الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***
{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)} {ذلك} كلام مستأنف سيق لبيان أن ما ذكر مستتبع للمنافع وارد على مقتضى الحكمة و( الإشارة إلى) الحكم السابق تفصيله. وقيل: إلى تحليف الشاهدين، وقيل: إلى الحبس بعد الصلاة {أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَا} أي أقرب إلى أن يؤدي الشهود الشهادة على حقيقتها من غير تغيير لها خوفاً من العذاب الأخروي، وهذه حكمة التحليف الذي تقدم أولاً، والجار الأول متعلق بيأتوا والثاني محذوف وقع حالاً من الشهادة، وقوله تعالى: {أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان} أي إلى الورثة فيحلفوا {بَعْدَ إيمانهم} التي حلفوها عطف على مقدر ينبىء عنه المقام كأنه قيل: ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة محققة ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة المحرمة في سائر الأديان أو يخافوا أن ترد الأيمان إلى الورثة فيحلفوا ويأخذوا ما في أيديهم فيخجلوا من ذلك على رؤس الأشهاد فينزجروا عن الخيانة، وهو بيان لحكمة شرعية قيام الآخرين فأي هذين الخوفين وقع حصل المقصد الذي هو الإتيان بالشهادة على وجهها، وقيل: إنه عطف على {يَأْتُواْ} أي ذلك الحكم الذي ذكرناه أقرب أن يأتوا بالشهادة على وجهها مما كنتم تفعلونه وأقرب إلى خوف الفضيحة، وجعل الشهاب هذا العطف على حد قوله: علفتها تبناً وماء بارداً *** وجوز السمين كون أو بمعنى الواو كما جوز جعلها لأحد الشيئين على ما هو الأصل فيها فتدبر وجمع ضمير {يَأْتُواْ} و{يخافوا} على ما قيل لأن المراد ما يعم الشاهدين المذكورين وغيرهما من بقية الناس، والظرف بعد متعلق بترد كما هو الظاهر. وجوز السمين وهو ضعيف أن يكون متعلقاً بمحذوف وقع صفة لأيمان. {واتقوا الله} في مخالفة أحكامه التي من جملتها ما ذكر. والجملة على ما قيل عطف على مقدر أي احفظوا أحكام الله سبحانه واتقوا {واسمعوا} سمع إجابة وقبول جميع ما تؤمرون به {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} تذييل لما تقدم، والمراد فإن لم تتقوا وتسمعوا كنتم فاسقين خارجين عن الطاعة والله تعالى لا يهدي القوم الخارجين عن طاعته إلى ما ينفعهم أو إلى طريق الجنة.
{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)} وقوله سبحانه: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} قيل ظرف لقوله عز وجل: {لاَّ يَهِدِّى} [المائدة: 108]، ونظر فيه الحلبي من حيث إنه سبحانه لا يهديهم مطلقاً لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا وهذا احتمال ذكره الزمخشري، ونقل عن المغربي أيضاً وهو ظاهر على تقدير أن يكون المراد لا يهديهم إلى طريق الجنة، وفيه مراعاة لمذهب الاعتزال من نفي الهداية المطلقة لا يجوز على الله جل وعلا ولذلك خصص المهدي إليه، وقيل: إنه بدل من مفعول {واتقوا} [المائدة: 108] فهو حينئذ مفعول لا ظرف. وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعداً لطول الفصل بالجملتين، وقال الحلبي: لا بعد فإن هاتين الجملتين من تمام معنى الجملة الأولى وهو عند القائلين بالبدلية بدل اشتمال. وتعقب ذلك العلم العراقي بأن الانصاف أن بدل الاشتمال ههنا ممتنع لأنه لا بد فيه من اشتمال البدل على المبدل منه أو بالعكس وهنا يستحيل ذلك ولهذا قال الحلبي: لا بد في هذا الوجه من تقدير مضاف ليصح. والمراد اتقوا عقاب الله يوم وحينئذ يصح انتصاب اليوم على الظرفية، وقال المحقق التفتازاني: وجه بدل الاشتمال ما بينهما من الملابسة بغير الكلية والبعضية بطريق اشتمال المبدل منه على البدل لا كاشتمال الظرف على المظروف بل بمعنى أن ينتقل الذهن إليه في الجملة ويقتضيه بوجه إجمالي مثلاً إذا قيل اتقوا الله يتبادر الذهن منه إلى أنه من أي أمر من أموره وأي يوم من أيام أفعاله يجب الاتقاء أيوم جمعه سبحانه للرسل أم غير ذلك، واعترض بأنه اشترط في ذلك أن لا يكون ظرفية وهذا ظرف زمان لو أبدل منه لأوهم ذلك، وقيل: إنه منصوب بمضمر معطوف على {اتقوا} الخ واحذروا أو واذكروا يوم الخ فإن تذكير ذلك اليوم الهائل مما يضطرهم إلى تقوى الله تعالى وتلقي أمره بسمع الإجابة، وقيل: منصوب بقوله سبحانه: {واسمعوا} [المائدة: 108] بحذف مضاف أي واسمعوا خبر ذلك اليوم. وقيل: منصوب بفعل مؤخر قد حذف للدلالة على ضيق العبارة عن شرحه وبيانه لكمال فظاعة ما يقع فيه كأنه قيل: يوم يجمع الله الرسل الخ يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي ببيانه نطاق المقال، وتخصيص الرسل بالذكر مع أن ذلك يوم مجموع له الناس لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم بناء على ظهور كونهم أتباعاً لهم. وقيل: ولا يخفى لطفه على بعض الاحتمالات الآتية في الآية لأن المقام مقام ذكر الشهداء والرسل عليهم الصلاة والسلام هم الشهداء على أممهم كما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيداً} [القصص: 75] ففي بيان حالهم وما يقع لهم يوم القيامة وهم هم من وعظ الشهداء الذين البحث فيهم ما لا يخفى، وبهذا تتصل الآية بما قبلها أتم اتصال، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وتشديد التهويل. {فَيَقُولُ} لهم {مَاذَا أَجَبْتُمُ} أي في الدنيا حين بلغتم الرسالة وخرجتم عن العهدة كما ينبىء عن ذلك العدول عن تصدير الخطاب بهل بلغتم، وفي العدول عن ماذا أجاب أممكم ما لا يخفى من الإنباء عن كمال تحقير شأنهم وشدة السخط والغيط عليهم، والسؤال لتوبيخ أولئك أيضاً وإلا فهو سبحانه علام الغيوب. و{مَاذَا} متعلق بأجبتم على أنه مفعول مطلق له أي أي إجابة أجبتم من قبل أممكم إجابة قبول أو إجابة رد. وقيل: التقدير بماذا أجبتم أي بأي شيء أجبتم على أن يكون السؤال عن الجواب لا الإجابة فحذف حرف الجر وانتصب المجرور. وضعف بأن حذف حرف الجر وانتصاب مجروره لا يجوز إلا في الضرورة كقوله: تمرون الديار ولم تعوجوا *** وكذا تقديره مجروراً. وقال العوفي: إن {مَا} اسم استفهام مبتدأ و{ذَا} بمعنى الذي خبره و{أَجَبْتُمُ} صلته والعائد محذوف أي ما الذي أجبتم به. واعترض بأنه لا يجوز حذف العائد المجرور إلا إذا جر الموصول بمثل ذلك الحرف الجار واتحد متعلقاهما، وغاية ما أجابوا به عن ذلك أن الحذف وقع على التدريج وهو كما ترى. {قَالُواْ} استئناف مبني على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه قيل: فماذا يقول الرسل عليهم الصلاة والسلام حينئذ؟ فقيل: يقولون {لاَ عِلْمَ لَنَا} والتعبير بالماضي للدلالة على التقرر والتحقق ك {نُفِخَ فِى الصور} [الحاقة: 13] وغيره، ونفي العلم عن أنفسهم مع علمهم بماذا أجيبوا كما تدل عليه شهادتهم عليهم الصلاة والسلام على أممهم هنالك حسبما نطقت به بعض الآيات ليس على حقيقته بل هو كناية عن إظهار التشكي والالتجاء إلى الله تعالى بتفويض الأمر كله إليه عز شأنه. وقال ابن الأنباري: إنه على حقيقته لكنه ليس لنفي العلم بماذا أجيبوا عند التبليغ ومدة حياتهم عليهم الصلاة والسلام بل بما كان في عاقبة الأمر وءاخره الذي به الاعتبار. واعترض بأنهم يرون آثار سوء الخاتمة عليهم فلا يصح أيضاً نفي العلم بحالهم وبما كان منهم بعد مفارقتهم لهم. وأجيب بأن ذلك إنما يدل على سوء الخاتمة وظهور الشقاوة في العاقبة على حقيقة الجواب بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلعلهم أجابوا إجابة قبول ثم غلبت عليهم الشقوة. وتعقب بأنه من المعلوم أن ليس المراد بماذا أجبتم نفس الجواب الذي يقولونه أو الإجابة التي تحدث منهم بل ما كانوا عليه في أمر الشريعة من الامتثال والانقياد أو عكس ذلك. وفي رواية عن الحسن أن المراد لا علم لنا كعلمك لأنك تعلم باطنهم ولسنا نعلم ذلك وعليه مدار فلك الجزاء، وقيل: المراد من ذلك النفي تحقيق فضيحة أممهم أي أنت أعلم بحالهم منا ولا يحتاج إلى شهادتنا. وأخرج الخطيب في «تاريخه» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد نفي العلم نظراً إلى خصوص الزمان وهو أول الأمر حين تزفر جهنم فتجثوا الخلائق على الركب وتنهمل الدموع وتبلغ القلوب الحناجر وتطيش الأحلام وتذهل العقول ثم إنهم يجيبون في ثاني الحال وبعد سكون الروع واجتماع الحواس وذلك وقت شهادتهم على الأمم، وبهذا أجاب رضي الله تعالى عنه نافع بن الأرزق حين سأله عن المنافاة بين هذه الآية وما أثبت الله تعالى لهم من الشهادة على أممهم في ءاية أخرى. وروي أيضاً عن السدي والكلبي ومجاهد وهو اختيار الفراء وأنكره الجبائي، وقال: كيف يجوز القول بذهولهم من هول يوم القيامة مع قوله سبحانه: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الاكبر} [الأنبياء: 103] وقوله عز وجل: {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] وقد نقل ذلك عنه الطبرسي ثم قال: ويمكن أن يجاب عنه بأن الفزع الأكبر دخول النار. وقوله سبحانه: {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} إنما هو كالبشارة بالنجارة من أهوال ذلك اليوم مثل ما يقال للمريض لا بأس عليك ولا خوف. وقيل: إن ذلك الذهول لم يكن لخوف ولا حزن وإنما هو من باب العوم في بحار الإجلال لظهور ءاثار تجلي الجلال. واعترض شيخ الإسلام على ما تقدم بأن قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب} في موضع التعليل ولا يلائم ما ذكره. و{عِلْمَ} صيغة مبالغة والمراد الكامل في العلم. والغيوب جمع غيب وجمع وإن كان مصدراً على ما قال السمين لاختلاف أنواعه وإن أريد به الشيء الغائب أو قلنا إنه مخفف غيب فالأمر واضح. وقرىء {عِلْمَ} بالنصب على أن الكلام قد تم عند {إِنَّكَ أَنتَ} ونصب الوصف على المدح أو النداء أو على أنه بدل من اسم إن، ومعنى {إِنَّكَ أَنتَ} إنك الموصوف بصفاتك المعروفة، والكلام على طريقة. أنا أبو النجم وشعري شعري *** وقرأ أبو بكر وحمزة {الغيوب} بكسر الغين حيث وقع وقد سمع في كل جمع على وزن فعول كبيوت كسر أوله لئلا يتوالى ضمتان وواو.
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)} {إِذْ قَالَ الله ياعيسى عِيسَى ابن مَرْيَمَ} بدل من {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} [المائدة: 109] وقد نصب بإضمار أذكر، وقيل: في محل رفع على معنى ذاك إذ وليس بشيء، وصيغة الماضي لما مر آنفاً من الدلالة على تحقق الوقوع، والمراد بيان ما جرى بينه تعالى وبين فرد من الرسل المجموعين (من المفاوضة) على التفصيل إثر بيان ما جرى بينه عز وجل وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأنموذج على تفاصيل أحوال الباقين، وتخصيص عيسى عليه السلام بالذكر لما أن شأنه عليه الصلاة والسلام متعلق بكلا فريقي أهل الكتاب المفرطين والمفرطين الذين نعت هذه السورة الكريمة جناياتهم فتفصيله أعظم عليهم وأجلب لحسراتهم، وإظهار الاسم الجليل (في مقام الإضمار) (1) لما مر (من المبالغة في التهويل) (1). وعيسى مبني عند الفراء ومتابعيه إما على ضمة مقدرة أو على فتحة كذلك إجراء له مجرى يا زيد بن عمرو في جواز ضم المنادى وفتحه عند الجمهور، وهذا إذا أعرب ابن صفة لعيسى، أما إذا أعرب بدلاً أو بياناً فلا يجوز تقدير الفتحة إجمالاً كما بين في كتب النحو. و( على) في قوله تعالى: {اذكر نِعْمَتِى عَلَيْكَ وعلى والدتك} متعلقة بنعمتي جعل مصدراً أي اذكر إنعامي أو بمحذوف وقع حالاً من نعمة إن جعل اسماً أي أذكر نعمتى كائنة عليك الخ، وعلى التقديرين يراد بالنعمة ما هو في ضمن المتعدد، وليس المراد كما قال شيخ الإسلام بأمره عليه السلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة في سلك التعديد تكليفه عليه السلام بشكرها والقيام بمواجبها ولات حين تكليف مع خروجه عليه السلام عن عهدة الشكر في أوانه أي خروج بل إظهار أمره عليه السلام بتعداد تلك النعم حسبما بينه الله تعالى اعتداداً بها وتلذذاً بذكرها على رؤوس الأشهاد ويكون حكاية ذلك على ما أنبأ عنه النظم الكريم توبيخاً للكفرة من الفريقين المختلفين في شأنه عليه السلام إفراطاً وتفريطاً وإبطالاً لقولهما جميعاً. {إِذْ أَيَّدتُّكَ} ظرف لنعمتي أي أذكر إنعامي عليكما وقت تأييدي لكما أو حال منها أي أذكرها كائنة وقت ذلك، وقيل: بدل اشتمال منها وهو في المعنى تفسير لها. وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولاً به على السعة، وقرىء «آيدتك» بالمد ووزنه عند الزمخشري أفعلتك وعند ابن عطية فاعلتك، قال أبو حيان: ويحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب فإن كان يؤايد فهو فاعل وإن كان يؤيد فهو أفعل ومعناه ومعنى أيد واحد، وقيل: معناه بالمد القوة وبالتشديد النصر وهما كما قيل متقاربان لأن النصر قوة. {بِرُوحِ القدس} أي جبريل عليه السلام أو الكلام الذي يحيى به الدين ويكون سبباً للطهر عن أوضار الآثام أو تحيى بها الموتى أو النفوس حياة أبدية أو نفس روحه عليه السلام حيث أظهرها سبحانه وتعالى روحاً مقدسة طاهرة مشرقة نورانية علوية، وكون هذا التأييد نعمة عليه عليه الصلاة والسلام مما لا خفاء فيه، وأما كونه نعمة على والدته فلما ترتب عليه من براءتها مما نسب إليها وحاشاها وغير ذلك. {تُكَلّمُ الناس فِى المهد} أي طفلاً صغيراً، وما في النظم الكريم أبلغ من التصريح بالطفولية وأولى لأن الصغير يسمى طفلاً إلى أن يبلغ الحلم فلذا عدل عنه، والظرف في موضع الحال من ضمير {تُكَلّمَ}. وجوز أن يكون ظرفاً للفعل. والجملة إما استئناف مبين لتأييده عليه الصلاة والسلام أو في موضع الحال من الضمير المنصوب في {أَيَّدتُّكَ} كما قال أبو البقاء. والمهد معروف. وعن الحسن أن المراد به حجر أمه عليهما السلام، وأنكر النصارى كلامه عليه الصلاة والسلام في المهد وقالوا إنما تكلم عليه السلام أوان ما يتكلم الصبيان وقد تقدم مع جوابه. وقوله تعالى: {وَكَهْلاً} للإيذان على ما قيل بعدم تفاوت كلامه عليه الصلاة والسلام طفولية وكهولة لا لأن كلا منهما آية فإن التكلم في الكهولة معهود من كل أحد. وقال الإمام: إن الثاني أيضاً معجزة مستقلة لأن المراد تكلم الناس في الطفولية وفي الكهولة حين تنزل من السماء لأنه عليه الصلاة والسلام حين رفع لم يكن كهلاً. وهذا مبني على تفسير الكهل بمن وخطه الشيب ورأيت له بجالة أو من جاوز أربعاً وثلاثين سنة إلى إحدى وخمسين وعيسى عليه الصلاة والسلام رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين قيل وثلاثة أشهر وثلاثة أيام. وقيل: رفع وهو ابن أربع وثلاثين وما صح أنه عليه الصلاة والسلام وخطه الشيب، وأما لو فسر بمن جاوز الثلاثين فلا يتأتى هذا القول كما لا يخفى. وقال بعض: الأولى أن يجعل {وَكَهْلاً} تشبيهاً بليغاً أي تكلمهم كائناً في المهد وكائناً كالكهل. وأنت تعلم أن أخذ التشبيه من العطف لا وجه له وتقدير الكاف تكلف. {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ} عطف على {إِذْ أَيَّدتُّكَ} أي واذكر نعمتي عليكما وقت تعليمي لك من غير معلم {الكتاب والحكمة} أي جنسهما، وقيل: الكتاب الخط والحكمة الكلام المحكم الصواب {والتوراة والإنجيل} خصا بالذكر إظهاراً لشرفهما على الأول. {وَإِذْ تَخْلُقُ} أي تصور {مِنَ الطين} أي جنسه {كَهَيْئَةِ الطير} أي هيئة مثل هيئته {بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا} أي في تلك الهيئة المشبهة {فَتَكُونُ} بعد نفخك من غير تراخ {طَيْراً} أي حيواناً يطير كسائر الطيور وقرأ نافع ويعقوب {طائراً} وهو إما اسم مفرد وإما اسم جمع كباقر وسامر. {بِإِذْنِى وَتُبْرِىء الاكمه والابرص بِإِذْنِى} عطف على {تَخْلُقُ} وقوله سبحانه: {وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِى} عطف على {إِذْ تَخْلُقُ} أعيدت فيه «إذ» كما قيل لكون إخراج الموتى من قبورهم لا سيما بعد ما صاروا رميماً معجزة باهرة حرية بتذكير وقتها صريحاً. وما في النظم الكريم أبلغ من تحيي الموتى فلذا عدل عنه إليه. وقد تقدم الكلام في بيان من أحياهم عليه الصلاة والسلام مع بيان ما ينفعك في هذه الآية في سورة آل عمران (94) وذكر «بإذني» هنا أربع مرات وثمة مرتين قالوا: لأنه هنا للامتنان وهناك للإخبار فناسب هذا التكرار هنا. {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إسراءيل عَنكَ} يعني اليهود حين هموا بقتله ولم يتمكنوا منه. {إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات} أي المعجزات الواضحة مما ذكر وما لم يذكر وهو ظرف لكففت مع اعتبار قوله تعالى: {فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} وهو مما يدل على أنهم قصدوا اغتياله عليه الصلاة والسلام المحوج إلى الكف أي كففتهم عنك حين قالوا ذلك عند مجيئك إياهم بالبينات، ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة. فكلمة من بيانية وهذا إشارة إلى ما جاء به. وقرأ حمزة والكسائي «إلا ساحر» فالإشارة إلى عيسى عليه الصلاة والسلام، وجعل الإشارة إليه على القراءة الأولى وتأويل السحر بساحر لتتوافق القراءتان لا حاجة إليه.
{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)} {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} أي أمرتهم في الإنجيل على لسانك أو أمرتهم على ألسنة رسلي. وجاء استعمال الوحي بمعنى الأمر في كلام العرب كما قال الزجاج وأنشد: الحمد لله الذي استقلت باذنه السماء *** واطمأنت أوحى لها القرار فاستقرت أي أمرها أن تقر فامتثلت، وقيل: المراد بالوحي إليهم إلهامه تعالى إياهم كما في قوله تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68] {وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى} [القصص: 7] وروي ذلك عن السدي وقتادة وإنما لم يترك الوحي على ظاهره لأنه مخصوص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والحواريون ليسوا كذلك، وقد تقدم المراد بالحواريين [في سورة رل عمران: 25]. وأن قوله تعالى: {أَنْ ءامِنُواْ بِى وَبِرَسُولِى} مفسرة لما في الإيحاء من معنى القول، وقيل: مصدرية أي بأن ءامنوا الخ. وتقدم الكلام في دخولها على الأمر، والتعرض لعنوان الرسالة للتنبيه على كيفية الإيمان به عليه الصلاة والسلام والرمز إلى عدم إخراجه عليه الصلاة والسلام عن حده حطاً ورفعاً {قَالُواْ ءامَنَّا} طبق ما أمرنا به {واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} مخلصون في إيماننا أو منقادون لما أمرنا به.
{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)} {إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى عِيسَى ابن مَرْيَمَ} منصوب بـ {اذكر} [المائدة: 110] على أنه ابتداء كلام لبيان ما جرى بينه عليه الصلاة والسلام وبين قومه منقطع عما قبله كمال يشير إليه الإظهار في مقام الاضمار. وجوز أن يكون ظرفاً لـِ {قَالُواْ} [المائدة: 111] وفيه على ما قيل حينئذ تنبيه على أن ادعاءهم الإخلاص مع قولهم {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء} لم يكن عن تحقيق منهم ولا عن معرفة بالله تعالى وقدرته سبحانه لأنهم لو حققوا وعرفوا لم يقولوا ذلك إذ لا يليق مثله بالمؤمن بالله عز وجل. وتعقب هذا القول الحلبي بأنه خارق للإجماع. وقال ابن عطية لا خلاف أحفظه في أنهم كانوا مؤمنين وأيد ذلك بقوله تعالى: {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ} [المائدة: 115] وبأن وصفهم بالحواريين ينافي أن يكونوا على الباطل وبأن الله تعالى أمر المؤمنين بالتشبه بهم والإقتداء بسنتهم في قوله عز من قائل: {كُونُواْ أنصار الله} [الصف: 14] الآية وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدح الزبير «إن لكل نبي حواريا وإن حواري الزبير» والتزم القول بأن الحواريين فرقتان مؤمنون وهم خالصة عيسى عليه الصلاة والسلام والمأمور بالتشبه بهم وكافرون وهم أصحاب المائدة، وسؤال عيسى عليه الصلاة والسلام نزول المائدة وإنزالها ليلزمهم الحجة يحتاج إلى نقل ولم يوجد. ومن ذلك أجيب عن الآية بأجوبة فقيل: إن معنى {هَلْ يَسْتَطِيعُ} هل يفعل كما تقول للقادر على القيام: هل تستطيع أن تقوم مبالغة في التقاضي. ونقل هذا القول عن الحسن. والتعبير عن الفعل بالاستطاعة من التعبير عن المسبب بالسبب إذ هي من أسباب الايجاد. وعلى عكسه التعبير عن إرادة الفعل بالفعل تسمية للسبب الذي هو الإرادة باسم المسبب الذي هو الفعل في مثل قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا} [المائدة: 6] الخ. وقيل: إن المعنى هل يطيع ربك فيستطيع بمعنى يطيع ويطيع بمعنى يجيب مجازاف ونقل ذلك عن السدي. وذكر أبو شامة أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد أبا طالب في مرض فقال له: يا ابن أخي أدع ربك أن يعافيني فقال: اللهم اشف عمي فقام كأنما نشط من عقال فقال: يا ابن أخي إن ربك الذي تعبده يطيعك فقال: يا عم وأنت لو أطعته لكان يطيعك أي يجيبك لمقصودك وحسن استعماله صلى الله عليه وسلم لذلك المشاكلة. وقيل: هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة فكأنهم قالوا: هل إرادة الله تعالى وحكمته تعلقت بذلك أولا؟ لأنه لا يقع شيء بقدون تعلقهما به. واعترض بأن قوله تعالى الآتي: {اتقوا الله إِن كُنتُم} لا يلائمه لأن السؤال عن مثله مما هو من علوم الغيب لا قصور فيه. وقيل: إن سؤالهم للاطمئنان والتثبت كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام: {أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الموتى} [البقرة: 260] ومعنى {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} إن كنتم كاملين في الإيمان والإخلاص ومعنى {نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ صَدَقْتَنَا} نعلم علم مشاهدة وعيان بعد ما علمناه علم إيمان وإيقان. ومن هذا يعلم ما يندفع به الاعتراض. وقرأ الكسائي وعلي كرم الله تعالى وجهه وعائشة وابن عباس ومعاذ وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم (هل تستطيع ربك) بالتاء خطاباً لعيسى عليه الصلاة والسلام ونصب {رَبَّكَ} على المفعولية. والأكثرون على أن هناك مضافاً محذوفاً أي سؤال ربك أي هل تسأله ذلك من غير صارف. وعن الفارسي أنه لا حاجة إلى تقدير. والمعنى هل تستطيع أن ينزل ربك بدعائك. وأنت تعلم أن اللفظ لا يؤدي ذلك فلا بد من التقدير، والمائدة في المشهور الخوان الذي عليه الطعام من ماد يميد إذا تحرك أو من ماده بمعنى أعطاه فهي فاعلة إما بمعنى مفعولة ك {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} (القارعة؛ 7)، واختاره الأزهري في «تهذيب اللغة«أو بجعلها للتمكن مما عليها كأنها بنفيها معطية كقولهم للشجرة المثمرة: مطعمة. وأجاز بعضهم أن يقال فيها ميدة واستشد عليه بقول الراجز: وميدة كثيرة الألوان *** تصنع للجيران والأخوان واختار المناوي أن المائدة كل ما يمد ويبسط، والمراد بها السفرة، وأصلها طعام يتخذه المسافر ثم سمي بها الجلد المستدير الذي تحمل به غالباً كما سميت المزادة راوية. وجوز أن تكون تسمية الجلد المذكور سفرة لأن له معاليق متى حلت عنه انفرج فاسفر عما فيه. وهذا غير الخوان بضم الخاء وكسرها وهو أفصح ويقال له: اخوان بهمزة مكسورة لأنه اسم لشيء مرتفع يهيأ ليؤكل عليه الطعام، والأكل عليه بدعة لكنه جائز إن خلا عن قصد التكبر. وتطلق المائدة على نفس الطعام أيضاً كما نص عليه بعض المحققين، و{مّنَ السماء} يجوز أن يتعلق بالفعل قبله وأن يتعلق بمحذوف وقع صفة لمائدة أن مائدة كائنة من السماء. {قَالَ} أي عيسى عليه الصلاة والسلام لهم حين قالوا ذلك: {اتقوا الله} من أمثال هذا السؤال واقتراح الآيات كما قال الزجاج. وعن الفارسي أنه أمر لهم بالتقوى مطلقاً. ولعل ذلك لتصير ذريعة لحصول المأمول فقد قال سبحانه: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق:، 3] وقال جل شأنه: {رَّحِيمٌ يَئَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة} [المائدة: 35] {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بكمال قدرته تعالى وبصحة نبوتي أو كاملين في الإيمان والإخلاص أو إن صدقتم في ادعاء الإيمان والإسلام.
{قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)} {قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا} أكل تبرك وقيل: أكل تمتع وحاجة والإرادة إما مبعناها الظاهر أو بمعنى المحبة أي نحب ذلك والكلام كما قيل تمهيد عذر وبيان لما دعاهم إلى السؤال أي لسنا نريد من السؤال إزاحة شبهتنا في قدرته سبحانه على تنزيلها أو في صحة نبوتك حتى يقدح ذلك في الإيمان والتقوى ولكن نريد إلخ أو ليس مرادنا اقتراح الآيات لكن مرادنا ما ذكره. {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} بازدياد اليقين كما قال عطاء {وَنَعْلَمَ} علم مشاهدة وعيان على ما قدمناه {أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} أي أنه قد صدقتنا في ادعاء النبوة، وقيل: في أن الله تعالى يجيب دعوتنا، وقيل: فيما ادعيت مطلقاً. {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين} عند من لم يحضرها من بني اسرائيل ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة ويقينا ويؤمن بسببها كفارهم أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر، وقيل: من الشاهدين لله تعالى بالوحدانية ولك بالنبوة. و{عَلَيْهَا} متعلق بالشاهدين إن جعل اللام للتعريف أو بمحدوف يفسره {مّنَ الشاهدين} إن جعلت موصولة. وجوزنا تفسير ما لا يعمل للعامل، وقيل: متعلق به؛ وفيه تقديم ما في حيز الصلة وحرف الجر وكلاهما ممنوع. ونقل عن بعض النحاة جواز التقديم في الظرف، وعن بعضهم جوازه مطلقاً، وجوز أن يكون حالاً من اسم كان أي عاكفين عليها. وقرىء {يَعْلَمْ} بالبناء للمفعول و{تَعْلَمْ وَتَكُونُ} بالتاء والضمير للقلوب.
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)} {قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ} لما رأى أن لهم غرضاً صحيحاً في ذلك، وأخرج الترمذي في «نوادر الأصول» وغيره عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام لما رأى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها قام فألقى عنه الصوف ولبس الشعر الأسود ثم توضأ واغتسل ودخل مصلاه فصلى ما شاء الله تعالى فلما قضى صلاته قام قائماً مستقبل القبلة وصف قدميه حتى استويا فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع بالأصابع ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره وغض بصره وطأطأ رأسه خشوعاً ثم أرسل عينيه بالبكاء فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه فلما رأى ذلك دعا الله تعالى فقال: {اللهم رَبَّنَا} ناداه سبحانه وتعالى مرتين على ما قيل مرة بوصف الألوهية الجامعة لجميع الكمالات وأخرى بوصف الربوبية المنبئة عن التربية إظهاراً لغاية التضرع ومبالغة في الاستدعاء وإنما لم يجعل نداء واحداً بأن يعرب {رَبَّنَا} بدلاً أو صفة لأنهم قالوا: إن لفظ اللهم لا يتبع وفيه خلاف لبعض النحاة. وحذف حرف النداء في الأول وعوض عنه الميم وكذا في الثاني إلا أن التعويض من خواص الاسم الجليل أي يا الله يا ربنا. {أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً} أي خواناً عليه طعام أو سفرة كذلك، وتقديم الظرف على المفعول الصريح لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر. وقوله سبحانه وتعالى: {مّنَ السماء} متعلق إما بانزل أو بمحذوف وقع صفة لمائدة أي كائنة من السماء، والمراد بها إما المحل المعهود وهو المتبادر من اللفظ وإما جهة العلو، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن حميد وابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر أن المائدة التي نزلت كان عليها من ثمر الجنة وكذا روي عن وهب بن منبه. ويؤيد الثاني ما روي عن سلمان الفارسي من خبر طويل أن المائدة لما نزلت قال شمعون رأس الحواريين لعيسى عليه الصلاة والسلام يا روح الله وكلمته أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات وتنتهوا عن تنقير المسائل ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بسبب هذه الآية فقال شمعون: لا وإله اسرائيل ما أردت بها سواءاً يا ابن الصديقة فقال عيسى عليه الصلاة والسلام. ليس شيء مما ترون عليها من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا إنما هو شيء ابتدعه الله تعالى في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة فقال له كن فكان في أسرع من طرفة عين فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ويزدكم فإنه بديع قادر شاكر. وقوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً} صفة «مائدة» و«لنا» خبر كان و«عيداً» حال من الضمير في الظرف أو في {تَكُونُ} على رأي من يجوز إعمالها في الحال، وجوز أن يكون «عيداً» الخبر و«لنا» حينئذ إما حال من الضمير في «تكون» أو حال من {عِيداً} لأنه صفة له قدمت عليه، والعيد العائد مشتق من العود ويطلق على الزمان المعهود لعوده في كل عام بالفرح والسرور، وعليه فلا بد من تقدير مضاف، والمعنى يكون نزولها لنا عيداً، ويطلق على نفس السرور العائد وحينئذ لا يحتاج إلى التقدير، وفي الكلام لطافة لا تخفى، وذكر غير واحد أن العيد يقال لكل ما عاد عليك في وقت، ومنه قول الأعشى: فوا كبدي من لاعج الحب والهوى *** إذا اعتاد قلبي من أميمة عيدها وهو واوي كما ينبىء عنه الاشتقاق ولكنهم قالوا في جمعه: أعياد وكان القياش أعواد لأن الجموع ترد الأشياء إلى أصولها كراهة الاشتباه كما قال ابن هشام بجمع عود، ونظر ذلك الحريري بقولهم: هو أليط بقلبي منك أي ألصق حبابه فإن أصله الواو لكن قالوا ذلك ليفرق بينه وبين قولهم. هو ألوط من فلان، ولا يخفى أن هذا مخالف لما ذكره محققو أهل اللغة، وعن الكسائي يقال: لاط الشيء بقلبي يلوط ويليط وهو ألوط وأليط، ثم إنهم إنما لم يعكسوا الأمر في جمع عود وعيد فيقولوا في جمع الأول أعياد وفي جمع الثاني أعواد مع حصول التفرقة أيضاً اعتباراً على ما قيل للأخف في الأكثر استعمالاً مع رعاية ظاهر المفرد، وقرأ عبد الله «تكن» بالجزم على جواب الأمر. {لاِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا} أي لأهل زماننا ومن يجيء بعدنا. روي أنه نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيداً، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن المعنى يأكل منها أول الناس وآخرهم، والجار والمجرور عند بعض بدل من الجار والمجرور أعني «لنا»، وقال أبو البقاء إذا جعل «لنا» خبراً أو حالاً فهو صفة لعيداً وإن جعل صفة له كان هو بدلاً من الضمير والمجرور بإعادة الجار، وظاهره أن المبدل منه الضمير لكن أعيد الجار لأن البدل في قوة تكرار العامل، وهو تحكم لأن الظاهر كما أشير إبدال المجموع من المجموع، ثم إن ضمير الغائب يبدل منه وأما ضمير الحاضر فأجازه بعضهم مطلقاً وأجازه آخرون كذلك، وفصل قوم فقالوا إن أفاد توكيداً واحاطة وشمولاً جاز وإلا امتنع. واستظهر بعضهم على قول الحبر أن يكون «لنا» خبراً أي قوتاً أو نافعة لنا. وقرأ زيد وابن محيصن والجحدري «لأولانا وأخرانا» بتأنيث الأول والآخر باعتبار الأمة والطائفة، وكون المراد بالأولى والأخرى الدار الأولى أي الدنيا والدار الأخرى أي الآخرة مما لا يكاد يصح. {وَءايَةٌ} عطف على «عيداً»، وقوله سبحانه وتعالى: {مِنكَ} متعلق بمحذوف وقع صفة له أي آية كائنة منك دالة على كمال قدرتك وصحة نبوتي {وارزقنا} أي الشكر عليها على ما حكي عن الجبائي أو المائدة على ما نقل عن غير واحد والمراد بها حينئذ كما قيل ما على الخوان من الطعام أو الأعم من ذلك وهذه ولعله الأولى {وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين} تذييل جار مجرى التعليل أي خير من يرزق لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا ملاحظة عوض.
{قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)} {قَالَ الله إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ} مرات عديدة كما ينبىء عن ذلك صيغة التفعيل، وورود الإجابة منه تعالى كذلك مع كون الدعاء منه عليه الصلاة والسلام بصيغة الأفعال زظهار كمال اللطف والإحسان مع ما فيه من مراعاة ما وقع في عبارة السائلين، وفي تصدير الجملة بكلمة التحقيق وجعل خبرها اسماً تحقيق للوعد وإيذان بأنه سبحانه وتعالى منجز له لا محالة وإشعار بالاستمرار، وهذه القراءة لأهل المدينة والشام وعاصم وقرأ الباقون كما قال الطبرسي {مُنَزّلُهَا} بالتخفيف، وجعل الإنزال والتنزيل بمعنى واحد. {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ} أي بعد تنزيلها حال كونه كائناً {مِنكُمْ فَإِنّى أُعَذّبُهُ} بسبب كفره ذلك {عَذَاباً} هو اسم مصدر بمعنى التعذيب كالمتاع بمعنى التمتيع، وقيل: مصدر محذوف الزوائد وانتصابه على المصدرية في التقديرين، وقيل: منصوب على التوسع، والتشبيه بالمفعول به مبالغة كما ينصب الظرف ومعمول الصفة المشبهة كذلك، وجوز أبو البقاء أن يكون نصبه على الحذف والإيصال، والمراد بعذاب وهو حينئذ اسم ما يعذب به، ولا يخفى أن حذف الجار لا يطرد في غير أن وإن عند عدم اللبس، والتنوين للتعظيم أي عذاباً عظيماً. وقوله سبحانه وتعالى: {لاَّ أُعَذّبُهُ} في موضع النصب على أنه صفة له. والهاء في موضع المفعول المطلق كما في ظننته زيداً قائماً. ويقوم مقام العائد إلى الموصوف كما قيل. ووجه بأنه حينئذ يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل فيكون في معنى النكرة الواقعة بعد النفي من حيث العموم فيشمل العذاب المتقدم، ويحصل الربط بالعموم واورد عليه أن الربط بالعموم إنما ذكره النحاة في الجملة الواقعة خبراً فلا يقاس عليه الصفة وجوز أن يكون من قبيل ضربته ضرب زيد أي عذاباً لا أعذب تعذيباً مثله، وعلى هذا التقدير يكون الضمير راجعاً على العذاب المقدم فالربط به. وقيل: الضمير راجع إلى «من» بتقدير مضافين أي لا أعذب مثل عذابه. {أَحَداً مّن العالمين} أي عالمي زمانهم أو العالمين مطلقاً، وهذا العذاب إما في الدنيا، وقد عذب من كفر منهم بمسخهم قردة وخنازير. وروي ذلك عن قتادة وإما في الآخرة وإليه يشير ما أخرجه أبو الشيخ. وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة والمنافقون وآل فرعون ويدل هذا على أن المائدة نزلت وكفر البعض بعد. وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن ومجاهد أن القوم لما قيل لهم: «فمن يكفر» الخ قالوا: لا حاجة لنا بها فلم تنزل. والجمهور على الأول وعليه المعول. فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر موقوفاً ومرفوعاً. والوقف أصح قال: أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا فمسخوا قردة وخنازير وكان الخبز من أرز على ما روي عن عكرمة. وروي أن عيسى عليه الصلاة والسلام لما سأله قومه ذلك فدعا أنزل الله تعالى عليهم سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وغمامة تحتها وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من السماء تهوي إليهم وعيسى عليه الصلاة والسلام يبكي خوفاً من الشرط الذي اتخذ عليهم فيها فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يديه والحواريون حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا رائحة مثلها قط وخر عيسى عليه الصلاة والسلام والحواريون سجدا شكراً لله تعالى وأقبل اليهود ينظرون إليهم فرأوا ما يغمهم ثم انصرفوا فأقبل عيسى عليه الصلاة والسلام ومن معه ينظرونها فإذا هي مغطاة بمنديل فقال عليه الصلاة والسلام: من أجرؤنا على كشفه وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه حتى نراها ونحمد ربنا سبحانه وتعالى ونأكل من رزقه الذي رزقنا؟ فقالوا: يا روح الله وكلمته أنت أولى بذلك فقام واستأنف وضوءاً جديداً ثم دخل مصلاه فصلى ركعات ثم بكى طويلاً ودعا الله تعالى أن يأذن له في الكشف عنها ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقاً ثم انصرف وجلس حول السفرة وتناول المنديل وقال: بسم الله خير الرازقين وكشف عنها فإذا عليها سمكة ضخمة مشوية ليس عليها بواسير وليس في جوفها شوك يسيل السمن منها قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث وعند رأسها خل وعند ذنبها ملح وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الآخر تمرات وعلى الآخر خمس رمانات، وفي رواية على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن. وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فسأله سمعون عنها وأجابه بما تقدمت روايته. ثم قالوا له عليه الصلاة والسلام: إنما نحب أن ترينا آية في هذه الآية فقال عليه السلام: سبحان الله تعالى أما اكتفيتم ثم قال: يا سمكة عودي بإذن الله تعالى حية كما كنت فأحياها الله تعالى بقدرته فاضطربت وعادت حية طرية تلمظ كما يتلمظ الأسد تدور عيناها لها بصيص وعادت عليها بواسير ففزع القوم منها وانحاشوا فقال عليه الصلاة والسلام لهم: ما لكم تسألون الآية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ما أخوفني عليكم بما تصنعون يا سمكة عودي بإذن الله تعالى كما كنت مشوية ثم دعاهم إلى الأكل فقالوا: يا روح الله أنت الذي تبدأ بذلك فقال: معاذ الله تعالى يبدأ من طلبها فلما رأوا امتناع نبيهم عليه الصلاة والسلام خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة فتحاموها فدعا عليه الصلاة والسلام لها الفقراء والزمنى، وقال: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم وأحمدوا الله تعالى الذي أنزلها لكم ليكون مهنئوها لكم وعقوبتها على غيركم وافتتحوا كلكم باسم الله واختتموه بحمد الله ففعلوا فأكل منها ألف وثلثمائة إنسان بين رجل وامرأة وصدروا منها وكل واحد منهم شبعان يتجشى ونظر عيسى عليه السلام والحواريون ما عليها فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء لم ينتقص منه شيء ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون فاستغنى كل فقير أكل منها وبرىء كل زمن منهم أكل منها فلم يزالوا أغنياء صحاحاً حتى خرجوا من الدنيا وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سألت منها أشفارهم وبقيت حسرتها في قلوبهم، وكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنوا اسرائيل إليها من كل مكان يسعون فزاحم بعضهم بعضاً الأغنياء والفقراء والنساء والصغار والكبار والأصحاء والمرضى يركب بعضهم بعضاً فلما رأى عيسى عليه الصلاة والسلام ذلك جعلها نوبا بينهم فكانت تنزل يوماً ولا تنزل يوما فلبثوا في ذلك أربعين يوماً تنزل عليهم غبا عند ارتفاع الضحى فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قالوا ارتفعت عنهم باذن الله تعالى إلى جو السماء وهو ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أن اجعل رزقي لليتامى والمساكين والزمني دون الأغنياء من الناس فلما فعل الله تعالى ذلك ارتاب بها الأغنياء وغمصوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر وأدرك الشيطان منهم حاجته وقذف وسواسه في قلوب المرتابين فلما علم عيسى عليه السلام ذلك منهم قال: هلكتم وإله المسيح سألتم نبيكم أن يطلب المائدة لكن إلى ربكم فلما فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقا وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها وشككتم فيها فابشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله تعالى وأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام إني آخذ المكذبين بشرطي وإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين فلما أمسى المرتابون وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين وكان آخر الليل مسخهم الله تعالى خنازير وأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال لبني اسرائيل: هل لكم أن تصوموا ثلاثين يوماً ثم تسالوه فيعطيكم ما سألتم فإن أجر العامل على من عمل له ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير قلت لنا: إن أجر العامل على من عمل له وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً ففعلنا ولم نكن نعمل لأحل ثلاثين يوماً إلا أطعمنا {فَهَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء} إلى قوله تعالى: {أَحَداً مّن العالمين} فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم. وجاء عنه أن المائدة كانت تنزل عليهم حيث نزلوا، وعن وهب بن منبه أن المائدة كان يقعد عليها أربعة آلاف فإذا أكلوا شيئاً أبدل الله تعالى مكانه مثله فلبثوا بذلك ما شاء الله عز وجل:
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)} {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى عِيسَى ابن مَرْيَمَ} عطف على {إِذْ قَالَ الحواريون} [المائدة: 112] منصوب بما نصبه من الفعل المضمر أو بمضمر مستقل معطوف على ذلك. وصيغة الماضي لما مضى. والمراد يقول له عليه الصلاة والسلام: {ءأَنْتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله} يوم القيامة توبيخاً للكفرة وتبكيتاً لهم باقراره عليه الصلاة والسلام على رؤوس الأشهاد بالعبودية وأمرهم بعبادته عز وجل. وقيل: قاله سبحانه له عليه الصلاة والسلام في الدنيا وكان ذلك بعد الغروب فصلى عليه الصلاة والسلام المغرب ثلاث ركعات شكراً لله تعالى حين خاطبه بذلك، وكان الأولى: لنفي الألوهية عن نفسه. والثانية: لنفيها عن أمه. والثالثة: لإثباتها لله عز وجل. فهو عليه الصلاة والسلام أول من صلى المغرب ولا يخفى أن ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الآيات يأبى ذلك ولا يصح أيضاً خبر فيه. ثم إنه ليس مدار أصل الكلام عند بعض المحققين أن القول متيقن والاستفهام لتعيين القائل كما هو المتبادر من إيلاء الهمزة المبتدأ على الاستعمال المشهور وعليه قوله تعالى: {قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا} [الأنبياء: 62] ونحوه بل على أن المتيقن هو الاتخاذ. والاستفهام لتعيين أنه بأمره عليه الصلاة والسلام أو أمر من تلقاء أنفسهم كما في قوله تعالى: {أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل قَالُواْ} [الفرقان: 17] وقال بعض: لما كان القول قد وقع من رؤسائهم في الضلال كان مقرراً كالاتخاذ فالاستفهام لتعيين من صدر منه فلذا قدم المسند إليه، وقيل: التقديم لتقوية النسبة لأنها بعيدة عن القبول بحيث لا تتوجه نفس السامع إلى أن المقصود ظاهرها حتى يجيب على طبقه فاحتاجت إلى التقوية حتى يتوجه إليها المستفهم عنها، وفيه كمال توبيخ الكفرة بنسبة هذا القول إليه. وفي قوله: {اتخذونى وَأُمّىَ} دون واتخذوني ومريم توبيخ على توبيخ كأنه قيل: أأنت قلت ما قلت مع كونك مولوداً وأمك والدة والإله لا يلد ولا يولد. وأنت تعلم أن في ندائه عليه الصلاة والسلام على الكيفية المذكورة إشارة إلى إبطال ذلك الاتخاذ. ولام {لِلنَّاسِ} للتبليغ، والاتخاذ إما متعد لاثنين فالياء مفعوله الأول و{إلهين} مفعوله الثاني وإما متعد لواحد فإلهين حال من المفعول و{مِن دُونِ الله} حال من فاعل الاتخاذ أي متجاوزين الله تعالى أو صفة لإلهين أي كائنين من دون الله تعالى أي غيره منضماً إليه سبحانه فالله تعالى إله وهما بزعم الكفرة إلهان فالمراد اتخاذهما بطريق اشتراكهما معه عز وجل. وهذا كما في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} إلى قوله سبحانه: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] وأيد ذلك بأن التوبيخ والتبكيت إنما يتأتى بذلك. وقال الراغب: إن ظاهر ذلك القول استقلالهما عليهما الصلاة والسلام بالألوهية وعدم اتخاذ الله سبحانه وتعالى معهما إلهاً ولا بد من تأويل ذلك لأن القوم ثلثوا والعياذ بالله تعالى فإما أن يقال: إن من أشرك مع الله سبحانه غيره فقد نفاه معنى لأنه جل شأنه وحده لا شريك له ويكون إقراره بالله تعالى كلا إقرار. وحينئذٍ يكون {مِن دُونِ الله} مجازاً عن مع الله تعالى أو يقال: إن المراد بمن دون الله التوسط بينهما وبينه عز شأنه فيكون الدون إشارة لقصور مرتبتهما عن مرتبته جل جلاله لأنهم قالوا: هو عز اسمه كالشمس وهما كشعاعها. وزعم بعضهم أن المراد اتخاذهما بطريق الاستقلال. ووجهه أن النصارى يعتقدون أن المعجزات التي ظهرت على يدي عيسى وأمه عليهما الصلاة والسلام لم يخلقها الله تعالى بل هما خلقاها فصح أنهم اتخذوهما في حق بعض الأشياء إلهين مستقلين ولم يتخذوه إلهاً في حق ذلك البعض، ولا يخفى أن الأول كالمتعين وإليه أشار العلامة ونص على اختياره شيخ الإسلام. واستشكلت الآية بأنه لا يعلم أن أحداً من النصارى اتخذ مريم عليها السلام إلهاً. وأجيب عنه بأجوبة. الأول: أنهم لما جعلوا عيسى عليه الصلاة والسلام إلهاً لزمهم أن يجعلوا والدته أيضاً كذلك لأن الولد من جنس من يلده فذكر {إلهين} على طريق الإلزام لهم. والثاني: أنهم لما عظموها تعظيم الإله أطلق عليها اسم الإله كما أطلق اسم الرب على الأحبار والرهبان في قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله} [التوبة: 31] لما أنهم عظموهم تعظيم الرب. والتثنية حينئذٍ على حد القلم أحد اللسانين. والثالث: أنه يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك. ويعضد هذا القول ما حكاه أبو جعفر الإمامي عن بعض النصارى أنه قد كان فيما مضى قوم يقال لهم: المريمية يعتقدون في مريم أنها إله. وهذا كما كان في اليهود قوم يعتقدون أن عزيراً ابن الله عز اسمه وهو أولى الأوجه عندي. وما قرره الزاعم من أن النصارى يعتقدون الخ غير مسلم في نصارى زماننا ولم ينقله أحد ممن يوثق به عنهم أصلاً. وإظهار الاسم الجليل لكونه في حيز القول المسند إلى عيسى عليه الصلاة والسلام. {قَالَ} استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام وهو ظاهر. وفي بعض الآثار أنه عليه الصلاة والسلام حين يقول له الرب عز وجل ما يقول ترتعد مفاصله وينفجر من أصل كل شعرة من جسده عين من دم خيفة من ربه جلت عظمته، وفي بعضها أنه عليه الصلاة والسلام يرتعد خوفاً ولا يفتح له باب الجواب خمسمائة عام ثم يلهمه الله تعالى الجواب بعد فيقول: {سبحانك} أي تنزيهاً لك من أن أقول ذلك أو يقال في حقك كما قدره ابن عطية، وقدره بعضهم من أن يكون لك شريك فضلاً من أن يتخذ إلهان دونك، وآخرون من أن تبعث رسولاً يدعى ألوهية غيرك ويدعو إليها ويكفر بنعمتك، والأول أوفق بسياق النظم الكريم. وسبحان على سائر التقادير على أحد الأقوال فيه وقد تقدمت علم للتسبيح وانتصابه على المصدرية ولا يكاد يذكر ناصبه. وفيه من المبالغة في التنزيه من حيث الاشتقاق من السبح وهو الإبعاد في الأرض والذهاب، ومن جهة النقل إلى صيغة التفعيل والعدول عن المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة المشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن وإقامته مقام المصدر مع الفعل ما لا يخفى. وقوله سبحانه: {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ} استئناف مقرر للتنزيه ومبين للمنزه عنه. وما الثانية سواء كانت موصولة أو نكرة موصوفة مفعول {أَقُولُ} والمراد بها على التقديرين القول المذكور أو ما يعمه وغيره ويدخل فيه القول المذكور دخولاً أولياً، ونصب القول للمفردات نحو الجملة والكلام والشعر مما لا شك في صحته كنصبه الجمل الصريحة فلا حاجة إلى تفسير أقول بأذكر كما يتوهم. واسم {لَّيْسَ} ضمير عائد إلى ما و{بِحَقّ} خبره، والجار والمجرور فيما بينهما للتبيين فيتعلق بمحذوف كما في سقيا لك. وإيثار ليس على الفعل المنفي على ما يحق لي لظهور دلالته على استمرار انتفاء الحقيقة وإفادة التأكيد بما في خبره من الباء المطرد زيادتها في خبر ليس. ومعنى {مَا يَكُونُ لِى} أي لا ينبغي ولا يليق وهو أبلغ من لم أقله فلذا أوثر عليه: والمراد لا ينبغي أن أقول قولاً لا يحق لي قوله أصلاً في وقت من الأوقات، وجوز أبو البقاء أن يكون {لِى} خبر ليس و{بِحَقّ} في موضع الحال من الضمير في الجار والعامل فيه ما فيه من معنى الاستقرار. وأن يكون متعلقاً بفعل محذوف على أنه مفعول له والباء للسببية أي ما ليس يثبت لي بسبب حق. وأن يكون خبر ليس و{لِى} صفة حق قدم عليه فصار حالاً، وهذا مخرج على رأي من أجاز تقديم حال المجرور عليه، وقيل: إن {لِى} متعلق بحق وهو الخبر. وهو أيضاً مبني على قول بعض النحاة المجوز تقديم صلة المجرور على الجار. والجمهور على عدم الجواز ولا فرق عندهم في المنع بين أن يكون الجار زائداً أو غيره. وقوله عز وجل: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} استدلال على براءته من صدور القول المذكور عنه فإن صدوره عنه مستلزم لعلمه به تعالى قطعاً والعلم به منتف فينتفي الصدور ضرورة أن انتفاء اللازم مستلزم لانتفاء الملزوم. واستشكلت هذه الجملة بأن المعنى على المضي هنا وأن تقلب الماضي مستقبلاً. وأجاب عن ذلك المبرد بأن كان قوية الدلالة على المضي حتى قيل إنها موضوعة له فقط دون الحدث وجعلوه وجهاً لكونها ناقصة فلا تقدر إن على تحويلها إلى الاستقبال. وأجاب ابن السراج بأن التقدير إن أقل كنت قلته الخ وكذا يقال فيما كان من أمثال ذلك، وقد نقل ذلك عثمان بن يعيش وضعفه ابن هشام في «تذكرته»، والجمهور على أن المعنى إن صح قولي ودعواي ذلك فقد تبين علمك به. {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى} استئناف جار مجرى التعليل لما قبله فقوله جل شأنه: {وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ} بيان للواقع وإظهار لقصوره عليه السلام، وللنفس في كلامهم إطلاقات فتطلق على ذات الشيء وحقيقته وعلى الروح وعلى القلب وعلى الدم وعلى الإرادة، قيل: وعلى العين التي تصيب وعلى الغيب وعلى العقوبة. ويفهم من كلام البعض أنها حقيقة في الإطلاق الأولي مجاز فيما عداه، وفسر غير واحد النفس هنا بالقلب، والمراد تعلم معلومي الذي أخفيه في قلبي فكيف بما أعلنه ولا أعلم معلومك الذي تخفيه وسلك في ذلك مسلك المشاكلة كما في قوله: قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه *** قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً إلا أن ما في الآية كلا اللفظين وقع في كلام شخص واحد وما في البيت ليس كذلك. وفي «الدر المصون» أن هذا التفسير مروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحكاه عنه أيضاً في «مجمع البيان». وفسرها بعضهم بالذات وادعى أن نسبتها بهذا المعنى إلى الله تعالى لا تحتاج إلى القول بالمشاكلة، ومن ذلك قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} [الأنعام: 45] {واصطنعتك لِنَفْسِى} [طه: 14] {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 82 و03] وقوله صلى الله عليه وسلم: " أقسم ربي على نفسه أن لا يشرب عبد خمراً ولم يتب إلى الله تعالى منه إلا سقاه من طينة الخبال " وقوله عليه الصلاة والسلام: " ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل ولأجل ذلك مدح نفسه " وقوله صلى الله عليه وسلم: " سبحان الله عدد خلقه ورضا نفسه " إلى غير ذلك من الأخبار. وقال المحقق الشريف في «شرح المفتاح» وغيره: إن لفظ النفس لا يطلق عليه تعالى وإن أريد به الذات إلا مشاكلة وليس بشيء لما علمت من الآيات والأحاديث، وادعاء أن ما فيها مشاكلة تقديرية كما قيل ذلك في قوله تعالى: {صِبْغَةَ الله مَنْ أَحْسَنَ *مِنَ الله صِبْغَةً} [البقرة: 831] لا يخفى أنه من سقط المتاع فالصحيح المعول عليه جواز إطلاقها بمعنى الذات على الله تعالى من غير مشاكلة، نعم قيل: إن لفظ النفس في هذه الآية وإن كان بمعنى الذات لا بد معه من اعتبار المشاكلة لأن لا أعلم ما في ذاتك ليس بكلام مرضي فيحتاج إلى حمله على المشاكلة بأن يكون المراد لا أعلم معلوماتك فعبر عنه بلا أعلم ما في نفسك لوقوع التعبير عن تعلم معلومي بتعلم ما في نفسي. وعلى ذلك حمل العلامة الثاني كلام صاحب «الكشاف» ولا يخفى ما فيه، والتحقيق أن الآية من المشاكلة إلا أنها ليست في إطلاق النفس بل في لفظ {فِى} فإن مفادها بالنظر إلى ما في نفس عيسى عليه السلام الارتسام والانتقاش ولا يمكن ذلك نظراً إلى الله تعالى. وإلى هذا يشير كلام بعض المحققين ومنه يعلم ما في كتب الأصول من الخبط في هذا المقام، وقال الراغب: يجوز أن يكون القصد إلى نفي النفس عنه تعالى فكأنه قال: تعلم ما في نفسي ولا نفس لك فأعلم ما فيها كقول الشاعر: ولا ترى الضب بها ينجحر *** وهو على بعده مما لا يحتاج إليه. ومثله ما ذكره بعض الفضلاء من أن النفس الثانية هي نفس عيسى عليه السلام أيضاً، وإنما أضافها إلى ضمير الله تعالى باعتبار كونها مخلوقة له سبحانه كأنه قال: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما فيها. {إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب} تقرير لمضمون الجملتين منطوقاً ومفهوماً لما فيه من الحصر ومدلوله الإثبات فيقرر {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى} لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ويلزمه النفي فيقرر لا أعلم ما في نفسك لأنه غيب أيضاً، ومدلول النفي أنه لا يعلم الغيب غيره تعالى شأنه.
{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)} وقوله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ} استئناف كما قال شيخ الإسلام مسوق لبيان ما صدر عنه عليه السلام قد أدرج فيه عدم صدور القول المذكور عنه على أبلغ وجه وآكده حيث حكم بانتفاء صدور جميع الأقوال المغايرة للمأمور به فدخل فيه انتفاء صدور القول المذكور دخولاً أولياً. والمراد عند البعض ما أمرتهم إلا بما أمرتني به إلا أنه قيل: {مَا قُلْتُ لَهُمْ} نزولاً على قضية حسن الأدب لئلا يجعل ربه سبحانه ونفسه معاً آمرين ومراعاة لما ورد في الاستفهام. ودل على ذلك بإقحام أن المفسرة في قوله تعالى: {أَنِ اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ}. ولا يرد أن الأمر لا يتعدى بنفسه إلى المأمور به إلا قليلاً كقوله: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به *** فكذا ما أول به لأنه كما قال ابن هشام لا يلزم من تأويل شيء بشيء أن يتعدى تعديته كما صرحوا به لأن التعدية تنظر إلى اللفظ. نعم قيل في جعل أن مفسرة بفعل الأمر المذكور صلته نحو أمرتك بهذا أن قم نظر أما في طريق القياس فلأن أحدهما مغن عن الآخر. وأما في الاستعمال فلأنه لم يوجد. ونظر فيما ذكر في طريق القياس لأن الأول لا يغني عن الثاني والثاني لا يغني عن الأول وللتفسير بعد الإبهام شأن ظاهر. وادعى ابن المنير أن تأويل هذا القول بالأمر كلفة لا طائل وراءها وفيه نظر. وجوز إبقاء القول على معناه و{أَنِ اعبدوا} إما خبر لمضمر أي هو أن اعبدوا أو منصوب بأعني مقدراً، وقيل: عطف بيان للضمير في {بِهِ}، واعترض بأنه صرح في «المغني» بأن عطف البيان في الجوامد بمنزلة النعت في المشتقات فكما أن الضمير لا ينعت لا يعطف عليه عطف بيان، وأجيب بأن ذلك من المختلف فيه وكثير من النحاة جوزوه. وما في «المغني» قد أشار شراحه إلى رده، وقيل: بدل من الضمير بدل كل من كل. ورده الزمخشري في «الكشاف» بأن المبدل منه في حكم التنحية والطرح فيلزم خلو الصلة من العائد بطرحه، وأجيب عنه بأن المذهب المنصور أن المبدل منه ليس في حكم الطرح مطلقاً بل قد يعتبر طرحه في بعض الأحكام كما إذا وقع مبتدأ فإن الخبر للبدل نحو زيد عينه حسنة ولا يقال حسن. وقد يقال أيضاً: إنه ليس كل مبدل منه كذلك بل ذلك مخصوص فيما إذا كان البدل بدل غلط، وأجاب بعضهم بأنه وإن لزم خلو الصلة من العائد بالطرح لكن لا ضير فيه لأن الاسم الظاهر يقوم مقامه كما في قوله : وأنت الذي في رحمة الله أطمع *** ولا يخفى أن في صحة قيام الظاهر هنا مقام الضمير خلافاً لهم، وجوز أن يكون بدلاً من {مَا أَمَرْتَنِى بِهِ}، واعترض بأن {مَا} مفعول القول ولا بد فيه أن يكون جملة محكية أو ما يؤدي مؤداها أو ما أريد لفظه وإذا كان العبادة بدلاً كانت مفعول القول مع أنها ليست واحداً من هذه الأمور فلا يقال: ما قلت لهم إلا العبادة، وفي «الانتصاف» «أن العبادة وإن لم تقل فالأمر بها يقال وأن الموصولة بفعل الأمر يقدر معها الأمر فيقال هنا ما قلت لهم إلا الأمر بالعبادة ولا ريب في صحته لأن الأمر مقول بل قول على أن جعل العبادة مقولة غير بعيد على طريقة {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} [المجادلة: 3] أي الوطء الذي قالوا قولاً يتعلق به وقوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم: 80] ونحو ذلك»، وفي «الفوائد» أن المراد ما قلت لهم إلا عبادته أي الزموا عبادته فيكون هو المراد من {مَا أَمَرْتَنِى بِهِ} ويصح كون هذه الجملة بدلاً من ما أمرتني به من حيث إنها في حكم المراد لأنها مقولة و{مَا أَمَرْتَنِى بِهِ} مفرد لفظاً وجملة معنى ولا يخلو عن تعسف، وجوز إبقاء القول على معناه وأن مفسرة إما لفعل القول أو لفعل الأمر، واعترض بأن فعل القول لا يفسر بل يحكي به ما بعده من الجمل ونحوها وبأن فعل الأمر مسند إلى الله تعالى وهو لا يصح تفسيره بأعبدوا الله ربي وربكم بل بأعبدوني أو أعبدوا الله ونحوه، وأجيب عن هذا بأنه «يجوز أن يكون حكاية بالمعنى كأنه عليه السلام حكى معنى قول الله عز وجل بعبارة أخرى وكأن الله تعالى قال له عليه السلام: مرهم بعبادتي أو قال لهم على لسان عيسى عليه السلام: أعبدوا الله رب عيسى وربكم فلما حكاه عيسى عليه السلام قال: {اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ} فكنى عن اسمه الظاهر بضميره كما قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّى فِى كتاب لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نبات شتى} [طه: 52، 53] فإن موسى عليه السلام لا يقول فأخرجنا بل فأخرج الله تعالى لكن لما حكاه الله تعالى عنه عليه السلام رد الكلام إليه عز شأنه وأضاف الإخراج إلى ذاته عز وجل على طريقة المتكلم لا الحاكي وإن كان أول الكلام حكاية. ومثله قوله تعالى: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} إلى قوله سبحانه: {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} [الزخرف: 9 11] إلى غير ذلك. وقال أبو حيان: «يجوز أن يكون المفسر {اعبدوا الله} ويكون {رَبّى وَرَبَّكُمْ} من كلام عيسى عليه السلام على إضمار أعني (أي أعني ربي وبكم) لا على الصفة» لله عز اسمه واعتمده ابن الصائغ وجعله نظير قوله تعالى: {إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله} [النساء: 751] على رأي. وفي «أمالي ابن الحاجب» إذا حكى حاك كلاماً فله أن يصف المخبر عنه بما ليس في كلام المحكي عنه، واستبعد ذلك الحلبي والسفاقسي وهو الذي يقتضيه الإنصاف. وقيل على الأول: إن بعضهم أجاز وقوع أن المفسرة بعد لفظ القول ولم يقتصر بها على ما في معناه فيقع حينئذٍ مفسراً له لكن أنت تعلم أنه لا ينبغي الاختلاف في أنه لا يقترن المقول المحكي بحرف التفسير لأن مقول القول في محل نصب على المفعولية والجملة المفسرة لا محل لها فلعل مراد البعض مجرد الوقوع والتزام أن المقول محذوف وهو المحكي وهذا تفسير له أي ما قلت لهم مقولاً فتدبر فقد انتشرت كلمات العلماء هنا. {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي رقيباً أراعي أحوالهم وأحملهم على العمل بموجب أمرك من غير واسطة ومشاهداً لأحوالهم من إيمان وكفر، و{عَلَيْهِمْ} كما قال أبو البقاء متعلق بشهيداً، لعل التقديم لما مر غير مرة {مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} أي مدة دوامي فيما بينهم {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى} أي قبضتني بالرفع إلى السماء كما يقال توفيت المال إذا قبضته. وروي هذا عن الحسن وعليه الجمهور. وعن الجبائي أن المعنى أمتني وادعى أن رفعه عليه السلام إلى السماء كان بعد موته وإليه ذهب النصارى وقد مر الكلام في ذلك. {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} أي الحفيظ المراقب فمنعت من أردت عصمته عن المخالفة بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسول وإنزال الآيات وخذلت من خذلت من الضالين فقالوا ما قالوا، وقيل: المراد بالرقيب المطلع المشاهد، ومعنى الجملتين إني ما دمت فيهم كنت مشاهداً لأحوالهم فيمكن لي بيانها فلما توفيتني كنت أنت المشاهد لذلك لا غيرك فلا أعلم حالهم ولا يمكنني بيانها، ولا يخفى أن الأول أوفق بالمقام، وقد نص بعض المحققين أن الرقيب والشهيد هنا بمعنى واحد وهو ما فسر به الشهيد أولاً ولكن تفنن في العبارة ليميز بين الشهيدين والرقيبين لأن كونه عليه الصلاة والسلام رقيباً ليس كالرقيب الذي يمنع ويلزم بل كالشاهد على المشهود عليه ومنعه بمجرد القول وأنه تعالى شأنه هو الذي يمنع منع إلزام بالأدلة والبينات، و{أَنتَ} ضمير فصل أو تأكيد و{الرَّقِيبَ} خبر كان. وقرىء {الرَّقِيبَ} بالرفع على أنه خبر (أنت)، والجملة خبر كان و{عَلَيْهِمْ} في القراءتين متعلق بالرقيب. وقوله سبحانه: {وَأَنتَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ} تذييل مقرر لمضمون ما قبله وفيه على ما قيل إيذان بأنه سبحانه كان هو الشهيد في الحقيقة على الكل حين كونه عليه السلام فيما بينهم، و{على} متعلقة بشهيد، والتقديم لمراعاة الفاصلة.
{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} وقوله تعالى: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} على معنى إن تعذبهم لم يلحقك بتعذيبهم اعتراض لأنك المالك المطلق لهم ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعله بملكه، وقيل: على معنى: إن تعذبهم لم يستطع أحد منهم على دفع ذلك عن نفسه لأنهم عبادك الأرقاء في أسر ملكك وماذا تبلغ قدرة العبد في جنب قدرة مالكه، وقيل: المعنى إن تعذبهم فإنهم يستحقون ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك وخالفوا أمرك وقالوا ما قالوا، ونسب ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو بعيد عن النظم، نعم لا يبعد أن يكون في النظم إشارة إليه. {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} أي فإن تغفر لهم ما كان منهم لا يلحقك عجز بذلك ولا استقباح فإنك القوي القادر على جميع المقدورات التي من جملتها الثواب والعقاب الحكيم الذي لا يريد ولا يفعل إلا ما فيه حكمة، والمغفرة للكافر لم يعدم فيها وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول بل متى كان المجرم أعظم جرماً كان العفو عنه أحسن لأنه أدخل في الكرم وإن كانت العقوبة أحسن في حكم الشرع من جهات أخر، وعدم المغفرة للكافر بحكم النص والإجماع لا للامتناع الذاتي فيه ليمتنع الترديد والتعليق بإن. وقد نقل الإمام «أن غفران الشرك عندنا جائز. وعند جمهور البصريين من المعتزلة قالوا: لأن العقاب حق الله تعالى على المذنب (وفي إسقاطه منفعة للمذنب) وليس في إسقاطه على الله سبحانه مضرة». وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي أن معنى الآية إن تعذبهم فتميتهم بنصرانيتهم فيحق عليهم العذاب فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فتخرجهم من النصرانية وتهديهم إلى الإسلام فإنك أنت العزيز الحكيم، وهذا قول عيسى عليه السلام في الدنيا اه. ولا يخفى أنه مخالف لما يقتضيه السباق والسياق، وقيل: الترديد بالنسبة إلى فرقتين، والمعنى إن تعذبهم أي من كفر منهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم وتعف عمن آمن منهم فإنك الخ وهو بعيد جداً، وظاهر ما قالوه أنه ليس في قوله سبحانه {وَإِن تَغْفِرْ} الخ تعريض بسؤال المغفرة وإنما هو لإظهار قدرته سبحانه وحكمته، ولذا قال سبحانه {العزيز الحكيم} دون الغفور الرحيم مع اقتضاء الظاهر لهما، وما جاء في الأخبار مما أخرجه أحمد في «المصنف» والنسائي والبيهقي في «سننه» عن أبي ذر قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الخ فلما أصبح قلت: يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت قال: إني سألت ربي سبحانه الشفاعة فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله تعالى من لا يشرك بالله تعالى شيئاً» وما أخرجه مسلم وابن أبي الدنيا في حسن الظن والبيهقي في «الأسماء والصفات» وغيرهم عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله سبحانه في إبراهيم عليه السلام {رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى} [إبراهيم: 36] الآية، وقوله عز وجل في عيسى ابن مريم: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} الخ فرفع يديه فقال: اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله جلت رحمته: يا جبرائيل اذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال له: إنا سنقر عينك في أمتك ولا نسوءك» وما أخرجه ابن مردويه عن أبي ذر قال: «قلت للنبي صلى الله عليه وسلم بأبي أنت وأمي يا رسول الله قمت الليلة بآية من القرآن يعني بها هذه الآية ومعك قرآن لو فعل هذا بعضنا تال وجدنا عليه قال: دعوت الله سبحانه لأمتي قال: فماذا أجبت؟ قال: أجبت بالذي لو اطلع كثير منهم عليه تركوا الصلاة قلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: بلى فقال عمر: يا رسول الله إنك إن تبعث إلى الناس بهذا ويتكلوا ويدعوا العبادة فناداه أن ارجع فرجع» لا يقوم دليلاً على أن في الآية تعريضاً بطلب المغفرة للكافر إذ لا يبعد منه صلى الله عليه وسلم الدعاء لأمته وطلب الشفاعة لهم بهذا النظم لكن لا على الوجه الذي قصده عيسى عليه السلام منه، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم اقتبس ذلك من القرآن مؤدياً به مقصوده الذي أراده وليس ذلك أول اقتباس له عليه الصلاة والسلام فقد صرح بعض العلماء أن دعاء التوجه عند الشافعية من ذلك القبيل والصلاة لا تنافي الدعاء، وما أخرجه مسلم ومن معه ليس فيه أكثر من أن ما ذكر آثار كأمن شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته فدعا لهم بما دعا وذلك لا يتوقف على أن في الآية تعريضاً لسؤال المغفرة للكافر، ثم إن للعلماء في بيان سر ذكر ذينك الاسمين الجليلين في الآية كلاماً طويلاً حيث أشكل وجه مناسبتهما لسياق ما قرنا به حتى حكي عن بعض القراء أنه غيرهما لسخافة عقله فكان يقرأ فإنك أنت الغفور الرحيم إلى أن حبس وضرب سبع درر، ووقع لبعض الطاعنين في القرآن من الملاحدة أن المناسب ما وقع في مصحف ابن مسعود فإنك أنت العزيز الغفور كما نقل ذلك ابن الأنباري، وقد علمت أحد توجيهاتهم لذلك. وقيل: إن ذكرهما من باب الاحتراس لأن ترك عقاب الجاني قد يكون لعجز في القدرة أو لإهمال ينافي الحكمة فدفع توهم ذلك بذكرهما، وفي «أمالي العز بن عبد السلام» أن العزيز معناه هنا الذي لا نظير له، والمعنى وإن تغفر لهم فإنك أنت الذي لا نظير لك في غفرانك وسعة رحمتك، وأنت أولى من رحم وأجدر من غفر وستر الحكيم الذي لا يفعل شيئاً إلا في مستحقه وهم مستحقون ذلك لفضلك وضعفهم، وهذا ظاهر في أن في الآية تعريضاً بطلب المغفرة ولا أظنك تقول به، وادعى بعضهم أنهما متعلقان بالشرطين لا بالثاني فقط وحينئذٍ وجه مناسبتهما لا سترة عليه فإن من له الفعل والترك عزيز حكيم، وذكر أن هذا أنسب وأدق وأليق بالمقام.
{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)} {قَالَ الله} كلام مستأنف ختم به حكاية ما حكى مما يقع يوم يجمع الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وأشير إلى نتيجته ومآله، وصيغة الماضي لما تحقق، والمراد بقول الله تعالى عقيب جواب عيسى عليه السلام مشيراً إلى صدقه ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم وبذلك يزول أيضاً عنه عليه السلام خوفه من صورة ذلك السؤال لا أن إزالته هي المقصودة من القول على ما قيل. {هذا} أي اليوم الحاضر {يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين} أي المستمرين على الصدق في الأمور المطلوبة منهم التي معظمها التوحيد الذي نحن بصدده والشرائع والأحكام المتعلقة به من الرسل الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك وبه تحصل الشهادة بصدق عيسى عليه السلام ومن الأمم المصدقين لأولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام المقتدين بهم عقداً وعملاً (وبه يتحقق المقصود بالحكاية (من ترغيب السامعين) في الإيمان) برسول الله صلى الله عليه وسلم {صِدْقُهُمْ} أي فيما ذكر في الدنيا إذ هو المستتبع للنفع والمجازاة يومئذٍ، وقيل: في الآخرة. والمراد من الصادقين الأمم ومن صدقهم صدقهم في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ وهو ينفعهم لقيامهم فيه بحق الله تعالى وهو كما ترى، وقيل: المراد صدقهم المستمر في دنياهم إلى آخرتهم ليتسنى كون ما ذكر شهادة بصدق عيسى عليه السلام فيما قاله جواباً عن السؤال على ما يقتضيه السوق، ويكون النفع باعتبار تحققه في الدنيا والمطابقة لما يقتضيه السوق باعتبار تقرره ووقوع بعض جزئياته في الآخرة، والمستمر هو الأمر الكلي الذي هو الاتصاف بالصدق، ولا يلزم من هذا محذور مدخلية الصدق الأخروي في الجزاء، ولا يحتاج إلى جعل الصدق الأخروي شرطاً في نفع الصدق الدنيوي والمجازاة عليه، ولعل فيما تقدم غنى عن هذا كما لا يخفى على الناظر، وقيل: المراد من الصادقين النبيون ومن صدقهم صدقهم في الدنيا بالتبليغ ويكون مساق الآية للشهادة بصدقه عليه السلام في قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ} [المائدة: 117] وأنت تعلم أن هذا الغرض حاصل على تقدير التعميم وزيادة. وقيل: المراد من الصدق الصدق في الدنيا إلا أن المراد من الصادقين الأمم، والكلام مسوق لرد عرض عيسى عليه السلام المغفرة عليه سبحانه وتعالى كأنه قيل: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لا غير فلا مغفرة لهؤلاء، ولا يخفى أن التعميم لا ينافي كون الكلام مسوقاً لما ذكر على تقدير تسليم ذلك. واسم الإشارة مبتدأ و{يَوْمٍ} بالرفع وهي قراءة الجمهور خبره. وقرأ نافع وحده {يَوْمٍ} بالنصب على أنه ظرف لقال و{هذا} مبتدأ خبره محذوف أي كلام عيسى عليه السلام أو حق أو نحو ذلك أو ظرف مستقر وقع خبراً؛ والمعنى هذا الذي مر من جواب عيسى عليه السلام أو السؤال والجواب واقع يوم ينفع، وجوز أن يكون {هذا} مفعولاً به للقول لأنه بمعنى الكلام والقصص أو مفعولاً مطلقاً لأنه بمعنى القول، وقيل: إن {هذا} مبتدأ و{يَوْمٍ} خبره وهو مبني على الفتح بناءً على أن الظرف يبنى عليه إذا أضيف إلى جملة فعلية وإن كانت معربة وهو مذهب الكوفيين واختاره ابن مالك وغيره، والبصريون لا يجيزون البناء إلا إذا صدرت الجملة المضاف إليها بفعل ماض كقوله : على حين عاتبت المشيب على الصبا *** وألحقوا بذلك الفعل المنفي، ويخرجون هذه القراءة على أحد الأوجه السابقة. وقرأ الأعمش {يَوْمٍ} بالرفع والتنوين على أنه خبر {هذا} والجملة بعده صفته بحذف العائد، وقرأ {صِدْقُهُمْ} بالنصب على أن يكون فاعل {ينفَعُ} ضمير الله تعالى، و{صِدْقُهُمْ} كما قال أبو البقاء إما مفعول له أي لصدقهم أو منصوب بنزع الخافض أي بصدقهم أو مصدر مؤكد أو مفعول به على معنى يصدقون الصدق كقولك: صدقته القتال، والمراد يحققون الصدق {لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا أَبَداً} تفسير للنفع ولذا لم يعطف عليه كأنه قيل: ما لهم من النفع؟ فقيل: لهم نعيم دائم وثواب خالد، وقوله سبحانه: {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} بيان لكونه تعالى أفاض عليهم غير ما ذكر وهو رضوانه عز وجل الذي لا غاية وراءه كما ينبىء عن ذلك قوله سبحانه: {وَرَضُواْ عَنْهُ} إذ لا شيء أعز منه حتى تمد إليه أعناق الآمال {ذلك} إشارة إلى نيل رضوانه جل شأنه كما اختاره بعض المحققين أو إلى جميع ما تقدم كما اختاره في «البحر» وإليه يشير ما روي عن الحسن {الفوز العظيم} الذي لا يحيط به نطاق الوصف ولا يوقف على مطلب يدانيه أصلاً.
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)} {للَّهِ مُلْكُ السموات والارض *وَمَا فِيهِنَّ} تحقيق للحق وتنبيه بما فيه من تقديم الظرف المفيد للحصر على كذب النصارى وفساد ما زعموه في حق المسيح وأمه عليهما السلام. وقيل: استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل: من يملك ذلك ليعطيهم إياه؟ فقيل: {للَّهِ مُلْكُ السموات} الخ فهو المالك والقادر على الإعطاء ولا يخفى بعده وفي إيثار {مَا} على من المختصة بالعقلاء على تقدير تناولها للكل مراعاة كما قيل للأصل وإشارة إلى تساوي الفريقين في استحالته الربوبية حسب تساويهما في تحقق المربوبية. وعلى تقدير اختصاصها بغير العقلاء كما يشير إليه خبر ابن الزبعرى رضي الله تعالى عنه تنبيه على كمال قصورهم من رتبة الألوهية، وفي تغليب غير العقلاء على العقلاء على خلاف المعروف ما لا يخفى من حط قدرهم. {وَهُوَ على كُلّ شَىْء} من الأشياء {قَدِيرٌ} أي مبالغ في القدرة. وفسرها الغزالي بالمعنى الذي به يوجد الشيء متقدراً بتقدير الإرادة والعلم واقعاً على وفقهما، وفسر الموصوف بها على الإطلاق بأنه الذي يخترع كل موجود اختراعاً ينفرد به ويستغني به عن معاونة غيره وليس ذاك إلا الله تعالى الواحد القهار. والظرف متعلق بقدير والتقديم لمراعاة الفاصلة، ولا يخفى ما في ذكر كبرياء الله تعالى وعزته وقهره وعلوه في آخر هذه السورة من حسن الاختتام، وأخرج أبو عبيد عن أبي الزاهرية أن عثمان رضي الله تعالى عنه كتب في آخر المائدة (ولله ملك السموات والأرض والله سميع بصير). ومن باب الإشارة في الآيات: {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام} هي عندهم حضرة الجمع المحرمة على الأغيار، وقيل: قلب المؤمن، وقيل: الكعبة المخصوصة لا باعتبار أنها جدران أربعة وسقف بل باعتبار أنها مظهر جلال الله تعالى. وقد ذكروا أنه سبحانه يتجلى منها لعيون العارفين كما يشير إليه قوله عز شأنه على ما في التوراة «جاء الله تعالى من سينا فاستعلن بساعير وظهر من فاران» {قِيَاماً لّلنَّاسِ} من موتهم الحقيقي لما يحصل لهم بواسطة ذلك {والشهر الحرام} وهو زمن الوصول أو مراعاة القلب أو الفوز بذلك التجلي الذي يحرم فيه ظهور صفات النفس أو الالتفات إلى مقتضيات القوى الطبيعية أو نحو ذلك {والهدى} وهي النفس المذبوحة بفناء حضرة الجمع أو الواردات الإلهية التي ترد القلب أو ما يحصل للعبد من المنن عند ذلك التجلي {والقلائد} وهي النفس الشريفة المنقادة أو هي نوع مما يحصل للعبد من قبل مولاه يقوده قسراً إلى ترك السوي {ذلك لِتَعْلَمُواْ} بما يحصل لكم {أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض وَأَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} [المائدة: 97] أي يعلم حقائق الأشياء في عالمي الغيب والشهادة وعلمه محيط بكل شيء {قُل لاَّ يَسْتَوِى الخبيث} [المائدة: 100] من النفوس والأعمال والأخلاق والأموال {والطيب} من ذلك {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} بسبب ملاءمته للنفس فإن الأول موجب للقربة دون الثاني {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ} الإيمان البرهاني {لاَ تَسْأَلُواْ} من أرباب الإيمان العياني {عَنْ أَشْيَاء} غيبية وحقائق لا تعلم إلا بالكشف {إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} تهلككم لقصوركم عن معرفتها فيكون ذلك سبباً لإنكاركم والله سبحانه غيور وإنه ليغضب لأوليائه كما يغضب الليث للحرب. وفي هذا كما قيل تحذير لأهل البداية عن كثرة سؤالهم من الكاملين عن أسرار الغيب وإرشاد لهم إلى الصحبة مع التسليم {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ} الجامع للظاهر والباطن المتضمن لما سئلتم عنه {تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101] بواسطته {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ} وهي النفس التي شقت أذنها لسماع المخالفات {وَلاَ سَآئِبَةٍ} وهي النفس المطلقة العنان السارحة في رياض الشهوات {وَلاَ وَصِيلَةٍ} وهي النفس التي وصلت حبال آمالها بعضاً ببعض فسوفت التوبة والاستعداد للآخرة {وَلاَ حَامٍ} [المائدة: 103] وهو من اشتغل حيناً بالطاعة ولم يفتح له باب الوصول فوسوس إليه الشيطان، وقال: يكفيك ما فعلت وليس وراء ما أنت فيه شيء فارح نفسك فحمى نفسه عن تحمل مشاق المجاهدات. ونقل النيسابوري عن الشيخ نجم الدين المعروف بداية أن البحيرة إشارة إلى الحيدرية والقنلدرية يثقبون آذانهم ويجعلون فيها حلق الحديد ويتركون الشريعة، والسائبة إشارة إلى الذين يضربون في الأرض خالعين العذار بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة ويدعون أنهم أهل الحقيقة، والوصيلة إشارة إلى أهل الإباحة الذين يتصلون بالأجانب بطريق المؤاخاة والاتحاد ويرفضون صحبة الأقارب لأجل العصبية والعناد، والحام إشارة إلى المغرور بالله عز وجل يظن أنه بلغ مقام الحقيقة فلا يضره مخالفة الشريعة، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله} من الأحكام {وَإِلَى الرسول} لمتابعته {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا} من الأفعال التي عاشوا بها وماتوا عليها {أَوْ لَّوْ كَانَ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ} من الشريعة والطريقة {وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104] إلى الحقيقة. {يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فاشتغلوا بتزكيتها {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ} عما أنتم فيه فأنكر عليكم {إِذَا اهتديتم} [المائدة: 105] وزكيتم أنفسكم، وإنما ضرر ذلك على نفسه. وقوله تعالى: {تَعْمَلُونَ يِأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ شهادة بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] الآيتين لم يظهر للعبد فيه شيء يصلح للتحرير، وقد ذكر النيسابوري في تطبيقه على ما في الأنفس ما رأيت الترك له أنفس {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} وهو يوم القيامة الكبرى {فَيَقُولُ} لهم {مَاذَا أَجَبْتُمُ} حين دعوتم الخلق {قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا} بذلك {إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب} [المائدة: 109] فتعلم جواب ما سئلنا، وهذا على ما قيل عند تراكم سطوات الجلال وظهور رداء الكبرياء وإزار العظمة ولهذا بهتوا وتاهوا وتحيروا وتلاشوا ولله سبحانه تجليات على أهل قربه وذوي حبه فيفنيهم تارة بالجلال ويبقيهم ساعة بالجمال ويخاطبهم مرة باللطف ويعاملهم أخرى بالقهر وكل ما فعل المحبوب محبوب. وقال بعض أهل التأويل: يجمع الله تعالى الرسل في عين الجمع المطلق أو عين جمع الذات فيسألهم هل اطلعتم على مراتب الخلق في كمالاتهم حين دعوتموهم إليّ؟ فينفوا العلم عن أنفسهم ويثبتوه لله تعالى لاقتضاء مقام الفناء ذلك {إِذْ قَالَ الله ياعيسى عِيسَى ابن مَرْيَمَ *اذكر} للأحباب والمريدين {نِعْمَتِى عَلَيْكَ وعلى والدتك} لتزداد رغبتهم في واشكر ذلك لأزيدك مما عندي فخزائني مملوءة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس} وهو الروح الذي أشرق من صبح الأزل وهي روحه الطاهرة، وقيل: المراد أيدتك بجبرائيل حيث عرفك رسوم العبودية {تُكَلّمُ الناس فِى المهد} أي مهد البدن أو المهد المعلوم والمعنى نطقت لهم صغيراً بتنزيه الله تعالى وإقرارك له بالعبودية {وَكَهْلاً} أي في حال كبرك، والمراد أنك لم يختلف حالك صغراً وكبراً بل استمر تنزيهك لربك ولم ترجع القهقرى {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب} وهو كتاب الحقائق والمعارف {والحكمة} وهي حكمة السلوك في الله عز وجل بتحصيل الأخلاق والأحوال والمقامات والتجريد والتفريد {والتوراة} أي العلوم الظاهرة والأحكام المتعلقة بالأفعال وأحوال النفس وصفاتها {والإنجيل} العلوم الباطنة ومنها علم تجليات الصفات والأحكام المتعلقة بأحوال القلب وصفاته {وَإِذْ تَخْلُقُ} بالتربية أو بالتصوير {مِنَ الطين} وهو الاستعداد المحض أو الطين المعلوم {كَهَيْئَةِ الطير} أي كصورة طير القلب الطائر إلى حضرة القدس أو الطير المشهور {فَتَنفُخُ فِيهَا} من الروح الظاهرة فيك {فَيَكُونُ طَيْرًا} نفساً مجردة طائرة بجناح الصفاء والعشق أو طيراً حقيقة {بِإِذْنِى} حيث صرت مظهراً لي {وَتُبْرِىء الاكمه} أي المحجوب عن نور الحق {والابرص} أي الذي أفسد قلبه حب الدنيا وغلبة الهوى {بِإِذْنِى وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى} بداء الجهل من قبور الطبيعة {بِإِذْنِى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إسراءيل} وهي القوى النفسانية أو المحجوبين عن نور تجليات الصفات {عَنكَ} فلم ينقصك كيدهم شيئاً {إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات} [المائدة: 110] وهي الحجج الواضحة أو القوى الروحانية الغالبة {وَإِذْ أَوْحَيْتُ} بطريق الإلهام {إِلَى الحواريين} وهم الذين طهروا نفوسهم بماء العلم النافع ونقوا ثياب قلوبهم عن لوث الطبائع {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى} إيماناً حقيقياً بتوحيد الصفات {وَبِرَسُولِى} [المائدة: 111] برعاية حقوق تجلياتها على التفصيل. وذكر بعض السادة أن الوحي يكون خاصاً ويكون عاماً فالخاص ما كان بغير واسطة والعام ما كان بالواسطة من نحو الملك والروح والقلب والعقل والسر وحركة الفطرة وللأولياء نصيب من هذا النوع. ولوحي الخاص مراتب وحي الفعل ووحي الذات. فوحي الذات يكون في مقام التوحيد عند رؤية العظمة والكبرياء، ووحي الفعل يكون في مقام العشق والمحبة وهناك منازل الأنس والانبساط {إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى عِيسَى ابن مَرْيَمَ *هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} أي المربي لك والمفيض عليك ما كملك {أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً} أي شريعة مشتملة على أنواع العلوم والحكم والمعارف والأحكام {مّنَ السماء} أي من جهة سماء الأرواح {قَالَ اتقوا الله} أي اجعلوه سبحانه وقاية لكم فيما يصدر عنكم من الأفعال والأخلاق {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 112] ولا تسألوا شريعة مجددة {قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا} بأن نعمل بها {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} فإن العلم غداء {وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} في الإخبار عن ربك وعن نفسك {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين} [المائدة: 113] فنعلم بها الغائبين وندعوهم إليها {قَالَ الله إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ} بهامنكم ويحتجب عن ذلك الدين {بَعْدَ} أي بعد الإنزال {فَإِنّى أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذّبُهُ أَحَداً مّنَ العالمين} [المائدة: 511] وذلك بالحجاب عني لوجود الاستعداد ووضوح الطريق وسطوع الحجة والعذاب مع العلم أشد من العذاب مع الجهل. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى عِيسَى ابن مَرْيَمَ *قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى} الخ كلام الشيخ الأكبر قدس سره وكلام الشيخ عبد الكريم الجيلي فيه شهير منتشر على ألسنة المخلصين والمنكرين فيما بيننا. والله تعالى أعلم بمراده نسأل الله تعالى أن ينزل علينا موائد كرمه ولا يقطع عنا عوائد نعمه ويلطف بنا في كل مبدأ وختام بحرمة نبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام.
|