا حقيقة الجزئية. وقال ابن الأثير في جامع الأصول: روى قليل أنها جزء من خمسة وأربعين جزءاً وله وجه مناسبة بأن عمره صلى الله عليه وسلم لم يستكمل ثلاثاً وستين بأن يكون توفي عليه الصلاة والسلام بأثناء السنة الثالثة والستين ورواية أنها جزء من أربعين جزءاً تكون محمولة على كون عمره عليه الصلاة والسلام ستين وهو رواية لبعضهم، وروي أنها جزء من سبعين جزءاً ولا أعلم لذلك وجهاً اه. وأنت تعلم أن سبعين كثيراً ما يستعمل في التكثير فلعله هو الوجه، والغرض الإشارة إلى كثرة أجزاء النبوة فتدبر، والمراد بإخوته ههنا على ما قيل: الاخوة الذين يخشى غوائلهم ومكايدهم من بني علاته الأحد عشر، وهم يهوذا، وروبيل. وشمعون. ولاوي. وريالون. ويشجر. ودينه بنو يعقوب من ليابنت ليان بن ناهر وهي بنت خالته، ودان. ويقتالي. وجاد. وآشر بنوه عليه السلام من سريتين له زلفة. وبلهة وهم المشار إليهم بالكواكب، وأما بنيامين الذي هو شقيق يوسف عليه السلام وأمهما راحيل التي تزوجها يعقوب عليه السلام بعد وفات أختها لي أو في حياتها إذ لم يكن جمع الأختين إذ ذاك محرماً فليس بداخل تحت هذا النهي إذ لا تتوهم مضرته ولا تخضى معرته ولم يكن معهم في الرؤيا إذ لم يكن معهم في السجود. وتعقب بأن المشهور أن بني علاته عليه السلام عشرة وليس فيهم من اسمه دينه، ومن الناس من ذكر ذلك في عداد أولاد يعقوب إلا أنه قال: هي أخت يوسف، وبناء الكلام عليه ظاهر الفساد بل لا تكاد تدخل في الاخوة إلا باعتبار التغليب لأنه جمع أخ فهو مخصوص بالذكور، فلعل المختار أن المراد من الاخوة ما يشمل الأعيان والعلات، ويعد بنيامين بدل دينه إتماماً لاحد عشر عدة الكواكب المرئية، والنهي عن الاقتصاص عليه وإن لم يكن ممن تخشى غوائله من باب الاحتياط وسد باب الاحتمال، ومما ذاع كل سر جواز الاثنين شاع، ويلتزم القول بوقوع السجود منه كسائر أهله وإسناد الكيد إلى الأخوة باعتبار الغالب فلا إشكال كذا قيل، وهو على علاته أولى مما قيل: إن المراد بإخوته ما لا يدخل تحته بنيامين. ودينه لأنهما لا تخشى معرتهما ولا يتوهم مضرتهما فهم حينئذ تسعة وتكمل العدة بأبيه وأمه أو خالته ويكون عطف الشمس والقمر من قبيل عطف جبريل وميكائيل على الملائكة، وفيه من تعظيم أمرهما ما فيه لما أن في ذلك ما فيه، ونصب {يكيدوا} بأن مضمرة في جواب النهي وعدى باللام مع أنه مما يتعدى بنفسه كما في قوله تعالى: {فَكِيدُونِى} [هود: 55] لتضمينه ما يتعدى بها وهو الاحتيال كما أشرنا إليه، وذلك لتأكيد المعنى بافادة معنى الفعلين المتضمن والمضمن جميعاً ولكون القصد إلى التأكيد والمقام مقامه أكد الفعل بالمصدر وقرر بالتعليل بعد، وجعل اللام زائدة كجعله مما يتعدى بنفسه وبالحرف خلاف الظاهر، وقيل: إن الجار والمجرور من متعلقات التأكيد على معنى فيكيدوا كيداً لك وليس بشيء؛ وجعل بعضهم اللام للتعليل على معنى فيفعلوا لأجلك وإهلاكك كيداً راسخاً أو خفياً؛ وزعم أن هذا الأسلوب آكد من أن يقال: فيكيدوك كيداً إذ ليس فيه دلالة على كونه نفس الفعل مقصود الإيقاع وفيه نوع مخالفة للظاهر أيضاً فافهم. وقرأ الجمهور {رُءيَاكَ} بالهمز من غير إمالة، والكسائي {رُءيَاكَ} بالامالة وبغير همز وهي لغة أهل الحجا«{إِنَّ الشيطان للإنسان} إي لهذا النوع {عَدّوٌّ مبينٌذ طاهر العداوة فلا يألو جهذاً في تسويل إخوتك وإثارة الحسد فيهم حتى يحملهم على ما لا خير فيه وإن كانوا ناشئين في بيت النبوة، والظاهر أن القوم كانوا بحيث يمكن أن يكون للشيطان عليهم سبيل، ويؤيد هذا أنهم لم يكونوا أنبياء، والمسألة خلافية فالذي عليه الأكثرون سلفاً وخلفاً أنهم لم يكونوا أنبياء أصلاً، أما السلف فلم ينقل عن الصحابة منهم أنه قال بنبوتهم ولا يحفظ عن أحد من التابعين أيضاً، وأما أتباع التابعين فنقل عن ابن زيد أنه قال بنبوتهم وتابعه شرذمة قليلة، وأما الخلف فالمفسرون فرق: فمنهم من قال بقول ابن زيد كالبغوي، ومنهم من بالغ في رده كالقرطبي. وابن كثير، ومنهم من حكى القولين بلا ترجيح كابن الجوزي، ومنهم من لم يتعرض للمسألة لكن ذكر ما يشعر بعدم كونهم أنبياء كتفسيره الأسباط بمن نبىء من بني إسرائيل والمنزل إليهم بالمنزل إلى أنبيائهم كأبي الليث السمرقندي. والواحدي، ومنهم من لم يذكر شيئاً من ذلك ولكن فسر الأسباط بأولاد يعقوب فحسبه ناس قولاً بنبوتهم وليس نصاً فيه لاحتمال أن يريد بالأولاد ذريته لا بنيه لصلبه، وذكر الشيخ ابن تيمية في مؤلف له خاص في هذه المسألة ما ملخصه: الذي يدل عليه القرآن واللغة والاعتبار أن إخوة يوسف عليه السلام ليسوا بأنبياء وليس في القرآن ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا عن أحد من أصحابه رضي الله تعالى عنهم خبر بأن الله تعالى نبأهم وإنما احتج من قال: بأنهم نبئوا بقوله تعالى في آيتي البقرة. والنساء: {والاسباط} وفسر ذلك بأولاد يعقوب والصواب أنه ليس المراد بهم أولاده لصلبه بل ذريته كما يقال لهم: بنو إسرائيل، وكما يقال لسائر الناس: بنو آدم، وقوله تعالى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُون} [الأعراف: 159] {وقطعناهم اثنتى عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} [الأعراف: 160] صريح في أن الأسباط هم الأمم من بني إسرائيل وكل سبط أمة، وقد صرحوا بأن الأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من بني إسمعيل، وأصل السبط كما قال أبو سعيد الضرير: شجرة واحدة ملتفة كثيرة الأغصان فلا معنى لتسمية الأبناء الاثني عشر أسباطاً قبل أن ينتشر عنهم الأولاد، فتخصيص الأسباط في الآية ببنيه عليه السلام لصلبه غلط لا يدل عليه اللفظ ولا المعنى ومن ادعاه فقد أخطأ خطأ بيناً والصواب أيضاً أنهم إنما سموا أسباطاً من عهد موسى عليه السلام، ومن حينئذ كانت فيهم النبوة فانه لم يعرف فيهم نبي قبله إلا يوسف، ومما يؤيد ذلك أنه سبحانه لما ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم قال: {وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودُ وسليمان} [الأنعام: 84] الآيات فذكر يوسف ومن معه ولم يذكر الاسباط ولو كان إخوة يوسف قد نبئوا كما نبىء لذكروا كما ذكر، وأيضاً إن الله تعالى ذكر للأنبياء عليهم السلام من المحامد والثناء ما يناسب النبوة وإن كان قبلها؛ وجاء في الحديث «أكرم الناس يوسف بن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم نبي ابن نبي» فلو كانت إخوته أنبياء كانوا قد شاركوه في هذا الكرم، وهو سبحانه لما قص قصتهم وما فعلوا بأخيهم ذكر اعترافهم بالخطيئة وطلبهم الاستغفار من أبيهم ولم يذكر من فضلهم ما يناسب النبوة وإن كان قلبها، بل ولا ذكر عنهم توبة باهرة كما ذكر عمن ذنبه دون ذنبهم، ولم يذكر سبحانه عن أحد من الأنبياء قبل النبوة ولا بعدها أنه فعل مثل هذه الأمور العظيمة من عقوق الوالد. وقطيعة الرحم. وإرقاق المسلم وبيعه إلى بلاد الكفر. والكذب البين إلى غير ذلك مما حكاه عنهم، بل لو لم يكن دليل على عدم نبوتهم سوى صدور هذه العظائم منهم لكفى لأن الأنبياء معصومون عن صدور مثل ذلك قبل النبوة وبعدها عند الأكثرين، وهي أيضاً أمور لا يطيقها من هو دون البلوغ فلا يصح الاعتذار بأنها صدرت منهم قلبه وهو لا يمنع الاستنباء بعد، وأيضاً ذكر أهل السير أن إخوة يوسف كلهم ماتوا بمصر وهو أيضاً مات بها لكن أوصى بنقله إلى الشام فنقله موسى عليه السلام ولم يذكر في القرآن أن أهل مصر قد جاءهم نبي قبل موسى غير يوسف ولو كان منهم نبي لذكر، وهذا دون ما قبله في الدلالة كما لا يخفى. والحاصل أن الغلط في دعوى نبوتهم إنما جاء من ظن أنهم هم الأسباط وليس كذلك إنما الاسباط أمة عظيمة، ولو كان المراد بالأسباط أبناء يعقوب لقال سبحلنه ويعقوب وبنيه فانه أبين وأوجز لكنه عبر سبحانه بذلك إشارة إلى أن النبوة حصلت فيهم من حين تقطيعهم أسباطاً من عهد موسى عليه السلام فليحفظ. هذا ولما نبهه عليه السلام على أن لرؤياه شأناً عظيماً وحذره مما حذره شرع في تعبيرها وتأويلها على وجه إجمالي فقال:
{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)} {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} أي يصطفيك ويختارك للنبوة كما روي عن الحسن، أو للسجود لك كما روي عن مقاتل، أو لأمور عظام كما قال الزمخشري، فيشمل ما تقدم وكذا يشمل إغناء أهله ودفع القحط عنهم ببركته وغير ذلك، ولعل خير الأقوال وسطها؛ وأصل الاجتباء من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك وفسره بالاختيار لأنه إنما يجتبى ما يختار. وذكر بعضهم أن اجتباء الله تعالى العبد تخصيصه أياه بفيض الهاي يتحصل منه أنواع من المكرمات بلا سعي من العبد وذلك مختص بالأنبياء عليهم السلام، ومن يقاربها من الصديقين والشهداء والصالحين، والمشار إليه بذلك إما الاجتباء لمثل تلك الرأيا فالمشبه به متغايران، وإما لمصدر الفعل المذكور وهو المشبه والمشبه به، {وكذلك} في محل نصب صفة لمصدر مقدر وقدم تحقيق ذلك، وقيل هنا: إن الحار والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وليس الأمر كذلك، ولا يخفى ما في ذكر الرب مضافاً إلى ضمير المخاطب من اللطف، وإنما لم يصرح عليه السلام بتفاصيل ما تدل عليه الرؤيا حذراً من إذاعته على ما قيل: {وَيُعَلّمُكَ} ذهب جمع إلى أنه كلام مبتدأ غير داخل تحت التشبيه أراد به عليه السلام تأكيد مقالته وتحقيقها وتوطين نفس يوسف عليه السلام بما أخبر به على طريق التعبير والتأويل أي وهو {يعلمك} {وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحاديث} أي ذلك الجنس من العلوم، أو طرفاً صالحاً منه فتطلع على حقيقة ما أقول ولا يخفى ما فيه من تأكيد ما سبق والبعث على تلقي ما سيأتي بالقبول، وعلل عدم دخوله تحت التشبيه بأن الظاهر أن يشبه الاجتباء بالاجتباء والتعليم غير الاجتباء فلا يشبه به، ونظر فيه بأن التعليم نوع من الاجتباء والنوع يشبه بالنوع، وقيل: العلة في ذلك أنه يصير المعنى ويعلمك تعليماً مثل الاجتباء بمثل هذه الرؤيا ولا يخفى سماجته فان الاجتباء وجه الشبه بين المشبه والمشبه به ولم يلاحظ في التعليم ذلك. وقال بعض المحققين: لا مانع من جعله داخلاً تحت التشبيه على أن المعنى بذلك الإكرام بتلك الرؤيا أي كما أكرمك بهذه المبشرات يكرمك بالاجتباء والتعليم ولا يحتاج في ذلك إلى جعله تسبيهين وتقدير كذلك، وأنت تعلم أن المنساق إلى الفهم هو العطف ولا بأس فيما قرره هذا المحقق لتوجيهه، نعم للاستئناف وجه وجيه وإن لم يكن المنساق إلى الفهم؛ والظاهر أن المراد من تأويل الأحاديث تعبير الرأيا إذ هي إخبارات غيبة يخلق الله تعالى بواسطتها اعتقادات في قلب النائم حسبماً يشاؤه ولا حجر عليه تعالى. أو أحاديث الملك إن كانت صادقة. أو النفس أو الشيطان إن لم تكن كذلك، وذكر الراغب أن التأويل من الأول وهو الرجوع، وذلك رد الشيء إلى الغاية المرادة منه علماً كان أو فعلا، فالأول كقوله سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} [آل عمران: 7] والثاني كقوله: وللنوي قبل يوم البين تأويل *** وجاء الأول بمعنى السياسة التي يراعى مآلها يقال: ألنا وايل علينا اه. وشاع التأويل في إخراج الشيء عن ظاهر، و{الاحاديث} جمع تكسير لحديث على غير قياس كما قالوا: باطل وأباطيل، وليس باسم جمع له لأن النحاة قد شرطوا في اسم الجمع أن لا يكون على وزن يختص بالجمع كمفاعيل، وممن صرح بانه جمع الزمخشري في المفصل، وهو مراده من اسم الجمع في الكشاف فانه كغيره كثيراً ما يطلق اسم الجمع على الجمع المخالف للقياس فلا مخالفة بين كلاميه، وقيل: هو جمع أحدوثة، وردّ بأن الأحدوثة الحديث المضحك كالخرافة فلا يناسب هنا، ولا في أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام أن يكون جمع أحدوثة، وقال ابن هشام: الأحدوثة من الحديث ما يتحدث به ولا تسعمل إلا في الشر، ولعل الأمر ليس كما ذكروا، وقد نص المبرد على أنها ترد في الخير، وأنشد قول جميل وهو مما سار وغار: وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها *** أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها من الخفرات البيض ود جليسها *** إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها وقيل: إنهم جمعوا حديثاً على أحدوثة ثم جمعوا الجمع على أحاديث كقطيع أو أقطعة وأقاطيع، وكون المراد من تأويل الأحاديث تعبير الرؤيا هو المروى عن مجاهد. والسدى، وعن الحسن أن المراد عواقب الأمور، وعن الزجاج أن المراد بيان معاني أحاديث الأنبياء والأمم السالفة والكتب المنزلة. وقيل: المراد بالأحاديث الأمور المحدثة من الروحانيات والجسميانيات، وبتأويلها كيفية الاستدلال بها على قدرة الله تعالى وحكمته وجلالته والكل خلاف الظاهر فيما أرى {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بأن يصل نعمة الدنيا بنعمة الآخرة، أو بأن يضم إلى النبوة المستفاد من الاجتباء الملك ويجعله تتمة لها، أو بأن يضم إلى التعليم الخلاص من المحن والشدائد وتوسيط ذكر التعليم لكونه من لوازم النبوة والاجتباء ولرعاية ترتيب الوجود الخارجي ولأن التعليم وسيلة إلى إتمام النعمة فإن تعبيره لرؤيا صاحبي السجن ورؤيا الملك صار ذريعة إلى الخلاص من السجن والاتصال بالرياسة العظمى. وفسر بعضهم الاجتباء باعطاء الدرجات العالية كالملك والجلالة في قلوب الخلق. وإتمام النعمة بالنبوة، وأيد بأن إتمام النعمة عبارة عما تصير به النعمة تامة كاملة خالية عن جهات النقصان وما ذاك في حق البشر إلا النبوة فإن جميع مناصب الخلق ناقصة بالنسبة إليها. وجوز أن تعد نفس الرؤيا من نعم الله تعالى عليه فيكون جميع النعم الواصلة إليه بحسبها مصداقاً لها تماماً لتلك النعمة ولا يخلو عن بعد، وقيل: المراد من الاجتباء إفاضة ما يستعد به لكل خير ومكرمة، ومن تعليم تأويل الأحاديث تعليم تعبير الرؤيا، ومن إتمام النعمة عليه تخليصه من المحن على أتم وجه بحيث يكون مع خلاصه منها ممن يخضع له، ويكون في تعليم التأويل إشارة إلى استنبائه لأن ذلك لا يكون إلا بالوحي وفيه أن تفسير الاجتباء بما ذكر غير ظاهر، وكون التعليم فيه إشارة إلى الاستنباء في حيز المنع وما ذكر من الدليل لا يثبته، فإن الظاهر أن إخوته كانوا يعلمون التأويل وإلا لم ينهه أبوه عليه السلام عن اقتصاص رؤياه عليهم خوف الكيد، وكونهم أنبياء إذ ذاك مما لم يذهب إليه ذاهب ولا يكاد يذهب إليه أصلاً، نعم ذكروا أنه لا يعرف التعبير كما ينبغي إلا من عرف المناسبات التي بين الصور ومعانيها وعرف مراتب النفوس التي تظهر في حضرة خيالاتهم بحسبها فإن أحكام الصورة الواحدة تختلف بالنسبة إلى الأشخاص المختلفة المراتب وهذا عزيز الوجود، وقد تثبت الخطأ في التعبير من علماء أكابر، فقد روي أبو هريرة أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إني رأيت ظلة ينطف منها السمن والعسل وأرى الناس يتكففون في أيديهم فالمستكثر والمستقل وأرى سبباً واصلاً من السماء إلى الأرض فأراك يا رسول الله أخذت به فعلوت ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به ثم وصل له فعلاً فقال أبو بكر رضي الله تعالى: أي رسول الله لتدعني فلأ عبرها فقال عليه الصلاة والسلام: عبرها، فقال: أما الظلة فظلة الإسلام. وأما ما ينطف من السمن والعسل فهو القرآن لينه وحلاوته. وأما المستكثر والمستقل فالمستكثر من القرآن والمستقل منه. وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله تعالى ثم يأخذ به رجل بعدك فيعلو به ثم آخر بعده فيعلو به ثم آخر بعده فيعلو به ثم آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به أي رسول الله لتحدثني أصبت أم أخطأت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، فقال: أقسمت بأبي أنت وأمي لتحدثني يا رسول الله ما الذي أخطأت؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا تقسم» اه اللهم إلا أن يدعي أن المراد التعليم على الوجه الأكمل بحيث لا يخطىء من يخطىء به، وهو يستدعي كون الرجل بحيث يعرف المانسبات ومراتب النفوس ويلتزم القول بأن ذلك لا يكون إلا نبياً، واختير أن المراد بالاجتباء الاصطفاء للنبوة. وبتعليم التأويل ما هو الظاهر. وباتمام النعمة تخليصه من المكاره، ويكون قوله عليه السلام: {يابنى لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ على إِخْوَتِكَ} [يوسف: 5] إجمالية منه إلى تعبير الرؤيا كما لا يخفى على من له ذوق وهو أيضاً متضمن للبشارة، وهذا أرداف لها بما هو أجل في نظر يوسف عليه السلام ووجه توسيط التعليم عليه لا يخفى. وحاصل المعنى كما أكرمك بهذه المبشرة الدالة على سجود إخوتك لك ورفعة شأنك عليهم يكرمك بالنبوة والعلم الذي تعرف به تأويل أمثال ما رأيت وإتمام نعمته عليك {وعلى ءالِ يَعْقُوبَ} بالخلاص من المكاره وهي في حق يوسف عليه السلام مما لا يخفى وفي حق آل يعقوب، والمراد بهم أهله من بنيه وغيرهم وأصله أهل، وقيل: أول، وقد حققناه في غير ما كتاب؛ ولا يستعمل إلا فيمن له خطر مطلقاً ولا يضاف لما لا يعقل ولو كان ذا خطر بخلاف أهل فلا يقال: آل الحجام. ولا آل الحرم، ولكن أهل الحجام. وأهل الحرم، نعم قد يضاف لما نزل منزلة العاقل كما في قول عبد المطلب. وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك. *** وفيه رد على أبي جعفر الزبيدي حيث زعم عدم جواز إضافته إلى الضمير لعدم سماعه مضافاً إليه، ويعقوب كابنه اسم أعجمي لا اشتقاق له فما قيل: من أنه إنما سمي بذلك لأنه خرج من بطن أمه عقب أخيه العيص غير مرضى عند الجلة الفاقة والقحط وتفرق الشمل، وغير ذلك ما يعم. أو يخص، ومنهم من فسر الآل بالبتين وإتمام النعمة بالاستنباء، وجعل حاصل المعنى يمنّ عليك وعلى سائر أبناء يعقوب بالنبوة، واستدل بذلك على أنهم صاروا بعد أنبياء. وفي إرشاد العقل السليم أن رؤية يوسف عليه السلام إخوته كواكب يهتدي بأنوارها من نعم الله تعالى عليهم لدلالتها على مصير أمرهم إلى النبوة فيقع كل ما يخرج من القوة إلى الفعل من كما لا تهم بحسب ذلك تماماً لتلك النعمة لا محالة، وأنت تعلم أن ما ذكر لا يصلح دليلاً على أنهم صاروا أنبياء لما علمت من الاحتمالات، والدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال ورؤيتهم كواكب يهتدي بأنوارها بمعزل عن أن تكون دليلاً على أن مصيرهم إلى النبوة، وإنما تكون دليلاً على أن مصيرهم إلى كونهم هادين للناس وهو مما لا يلزمه النبوة فقد قال صلى الله عليه وسلم: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» ونحن لا ننكر أن القوم صاروا هادين بعد أن منّ الله تعالى عليهم بالتوبة بل هم لعمري حينئذ من أجلة أصحاب نبيهم، وقد يقال أيضاً: إنه لو دل يؤيتهم كواكب على أن مصبرهم إلى النبوة لكانت رؤية أمه قمراً أدل على ذلك ولا قائل به. وقال بعضهم: لا مانع من أن يراد بآل يعقوب سائر بنيه، وباتمام النعمة إتمامها بالنبوة لكن لا يثبت بذلك نبوتهم بعد لجواز أن يراد {يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} بالنبوة {وعلى ءالِ يَعْقُوبَ} بشيء آخر كالخلاص من المكروه مثلاً، وهذا كقولك: أنعمت على زيد. وعلى عمرو وهو لا يقتضي أن يكون الانعام عليهما من نوع واحد لصدق الكلام بأن يكون قد أنعمت على زيد بمنصب. وعلى عمرو باعطائه ألف دينار، أو بتخليصه من ظالم مثلا وهو ظاهر. ورجح بعضهم حمل الآل على ما يعم الأبناء بأنه لو كان المراد الأبناء لكان الأظهر الأخصر وعلى إخوتك بدل ما في النظم الجليل، وقيل: إنما اختار ذلك عليه لأنه يتبادر من الإخوة الإخوة الذي نهى عن الاقتصاص عليهم فلا يدخل بنيامين، والمراد إدخاله، وقيل: المراد بآل يعقوب أتباعه الذين على دينه. وقيل: يعقوب خاصة على أن الآل بمعنى الشخص ولا يخفى ما في القولين من البعد، وأبعدهما الأخير ومن جعل إتمام النعمة إشارة إلى الملك جعل العطف باعتبار أنهم يغتنمون آثاره من العز والجاه والمال هذا. {كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبراهيم وإسحاق} أي إتماماً كائناً كاتمام نعمته على أبويك من قبل هذا الوقت أو من قبلك، والإسمان الكريمان عطف بيان لأبويك والتعبير عنهما بالأب مع كونهما أبا جده وأبا أبيه للاشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء عليهم اللام وتذكير معنى الولد سر أبيه ليطمئن قلبه بما أخبر به، وإتمام النعمة على إبراهيم إما بالنبوة. وإما باتخاذه خليلاً. وإما بانجائه من نار عدوه. وإما من ذبح ولده. وإما بأكثر من واحد من هذه، وعلى إسحق إما بالنبوة. أو باخراج يعقوب من صلبه. أو بانجائه من الذبح وفدائه بذبح عظيم على رواية أنه الذبيح، وذهب إليه غير واحد، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه، وأمر التشبيه على سائر الاحتمالات سهل إذ لا يجب أن يكون من كل وجه والاقتصار في المشبه به على ذكر إتمام النعمة من غير تعرض للاجتباء من باب الاكتفاء كما قيل فإن إتمام النعمة يقتضي سابقة النعمة المستدعية للاجتباء لا محالة ومعرفته عليه السلام لما أخبر به مما لم تدل عليه الرؤيا إما بفراسة، وكثيراً ما تصدق فراسة الوالد بولده كيفما كان الوالد، فما ظنك بفراسته إذا كان نبياً. أو بوحي؟ وقد يدعى أنه استدل بالرؤيا على كل ذلك {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ} بكل شيء فيعلم من يستحق المذكورات {حَكِيمٌ} فاعل لكل شيء حسبما تقتضيه الحكمة فيفعل ما يفعل جرياً على سنن علمه وحكته، والجلمة استئناف لتحقيق الجمل المذكورة.
{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)} {لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} أي في قصصهم، والظاهر أن المراد بالإخوة هنا ما أريد بالإخوة فيما مر، وذهب جمع إلى أنهم هناك بنو علاته، وجوز أن يراد بهم ههنا ما يشمل من كان من الأعيان لأن لبنيامين أيضاً حصة من القصة، ويبعده على ما قيل: {قَالُواْ} [يوسف: 8] الآتي {ءايات} علامات عظيمة الشأن دالة على عظيم قدرة الله تعالى القاهرة وحكمته الباهرة {لِّسَّائلينَ} لكل من سأل عن قصتهم وعرفها. أو للطالبين للآيات المعتبرين بها فانهم الواقفون عليها المنتفعون بها دون من عداهم ممن اندرج تحت قوله تعالى: {وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى السموات والارض *يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] فالمراد بالقصة نفس المقصوص. أو على نبوته عليه الصلاة والسلام الذين سألوه عن قصتهم حسبما علمت في بيان سبب النزول فأخبرهم صلى الله عليه وسلم بذلك على ما هو عليه من غير سماع من أحد ولا قراءة كتاب، فالمراد بالقصة اقتصاصها، وجمع الآيات حينئذ قيل: للاشعار بأن اقتصاص كل طائفة من القصة آية بينة كافية في الدلالة على نبوته صلى الله عليه وسلم، وقيل: لتعدد جهة الاعجاز لفظاً ومعنى، وزعم بعض الجلة أن الآية من باب الاكتفاء، والمراد {ءايات} للذين يسألون والذين لا يسألون، ونظير ذلك قوله سبحانه: {سَوَاء لّلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10] وحسن ذلك لقوة دلالة الكلام على المحذوف، وقال ابن عطية: إن المراد من السائلين الناس إلا أنه عدل عنه تحضيضاً على تعلم مثل هذه القصة لما فيها من مزيد العبر، وكلا القولين لا يخلو عن بعد. وقرأ أهل مكة. وابن كثير. ومجاهد آية على الافراد، وفي مصحف أبي عبرة للسائلين.
{إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)} {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ} بنيامين وتخصيصه بالإضافة لاختصاصه بالأخوة من جانبي الأم والأب وهي أقوى من الأخوة من أحدهما، ولم يذكروه باسمه إشعاراً بأن محبة يعقوب عليه السلام له لأجل شقيقه يوسف عليه السلام، ولذا لم يتعرضوه بشيء مما أوقع بيوسف عليه السلام واللام للابتداء، ويوسف مبتدأ {وَأَخُوهُ} عطف عليه، وقوله سبحانه: {أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} خبر ومتعلق به وهو أفعل تفضيل من المبني للمفعول شذوذاً ولذا عدى بإلى حسبما ذكروا من أن أفعل من الحب والبغض يعدى إلى الفاعل معنى بإلى وإلى المفعول باللام. وفي تقول: زيد أحب إلي من بكر إذا كنت تكثر محبته؛ ولي وفيّ إذا كان يحبك أكثر من غيره، ولم يثن مع أن المخبر عنه به إثنان لأن أفعل من كذا لا يفرق فيه بين الواحد وما فوقه ولا بين المذكر وما يقابله بخلاف أخويه فإن الفرق واجب في المحلى جائز في المضاف إذا أريد تفضيله على المضاف إليه وإذا أريد تفضيله مطلقاً فالفرق لازم، وجيء بلام الابتداء لتحقيق مضمون الجملة وتأكيده أي كثرة حبه لهما أمر ثابت لا شبهة فيه {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي والحال أنا جماعة قادرون على خدمته والجد في منفعته دونهما، والعصبة والعصابة على ما نقل عن الفراء: العشرة فما زاد سموا بذلك لأن الأمور تعصب بهم أي تشد فتقوى. وعن ابن عباس أن العصبة ما زاد على العشرة وفي رواية عنه أنها ما بين العشرة والأربعين، وعن مجاهد أنها من عشرة إلى خمسة عشر. وعن مقاتل هي عشرة، وعن ابن جبير ستة. أو سبعة، وقيل: ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل: إلى خمسة عشر، وعن ابن زيد. والزجاج. وابن قتيبة هي الجماعة مطلقاً ولا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط، وقيل: الثلاثة نفر وإذا زادوا فهم رهط إلى التسعة فإذا زادوا فهم عصبة، ولا يقال لأقل من عشرة: عصبة، وروي النزال بن سبرة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ بنصب {عُصْبَةٌ} فيكون الخبر محذوفاً، وعصبة حال من الضمير فيه أي نجتمع عصبة، وقدر ذلك ليكون في الحال دلالة على الخبر المحذوف لما فيها من معنى الاجتماع. وزعم ابن المنير أن الكلام على طريقة: أنا أبو النجم وشعري شعرى، *** والتقدير ونحن نحن عصبة، وحذف الخبر لمساواته المبتدأ وعدم زيادته عليه لفظاً ففي حذفه خلاص من تكرار اللفظ بعينه مع دلالة السياق على المحذوف، ولا غرو في وقوع الحال بعد نحن لأنه بالتقدير المذكور كلام تام فيه من الفخامة ما فيه وقدر في {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] على قراءة النصب مثل ذلك، وفيه أن الفخامة إنما تجيء من التكرار فلا يجوز الحذف على أن الدلالة على المحذوف غير بينة. وعن ابن الأنباري أن ذلك كما تقول العرب: إنما العامري عمته أي يتعهد ذلك، والدال على المحذوف فيه عمته فإن الفعلة للحالة التي يستمر عليها الشخص فيلزم لا محالة تعهده لها، والأولى أن يعتبر نظير قول الفرزدق: يا لهذم حكمك مسمطاً *** فإنه أراد كما قال المبرد: حكمك لك مسمطا *** أي مثبت نافذ غير مردود، وقد شاع هذا فيما بينهم لكن ذكروا أن فيه شذواً من وجهين، والآية على قراءة الأمير كرم الله تعالى وجهه أكثر شذوذاً منه كما لا يخفى على المتدرب في علم العربية {إِنَّ أَبَانَا} أي في ترجيحهما علينا في المحبة مع فضلنا عليهما وكونهما بمعزل عن كفاية الأمور {لَفِى ضلال} أي خطأ في الرأي وذهاب عن طريق التعديل اللائق من تنزيل كل منا منزلته {مُّبِينٌ} ظاهر الحال، وجعل الضلال ظرفاً لتمكنه فيه، ووصفه بالمبين إشارة إلى أن ذلك غير مناسب له بزعمهم والتأكيد لمزيد الاعتناء، يروى أنه عليه السلام كان أحب إليه لما يرى فيه من أن المخايل وكانت إخوته يحسدونه فلما رأص الرؤيا تضاعفت له المحبة فكان لا يصبر عنه ويضمه كل ساعة إلى صدره ولعله أحس قببه بالفراق فتضاعفت لذلك حسدهم حتى حملهم على ما قص الله تعالى عنهم، وقال بعضهم: إن سبب زيادة حبه عليه السلام ليوسف وأخيه صغرهما وموت أمهما، وحب الصغير أمر مركوز في فطرة البشر فقد قيل: لابنة الحسن: أي بنيك أحب إليك؟ قالت: الصغيرحتى يكبر. والغائب حتى يقدم. والمريض حتى يشفى، وقد نظم بعض الشعراء في محبة الولد الصغير قديماً وحديثاً، ومن ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري من قصيدة بعث بها إلى أولاده وهو في السجن: وصغيرهم عبد العزيز فانني *** أطوى لفرقته جوى لم يصغر ذاك المقدم في الفؤاد وإن غدا *** كفأ لكم في المنتمي والعنصر إن البنان الخمس أكفاء معا *** والحلى دون جميعها للخنصر وإذا الفتى فقد الشباب سماله *** حب البنين ولا كحب الأصغر وفيه أن منشأ زيادة الحب لو كانت ما ذكر لكان بنيامين أوفر حظاً في ذلك لأنه أصغر يوسف عليه السلام كما يدل عليه قولهم: إن أمهما ماتت في نفاسه، والآية كما أشرنا إليه مسيرة إلى أن محبته لأجل شقيقه يوسف فالذي ينبغي أن يعول عليه أنه عليه السلام إنما أحبه أكثر منهم لما رأى فيه من مخايل الخير ما لم ير فيهم وزاد ذلك الحب بعد الرؤيا لتأكيدها تلك الامارات عنده ولا لوم على الوالد تفضيله بعض ولده على بعض في المحبة لمثل ذلك، وقد صرح غير واحد أن المحبة ليست مما تدخل تحت وسع البشر والمرء معذور فيما لم يدخل تحته، نعم ظن أبناؤه أن ما كان منه عليه السلام إنما كان عن اجتهاد وأنه قد أخطأ في ذلك والمجتهد يخطىء ويصيب وإن كان نبياً، وبهذا ينحل ما قيل: إنهم إن كانوا قد آمنوا بكون أبيهم رسولاً حقاً من عند الله تعالى فكيف اعترضوا وكيف زيفوا طريقته وطعنوا فيما هو عليه، وإن كانوا مكذبين بذلك فهو يوجب كفرهم والعياذ بالله تعالى وهو مما لم يقل به أحد ووجه الانحلال ظاهر.
{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)} {اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضًا} الظاهر أن هذا من جملة ما حكى بعد قوله سبحانه: {إِذْ قَالُواْ} [يوسف: 8] وقد قاله بعض منهم مخاطباً للباقين وكانوا راضين بذلك إلا من قال: {لاَ تَقْتُلُواْ} [يوسف: 10] الخ، ويحتمل أنه قاله كل منهم مخاطباً للبقية، والاستثناء هو الاستثناء، وزعم بعضهم أن القائل رجل غيرهم شاوروه في ذلك وهو خلاف الظاهر ولا ثبت له، والظاهر أن القائل خيرهم بين الأمرين القتل والطرح. وجوز أن يكون المراد قال بعض: {اقتلوا يُوسُفَ} وبعض {اطرحوه} والطرح رمي الشيء وإلقاؤه، ويقال: طرحت الشيء أبعدته، ومنه قول عروة بن الورد: ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا *** من المال يطرح نفسه كل مطرح ونصب {أَرْضًا} على إسقاط حرف الجر كما ذهب إليه الحوفي. وابن عطية أي ألقوه في أرض بعيدة عن الأرض التي هو فيها، وقيل: نصب على أنه مفعول ثان لاطرحوه لتضمينه معنى أنزلوه فهو كقوله تعالى: {أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً} [المؤمنون: 29]، وقيل: منصوب على الظرفية، ورده ابن عطية. وغيره بأن ما ينتصب على الظرفية المكانية لا يكون إلا مبهماً وحيث كان المراد أرضاً بعيدة عن أرضه لم يكن هناك إبهام، ودفع بما لا يخلو عن نظر، وحاصل المعنى اقتلوه أو غربوه فإن التغريب كالقتل في حصول المقصود مع السلامة من إثمه، ولعمري لقد ذكروا أمرين مرين فإن الغربة كربة أية كربة؛ ولله تعالى در من قال: حسنوا القول وقالوا غربة *** إنما الغربة للاحرار ذبح {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} بالجزم جواب الأمر، والوجه الجارحة المعروفة، وفي الكلام كناية تلويحية عن خلوص المحبة، ومن هنا قيل: أي يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم، والمراد سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها وينازعهم إياها، وقد فسر الوجه بالذات والكناية بحالها خلا أن الانتقال إلى المقصود بمرتبتين: على الأول وبمرتبة على هذا، وقيل: الوجه بمعنى الذات، وفي الكلام كناية عن التوجه والتقيد بنظم أحوالهم وتدبير أمورهم لأن خلوه لهم يدل على فراغه عن شغل يوسف عليه السلام فيشتغل بهم وينظم أمورهم، ولعل الوجه الأوجه هو الأول {وَتَكُونُواْ} بالجزم عطفاً على جواب الأمر. وبالنصب بعد الواو باضمار أن أي يجتمع لكم خلو وجهه والكون دمن بَعْده} أي بعد يوسف على معنى بعد الفراغ من أمره. أو من بعد قتله. أو طرحه، فالضمير إما ليوسف أو لأحد المصدرين المفهومين من الفعلين. {} أي بعد يوسف على معنى بعد الفراغ من أمره. أو من بعد قتله. أو طرحه، فالضمير إما ليوسف أو لأحد المصدرين المفهومين من الفعلين. {قَوْمًا صالحين} بالتوبة والتنصل إلى الله تعالى عما جئتم به من الذنب كما روي عن الكلبي وإليه ذهب الجمهور، فالمراد بالصلاح الصلاح الديني بينهم وبين الله تعالى، ويحتمل أن المراد ذلك لكن بينهم وبين أبيهم بالعذر وهو وإن كان مخالفاً للدين لكونه كذباً لكنه موافق له من جهة أنهم يرجون عفو أبيهم وصفحه به ليخلصوا من العقوق على ما قيل، ويحتمل أن يراد الصلاح الدنيوي أن صالحين في أمر دنياكم فإنه ينتظم لكم بعده بخلو وجه أبيكم، وإيثار الخطاب في {لَكُمْ} وما بعده للمبالغة في حملهم على القبول فإن اعتنارء المرء بشأن نفسه واهتمامه بتحصيل منافعه أتم وأكمل.
{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)} {قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ} هو وكان رأيه فيه أهون شراً من رأى غيره وهو القائل: {فَلَنْ أَبْرَحَ الارض} [يوسف: 80] الخ القاله السدى. وقال قتادة. وابن إسحق: هو روبيل، وعن مجاهد أنه شمعون، وقيل: دان، وقال بعضهم: إن أحد هذين هو القائل: {اقتلوا يُوسُفَ} الخ، وأما القائل: {لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ} [يوسف: 9] فغيره، ولعل الأصح أنه يهوذا. قيل: وإنما لم يذكر أحد منهم باسمه ستراً على المسيءوكل منهم لم يخل عن الإساءة وإن تفاوتت مراتبها، والقول بأنه على هذا لا ينبغي لأحد أن يعين أحداً منهم باسمه تأسياً بالكتاب ليس بشيء لأن ذلك مقام تفسير وهو فيه أمر مطلوب، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً كأن سائلاً سأل اتفقوا على ما عرض عليهم من خصلتي الصنيع أم خالفهم في ذلك أحد؟ فقيل: قال قائل منهم: {لاَ تَقْتُلُواْ} الخ، والاتيان بيوسف دون ضميره لاستجلاب شفقتهم عليه واستعظام قتله وهو هو مانه يروى أنه قال لهم: القتل عظيم ولم يصرح بنهيهم عن الخصلة الأخرى، وأحاله على أولوية ما عرضه عليهم بقوله: {وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب} أي في قعره وغوره سمي به لغيبته عن عين الناظر، ومنه قيل للقبر: غيابة، قال المنخل السعدي: إذا أنا يوماً غيبتني (غيابتي)} *** فسيروا بسيري في العشيرة والأهل وقال الهروي: الغيابة في الجب شبه كهف. أو طاق في البئر فوق الماء يغيب ما فيه عن العيون، والجب الركية التي لم تطو فإذا طويت فهي بئر قال الأعمش: لئن كنت في جب ثمانين قامة *** ورقيت أسباب السماء بسلم ويجمع على جبب. وجباب. وأجباب، وسمي جباً لأنه جب من الأرض أي قطع، وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى الكلام فيتأنيثه وتذكيره. وقرى نافع في غيابات في الموضعين كأن لتلك الجب غيابات، ففيه إشارة إلى سعتها، أو أراد بالجب الجنس أي في بعض غيابات الجب، وقرأ ابن هرمز غيابات بتشديد الياء التحتية وهو صيغة مبالغة، ووزنه على ما نقل صاحب اللوامح يجوز أن يكون فعالات كحمامات، ويجوز أن يكون فيعالات كشيطانات في جمع شيطانة، وقرأ الحسن غيبة بفتحات على أنه في الأصل مصدر كالغلبة، ويحتمل أن يكون جمع غائب كصانع وصنعة، وفي حرف أبيّ رضي الله تعالى عنه غيبة بسكون الياء التحتية على أنه مصدر أريد به الغائب. {يَلْتَقِطْهُ} أي يأخذه على وجه الصيانة عن الضياع والتلف فان الالتقاط أخذ شيء مشرف على الضياع كذا قيل، وفي مجمع البيان هو أن يجد الشيء ويأخذه من غير أن يحسبه، ومنه قوله: ومنهل وردته التقاطاً... {بَعْضُ السيارة} أي بعض جماعة تسير في الأرض وأل في السيارة كما في الجب وما فيهما، وفي البعض من الابهام لتحقيق ما يتوخاه من ترويج كلامه بموافقته لغرضهم الذي هو تنائى يوسف عليه السلام عنهم بحيث لا يدري أثره ولا يروى خبره، وقرأ الحسن تلتقطه على التأنيث باعتبار المعنى كما في قوله: إذا بعض السنين (تعرفتنا)} *** كفى الأيتام فقد أبى اليتيم وجاء قطعت بعض أصابعه وجعلوا هذا من باب اكتساب المضاف من المضاف إليه التأنيث كقوله: كما شرقت صدر القناة من الدم *** {إِن كُنتُمْ فاعلين} أي إن كنتم عازمين مصرين على أن تفعلوا به ما يفرق بينه وبين أبيه أو إن كنتم فاعلين بمشورتي ورأيي فألقوه الخ، ولم يبت القول لهم بل عرض عليهم ذلك تأليفاً لقلوبهم وتوجيهاً لهم إلى رأيه وحذراً من سوء ظنهم به؛ ولما كان هذا مظنة لسؤال سائل يقول: فما فعلوا بعد ذلك هل قبلوا رأيه أم لا؟ فأجيب على سبيل الاستئناف على وجه أدرج في تضاعيفه قبولهم له بما شيجيى إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه: {وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب} [يوسف: 15]
{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)} {قَالُواْ يأَبَانَا} خاطبوه عليه السلام بذلك تحريكاً لسلسلة النسب وتذكيراً لرابطة الأخوة ليتسببوا بذلك استنزاله عن رأيه في حفظه منهم لما أحس بحسدهم فكأنهم قالوا: {مالك} أي أيّ شيء {لاَتَأْمَنَّا} لا تجعلنا أمناء {دَخَلُواْ على يُوسُفَ} مع أنك أبونا ونحن بنوك وهو أخونا {وَإِنَّا لَهُ لناصحون} مريدون له الخير ومشفقون عليه ليس فينا ما يخل بذلك، وجملة {لاتأمنا} في موضع الحال، وكذا جملة {يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لناصحون} والاستفهام بمالك فيه معنى التعجب، والكلام ظاهر في أنه تقدم منهم سؤال أن يخرج عليه السلام معهم فلم يرض أبوهم بذلك. وقرأ الجمهور {لاَ تَأْمَنَّا} بالادغام والإشمام، وفسر بضم الشفتين من انفراج بينهما إشارة إلى الحركة مع الادغام الصريح كما يكون في الوقف وهو المعروف عندهم وفيه عسر هنا، ويطلق على إشراب الكسرة شيئاً من الضمة كما قالوا في قيل، وعلى إشمام أحد حرفين شيئاً من حرف آخر كما قالوا في الصراط، وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما. وأبو جعفر. والزهري. وعمرو بن عبيد بالادغام من غير إشمام، وإرادة النفي ظاهرة، وقرأ ابن هرمز بضم الميم مع الادغام، وهذه الضمة منقولة إلى الميم من النون الأولى بعد سلب حركتها. وقرأ أبي. والحسن. وطلحة بن مصرف. والأعمش لا تأمننا بالاظهار وضم النون على الأصل، وهو خلاف خط المصحف لأنه بنون واحدة، وقرأ ابن وثاب. وأبو رزين لا تيمنا بكسر حرف المضارعة على لغة تميم؛ وسهل الهمزة بعد الكسرة ابن وثاب، ولم يسهل أبو رزين. وأخرج ابن المنذر. وأبو الشيخ عن عاصم أنه قرأ بذلك بمحضر عبيد بن فضلة فقال له: لحنت، فقال أبو رزين: مالحن من قرأ بلغة قومه.
{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)} {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً} نصب على الظرفية الزمانية وهو يطلق على اليوم الذي يلي يومك، وعلى الزمن المستقبل مطلقاً، وأصله غدو فحذفت لامه وقد جاء تاما أي ابعثه معنا غداً إلى الصحراء {يَرْتَعْ} أي يتسع في أكب الفواكه ونحوها، وأصل معنى الرتع أن تأكل وتشرب ما تشاء في خصب وسعة، ويقال: رتع أقام في خصب وتنعم، ويسمى الخصب رتعة بسكون التاء وفتحها، وذكر الراغب أن الرتع حقيقة في أكل البهائم ويستعار للإنسان إذا أريد به الأكل الكثير، وعلى ذلك قوله: وإذ يخلو له الحمى رتع *** > {وَيَلْعَبْ} بالاستباق والانتضال ونحوهما مما يتدرب به لقتال العدو، وليس المراد لعب لهو وإلا لم يقرّهم عليه يعقوب عليه السلام وإنما عبروا عن ذلك به لكونه على هيئته تحقيقاً لما رموه من استصحاب يوسف عليه السلام بتصويرهم له بصورة ما يلائم حاله عليه السلام من صغر السن، وقرأ الجمهور {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} بالياء والجزم، والابنان. وأبو عمرو بالنون والجزم، وكسر العين الحرميان، واختلف عن قنبل في إثبات الياء وحذفها، ويروى عن ابن كثير نرتع بالنون {وَيَلْعَبْ} بالياء، وهي قراءة جعفر بن محمد، وقرأ العلاء بن سيابة {يَرْتَعْ} بالياء وكسر العين مجزوماً محذوف اللام {وَيَلْعَبْ} بالياء أيضاً وضم الباء على أنه مستأنف أو خبر مبتدأ محذوف أي وهو يلعب. وقرأ مجاهد. وقتادة. وابن محيصن نرتع بنون مضمونة وعين ساكنة من أرتعنا ونلعب بالنون أيضاً، وكذلك أبو رجاء إلا أنه بالياء التحتية فيهما، والقراءتان على حذف المفعول أي نرتع المواشي أو غيرها، والفعلان في هذه القراآت كلها مبنيان للفاعل. وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} بالياء والبناء للمفعول فيهما، وخرج ذلك على أن نائب الفاعل ضمير غد، والأصل يرتع فيه ويلعب فيه، ثم حذف الجار واتسع فعدى الفعل للضمير فصار يرتعه ويلعبه، ثم بنى للمفعول فاستتر الضمير الذي كان منصوباً لكونه نائباً عن الفاعل، ومن كسر العين من الفعل الأول فهو عنده من المراعاة على ما روي عن مجاهد أي يراعى بعضنا بعضاً ويحرسه. وقال ابن زيد: من رعى الإبل أن نتدرب في الرعي وحفظ المال، أو من رعى النبات والكلأ، والمراد نرعى مواشينا إلا أنه أسند ذلك إليهم مجازاً، أو تجوز عن أكلهم بالرعي، وضعف ابن عطية القراءة بإثبات الياء، وقال: إن إثباتها في مثل هذا الموضع لا يجوز إلا في الشعر كقوله: ألم يأتيك والأنباء تنمي *** بما لاقت لبون بني زياد وقيل: إن تقدير حذف الحركة في الياء ونحوها للجازم لغة وليس من الضرورة في شيء، وأخرج أبو الشيخ عن مقاتل بن حيان أنه كان يقرأ نلهو ونعلب {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} أي من أن يناله مكروه، والجملة في موضع الحال والعامل فيها فعل الأمر أو الجواب وليس ذلك من باب الأعمال كما قال أبو حيان لاْن الحال لا تضمر، وذلك الباب لا بد فيه من الاضمار إذا أعمل الأول، وقد أكدوا مقالتهم بأصناف التأكيد من إيراد الجملة اسمية وتحليتها بأن واللام، وإسناد الحفظ إلى كلهم وتقديم {لَهُ} على الخبر احتيالاً في تحصيل مقصدهم.
|