الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)} هذا استمرار على وصف آيات الله والتنبيه على صنعته الدالة على الصانع، وهذه الآية تقتضي أن «الضياء» أعظم من «النور» وأبهى بحسب {الشمس} و{القمر}، ويلحق ها هنا اعتراض وهو أنّا وجدنا الله تعالى شبه هداه ولطفه بخلقه بالنور فقال {الله نور السماوات والأرض} [النور: 35]، وهذا يقتضي أن النور أعظم هذه الأشياء وأبلغها في الشروق وإلا فلم ترك التشبيه إلا على الذي هو «الضياء» وعدل إلى الأقل الذي هو «النور» فالجواب عن هذا والانفصال: أن تقول إن لفظة النور أحكم وأبلغ في قوله {الله نور السموات والارض} [النور: 35]، وذلك أنه تعالى شبه هداه ولطفه الذي نصبه لقوم يهتدون وآخرين يضلون مع النور الذي هو أبداً موجود في الليل وأثناء الظلام، ولو شبهه بالضياء لوجب أن لا يضل أحد إذ كان الهدى يكون مثل الشمس التي لا تبقى معها ظلمة، فمعنى الآية أن الله تعالى قد جعل هداه في الكفر كالنور في الظلام فيهتدي قوم ويضل آخرين، ولو جعله كالضياء لوجب أن لا يضل أحد وبقي الضياء على هذا الانفصال أبلغ في الشروق كما اقتضت آيتنا هذه والله عز وجل هو ضياء السماوات والأرض ونورها وقيومها، ويحتمل أن يعترض هذا الانفصال والله المستعان، وقوله: {وقدره منازل} يريد البروج المذكورة في غير هذه الآية، وأما الضمير الذي رده على {القمر} وقد تقدم ذكر {الشمس} معه فيحتمل أن يريد بالضمير «القمر» وحده لأنه هو المراعى في معرفة {عدد السنين والحساب} عند العرب ويحتمل أن يريدهما معاً بحسب أنهما يتصرفان في معرفة عدد السنين والحساب عند العرب. لكنه اجتزأ بذكر الواحد كما قال {والله ورسوله أحق أن يرضوه} [التوبة: 62] وكما قال الشاعر [أبو حيان]: [الطويل] رماني بذنب كنت منه ووالدي *** بريّاً ومن أجل الطويّ رماني قال الزجّاج وكما قال الآخر: [المنسرح] نحن بما عندنا وأنت بما عن *** دك راضٍ والرأي مختلفُ وقوله {لتعلموا} المعنى قدر هذين النيرين، {منازل} لكي {تعلموا} بها، {عدد السنين والحساب} رفقاً بكم ورفعاً للالتباس في معاشكم وتجركم وإجاراتكم وغير ذلك مما يضطر فيه إلى معرفة التواريخ، وقوله {ما خلق الله ذلك إلا بالحق} أي للفائدة: لا للعب والإهمال فهي إذاً يحق أن تكون كما هي، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص «يفصل الآيات»، وقرأ ابن كثير أيضاً وعاصم والباقون والأعرج وأبو جعفر وشيبة وأهل مكة والحسن والأعمش «نفصل» بنون العظمة، وقوله {لقوم يعلمون} إنما خصهم لأن نفع التفصيل فيهم ظهر وعليهم أضاء وإن كان التفصيل إنما وقع مجملاً للكل معداً ليحصله الجميع، وقرأ جمهور السبعة وقد رويت عن ابن كثير «ضياء»، وقرأ ابن كثير وحده فيما روي أيضاً عنه «ضئاء» بهمزتين، وأصله ضياء فقلبت فجاءت ضئائاً، فقلبت الياء همزة لوقوعها بين ألفين، وقال أبو علي: وهي غلط، وقوله تعالى {إن في اختلاف الليل والنهار} الآية، آية اعتبار وتنبيه، ولفظه الاختلاف تعم تعاقب الليل والنهار وكونهما خلفه وما يتعاورانه من الزيادة والنقص وغير ذلك من لواحق سير الشمس وبحسب أقطار الأرض، قوله {وما خلق الله في السماوات والأرض} لفظ عام لجميع المخلوقات، و«الآيات» العلامات والدلائل، وخصص «القوم المتقين» تشريفاً لهم إذ الاعتبار فيهم يقع ونسبتهم إلى هذه الأشياء المنظور فيها أفضل من نسبة من لم يهتد ولا اتقى.
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)} قال أبو عبيدة وتابعه القتبي وغيره، {يرجون} في هذه الآية بمعنى يخافون واحتجوا ببيت أبي ذؤيب: [الطويل] إذا لسعته النحل لم يرج لسعها *** وخالفها في بيت نوب عواسل وحكى المهدوي عن بعض أهل اللغة وقال ابن سيده والفراء: إن لفظة الرجاء إذا جاءت منفية فإنها تكون بمعنى الخوف، وحكي عن بعضهم أنها تكون بمعناها في كل موضع تدل عليه قرائن ما قبله وما بعده، فعلى هذا التأويل معنى الآية: إن الذين لا يخافون لقاءنا، وقال ابن زيد: هذه الآية في الكفار، وقال بعض أهل العلم: «الرجاء» في هذه الآية على بابه، وذلك أن الكافر المكذب بالبعث ليس يرجو رحمة في الآخرة ولا يحسن ظناً بأنه يلقى الله ولا له في الآخرة أمل، فإنه لو كان له فيها أمل لقارنه لا محالة خوف، وهذه الحال من الخوف المقارن هي الفائدة إلى النجاة، والذي أقول: إن الرجاء في كل موضع على بابه وإن بيت الهذلي معناه لم يرج فقد لسعها فهو يبني عليه ويصبر إذ يعلم أنه لا بد منه، وقوله {ورضوا بالحياة الدنيا} يريد كانت آخر همهم ومنتهى غرضهم، وأسند الطبري عن قتادة أنه قال في تفسير هذه الآية: إذا شئت رأيت هذا الموصوف، صاحب دنيا لها يغضب ولها يرضى ولها يفرح ولها يهتم ويحزن، فكأن قتادة صورها في العصاة ولا يترتب ذلك إلا مع تأول الرجاء على بابه، إذ قد يكون العاصي المجلح مستوحشاً من آخرته، فأما على التأويل الأول فمن لا يخاف لقاء الله فهو كافر، وقوله {واطمأنوا بها} تكميل في معنى القناعة بها والرفض لغيرها وأن الطمأنينة بالشيء هي زوال التحرّك إلى غيره، وقوله {والذين هم عن آياتنا غافلون} يحتمل أن يكون ابتداء إشارة إلى فرقة أخرى من الكفار وهؤلاء على هذا التأويل أضل صفقة لأنهم ليسوا أهل دنيا بل غفلة فقط، ثم حتم عليهم بالنار وجعلها {مأواهم}، وهو حيث يأوي الإنسان ويستقر، ثم جعل ذلك بسبب كسبهم واجتراحهم، وفي هذه اللفظة رد على الجبرية ونص على تعلّق العقاب بالتكسب الذي للإنسان، وقوله تعالى: {إن الذين آمنوا}. الآية لما قرر تبارك وتعالى حالة الفرقة الهالكة عقب ذلك بذكر حالة الفرقة الناجية ليتضح الطريقان ويرى الناظر فرق ما بين الهدى والضلال، وهذا كله لطف منه بعباده، وقوله {يهديهم} لا يترتب أن يكون معناه يرشدهم إلى الإيمان لأنه قد قررهم مؤمنين فإنما الهدى في هذه الآية على أحد وجهين: إما أن يريد أنه يديمهم ويثبتهم، كما قال {يا أيها الذين آمنوا آمنوا} [النساء: 136] فإنما معناه اثبتوا، وإما أن يريد يرشدهم إلى طرق الجنان في الآخرة، وقوله: {بإيمانهم} يحتمل أن يريد بسبب إيمانهم ويكون مقابلاً لقوله قبل {مأواهم النار بما كانوا يكسبون}، ويحتمل أن يكون الإيمان هو نفس الهدى، أي يهديهم إلى طرق الجنة بنور إيمانهم، قال مجاهد: يكون لهم إيمانهم نوراً يمشون به ويتركب هذا التأويل على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد المؤمن إذا قام من قبره للحشر تمثل له رجل جميل الوجه طيب الرائحة فيقول: من أنت؟ فيقول أنا عملك الصالح فيقوده إلى الجنة، وبعكس هذا في الكافر»، ونحو هذا مما أسنده الطبري وغيره وقوله {تجري من تحتهم الأنهار} يريد من تحت علياتهم وغرفهم وليس التحت الذي هو بالمما سة بل يكون إلى الناحية من الإنسان كما قال تعالى: {جعل ربك تحتك سرياً} [مريم: 24] وكما قال حكاية عن فرعون {وهذه الأنهار تجري من تحتي} [الزخرف: 51] وقوله {دعواهم} الآية، الدعوى بمعنى الدعاء يقال دعا الرجل وادعى بمعنى واحد، قاله سيبويه، {وسبحانك اللهم} تقديس وتسبيح وتنزيه لجلاله عن كل ما لا يليق به، وقال علي بن أبي طالب في ذلك: هي كلمات رضيها الله تعالى لنفسه، وقال طلحة بن عبيد الله: قلت يا رسول الله، ما معنى سبحان الله؟ فقال: معناها تنزيه الله من السوء، وقد تقدم ذكر خلاف النحاة في {اللهم}، وحكي عن بعض المفسرين أنهم رأوا أن هذه الكلمة إنما يقولها المؤمن في الجنة عندما يشتهي الطعام فإنه إذا رأى طائراً أو غير ذلك قال: {سبحانك اللهم} فنزلت تلك الإرادة بين يديه فوق ما اشتهى، رواه ابن جريج وسفيان بن عيينة، وقوله {وتحيتهم فيها سلام} يريد تسليم بعضهم على بعض، و«التحية» مأخوذة من تمني الحياة للإنسان والدعاء بها، يقال حياه يحييه، ومنه قول زهير بن جناب: [مجزوء الكامل] من كل ما نال الفتى *** قد نلته إلا التحية يريد دعاء الناس للملوك بالحياة، وقد سمي الملك تحية بهذا التدريج ومنه قول عمرو بن معديكرب: أزور أبا قابوس حتى *** أنيخ على تحيته بجندي أراد علي مملكته وقال بعض العلماء {وتحيتهم} يريد أن تسليم الله عز وجل عليهم، و«السلام» مأخوذ من السلامة، وقوله {وآخر دعواهم} يريد وخاتمة دعواهم في كل موطن وكلامهم شكر الله تعالى وحمده على سابغ نعمه، وكانت بدأتهم بالتنزيه والتعظيم، وقرأ جمهور الناس «أن الحمد لله» وهي عند سيبويه «أن» المخففة من الثقيلة، وقرأ ابن محيصن وبلال بن أبي بردة ويعقوب وأبو حيوة «أنّ الحمد لله»، وهي على الوجهين رفع على خبر الابتداء، قال أبو الفتح: هذه القراءة تدل على أن قراءة الجماعة هي أن المخففة من الثقيلة بمنزلة الأعشى: [البسيط] في فتية كسيوف الهند قد علموا *** أنْ هالك كلُّ من يحفى وينتعل {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)} هذه الآية قال مجاهد نزلت في دعاء الرجل على نفسه أو ماله أو ولده ونحو هذا، فأخبر الله تعالى أنه لو فعل مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم، ثم حذف بعد ذلك من القول جملة يتضمنها الظاهر، تقديرها ولا يفعل ذلك ولكن يذر الذين لا يرجون فاقتضب القول وتوصّل إلى هذا المعنى بقوله {فنذر الذين لا يرجون لقاءنا} فتأمل هذا التقدير تجده صحيحاً، و{استعجالهم} نصب على المصدر، والتقدير مثل استعجالهم، وقيل: التقدير تعجيلاً مثل استعجالهم، وهذا قريب من الأول، وقيل إن هذه الآية نزلت في قوله {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} [الأنفال: 32] وقيل نزلت في قوله {آتنا بما تعدنا} [الأعراف: 77] وما جرى مجراه، وقرأ جمهور القراء «لقُضي» على بناء الفعل للفاعل ورفع «الأجلُ» وقرأ ابن عامر وحده وعوف وعيسى بن عمر ويعقوب، «لقضى» على بناء الفعل للفاعل ونصب «الأجلَ»، وقرأ الأعمش: «لقضينا»، و«الأجل» في هذا الموضع أجل الموت، ومعنى قضى في هذه الآية أكمل وفرغ، ومنه قول أبي ذؤيب: [الكامل] وعليهما مسرودتان قضاهما *** داودُ أوْ صَنَعُ السوابغِ تبع وأنشد أبو علي في هذا المعنى: [الطويل] قضيت أموراً ثم غادرت بعدها *** فوائح في أكمامها لم تفتق وتعدّى «قضى» في هذه الآية ب «إلى» لما كان بمعنى فرغ، وفرغ يتعدى بإلى ويتعدى باللام، فمن ذلك قول جرير: ألانَ فقد فرغت إلى نُمَير *** فصرت على جماعتها عذابا ومن الآخر قوله عز وجل {سنفرغ لكم أيه الثقلان} [الرحمن: 31] وقرأ الأعمش: «فنذر الذين لا يرجون لقاءنا»، و{يرجون} في هذا الموضع على بابها والمراد الذين لا يؤمنون بالبعث فهم لا يرجون لقاء الله، والرجاء مقترن أبداً بخوف، «والطغيان» الغلو في الأمر وتجاوز الحد، و«العمه» الخبط في ضلال، فهذه الآية نزلت ذامة لخلق ذميم هو في الناس، يدعون في الخير فيريدون تعجيل الإجابة فيحملهم أحياناً سوء الخلق على الدعاء في الشر، فلو عجل لهم لهلكوا، وقوله تعالى: {وإذا مسّ الإنسان الضر} الآية، هذه الآية أيضاً عتاب على سوء الخلق من بعض الناس، ومضمنه النهي عن مثل هذا والأمر بالتسليم إلى اللع تعالى والضراعة إليه في كل حال والعلم بأن الخير والشر منه لا رب غيره، وقوله {لجنبه} في موضع حال كأنه قال: مضطجعاً، ويجوز أن يكون حالاً من الإنسان والعامل فيه {مس}، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير الفاعل في {دعانا} والعامل فيه دعا وهما معنيان متباينان، و{الضر} لفظ لجميع الأمراض، والرزايا في النفس والمال والأحبة هذا قول اللغويين، وقيل هو مختص برازيا البدن، الهزال والمرض، وقوله {مر} يقتضي أن نزولها في الكفار ثم هي بعد تتناول كل من دخل تحت معناها من كافر أو عاص، فمعنى الآية {مر} في إشراكه بالله وقلة توكله عليه، وقوله {زين} إن قدرناه من الله تعالى فهو خلقه الكفر لهم واختراعه في نفوسهم صحبة أعمالهم الفاسدة ومثابرتهم عليها، وإن قدرنا ذلك من الشيطان فهو بمعنى الوسوسة والمخادعة، ولفظة التزيين قد جاءت في القرآن بهذين المعنيين من فعل الله تعالى ومرة من فعل الشياطين.
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} هذه الآية وعيد للكفار وضرب أمثال لهم، أي كما فعل هؤلاء فعلكم فكذلك يفعل بكم ما فعل بهم، وقوله، {وما كانوا ليؤمنوا} إخبار عن قسوة قلوبهم وشدّة كفرهم، وقرأ جمهور السبعة وغيرهم: «نجزي» بنون الجماعة، وفرقة «يجزي» بالياء على معنى يجزي الله، و{خلائف} جمع خليفة، وقوله {لننظر} معناه لنبين في الوجود ما علمناه أزلاً، لكن جرى القول على طريق الإيجاز والفصاحة والمجاز، وقرأ يحيى بن الحارث وقال: رأيتها في الإمام مصحف عثمان، «لنظر» بإدغام النون في الظاء، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الله تعالى إنما جعلنا خلفاء لينظر كيف عملنا فأروا الله حسن أعمالكم في السر والعلانية، وكان أيضاً يقول: قد استخلفت يا ابن الخطاب فانظر كيف تعمل؟ وأحيانا كان يقول قد استخلفت يا ابن أم عمر، قوله تعالى {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} الآية، هذه الآية نزلت في قريش لأن بعض كفارهم قال هذه المقالة على معنى ساهلنا يا محمد واجعل هذا الكلام الذي هو من قبلك على اختيارنا وأحل ما حرمته وحرم ما حللته ليكون أمرنا حينئذ واحداً وكلمتنا متصلة، فذم الله هذه الصنعة وذكرهم بأنهم يقولون هذا للآيات البيّنات، ووصفهم لأنهم لا يؤمنون بالبعث، ثم أمر الله نبيه عليه السلام أن يرد عليهم بالحق الواضح وأن يستسلم ويتبع حكم الله تعالى ويعلم بخوفه ربه، و«اليوم العظيم» يوم القيامة.
{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} هذه من كمال الحجة أي هذا الكلام ليس من قبلي ولا من عندي وإنما هو من عند الله، ولو شاء ما بعثني به ولا تلوته عليكم ولا أعلمتكم به، و{أدراكم} بمعنى أعلمكم يقال دريت بالأمر وأدريت غيري، وهذه قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير في بعض ما روي عنه: «ولا دراكم به» وهي لام تأكيد دخلت على أدرى، والمعنى على هذا ولا علمكم به من غير طريقي وقرأ ابن عباس وابن سيرين وأبو رجاء والحسن «ولا أدرأتكم به»، وقرأ ابن عباس أيضاً وشهر بن حوشب، «ولا أنذرتكم به»، وخرج الفراء قراءة ابن عباس والحسن على لغة لبعض العرب منها قولهم: لبأت بمعنى لبيت، ومنها قول امرأة منهم: رثأت زوجي بأبيات أي رثيت، وقال أبو الفتح إنما هي «أدريتكم» قلبت الياء ألفاً لانفتاح ما قبلها، وروينا عن قطرب: أن لغة عقيل في أعطيتك أعطأتك، قال أبو حاتم: قلبت الياء ألفاً كما في لغة بني الحارث بن كعب: السلام علاك، ثم قال {فقد لبثت فيكم عمراً من قبله} أي الأربعين سنة قبل بعثته عليه السلام، ويريد لم تجربوني في كذب ولا تكلمت في شيء من هذا {أفلا تعقلون} أن من كان على هذه الصفة لا يصح منه كذب بعد أن كلا عمره وتقاصر أمله واشتدت حنكته وخوفه لربه، وقرأ الجمهور بالبيان في «لبثت» وقرأ أبو عمرو: «لبت» بإدغام الثاء في التاء، وقوله {فمن أظلم} الآية، جاء في هذه الآية التوقيف على عظم جرم المفتري على الله بعد تقدم التنصل من ذلك قبل، فاتسق القول واطردت فصاحته، وقوله {فمن أظلم} استفهام وتقرير أي لا أحد أظلم {ممن افترى على الله كذباً}، أو ممن {كذب بآياته} بعد بيانها، وذلك أعظم جرم على الله وأكثر استشراف إلى عذابه، ثم قرر {إنه لا يفلح} أهل الجرم، و{يفلح} معناه يظفر ببغيته، وقوله {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم} الآية، الضمير في {يعبدون} عائد على الكفار من قريش الذين تقدّمت محاورتهم، و{ما لا يضرهم ولا ينفعهم} هي الأصنام، وقولهم {هؤلاء شفعاؤنا} هو مذهب النبلاء منهم، فأمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يقررهم ويوبخهم أهم يعلمون الله بأنباء من السماوات والأرض لا يعلمها هو؟ وذكر {السماوات} لأن العرب من يعبد الملائكة والشعرى، وبحسب هذا حسن أن يقول {هؤلاء} وقيل ذلك على تجوز في الأصنام التي لا تعقل، وفي التوقيف على هذا أعظم غلبة لهم، ولا يمكنهم ألا أن يقولوا: لا نفعل ولا نقدر، وذلك لهم لازم من قولهم: {هؤلاء شفعاؤنا}، و{سبحانه} استئناف تنزيه لله عز وجل، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر هنا: «عما يشركون» بالياء على الغيبة، وفي حرفين في النحل وحرف في الروم وحرف في النمل، وذكر أبو حاتم أنه قرأها كذلك نافع والحسن والأعرج وابن القعقاع وشيبة وحميد وطلحة والأعمش، وقرأ ابن كثير ونافع هنا وفي النمل فقط «تشركون» بالتاء على مخاطبة الحاضر، وقرأ حمزة والكسائي الخمسة الأحرف بالتاء وهي قراءة أبي عبد الرحمن.
{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)} قالت فرقة: المراد آدم كان أمة واحدة ثم اختلف الناس بعد في أمر ابنيه وقالت فرقة: المراد نسم بنيه إذ استخرجهم الله من ظهره وأشهدهم على أنفسهم وقالت فرقة: المراد آدم وبنوه من لدن نزوله إلى قتل أحد ابنيه الآخر، وقالت فرقة: المراد {وما كان الناس إلا أمة واحدة} في الضلالة والجهل بالله فاختلفوا فرقاً في ذلك بحسب الجهالة، ويحتمل أن يكون المعنى كان الناس صنفاً واحداً معداً للاهتداء، واستيفاء القول في هذا متقدم في سورة البقرة في قوله {كان الناس أمة واحدة} [البقرة: 213]. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو جعفر ونافع وشيبة وأبو عمرو «لقُضِي بينهم» بضم القاف وكسر الضاد، وقرأ عيسى بن عمر «لقَضى» بفتحهما على الفعل الماضي، وقوله {ولولا كلمة سبقت من ربك} يريد قضاءه وتقديره لبني آدم بالآجال الموقتة، ويحتمل أن يريد الكلمة، في أمر القيامة وأن العقاب والثواب إنما كان حينئذ، وقوله تعالى {ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه} الآية، يريدون بقولهم {آية من ربه} آية تضطر الناس إلى الإيمان وهذا النوع من الآيات لم يأت بها نبي قط ولا هي المعجزات اضطرارية وإنما هي معرضة للنظر ليهتدي قوم ويضل آخرون، وقوله {فقل إنما الغيب لله} إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل لا يطلع على غيبه أحد، وقوله {فانتظروا} وعيد ما قد صدقه الله تعالى بنصرته محمداً صلى الله عليه وسلم، قال الطبري: في بدر وغيره، وقوله {وإذا أذقنا الناس} الآية، المراد ب {الناس} في هذه الآية الكفار وهي بعد تتناول من العاصين من لا يؤدي شكر الله تعالى عند زوال المكروه عنه ولا يرتدع بذلك عن معاصيه، وذلك في الناس كثير، و«الرحمة» هنا بعد الضراء، كالمطر بعد القحط والأمن بعد الخوف والصحة بعد المرض ونحو هذا مما لا ينحصر، و«المكر» الاستهزاء والطعن عليها من الكفار واطراح الشكر والخوف من العصاة، ووصف مكر الله بالسرعة وإن كان الاستدراج بمهلهم لأنه متيقن به واقع لا محالة، وكل آت قريب، قال أبو حاتم: قرأ الناس «أن رسُلنا» بضم السين، وخفف السين الحسن وابن أبي إسحاق وأبو عمرو، وقال أبو علي {اسرع} من سرع ولا يكون من أسرع يسرع، قال ولو كان من أسرع لكان شاذاً. قال القاضي أبو محمد: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في نار جهنم «لهي أسود من القار» وما حفظ للنبي صلى الله عليه وسلم فليس بشاذ. وقرأ الحسن والأعرج ونافع وقتادة ومجاهد «تمكرون» بتاء على المخاطبة وهي قراءة أهل مكة وشبل وأبي عمرو وعيسى وطلحة وعاصم والأعمش والجحدري وأيوب بن المتوكل، ورويت أيضر عن نافع والأعرج، قال أبو حاتم: قال أيوب بن المتوكل: في مصحف أبيّ «يا أيها الناس إن الله أسرع مكراً وإن رسله لديكم يكتبون ما تمكرون».
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)} هذه الآية تتضمن تعديد النعمة فيما هي الحال بسبيله من ركوب البحر، وركوبه وقت حسن الظن به للجهاد والحج متفق على جوازه، وكذلك لضروة المعاش بالصيد فيه أو لتصرف التجر، وأما ركوبه لطلب الغنى والاستكثار فمكروه عند الأكثر، وغاية مبيحة أن يقول وتركه أحسن، وأما ركوبه في ارتجاجه فمكروه ممنوع وفي الحديث: «من ركب البحر في ارتجاجه فقد برئت منه الذمة» وقال النبي صلى الله عليه وسلم «البحر لا أركبه أبداً» وقرأ جمهور القراء من السبعة وغيرهم «يسيركم» قال أبو علي وهو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية، لأن العرب تقول: سرت الرجل وسيّرته ومنه قول الهذلي: [الطويل] فلا تجزعنْ من سُنة أنت سرتها *** وأول راض سنة من يسيرها قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا البيت اعتراض حتى لا يكون شاهداً في هذا. وهو أن يجعل الضمير كالظرف كما تقول سرت الطريق وهذه قراءة الجمهور من سير، وكذلك هي في مصحف ابن مسعود وفي مصحف أبي شيخ وقال عوف بن أبي جميلة قد: كان يقرأ «ينشركم» فغيرها الحجاج بن يوسف «يسيركم»، قال سفيان بن أبي الزعل: كانوا يقرأون «ينشركم» فنظروا في مصحف ابن عفان فوجدوها «يسيركم» فأول من كتبها كذلك الحجاج، وقرأ ابن كثير في بعض طرقه «يسيركم» من أسار، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة «يَنْشُركم» بفتح الياء وضم الشين من النشر والبث، وهي قراءة زيد بن ثابت والحسن وأبي العالية وأبي جعفر وعبيد الله بن جبير بن الفصيح وأبي عبد الرحمن وشيبة، وروي عن الحسن أنه قرأ «يُنشِركم» بضم الياء وكسر الشين وقال: هي قراءة عبد الله، قال أبو حاتم: أظنه غلط، و{الفلك} جمع فلك وليس باسم واحد للجميع والفرد ولكنه فعل جمع على فُعل، ومما يدل على ذلك قولهم فلكان في التثنية وقراءة أبي الدرداء وأم الدرداء «في الفلكي» على وزن فعليّ بياء نسب وذلك كقولهم أشقري وكدواري في دور الدهر وكقول الصلتان انا الصلتاني، وقوله {وجرين} علامة قليل العدد، وقوله {بهم} خروج من الحضور إلى الغيبة، وحسن ذلك لأن قولهم: {كنتم في الفلك} هو بالمعنى المعقول حتى إذا حصل بعضهم في السفن، و«الريح» إذا أفردت فعرفها أن تستعمل في العذاب والمكروه، لكنها لا يحسن في البحر أن تكونه إلا واحدة متصلة لا نشراً، فقيدت المفردة «بالطيب» فخرجت عن ذلك العرف وبرع المعنى، وقرأ ابن أبي عبلة «جاءتهم ريح عاصف»، والعاصف الشديدة من الريح، يقال: عصفت الريح، وقوله {وظنوا} على بابه في الظن لكنه ظن غالب مفزع بحسب أنه في محذور، وقوله {دعوا الله} أي نسوا الأصنام والشركاء وجردوا الدعاء لله، وذكر الطبري في ذلك عن بعض العلماء حكاية قول العجم: هيا شراهيا ومعناه يا حي يا قيوم، قال الطبري: جواب قوله {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين}: {جاءتها ريح عاصف} وجواب قوله: {وظنوا أنهم أحيط بهم}: {دعوا الله مخلصين}.
{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)} {يبغون}: أي يفسدون ويكفرون، والبغي: التعدي والأعمال الفاسدة، ووكد ذلك بقوله: {بغير الحق} ثم ابتدأ بالرجز وذم البغي في أوجز لفظ، وقوله «متاعُ الحياة» رفع، وهذه قراءة الجمهور وذلك على خبر الابتداء، والمبتدأ {بغيكم}، ويصح أن يرتفع {متاع} على خبر ابتداء مضمر تقديره ذلك متاع أو هو متاع، وخبر «البغي» قوله {على أنفسكم}، وقرأ حفص عن عاصم وهارون عن أبي كثير وابن أبي إسحاق: «متاعَ» بالنصب وهو مصدر في موضع الحال من «البغي» وخبر البغي على هذا محذوف تقديره: مذموم أو مكروه ونحو هذا، ولا يجوز أن يكون الخبر قوله {على أنفسكم} لأنه كان يحول بين المصدر وما عمل فيه بأجنبي، ويصح أن ينتصب {متاع} بفعل مضمر تقديره: تمتعون متاع الحياة الدنيا، وقرأ ابن أبي إسحاق. «متاعاً الحياةَ الدنيا» بالنصب فيهما، ومعنى الآية إنما بغيكم وإفسادكم مضر لكم وهو في حالة الدنيا ثم تلقون عقابه في الآخرة، قال سفيان بن عيينة: {إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا} أي تعجل لكم عقوبته في الحياة الدنيا، وعلى هذا قالوا: البغي يصرع أهله. قال القاضي أبو محمد: وقالوا: الباغي مصروع، قال الله تعالى {ثم بغي عليه لينصرنه الله} [الحج: 60] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أسرع عقوبة من بغي» وقرأت فرقة «فننبئكم» على ضمير المعظم المتكلم وقرأت فرقة: «فينبئكم»، على ضمير الغائب، والمراد الله عز وجل.
{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} المعنى: {إنما مثل} تفاخر الحياة الدنيا وزينتها بالمال والبنين إذ يصير ذلك إلى الفناء كمطر نزل من السماء {فاختلط} ووقف هنا بعض القراء على معنى، فاختلط الماء بالأرض ثم استأنف به {نبات الأرض} على الابتداء والخبر المقدم، ويحتمل على هذا أن يعود الضمير في {به} على «الماء» أو على «الاختلاط» الذي يتضمنه القول. ووصلت فرقة فرفع «النباتُ» على ذلك بقوله {اختلط} أي اختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء، وقوله {مما يأكل الناس}، يريد الزروع والأشجار ونحو ذلك، وقوله {والأنعام} يريد سائر العشب المرعي، و{أخذت الأرض}، لفظة كثرت في مثل هذا كقوله {خذوا زينتكم} [الأعراف: 31] و«الزخرف» التزين بالألوان، وقد يجيء الزخرف بمعنى الذهب إذ الذهب منه، وقرأ مروان بن الحكم وأبو جعفر والسبعة وشيبة ومجاهد والجمهور: {وازينت} أصله: تزينت سكنت التاء لتدغم فاحتيج إلى ألف الوصل وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبيّ بن كعب «وتزينت» وهذه أصل قراءة الجمهور، وقرأ الحسن وأبو العالية والشعبي وقتادة ونصر بن عاصم وعيسى «وأزينت» على معنى حضرت زينتها كما تقول أحصد الزرع، «وأزينت» على مثال أفعلت وقال عوف بن أبي جميلة: كان أشياخنا يقرؤونها «وازيانت» النون شديدة والألف ساكنة قبلها، وهي قراءة أبي عثمان النهدي، وقرأت فرقة «وأزيأنت» وهي لغة منها قول الشاعر [ابن كثير]: [الطويل] إذا ما الهوادي بالغبيطِ احْمأرَّتِ *** وقرأت فرقة «وازاينت» والمعنى في هذا كله ظهرت زينتها، وقوله {وظن أهلها} على بابها. والضمير في {عليها} عائد على {الأرض}، والمراد ما فيها من نعمة ونبات، وهذا الكلام فيه تشبيه جملة أمر الحياة الدنيا بهذه الجملة الموصوفة أحوالها، و{حتى} غاية وهي حرف ابتداء لدخولها على {إذا} ومعناها متصل إلى قوله {قادرون عليها}، ومن بعد ذلك بدأ الجواب، والأمر الآتي واحد الأمور كالريح والصر والسموم ونحو ذلك، وتقسيمه {ليلاً أو نهاراً} تنبيه على الخوف وارتفاع الأمن في كل وقت، و{حصيداً}: فعيل بمعنى مفول وعبر ب «حصيد» عن التالف الهالك من النبات وإن لم يهلك بحصاد إذ الحكم فيهما وكأن الآفة حصدته قبل أوانه، وقوله {كأن لم تغن} أي كأن لم تنعم ولم تنضر ولم تغر بغضارتها وقرأ قتادة «» يغن «بالياء من تحت يعني الحصيد وقرأ مروان» كأن لم تتغن «بتاءين مثل تتفعل والمغاني المنازل المعمورة ومنه قول الشاعر: [الوافر] وقد نغنى بها ونرى عصوراً *** بها يقتدننا الخرد الخذالا وفي مصحف أبي بن كعب «كأن لم تغن بالأمس وما كنا لنهلكها إلا بذنوب أهلها كذلك نفصل الآيات»، رواها عنه ابن عباس، وقيل: إن فيه «وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها»، وقرأ أبو الدرداء «لقوم يتذكرون» ومعنى الآية التحذير من الاغترار بالدنيا، إذ هي معرضة للتلف وأن يصيبها ما أصاب هذه الأرض المذكورة بموت أو غيره من رزايا الدنيا، وخص «المتفكرين» بالذكر تشريفاً للمنزلة وليقع التسابق إلى هذه الرتبة.
{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)} نصت هذه الآية أن الدعاء إلى الشرع عام في كل بشر، والهداية التي هي الإرشاد مختصة بمن قدر إيمانه، و{السلام} قيل: هو اسم الله عز وجل، فالمعنى يدعو إلى داره التي هي الجنة، وإضافتها إليه إضافة ملك الى مالك، وقيل: {السلام} بمعنى السلامة، أي من دخلها ظفر بالسلامة وأمن الفناء والآفات، وهذه الآية رادة على المعتزلة، وقد وردت في دعوة الله تعالى عباده أحاديث منها رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم إذ رأى في نومه جبريل وميكائيل ومثلا دعوة الله ومحمداً الداعي والملة المدعو إليها والجنة التي هي ثمرة الغفران بالمادية يدعو إليها ملك إلى منزله. وقال قتادة في كلامه على هذه الآية ذكر لنا أت في التوراة مكتوباً «يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر انته». وقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} الآية، قالت فرقة وهي الجمهور: {الحسنى} الجنة و«الزيادة» النظر إلى وجه الله عز وجل، وروي في نحو ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه صهيب، وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وحذيفة وأبي موسى الأشعري وعامر بن سعد وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: «الزيادة» غرفة من لؤلؤة واحدة، وقالت فرقة {الحسنى} هي الحسنة، و«الزيادة» هي تضعيف الحسنات إلى سبعمائة فدونها حسبما روي في نص الحديث، وتفسير قوله تعالى: {والله يضاعف لمن يشاء} [البقرة: 261]، وهذا قول يعضده النظر ولولا عظم القائلين بالقول الأول لترجح هذا القول، وطريق ترجيحه أن الآية تتضمن اقتراناً بين ذكر عمال الحسنات وعمال السيئات، فوصف المحسنين بأن لهم حسنى وزيادة من جنسها، ووصف المسيئين بأن لهم بالسيئة مثلها فتعادل الكلامان، وعبر عن الحسنات ب {الحسنى} مبالغة، إذ هي عشرة، وقال الطبري: {الحسنى} عام في كل حسنى فهي تعم جميع ما قيل، ووعد الله تعالى على جميعها بالزيادة، ويؤيد ذلك ذلك أيضاً قوله {أولئك أصحاب الجنة}، ولو كان معنى {الحسنى} الجنة لكان في القول تكرير بالمعنى، على أن هذا ينفصل عنه بأنه وصف المحسنين بأن لهم الجنة وأنهم لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة، ثم قال {أولئك أصحاب الجنة} على جهة المدح لهم، أي أولئك مستحقوها وأصحابها حقاً وباستيجاب، و{يرهق} معناه يغشى مع ذلة وتضييق، والقتر الغبار المسود، ومنه قول الشاعر [الفرزدق]: [البسيط] متوج برداء الملك يتبعه *** موج ترى وسطه الرايات والقترا وقرأ الحسن وعيسى بن عمر والأعمش وأبو رجاء «قتْر» بسكون التاء، وقوله: {والذين كسبوا السيئات} الآية، اختلف النحويون في رفع «الجزاء» بم هو؟ فقالت فرقة: التقدير لهم جزاء سيئة بمثلها، وقالت فرقة: التقدير جزاء سيئة مثلها والباء زائدة. قال القاضي أبو محمد: ويتوجه أن يكون رفع «الجزاء» على المبتدأ وخبره في {الذين} لأن {الذين} معطوف على قوله {للذين أحسنوا} فكأنه قال والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، وعلى الوجه الآخر فقوله {والذين كسبوا السيئات} رفع بالابتداء، وتعم {السيئات} ها هنا الكفر والمعاصي فمثل سيئة الكفر التخليد في النار، ومثل سيئة المعاصي مصروف إلى مشيئة الله تعالى. و«العاصم» المنجي «، ومنه قوله تعالى {إلى جبل يعصمني من الماء} [هود: 43]. و{أغشيت} كسيت ومنه الغشاوة، و» القطع «جمع قطعة، وقرأ ابن كثير والكسائي» قطْعاً «من الليل بسكون الطاء، وقرأ الباقون بفتح الطاء، و» القطع «الجزء من الليل ومنه قوله تعالى: {فاسر بأهلك بقطع من الليل} [هود: 81] وهذا يراد به الجزء من زمان الليل، وفي هذه الآية الجزء من سواده. و{مظلماً}، نعت ل» قطع «، ويجوز أن يكون حالاً من الذكر الذي في قوله {من الليل}، فإذا كان نعتاً فكان حقه أن يكون قبل الجملة ولكن قد يجيء بعدها، وتقدير الجملة قطعاً استقر من الليل» مظلماً «على نحو قوله تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} [الأنعام: 155] ومن قرأ» قطعاً «على جمع قطعة فنصب» مظلماً «على الحال {من الليل} والعامل في الحال {من} إذ هي العامل في ذي الحال، وقرأ أبي بن كعب،» كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل وظلم «، وقرأ ابن أبي عبلة» قطَع من الليل مظلم «بتحريك الطاء في قطع.
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم والحسن وشيبة وغيرهم، «نحشرهم» بالنون، وقرأت فرقة: «يحشرهم» بالياء، والضمير في «يحشرهم» عائد على جميع الناس محسنين ومسيئين، و{مكانكم} نصب على تقدير لازموا مكانكم وذلك مقترن بحال شدة وخزي، و{مكانكم} في هذا الموضع من أسماء الأفعال إذ معناه قفوا واسكنوا، وهذا خبر من الله تعالى عن حالة تكون لعبدة الأوثان يوم القيامة يؤمرون بالإقامة في موقف الخزي مع أصنامهم ثم ينطق الله الأصمام بالتبري منهم. وقوله: {وشركاؤكم}، أي الذين تزعمون أنتم أنهم شركاء لله، فأضافهم إليهم لأن كونهم شركاء إنما هو بزعم هؤلاء وقوله {فزيلنا بينهم} معناه فرقنا في الحجة والذهب وهو من زلت الشيء عن الشيء أزيله، وهو تضعيف مبالغة لا تعدية، وكون مصدر زيل تزييلاً، يدل على أن زيل إنما هو فعل لا فيعل، لأن مصدره كان يجيء على فيعلة، وقرأت «فزايلنا»، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الكفار إذ رأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب قيل لهم اتبعوا ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد هؤلاء فتقول الأصنام: والله ما كنا نسمع أو نعقل: {ما كنتم إيانا تعبدون} فيقولون والله لإياكم كنا نعبد فنقول الألهة {كفى بالله شهيداً} الآية. قال القاضي أبو محمد: وظاهر هذه الآية أن محاورتهم إنما هي مع الأصنام دون الملائكة وعيسى بن مريم بدليل القول لهم {مكانكم أنتم وشركاؤكم} ودون فرعون ومن عبد من الجن بدليل قولهم {إن كنا عن عبادتكم لغافلين}، وهؤلاء لم يغفلوا قط عن عبادة من عبدهم، و{أنتم} رفع بالابتداء والخبر موبخون أو مهانون، ويجوز أن يكون {أنتم} تأكيداً للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو قفوا أو نحوه. و{شهيداً} نصب على التمييز، وقيل على الحال، «وأنْ» هذه عند سيبويه هي مخففة موجبة حرف ابتداء ولزمتها اللام فرقاً بينها وبين «إن» النافية، وقال الفراء: «إن» بمعنى ما واللام بمعنى إلا، و{هنالك} نصب على الظرف، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «تبلوا» بالباء بواحدة بمعنى اختبر، وقرأ حمزة والكسائي «تتلوا» بالتاء بنقطتين من فوق بمعنى تتبع أي تطلب وتتبع ما أسلفت من أعمالها، ويصح أن يكون بمعنى تقرأ كتبها التي ترفع إليها، وقرأ يحيى بن وثاب «ودوا» بكسر الراء والجمهور «وردوا إلى الله»، أي ردوا إلى عقاب مالكهم وشديد بأسه، فهو مولاهم في الملك والإحاطة لا في الرحمة والنصر ونحوه. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم والحسن وشيبة وغيرهم، «نحشرهم» بالنون، وقرأت فرقة: «يحشرهم» بالياء، والضمير في «يحشرهم» عائد على جميع الناس محسنين ومسيئين، و{مكانكم} نصب على تقدير لازموا مكانكم وذلك مقترن بحال شدة وخزي، و{مكانكم} في هذا الموضع من أسماء الأفعال إذ معناه قفوا واسكنوا، وهذا خبر من الله تعالى عن حالة تكون لعبدة الأوثان يوم القيامة يؤمرون بالإقامة في موقف الخزي مع أصنامهم ثم ينطق الله الأصمام بالتبري منهم. وقوله: {وشركاؤكم}، أي الذين تزعمون أنتم أنهم شركاء لله، فأضافهم إليهم لأن كونهم شركاء إنما هو بزعم هؤلاء وقوله {فزيلنا بينهم} معناه فرقنا في الحجة والذهب وهو من زلت الشيء عن الشيء أزيله، وهو تضعيف مبالغة لا تعدية، وكون مصدر زيل تزييلاً، يدل على أن زيل إنما هو فعل لا فيعل، لأن مصدره كان يجيء على فيعلة، وقرأت «فزايلنا»، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الكفار إذ رأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب قيل لهم اتبعوا ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد هؤلاء فتقول الأصنام: والله ما كنا نسمع أو نعقل: {ما كنتم إيانا تعبدون} فيقولون والله لإياكم كنا نعبد فنقول الألهة {كفى بالله شهيداً} الآية. قال القاضي أبو محمد: وظاهر هذه الآية أمن محاورتهم إنما هي مع الأصنام دون الملائكة وعيسى بن مريم بدليل القول لهم {مكانكم أنتم وشركاؤكم} ودون فرعون ومن عبد من الجن بدليل قولهم {إن كنا عن عبادتكم لغافلين}، وهؤلاء لم يغفلوا قط عن عبادة من عبدهم، {وأنتم} رفع بالابتداء والخبر موبخون أو مهانون، ويجوز أن يكون {أنتم} تأكيداُ للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو قفوا أو نحوه. و{شهيداً} نصب عل التمييز، وقيل على الحال، «وأن» هذه عند سيبويه هي مخففة موجبة حرف ابتداء ولزمتها اللام فرقاً بينها وبين «إن» النافية، وقال الفراء: «إن» بمعنى ما واللام بمعنى إلا، و{هنالك} ويصح أن يكون بمعنى تقرأ كتبها التي ترفع إليها، وقرأ يحيى بن وثاب «ودوا» بكسر الراء والجمهور «وردوا إلى الله»، أي ردوا إلى عقاب مالكهم وشديد بأسه، فهو مولاهم في الملك والإحاطة لا في الرحمة والنصر ونحوه.
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)} هذا توقيف وتوبيخ واحتجاج لا محيد عن التزامه، و{من السماء} يريد بالمطهر ومن {الأرض} يريد بالإنبات ونحو ذلك، و{يملك السمع والأبصار}، لفظ يعم جملة الإنسان ومعظمه حتى أن ما عداهما من الحواس تبع، {ويخرج الحي من الميت} الجنين من النطفة، والطائر من البيضة، والنبات من الأرض إذ له نمو شبيه بالحياة، {ويخرج الميت من الحي}، مثل البيضة من الطائر ونحو ذلك، وقد تقدم فيما سلف إيعاب القول في هذه المعاني، و«تدبير الأمر» عام لهذا وغيره من جميع الأشياء، وذلك استقامة الأمور كلها عن إرادته عز وجل، وليس تدبيره بفكر ولا روية وتغيرات تعالى عن ذلك بل علمه محيط كامل دائم، {فسيقولون الله} لا مندوحة لهم عن ذلك، ولا تمكنهم المباهتة بسواه، فإذا أقروا بذلك {فقل أفلا تتقون}. في افترائكم وجعلكم الأصنام آلهة: وقوله تعالى {فذلكم الله ربكم} الآية، يقول: فهذا الذي هذه صفاته {ربكم الحق} أي المستوجب للعبادة والألوهية، وإذا كان ذلك فتشريك غيره ضلال وغير حق، وعبارة القرآن في سوق هذه المعاني تفوت كل تفسير براعة وإيجازاً وإيضاحاً، وحكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والضلال منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله وكذلك هو الأمر في نظائرها، وهي مسائل الأصول التي الحق فيها في طرف واحد، لأن الكلام فيها إنما هو في تقرير وجود ذات كيف وهي، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} [المائدة: 48] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات»، و«{الحق} في هذه في الطرفين لأن المتعبدين إنما طلبوا بالاجتهاد لا بعين في كل نازلة ويدلك على أن» الحق «في الطرفين اختلاف الشرائع بتحليل وتحريم في شيء واحد، والكلام في مسائل الفروع إنما هو في أحكام طارئة على وجود ذات متقررة لا يختلف فيها وإنما يختلف في الأحكام المتعلقة بالمشترع، وقوله: {فأنى تصرفون} تقرير كما قال {فأين تذهبون} [التكوير: 26] ثم قال: {كذلك حقت} أي كما كانت صفات الله كما وصف وعبادته واجبة كما تقرر وانصراف هؤلاء كما قدر عليهم وتكسبوا {كذلك حقت}، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم، وحمزة والكسائي هنا وفي آخر السورة» كلمة «على الإفراد الذي يراد به الجمع كما يقال للقصيدة كلمة، فعبر عن وعيد الله تعالى بكلمته، وقرأ نافع وابن عامر في الموضعين المذكورين» كلمات «وهي قراءة أبي جعفر وشيبة بن نصاح، وهذه الآية إخبار أن في الكفار من حتم بكفره وقضى بتخليده، وقرأ ابن أبي عبلة،» إنهم «بكسر الألف.
{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)} هذا توقيف أيضاً على قصور الأصنام وعجزها، وتنبيه على قدرة الله عز وجل، و«بدء الخلق» يريد به إنشاء الإنسان في أول أمره، و«إعادته» هي البعث من القبور، و{تؤفكون} معناه: تصرفون وتحرمون، تقول العرب: أرض مأفوكة إذا لم يصبها مطر فهي بمعنى الخيبة والقلب، كما قال {والمؤتفكة أهوى} [النجم: 53] وقوله تعالى {قل هل من شركائكم من يهدي} الآية، {يهدي إلى الحق} يريد به يبين الطرق والصواب ويدعو إلى العدل ويفصح بالآيات ونحو هذا، ووصف الأصنام بأنها لا تهدي إلا أن تهدى، ونحن نجدها لا تهتدي وإن هديت، فوجه ذلك أنه عامل في العبارة عنها معاملتهم في وصفها بأوصاف من يعقل وذلك مجاز وموجود في كثير من القرآن، وذكر ذلك أبو علي الفارسي، والذي أقول: أن قراءة حمزة والكسائي تحتمل أن يكون المعنى أمن لا يهدي أحداً إلا أن يهدى ذلك الأحد بهداية من عند الله، وأما على غيرها من القراءات التي مقتضاها «أمن لا يهتدي إلا أن يهدى» فيتجه المعنى على ما تقدم لأبي علي الفارسي، وفيه تجوز كثير، وقال بعضهم: هي عبارة عن أنها لا تنتقل إلا أن تنقل، ويحتمل أن يكون ما ذكر الله من تسبيح الجمادات هو اهتداؤها ويحتمل أن يكون الاستثناء في اهتدائها إلى مناكرة الكفار يوم القيامة، حسبما مضى في هذه السورة، وقراءة حمزة والكسائي هي «يَهْدي» بفتح الياء وسكون الهاء، وقرأ نافع وأبو عمرو وشيبة والأعرج وأبو جعفر «يَهْدّي» بسكون الهاء وتشديد الدال، وقرأ ابن كثير وابن عكامر «يَهَدي» بفتح الياء والهاء، وهذه أفصح القراءات، نقلت حركة تاء «يهتدي» إلى الهاء وأدغمت التاء في الدال، وهذه رواية ورش عن نافع وقرأ عاصم في رواية حفص «يَهِدّي» بفتح الياء وكسر الهاء وشد الدال، أتبع الكسرة الكسرة، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر، «يِهِدّي» بكسر الياء والهاء وشد الدال وهذا أيضاً إتباع وقال مجاهد: الله يهدي من الأوثان وغيرها ما شاء. قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقرأ يحيى بن الحارث الزماري. «إلا أن يهَدّي» بفتح الهاء وشد الدال، ووقف القراء {فما لكم}، ثم يبدأ {كيف تحكمون}، وقوله {وما يتبع أكثرهم}، إخبار عن فساد طرائقهم وضعف نظرهم وأنه ظن، ثم بين منزلة الظن من المعارف وبعده من الحق، و{الظن} في هذه الآية على بابه في أنه معتقد أحد جائزين لكن ثم ميل إلى أحدهما دون حجة تبطل الآخر، وجواز ما اعتقده هؤلاء إنما هو بزعمهم لا في نفسه. بل ظنهم محال في ذاته. و{الحق} أيضاً على بابه في أنه معرفة المعلوم على ما هو به. وبهذه الشروط «لا يغني الظن من الحق شيئاً». وأما في طريق الأحكام التي تعبد الناس بظواهرها فيغني الظن في تلك الحقائق ويصرف من طريق إلى طريق. والشهادة إنما هي مظنونة. وكذلك التهم في الشهادات وغيرها تغني. وليس المراد في هذه الآية هذا النمط. وقرأ جمهور الناس. «يفعلون» وقرأ عبد الله بن مسعود «تفعلون» بالتاء على مخاطبة الحاضر.
{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)} هذا نفي قول من قال من قريش إن محمداً يفتري القرآن وينسبه إلى الله تعالى، وعبر عن ذلك بهذه الألفاظ التي تتضمن تشنيع قولهم وإعظام الأمر كما قال تعالى: {وما كان لنبي أن يغل} [آل عمران: 161] وكما قال حكاية عن عيسى عليه السلام {ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} [المائدة: 116] ونحو هذا مما يعطي المعنى والقرائن والبراهين استحالته، و{يفترى} معناه: يختلق وينشأ، وكأن المرء يفريه من حديثه أي يقطعه ويسمه سمة، فهو مشتق من فريت إذا قطعت لإصلاح، و{تصديق} نصب على المصدر والعامل فيه فعل مضمر وقال الزجّاج: هو خبر «كان» مضمرة، والتقدير المتقدم للشيء، وقالت فرقة في هذه الآية: إن الذي بين يديه هي أشراط الساعة وما يأتي من الأمور. قال القاضي أبو محمد: وهذا خطأ، والأمر بالعكس كتاب الله تعالى بين يدي تلك، أما أن الزجّاج تحفظ فقال: الضمير يعود على الأشراط، والتقدير ولكن تصديق الذي بين يديه القرآن. قال القاضي أبو محمد: وهذا أيضاً قلق، وقيام البرهان على قريش حينئذ إنما كان في أن يصدق القرآن ما في التوراة والإنجيل مع أن الآتي بالقرآن ممن يقطعون أنه لم يطالع تلك الكتب ولا هي في بلده ولا في قومه، و{تفصيل الكتاب} هو تبيينه، و{لا ريب فيه} يريد هو في نفسه على هذه الحالة وإن ارتاب مبطل فذلك لا يلتفت إليه، وقوله: {أم يقولونه افتراه} الآية، {أم} هذه ليست بالمعادلة لألف الاستفهام التي في قولك أزيد قام أم عمرو، وإنما هي تتوسط الكلام، ومذهب سيبويه أنها بمنزلة الألف وبل لأنها تتضمن استفهاماً وإضراباً عما تقدم، وهي كقوله: إنها لا بل أم شاء، وقالت فرقة في {أم} هذه: هي بمنزلة ألف الاستفهام، ثم عجزهم في قوله {قل فأتوا بسورة مثله} والسورة مأخوذة من سورة البناء وهي من القرآن هذه القطعة التي لها مبدأ وختم، والتحدي في هذه الآية وقع بجهتي الإعجاز اللتين في القرآن: إحداهما النظم والرصف والإيجاز والجزالة، كل ذلك في التعريف بالحقائق، والأخرى المعاني من الغيب لما مضى ولما يستقبل، وحين تحداهم بعشر مفتريات إنما تحداهم بالنظم وحده. قال القاضي أبو محمد: هكذا قول جماعة من المتكلمين، وفيه عندي نظر، وكيف يجيء التحدي بمماثلة في الغيوب رداً على قولهم {افتراه}، وما وقع التحدي في الآيتين هذه وآية العشر السور إلا بالنظم والرصف والإيجاز في التعريف بالحقائق، وما ألزموا قط إتياناً بغيب، لأن التحدي بالإعلام بالغيوب كقوله {وهم من بعد غلبهم سيغلبون} [الروم: 3] وكقوله {لتدخلن المسجد الحرام} [الفتح: 27] ونحو ذلك من غيوب القرآن فبين أن البشر مقصر عن ذلك، وأما التحدي بالنظم فبين أيضاً أن البشر مقصر عن نظم القرآن إذ الله عز وجل قد أحاط بكل شيء علماً، فإذا قدر الله اللفظة في القرآن علم بالإحاطة اللفظة التي هي أليق بها في جميع كلام العرب في المعنى المقصود، حتى كمل القرآن على هذا النظام الأول فالأول، والبشر مع أن يفرض أفصح العالم، محقوق بنيان وجهل بالألفاظ والحق وبغلط وآفات بشرية، فمحال أن يمشي في اختياره على الأول فالأول، ونحن نجد العربي ينقح قصيدته- وهي الحوليات- يبدل فيها ويقدم ويؤخر، ثم يدفع تلك القصيدة إلى أفصح منه فيزيد في التنقيح، ومذهب أهل الصرفة مكسور بهذا الدليل، فما كان قط في العالم إلا من فيه تقصير سوى من يوحي إليه الله تعالى، وميّزت فصحاء العرب هذا القدر من القرآن وأذعنت له لصحة فطرتها وخلوص سليقتها وأنهم يعرف بعضهم كلام بعض ويميزه من غيره، كفعل الفرزدق في أبيات جرير، والجارية في شعر الأعشى، وقول الأعرابي «عرفجكم» فقطع ونحو ذلك مما إذا تتبع بان. والقدر المعجز من القرآن ما جمع الجهتين «اطراد النظم والسرد، وتحصيل المعاني وتركيب الكثير منها في اللفظ القليل: فأما مثل قوله تعالى: {مدهامتان} [الرحمن: 64] وقوله {ثم نظر} [المدثر: 21] فلا يصح التحدي بالإتيان بمثله لكن بانتظامه واتصاله يقع العجز عنه، وقوله {مثله} صفة للسورة والضمير عائد على القرآن المتقدم الذكر، كأنه قال: فأتوا بسورة مثل القرآن أي في معانيه وألفاظه، وخلطت فرق في قوله» مثله «من جهة اللسان كقول الطبري: ذلك على المعنى، ولو كان على اللفظ لقال:» مثلها «، وهذا وهم بيّن لا يحتاج إليه، وقرأ عمرو بن فائد» بسورةِ مثلهِ «، على الإضافة، قال أبو الفتح: التقدير بسورة كلام مثله، قال أبو حاتم: أمر عبد الله الأسود أن يسأل عمر عن إضافة» سورة «أو تنوينها فقال له عمر كيف شئت، وقوله {وادعوا من استطعتم} إحالة على شركائهم وجنهم وغير ذلك، وهو كقوله في الآية الأخرى، {لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} [الإسراء: 88] أي معيناً، وهذا أشد إقامة لنفوسهم وأوضح تعجيزاً لهم.
{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)} المعنى: ليس الأمر كما قالوا في أنه مفترى {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه}، وهذا اللفظ يحتمل معنيين: أحدهما أن يريد بها الوعيد الذي توعدهم الله عز وجل على الكفر، وتأويله على هذا يراد به ما يؤول إليه أمره كما هو في قوله {هل ينظرون إلا تأويله} [الأعراف: 53]، والآية بجملتها على هذا التأويل تتضمن وعيداً، والمعنى الثاني أنه أراد بل كذبوا بهذا القرآن العظيم المنبئ بالغيوب الذي لم تتقدم لهم به معرفة ولا أحاطوا بعلم غيوبه وحسن نظمه ولا جاءهم تفسير ذلك وبيانه، و{الذين من قبلهم} يريد من سلف من أمم الأنبياء، قال الزجّاج {كيف} في موضع نصب على خبر {كان} ولا يجوز أن يعمل فيها «انظر» لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه. قال القاضي أبو محمد: هذا قانون النحويين لأنهم عاملوا «كيف» في كل مكان معاملة الاستفهام المحض في قولك: كيف زيد ول «كيف» تصرفات غير هذا، وتحل محل المصدر الذي هو كيفية وتخلع معنى الاستفهام، ويحتمل هذا أن يكون منها ومن تصرفاتها قولهم: كن كيف شئت، وانظر قول البخاري: كيف كان بدء الوحي فإنه لم يستفهم وذكر الفعل المسند إلى «العاقبة» لما كانت بمعنى المآل ونحوه وليس تأنيثها بحقيقي، وقوله تعالى: {ومنهم من يؤمن به} الآية، الضمير في {منهم} عائد على قريش، ولهذا الكلام معنيان قالت فرقة: معناه من هؤلاء القوم من سيؤمن في المستقبل ومنهم من حتم الله أنه لا يؤمن به أبداً، وقالت فرقة: معناه من هؤلاء القوم من هو مؤمن بهذا الرسول إلا أنه يكتم إيمانه وعلمه بأن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإعجاز القرآن حق، حفظاً لرياسته أو خوفاً من قومه، كالفتية الذين خرجوا إلى بدر مع الكفار فقتلوا فنزل فيهم {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} [النساء: 97] وكالعباس ونحو هذا، ومنهم من ليس بمؤمن. قال القاضي أبو محمد: وفائدة الآية على هذا التأويل التفرق لكلمة الكفار، وإضعاف نفوسهم، وأن يكون بعضهم على وجل من بعض، وفي قوله {وربك أعلم بالمفسدين}، تهديد ووعيد، وقوله {وإن كذبوك}، آية مناجزة لهم ومتاركة وفي ضمنها وعيد وتهديد، وهذه الآية نحو قوله {قل يا آيها الكافرون} [الكافرون: 1] إلى آخر السورة، وقال كثير من المفسرين منهم ابن زيد: هذه الآية منسوخة بالقتال لأن هذه مكية، وهذا صحيح، وقوله تعالى {ومنهم من يستمعون إليك}، جمع {يستمعون} على معنى {من} لا على لفظها، ومعنى الآية: ومن هؤلاء الكفار من يستمع إلى ما يأتي به من القرآن بإذنه ولكنه حين لا يؤمن ولا يحصل فكأنه لا يسمع، ثم قال على وجه التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم: أفأنت يا محمد تريد أن تسمع الصم. أي لا تكترث بذلك، وقوله {ولو كانوا لا يعقلون} معناه: ولو كانوا من أشد حالات الأصم، لأن الأصم الذي لا يسمع شيئاً بحال، فذلك لا يكون في الأغلب إلا مع فساد العقل والدماغ فلا سبيل أن يعقل حجة ولا دليلاً أبداً، {ولو} هذه بمعنى «إن» وهذا توقيف للنبي صلى الله عليه وسلم أي ألزم نفسك هذا، وقوله {ومنهم من ينظر إليك} الآية، هي نحو الأولى في المعنى، وجاء {ينظر} على لفظ {من}، وإذا جاء الفعل على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخر على المعنى، وإذا جاء أولاً على معناها فلا يجوز أن يعطف آخر اللفظ، لأن الكلام يلبس حينئذ، وهذه الآية نحو الأولى في المعنى كأنه قال: ومنهم من ينظر إليك ببصره لكنه لا يعتبر ولا ينظر ببصيرته، فهو لذلك كالأعمى فهون ذلك عليك، أفتريد أن تهدي العمي، والهداية أجمع إنما هي بيد الله عز وجل.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)} قرأت فرقة: «ولكنْ الناس» بتخفيف «لكِن» ورفع «الناسُ»، وقرأت فرقة «ولكنّ» بتشديد «لكنّ» ونصب «الناسَ»، وظلم الناس لأنفسهم إنما هو بالتكسب منهم الذي يقارن اختراع الله تعالى لأفعالهم، وعرف «لكن» إذا كان قبلها واو أن تثقل وإذا عريت من الواو أن تخفف، وقد ينخرم هذا، وقال الكوفيون: قد يدخل اللام في خبر «لكن» المشددة على حد دخولها في «أن» ومنع ذلك البصريون، وقوله تعالى: {ويوم نحشرهم} الآية، وعيد بالحشر وخزيهم فيه وتعاونهم في التلاوم بعضهم لبعض، و{يوم} ظرف ونصبه يصح بفعل مضمر تقديره واذكر يوم، ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه قوله {كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار}، ويصح نصبه ب {يتعارفون}، والكاف من قوله {كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار} يصح أن تكون في معنى الصفة لليوم، ويصح أن تكون في موضع نصب للمصدر، كأنه قال ويوم نحشرهم حشراً كأن لم يلبثوا، ويصح أن يكون قوله {كأن لم يلبثوا} في موضع الحال من الضمير في {نحشرهم} وخصص {النهار} بالذكر لأن ساعاته وقسمه معروفة بيّنه للجميع، فكأن هؤلاء يتحققون قلة ما لبثوا، إذ كل أمد طويل إذا انقضى فهو واليسير سواء، وأما قوله {يتعارفون} فيحتمل أن يكون معادلة لقوله: {ويوم نحشرهم} كأنه أخبر أنهم يوم الحشر {يتعارفون} وهذا التعارف على جهة التلاوم والخزي من بعضهم لبعض. ويحتمل أن يكون في موضع الحال من الضمير في {نحشرهم} ويكون معنى التعارف كالذي قبله، ويحتمل أن يكون حالاً من الضمير في {يلبثوا} ويكون التعارف في الدنيا، ويجيء معنى الآية ويوم نحشرهم للقيامة فتنقطع المعرفة بينهم والأسباب ويصير تعارفهم في الدنيا كساعة من النهار لا قدر لها، وبنحو هذا المعنى فسر الطبري، وقرأ السبعة وجمهور الناس «نحشرهم»، بالنون، وقرأ الأعمش فيما روي عنه، «يحشرهم» بالياء، وقوله {قد خسر الذين} إلى آخرها حكم على المكذبين بالخسار وفي اللفظ إغلاظ على المحشورين من إظهار لما هم عليه من الغرر مع الله تعالى، وهذا على أن الكالم إخبار من الله تعالى وقيل: إنه من كلام المحشورين على جهة التوبيخ لأنفسهم، وقوله تعالى: {وإما نرينك} الآية، {إما} شرط وجوابه {فإلينا}، والرؤية في قوله {نرينك} رؤية بصر وقد عدي الفعل بالهمزة فلذلك تعدى إلى مفعولين أحدهما الكاف والآخر {بعض}، والإشارة بقوله {بعض الذي} إلى عقوبة الله لهم نحو بدر وغيرها، ومعنى هذا الوعيد بالرجوع إلى الله تعالى أي إن أريناك عقوبتهم أو لم نركها فهم على كل حال راجعون إلينا إلى الحساب والعذاب ثم مع ذلك فالله شهيد من أول تكليفهم على جميع أعمالهم ف {ثم} ها هنا لترتيب الإخبار لا لترتيب القصص في أنفسها، وإما هي «إن» زيدت عليها «ما» ولأجلها جاز دخول النون الثقيلة ولو كانت إن وحدها لم يجز.
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)} قوله تعالى: {ولكل أمة رسول}، إخبار مثل قوله تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى} [الملك: 8] وقال مجاهد وغيره: المعنى فإذا جاء رسولهم يوم القيامة للشهادة عليم صير قوم للجنة وقوم للنار فذلك «القضاء بينهم بالقسط» وقيل: المعنى فإذا جاء رسولهم في الدنيا وبعث صاروا من حتم الله بالعذاب لقوم والمغفرة لآخرين لغاياتهم، فذلك قضاء بينهم بالقسط، وقرن بعض المتأولين هذه الآية بقوله {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15] وذلك يتفق إما بأن نجعل {معذبين} [الاسراء: 15] في الآخرة، وإما بأن نجعل «القضاء بينهم» في الدنيا بحيث يصح اشتباه الآيتين، وقوله {ويقولون متى هذا الوعد} إلى {يستقدمون}، الضمير في {يقولون} يراد به لكفار، وسؤالهم عن الوعد تحرير بزعمهم في الحجة، أي هذا العذاب الذي توعدنا حدد لنا فيه وقته لنعلم الصدق في ذلك من الكذب، وقال بعض المفسرين، قولهم هذا على جهة الاستخفاف. قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يظهر من اللفظة، ثم أمره تعالى أن يقول لهم {لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله}، المعنى قل لهم يا محمد رداً للحجة إني {لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً} من دون الله ولا أنا إلا في قبضة سلطانه وبضمن الحاجة إلى لطفه، فإذا كنت هكذا فأحرى أن لا أعرف غيبه ولا أتعاصى شيئاً من أمره، لكن {لكل أمة أجل} انفرد الله تعالى بعلم حده ووقته، فإذا جاء ذلك الأجل في موت أو هلاك أمة لم يتأخروا ساعة ولا أمكنهم التقدم عن حد الله عز وجل، وقرأ ابن سيرين «آجالهم» بالجمع.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)} المعنى: قال يا أيها الكفرة المستعجلون عذاب الله عز وجل {أرأيتم إن أتاكم عذابه} ليلاً وقت المبيت، يقال: بيت القوم القوم إذا طرقوهم ليلاً بحرب أو نحوها {أو نهاراً} لكم منه منعة أو به طاقة؟ فماذا تستعجلون منه، وأنتم لا قبل لكم به؟ و«ما» ابتداء و«ذا» خبره، ويصح أن تكون {ماذا} بمنزلة اسم واحد في موضع رفع بالابتداء وخبره الجملة التي بعده، وضعف هذا أبو علي وقال: إنما يجوز ذلك على تقدير إضمار في {يستعجل} وحذفه كما قال [أبو النجم]: [الرجز] كله لم أصنع *** وزيدت ضربت قال: ويصح أن تكون {ماذا} في حال نصب ل {يستعجل}، والضمير في {منه} يحتمل أن يعود على الله عز وجل، ويحتمل أن يعود على «العذاب» وقوله {أثم إذا ما وقع} الآية، عطف بقوله {ثم} جملة القول على ما تقدم ثم أدخل على الجميع ألف التقرير، ومعنى الآية: إذا وقع العذاب وعاينتموه آمنتم به حينئذ، وذلك غير نافعكم بل جوابكم الآن وقد كنتم تستعجلونه مكذبين به، وقرأ طلحة بن مصرف «أثَم» بفتح الثاء، وقال الطبري في قوله «ثُم» بضم الثاء، معناه هنالك وقال: ليست «ثُم» هذه التي تأتي بمعنى العطف. قال القاضي أبو محمد: والمعنة صحيح على أنها «ثم» المعروفة ولكن إطباقه على لفظ التنزيل هو كما قلنا، وما ادعاه الطبري غير معروف و{الآن} أصله عند بعض النحاة آن فعل ماض دخلت عليه الألف واللام على حدها في قوله: الحمار اليجدع ولم يتعرف بذلك كل التعريف ولكنها لفظة مضمنة معنى حرف التعريف ولذلك بنيت على الفتح لتضمنها معنى الحرف ولوقوعها موقع المبهم لأن معناها هذا الوقت، وقرأ الأعمش وأبو عمرو وعاصم والجمهور {الآن} بالمد والاستفهام على حد التوبيخ، وكذلك {الآن وقد عصيت} [يونس: 91] وقرأها باستفهام بغير مد طلحة والأعرج. وقوله تعالى: {ثم قيل للذين ظلموا} الآية، هو الوعيد الأعظم بالخلود لأهل الظلم الأخص الذي هو ظلم الكفر لا ظلم المعصية، وقوله {هل تجزون} توقيف وتوبيخ، ونصت هذه الآية على أن الجزاء في الآخرة، هو على تكسب العبد، وقوله {ويسألونك} معناه يستخبرونك، وهي على هذا تتعدى إلى مفعولين: أحدهما الكاف، والآخر في الابتداء والخبر، وقيل هي بمعنى يستعلمونك، فهي على هذا تحتاج إلى مفعولين ثلاثة: أحدها الكاف، والابتداء والخبر يسد مسد المفعولين، و{أحق هو} قيل الإشارة إلى الشرع والقرآن، وقيل: إلى الوعيد وهو الأظهر، وقرأ الأعمش «الحق هو» بمدة وبلام التعريف، وقوله {إي}، هي لفظة تتقدم القسم وهي بمعنى «نعم» ويجيء بعدها حرف القسم وقد لا يجيء، تقول: {إي وربي} وإي ربي {معجزين} معناه مفلتين، وهذا الفعل أصله تعدية عجز لكن كثر فيه حذف المفعول حتى قالت العرب: أعجز فلان، إذا ذهب في الأرض فلم يقدر عليه.
{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)} هذا إخبار للكفار في سياق إخبارهم بأن ذلك الوعد حق، {وأسروا} لفظة تجيء بمعى أخفوا، وهي حينئذ من السر، وتجيء بمعنى أظهروا، وهي حينئذ من أسارير الوجه، قال الطبري: المعنى وأخفى رؤساء هؤلاء الكفار الندامة عن سفلتهم ووضعائهم. قال القاضي أبو محمد: بل هو عام في جميعهم و{ألا} استفتاح وتنبيه، ثم أوجب أن جميع {ما في السماوات والأرض} ملك لله تعالى، قال الطبري: يقول فليس لهذا الكافر يومئذ شيء يقتدي به. قال القاضي أبو محمد: وربط الآيتين هكذا يتجه على بعد، وليس هذا من فصيح المقاصد، وقوله: {ولكن أكثرهم لا يعلمون} قيد بالأكثر لأن بعض الناس يؤمن فهم يعلمون حقيقة وعد الله تعالى وأكثرهم لا يعلمون فهم لأجل ذلك يكذبون، وقوله و{هو يحيي} يريد يحيي من النطفة {ويميت} بالأجل ثم يجعل المرجع إليه بالحشر يوم القيامة وفي قوة هذه الآيات ما يستدعي الإيمان وإجابة دعوة الله، وقرأ «ترجعون» بالتاء من فوق الأعرج وأبو عمرو وعاصم ونافع والناس، وقرأ عيسى بن عمر «يرجعون» بالياء من تحت، واختلف عن الحسن.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} هذه آية خوطب بها جميع العالم، و«الموعظة» القرآن لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر بالمعروف ويزجر ويرقق ويوعد ويعد، وهذه صفة الكتاب العزيز، وقوله: {من ربكم} يريد لم يختلقها محمد صلى الله عليه وسلم بل هي من عند الله و{ما في الصدور} يريد به الجهل والعتو عن النظر في آيات الله ونحو هذا مما يدفع الإيمان، وجعله موعظة بحسب الناس أجمع، وجعله {هدى ورحمة} بحسب المؤمنين فقط، وهذا تفسير صحيح المعنى إذا تؤمل بان وجهه، وقوله سبحانه {قل بفضل الله وبرحمته}، الباء متعلقة بمحذوف استغني عن ذكره يدل عليه قوله: {وهدى ورحمة} قال بعض المتأولين وهو هلال بن يساف وقتادة والحسن وابن عباس «الفضل»: الإسلام، و«الرحمة»: القرآن، وقال أبو سعيد الخدري: «الفضل»: القرآن، و«الرحمة» أن جعلهم من أهله، وقال زيد بن أسلم والضحاك «الفضل»: القرآن، و«الرحمة»: الإسلام، وقالت فرقتة: «الفضل»: محمد صلى الله عليه وسلم، و«الرحمة»: القرآن. قال القاضي أبو محمد: ولا وجه عندي لشيء من هذا التخصيص إلا أن يستند منه شيء إلى النبي صلى الله عليه سلم، وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه، أن «الفضل» هو هداية الله تعالى إلى دينه والتوفيق إلى اتباع الشرع، و«الرحمة»: هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على التشرع بالإسلام والإيمان به، ومعنى الآية: قل يا محمد لجميع الناس: {بفضل الله وبرحمته} فليقع الفرح منكم، لا بأمور الدنيا وما جمع من حطامها، فالمؤمنون يقال لهم فلتفرحوا، وهم متلبسون بعلة الفرح وسببه، ومحصلون لفضل الله منتظرون الرحمة، والكافرون يقال لهم: {بفضل الله وبرحمته} فلتفرحوا، على معنى أن لو اتفق لكم أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك، وقرأ أبي بن كعب وابن القعقاع وابن عامر والحسن على ما زعم هارون ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم «فلتفرحوا»، و«تجمعون» بالتاء فيهما على المخاطبة، وهي قراءة جماعة من السلف كبيرة، وعن أكثرهم خلاف، وقرأ السبعة سوى ابن عامر وأهل المدينة والأعرج ومجاهد وابن أبي إسحاق وقتادة وطلحة والأعمش: بالياء فيهما على ذكر الغائب، ورويت عن الحسن بالتاء من فوق فيهما، وقرأ أبو التياح وأبو جعفر وقتادة: بخلاف عنهم وابن عامر بالياء في الأولى وبالتاء في الآخرة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وجماعة من السلف ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالياء في الأولى وفي الآخرة، ورويت عن أبي التياح، وإذا تأملت وجوه ذلك بانت على مهيع الفصيح من كلام العرب ولذلك كثر الخلاف من كل قارئ، وفي مصحف أبي بن كعب، «فبذلك فافرحوا» وأما من قرأ «فلتفرحوا» فأدخل اللام في أمر المخاطب فذلك على لغة قليلة، حكى ذلك أبو علي في الحجة، وقال أبو حاتم وغيره: الأصل في كل أمر إدخال اللام إذا كان النهي بحرف فكذلك الأمر، وإذا كان أمراً لغائب بلام، قال أبو الفتح: إلا أن العرب رفضت إدخال اللام في أمر المخاطب لكثرة ترداده، وقرأ أبو الفتوح والحسن: بكسر اللام من «فلِتفرحوا»، فإن قيل: كيف أمر الله بالفرح في هذه الآية؟ وقد ورد ذمه في قوله {لفرح فخور} [هود: 10]، وفي قوله {لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين} [القصص: 76] قيل إن الفرح إذا ورد مقيداً في خير فليس بمذموم وكذلك هو في هذه الآية، وإذا ورد مقيداً في شر أو مطلقاً لحقه ذم إذ ليس من أفعال الآخرة بل ينبغي أن يغلب على الإنسان حزنه على ذنبه وخوفه لربه، وقوله: {مما يجمعون} يريد من مال الدنيا وحطامها الفاني المؤذي في الآخرة.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)} هذه المخاطبة لكفار العرب الذين جعلوا البحائر والسوائب والنصيب من الحرث والأنعام وغير ذلك مما لم يأذن الله به، وإنما اختلقوه بأمرهم، وقوله تعالى: {أنزل} لفظة فيها تجوز، وإنزال الرزق، إما أن يكون في ضمن إنزال المطر بالمآل، أو نزول الأمر به الذي هو ظهور الأثر في المخلوق منه المخترع، ثم أمر الله نبيه بتوقيفهم على أحد القسمين، وهو لا يمكنهم ادعاء إذن الله تعالى في ذلك، فلم يبق إلا أنهم افتروه، وهذه الآية نحو قوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} [الأعراف: 32]، ذكر ذلك الطبري عن ابن عباس، وقوله {وما ظن الذين يفترون على الله} الآية، وعيد، لما تحقق عليهم، بتقسيم الآية التي قبلها، أنهم مفترون على الله، عظم في هذه الآية جرم الافتراء، أي ظنهم في غاية الرداءة بحسب سوء أفعالهم، ثم ثنى بإيجاب الفضل على الناس في الإمهال لهم مع الافتراء والعصيان: والإمهال داعية إلى التوبة والإنابة، ثم استدرك ذكر من لا يرى حق الإمهال ولا يشكره ولا يبادر به فيه على جهة الذم لهم، والآية بعد هذا تعم جميع فضل الله وجميع تقصير الخلق في شكره، لا رب غيره.
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)} قصد الآية وصف إحاطة الله تعالى بكل شيء، ومعنى اللفظ {وما تكون} يا محمد، والمراد هو وغيره {في شأن} من جميع الشؤون {وما تتلوا نه} الضمير عائد على {شأن} أي فيه وبسببه من قرآن، ويحتمل أن يعود الضمير على جميع القرآن، ثم عم بقوله {ولا تعملون من عمل} وفي قوله {إلا كنا عليكم شهوداً}، تحذير وتنبيه، و{تفيضون} تنهضون بجد، يقال: أفاض الرجل في سيره وفي حديثه، ومنه الإفاضة في الحج ومفيض القدام، ويحتمل أن «فاض» عدي بالهمزة، و{يعزب} معناه: يغيب حتى يخفى حتى قالوا للبعيد عازب، ومنه قول الشاعر [ابن مقبل]: الطويل] عوازب لم تسمع نبوح مقامه *** ولم تر ناراً تم حول محرم وقيل للغائب عن أهله: عازب حتى قالوه لمن لا زوجة له، وفي السير أن بيت سعد بن خيثمة كان يقال: بيت العزاب، وقرأ جمهور السبعة والناس «يعزُب» يضم الزاي، وقرأ الكسائي وحده منهم: «يعزِب» بكسرها وهي قراءة ابن وثاب والأعمش وطلحة بن مصرف، قال أبو حاتم: القراءة بالضم، والكسر لغة، و«المثقال»: الوزن، وهو اسم، لا صفة كمعطار ومضراب والذر: صغار النمل، جعلها الله مثالاً إذ لا يعرف في الحيوان المتغذي المتناسل المشهور النوع والموضع أصغر منه، وقرأ جمهور الناس وأكثر السبعة: «ولا أصغرَ ولا أكبرَ» بفتح الراء عطفاً على {ذرة} في موضع خفض لكن منع من ظهوره امتناع الصرف، وقرأ حمزة وحده: «ولا أصغر ولا أكبر» عطفاً على موضع قوله {مثقال}، لأن التقدير وما يعزب عن ربك مثقال ذرة، و«الكتاب المبين»: اللوح المحفوظ، كذا قال بعض المفسرين، ويحتمل أن يريد تحصيل الكتبة، ويكون القصد ذكر الأعمال المذكورة قبل، وتقديم «الأصغر» في الترتيب جرى على قولهم: القمرين والعمرين، ومنه قوله تعالى: {لا يغادر صغيرة ولا كبيرة} [الكهف: 49] والقصد بذلك تنبيه الأقل وأن الحكم المقصود إذ وقع على الأقل فأحرى أن يقع على الأعظم، و{ألا} استفتاح وتنبيه، و{أولياء الله} هم المؤمنون الذين والوه بالطاعة والعبادة، وهذه الآية يعطي ظاهرها أن من آمن واتقى فهو داخل في أولياء الله، وهذا هو الذي تقتضيه الشريعة في الولي، وإنما نبهنا هذا التنبيه حذراً من بعض الوصفية وبعض الملحدين في الولي، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا سئل عن أولياء الله؟ فقال: الذين إذا رأيتهم ذكرت الله. قال القاضي أبو محمد: وهذا وصف لازم للمتقين لأنهم يخشعون ويخشعون، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه قال: «أولياء الله قوم تحابوا في الله واجتمعوا في ذاته لم تجمعهم قرابة ولا مال يتعاطونه» وقوله {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} يحتمل أن يكون في الآخرة، أي لا يهتمون بهمها ولا يخافون عذاباً ولا عقاباً ولا يحزنون لذلك، ويحتمل أن يكون ذلك في الدنيا أي لا يخافون أحداً من أهل الدنيا ولا من أعراضها ولا يحزنون على ما فاتهم منها، والأول أظهر والعموم في ذلك صحيح لا يخافون في الآخرة جملة ولا في الدنيا الخوف الدنياوي الذي هو في فوت آمالها وزوال منازلها وكذلك في الحزن، وذكر الطبري عن جماعة من العلماء مثل ما في الحديث من الأولياء الذين إذا رآهم أحد ذكر الله، وروي فيهم حديث: «إن أولياء الله هم قوم يتحابون في الله وتجعل لهم يوم القيامة منابر من نور وتنير وجوههم، فهم في عرصة القيامة لا يخافون ولا يحزنون» وروي عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله قالوا ومن هم يا رسول الله؟ قال: قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام ولا أموال»، الحديث، ثم قرأ {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، وقوله {الذين آمنوا} يصح أن يكون في موضع نصب على البدل من الأولياء، ويصح أن يكون في موضع رفع على الابتداء على تقديرهم الذين، وكثيراً ما يفعل ذلك بنعت ما عملت فيه «أن» إذا جاء بعد خبرها، ويصح أن يكون {الذين} ابتداء وخبره في قوله {لهم البشرى}، وقوله {وكانوا يتقون} لفظ عام في تقوى الشرك والمعاصي.
{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)} أما بشرى الآخرة فهي بالجنة قولاً واحداً وتلك هي الفضل الكبير الذي في قوله {وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً} [الأحزاب: 47] وأما بشرى الدنيا فتظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له، وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الدرداء وعمران بن حصين وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وغيرهم على أنه سئل عن ذلك ففسره بالرؤيا، وعن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال: «لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة»، وروت عنه أم كرز الكعبية أنه قال: «ذهبت النبوءة وبقيت المبشرات»، وقال قتادة والضحاك: البشرى في الدنيا هي ما يبشر به المؤمن عند موته وهو حي عند المعاينة. قال القاضي أبو محمد: ويصح أن تكون بشرى الدنيا في القرآن من الآيات المبشرات، ويقوى ذلك بقوله في هذه الآية {لا تبديل لكلمات الله} وإن كان ذلك كله يعارضه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «هي الرؤيا» إلا إن قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى مثالاً من البشرى وهي تعم جميع الناس، وقوله {لا تبديل لكلمات الله} يريد لا خلف لمواعيده ولا رد في أمره. قال القاضي أبو محمد: وقد أخذ ذلك عبد الله بن عمر على نحو غير هذا وجعل التبديل المنفي في الألفاظ وذلك أنه روي: أن الحجّاج بن يوسف خطب فأطال خطبته حتى قال: إن عبد الله بن الزبير قد بدل كتاب الله، فقال له عبد الله بن عمر: إنك لا تطيق ذلك أنت ولا ابن الزبير {لا تبديل لكلمات الله}، فقال له الحجاج: لقد أعطيت علماً فلما انصرف إليه في خاصته سكت عنه، وقد روي هذا النظر عن ابن عباس في غير مقاولة الحجّاج، ذكره البخاري، وقوله {ذلك هو الفوز العظيم} إشارة إلى النعيم الذي به وقعت البشرى. وقوله: {ولا يحزنك} الآية، هذه آية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم، المعنى ولا يحزنك يا محمد ويهمك قولهم، أي قول كفار قريش، ولفظة القول تعم جحودهم واستهزاءهم وخداعهم وغير ذلك، ثم ابتدأ بوجوب {إن العزة لله جميعاً}، أي فهم لا يقدرون على شيء ولا يؤذونه إلا بما شاء الله وهو القادر على عقابهم لا يعازه شيء، ففي الآية وعيد لهم، وكسر {إن} في الابتداء ولا ارتباط لها بالقول المتقدم لها، وقال ابن قتيبة لا يجوز فتح «إن» في هذا الموضع وهو كفر. قال القاضي أبو محمد: وقوله هو كفر غلو، وكأن ذلك يخرج على تقدير لأجل أن العزة لله، وقوله: {هو السميع} أي لجميع ما يقولونه {العليم} بما في نفوسهم من ذلك، وفي ضمن هذه الصفات تهديد، ثم استفتح بقوله {ألا إن لله من في السماوات والأرض} أي بالملك والإحاطة، وغلب من يعقل في قوله {من} إذ له ملك الجميع ما فيها ومن فيها، وإذا جاءت العبارة ب «ما» فذلك تغليب للكثرة إذ الأكثر عدداً من المخلوقات لا يعقل، ف {من} تقع للصنفين بمجموعهما، «وما» كذلك «، ولا تقع لما يعقل إذا تجرد من أن تقول: ما قائل هذا القول؟ هذا ما يتقلده من يفهم كلام العرب، وقوله {وما يتبع} يصح أن تكون {ما} استفهاماً بمعنى التقرير وتوقيف نظر المخاطب، ويعمل {يدعون} في قوله {شركاء} ويصح أن تكون نافية ويعمل {يتبع} في {شركاء} على معنى أنهم لا يتبعون شركاء حقاً، ويكون مفعول {يدعون} وقوله {إن} نافية و{يخرصون} معناه يحدسون ويخمنون لا يقولون بقياس ولا نظر، وقرأت فرقة» ولا يُحزنك «من أحزن، وقرأت فرقة» ولا يَحزنك «من حزن.
|