الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***
{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)} يَحْلِفُونَ لَكُمْ} بدل مما سبق، والمحلوف عليه محذوف لظهوره كما تقدم أي يحلفون به تعالى على ما اعتذروا {لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} بحلفهم وتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم {فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} حسبما طلبوا {فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين} أي فرضاكم لا ينتج لهم نفعا لأن الله تعالى ساخط عليهم ولا أثر لرضا أحد من سخطه تعالى، وجوز بعضهم كون الرضا كناية عن التلبيس أي أن أمكنهم أن يلبسوا عليكم بالأيمان الكاذبة حتى يرضوكم لا يمكنهم أن يلبسوا على الله تعالى بذلك حتى يرضى عنهم فلا يهتك أستارهم ولا يهينهم وهو خلاف الظاهر، ووضع الفاسقين موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالخروج عن الطاعة المستوجبة لما حل بهم، والمراد من الآية نهى المخاطبين عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم الكاذبة على أبلغ وجه وآكده فإن الرضا عمن لا يرضى عنه الله تعالى مما لا يكاد يصدر عن المؤمن، والآية نزلت على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في جد بن قيس. ومعتب بن قشير. وأصحابهما من المنافقين وكانوا ثمانين رجلاً أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين لما رجعوا إلى المدينة أن لا يجالسوهم ولا يكلموهم فامتثلوا، وعن مقاتل أنها نزلت في عبد الله بن أبي حلف للنبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتخلف عنه أبداً وطلب أن يرضى فلم يفعل صلى الله عليه وسلم.
{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)} {الاعراب} هي صيغة جمع وليست بجمع للعرب على ما روي عن سيبويه لئلا يلزم كون الجمع أخص من الواحد، فإن العرب هذا الجيل المعروف مطلقاً والإعراب ساكن البادية منهم، ولذا نسب إلى الأعراب على لفظه فقيل أعرابي، وقيل: العرب سكان المدن والقرى والأعراب سكان البادية من هذا الجيل أو مواليهم فهما متباينان، ويفرق بين الجمع والواحد بالياء فيهما فيقال للواحد عربي وأعرابي وللجماعة عرب وأعراب وكذا أعاريب وذلك كما يقال الواحد: مجوسي ويهودي ثم تحذف الياء في الجمع فيقال المجوس واليهود، أي أصحاب البدو {أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} من أهل الحضر الكفار والمنافقين لتوحشهم وقساوة قلوبهم وعدم مخالطتهم أهل الحكمة وحرمانهم استماع الكتاب والسنة وهم أشبه شيء بالبهائم، وفي الحديث عن الحسن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتي السلطان افتتن " وجاء «ثلاثة من الكبائر» وعد منها التعرب بعد الهجرة وهو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجراً، وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد، وكان ذلك لغلبة الشر في أهل البادية والطبع سراق أو للبعد عن مجالس العلم وأهل الخير وإنه ليفضي إلى شر كثير، والحكم على الأعراب بما ذكر من باب وصف الجنس بوصف بعض أفراده كما في قوله تعالى: {وَكَانَ الإنسان كَفُورًا} [الإسراء: 67] إذ ليس كلهم كما ذكر، ويدل عليه قوله تعالى الآتي: {وَمِنَ الاعراب مَن يُؤْمِنُ} [التوبة: 99] الخ، وكان ابن سيرين كما أخرج أبو الشيخ عنه يقول: إذا تلا أحدكم هذه الآية فليتل الآية الأخرى يعنى بها ما أشرنا إليه، والآية المذكورة كما روي عن الكلبي نزلت في أسد. وعطفان، والعبرة بعموم اللفظ لا لخصوص السبب. {وَأَجْدَرُ} أي أحق وأخلق، وهو على ما قال الطبرسي مأخوذ من جدر الحائط بسكون الدال وهو أصله وأساسه ويتعدى بالباء فقوله تعالى: {أَلاَّ يَعْلَمُواْ} بتقدير بأن لا يعلموا {حُدُودَ مَا أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ} وهي كما أخرج أبو الشيخ عن الضحاك الفرائض وما أمروا به من الجهاد، وأدرج بعضهم السنن في الحدود، والمشهور أنها تخص الفرائض، أو الأوامر والنواهي لقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] و{تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]، ولعل ذلك من باب التغليب ولا بعد فيه فإن الأعراب أجدر أن لا يعلموا كل ذلك لبعدهم عمن يقتبس منه، وقيل: المراد منها بقرينة المقام وعيده تعالى على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم في الجهاد، وقيل: مقادير التكاليف. {والله عَلِيمٌ} يعلم أحوال كل من أهل الوبر والمدر {حَكِيمٌ} بما سيصيب به مسيئهم ومحسنهم من العقاب والثواب.
{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)} وَمِنَ الاعراب} أي من جنسهم الذي نعت بنعت بعض أفراده. وقيل: من الفريق المذكور {مَن يَتَّخِذُ} أي يعد {مَا يُنفِقُ} أي يصرفه في سبيل الله تعالى ويتصدق به كما يقتضيه المقام {مَغْرَمًا} أي غرامة وخسراناً من الغرا بمعنى الهلاك، وقيل: من الغرم وهو نزول نائبة بالمال من غير جناية، وأصله من الملازمة ومنه قيل لكل من المتداينين غريم، وإنما أعدوه كذلك لأنهم لا ينفقونه احتساباً ورجاء لثواب الله تعالى ليكون لهم مغنما وإنما ينفقونه تقية ورئاء الناس فيكون غرامة محضة، وما في صيغة الاتخاذ من معنى الاختيار والانتفاع بما يتخذ إنما هو باعتبار غرض المنفق من الرياء والتقية لا باعتبار ذات النفقة أعني كونها غرامة {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر} أي ينتظر بكم نوب الدهر ومصائبه التي تحيط بالمرء لينقلب بها أمركم ويتبدل بها حالكم فيتخلص مما ابتلي به {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء} دعاء عليهم بنحو ما يتربصون به، وهو اعتراض بين كلامين كما في قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} [المائدة: 64] الخ، وجوز أن تكون الجملة اخباراً عن وقوع ما يتربصون به عليهم، والدائرة اسم للنائبة وهي في الأصل مصدر كالعافية والكاذبة أو اسم فاعل من دار يدور وقدم تمام الكلام عليها، و{السوء} في الأصل مصدر أيضاً ثم أطلق على كل ضرر وشر وقد كان وصفاً للدائرة ثم أضيفت إليه فالإضافة من باب إضافة الموصوف إلى صفته كما في قولك: رجل صدق وفيه من المبالغة ما فيه، وعلى ذلك قوله تعالى: {مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْء} [مريم: 28] وقيل: معنى الدائرة يقتضي معنى السوء فالإضافة للبيان والتأكيد كما قالوا: شمس النهار ولحيا رأسه. وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو {السوء} هنا وفي ثانية الفتح بالضم وهو حينئذ اسم بمعنى العذاب وليس بمصدر كالمفتوح وبذلك فورق الفراء بينهما: وقال أبو البقاء: السوء بالضم الضرر وهو مصدر في الحقيقة يقال: سؤته سوءا ومساءة ومسائية وبالفتح الفساد والرداءة، وكأنه يقول بمصدرية كل منهما في الحقيقة كما فهمه الشهاب من كلامه، وقال مكي: المفتوح معناه الفساد والمضمون معناه الهزيمة والضرر وظاهره كما قيل إنهما اسمان {والله سَمِيعٌ} بمقالاتهم الشنيعة عند الانفاق {عَلِيمٌ} بنياتهم الفاسدة التي من جملتها أن يتربصوا بكم الدوائر، وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى.
{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)} وَمِنَ الاعراب} أي من جنسهم على الإطلاق {مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الاخر} على الوجه المأمور به {وَيَتَّخِذُ} على وجه الاصطفاء والاختيار {مَا يُنفِقُ} في سبيل الله تعالى {قربات} جميع قربة بمعنى التقرب، وهو مفعول ثان ليتخذ، والمراد اتخاذ ذلك سبباً للتقرب على التجوز في النسبة أو التقدير، وقد تطلق القربة على ما يتقرب به والأول اختيار الجمهور، والجمع باعتبار الأنواع والأفراد، وقوله سبحانه: {عَندَ الله} صفة {قربات} أو ظرف ليتخذ. وجوز أبو البقاء كونه ظرفا لفربات على معنى مقربات عند الله تعالى، وقوله تعالى: {وصلوات الرسول} عطف على {قربات} أي وسبباً لدعائه عليه الصلاة والسلام فإنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم، ولذلك يسن للمتصدق عليه أن يدعو للمتصدق عند أخذ صدقته لكن ليس له أن يصلى عليه، فقد قالوا: لا يصلي على غير الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام إلا بالتبع لأن في الصلاة من التعظيم ما ليس في غيرها من الدعوات وهي لزيادة الرحمة والقرب من الله تعالى فلا تليق بمن يتصور منه الخطايا والذنوب ولاقت عليه تبعاً لما في ذلك من تعظيم المتبوع، واختلف هل هي مكروهة تحريماً أو تنزيهاً أو خلافاً الأولى؟ صحح النووي في الأذكار الثاني، لكن في خطبة شرح الاشباه للبيري من صلى على غيرهم أثم وكره وهو الصحيح. وما رواه الستة غير التمرذي من قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم صل على لـ أبي أوفي " لا يقوم حجة على المانع لأن ذلك كما في المستصفى حقه عليه الصلاة والسلام فله أن يتفضل به على من يشاء ابتداءاً وليس الغير كذلك. وأما السلام فنقل اللقاني في «شرح جوهرة التوحيد» عن الإمام الجويني أنه في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب، ولا يفرد به غير الأنبياء والملائكة عليهم السلام فلا يقال: عليّ عليه السلام بل يقال: رضي الله تعالى عنه، وسواء في هذا الأحياء والأموات إلا في الحاضر فيقال: السلام أو سلام عليك أو عليكم، وهذا مجمع عليه انتهى، أقول: ولعل من الحاضر {السلام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادَ الله الصالحين} و{سلام عَلَيْكُمُ دَارَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} وإلا فهو مشكل، والظاهر أن العلة في منع السلام ما قاله النووي في علة منع الصلاة من أن ذلك شعار أهل البدع وأنه مخصوص في لسان السلف بالأنبياء والملائكة عليهم السلام كما أن قولنا: عز وجل مخصوص بالله سبحانه فلا يقال محمد عز وجل وإن كان عزيزاً جليلاً صلى الله عليه وسلم، ثم قال اللقاني: وقال القاضي عياض: الذي ذهب إليه المحققون وأميل إليه ما قاله مالك. وسفيان، واختاره غير واحد من الفقهاء والمتكلمين أنه يجب تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالصلاة والتسليم كما يختص الله سبحانه عند ذكره بالتقديس والتنزيه ويذكر من سواهم بالغفران والرضا كما قال تعالى: {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [المائدة: 119] {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمان} [الحشر: 10] وأيضاً أن ذلك في غير من ذكر لم يكن في الصدر الأول وإنما أحدثه الرافضة في بعض الأئمة والتشبيه بأهل البدع منهى عنه فتجب مخالفتهم انتهى، ولا يخفى أن مذهب الحنابلة جواز ذلك في غير الأنبياء والملائكة عليهم السلام استقلالاً عملا بظاهر الحديث السابق، وكراهة التشبيه بأهل البدع مقررة عندنا أيضاً لكن لا مطلقاً بل في المذموم وفيما قصد به التشبه بهم كما ذكره الحصكفي في الدر المختار فافهم. ثم التعرض لوصف الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر في هذا الفريق مع أن مساق الكلام لبيان الفرق بين الفريقين في بيان شأن اتخاذ ما ينفقانه حالا ومآلا وأن ذكر اتخاذه سبباً للقربات والصلوات مغن عن التصريح بذلك لكمال العناية بإيمانهم وبيان اتصافهم به وزيادة الاعتناء بتحقق الفرق من أول الأمر، وأما الفريق الأول فاتصافهم بالكفر والنفاق معلوم من سياق النظم الكريم صريحاً. وجوز عطف {وصلوات} على {مَا يُنفِقُ} وعليه اقتصر أبو البقاء أي يتخذ ما ينفق وصلوات الرسول عليه الصلاة والسلام قربات {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} شهادة لهم من جناب الله تعالى بصحة ما اعتقدوه وتصديق لرجائهم، والضمير إما للنفقة المعلومة مما تقدم أو لما التي هي بمعناها فهو راجع لذلك باعتبار المعنى فلذا أنث أو لمراعاة الخبر. وجوز ابن الخازن رجوعه للصلوات والأكثرون على الأول، وتنوين {قُرْبَةٌ} للتفخيم المغنى عن الجمع أي قربة لا يكتنه كنهها، وفي إيراد الجملة اسمية بحرفي التنبيه والتحقيق من الجزالة ما لا يخفى. والاقتصار على بيان كونها قربة لهم لأنها الغاية القصوى وصلوات الرسول عليه الصلاة والسلام من ذرائعها وقرىء {قُرْبَةٌ} بضم الراء للاتباع {سَيُدْخِلُهُمُ الله فِى رَحْمَتِهِ} وعد لهم بإحاطة رحمته سبحانه بهم كما يشعر بذلك {فِى} الدالة على الظرفية وهو في مقابلة الوعيد للفرقة السابقة المشار إليه بقوله تعالى: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 98] وفيه تفسير للقربة أيضاً، والسين للتحقيق والتأكيد لما تقدم أنها في الإثبات في مقابلة لن في النفي، وقوله سبحانه: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تقرير لما تقدم كالدليل عليه، والآية كما أخرج ابن جرير. وابن المنذر. وأبو الشيخ. وغيرهم عن مجاهد نزلت في بني مقرن من مزينة. وقال الكلبي: في أسلم. وغفار. وجهينة وقيل: نزلت التي قبلها في أسد. وغطفان. وبني تميم وهذه في عبد الله ذي البجادين بن نهم المزنى رضي الله تعالى عنه.
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} والسابقون الاولون مِنَ المهاجرين} بيان لفضائل أشراف المسلمين إثر بيان طائفة منهم، والمراد بهم كما روي عن سعيد. وقتادة. وابن سيرين. وجماعة الذين صلوا إلى القبلتين، وقال عطاء بن رباح: هم أهل بدر، وقال الشعبي: هم أهل بيعة الرضوان وكانت بالحديبية، وقيل: هم الذين أسلموا قبل الهجرة {والانصار} أهل بيعة العقبة الأولى وكانت في سنة إحدى عشرة من البعة وكانوا على ما في بعض الروايات سبعة نفر وأهل بيعة العقبة الثانية وكانت في سنة اثنتي عشرة وكانوا سبعين رجلاً وامرأتين. والذين أسلموا حين جاءهم من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو زرارة مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وكان قد أرسله عليه الصلاة والسلام مع أهل العقبة الثانية يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين {والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} أي متلبسين به، والمراد كل خصلة حسنة، وهم اللاحقون بالسابقين من الفريقين على أن {مِنْ} تبعيضة أو الذين أتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة فالمراد بالسابقين جميع المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم، ومعنى كونهم سابقين أنهم أولون بالنسبة إلى سائر المسلمون وكثير من الناس ذهب إلى هذا. روي عن حميد بن زياد أنه قال: قلت: يوماً لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان بينهم من الفتن فقال لي: إن الله تعالى قد غفر لجميعهم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم فقلت له: في أي موضع أوجب لهم الجنة؟ فقال: سبحان الله الا تقرأ قوله تعالى: {والسابقون الاولون} الآية فتعلم أنه تعالى أوجب لجيمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والرضوان وشرط على التابعين شرطاً قلت: وما ذلك الشرط؟ قال: شرط عليهم أن يتبعوهم باحسان وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة ولا يقتدوا بهم في غير ذلك أو يقال: هو أن يتبعوهم بإحسان في القول وان لا يقولوا فيهم سوءاً وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه، قال حميد بن زياد: فكأني ما قرأت هذه الآية قط، وعلى هذا تكون الآية متضمنة من فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما لم تتضمنه على التقدير الأول. واعترض القطب على التفاسير السابقة للسابقين من المهاجرين بأن الصلاة إلى القبلتين وشهود بدر وبيعة الرضوان مشتركة بين المهاجرين والأنصار. وأجيب بأن مراد من فسر تعيين سبقهم لصحبتهم ومهاجرتهم له صلى الله عليه وسلم على من عداهم من ذلك القبيل. واختار الإمام أن المراد بالسابقين من المهاجرين السابقون في الهجرة ومن السابقين من الأنصار السابقون في النصرة وادعى أن ذلك هو الصحيح عنده، واستد عليه بأنه سبحانه ذكر كونهم سابقين ولم يبين أنهم سابقون فيما ذا فبقى اللفظ مجملاً إلا أنه تعالى لما وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً علم أن المراد من السبق السبق في الهجرة والنصرة إزالة للإجمال عن اللفظ، وأيضاً كل واحدة من الهجرة والنصرة لكونه فعلاً شاقاً على النفس طاعة عظيمة فمن أقدم عليه أولاً صار قدوة لغيره في هذه الطاعة وكان ذلك مقوياً لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم وسبباً لزوال الوحشة عن خاطره الشريف عليه الصلاة والسلام فلذلك أثني الله تعالى على كل من كان سابقاً إليهما وأثبت لهم ما أثبت، وكيف لا وهم آمنوا وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وضعف فقوى الإسلام بسببهم وكثر عدد المسلمين بإسلامهم وقوى قلبه صلى الله عليه وسلم بسبب دخولهم في الإسلام واقتداء غيرهم بهم فكان حالهم في ذلك كحال من سن سنه حسنة؛ وفي الخبر «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» ولا يخفى أنه حسن. ويجوز عندي أن يراد بالسابقين الذين سبقوا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر واتخاذ ما ينفقون قربات والقرينة على ذلك ظاهرة، وأياماً كان فالسابقون مبتدأ خبره قوله تعالى: {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} أي بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} بما نالوه من النعم الجليلة الشأن. وجوز أبو البقاء أن يكون الخبر {الاولون} أو {مِنَ المهاجرين} وأن يكون {السابقون} معطوفاً على {مَن يُؤْمِنُ} [التوبة: 99] أي ومنهم السابقون وما ذكرناه أظهر الوجوه. وعن عمر رضي الله تعالى عنه انه قرأ {والانصار} بالرفع على أنه معطوف على السابقون. وأخرج أبو عبيدة. وابن جرير. وابن المنذر. وغيرهم عن عمرو بن عامر الأنصاري أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يقرأ بأسقاط الواو من {والذين اتبعوهم} فيكون الموصول صفة الأنصار جنى قال له زيد: إنه بالواو فقال ائتوني بأبي بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك فقال: هي بالواو فتابعه. وأخرج أبو الشيخ عن أبي أسامة. ومحمد بن إبراهيم التيمي قالا: مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ {والذين} بالواو فقال: من أقرأك هذه؟ فقال: أبي فأخذ به إليه فقال: يا أبا المنذر أخبرني هذا أنك أقرأته هكذا قال أبي: صدق وقد تلقنتها كذلك من في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: أنت تلقنتها كذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم فأعاد عليه فقال في الثالثة وهو غضبان: نعم والله لقد أنزلها الله على جبريل عليه السلام وأنزلها جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ولم يستأمر فيها الخطاب ولا ابنه فخرج عمر رافعاً يديه وهو يقول الله أكبر الله أكبر. وفي رواية أخرجها أبو اأبي شيخ أيضاً عن محمد بن كعب أن أبياً رضي الله تعالى عنه: تصديق هذه الآية في أول الجمعة {وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ} [الجمعة: 3] وفي أوسط الحشر {والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] وفي آخر الأنفال {والذين ءامَنُواْ مِن بَعْدُ} [الأنفال: 75] الخ، ومراده رضي الله تعالى عنه أن هذه الآيات تدل على أن التابعين غير الأنصار، وفيها أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا وأراد اختصاص السبق بالمهاجرين، وظاهر تقديم المهاجرين على الأنصار مشعر بأنهم أفضل منهم وهو الذي يدل عليه قصة السقيفة، وقد جاء في فضل الأنصار ما لا يحصى من الأخبار. ومن ذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار ". وأخرج الطبراني عن السائب بن يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم الفيء الذي أفاء الله تعالى بحنين في أهل مكة من قريش وغيرهم فغضب الأنصار فأتاهم فقال: «يا معشر الأنصار قد بلغني من حديثكم في هذه المغانم التي آثرت بها أناساً أتألفهم على الإسلام لعلهم أن يشهدوا بعد اليوم وقد أدخل الله تعالى قلوبهم الإسلام ثم قال: يا معشر الإسلام ألم يمن الله تعالى عليكم بالإيمان وخصكم بالكرامة وسماكم بأحسن الأسماء أنصار الله تعالى وأنصار روسله عليه الصلاة والسلام ولولا الهجرة لكنت أمرءاً من الأنصار ولو سلك الناس وادياً وسلكتم وادياً لسلكت واديكم أفلا ترضون أن يذهب الناس بهذه الغنائم البعير والشاء وتذهبون برسول الله؟ فقالوا: رضينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أجيبوني فيما قلت. قالوا: يا رسول الله وجدتنا في ظلمة فأخرجنا الله بك إلى النور، وجدتنا على شفا حفرة من النار فانقذنا الله بك، وجدتنا ضلالاً فهدانا الله تعالى بك فرضينا بالله تعالى ربا وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، فقال عليه الصلاة والسلام: لو اجببتموني بغير هذا القول لقلت: صدقتم لو قلتم ألم تأتنا طريدا فآويناك؟ ومكذبا فصدقناك؟ ومخذولا فنصرناك وقبلنا ما رد الناس عليك لصدقتم، قالوا: بل لله تعالى ولرسوله المن والفضل علينا وعلى غيرنا " فانظر كيف قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف أجابوه رضي الله تعالى عنهم {وَأَعَدَّ لَهُمْ جنات تَجْرِي تَحْتَهَا الانهار} أي هيأ لهم ذلك في الآخرة. وقرأ ابن كثير {مِن تَحْتِهَا} وأكثر ما جاء في القرآن موافق لهذه القراءة {خالدين فِيهَا أَبَداً} من غير انتهاء {ذلك الفوز العظيم} أي الذي لا فوز وراءه، وما في ذلك من معنى البعد قيل لبيان بعد منزلتهم في الفضل وعظم الدرجة من مؤمني الأعراب، ولا يخفى أن هذا لا يكاد يصح إلا بتكلف ما إذا أريد من الذين اتبعوهم صنف آخر غير الصحابة لأن الظاهر أن مؤمني الأعراب صحابة ولا يفضل غير صحابي صحابياً كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " وقوله صلى الله عليه وسلم: " أمتى كالمطر لا يدري أوله خير أم آخره " من باب المبالغة.
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)} وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الاعراب} شروع في بيان منافقي أهل المدينة ومن حولها من الأعراب بعد بيان حال أهل البادية منهم أي وممن حول بلدكم {منافقون} والمراد بالموصول كما أخرج ابن المنذر عن عكرمة: جهينة. ومزينة. وأشجع. وأسلم. وغفار؛ وكانت منازلهم حول المدينة، وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين كالبغوي. والواحدي. وابن الجوزي. وغيرهم. واستشكل ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم مدح هذه القبائل ودعا لبعضها. فقد أخرج الشيخان. وغيرهما عن أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «قريش. والأنصار. وجهينة. ومزينة. واشجع. وأسلم. وغفار موالي الله تعالى ورسوله لا موالي لهم غيره»، وجاء عنه أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اسلم سالمها الله تعالى وغفار غفر الله لها أما إني لم أقلها لكن قالها الله تعالى» وأجيب بأن ذلك باعتبار الأغلب منهم {وَمِنْ أَهْلِ المدينة} عطف على {مِمَّنْ حَوْلَكُم} فيكون كالمعطوف عليه خبراً عن المنافقون كأنه قيل: المنافقون من قوم حولكم ومن أهل المدينة، وهو من عطف مفرد على مفلد ويكون قوله سبحانه: {مَرَدُواْ عَلَى النفاق} جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مسوقة لبيان غلوهم في النفاق إثر بيان اتصافهم به أو صفة لمنافقون، واستبعده أبو حيان بأن فيه الفصل بين الصفة وموصوفها، وجوز أن يكون {مّنْ أَهْلِ المدينة} خبر مقدم والمبتدأ بعده محذوف قامت صفته مقامه والتقدير ومن أهل المدينة قوم مردوا، وحذف الموصوف وإقامة صفته مقامه إذا كان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه مقيس شائع نحو منا أقام ومنا ظعن، وفي غير ذلك ضرورة أو نادر، ومنه قول سحيم: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا *** متى أضع العمامة تعرفوني على أحد التأويلات فيه، وأصل المرود على ما ذكره علي بن عيسى الملاسة ومنه صرح ممرد، والأمرد الذي لا شعر على وجهه، والمرداء الرملة التي لا تنبت شيئاً، وقال ابن عرفة: أصله الظهور ومنه قولهم: شجرة مرداء إذا تساقط ورقها وأظهرت عيدانها، وفي القاموس مرد كنصر وكرم مرودا ومرودة ومرادة فهو ما رد ومريد ومتمرد أقدم وعتا أو هو أن يبلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف، وفسروه بالاعتياد والتدرب في الأمر حتى يصير ما هرا فيه وهو قريب مما ذكره في القاموس من بلوغ الغاية، ولا يكاد يستعمل إلا في الشر. وهو على الوجهين الأولين شامل للفريقين حسب شمول النفاق وعلى الوجه الأخير خاص بمنافقي أهل المدينة واستظهر ذلك، وقيل: إنه الأنسب بذكر منافقي أهل البادية أولا ثم ذكر منافقي الاعراب المجاورين ثم ذكر منافقي أهل المدينة ويبقى على هذا أنه لم يبين مرتبة المجاورين في النفاق بخلافه على تقدير شموله للفريقين؛ ثم لا يخفى أن التمرد على النفاق إذا اقتضى الأشدية فيه أشكل عليه تفسيرهم المفضل في قوله سبحانه: {الاعراب أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة: 97] بأهل الحضر، ولعل المراد تفضيل المجموع على المجموع أو يلتزم عدم الاقتضاء. وقوله تعالى: {لاَ تَعْلَمُهُمْ} بيان لتمردهم أي لا تعرفهم أنت بعنوان نفاقهم يعني أنهم بلغوا من المهارة في النفاق والتنوق في مراعاة التقية والتحامي عن مواقع التهم إلى حيث يخفى عليك مع كمال فطنتك وصدق فراستك حالهم، وفي تعليق نفي العلم بهم مع أنه متعلق بحالهم مبالغة في ذلك وإيماء إلى أن ما هم عليه من صفة النفاق لعراقتهم ورسوخهم فيها صارت بمنزلة ذاتياتهم أو مشخصاتهم بحيث لا يعد من لا يعرفهم بتلك الصفة عالماً بهم، ولا حاجة في هذا المعنى إلى حمل العلم على المتعدي لمفولين وتقدير المفعول الثاني أي لا تعلمهم منافقين، وقيل: المراد لا تعرفهم بأعيانهم وإن عرفتهم إجمالاً، وما ذكرناه لما فيه من المبالغة ما فيه أولى وحاصله لا تعرف نفاقهم {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} أي نعرفهم بذلك العنوان وإسناد العلم بمعنى المعرفة إليه تعالى مما لا ينبغي أن يتوقف فيه وإن وهم فيه من وهم لا سيما إذا خرج ذلك مخرج المشاكلة، وقد فسر العلم هنا بالمعرفة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه عند أبو الشيخ. نعم لا يمتنع حمله على معناه المتبادر كما لا يمتنع حمله على ذلك فيما تقدم لكنه محوج إلى التقدير وعدم التقدير أولى من التقدير. والجملة تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق أي لا يقف على سرائرهم المركوز فيهم إلا من لا تخفى عليه خافية لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطال الكفر وإظهار الإخلاص، وأمر تعليق العلم هنا كؤمر تعليق نفيه فيما مر. واستدل بالآية على أنه لا ينبغي الإقدام على دعوى الأمور الخفية من أعمال القلب ونحوها. وقد أخرج عبد الرزاق. وابن المنذر وغيرهما عن قتادة أنه قال: ما بال أقوام يتكلفون على الناس يقولون. فلان في الجنة وفلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ولقد تكلفت شيئاً ما تكلفه نبي قال نوع عليه السلام و{مَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الشعراء: 112] وقال شعيب عليه السلام: {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 86] وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} وهذه الآيات ونحوها أقوى دليل في الرد على من يزعم الكشف والاطلاع على المغيبات بمجرد صفاء القلب وتجرد النفس عن الشواغل وبعضهم يتساهلون في هذا الباب جدا {سَنُعَذّبُهُم} ولا بد لتحقيق المقتضى فيهم عادة {مَّرَّتَيْنِ} أخرج ابن أبي حاتم. والطبراني في الأوسط. وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة خطيباً فقال قم يا فلان فأخرج فإنك منافق أخرج يا فلان فإنك منافق فأخرجهم بأسمائهم ففضحهم ولم يك عمر بن الخطاب شهد تلك الجمعة لحاجة كانت له فلقيهم وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم استحياء أنه لم يشهد الجمعة وظن أن الناس قد انصرفوا واختبأوا هم منه وظنوا أنه قد علم بأمرهم فدخل المسجد فإذا الناس لم ينصرفوا فقال له رجل: أبشر يا عمر فقد فضح الله تعالى المنافقين اليوم فهذا العذاب الأول والعذاب الثاني عذاب القبر». وفي رواية ابن مردويه عن ابن مسعود الأنصاري أنه صلى الله عليه وسلم أقام في ذلك اليوم وهو على المنبر ستة وثلاثين رجلاً. وأخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه فسر العذاب مرتين بالجوع والقتل، ولعل المراد به خوفه وتوقعه، وقيل: هو فرضى إذا أظهروا النفاق وفي رواية أخرى عنه أنهم عذبوا بالجوع مرتين، وعن الحسن أن العذاب الأول أحذ الزكاة والثاني عذاب القبر. وعن ابن إسحق أن الأول غيظهم من أهل الإسلام والثاني عذاب القبر، ولعل تكرير عذابهم لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه. وجوز أن يراد بالمرتين التكثير كما في قوله تعالى: {فارجع البصر كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] لقوله سبحانه: {أَوْ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126] {ثُمَّ يُرَدُّونَ} يوم القيامة الكبرى {إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} هو عذاب النار، وتغيير الأسلوب على ما قيل بإسناد عذابهم السابق إلى نون العظمة حسب أسناد ما قبله من العلم وإسناد ردهم إلى العذاب اللاحق إلى أنفسهم إيذان باختلافهما حالاً وإن الأول خاص بهم وقوعاً وزماناً يتولاه الله سبحانه وتعالى؛ والثاني شامل لعامة الكفرة وقوعاً وزماناً وإن اختلفت طبقات عذابهم، ولا يخفى أنه إذا فسر العذاب العظيم بعذاب الدرك الأسفل من النار لم يكن شاملاً لعامة الكفرة نعم هو شامل لعامة المنافقين فقط، وقد يقال: إن في بناء {يُرَدُّونَ} لما لم يسم فاعله من التعظيم ما فيه فيناسب العذاب العظيم فلذا غير السبك إليه والله تعالى أعلم.
{وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)} وَءاخَرُونَ} بيان لحال طائفة من المسلمين ضعيفة الهمم في أمر الدين ولم يكونوا منافقين على الصحيح. وقيل: هم طائفة من المنافقين إلا أنهم وفقوا للتوبة فتاب الله عليهم. قيل: وهو مبتدأ خبره جملة {خَلَطُواْ} وهي حال بتقدير قد والخبر جملة {عَسَى الله} الخ، والمحققون على أنه معطوف على {منافقون} [التوبة: 101] أي ومنهم يعني ممن حولكم أو من أهل المدينة قوم آخرون {اعترفوا} أي أقروا عن معرفة {بِذُنُوبِهِمْ} التي هي تخلفهم عن الغزو وإيثار الدعة عليه والرضا بسوء جوار المنافقين ولم يعتذروا بالمعاذير الكاذبة المؤكدة بالإيمان الفاجرة وكانوا على ما أخرج البيهقي في الدلائل. وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عشرة تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فلما حشر رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسوارى المسجد وكان ممر النبي عليه الصلاة والسلام إذا رجع في المسجد عليهم فلما رآهم قال: من هؤلاء الموثقون أنفسهم؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله وقد أقسموا أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أقسم بالله تعالى لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقهم فأنزل الله تعالى الآية فأرسل عليه الصلاة والسلام إليهم فأطلقهم وعذرهم. وفي رواية أخرى عنه أنهم كانوا ثلاثة، وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد أنهم كانوا ثمانية، وروي أنهم كانوا خمسة، والروايات متفقة على أن أبا لبابة بن عبد المنذر منهم {خَلَطُواْ عَمَلاً صالحا} خروجاً إلى الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَءاخَرَ سَيّئاً} تخلفاً عنه عليه الصلاة والسلام روي هذا عن الحسن. والسدى، وعن الكلبي أن الأول التوبة والثاني الاثم، وقيل: العمل الصالح يعم جميع البر والطاعة والسيء ما كان ضده، والخلط المزج وهو يستدعي مخلوطاً ومخلوطاً به والأول هنا هو الأول والثاني هو الثاني عند بعض، والواو بمعنى الباء كما نقل عن سيبويه في قولهم: بعت الشاء شاة ودرهما، وهو منا باب الاستعارة لأن الباء للالصاق والواو وللجمع وهما من واد واحد، ونقل شارح اللبان عن ابن الحاجب إن أصل المثال بعت الشاة بدرهم أي مع درهم ثم كثر ذلك فأبدلوا من باء المصاحبة واواً فوجب أن يعرب ما بعدها بإعراب ما قبلها كما في قولهم: كل رجل وضيعته، ولا يخفى ما فيه من التكلف. وذكر الزمخشري أن كل واحد من المتعاطفين مخلوط ومخلوط به لأن المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر كقولك: خلطت الماء واللبن تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه، وفيه ما ليس في قولك: خلطت الماء باللبن لأنك جعلت الماء مخلوطاً واللبن مخلوطاً به وإذا قلته بالواو وجعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما كأنك قلت خلطت الماء باللبن واللبن بالماء، وحاصله أن المخلوط به في كل واحد من الخلطين هو المخلوط في الآخر لأن الخلط لما اقتضى مخلوطاً به فهو إما الآخر أو غيره والثاني منتف بالأصل والقرينة لدلالة سياق الكلام إذا قيل: خلطت هذا وذاك على أن كلا منهما مخلوط ومخلوط به وهو أبلغ من أن يقال خلطت أحدهما بالآخر إذ فيه خلط واحد وفي الواو خلطان. واعترض بأن خلط أحدهما بالآخر يستلزم خلط الآخر به ففي كل من الواو والباء خلطان فلا فرق، وأجيب بأن الواو تفيد الخلطين صريحاً بخلاف الباء فالفرق متحقق، وفيه تسليم حديث الاستلزام ولا يخفى أن فيه خلطاً حيث لم يفرق فيه بين الخلط والاختلاط، والحق أن اختلاط أحد الشيئين بالآخر مستلزم لاختلاط الآخر به وأما خلط أحدهما بالآخر فلا يستلزم خلط الآخر به لأن خلط الماء باللبن مثلاً معناه أن يقصد الماء أو لا يجعل مخلوطاً باللبن وظاهر أنه لا يستلزم أن يقصد اللبن أولا بل ينافيه، فعلى هذا معنى خلط العمل الصالح بالسيء أنهم أتوا أولاً بالصالح ثم استعقبوه سيئاً ومعنى خلط السيء بالصالح أنهم أتوا أولا بالسيء ثم أردفوه بالصالح، وإلى هذا يشير كلام السكاكي حيث جعل تقدير الآية خلطوا عملاً صالحاً بسيء وآخر سيئاً بصالح أي تارة أطاعوا واحبطوا الطاعة بكبيرة وأخرى عصوا وتداركوا المعصية بالتوبة وهو ظاهر في أن العمل الصالح والسيء في أحد الخلطين غيرهما في الخلط الآخر، وكلام الزمخشري ظاهر في اتحادهما وفيه ما فيه، ولذلك رجح ما ذهب إليه السكاكي لكن ما ذكره من الإحباط ميل إلى مذهب المعتزلة، وادعى بعضهم أن ما في الآية نوع من البديع يسمى الاحتباك والأصل خلطوا عملاً صالحاً بآخر سيء وخلطوا آخر سيئاً بعمل صالح، هو خلاف الظاهر. واستظهر ابن المنير كون الخلط مضمناً معنى العمل والعدول عن الباء لذلك كأنه قيل: عملوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وأنا اختار أن الخلط بمعنى الجمع هنا وإذا اعتبر السياق وسبب النزول يكون المراد من العمل الصالح الاعتراف بالذنوب من التخلف عن الغزو وما معه من السيء تلك الذنوب أنفسها ويكون المقصود بالجمع المتوجه إليه أولاً بالضم هو الاعتراف، والتعبير عن ذلك بالخلط للاشارة إلى وقوع ذلك الاعتراف على الوجه الكامل حتى كأنه تخلل الذنوب وغير صفتها، وإذا لم يعتبر سبب النزول يجوز أن يراد من العمل الصالح الاعتراف بالذنوب مطلقاً ومن السيء الذنوب كذلك وتمام الكلام بحاله، ويجوز أن يراد من العمل الصالح والسيء ما صدر من الأعمال الحسنة والسيئة مطلقاً، ولعل المتوجه إليه أولى على هذا أيضاً ليجمع العمل الصالح إذ بضمه يفتح باب الخير، ففي الخبر «أتبع السيئة بالحسنة تمحها»، وقد حمل بعضهم الحسنة فيه على مطلقها، وأخرج ابن سعد عن الأسود بن قيس قال: لقي الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما يوماً حبيب بن مسلمة فقال: يا حبيب رب مسير لك في غير طاعة الله تعالى فقال: أما مسيري إلى أبيك فليس من ذلك قال: بلى ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائلة فلئن قام بك في دنياك فلقد قعد بك في دينك ولو كنت إذ فعلت شراً فعلت خيراً كان ذلك كما قال الله تعالى: {خَلَطُواْ عَمَلاً صالحا وَءاخَرَ سَيّئاً} ولكنك كما قال الله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] والتعبير بالخلط حينئذ يمكن أن يكون لما في ذلك من التغيير أيضاً، وربما يراد بالخلط مطلق الجمع من غير اعتبار أولية في البين والتعبير بالخلط لعله لمجرد الإيذان بالتخلل فإن الجمع لا يقتضيه، ويشعر بهذا الحمل ما أخرجه أبو الشيخ والبيهقي عن مطرف قال: إني لأستلقي من الليل على فراشي وأتدبر القرآن فأعرض أعمالي على أعمال أهل الجنة فإذا أعمالهم شديدة {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} [الذاريات: 17] {يبيتون لربهم سجداً وقياماً} [الفرقان: 64] {أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً} [الزمر: 9] فلا أراني منهم فأعرض نفسي على هذه الآية {مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين} إلى قوله سبحانه: {نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدين} [المدثر: 42-46] فأرى القوم مكذبين فلا أراني فيهم فأمر بهذه الآية {وَءاخَرُونَ الله بِذُنُوبِهِمْ} الخ وأرجو أن أكون أنا وأنتم يا اخوتاه منهم، وكذا ما أخرجاه وغيرهما عن أبي عثمان النهدي قال: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله سبحانه: {وَءاخَرُونَ} الخ والظاهر أنه لم يفهم منها صدور التوبة من هؤلاء الآخرين بل ثبت لهم الحكم المفهوم من قوله سبحانه: {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} مطلقاً وإلا فهي وكثير من الآيات التي في هذا الباب سواء وأرجى منها عندي قوله تعالى: {قُلْ ياأهل عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} [الزمر: 53] والمشهور أن الآية يفهم منها ذلك لأن التوبة من الله سبحانه بمعنى قبول التوبة وهو يقتضي صدورها عنهم فكأنه قيل: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً فتابوا عسى الخ. وجعل غير واحد الاعتراف دالا على التوبة ولعل ذلك لما بينهما من اللزوم عرفا، وقال الشهاب: لأنه توبة إذا اقترن بالندم والعزم على عدم العود، وفيه أن هذا قول بالعموم والخصوص وقد ذكروا أن العام لا يدل على الخاص بإحدى الدلالات الثلاث، وكلمة {عَسَى} للإطماع وهو من أكرم الأكرمين إيجاب وأي إيجاب، وقوله تعالى: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تعليل لما أفادته من وجوب القبول، وليس هو الوجوب الذي يقول المعتزلة كما لا يخفى أي إنه تعالى كثير المغفرة والرحمة يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه.
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)} خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً} أخرج غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم لما أطلقوا انطلقوا فجاؤا بأموالهم فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا فقال عليه الصلاة والسلام: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً فنزلت الآية فأخذ صلى الله عليه وسلم منها الثلث كما جاء في بعض الروايات، فليس المراد من الصدقة الصدقة المفروضة أعني الزكاة لكونها مأموراً بها وإنما هي على ما قيل كفارة لذنوبهم حسبما ينبىء عنه قوله عز وجل: {تُطَهّرُهُمْ} أي عما تطلخوا به من أوضار التخلف. وعن الجبائي أن المراد بها الزكاة وأمر صلى الله عليه وسلم بأخذها هنا دفعا لتوهم الحاقهم ببعض المنافقين فإنها لم تكن تقبل منه كما علمت وأمر التطهير سهل، وأياماً كان فضمير أموالهم لهؤلاء المعترفين، وقيل: إنه على الثاني راجع لأرباب الأموال مطلقاً، وجمع الأموال للإشارة إلى أن الأخذ من سائر أجناس المال، والجار والمجرور متعلق بخذ ويجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالا من {صَدَقَةٍ} والتاء في {تُطَهّرُهُمْ} للخطاب. وقرىء بالجزم على أنه جواب الأمر والرفع على أن الجملة حال من فاعل {خُذِ} أو صفة لصدقة بتقدير بها لدلالة ما بعده عليه أو مستأنفة كما قال أبو البقاء، وجوز على احتمال الوصفية أن تكون التاء للغيبة وضمير المؤنث للصدقة فلا حاجة بنا إلى بها. وقرىء تطهرهم من أطهره بمعنى طهره {وَتُزَكّيهِمْ بِهَا} بإثبات الياء وهو خبر مبتدأ محذوف والجملة حال من الضمير في الأمر أو في جوابه وقيل استئناف أي وأنت تزكيهم بها أي تنمي بتلك الصدقة حسناتهم وأموالهم أو تبالغ في تطهيرهم، وكون المراد ترفع منازلهم من منازل المنافقين إلى منازل الإبرار المخلصين ظاهر في أن القوم كانوا منافقين والمصحح خلافه، هذا على قراءة الجزم {فِى تُطَهّرُهُمْ} وأما على قراءة الرفع فتزكيهم عطف عليه، وظاهر ما في الكشاف يدل على أن التاء هنا للخطاب لا غير لقوله سبحانه: {بِهَا} والحمل على أن الصدقة تزكيهم بنفسها بعيد عن فصاحة التزيل. وقرأ مسلمة بن محارب {تزكهم} بدون الياء {بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ} أي ادع لهم واستغفر، وعدى الفعل بعلي لما فيه من معنى العطف لأنه من الصلوين، وإرادة المعنى اللغوي هنا هو المتبادر، والحمل على صلاة الميت بعيد وان روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولذا استدل بالآية على استحباب الدعاء لمن يتصدق، واستحب الشافعي في صفته أن يقول للمتصدق آجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهوراً وبارك لك فيما أبقيت. وقال بعضهم: يجب على الإمام الدعاء إذا أخذ، وقيل: يجب في صدقة الفرض ويستجب في صدقة التطوع، وقيل: يجب على الإمام ويستحب للفقير والحق الاستحباب مطلقاً {ءانٍ صلواتك سَكَنٌ لَّهُمْ} تعليل للأمر بالصلاة، والسكن السكون وما تسكن النفس إليه من الأهل والوطن مثلا وعلى الأول جعل الصلاة نفس السكن، والاطمئنان مبالغة وعلى الثاني يكون المراد تشبيه صلاة عليه الصلاة والسلام في الالتجاء إليها بالسكن والأول أولى أي إن دعاءك تسكن نفوسهم إليه وتطمئن قلوبهم به إلى الغاية ويثقون بأنه سبحانه قبلهم. وقرأ غير واحد من السبعة {صلواتك} بالجمع مراعاة لتعدد المدعو لهم {والله سَمِيعٌ} يسمع الاعتراف بالذنب والتوبة والدعاء {عَلِيمٌ} بما في الضمائر من الندم والغم لما فرط وبالإخلاص في التوبة والدعاء أو سميع يجيب دعاءك لهم عليم بما تقتضيه الحكمة، والجملة حينئذ تذييل للتعليل مقرر لمضمونه وعلى الأول تذييل لما سبق من الآيتين محقق لما فيهما.
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)} {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} الضمير إما للمتوب عليهم والمراد تمكين قبول توبتهم في قلوبهم والاعتداد بصدقاتهم وإما لغيرهم والمراد التحضيض على التوبة والصدقة والترغيب فيهما. وقرىء {تَعْلَمُواْ} بالتاء وهو على الأول التفات وعلى الثاني بتقدير قل، وجوز أن يكون الضمير للتائبين وغيرهم على أن يكون المقصود التمكين والتحضيض لا غير، واختار بعضهم كونه للغير لا غير لما روي أنه لما نزلت توبة هؤلاء التائبين قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم اليوم فنزلت، ويشعر صنيع الجمهور باختيار الأول وهو الذي يقتضيه سياق الآية، والخبر لما نقف على سند له يعول عليه أي ألم يعلم هؤلاء التائبون {أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة} الصحيحة الخالصة {عَنْ عِبَادِهِ} المخلصين فيها، وتعدية القبول بعن لتضمنه معنى التجاوز والعفو أي يقبل ذلك متجاوزاً عن ذنوبهم التي تابوا عنها، وقيل: عن بمعنى من والضمير إما للتأكيد أوله مع التخصيص بمعنى ان الله سبحانه يقبل التوبة لا غيره أي إنه تعالى يفعل ذلك البتة لما قرر أن ضمير الفصل يفيد ذلك والخبر المضارع من مواقعه، وجعل بعضهم التخصيص بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي أنه جل وعلا يقبل التوبة لا رسوله عليه الصلاة والسلام لأن كثرة رجوعهم إليه مظنة لتوهم ذلك، والمراد بالعباد إما أولئك التائبون ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلية ما يشير إليه القبول وإما كافة العباد وهم داخلون في ذلك دخولاً أولياً {وَيَأْخُذُ الصدقات} أي يقبلها قبول من يأخذ شيئاً ليؤدي بدله فالأخذ هنا استعارة للقبول، وجوز أن يكون إسناد الأخذ إلى الله تعالى مجازاً مرسلاً، وقيل: نسبة الأخذ إلى الرسول في قوله سبحانه: {خُذِ} [التوبة: 103] ثم نسبته إلى ذاته تعالى إشارة إلى أن أخذ الرسول عليه الصلاة والسلام قائم مقام أخذ الله تعالى تعظيماً لشأن نبيه صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] فهو على حقيقته وهو معنى حسن إلا أن في دعوى الحقيقة ما لا يخفى، والمختار عندي أن المراد بأخذ الصدقات الاعتناء بأمرها ووقوعها عنده سبحانه موقعاً حسناً، وفي التعبير به ما لا يخفى من الترغيب. وقد أخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة أن الله تعالى يقبل الصدقة إذا كانت من طيب ويأخذها بيمينه وإن الرجل ليتصدق بمثل اللقمة فيربيها له كما يربي أحدكم فصيله أو مهره فتربو في كف الله تعالى حتى تكون مثل أحد. وأخرج الدارقطني في الأفراد عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تصدقوا فإن أحدكم يعطي اللقمة أو الشيء فيقع في يد الله عز وجل قبل أن يقع في يدل السائل ثم تلا هذه الآية ". وفي بعض الروايات ما يدل على أنه ليس هناك أخذ حقيقة، فقد أخرج ابن المنذر. وغيره عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة طيبة من كسب طيب ولا يقبل الله تعالى إلا طيباً ولا يصعد إلى السماء إلا طيب فيضعها في حق إلا كانت كأنما يضعها في يد الرحمن فيربيها له كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله حتى ان اللقمة أو التمرة لتأتي يوم القيامة مثل الجبل العظيم. " وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى ألم يعلموا إن الله يقبل التوبة الآية. و{ءالَ} في الصدقات يحتمل أن تكون عوضاً عن المضاف إليه أي صدقاتهم وإن تكون للجنس أي جنس الصدقات المندرج فيه صدقاتهم اندراجاً أولياً وهو الذي يقتضيه ظاهر الأخبار {وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} تأكيد لما عطف عليه وزيادة تقرير لما يقرره مع زيادة معنى ليس فيه أي ألم يعلموا أنه سبحانه المختص المستأثر ببلوغ الغاية القصوى من قبول التوبة والرحمة وذلك شأن من شؤونه وعادة من عوائده المستمرة، وقيل غير ذلك، والجملتان في حيز النصب بيعلموا يسد كل واحدة منهما مسد مفعوليه.
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} وَقُلِ اعملوا} ما تشاؤون من الأعمال {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} خيراً كان أو شراً، والجملة تعليل لما قبله أو تأكيد لما يستفاد منه من الترغيب والترهيب والسين للتأكيد كما قررنا أي يرى الله تعالى البتة {وَرَسُولُهُ والمؤمنون} عطف على الاسم الجليل، والتأخير عن المفعول للاشعار بما بين الرؤيتين من التفاوت، والمراد من رؤية العمل عند جمع الاطلاع عليه وعلمه علماً جلياً، ونسبة ذلك للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين باعتبار أن الله تعالى لا يخفى ذلك عنهم ويطلعهم عليه أما بالوحي أو بغيره. وأخرج أحمد. وابن أبي الدنيا في الاخلاص عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله تعالى عمله للناس كائناً ما كان» وتخصيص الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بالذكر على هذا لأنهم الذين يعبأ المخاطبون باطلاعهم، وفسر بعضهم المؤمنين بالملائكة الذين يكتبون الأعمال وليس بشيء، ومثله بل أدهى وأمر ما زعمه بعض الأمامية إنهم الأئمة الطاهرون ورووا أن الأعمال تعرض عليهم في كل اثنين وخميس بعد أن تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم. وجوز بعض المحققين أن يكون العلم هنا كناية عن المجازاة ويكون ذلك خاصاً بالدنيوي من إظهار المدح والاعزاز مثلاً وليس بالردىء، وقيل: يجوز إبقاء الرؤية على ما يتبادر منها. وتعقب بأن فيه التزام القول برؤية المعاني وهو تكلف وإن كان بالنسبة إليه تعالى غير بعيد، وأنت تعلم أن من الأعمال ما يرى عادة كالحركات ولا حاجة فيه إلى حديث الالتزام المذكور على أن ذلك الالتزام في جانب المعطوف لا يخفى ما فيه. وأخرج ابن أبي شيبة. وغيره عن سلمة بن الأكوع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} أي فسيظهره {وَسَتُرَدُّونَ} أي بعد الموت {إلى عالم الغيب} ومنه ما سترونه من الأعمال {والشهادة} ومنها ما تظهرونه، وفي ذكر هذا العنوان من تهويل الأمر وتربية المهابة ما لا يخفى. {فَيُنَبّئُكُمْ} بعد الرد الذي هو عبارة عن الأمر الممتد {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قبل ذلك في الدنيا والأنباء مجاز عن المجازاة أو كناية أي يجازيكم حسب ذلك إن خيراً فخير وإن شراً فشر ففي الآية وعد ووعيد.
{وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)} {وَءاخَرُونَ} عطف على {آخرون} [التوبة: 102] قبله أي ومنهم قوم آخرون غير المعترفين المذكورين دمُرْجَوْنَ} أي مؤخرون وموقوف أمرهم {} أي مؤخرون وموقوف أمرهم {لاْمْرِ الله} أي إلى أن يظهر أمر الله تعالى في شأنهم. وقرأ أهل المدينة. والكوفة غير أبي بكر {مُرْجَوْنَ} بغير همزة والباقون {مرجئون} بالهمز وهما لغتان يقال: أرجئته وأرجيته كأعطيته، ويحتمل أن يكون الياء بدلاً من الهمزة كقولهم: قرأت وقريب وتوضأت وتوضيت وهو في كلامهم كثير، وعلى كونه لغة أصلية هو يائي، وقيل: إنه واوي، ومن هذه المادة المرجئة احدى فرق أهل القبلة وقد جاء فيه الهمز وتركه، وسموا بذلك لتأخيرهم المعصية عن الاعتبار في استحقاق العذاب حيث قالوا: لا عذاب مع الإيمان فلم يبق للمعصية عندهم أثر، وفي المواقف سموا مرجئة لأنهم يرجون العمل عن النية أي يؤخرونه في الرتبة عنها وعن الاعتقاد، أو لأنهم يعطون الرجاء في قولهم: لا يضر مع الإيمان معصية انتهى. وعلى التفسيرين الأولين يحتمل أن يكون بالهمز وتركه، وأما على الثالث فينبغي أن يقال مرجئة بفتح الراء وتشديد الجيم، والمراد بهؤلاء المرجون كما في الصحيحين هلال بن أمية. وكعب بن مالك. ومرارة بن الربيع وهو المروى عن ابن عباس وكبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكانوا قد تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ما مع الهم باللحاق به عليه الصلاة والسلام فلم يتيسر لهم ولم يكن تخلفهم عن نفاق وحاشاهم فقد كانوا من المخلصين فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وكان ما كان من المتخلفين قالوا: لا عذر لنا إلا الخطيئة ولم يعتذروا له صلى الله عليه وسلم ولم يفعلوا كما فعل أهل السواري وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتنابهم وشدد الأمر عليهم كما ستعلمه إن شاء الله تعالى إلى أن نزل قوله سبحانه: {لَقَدْ تَابَ الله على النبى والمهاجرين والانصار} [التوبة: 117] الخ، وقد وقف أمرهم خمسين ليلة لا يدرون ما الله تعالى فاعل بهم {إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} في موضع الحال أي منهم هؤلاء إما معذبين وإما متوبا عليهم. وقيل: خبر {ءاخَرُونَ} على أنه مبتدأ و{مُرْجَوْنَ} صفته، والأول أظهر، واما للتنويع على معنى أن أمرهم دائر بين هذين الأمرين، وقيل: للترديد بالنظر للفساد؛ والمعنى ليكن أمرهم عندكم بين الرجاء والخوف، والمقصود تفويض ذلك إلى إرادة الله تعالى ومشيئته إذ لا يجب عليه سبحانه تعذيب العاصي ولا مغفرة التائب وإنما شدد عليهم مع إخرصهم، والجهاد فرض كفاية لما نقل عن ابن بطال في الروض الأنف وارتضاه أن الجهاد كان على الأنصار خاصة فرض عين لأنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ألا ترى قول راجزهم في الخندق : نحن الذين بايعوا محمدا *** على الجهاد ما بقينا أبدا وهؤلاء من أجلتهم فكان تخلفهم كبيرة، وروي عن الحسن أن هذه الآية في المنافقين وحينئذ لا يراد بالآخرين من ذكرنا لأنهم من علمت بل يراد به آخرون منافقون، وعلى هذا ينبغي أن يكون قول من قال في في {إِمَّا يُعَذّبُهُمْ} أي إن أصروا على النفاق. وقد علمت أن ذلك خلاف ما في الصحيحين. وحمل النفاق في كلام القائل على ما يشبهه بعيد ودعوى بلا دليل {والله عَلِيمٌ} بأحوالهم {حَكِيمٌ} فيما فعل بهم من الارجاء وفي قراءة عبد الله {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)} والذين اتخذوا مَسْجِدًا} عطف على ما سبق أي ومنهم الذين، وجوز أن يكون مبتدأ خبره {أَفَمَنْ أَسَّسَ} [التوبة: 109] والعائد محذوف للعلم به أي منهم أو الخبر محذوف أي فيمن وصفنا، وأن يكون منصوباً بمقدر كأذم وأعني. وقرأ نافع. وابن عامر بغير واو، وفيه الاحتمالات السابقة إلا العطف، وأن يكون بدلاً من {ءاخَرُونَ} [التوبة: 106] على التفسير المرجوح، وقوله سبحانه: {ضِرَارًا} مفعول له وكذا ما بعده وقيل: مصدر في موضع الحال أو مفعول ثان لا تخذوا على أنه بمعنى صيروا أو مفعول مطلق لفعل مقدر أي يضارون بذلك المؤمنين ضراراً، والضرار طلب الضرر ومحاولته، أخرج ابن جرير. وغيره عن ابن عباس أن جماعة من الأنصار قال لهم أبو عامر: ابنوا مسجداً واستمدوا ما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمداً عليه الصلاة والسلام وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو بالبركة فنزلت. وأخرج ابن إسحق. وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال أتى أصحاب مسجد الضرار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا، يا رسول الله أنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الساتية وأنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه فقال صلى الله عليه وسلم: إني على جناح سفر وحال شغل أو كما قال عليه الصلاة والسلام ولو قدمنا إن شاء الله تعالى لآتيناكم فصلينا لكم فيه فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ونزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار أتاه خبر المسجد فدعا مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف. ومعن بن عدي وأخاه عاصم بن عدي أحد بلعجان فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وأحرقاه فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك فقال مالك لصاحبه: أنظرني حتى أخرج لك بنار من أهلي فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه ناراً ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله فأحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ونزل فيهم من القرآن ما نزل وكان البانون له اثنى عشر رجلاً: خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج المسجد. وعباد بن حنيف من بني عمرو بن عوف أيضاً. وثعلبة بن حاطب. ووديعة بن ثابت وهما من بني أمية بن زيد رهط أبي لبابة بن عبد المنذر. ومعتب بن قشير. وأبو حبيبة بن الأزعر. وحارثة بن عامر. وابناه مجمع. وزيد. ونبيل بن الحرث. ونجاد بن عثمان، وبجدح من بني ضيعة. وذكر البغوي من حديث ذكره الثعلبي كما قال العراقي بدون سند «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بعد حرق المسجد وهدمه أن يتخذ كناسة يلقى فيها الجيف والنتن والقمامة إهانة لأهله لما أنهم اتخذوه ضراراً {وَكُفْراً} أي وليكفروا فيه، وقدر بعضهم التقوية أي وتقوية الكفر الذي يضمرونه، وقيل عليه: أن الكفر يصلح علة فما الحاجة إلى التقدير. واعتذر بأنه يحتمل أن يكون ذلك لما أن اتخاذه ليس بكفر بل مقوله لما اشتمل عليه فتأمل {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين} وهم كما قال السدى أهل قباء فإنهم كانوا يصلون في مسجدهم جميعاً فأراد هؤلاء حسداً أن يتفرقوا وتختلف كلمتهم {وَإِرْصَادًا} أي ترقبا وانتظاراً {لّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ} وهو أبو عامر والد حنظلة غسيل الملائكة رضي الله تعالى عنه، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وتنصر فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر: ما هذا الدين الذي جئت به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الحنيفية البيضاء دين إبراهيم عليه السلام قال: فأنا عليها فقال له عليه الصلاة والسلام: إنك لست عليها فقال: بلى ولكنك أنت أدخلت فيها ما ليس منها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية فقال أبو عامر: أمات الله تعالى الكاذب منا طريداً وحيداً فأمن النبي صلى الله عليه وسلم فسماه الناس أبا عامر الكذاب وسماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق فلما كان يوم أحد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل كذلك إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن يومئذ ولى هارباً إلى الشام وأرسل إلى المنافقين يحثهم على بناء مسجد كما ذكرنا آنفاً عن الحبر فبنوه وبقوا منتظرين قدومه ليصلي فيه ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهدم كما مر ومات أبو عامر وحيداً بقنسرين وبقي ما أضمروه حسرة في قلوبهم. {مِن قَبْلُ} متعلق بحارب أي حارب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام قبل هذا الاتخاذ أو متعلق باتخذوا أي اتخذوه من قبل أن ينافقوا بالتخلف حيث كانوا بنوه قبل غزوة تبوك كما سمعت، والمراد المبالغة في الذم {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا} أي ما أردنا ببناء هذا المسجد {إِلاَّ الحسنى} أي إلا الخصلة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله تعالى والتوسعة على المصلين؛ فالحسنى تأنيث الأحسن وهو في الأصل صفة الخصلة وقد وقع مفعولاً به لأردنا، وجوز أن يكون قائماً مقام مصدر محذوف أي الإرادة الحسنى {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون} فيما حلفوا عليه.
{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} لاَ تَقُمْ} أي للصلاة {فِيهِ} أي في ذلك المسجد {أَبَدًا} وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير {لاَ تَقُمْ} بلا تصل على أن القيام مجاز عن الصلاة كما في قولهم: فلان يقوم الليل، وفي الحديث «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له» {لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ} أي بنى أساسه {عَلَى التقوى} أي تقوى الله تعالى وطاعته، و{على} على ما يتبادر منها، ولا يخفى ما في جعل التقوى وهي هي أساساً من المبالغة، وقيل: إنها بمعنى مع، وقيل: للتعليل لاعتباره فيما تقدم من الاتخاذ، واللام اما للابتداء أو للقسم أي والله لمسجد. وعلى التقديرين فمسجد مبتدأ والجملة بعده صفته، وقوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} متعلق بأسس و{مِنْ} لابتداء الزمان على ما هو الظاهر، وفي ذلك دليل للكوفيين في أنها تكون للابتداء مطلقاً ولا تتقيد بالمكان، وخالف في ذلك البصريون ومنعوا دخولها على الزمان وخصوه بمذ ومنذ وتأولوا الآية بأنها على حذف مضاف أي من تأسيس أول يوم. وتعقبه الزجاج وتبعه أبو البقاء بأن ذلك ضعيف لأن التأسيس المقدر ليس بمكان حتى تكون من لابتداء الغاية فيه. وأجيب بأن مرادهم من التأويل الفرار من كونها لابتداء الغاية في الزمان وقد حصل بذلك التقدير، وليس في كلامهم ما يدل على أنها لا تكون لابتداء الغاية إلا في المكان، وقال الرضى: لا أرى في الآية ونظائرها معنى الابتداء إذ المقصود منه أن يكون الفعل شيئاً ممتداً كالسير والمشي ومجرور من منه الابتداء نحو سرت من البصرة أو يكون أصلاً لشيء ممتد نحو خرجت من الدار إذ الخروج ليس ممتداً وليس التأسيس ممتداً ولا أصلا لممتد بل هما حدثان واقعان فيما بعد {مِنْ} وهذا معنى. في، ودمن} في الظروف كثيراً ما تقع بمعنى في انتهى. وفي كون التأسيس ليس أصلاً لممتد منع ظاهر. نعم ذهب إلى احتمال الظرفية العلامة الثاني وله وجه وحينئذ يبطل الاستدلال ولا يكون في الآية شاهد للكوفيين، والحق أن كثيراً من الآيات وكلام العرب يشهد لهم والتزام تأويل كل ذلك تكلف لا داعي إليه، وقوله تاعلى: {} في الظروف كثيراً ما تقع بمعنى في انتهى. وفي كون التأسيس ليس أصلاً لممتد منع ظاهر. نعم ذهب إلى احتمال الظرفية العلامة الثاني وله وجه وحينئذ يبطل الاستدلال ولا يكون في الآية شاهد للكوفيين، والحق أن كثيراً من الآيات وكلام العرب يشهد لهم والتزام تأويل كل ذلك تكلف لا داعي إليه، وقوله تاعلى: {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} خبر المبتدأ و{أَحَقُّ} افعل تفضيل والمفضل عليه كل مسجد أو مسجد الضرار على الفرض والتقدير أو هو على زعمهم، وقيل: إنه بمعنى حقيق أي حقيق ذلك المسجد بأن تصلي فيه، واختلف في المراد منه. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. والضحاك أنه مسجد قباء. وقد جاءت أخبار في فضل الصلاة فيه. فأخرج ابن أبي شيبة. والترمذي. والحاكم وصححه. وابن ماجه عن أسيد بن ظهير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صلاة في مسجد قباء كعمرة» قال الترمذي. لا نعرف لأسيد هذا شيئاً يصح غير هذا الحديث، وفي معناه ما أخرجه أحمد. والنسائي عن سهل بن حنيف. وأخرج ابن سعد عن ظهير بن رافع الحارثي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى في مسجد قباء يوم الاثنين والخميس انقلب بأجر عمرة» وذهب جماعة إلى أنه مسجد المدينة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدلوا بما أخرجه مسلم. والترمذي. وابن جرير. والنسائي. وغيرهم عن أبي سعيد الخدري قال: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى. فقال أحدهما: هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيا رسول الله عليه الصلاة والسلام فسألاه عن ذلك فقال: هو هذا المسجد لمسجده صلى الله عليه وسلم وقال: في ذلك خير كثير يعني مسجد قباء. وجاء في عدة روايات أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن ذلك فقال: هو مسجدي هذا، وأيد القول الأول بأنه الأوفق بالسباق واللحاق وبأنه بني قبل مسجد المدينة، وجمع الشريف السمهودي بين الأخبار وسبقه إلى ذلك السهيلي وقال: كل من المسجدين مراد لأن كلاً منهما أسس على التقوى من أوب يوم تأسيسه، والسر في إجابته صلى الله عليه وسلم السؤال عن ذلك بما في الحديث دفع ما توهمه السائل من اختصاص ذلك بمسجد قباء والتنويه بمزية هذا على ذاك، ولا يخفى بعد هذا الجمع فإن ظاهر الحديث الذي أخرجه الجماعة عن أبي سعيد الخدري بمراحل عنه، ولهذا اختار بعض المحققين القول الثاني وأيده بأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أحق بالوصف بالتأسيس على التقوى من أول يوم وبأن التعبير بالقيام عن الصلاة في قوله سبحانه: {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} يستدعي المداومة، ويعضده توكيد النهي بقوله تعالى: {أَبَدًا} ومداومة الرسول عليه الصلاة والسلام لم توجد إلا في مسجده الشريف عليه الصلاة والسلام. وأما ما رواه الترمذي. وأبو داود عن أبي هريرة من أن قوله جل وعلا: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} نزلت في أهل قباء وكانوا يستنجون بالماء فهو لا يعارض نص رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما ما رواه ابن ماجه عن أبي أيوب. وجابر. وأنس من أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الأنصار إن الله تعالى قد أثني عليكم خيراً في الطهور فما طهوركم هذا؟ قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة قال: فهل مع ذلك غير؟ قالوا: لا غير إن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحب أن يستنجي باملاء. قال عليه الصلاة والسلام: هو ذاك فعليكموه " فلا يدل على اختصاص أهل قباء ولا ينافي الحمل على أهل مسجده صلى الله عليه وسلم من الأنصار، وأنا أقول: قد كثرت الأخبار في نزول هذه الآية في أهل قباء. فقد أخرج أحمد. وابن خزيمة. والطبراني. وابن مردويه. والحاكم عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: " إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ فذكروا أنهم كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط " وأخرج أحمد. وابن أبي شيبة. والبخاري في تاريخه. والبغوي في معجمه. وابن جرير. والطبراني عن محمد بن عبد الله بن سلام عن أبيه نحو ذلك، وأخرج عبد الرزاق. والطبراني عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأهل قباء ما هذا الطهور الذي خصصتم به في هذه الآية {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ}؟ قالوا: يا رسول الله ما منا أحد يخرج من الغائط إلا غسل مقعدته». وأخرج عبد الرزاق. وابن مردويه عن عبد الله بن الحرث بن نوفل نحوه إلى غير ذلك، وروى القول بنزولها في أهل قباء عن جماعة من الصحابة وغيرهم كابن عمر. وسهل الأنصاري. وعطاء. وغيرهم. وأما الأخبار الدالة على كون المراد بالمسجد المذكور في الآية مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكثيرة أيضاً وكذا الذاهبون إلى ذلك كثيرون أيضاً، والجمع فيما أرى بين الأخبار والأقوال متعذر، وليس عندي أحسن من التنقير عن حال تلك الروايات صحة وضعفاً فمتى ظهر قوة إحداهما على الأخرى عول على الأقوى. وظاهر كلام البعض يشعر بأن الأقوى رواية ما يدل على أن المراد من المسجد مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعنى تأسيسه على التقوى من أول يوم أن تأسيسه على ذلك كان مبتدأ من أول يوم من أيام وجوده لا حادثاً بعده ولا يمكن أن يراد من أول الأيام مطلقاً ضرورة. نعم قال الذاهبون إلى أن المراد بالمسجد مسجد قباء: إن المراد من أول أيام الهجرة ودخول المدينة. قال السهيلي: ويستفاد من الآية صحة ما اتفق عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين مع عمر رضي الله تعالى عنه حين شاورهم في التاريخ فاتفق رأيهم على أن يكون من عام الهجرة لأنه الوقت الذي أعز الله فيه الإسلام والحين الذي أمن فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وبنيت المساجد وعبد الله تعالى كما يجب فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل، وفهمنا الآن بنقلهم أن قوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي نؤرخ به الآن، فإن كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم أخذوه من هذه الآية فهو الظن بهم لأنهم أعلم الناس بتأويل كتاب الله تعالى وأفهمهم بما فيه من الإشارات، وإن كان ذلك عن رأي واجتهاد فقد علمه تعالى وأشار إلى صحته قبل أن يفعل إذ لا يعقل قول القائل فعلته أول يوم إلا بالإضافة إلى عام معلوم أو شهر معلوم أو تاريخ كذلك وليس ههنا إضافة في المعنى إلا إلى هذا التاريخ المعلوم لعدم القرائن الدالة على غيره من قرينة لفظ أو حال فتدبره ففيه معتبر لمن أدكر وعلم لمن رأى بعين فؤاده واستبصر انتهى. ولا يخفى على المطلع على التاريخ أن ما وقع كان عن اجتهاد وأن قوله: وليس ههنا إضافة الخ محل نظر، ويستفاد من الآية أيضاً على ما قيل النهي عن الصلاة في مساجد بنيت مباهاة أو رياء وسمعت أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله تعالى، وألحق بذلك كل مسجد بني بمال غير طيب. وروي عن شقيق ما يؤيد ذلك. وروي عن عطاء لما فتح الله الأمصار على عمر رضي الله تعالى عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه، ومن حمل التطهير فيها على ما نطقت به الأخبار السابقة قال: يستفاد منها سنة الاستنجاء بالماء، وجاء من حديث البزار تفسيره بالجمع بين الماء والحجر وهو أفضل من الاقتصار على أحدهما، وفسره بعضهم بالتخلص عن المعاصي والخصال المذمومة وهو معنى مجازي له، وإذا فسر بما يسمل التطهير من الحدث الأكبر والخبث والتنزه من المعاصي ونحوها كان فيه من المدح ما فيه، وجوز في جملة {فِيهِ رِجَالٌ} ثلاثة أوجه أن تكون مستأنفة مبينة لأحقية القيام في ذلك المسجد من جهة الحال بعد بيان الأحقية من جهة المحل، وأن يكون صفة للمبتدأ جاءت بعد خبره، وأن تكون حالاً من الضمير في {فِيهِ} وعلى كل حال ففيها تحقيق وتقرير لاستحقاق القيام فيه، وقرىء {ءانٍ} بالادغام. {يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين} أي يرضى عنهم ويكرمهم ويعظم ثوابهم وهو المراد بمحبة الله تعالى عند الأشاعرة وأشياعهم وذكروا أن المحبة الحقيقية لا يوصف بها سبحانه، وحمل بعضهم التعبير بها هنا على المشاكلة، والمراد من المطهرين إما أولئك الرجال أو الجنس ويدخلون فيه.
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)} أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} أي مبنية فهو مصدر كالغفران واستعمل بمعنى المفعول، وعن أبي علي أن البنيان جمع واحده بنيانة ولعل مراده أنه اسم جنس جمعي واحده ما ذكر وإلا فليس بشيء، والتأسيس وضع الأساس وهو أصل البناء وأوله، ويستعمل بمعنى الأحكام وبه فسره بعضهم هنا، واختار آخرون التفسير الأول لتعديه بعلي في قوله سبحانه: {على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} فإن المتبادر تعلقه به، وجوز تعلقه بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في أسس وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى، والمراد من الرضوان طلبه بالطاعة مجازاً وإن شئت قدرت المضاف ليكون المتعاطفان من أعمال العبد، والهمزة للإنكار، والفاء للعطف على مقدر كما قالوا في نظائره أي أبعد ما علم حالهم فمن أسس بنيانه على تقوى وخوف من الله تعالى وطلب مرضاته بالطاعة {خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ} أي طرفه، ومنه أشفى على الهلاك أي صار على شفاء وشفى المريض لأنه صار على شفا البرء والسلامة ويثنى على شفوان. والجرف بضمتين البئر التي لم تطو، وقيل: هو الهوة وما يجرفه السيل من الأودية لجرف الماء له أي أكله وإذهابه. وقرأ أبو بكر. وابن عامر. وحمزة {جُرُفٍ} بالتخفيف وهو لغة فيه {هَارٍ} أي متصدع مشرف على السقوط وقيل ساقط؛ وهو نعت لجرف وأصله هاور أو هاير فهو مقلوب ووزنه فالع، وقيل: إنه حذفت عينه اعتباطاً فوزنه قال، والاعراب على رائه كباب، وقيل: إنه لا قلب فيه ولا حذف وأصله هور أو هير على وزن فعل بكسر العين ككتف فلما تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفاً، والظاهر أنه وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى فيما سبق، وفيه استعارة تصريحية تحقيقية حيث شبه الباطل والنفاق بشفا جرف هار في قلة الثبات ثم استعير لذلك والقرينة المقابلة، وقوله تعالى: {فانهار بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ} ترشيح، وباؤه أما للتعدية أو للمصاحبة، ووضع في مقابلة الرضوان تنبيهاً على أن تأسيس ذلك على أمر يحفظه مما يخاف ويوصله إلى ما أدنى مقتضياته الجنة، وتأسيس هذا على ما هو بصدد الوقوع في النار ساعة فساعة ثم المصير إليها لا محالة، والاستعارة فيما تقدم مكنية حيث شبهت فيه التقوى بقواعد البناء تشبيهاً مضمراً في النفس ودل عليه ما هو من روادفه ولوازمه وهو التأسيس والبنيان، واختار غير واحد أن معنى الآية أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة هي التقوى وطلب الرضا بالطاعة خير أم من أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها فأدى به ذلك لخوره وقلة استمساكه إلى السقوط في النار، وإنما اختير ذلك على ما قيل لما أنه أنسب بتوصيف أهل مسجد الضرار بمضارة المسلمين والكفر والتفريق والإرصار وتوصيف أهل مسجد التقوى بأنهم يحبون أن يتطهروا بناء على أن المراد التطهير عن المعاصي والخصال المذمومة لأنه المقتضى بزعم البعض لمحبة الله تعالى لا التطهير المذكور في الأخبار، وأمر الاستعارة على هذا التوجيه على طرز ما تقدم في التوجيه الأول، وجوز أن يكون في الجملة الأولى تمثيل لحال من أخلص لله تعالى وعمل الأعمال الصالحة بحال من بنى بناء محكماً يستوطنه ويتحصن به، وان يكون البنيان استعارة أصلية والتأسيس ترشيحاً أو تبعية وكذا جوز التمثيل في الجملة الثانية وإجراء ذلك فيها ظاهر بعد اعتبار إجرائه في مقابله، وفاعل {أَنْهَارٌ} إما ضمير البنيان وضمير {بِهِ} للمؤسس وإما للشفا وضمير به للبنيان وإليه يميل ظاهر التفسير المار آنفا. وظاهر الأخبار أن ذلك المسجد إذا وقع وقع في النار. فقد أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن قتادة أنه قال في الآية: والله ما تناهى أن وقع في النار، وذكر لنا أنه حفرت فيه بقعة فرئى منه الدخان. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى أنه قال فيها: مضى حين خسف به إلى النار. وعن سفيان بن عيينة يقال: إنه بقعة من نار جهنم. وأنت تعلم أني والحمد لله تعالى مؤمن بقدرته سبحانه على أتم وجه وأنه جل جلاله فعال لما يريد لكني لا أومن بمثل هذه الظواهر ما لم يرد فيها خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ نافع. وابن عامر {أَسَّسَ} بالبناء للمفعول في الموضعين، وقرىء {المطهرين أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} على الإضافة ونسب ذلك إلى علي بن نصر {وأسس} بفتحات ونسبت إلى عاصم {إساس} بالكسر، قيل: وثلاثتها جمع أس وفيه نظر، ففي الصحاح الأس أصل البناء وكذلك الأساس والأسس مقصور منه وجمع الأس أساس مثل عس وعساس وجمع الأساس أسس مثل قذال وقذل وجمع الأسس آساس مثل سبب وأسباب انتهى. وجوز في في أسس أن يكون مصدراً. وقرأ عيسى بن عمرو {وتقوى} بالتنوين، وخرج ذلك ابن جنى على أن الألف للإلحاق كما في أرطى ألحق بجعفر لا للتأنيث كالف تترى في رأي وإلا لم يجز تنوينه. وقرأ ابن مسعود {فَإِنَّهَا رَبَّهُ والمشركين فِى نَارِ جَهَنَّمَ} {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} أي لأنفسهم أو الواضعين للأشياء في غير مواضعها أي لا يرشدهم إلى ما فيه صلاحهم إرشاداً موجباً له لا محالة.
{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)} لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ} أي بناؤهم الذي بنوه، فالبنيان مصدر أريد به المفعول كما مر، ووصفه بالمفرد ما يرد على مدعي الجمعية وكذا الأخبار عنه بقوله سبحانه: {رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ} واحتمال تقدير مضاف وجعل الصفة وكذا الخبر له خلاف الظاهر. نعم قيل: الأخبار بريبة لا دليل فيه على عدم الجمعية لأنه يقال: الحيطان منهدمة والجبال راسية؛ وجوز بعضهم كون البنيان باقياً على المصدرية و{الذى} مفعوله، والريبة اسم من الريب بمعنى الشك وبذلك فسرها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والمراد به شكهم في نبوته صلى الله عليه وسلم المضمر في قلوبهم وهو عين النفاق، وجعل بنيانهم نفس الريبة للمبالغة في كونه سبباً لها. قال الإمام: وفي ذلك وجوه. أحدها أن المنافقين عظم فرحهم ببنيانه فلما أمر بتخريبه ثقل عليهم وازداد غيظهم وارتيابهم في نبوته صلى الله عليه وسلم. وثانيها أنه لما أمر بتخريبه ظنوا أن ذلك للحسد فارتفع أمانهم عنه صلى الله عليه وسلم وعظم خوفهم فارتابوا في أنهم هل يتركون على حالهم أو يؤمر بقتلهم ونهب أموالهم. وثالثها أنهم اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في البناء فلما أمر بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بذلك والصحيح هو الأول. ويمكن كما قال العلامة الطيبي أن يرجح الثاني بأن تحمل الريبة على أصل موضوعها ويراد منها قلق النفس واضطرابها. وحاصل المعنى لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا سبباً للقلق والاضطراب والوجل في القلوب ووصف بنيانهم بما وصف للإيذان بكيفية بنائهم له وتأسيسه على ما عليه تأسيسه مما علمت وللأشعاء بعلة الحكم، وقيل: وصف بذلك للدلالة على أن المراد بالبنيان ما هو المبني حقيقة لا ما دبروه من الأمور فإن البناء قد يطلق على تدبير الأمر وتقديره كما في قولهم كم أبني وتهدم وعليه قوله: متى يبلغ البنيان يوماً تمامه *** إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم وحاصله أن الوصف للتأكيد وفائدته دفع المجاز، وهذا نظير ما قالوا في قوله سبحانه: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164] وفيه بحث. والاستثناء في قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} من أعم الأوقات أو أعم الأحوال وما بعد إلا في محل النصب على الظرفية أي لا يزال بنيانهم ريبة في كل وقت إلا وقت تقطع قلوبهم أو في كل حال إلا حال تقطعها أي تفرقها وخروجها عن قابلية الإدراك وهذا كناية عن تمكن الريبة في قلوبهم التي هي محل الإدراك وإضمار الشرك بحيث لا يزوب منها ما داموا أحياء إلا إذا تقطعت وفرقت وحينئذ تخرج منها الريبة وتزول، وهو خارج مخرج التصوير والفرض، وقيل: المراد بالتقطع ما هو كائن بالموت من تفرق أجزاء البدن حقيقة وروي ذلك عن بعض السلف. وأخرج ابن المنذر. وغيره عن أيوب قال: كان عكرمة يقرأ {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ فِى القبور} وقيل: المراد إلا أن يتوبوا ويندموا ندامة عظيمة تفتت قلوبهم وأكبادهم فالتقطع كناية أو مجاز عن شدة الأسف. وروى ذلك ابن أبي حاتم عن سفيان، وتقطع من التفعل بإحدى التاءين والبناء للفاعل أي تتقطع. وقرىء {تُقَطَّعَ} على بناء الجهول من التفعيل وعلى البناء للفاعل منه على أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي إلا أن تقطع أنت قلوبهم بالقتل، وقرىء على البناء للمفعول من الثلاثي مذكراً ومؤنثاً. وقرأ الحسن {إلى أَن تُقَطَّعَ} على الخطاب، وفي قراءة عبد الله {وَلَوْ قُطّعَتْ قُلُوبِهِمْ} على إسناد الفعل مجهولاً إلى قلوبهم. وعن طلحة ولو قطعت قلوبهم على خطاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويصح أن يعني بالخطاب كل مخاطب، وكذا يصح أن يجعل ضمير تقطع مع نصب قلوبهم للريبة {والله عَلِيمٌ} بجميع الأشياء التي من جملتها ما ذكر من أحوالهم {حَكِيمٌ} في جميع أفعاله التي من جملتها أمره سبحانه الوارد في حقهم. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله لَئِنْ ءاتانا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين} [التوبة: 75] إشارة إلى وصف المغرورين الذين ما ذاقوا طعم المحبة ولا هب عليهم نسيم العرفان، ومن هنا صححوا لأنفسهم أفعالاً فقالوا: لنصدقن {فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ} [التوبة: 76] أي أنهم نقضوا العهد لما ظهر لهم ما سألوه، والبخال كما قال أبو حفص: ترك الايثار عند الحاجة إليه {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ} وهو ما لا يعلمونه من أنفسهم {ونجواهم} [التوبة: 78] أي ما يعلمونه منها دون الناس، وقيل: السر ما لا يطلع عليه إلا عالم الأسرار والنجوى ما يطلع عليه الحفظة {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا} [التوبة: 81] أرادوا التثبيط على المؤمنين ببيان بعض شدائد الغزو وما دروا أن المحب يستعذب المر في طلب وصال محبوبه ويرى الحزن سهلاً والشدائد لذائذ في ذلك، ولا خير فيمن عاقه الحر والبرد، ورد عليهم بأنهم آثروا بمخالفتهم النار التي هي أشد حراً ويشبه هؤلاء المنافقين في هذا التثبيط أهل البطالة الذين يثبطون السالكين عن السلوك ببيان شدائد السلوك وفوات اللذائذ الدنيوية {لكن الرسول والذين ءامَنُواْ مَعَهُ جاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ} فأفنوا كل ذلك في طلب مولاهم جل جلاله {وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الخيرات} المشاهدات والمكاشفات والقربات {وأولئك هُمُ المفلحون} [التوبة: 88] الفائزون بالبغية. {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء} أي الذين أضعفهم حمل المحمبة {وَلاَ على المرضى} بداء الصبابة حتى ذابت أجسامهم بحرارة الفكر وشدائد الرياضة {وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} وهم المتجردون من الأكوان {حَرَجٌ} اثم في التخلف عن الجهاد الأصغر {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] بأن أرشدوا الخلق إلى الحق {وَمِنَ الاعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا} [التوبة: 98] غرامة وخسرانا، قيل: كل من يرى الملك لنفسه يكون ما ينفق غرامة عنده وكل من يرى الأشياء لله تعالى وهي عارية عنده يكون ما ينفق غنماً عنده {والسابقون الاولون} أي الذين سبقوا إلى الوحدة من أهل الصنف الأول {مِنَ المهاجرين} وهم الذين هجروا مواطن النفس {والانصار} وهم الذين نصروا القلب بالعلوم الحقيقية على النفس {والذين اتبعوهم} في الاتصاف بصفات الحق {بإحسان} أي بمشاهدة من مشاهدات الجمال والجلال {رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُمْ} بما أعطاهم من عنايته وتوفيقه {وَرَضُواْ عَنْهُ} بقبول ما أمر به سبحانه وبدل أموالهم ومهجهم في سبيل عز شأنه {وَأَعَدَّ لَهُمْ جنات} من جناب الأفعال والصفات {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} [التوبة: 100] وهي أنهار علوم التوكل والرضا ونحوهما ووراء هذه الجنات المشتركة بين المتعاطفات جنة الذات وهي مختصة بالسابقين {وَءاخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} وهم الذين لم ترسخ فيهم ملكة الذنب وبقي منهم فيهم نور الاستعداد ولهذا لانت شكيمتهم واعترفوا بذنوبهم ورأوا قبحها وأما من رسخت فيه ملكة الذنب واستولت عليه الظلمة فلا يرى ما يفعل من القبائح إلا حسناً {خَلَطُواْ عَمَلاً صالحا وَءاخَرَ سَيّئاً} حيث كانوا في رتبة النفس اللوامة التي لم يصر اتصالها بالقلب وتنورها بنوره ملكة لها ولهذا تنقاد له تارة وتعمل أعمالاً صالحة وذلك إذا استولى القلب عليها وتنفر عنه أخرى وتفعل أفعالاً سيئة إذا احتجبت عنه بظلمتها وهي دائماً بين هذا وذاك حتى يقوى اتصالها بالقلب ويصير ذلك ملكة لها وحينئذ يصلح أمرها وتنجو من المخالفات، ولعل قوله سبحانه: {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] إشارة إلى ذلك وقد تتراكم عليها الهيآت المظلمة فترجه القهقري ويزول استعدادها وتحجب عن أنوار القلب وتهوى إلى سجين الطبيعة فتهلك مع الهالكين، وترجح أحد الجانبين على الآخر يكون بالصحبة فإن أدركها التوفيق صحبت الصالحين فتحلت بأخلاقهم وعملت أعمالهم فكانت منهم، وإن لحقها الخذلان صحبت المفسدين واختلطت بهم فتدنست بخلالهم وفعلت أفاعيلهم فصارت من الخاسرين أعاذنا الله تعالى من ذلك، ولله در من قال: عليك بأرباب الصدور فمن غدا *** مضافاً لأرباب الصدور تصدراً وإياك أن ترضى صحابة ناقص *** فتنحط قدراً عن علاك وتحقرا فرفع أبو من ثم خفض مزمل *** يبين قولي مغرياً ومحذراً وقد يكون ترجح جانب الاتصال بأسباب أخر كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا} لأن المال مادة الشهوات فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأخذ من ذلك ليكون أول حالهم التجرد لتنكسر قوى النفس وتضعف أهواؤها وصفاتها فتتزكى من الهيآت المظلمة وتتطهر من خبث الذنوب ورجس دواعي الشيطان {وَصَلّ عَلَيْهِمْ} بامداد الهمة وإفاضة أنوار الصحبة {ءانٍ صلواتك سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103] أي سبب لنزول السكينة فيهم، وفسروا السكينة بنور يستقر في القلب وبه يثبت على التوجه إلى الحق ويتخلص عن الطيش {لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} لأن النفس تتأثر فيه بصفاء الوقت وطيب الحال وذوق الوجدان بخلاف ما إذا كان مبنياً على ضد ذلك فإنها تتأثر فيه بالكدورة والتفرقة والقبض. وأصل ذلك أن عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت وتسخيره فيلزم أن يكون لنيات النفوس وهيأتها تأثير فيما تباشره من الأعمال، ألا ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت محلا للتبرك لما أنها كانت مبنية بيد خليل الله تعالى عليه الصلاة والسلام بنية صادقة ونفس شريفة، ونحن نجد أيضاً أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع وضد ذلك في بعضها، ولست أعني إلا وجود ذوي النفوس الحساسة الصافية لذلك وإلا فالنفوس الخبيثة تجد الأمر على عكس ما تجده أرباب تلك النفوس، والصفراوي يجد السكر مرا، والجعل يستخبث رائحة الورد: ومن هنا كان المنافق في المسجد كالسمك في اليبس والمخلص فيه كالسمكة في الماء {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} أي أهل إرادة وسعى في التطهر عن الذنوب، وهو إشارة إلى أن صحبة الصالحين لها أثر عظيم، ويتحصل من هذا وما قبله الإشارة إلى أنه ينبغي رعاية المكان والإخوان في حصول الجمعية، وجاء عن القوم أنه يجب مراعاة ذلك مع مراعاة الزمان في حصول ما ذكر {والله يُحِبُّ المطهرين} [التوبة: 108] ولو محبته إياهم لما أحبوا ذلك. وعن سهل الطهارة على ثلاثة أوجه: طهارة العلم من الجهل، وطهارة الذكر من النسيان، وطهارة الطاعة من المعصية. وقال بعضهم: الطهارة على أقسام كثيرة: فطهارة الاسرار من الخطرات، وطهارة الأرواح من الغفلات، وطهارة القلوب من الشهوات وطهارة العقول من الجهالات، وطهارة النفوس من الكفريات، وطهارة الأبدان من الزلات. وقال آخر: الطهارة الكامل طهارة الاسرار من دنس الأغيار والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل.
|