الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **
والأصل في الشهادات الكتاب والسنة والإجماع والعبرة أما الكتاب, فقول الله تعالى: وتحمل الشهادة وأداؤها فرض على الكفاية لقول الله تعالى:
قال: [ ولا يقبل في الزنى إلا أربعة رجال عدول أحرار مسلمين ]. أجمع المسلمون على أنه لا يقبل في الزنا أقل من أربعة شهود. وقد نص الله تعالى عليه بقوله سبحانه:
وفي الإقرار بالزنى روايتان، ذكرهما أبو بكر. وللشافعي فيه قولان؛ أحدهما، يثبت بشاهدين؛ قياسا على سائر الأقارير. والثاني، لا يثبت إلا بأربعة؛ لأنه موجب لحد الزنى، أشبه فعله . قال: [ ولا يقبل فيما سوى الأموال مما يطلع عليه الرجال, أقل من رجلين ] وهذا القسم نوعان أحدهما العقوبات وهي الحدود والقصاص فلا يقبل فيه إلا شهادة رجلين, إلا ما روي عن عطاء وحماد أنهما قالا: يقبل فيه رجل وامرأتان قياسا على الشهادة في الأموال ولنا, أن هذا مما يحتاط لدرئه وإسقاطه ولهذا يندرئ بالشبهات ولا تدعو الحاجة إلى إثباته, وفي شهادة النساء شبهة بدليل قوله تعالى:
وقد نقل عن أحمد رضي الله عنه في الإعسار ما يدل على أنه لا يثبت إلا بثلاثة لحديث قبيصة بن المخارق: (حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلانا فاقة) قال أحمد: هكذا جاء الحديث فظاهر هذا أنه أخذ به وروي عنه, أنه لا يقبل قوله إنه وصى حتى يشهد له رجلان أو رجل عدل فظاهر هذا أنه يقبل في الوصية شهادة رجل واحد وقال في الرجل: يوصى ولا يحضره إلا النساء قال: أجيز شهادة النساء فظاهر هذا أنه أثبت الوصية بشهادة النساء على الانفراد, إذا لم يحضره الرجال قال القاضي: والمذهب أن هذا كله لا يثبت إلا بشاهدين وحديث قبيصة في حل المسألة لا في الإعسار.
ولا يثبت شيء من هذين النوعين بشاهد ويمين المدعي لأنه إذا لم يثبت بشهادة رجل وامرأتين, فلئلا يثبت بشهادة واحد ويمين أولى قال أحمد ومالك في الشاهد واليمين: إنما يكون ذلك في الأموال خاصة, لا يقع في حد ولا نكاح ولا طلاق, ولا عتاقة ولا سرقة ولا قتل وقد قال الخرقي: إذا ادعى العبد أن سيده أعتقه, وأتى بشاهد حلف مع شاهده وصار حرا ونص عليه أحمد وقال في شريكين في عبد, ادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه منه وكانا معسرين عدلين: فللعبد أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير حرا أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حرا فيخرج مثل هذا في الكتابة, والولاء والوصية الوديعة, والوكالة فيكون في الجميع روايتان ما خلا العقوبات البدنية, والنكاح وحقوقه فإنها لا تثبت إلا بشاهد ويمين, قولا واحدا قال القاضي: المعمول عليه في جميع ما ذكرناه أنه لا يثبت إلا بشاهدين وهو قول الشافعي وروى الدارقطني بإسناده عن أبي سلمة, عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (استشرت جبريل في القضاء باليمين مع الشاهد فأشار على في الأموال, لا تعد ذلك) وقال عمرو بن دينار عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (أنه قضى بالشاهد واليمين؟) قال: نعم في الأموال وتفسير الراوي أولى من تفسير غيره رواه الإمام أحمد, وغيره بإسنادهم.
قال: [ ولا يقبل في الأموال أقل من رجل وامرأتين ورجل عدل مع يمين الطالب ] وجملة ذلك, أن المال كالقرض والغصب والديون كلها, وما يقصد به المال كالبيع والوقف والإجارة, والهبة والصلح والمساقاة, والمضاربة والشركة والوصية له, والجناية الموجبة للمال كجناية الخطأ وعمد الخطأ والعمد الموجب للمال دون القصاص, كالجائفة وما دون الموضحة من الشجاج يثبت بشهادة رجل وامرأتين وقال أبو بكر: لا تثبت الجناية في البدن بشهادة رجل وامرأتين لأنها جناية, فأشبهت ما يوجب القصاص والأول أصح لأن موجبها المال فأشبهت البيع وفارق ما يوجب القصاص لأن القصاص لا تقبل فيه شهادة النساء, وكذلك ما يوجبه والمال يثبت بشهادة النساء وكذلك ما يوجبه ولا خلاف في أن المال يثبت بشهادة النساء مع الرجال وقد نص الله تعالى على ذلك في كتابه بقوله سبحانه:
وأكثر أهل العلم يرون ثبوت المال لمدعيه بشاهد ويمين وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان, وعلي رضي الله عنهم وهو قول الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز والحسن, وشريح وإياس وعبد الله بن عتبة, وأبي سلمة بن عبد الرحمن ويحيى بن يعمر وربيعة, ومالك وابن أبي ليلى وأبي الزناد, والشافعي وقال الشعبي والنخعي وأصحاب الرأي, والأوزاعي: لا يقضى بشاهد ويمين وقال محمد بن الحسن: من قضى بالشاهد واليمين نقضت حكمه لأن الله تعالى قال: قال القاضي: يجوز أن يحلف على ما لا تسوغ الشهادة عليه مثل أن يجد بخطه دينا له على إنسان وهو يعرف أنه لا يكتب إلا حقا, ولم يذكره أو يجد في رزمانج أبيه بخطه دينا له على إنسان ويعرف من أبيه الأمانة, وأنه لا يكتب إلا حقا فله أن يحلف عليه ولا يجوز أن يشهد به, ولو أخبره بحق أبيه ثقة فسكن إليه جاز أن يحلف عليه, ولم يجز له أن يشهد به وبهذا قال الشافعي والفرق بين اليمين والشهادة من وجهين أحدهما أن الشهادة لغيره فيحتمل أن من له الشهادة قد زور على خطه, ولا يحتمل هذا فيما يحلف عليه لأن الحق إنما هو للحالف فلا يزور أحد عليه الثاني أن ما يكتبه الإنسان من حقوقه يكثر فينسى بعضه, بخلاف الشهادة. وكل موضع قبل فيه الشاهد واليمين فلا فرق بين كون المدعي مسلما أو كافرا عدلا أو فاسقا, رجلا أو امرأة نص عليه أحمد لأن من شرعت في حقه اليمين لا يختلف حكمه باختلاف هذه الأوصاف كالمنكر إذا لم تكن بينة. قال أحمد: مضت السنة أن يقضى باليمين مع الشاهد الواحد فإن أبى أن يحلف, استحلف المطلوب وهذا قول مالك والشافعي يروى عن أحمد: فإن أبى المطلوب أن يحلف ثبت الحق عليه. ولا تقبل شهادة امرأتين ويمين المدعي. وبه قال الشافعي. وقال مالك: يقبل ذلك في الأموال؛ لأنهما في الأموال أقيمتا مقام الرجل، فحلف معهما، كما يحلف مع الرجل. ولنا، أن البينة على المال إذا خلت من رجل لم تقبل، كما لو شهد أربع نسوة. وما ذكروه يبطل بهذه الصورة، فإنهما لو أقيمتا مقام رجل من كل وجه، لكفى أربع نسوة مقام رجلين، ولقبل في غير الأموال شهادة رجل وامرأتين، ولأن شهادة المرأتين ضعيفة، تقوت بالرجل، واليمين ضعيفة، فيضم ضعيف إلى ضعيف، فلا يقبل. إذا ادعى رجل على رجل أنه سرق نصابا من حرزه, وأقام بذلك شاهدا وحلف معه أو شهد له بذلك رجل وامرأتان وجب له المال المشهود به إن كان باقيا, أو قيمته إن كان تالفا ولا يجب القطع لأن هذه حجة في المال دون القطع وإن ادعى على رجل أنه قتل وليه عمدا فأقام شاهدا وامرأتين, أو حلف مع شاهده لم يثبت قصاص ولا دية والفرق بين المسألتين أن السرقة توجب القطع والغرم معا فإذا لم يثبت أحدهما ثبت الآخر, والقتل العمد موجبه القصاص عينا في إحدى الروايتين والدية بدل عنه, ولا يجب البدل ما لم يوجد المبدل وفي الرواية الأخرى الواجب أحدهما لا بعينه فلا يجوز أن يتعين أحدهما إلا بالاختيار, أو التعذر ولم يوجد واحد منهما وقال ابن أبي موسى: لا يجب المال في السرقة أيضا إلا بشاهدين لأنها شهادة على فعل يوجب الحد والمال فإذا بطلت في إحداهما بطلت في الأخرى والأول أولى لما ذكرناه وإن ادعى رجل على رجل أنه ضرب أخاه بسهم عمدا فقتله, ونفذ إلى أخيه الآخر فقتله خطأ وأقام بذلك شاهدا وامرأتين أو شاهدا وحلف معه, ثبت قتل الثاني لأنه خطأ موجبه المال ولم يثبت قتل الأول لأنه عمد موجبه القصاص فهما كالجنايتين المفترقتين وعلى قول أبي بكر, لا يثبت شيء منهما لأن الجناية عنده لا تثبت إلا بشاهدين سواء كان موجبها المال أو غيره ولو ادعى رجل على آخر أنه سرق منه وغصبه مالا فحلف بالطلاق والعتاق ما سرق منه ولا غصبه, فأقام المدعي شاهدا وامرأتين شهدا بالسرقة والغصب أو أقام شاهدا وحلف معه استحق المسروق والمغصوب لأنه أتى ببينة يثبت ذلك بمثلها, ولم يثبت طلاق ولا عتاق لأن هذه البينة حجة في المال دون الطلاق والعتاق وظاهر مذهب الشافعي في هذا الفصل كمذهبنا إلا فيما ذكرناه من الخلاف عن أصحابنا. ولو ادعى جارية في يد رجل أنها أم ولده وأن ابنها ابنه منها, ولد في ملكه وأقام بذلك شاهدا وامرأتين أو حلف مع شاهده حكم له بالجارية لأن أم الولد مملوكة له, ولهذا يملك وطأها وإجارتها وتزويجها ويثبت لها حكم الاستيلاد بإقراره لأن إقراره ينفذ في ملكه والملك يثبت بالشاهد والمرأتين, والشاهد واليمين ولا يحكم له بالولد لأنه يدعي نسبه والنسب لا يثبت بذلك ويدعي حريته أيضا, فعلى هذا يقر الولد في يد المنكر مملوكا له وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر: يأخذها وولدها ويكون ابنه لأن من ثبتت له العين ثبت له نماؤها, والولد نماؤها وذكر أبو الخطاب فيها عن أحمد روايتين كقولي الشافعي ولنا أنه لم يدع الولد ملكا, وإنما يدعي حريته ونسبه وهذان لا يثبتان بهذه البينة فيبقيان على ما كانا عليه. وإن ادعى رجل أنه خالع امرأته, فأنكرت ثبت ذلك بشاهد وامرأتين أو يمين المدعي لأنه يدعي المال الذي خالعت به, وإن ادعت ذلك المرأة لم يثبت إلا بشهادة رجلين لأنها لا تقصد منه إلا الفسخ وخلاصها من الزوج ولا يثبت ذلك إلا بهذه البينة. قال: [ ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال مثل الرضاع, والولادة والحيض والعدة, وما أشبهها شهادة امرأة عدل ] لا نعلم بين أهل العلم خلافا في قبول شهادة النساء المنفردات في الجملة قال القاضي: والذي تقبل فيه شهادتهن منفردات خمسة أشياء الولادة والاستهلال, والرضاع والعيوب تحت الثياب كالرتق والقرن والبكارة والثيابة والبرص وانقضاء العدة وعن أبي حنيفة: لا تقبل شهادتهن منفردات على الرضاع لأنه يجوز أن يطلع عليه محارم المرأة من الرجال, فلم يثبت بالنساء منفردات كالنكاح ولنا ما روى عقبة بن الحارث, قال: (تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب فأتت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له, فأعرض عني ثم أتيته فقلت: يا رسول الله إنها كاذبة قال: كيف, وقد زعمت ذلك) متفق عليه ولأنها شهادة على عورة للنساء فيها مدخل فقبل فيها شهادة النساء كالولادة وتخالف العقد, فإنه ليس بعورة وحكى عن أبي حنيفة أيضا أن شهادة النساء المنفردات لا تقبل في الاستهلال لأنه يكون بعد الولادة وخالفه صاحباه وأكثر أهل العلم لأنه يكون حال الولادة, فيتعذر حضور الرجال فأشبه الولادة نفسها وقد روي عن علي -رحمه الله- , أنه أجاز شهادة القابلة وحدها في الاستهلال رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور إلا أنه من حديث جابر الجعفي وأجازه شريح والحسن, والحارث العكلي وحماد. إذا ثبت هذا فكل موضع قلنا: تقبل فيه شهادة النساء المنفردات فإنه تقبل فيه شهادة المرأة الواحدة وقال طاووس: تجوز شهادة المرأة في الرضاع, وإن كانت سوداء وعن أحمد رواية أخرى: لا تقبل فيه إلا امرأتان وهو قول الحكم وابن أبي ليلى, وابن شبرمة وإليه ذهب مالك والثوري لأن كل جنس يثبت به الحق كفى فيه اثنان كالرجال, ولأن الرجال أكمل منهن عقلا ولا يقبل منهم إلا اثنان وقال عثمان البتي: يكفى ثلاث لأن كل موضع قبل فيه النساء كان العدد ثلاثة, كما لو كان معهن رجل وقال أبو حنيفة: تقبل شهادة المرأة الواحدة في ولادة الزوجات دون ولادة المطلقة وقال عطاء والشعبي وقتادة, والشافعي وأبو ثور: لا يقبل فيه إلا أربع لأنها شهادة من شرطها الحرية فلم يقبل فيها الواحدة, كسائر الشهادات ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (شهادة امرأتين بشهادة رجل) ولنا ما روى عقبة بن الحارث, أنه قال: (تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما, فجئت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكرت له ذلك فأعرض عني ثم ذكرت له ذلك فقال: وكيف, وقد زعمت ذلك) متفق عليه وروى حذيفة (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أجاز شهادة القابلة) ذكره الفقهاء في كتبهم وروى أبو الخطاب عن ابن عمر, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يجزئ في الرضاع شهادة امرأة واحدة) ولأنه معنى يثبت بقول النساء المنفردات فلا يشترط فيه العدد كالرواية وأخبار الديانات وما ذكره الشافعي من اشتراط الحرية, غير مسلم وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (شهادة امرأتين بشهادة رجل في الموضع الذي تشهد فيه مع الرجل) فإن شهد الرجل بذلك فقال أبو الخطاب: تقبل شهادته وحده لأنه أكمل من المرأة فإذا اكتفى بها وحدها, فلأن يكتفى به أولى ولأن ما قبل فيه قول المرأة الواحدة قبل فيه قول الرجل, كالرواية. قال: [ ومن لزمته الشهادة فعليه أن يقوم بها على القريب والبعيد لا يسعه التخلف عن إقامتها وهو قادر على ذلك ] وجملته أن أداء الشهادة من فروض الكفايات, فإن تعينت عليه بأن لا يتحملها من يكفي فيها سواه لزمه القيام بها وإن قام بها اثنان غيره, سقط عنه أداؤها إذا قبلها الحاكم فإن كان تحملها جماعة فأداؤها واجب على الكل, إذا امتنعوا أثموا كلهم كسائر فروض الكفايات ودليل وجوبها قول الله تعالى:
ومن له كفاية, فليس له أخذ الجعل على الشهادة لأنه أداء فرض فإن فرض الكفاية إذا قام به البعض وقع منهم فرضا وإن لم تكن له كفاية ولا تعينت عليه حل له أخذه والنفقة على عياله فرض عين, فلا يشتغل عنه بفرض الكفاية فإذا أخذ الرزق جمع بين الأمرين وإن تعينت عليه الشهادة احتمل ذلك أيضا, واحتمل أن لا يجوز لئلا يأخذ العوض عن أداء فرض عين وقال أصحاب الشافعي: لا يجوز أخذ الأجرة لمن تعينت عليه وهل يجوز لغيره؟ على وجهين. قال: [ وما أدركه من الفعل نظرا أو سمعه تيقنا, وإن لم ير المشهود عليه شهد به ] وجملة ذلك أن الشهادة لا تجوز إلا بما علمه بدليل قوله تعالى:
إذا عرف المشهود عليه باسمه وعينه ونسبه جاز أن يشهد عليه, حاضرا كان أو غائبا وإن لم يعرف ذلك لم يجز أن يشهد عليه مع غيبته, وجاز أن يشهد عليه حاضرا بمعرفة عينه نص عليه أحمد قال مهنا: سألت أحمد عن رجل شهد لرجل بحق له على رجل وهو لا يعرف اسم هذا ولا اسم هذا, إلا أنه يشهد له فقال: إذا قال: أشهد أن لهذا على هذا وهما شاهدان جميعا فلا بأس, وإن كان غائبا فلا يشهد حتى يعرف اسمه. والمرأة كالرجل في أنه إذا عرفها وعرف اسمها ونسبها, جاز أن يشهد عليها مع غيبتها وإن لم يعرفها لم يشهد عليها مع غيبتها قال أحمد في رواية الجماعة: لا تشهد إلا لمن تعرف, وعلى من تعرف ولا يشهد إلا على امرأة قد عرفها وإن كانت ممن قد عرف اسمها, ودعيت وذهبت وجاءت, فليشهد وإلا فلا يشهد فأما إن لم يعرفها, فلا يجوز أن يشهد مع غيبتها ويجوز أن يشهد على عينها إذا عرف عينها ونظر إلى وجهها قال أحمد ولا يشهد على امرأة حتى ينظر إلى وجهها وهذا محمول على الشهادة على من لم يتيقن معرفتها فأما من تيقن معرفتها, وتعرف بصوتها يقينا فيجوز أن يشهد عليها إذا تيقن صوتها على ما قدمناه في المسألة قبلها فإن لم يعرف المشهود عليه, فعرفه عنده من يعرفه فقد روي عن أحمد أنه قال: لا يشهد على شهادة غيره إلا بمعرفته لها وقال: لا يجوز للرجل أن يقول للرجل: أنا أشهد أن هذه فلانة ويشهد على شهادته وهذا صريح في المنع من الشهادة على من لا يعرفه بتعريف غيره وقال القاضي: يجوز أن يحمل هذا على الاستحباب, لتجويزه الشهادة بالاستفاضة وظاهر قوله المنع منه وقال أحمد: لا يشهد على امرأة إلا بأذن زوجها وهذا يحتمل أنه لا يدخل عليها بيتها ليشهد عليها إلا بإذن زوجها لما روى عمرو بن العاص قال: (نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يستأذن على النساء إلا بإذن أزواجهن) رواه أحمد في " مسنده " فأما الشهادة عليها في غير بيتها فجائزة لأن إقرارها صحيح وتصرفها إذا كانت رشيدة صحيح, فجاز أن يشهد عليها به.
وإذا عرف الشاهد خطه ولم يذكر أنه شهد به فهل يجوز له أن يشهد بذلك؟ فيه روايتان إحداهما, لا يجوز أن يشهد بها قال أحمد في رواية حرب في من يرى خطه وخاتمه ولا يذكر الشهادة قال: لا يشهد إلا بما يعلم وقال في رواية غيره: يشهد إذا عرف خطه, وكيف تكون الشهادة إلا هكذا؟ وقال في موضع آخر: إذا عرف خطه ولم يحفظ فلا يشهد, إلا أن يكون منسوخا عنده موضوعا تحت ختمه وحرزه فيشهد, وإن لم يحفظ وقال أيضا: إذا كان رديء الحفظ فيشهد ويكتبها عنده وهذه رواية ثالثة وهو أن يشهد إذا كانت مكتوبة عنده بخطه في حرزه, ولا يشهد إذا لم تكن كذلك بمنزلة القاضي في إحدى الروايتين, إذا وجد حكمه بخطه تحت ختمه أمضاه ولا يمضيه إذا لم يكن كذلك.
قال: [ وما تظاهرت به الأخبار واستقرت معرفته في قلبه, شهد به كالشهادة على النسب والولادة ] هذا النوع الثاني من السماع وهو ما يعلمه بالاستفاضة وأجمع أهل العلم على صحة الشهادة بها في النسب والولادة قال ابن المنذر: أما النسب فلا أعلم أحدا من أهل العلم منع منه, ولو منع ذلك لاستحالت معرفة الشهادة به إذ لا سبيل إلى معرفته قطعا بغيره ولا تمكن المشاهدة فيه, ولو اعتبرت المشاهدة لما عرف أحد أباه ولا أمه, ولا أحدا من أقاربه وقال: قال الله تعالى: فإن كان في يد رجل دار أو عقار يتصرف فيها تصرف الملاك بالسكنى والإعارة, والإجارة والعمارة والهدم, والبناء من غير منازع فقال أبو عبد الله بن حامد: يجوز أن يشهد له بملكها وهو قول أبي حنيفة, والإصطخري من أصحاب الشافعي قال القاضي: ويحتمل أن لا يشهد إلا بما شاهده من الملك واليد والتصرف لأن اليد ليست منحصرة في الملك قد تكون بإجارة وإعارة وغصب وهذا قول بعض أصحاب الشافعي ووجه الأول, أن اليد دليل الملك واستمرارها من غير منازع يقويها فجرت مجرى الاستفاضة, فجاز أن يشهد بها كما لو شاهد سبب اليد من بيع, أو إرث أو هبة واحتمال كونها عن غصب أو إجارة يعارضه استمرار اليد من غير منازع, فلا يبقى مانعا كما لو شاهد سبب اليد فإن احتمال كون البائع غير مالك والوارث والواهب, لا يمنع الشهادة كذا ها هنا فإن قيل: فإذا بقي الاحتمال لم يحصل العلم ولا تجوز الشهادة إلا بما يعلم قلنا: الظن يسمى علما قال الله تعالى:
وإذا سمع رجلا يقول لصبي: هذا ابني جاز أن يشهد به لأنه مقر بنسبه وإن سمع الصبي يقول: هذا أبي والرجل يسمعه فسكت جاز أن يشهد أيضا لأن سكوت الأب إقرار له والإقرار يثبت النسب, فجازت الشهادة به وإنما أقيم السكوت ها هنا مقام الإقرار لأن الإقرار على الانتساب الباطل جائز بخلاف سائر الدعاوى, ولأن النسب يغلب فيه الإثبات ألا ترى أنه يلحق بالإمكان في النكاح وذكر أبو الخطاب أنه يحتمل أن لا يشهد مع السكوت حتى يتكرر لأن السكوت ليس بإقرار حقيقي وإنما أقيم مقامه, فاعتبرت تقويته بالتكرار كما اعتبرت تقوية اليد في العقار بالاستمرار.
وإذا شهد عدلان أن فلانا مات وخلف من الورثة فلانا وفلانا, لا نعلم له وارثا غيرهما قبلت شهادتهما وبهذا قال: أبو حنيفة ومالك, والشافعي والعنبري وقال ابن أبي ليلى: لا تقبل حتى يبينا أنه لا وارث له سواهما ولنا أن هذا مما لا يمكن علمه, فيكفي فيه الظاهر مع شهادة الأصل بعدم وارث آخر قال أبو الخطاب: سواء كانا من أهل الخبرة الباطنة أو لم يكونا ويحتمل أن لا تقبل إلا من أهل الخبرة الباطنة لأن عدم علمهم بوارث آخر ليس بدليل على عدمه, بخلاف أهل الخبرة الباطنة فإن الظاهر أنه لو كان له وارث آخر لم يخف عليهم وهذا قول الشافعي فأما إن قالا: لا نعلم له وارثا بهذه البلدة, أو بأرض كذا وكذا لم تقبل وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف, ومحمد وقال أبو حنيفة: يقضى به كما لو قالا: لا نعلم له وارثا وذكر ذلك مذهبا لأحمد أيضا ولنا أن هذا ليس بدليل على عدم الوارث لأنهما قد يعلمان أنه لا وارث له في تلك الأرض, ويعلمان له وارثا في غيرها فلم تقبل شهادتهما كما لو قالا: لا نعلم له وارثا في هذا البيت.
قال: [ من لم يكن من الرجال والنساء عاقلا, مسلما بالغا عدلا, لم تجز شهادته ] وجملته أن يعتبر في الشاهد سبعة شروط أحدها أن يكون عاقلا ولا تقبل شهادة من ليس بعاقل, إجماعا قاله ابن المنذر وسواء ذهب عقله بجنون أو سكر أو طفولية وذلك لأنه ليس بمحصل ولا تحصل الثقة بقوله ولأنه لا يأثم بكذبه, ولا يتحرز منه الثاني أن يكون مسلما ونذكر هذا فيما بعد -إن شاء الله تعالى- الثالث, أن يكون بالغا فلا تقبل شهادة صبي لم يبلغ بحال يروى هذا عن ابن عباس وبه قال القاسم, وسالم وعطاء ومكحول, وابن أبي ليلى والأوزاعي والثوري, والشافعي وإسحاق وأبو عبيد, وأبو ثور وأبو حنيفة وأصحابه وعن أحمد -رحمه الله- , رواية أخرى أن شهادتهم تقبل في الجراح إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحالة التي تجارحوا عليها, وهذا قول مالك لأن الظاهر صدقهم وضبطهم فإن تفرقوا لم تقبل شهادته لأنه يحتمل أن يلقنوا ابن الزبير: إن أخذوا عند مصاب ذلك فبالأحرى أن يعقلوا ويحفظوا وعن الزهري, أن شهادتهم جائرة ويستحلف أولياء المشجوج وذكره عن مروان وروي عن أحمد رواية ثالثة, أن شهادته تقبل إذا كان ابن عشر قال ابن حامد: فعلى هذه الرواية تقبل شهادتهم في غير الحدود والقصاص كالعبيد وروي عن علي رضي الله عنه أن شهادة بعضهم تقبل على بعض وروي ذلك عن شريح, والحسن والنخعي قال إبراهيم: كانوا يجيزون شهادة بعضهم على بعض فيما كان بينهم قال المغيرة: وكان أصحابنا لا يجيزون شهادتهم على رجل ولا على عبد وروى الإمام أحمد, بإسناده عن مسروق قال: كنا عند على فجاءه خمسة غلمة فقالوا: إنا كنا ستة غلمة نتغاط, فغرق منا غلام فشهد الثلاثة على الاثنين أنهما غرقاه وشهد الاثنان على الثلاثة أنهم غرقوه فجعل على الاثنين ثلاثة أخماس الدية, وجعل على الثلاثة خمسيها وقضى بنحو هذا مسروق والمذهب أن شهادتهم لا تقبل في شيء لقول الله تعالى: ظاهر كلام الخرقي أن شهادة البدوي على من هو من أهل القرية وشهادة أهل القرية على البدوي, صحيحة إذا اجتمعت هذه الشروط وهو قول ابن سيرين وأبي حنيفة والشافعي, وأبي ثور واختاره أبو الخطاب وقال الإمام أحمد: أخشى أن لا تقبل شهادة البدوي على صاحب القرية فيحتمل هذا أن لا تقبل شهادته وهو قول جماعة من أصحابنا ومذهب أبي عبيد وقال مالك كقول أصحابنا فيما عدا الجراح, وكقول الباقين في الجراح احتياطا للدماء واحتج أصحابنا بما روى أبو داود في " سننه " عن أبي هريرة, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية) ولأنه متهم حيث عدل عن أن يشهد قرويا ويشهد بدويا قال أبو عبيد: ولا أرى شهادتهم ردت إلا لما فيهم من الجفاء بحقوق الله تعالى والجفاء في الدين ولنا, أن من قبلت شهادته على أهل البدو قبلت شهادته على أهل القرية كأهل القري, ويحمل الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو ونخصه بهذا لأن الغالب أنه لا يكون له من يسأله الحاكم فيعرف عدالته.
|