الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***
{ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)} هذا توكيد من إبليس في أنه يجد في إغواء بني أدم، وهذا لم يكن حتى علم إبليس أن الله يجعل في الأرض خليفة وعلم أنه آدم وإلا فلا طريق له إلى علم أنسال آدم من ألفاظ هذه الآيات. قال القاضي ابو محمد: ومقصد هذه الآية أن إبليس أخبر عن نفسه أنه يأتي إضلال بني آدم من كل جهة وعلى كل طريق يفسد عليه ما أمكنه من معتقده وينسيه صالح أعمال الآخرة ويغريه بقبيح أعمال الدنيا، فعبر ذلك بألفاظ تقتضي الإحاطة بهم، وفي اللفظ تجوز، وهذا قول جماعة من المفسرين، وقال ابن عباس فيما روى عنه: أراد بقوله {من بين أيديهم} الآخرة {ومن خلفهم} الدنيا {وعن أيمانهم} الحق، {وعن شمائلهم} الباطل، وقال ابن عباس أيضاً فيما روي عنه: {من بين أيديهم} هي الدنيا {ومن خلفهم} هي الآخرة {وعن أيمانهم} الحسنات {وعن شمائلهم} السيئات. وقال مجاهد: من «بين أيديهم وعن أيمانهم»: معناه حيث يبصرون «ومن خلفهم وعن شمائلهم» حيث لا يبصرون. وقوله: {ولا تجد أكثرهم شاكرين} خبر أن سعايته تفعل ذلك ظناً منه وتوهماً في خلقة آدم حين رأى خلقته من أشياء مختلفة فعلم أنه ستكون لهم شيم تقتضي طاعته كالغل والحسد والشهوات ونحو ذلك، قال ابن عباس وقتادة: إلا أن إبليس لم يقبل أنه يأتي بني آدم من فوقهم ولا جعل الله له سبيلاً إلى أن يحول بينهم وبين رحمة الله وعفوه ومنّه، وما ظنه إبليس صدقه الله عز وجل. ومنه قوله: {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين} [سبأ: 20] فجعل أكثر العالم كفرة، ويبينه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: «يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم أخرج بعث النار، فيقول: يا رب وما بعث النار؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين وواحد إلى الجنة» ونحوه مما يخص أمة محمد عليه السلام: «ما أنتم في الأمم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود». قال القاضي أبو محمد: وقوله كالشعرة يحتمل أن يريد شعرة واحدة وهو بعيد لأن تناسب الحديث الأول يرده، ويحتمل أن يريد الشعرة التي هي للجنس، والقصد أن يشبههم بثور أسود قد أنبتت في خلال سواده شعرة بيضاء، ويحتمل أن يريد اللمعة من الشعر الأبيض، وهذا فيه بعد، و{شاكرين} معناه مؤمنين لأن ابن آدم لا يشكر نعمة الله إلا بأن يؤمن، قاله ابن عباس وغيره. وقوله تعالى: {قال اخرج منها} الضمير في {منها} عائد على الجنة و{مذءوماً} معناه معيباً يقال ذأمه إذا عابه ومنه الذأم وهو العيب. وفي المثل: «لن تعدم لحسناء ذاماً» أي عيباً، وسهلت فيه الهمزة، ومنه قول قيل حمير: أردت أن تذيمه فمدهته يريد فمدحته، وحكى الطبري أنه يروى هذا البيت: [الطويل] صَحِبْتُكَ إذ عيني عليها غِشاوةٌ *** فلمّا انجلتْ قَطعتُ نفس أُذيمُها قال القاضي أبو محمد: والرواية المشهورة ألومها. ومن الشاهد في اللفظ قول الكميت: [الخفيف] وهمُ الأقربونَ من كلّ خيرٍ *** وَهُمُ الأبعدونَ من كل ذامِ ومن الشاهد في مدحور قول الشاعر: [الوافر] ودحرت بني الحصيب إلى قديد *** وقد كانوا ذوي أشر وفخر وقرأ الزهري وأبو جعفر والأعمش في هذه الآية «مذوماً» على التسهيل، و{مدحوراً} معناه مقصياً مبعداً. وقرأت فرقة «لَمن تبعك» بفتح اللام وهي على هذه لام القسم المخرجة الكلام من الشك إلى القسم، وقرأ عاصم الجحدري والأعمش «لِمن تبعك» بكسر اللام، والمعنى لأجل من تبعك {لأملأن جهنم منكم أجمعين} فأدخله في الوعيد معهم بحكم هذه الكاف في {منكم}.
{وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)} إذا أمر الإنسان بشيء هو متلبس به فإنما المقصد بذلك أن يستمر على حاله ويتمادى في هيئته وقوله تعالى لآدم {اسكن} هو من هذا الباب، وأكد الضمير الذي في قوله {اسكن} بقوله {أنت} وحينئذ جاز العطف عليه وهو ضمير لا يجوز إظهاره ولا يترتب، والعطف على الضمير الملفوظ به لا يجوز إلا بعد تأكيده كقولك قمت أنت وزيد لأن الضمير بمنزلة حرف من الفعل، وهذا الضمير الذي في {اسكن} أضعف من الملفوظ به فأحرى أن لا يصح العطف عليه إلا بعد التأكيد. وقوله: {فكلا} هو من أكل فأصله أكلا فحذفت فاء الفعل لاجتماع المثلين واستغني عن الأخرى لما تحرك ما بعدها، وحسن أيضاً حذف فاء الفعل لأنهم استثقلوا الحركة على حرف علة، وهذا باب كل فعل أوله همزة ووزنه فعل كأخذ وأمر ونحوه وكان القياس أن لا يحذف فاء الفعل ولكن ورد استعمالهم هكذا، ويقال قرب يقرب، و{هذه الشجرة} الظاهر أنه أشار إلى شخص شجرة واحدة من نوع وأرادها ويحتمل أن يشير إلى شجرة معينة وهو يريد النوع بجملته، وعبر باسم الواحدة كما تقول أصاب الناس الدينار والدرهم وأنت تريد النوع. قال القاضي أبو محمد: وعلى الاحتمالين فأدم عليه السلام إنما قصد في وقت معصية فعل ما نهي عنه قاله جمهور المتأولين، وبذلك أغواه إبليس لعنه الله بقولك إنك لم تنه إلا لئلا تخلد أو تكون ملكاً، فيبطل بهذا قول من قال إن آدم إنما أخطأ متأولاً بأن ظن النهي متعلقاً بشخص شجرة فأكل من النوع فلم يعذر بالخطأ. قال القاضي أبو محمد: وذلك أن هذا القائل إنما يفرض آدم معتقداً أن النهي إنما تعلق بشجرة معينة فكيف يقال له مع هذا الاعتقاد إنك لم تنه إلا لئلا تخلد ثم يقصد هو طلب الخلود في ارتكاب غير ما نهي عنه؟ ولا فرق بين أكله ما يعتقد أنه لم ينه عنه وبين أكله سائر المباحات له. قال القاضي أبو محمد: والهاء الأخيرة في {هذه} بدل من الياء في هذي أبدلت في الوقف ثم ثبتت في الوصل هاء حملاً على الوقف، وليس في الكلام هاء تأنيث قبلها كسرة إلا «هذه» وقرأ ابن محيصن «هذي الشجرة» على الأصل، وقوله {فتكونا} نصب في جواب النهي. قال القاضي أبو محمد: وتعلق الناس بهذه الآية في مسألة الحظر والإباحة، وذلك أن مسألة الحظر والإباحة تكلم الناس فيها على ضربين فأما الفقهاء فدعاهم إلى الكلام فيها أنه تنزل نوازل لا توجد منصوصة في كتاب الله عز وجل ولا في سنة نبيه ولا في إجماع، ويعتم وجه استقرائها من أحد هذه الثلاثة وقياسها على ما فيها، فيرجع الناظر بعد ذلك ينظر على أي جهة يحملها من الإجازة والمنع، فقال بعضهم إذا نزل مثل هذا فنحمله على الحظر ونأخذ فيه بالشدة ونستبرئ لأنفسنا، إذ الله عز وجل قد بين لنا في كتابه جميع ما يجب بيانه وأحل ما أراد تحليله، ولم يترك ذكر هذه النازلة إلا عن قصد فاجترامنا نحن عليها لا تقتضيه الشريعة، وقال بعضهم بل نحملها على الإباحة لأن الله عز وجل قد أكمل لنا ديننا وحرم علينا ما شاء تحريمه، ولم يهمل النص على نازلة إلا وقد تركها في جملة المباح، وبعيد أن يريد في شيء التحريم ولا يذكره لنا ويدعنا في عمى الجهالة به، فإنما نحملها على الإباحة حتى يطرأ الحظر، وقال بعضهم بل نحمل ذلك على الوقف أبداً ولا نحكم فيه بحظر ولا إباحة بل نطلب فيه النظر والقياس أبداً، وذلك أنّا نجد الله عز وجل يقول في كتابه {حرم عليكم} في مواضع، ويقول {أحل لكم} في مواضع. فدل ذلك على أن كل نازلة تحتاج إلى شرع وأمر، إما مخصوصاً بها وإما مشتملاً عليها وعلى غيرها، ولو كانت الأشياء على الحظر لما قال في شيء حرم عليكم ولو كانت على الإباحة لما قال في شيء أحل لكم. قال القاضي أبو محمد: وهذا أبين الأقوال ولم يتعرض الفقهاء في هذه المسألة إلى النظر في تحسين العقل وتقبيحه، وإنما تمسكوا في أقوالهم هذه بأسباب الشريعة وذهبوا إلى انتزاع مذاهبهم منها، وأما الضرب الثاني من كلام الناس في الحظر والإباحة فإن المعتزلة ومن قال بقولهم إن العقل يحسن ويقبح نظروا في المسألة من هذه الجهة فقالوا نفرض زمناً لا شرع فيه أو رجلاً نشأ في برية ولم يحسن قط بشرع ولا بأمر ولا بنهي أو نقدر آدم عليه السلام وقت إهباطه إلى الأرض قد ترك وعقله قبل أن يؤمر وينهى كيف كانت الأشياء عليه أو كيف يقتضي العقل في الزمن والرجل المفروضين، فقال بعضهم الذي يحسن في العقل أن تكون محظورة كلها حتى يرد الإذن باستباحتها، وذلك أن استباحتها تعد على ملك الغير وإذا قبح ذلك في الشاهد فهو في حق الله أعظم حرمة، وذهب بعض هذه الفرقة إلى استثناء التنفس والحركة من هذا الحظر وقالوا إن هذه لا يمكن غيرها. قال القاضي أبو محمد: ويمكن أن يقدر الاضطرار إليها إباحة لها، وقال بعضهم: بل يحسن في العقل أن تكون مباحة إذ التحكم في ملك الغير بوجه لا ضرر عليه فيه كالاستظلال بالجدران ونحوه مباح، فإذا كان هذا في الشاهد جائزاً فهو في عظم قدر الله تعالى ووجود أجوز، إذ لا ضرر في تصرفنا نحن في ملكه، ويتعلق بحقه شيء من ذلك، وقال أهل الحق والسنة في هذا النحو من النظر، بل الأمر في نفسه على الوقف ولا يوجب العقل تحسيناً ولا تقبيحاً بمجرده يدان به، ولا يتجه حكم الحسن والقبيح إلا بالشرع، وقال بعضهم: والعقل لم يخل قط من شرع، فلا معنى للخوض في هذه المسألة ولا لفرض ما لا يقع، وذهبوا إلى الاحتجاج بأن آدم عليه السلام قد توجهت عليه الأوامر والنواهي في الجنة، بقوله تعالى له حين جرى الروح في جسده فعطس: قل الحمد لله يا آدم، وبقوله: اسكن وكل ولا تقرب ونحو هذا، وقال القاضي ابن الباقلاني في التقريب والإرشاد: إن الفقهاء الذين قالوا بالحظر والإباحة لم يقصدوا الكون مع المعتزلة في غوايتهم، ولكنهم رأوا لهم كلاماً ملفقاً مموهاً فاستحسنوه دون أن يشعروا بما يؤول إليه من الفساد في القول بتحسين العقل وتقبيحه. قال القاضي أبو محمد: وفي هذا الكلام حمل على فقهاء الشرع واستقصار لهم، والصواب أن لا يظن بهم هذا الخلل وإنما التمسوا على نوازلهم تعليق حكم الحظر والإباحة من الشرع وهم مع ذلك لا يحمل عليهم أنهم يدفعون الحق في أن العقل لا يحسن ولا يقبح دون الشرع، وقد تقدم في سورة البقرة ذكر الاختلاف في الشجرة وتعيينها.
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)} «الوسوسة» الحديث في اختفاء همساً وسراراً من الصوت، والوسواس صوت الحلي فشبه الهمس به، وسمي إلقاء الشيطان في نفس ابن آدم وسوسة إذ هي أبلغ السرار وأخفاه، هذا حال الشيطان معناه الآن، وأما مع أدم فممكن أن تكون وسوسة إذ هي أبلغ السرار وأخفاه، هذا حال الشيطان معنا الآن، وأما مع آدم فممكن أن تكون وسوسة بمجاورة خفية أو بإلقاء في نفس، ومن ذلك قول رؤبة: [الرجز] وسوس يدعو جاهراً رب الفلق *** فهذه عبارة عن كلام خفي، و{الشيطان} يراد به إبليس نفسه، واختلف نقلة القصص في صورة وسوسته فروي أنه كان يدخل إلى الجنة في فم الحية مستخفياً بزعمه فيتمكن من الوسوسة، وروي أن آدم وحواء كانا يخرجان خارج الجنة فيتمكن إبليس منهما، وروي أن الله أقدره على الإلقاء في أنفسهما فأغواهما وهو في الأرض. قال القاضي أبومحمد: وهذا قول ضعيف يرده لفظ القرآن، واللام في قوله {ليبدي} هي على قول كثير من المؤلفين لام الصيرورة والعاقبة، وهذا بحسب آدم وحواء وبحسب إبليس في هذه العقوبة المخصوصة لأنه لم يكن له علم بها فيقصدها. قال القاضي أبو محمد: ويمكن أن تكون لام كي على بابها بحسب قصد إبليس إلى حط مرتبتهما وإلقائهما في العقوبة غير مخصصة، و{ما ووري} معناه ماستر، من قولك وارى يواري إذ ستر، وظاهر هذا اللفظ أنها مفاعلة من واحد، ويمكن أن تقدر من اثنين لأن الشيء الذي يوارى هو أيضاً من جهة، وقرأ ابن وثاب «ما وري» بواو واحدة، وقال قوم: إن هذه اللفظة في هذه الآية مأخوذة من وراء. قال القاضي أبو محمد: وهو قول يوهنه التصريف، و«السوأة» الفرج والدبر، ويشبه أن يسمى بذلك لأن منظره يسوء، وقرأ الحسن ومجاهد من «سوّتهما» بالإفراد وتسهيل الهمزة وشد الواو، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والحسن والزهري: «سوّتهما» بالإفراد وتسهيل الهمزة وتشديد الواو وحكاها سيبويه لغة، قال أبو الفتح: ووجهها حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الواو، فيقولون سوة ومنهم من يشدد الواو، وقالت طائفة إن هذه العبارة إنما قصد بها أنهما كشفت لهما معانيهما وما يسوءهما ولم يقصد بها العورة. قال القاضي أبو محمد: وهذا قول كان اللفظ يحتمله إلا أن ذكر خصف الورق يرده إلا أن يقدر الضمير في {عليهما} [الآية: 22] عائداً على بدنيهما إذا تمزقت عنهما ثياب الجنة، فيصح القول المذكور. وقوله تعالى: {وقال ما نهاكما} الآية هذا القول الذي حكي عن إبليس يدخله من هذا التأويل ما دخل الوسوسة، فممكن أن يقول هذا مخاطبة وحواراً، وممكن أن يقول إلقاء في النفس ووحياً و{إلا أن} تقديره عند سيبويه والبصريين إلا كراهية أن، وتقديره عند الكوفيين «إلا أن لا» على إضمار لا. قال القاضي أبو محمد: ويرجح قول البصريين أن إضمار الأسماء أحسن من إضماء الحروف، وقرأ جمهور الناس «ملَكين» بفتح اللام وقرأ ابن عباس ويحيى بن أبي كثير والضحال «مِلكين» بكسر اللام، ويؤيد هذه القراءة قوله في آية أخرى {وملك لا يبلى} [طه: 120]. قال القاضي أبو محمد: وقال بعض الناس: يخرج من هذه الألفاظ أن الملائكة أفضل من البشر وهي مسألة اختلف الناس فيها وتمسك كل فريق بظواهر من الشريعة والفضل بيد الله، وقال ابن فورك: لا حجة في هذه الآية لأنه يحتمل أن يريد ملكين في أن لا تكون لهما شهوة في طعام، {وقاسمهما} أي حلف لهما باله وهي مفاعلة إذ قبول المحلوف له وإقباله على معنى اليمين كالقسم وتقريره وإن كان بادي الرأي يعطي أنها من واحد، ومثله قول الهذلي: وقاسمها بالله جهداً لأنتم *** ألذ من السلوى إذا ما نشورها وروي في القصص أن آدم قال في جملة اعتذاره: ما ظننت يا رب أن أحداً يحلف حانثاً، فقال بعض العلماء خدع الشيطان آدم بالله عز وجل فانخدع، ونحن من خدعنا بالله عز وجل انخدعنا له، وروي نحوه عن قتادة، واللام في قوله {لكما} متعلقة بالناصحين، فقال بعض الناس مكي وغيره: ذلك على أن تكون الألف واللام لتعريف الجنس لا بمعنى الذي، لأنها إذا كانت بمعنى الذي كان قوله {لكما} داخلاً في الصلة فلا يجوز تقديمه، وأظن أن أبا علي الفارسي خرج جواز تقديمه وهي بمعنى الذي، والظاهر أنه إن جعلت بمعنى الذي كانت اللام في قوله {لكما} متعلقة بمحذوف تقديره إني ناصح لكما من الناصحين، وقال أبو العالية في بعض القراءة «وقاسمهما بالله».
{فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} {فدلاهما بغرور} يريد فغرهما بقوله وخدعهما بمكره. قال القاضي أبو محمد: ويشبه عندي أن يكون هذا استعارة من الرجل يدلي آخر من هوة بحبل قد أرم أو بسبب ضعيف يغتر به فإذا تدلى به وتورك عليه انقطع به فهلك، فيشبه الذي يغر بالكلام حتى يصدقه فيقع في مصيبة بالذي يدلى في هوة بسبب ضعيف، وعلق حكم العقوبة بالذوق إذ هو أول الأكل وبه يرتكب النهي، وفي آية أخرى {فأكلا منها} [طه: 121]. وقوله تعالى: {بدت} قيل تخرقت عنهما ثياب الجنة وملابسها وتطايرت تبرياً منهما، وقال وهب بن منبه كان عليهما نور يستر عورة كل واحد منهما فانقشع بالمعصية ذلك النور، وقال ابن عباس وقتادة: كان عليهما ظفر كاسٍ فلما عصيا تقلص عنهما فبدت سوءاتهما وبقي منه على الأصابع قدر ما يتذكران به المعصية فيجددان الندم، {وطفقا} معناه أخذا وجعلا وهو فعل لا يختص بوقت كبات وظل. و {يخصفان} معناه يلصقانها ويضمان بعضها إلى بعض، والمخصف الإشفى، وضم الورق بعضه إلى بعض أشبه بالخرز منه بالخياطة، وقرأ جمهور الناس «يَخصفان» من خصف وقرأ عبد الله بن بريدة «يخصّفان» من خصف بشد الصاد وقرأ الزهري «يُخصفان» من أخصف، وقرأ الحسن فيما روى عنه محبوب: «يَخَصِّفان» بفتح الياء والخاء وكسر الصاد وشدها، ورويت عن ابن بريدة وعن يعقوب، وأصلها يختصفان كما تقول سمعت الحديث واستمتعته فأدغمت التاء في الصاد ونقلت حركتها إلى الخاء، وكذلك الأصل في القراءة بكسر الخاء بعد هذه، لكن لما سكنت التاء وأدغمت في الصاد اجتمع ساكنان فكسرت الخاء على عرف التقاء ساكنين، وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد «يَخِصِّفان» بفتح الياء وكسر الخاء وكسر الصاد وشدها وقد تقدم تعليلها، قال ابن عباس: إن الورق الذي خصف منه ورق التين، وروى أبيّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن آدم عليه السلام كان يمشي في الجنة كأنه نخلة سحوق، فلما واقع المعصية وبدت له حاله فرّ على وجهه فأخذت شجرة بشعر رأسه يقال إنها الزيتونة فقال لها: أرسليني فقالت ما أنا بمرسلتك، فناداه ربه أمني تفر يا آدم؟ قال لا يا رب، ولكن أستحييك، قال أما كان لك فيما منحتك من الجنة مندوحة عما حرمت عليك؟ قال بلى يا رب، ولكن وعزتك ما ظننت أن أحداً يحلف بك كاذباً، قال فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدّاً. قوله تعالى: {وناداهما} الآية، قال الجمهور إن هذا النداء نداء وحي بواسطة، ويؤيد ذلك أنّا نتلقى من الشرع ان موسى عليه السلام هو الذي خصص بين العالم بالكلام، وأيضاً ففي حديث الشفاعة أن بني آدم المؤمنين، يقولون لموسى يوم القيامة أنت خصك الله بكلامه واصطفاك برسالته اذهب فاشفع للناس، وهذا ظاهره أنه مخصص، وقالت فرقة بل هو نداء تكليم. قال القاضي أبو محمد: وحجة هذا المذهب أنه وقع في أول ورقة من تاريخ ابن أبي خيثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن آدم فقال نبي مكلم، وأيضاً فإن موسى خصص بين البشر الساكنين في الأرض وأما آدم إذ كان في الجنة فكان في غير رتبة سكان الأرض، فليس في تكليمه ما يفسد تخصيص موسى عليه السلام، ويؤيد أنه نداء وحي اشتراك حواء فيه، ولم يرو قط أن الله عز وجل كلم حواء، ويتأول قوله عليه السلام «نبي مكلَّم» أنه بمعنى موصل إليه كلام الله تعالى، وقوله عز وجل {الم أنهكما} سؤال تقرير يتضمن التوبيخ، وقوله {تلكما} يؤيد بحسب ظاهر اللفظ أنه إنما أشار إلى شخص شجرة، {وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين} إشارة إلى الآية التي في سورة طه في قوله {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} [طه: 117]. قال القاضي أبو محمد: وهذا هو العهد الذي نسيه آدم على مذهب من يجعل النسيان على بابه، وقرأ أبيّ بن كعب «ألم تنهيا عن تلكما الشجرة وقيل لكما»، وقولهما {ربنا ظلمنا أنفسنا} اعتراف من آدم وحواء عليهما السلام وطلب للتوبة والستر والتغمد بالرحمة، فطلب آدم هذا وطلب إبليس النظرة ولم يطلب التوبة فوكل إلى رأيه، قال الضحاك هذه الآية هي الكلمات التي تلقى آدم من ربه.
{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)} المخاطبة بقوله: {اهبطوا} قال أبو صالح والسدي والطبري وغيرهم: هي لآدم وحواء وإبليس والحية، وقالت فرقة: هي مخاطبة لآدم وذريته وإبليس وذريته. قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لعدمهم في ذلك الوقت، فإن قيل خاطبهم وأمرهم بشرط الوجود فذلك يبعد في هذه النازلة لأن الأمر بشرط الوجود إنما يصح إذا ترتب على المأمور بعد وجوده وصح معناه عليه كالصلاة والصوم ونحو ذلك، وأما هنا فإن معنى الهبوط لا يتصور في بنى آدم بعد وجودهم ولا يتعلق بهم من الأمر به شيء، وأما قوله في آية أخرى {اهبطا} [طه: 123] فهي مخاطبة لآدم وإبليس بدليل بيانه العداوة بينهما، وعدو فرد بمعنى الجمع، تقول قوم عدو وقوم صديق، ومنه قول الشاعر: لعمري لئن كنتم على النأي والغنى *** بكم مثل ما بي إنكم لصديق وعداوة الحياة معروفة، وروى قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم «ما سالمناهن منذ حاربناهن»، وقال عبد الله بن عمر: «من تركهن فليس منا»، وقالت عائشة «من ترك حية خشية من ثأرها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين». قال القاضي أبو محمد: وإنما يعرض في أمرهن حديث الفتى في غزوة الخندق، وقول النبي عليه السلام: إن جناً بالمدينة قد أسلموا فمن رأى من هذه الحيات شيئاً في بيته فليحرج عليه ثلاثاً فإن رآه بعد ذلك فليقتله فإنما هو كافر. وقوله تعالى: {مستقر} لفظ عام لزمن الحياة ولزمن الإقامة في القبور، وبزمن الحياة فسر أبو العالية وقال: هي كقوله {الذي جعل لكم الأرض فراشاً} [البقرة: 22] وبالإقامة في القبور فسر ابن عباس واللفظ يعمهما فهي كقوله: {ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وأمواتاً} [المرسلات: 25] وأما «المتاع» فهو بحسب شخص شخص، في زمن الحياة اللهم إلا أن يقدر سكنى القبر متاعاً بوجه ما، و«المتاع» التمتع والنيل من الفوائد، و{إلى حين} هو بحسب الجملة قيام الساعة، وبحسب مفرد بلوغ الأجل والموت، والحين في كلام العرب الوقت غير معين. وروي أن آدم عليه السلام أهبط بالهند وحواء بجدة، وتمناها بمنى، وعرف حقيقة أمرها بعرفة، ولقيها بجمع وأهبط إبليس بميسان وقيل بالبصرة وقيل بمصر فباض فيها وفرخ، قال ابن عمر وبسط إبليس فيها عبقرية، وذكر صالح مولى التؤمة قال في بعض الكتب لما أهبط إبليس قال رب أين مسكني؟ قال مسكنك الحمام ومجلسك الأسواق ولهوك المزامير وطعامك مالم يذكر عليه اسمي وشرابك المسكر، ورسلك الشهوات وحبائلك النساء. وأهبطت الحية بأصبهان. وروي أنها كانت ذات قوائم كالبعير فعوقبت بأن ردت تنساب على بطنها، وروي أن آدم لما أهبط إلى شقاء الدنيا علم صنعة الحديد ثم علم الحرث فحرث وسقى وحصد وذرا وطحن وعجن وخبز وطبخ وأكل فلم يبلغ إلى ذلك حتى بلغ من الجهد ما شاء الله، وروي أن حواء قيل لها يا حواء كما دميت الشجرة فأنت تدمين في كل شهر وأنت لا تحمل إلا كرهاً ولا تضع إلا كرهاً، قال فرنت عند ذلك فقيل لها الرنة عليك وعلى ولدك. قال القاضي أبو محمد: وفي هذه القصة من الأنباء كثير اختصرتها إذ لا يقتضيها اللفظ. وقوله تعالى: {فيها تحيون} الآية، حكم من الله عز وجل أمضاه وجعله حتماً في رقاب العباد يحيون في الأرض ويموتون فيها ويبعثون منها إلى الحشر أحياء كما أنشأ أول خلق يعيده، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو «تُخرَجون» بضم التاء وفتح الراء هنا، وفي الروم و{كذلك تُخرَجون ومن آياته} [الآية: 19] وكذلك حيث تكرر إلا في الروم {إذا أنتم تَخرُجون} [الآية: 25] وفي سأل سائل {يوم يخرجون} [الآية: 43] فإن هذين بفتح التاء والياء وضم الراء، ولم يختلف الناس فيهما، وقرأ حمزة والكسائي في الأعراف {ومنها تَخرُجون} [الآية: 25] بفتح التاء وضم الراء وفتح ابن عامر التاء في الأعراف وضمها في الباقي. وقوله تعالى: {يا بني آدم} الآية، هذا خطاب لجميع الأمم وقت النبي عليه السلام والسبب والمراد قريش ومن كان من العرب يتعرى في طوافه بالبيت، ذكر النقاش ثقيفاً وخزاعة وبني عامر بن صعصعة ونبي مدلج وعامراً والحارث ابني عبد مناف فإنها كانت عادتهم رجالاً ونساءً، وذلك غاية العار والعصيان، قال مجاهد ففيهم نزلت هذه الأربع الآيات، وقوله: {أنزلنا} يحتمل أن التدريج أي لما أنزلنا المطر فكان عنه جميع ما يلبس، قال عن اللباس أنزلنا، وهذا نحو قول الشاعر يصف مطراً. أقبل في المستن من سحابه *** اسنمة الآبال في ربابه أي بالمال ويحتمل أن يريد خلقنا فجاءت العبارة ب {أنزلنا} كقوله {وأنزلنا الحديد فيه بأس} [الحديد: 25] وقوله: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} [الزمر: 6] وأيضاً فخلق الله عز وجل وأفعاله إنما هي من علو في القدر والمنزلة، و{لباساً} عام في جميع ما يلبس، و{يوراي} يستر، وفي حرف أبيّ «سوءاتكم وزينة ولبس التقوى» وفي مصحف ابن مسعود «ولباس التقوى خير ذلكم»، ويروى عنه ذلك، وسقطت «ذلك» الأولى، وقرأ سكن النحوي «ولبوسُ التقوى» بالواو مرفوعة السين، وقرأ الجمهور من الناس «وريشاً» وقرأ الحسن وزر بن حبيش وعاصم فيما روى عنه أبو عمرو أيضاً، وابن عباس وأبو عبد الرحمن ومجاهد وأبو رجاء وزيد بن علي وعلي بن الحسين وقتادة «ورياشاً»، قال أبو الفتح: وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو حاتم: رواها عنه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهما عبارتان عن سعة الرزق ورفاهية العيش ووجود الملبس والتمتع، وفسره قوم بالأثاث، وفسره ابن عباس بالمال، وكذلك قال السدي والضحاك، وقال ابن زيد «الريش» الجمال، وقيل «الرياش» جمع ريش كبير وبئار وذيب وذياب ولصب ولصاب وشعب وشعاب وقيل الرياش مصدر من أراشه الله يريشه إذا أنعم عليه، والريش مصدر أيضاً من ذلك وفي الحديث «رجل راشه الله مالاً». قال القاضي أبو محمد: ويشبه أن هذا كله من معنى ريش الطائر وريش السهم إذ هو لباسه وسترته وعونه على النفوذ، وراش الله مأخوذ من ذلك، ألا ترى أنها تقرن ببرى ومن ذلك قول الشاعر: [لعمير بن حباب] فرشني بخير طال ما قد بريتني *** وخير الموالي من يريش ولا يبري وقرأ نافع وابن عامر والكسائي «ولباسَ» بالنصب عطفاً على ما تقدم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة «ولباسُ» بالرفع فقيل هو خبر ابتداء مضمر تقديره وهو لباس، وقيل هو مبتدأ و{ذلك} مبتدأ آخر و{خير} خبر {ذلك}، والجملة خبر الأول، وقيل هو مبتدأ و{خير} خبره و{ذلك} بدل أو عطف بيان أو صفة، وهذا أنبل الأقوال ذكره أبو علي في الحجة. وقوله: {ذلك من آيات الله} إشارة إلى جميع ما أنزل من اللباس والريش، وحكى النقاش أن الإشارة إلى لباس التقوى أي هو في العبد آية علامة وأمارة من الله أنه قد رضي عنه ورحمه، و{لعلهم} ترج بحسبهم ومبلغهم من المعرفة وقال ابن جريج {لباس التقوى} الإيمان، وقال معبد الجهني: هو الحياء، وقال ابن عباس هو العمل الصالح، وقال أيضاً، هو السمت الحسن في الوجه، وقاله عثمان بن عفان على المنبر، وقال عروة بن الزبير هو خشية الله، وقال ابن زيد هو سترة العورة، وقيل {لباس التقوى} الصوف وكل ما فيه تواضع لله عز وجل، وقال الحسن: هو الورع والسمت والحسن في الدنيا، وقال ابن عباس {لباس التقوى} العفة، وقال زيد بن علي {لباس التقوى} السلاح وآلة الجهاد. قال القاضي أبو محمد: وهذه كلها مثل وهي من {لباس التقوى}. قال القاضي أبو محمد: وتتصور الصفة التي حكاها أبو علي في قوله: {ذلك} لأن الأسماء توصف بمعنى الإشارة كما تقول جاءني زيد هذا كأنك قلت جاءني زيد المشار إليه فعلى هذه الحد توصف الأسماء بالمبهمات، وأما قوله فيه عطف بيان وبدل فهما واحد في اللفظ إنما الفرق بينهما في المعنى والمقصد وذلك أنك تريد في البدل كأنك أزلت الأول وأعملت العامل في الثاني على نية تكرار العامل، وتريد في عطف البيان كأنك أبقيت الأول وأعملت العامل في الثاني وإنما يبين الفرق بين البدل وعطف البيان في مسألة النداء إذا قلت يا عبد الله زيد فالبدل في هذه المسألة هو على هذا الحد برفع زيد لأنك تقدر إزالة عبد الله وإضافة «يا» إلى زيد ولو عطفت عطف البيان لقلت يا عبد الله زيد لأنك اردت بيانه ولم تقدر إزالة الأول وينشد هذا البيت: [الرجز] اني وأسطار سطرن سطرا *** لقائل يا نصر نصراً نصراً ويا نصر الأول على عطف البيان والثاني على البدل.
{يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)} هذه المخاطبة لجميع العالم والمقصود بها في ذلك الوقت من كان يطوف من العرب بالبيت عراة، فقيل كان ذلك من عادة قريش، وقال قتادة والضحاك: كان ذلك من عادة قبيلة من اليمن، وقيل كانت العرب تطوف عراة إلا الحمس وهم قريش ومن والاها. قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الصحيح لأن قريشاً لما سنوا بعد عام الفيل سنناً عظموا بها حرمتهم كانت هذه من ذلك، فكان العربي إما أن يعيره أحد من الحمس ثوباً فيطوف فيه، وإما أن يطوف في ثيابه ثم يلقيها، وتمادى الأمر حتى صار عند العرب قربة فكانت العرب تقول نطوف عراة كما خرجنا من بطون أمهاتنا ولا نطوف في ثياب قد تدنسنا فيها بالذنوب، ومن طاف في ثيابه فكانت سنتهم كما ذكرنا أن يرمي تلك الثياب ولا يتتفع بها وتسمى تلك الثياب اللقى، ومنه قول الشاعر: كفى حزناً كرّي عليه كأنه *** لقى بين أيدي الطائفين حريم وكانت المرأة تطوف عريانة حتى كانت إحداهن تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله *** فما بدا منه فلا أحله فنهى الله عز وجل عن جميع ذلك ونودي بمكة في سنة تسع لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، و«الفتنة» في هذه الآية الاستهواء والغلبة على النفس، وظاهر قوله: {لا يفتننكم} نهي الشيطان، والمعنى نهيهم أنفسهم عن الاستماع له والطاعة لأمره كما قالوا لا أرينك ها هنا، فظاهر اللفظ نهي المتكلم نفسه، ومعناه نهي الآخر عن الإقامة بحيث يراه، وأضاف الإخراج في هذه الآية إلى إبليس وذلك تجوز بسبب أنه كان ساعياً في ذلك ومسبباً له، ويقال أب وللأم أبة، وعلى هذا قيل أبوان، و{ينزع} في موضع الحال من الضمير في {أخرج}، وتقدم الخلاف في «اللباس» من قول من قال الأظفار ومن قال النور ومن قال ثياب الجنة، وقال مجاهد هي استعارة إنما أراد لبسة التقى المنزلة. قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقوله: {إنه يراكم} الآية، زيادة في التحذير وإعلام أن الله عز وجل قد مكن الشيطان من ابن آدم في هذا القدر وبحسب ذلك يجب أن يكون التحذر بطاعة الله تعالى. قال القاضي أبو محمد: والشيطان موجود قد قررته الشريعة وهو جسم، {وقبيلة} يريد نوعه وصنفة وذريته. و {حيثُ} مبنية على الضم، ومن العرب من يبينها على الفتح، وذلك لأنها تدل على موضع بعينه، قال الزجاج: ما بعدها صلة لها وليست مضافة إليه، قال أبو علي: هذا غير مستقيم وليست {حيث} بموصولة إذ ليس ثم عائد كما في الموصولات، وهي مضافة إلى ما بعدها. ثم أخبر عز وجل أنه صير «الشياطين أولياء» أي صحابة ومداخلين إلى الكفرة الذين لا إيمان لهم، وذكر الزهراوي أن جعل هنا بمعنى وصف. قال القاضي أبو محمد: وهي نزعة اعتزالية. وقوله {وإذا فعلوا} وما بعده داخل في صفة الذين لا يؤمنون ليقع التوبيخ بصفة قوم جعلوا مثالاً للموبخين إذا أشبه فعلهم فعل الممثل بهم، ويصح أن تكون هذه الآية مقطوعة من التي قبلها ابتداء إخبار عن كفار العرب، و«الفاحشة» في هذه الآية وإن كان اللفظ عاماً هي كشفت العورة عند الطواف فقد روي عن الزهري أنه قال: إن في ذلك نزلت هذه الآية، وقاله ابن عباس ومجاهد، وكان قول بعض الكفار إن الله أمر بهذه السنن التي لنا وشرعها، فرد الله عليهم بقوله {قل إن الله لا يأمربالفحشاء} ثم وبخهم على كذبهم ووقفهم على قولهم ما لا علم لهم به ولا رواية لهم فيه بل هو دعوى واختلاق.
{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)} تضمن قوله {قل أمر ربي بالقسط} أقسطوا ولذلك عطف عليه قوله {وأقيموا} حملاً على المعنى، و«القسط» العدل والحقن واختلف المتأولون في قوله {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد} فقيل أراد إلى الكعبة قاله مجاهد والسدي والمقصد على هذا شرع القبلة والأمر بالتزامها، وقيل أراد الأمر بإحضار النية لله في كل صلاة والقصد نحوه كما تقول وجهت وجهي لله قاله الربيع. قال القاضي أبو محمد: فلا يؤخذ الوجه على أنه الجارحة بل هو المقصد والمنزع، وقيل: المراد بهذا اللفظ إباحة الصلاة في كل موضع من الأرض، أي حيث ما كنتم فهو مسجد لكم تلزمكم عند الصلاة إقامة وجهوكم فيه الله عز وجل، قال قوم: سببها أن قوماً كانوا لا يصلون إلا في مساجدهم في قبلتهم، فإذا حضر الصلاة في غير ذلك من المساجد لم يصلّوا فيها، وقوله {مخلصين} حال من الضمير في {وادعوه}، و{الدين} مفعول ب {مخلصين}. قال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وابن عباس ومجاهد: المراد بقوله: {كما بدأكم تعودون} الإعلام بالبعث أي كما أوجدكم واخترعكم كذلك يعيدكم بعد الموت فالوقف على هذا التأويل {تعودون}، و{فريقاً} نصب ب {هدى}، والثاني منصوب بفعل تقديره: وعذب فريقاً أو أضل «فريقاً حق عليهم»، وقال ابن عباس أيضاً وأبو العالية ومحمد بن كعب ومجاهد أيضاً وسعيد بن جبير والسدي وجابر بن عبد الله وروي معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم: المراد بقوله {كما بدأكم تعودون} الإعلام بأن أهل الشقاء والكفر في الدنيا الذين كتب عليهم هم أهل الشقاء في الآخرة وأهل السعادة والإيمان الذين كتب لهم في الدنيا هم أهلها في الآخرة لا يتبدل من الأمور التي أحكمها ودبرها وأنفذها شيء، قالوقف في هذا التأويل في قوله {تعودون} غير حسن، و{فريقاً} على هذا التأويل نصب على الحال والثاني عطف على الأول، وفي قراءة أبي بن كعب «تعودون فريقين فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة»، والضمير في {إنهم} عائد على الفريق الذين حق عليهم الضلالة، و{أولياء} معناه: أنصاراً وأصحاباً وإخواناً، {ويحسبون} معناه يظنون يقال: حسبت أحسب حسباناً وحسباً ومحسبة، قال الطبري: وهذه الآية دليل على خطأ قول من زعم أن الله تعالى لا يعذب أحداً على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلا أن يأتيها على علم منه بموضع الصواب، وقرأ العباس بن الفضل وسهل بن شعيب وعيسى بن عمر «أنهم اتخذوا» بفتح الألف.
{يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)} هذا خطاب عام لجميع العالم وأمروا بهذه الأشياء بسبب عصيان حاضري ذلك الوقت من مشركي العرب فيها، والزينة ها هنا الثياب الساترة قاله مجاهد والسدي، وقال طاوس: الشملة من الزينة. قال القاضي أبو محمد: ويدخل فيها ماكان من الطيب للجمعة والسواك وبدل الثياب وكل ما وجد استحسانه في الشريعة ولم يقصد به مستعملة الخيلاء، و{عند كل مسجد} عند كل موضع سجود فهي إشارة إلى الصلوات وستر العورة فيها هذا هو مهم الأمر، ويدخل مع الصلاة مواطن الخير كلها، ومع ستر العورة ما ذكرناه من الطيب للجمعة وغير ذلك، وذكر مكي حديثاً أن معنى {خذوا زينتكم} صلوا في النعال، وما أحسبه يصح. وقوله تعالى: {وكلوا واشربوا} نهي عما كانوا التزموه من تحريم اللحم والودك في أيام الموسم، قال السدي وابن زيد، وتدخل مع ذلك أيضاً البحيرة والسائبة ونحو ذلك، وقد نص على ذلك قتادة وقال إن البحيرة وما جانسها هي المراد بقوله تعالى: {والطيبات من الرزق}، وقوله تعالى: {ولا تسرفوا} معناه ولا تفرطوا، قال أهل التأويل: يريد ولا تسرفوا بأن تحرموا على أنفسكم مالم يحرم الله عز وجل، قال ابن عباس: ليس في الحلال سرف إنما السرف في ارتكاب المعاصي. قال القاضي أبو محمد: يريد في الحلال القصد، واللفظ يقتضي النهي عن السرف مطلقاً فمن تلبس بفعل حرام فتأول تلبسه به حصل من المسرفين وتوجه النهي عليه، ومن تلبس بفعل مباح فإن مشى فيه على القصد وأوساط الأمور فحسن، وإن أفرط حتى دخل الضرر حصل أيضاً من المسرفين وتوجه النهي عليه، مثل ذلك أن يفرط الإنسان في شراء ثياب ونحوها ويستنفد في ذلك جل ماله أو يعطي ماله أجمع ويكابد بعياله الفقر بعد ذلك ونحوه، فالله عز وجل لا يحب شيئاً من هذا، وقد نهت الشريعة عنه، ولذلك وقف النبي عليه السلام بالموصي عند الثلث، وقال بعض العلماء: لو حط الناس إلى الربع لقول النبي عليه السلام «والثلث كثير»، وقد قال ابن عباس في هذه الآية، أحل الله الأكل والشرب مالم يكن سرفاً أو مخيلة. وأمر الله عز وجل نبيه عليه السلام أن يسألهم عمن حرم ما أحل الله على جهة التوبيخ والتقرير وليس يقتضي هذا السؤال جواباً، وإنما المراد منه التوقيف على سوء الفعل، وذكر بعض الناس أن السؤال والجواب جاء في هذه الآية من جهة واحدة وتخيل قوله: {قل هي للذين آمنوا} جواباً. قال القاضي أبو محمد: وهذا نظر فاسد ليس ذلك بجواب السؤال ولا يقتضي هذا النوع من الأسئلة جواباً، و{زينة الله} هي ما حسنته الشريعة وقررته. وزينة الدنيا هي كل ما اقتضته الشهوة وطلب العلو في الأرض كالمال والبنين وهي الزينة التي فضل الشرع عليها، وقوله: {والطيبات} قال الجمهور يريد المحللات، وقال الشافعي وغيره يريد المستلذات. قال القاضي أبو محمد: إلا أن ذلك ولا بد يشترط فيه أن يكون من الحلال، وإنما قاد الشافعي إلى هذا تحريمه المستقذرات كالوزغ وغيرها فإنه يقول هي من الخبائث محرمة. وقوله تعالى: {قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة}. قرأ نافع وحده «خالصةٌ» بالرفع والباقون «خالصةً» بالنصب، والآية تتأول على معنيين أحدهما أن يخبر أن هذه الطيبات الموجودات في الدنيا هي خالصة يوم القيامة للمؤمنين في الدنيا، وخلوصها أنهم لا يعاقبون عليها ولا يعذبون، فقوله {في الحياة الدنيا} متعلق ب {آمنوا}. وإلى هذا يشير تفسير سعيد بن جبير، فإنه قال {قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا} ينتفعون بها في الدنيا ولا يتبعهم إثمها، وقوله «خالصةٌ» بالرفع خبر هي، و{للذين} تبيين للخلوص، ويصح أن يكون خالصة خبراً بعد خبر، و{يوم القيامة} يريد به وقت الحساب، وقرأ قتادة والكسائي «قل هي لمن آمن في الحياة الدنيا»، والمعنى الثاني هو أن يخبر أن هذه الطيبات الموجودات هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا وإن كانت أيضاً لغيرهم معهم وهي يوم القيامة خالصة لهم أي لا يشركهم أحد في استعمالها في الآخرة، وهذا قول ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة والسدي وابن جريج وابن زيد، فقوله: {في الحياة الدنيا} على هذا التأويل متعلق بالمحذوف المقدر في قوله {للذين آمنوا} كأنه قال هي خالصة أو ثابتة في الحياة الدنيا للذين آمنوا، و«خالصةٌ» بالرفع خبر بعد خبر، أو خبر ابتداء مقدر تقديره: وهي خالصة يوم القيامة، و{يوم القيامة} يراد به استمرار الكون في الجنة، وأما من نصب «خالصةً» فعلى الحال من الذكر الذي في قوله {للذين آمنوا}، التقدير هي ثابتة أو مستقرة للذين آمنوا في حال خلوص لهم، والعامل فيها ما في اللام من معنى الفعل في قوله {للذين}. وقال أبو علي في الحجة: ويصح أن يتعلق قوله: {في الحياة الدنيا} بقوله {حرم} ولا يصح أن يتعلق ب {زينة} لأنها مصدر قد وصف، ويصح أني يتعلق بقوله {أخرج لعباده} ويجوز ذلك وإن فصل بين الصلة والموصول بقوله: {قل هي للذين آمنوا} لأن ذلك كلام يشد القصة وليس بأجنبي منها جداً كما جاء في قوله: {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة} [يونس: 27] فقوله {وترهقهم ذلة} معطوف على {كسبوا} داخل في الصلة، والتعلق ب {أخرج} هو قول الأخفش ويصح أن يتعلق بقوله: {والطيبات}. ويصح أن يتعلق بقوله: {من الرزق} ويصح أن يتعلق بقوله {آمنوا}. قال القاضي أبو محمد: وهذا الأخير هو أصح الأقوال على هذا التأويل الأول فيما رتبناه هنا، وأما على التأويل الآخر فيضعف معنى الآية هذه المتعلقات التي ذكر أبو علي وإنما يظهر أن يتعلق المحذوف المقدر في قوله {للذين آمنوا} وقوله تعالى: {كذلك} تقدير الكلام أي كما فصلنا هذه الأشياء المتقدمة الذكر فكذلك وعلى تلك الصورة نفصل الآيات أي نبين الأمارات والعلامات والهدايات لقوم لهم علم ينتفعون به، و{نفصل} معناه نقسم ونبين لأن بيان الأمور المشبهات إنما هو في تقسيمها بالفصول.
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)} لما تقدم إنكار ما حرمه الكفار بآرائهم، أتبعه ذكر ما حرم الله عز وجل وتقديره، و{الفواحش} ما فحش وشنع وأصله من القبح في المنظر، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل] وجيد كجيد الريم ليس بفاحش *** إذا هي نصته ولا بمعطل ثم استعمل فيما ساء من الخلق وألفاظ الحرج والرفث، ومنه الحديث ليس بفاحش في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله لسلمة بن سلامة بن وقش «أفحشت على الرجل» في حديث السير، ومنه قوله الحزين في كثير عزة: [الطويل] قصير القميص فاحش عند بيته *** وكذلك استعمل فيما شنع وقبح في النفوس. والحسن في المعاني إنما يتلقى من جهة الشرع، والفاحش كذلك، فقوله هنا {الفواحش} إنما هي إشارة إلى ما نص الشرع على تحريمه في مواضع أخر، فكل ما حرمه الشرع فهو فاحش وإن كان العقل لا ينكره كلباس الحرير والذهب للرجال ونحوه، وقوله: {ما ظهر منها وما بطن} يجمع النوع كله لأنه تقسيم لا يخرج عنه شيء، وهو لفظ عام في جميع الفواحش وذهب مجاهد إلى تخصيص ذلك بأن قال {ما ظهر} الطواف عرياناً، والبواطن الزنى، وقيل غير هذا مما يأتي على طريق المثال، و{ما} بدل من الفواحش وهو بدل بعض من كل، ومجموع القسمين يأتي بدل الشيء من الشيء وهو هو، {والإثم} أيضاً: لفظه عام لجميع الأفعال والأقوال التي يتعلق بمرتكبها إثم، هذا قول الجمهور، وقال بعض الناس: هي الخمر واحتج على ذلك بقوله الشاعر: [الوافر] شربت الإثم حتى طار عقلي *** قال القاضي وأبو محمد: وهذا قول مردود لأن هذه السورة مكية ولم تعن الشريعة لتحريم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد لأن جماعة من الصحابة اصطحبوها يوم أحد وماتوا شهداء، وهي في أجوافهم، وأيضاً فبيت الشعر يقال إنه مصنوع مختلق، وإن صح فهو على حذف مضاف، وكأن ظاهر القرآن على هذا القول أن تحريم الخمر من قوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير} [البقرة: 219] وهو في هذه الآية قد حرم، فيأتي من هذا الخمر والإثم محرم فالخمر محرمة. قال القاضي أبو محمد: ولكن لا يصح هذا لأن قوله {فيهما إثم} لفظ محتمل أن يراد به أنه يلحق الخمر من فساد العقل والافتراء وقتل النفس وغير ذلك آثام فكأنه قال في الخمر هذه الآثام أي هي بسببها ومعها وهذه الأشياء محرمة لا محالة، وخرجت الخمر من التحريم على هذا ولم يترتب القياس الذي ذهب إليه قائل ما ذكرناه، ويعضد هذا أنّا وجدنا الصحابة يشربون الخمر بعد نزول قوله {قل فيهما إثم} وفي بعض الأحاديث فتركها قوم للإثم الذي فيها وشربها قوم للمنافع، وإنما حرمت الخمر بظواهر القرآن ونصوص الأحاديث وإجماع الأمة. {والبغي}: التعدي وتجاوز الحد، كان الإنسان مبتدياً بذلك أو منتصراً فإذا جاوز الحد في الانتصار فهو باغ، وقوله: {بغير الحق} زيادة بيان وليس يتصور بغي بحق لأن ما كان بحق فلا يسمى بغياً، {وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً} المراد بها الأصنام والأوثان وكل ما عبد من دون الله، و«السلطان» البرهان والحجة، {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} من أنه حرم البحيرة والسائبة ونحوه. وقوله تعالى: {ولكل أمة أجل} الآية، يتضمن الوعيد والتهديد، والمعنى ولكل أمة أي فرقة وجماعة، وهي لفظة تستعمل في الكثير من الناس، أجل مؤقت لمجيء العذاب إذا كفروا وخالفوا أمر ربهم، فأنتم أيتها الأمة كذلك قاله الطبري وغيره، وقرأ الحسن «فإذا جاء آجالهم» بالجمع. وهي قراءة ابن سيرين، قال أبو الفتح هذا هو الأظهر لأن لكل إنسان أجلاً فأما الإفراد فلأنه جنس وإضافته إلى الجماعة حسنت الإفراد، ومثله قول الشاعر: [الرجز] في حلقكم عظم وقد شجينا *** وقوله: {ساعة} لفظ عين به الجزء القليل من الزمن، والمراد جميع أجزائه أي لا يستأخرون ساعة ولا أقل منها ولا أكثر، وهذا نحو قوله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} [النساء: 40] فإنما هي عبارة يقام الجزء فيها مقام الكل. قال القاضي أبو محمد: وكأنه يظهر بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {ويؤخركم إلى أجل مسمى} [إبراهيم: 10، نوح: 4] تعارض لأن تلك تقتضي الوعد بتأخير إن آمنوا والوعيد بمعاجلة إن كفروا. قال القاضي أبو محمد: والحق مذهب أهل السنة أن كل أحد إنما هو بأجل واحد لا يتأخر عنه ولا يتقدم. وقوم نوح كان منهم من سبق في علم الله تعالى أنه يكفر فيعاجل، وذلك هو أجله المحتوم، ومنه من يؤمن فيتأخر إلى أجله المحتوم وغيب عن نوح تعيين الطائفتين فندب الكل إلى طريق النجاة وهو يعلم أن الطائفة إنما تعاجل أو تؤخر بأجلها، فكأنه يقول: فإن آمنتم علمنا أنكم ممن قضى الله له بالإيمان والأجل المؤخر، وإن كفرتم علمنا أنكم ممن قضي له بالأجل المعجل والكفر. قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا الحد هو دعاء محمد عليه السلام العالم إلى طريق الجنة، وقد علم أن منهم من يكفر فيدخل النار، وكذلك هو أمر الأسير يقال له إما أن تؤمن فتترك وإلا قتلت. وقوله تعالى: {يا بني آدم} الآية، الخطاب في هذه الآية لجميع العالم. و«إن» الشرطية دخلت عليها «ما» مؤكدة. ولذلك جاز دخول النون الثقيلة على الفعل، وإذا لم تكن «ما» لم يجز دخول النون الثقيلة. وقرأ أبي كعب والأعرج «تأتينكم» على لفظ الرسل. «وجاء يقصون» على المعنى. وكأنه هذا الخطاب لجميع الأمم قديمها وحديثها هو متمكن لهم ومتحصل منه لحاضري محمد عليه السلام أن هذا حكم الله في العالم منذ أنشأه. و{يأتينكم} مستقبل وضع موضع ماض ليفهم أن الإتيان باق وقت الخطاب لتقوى الإشارة بصحة النبوة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا على مراعاة وقت نزول الآية، وأسند الطبري إلى أبي سيار السلمي قال إن الله تعالى جعل آدم وذريته في كفه فقال {يا بني آدم أما يأتينكم رسل منكم} الآية، قال ثم نظر إلى الرسل فقال {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} [المؤمنون: 52] ثم بثهم. قال القاضي أبو محمد: ولا محالة أن هذه المخاطبة في الأزل وقيل المراد بالرسل محمد عليه السلام. قال القاضي أبو محمد: من حيث لا نبي بعده، فكأن المخاطبين هم المراد ببني آدم لا غير، إذ غيرهم لم ينله الخطاب، ذكره النقاش. و{يقصون} معناه يسردون ويوردون. و«الآيات» لفظ جامع لآيات الكتب المنزلة وللعلامات التي تقترن بالأنبياء، وقوله: {فمن اتقى وأصلح} يصح أن تكون «من» شرطية وجوابه {فلا خوف عليهم} وهذه الجملة هي في جواب الشرط الأول الذي هو {إما يأتينكم} ويصح أن تكون «من» في قوله {فمن اتقى} موصولة، وكأنه قصد بالكلام تقسيم الناس فجعل القسم الأول {فمن اتقى} والقسم الثاني {والذين كذبوا بآياتنا}. وجاء هذا التقسيم بجملته جواباً للشرط في قوله {إما يأتينكم} فكأنه قال إن أتتكم رسل فالمتقون لا خوف عليهم، والمكذبون أصحاب النار، أي هذا هو الثمرة وفائدة الرسالة: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً} [الأنعام: 144، الأعراف: 37، يونس: 17، الكهف: 15] أي ليس ثم نفع للمفتري ولا غرض دنياوي. فالآية تبرية للنبي صلى الله عليه وسلم، من الافتراء وتوبيخ للمفترين من الكفار. و{لا} في قوله {لا خوف} بمعنى ليس، وقرأ ابن محيصن «لا خوف» دون تنوين، ووجهه إما أن يحذف التنوين لكثرة الاستعمال وإما حملاً على حذفه مع «لا» وهي تبرية ناصبة تشبه حالة الرفع في البناء بحالة النصب، وقيل: إن المراد فلا الخوف، ثم حذفت الألف واللام وبقيت الفاء على حالها لتدل على المحذوف، ونفي الخوف والحزن يعم جميع أنواع مكاره النفس وأنكادها، ويشبه أن يكون الخوف لما يستقبل من الأمور والحزن لما مضى منها. {والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا} هذه حالتان تعم جميع من يصد عن رسالة الرسول إما أن يكذب بحسب اعتقاده وإما أن يستكبر فكذب وإن كان غير مصمم في اعتقاده على التكذيب. قال القاضي أبو محمد: وهذا نحو الكفر عناداً.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)} هذه آية وعيد واستفهام على جهة التقرير، أي لا أحد أظلم منه، و{افترى} معناه اختلق، وهذه وإن كانت متصلة بما قبلها أي كيف يجعلون الرسل مفترين ولا أحد أظلم ممن افترى ولا حظ للرسل إلا أن يرحم من اهتدى ويعذب من كفر، فهي أيضاً مشيرة بالمعنى إلى كل مفترق إلى من تقدم ذكره من الذين قالوا {والله أمرنا بها} وقوله: {أو كذب بآياته} إشارة إلى جميع الكفرة، وقوله: {من الكتاب} قال الحسن والسدي وأبو صالح معناه من المقرر في اللوح المحفوظ، فالكتاب عبارة عن اللوح المحفوظ، وقد تقرر في الشرع أن حظهم فيه العذاب والسخط، وقال ابن عباس وابن جبير ومجاهد: قوله: {من الكتاب} يريد من الشقاء والسعادة التي كتبت له وعليه. قال القاضي أبو محمد: ويؤيد هذا القول الحديث المشهور الذي يتضمن أن الملك يأتي إذا خلق الجنين في الرحم فيكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة والضحاك {الكتاب} يراد به الذي تكتبه الملائكة من أعمال الخليقة من خير وشر فينال هؤلاء نصيبهم من ذلك وهو الكفر والمعاصي، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد والضحاك {من الكتاب} يراد به من القرآن، وحظهم فيه أن وجوهوهم تسود القيامة، وقال الربيع بن أنس ومحمد بن كعب وابن زيد المعنى بالنصيب ما سبق لهم في أم الكتاب من رزق وعمر وخير وشر في الدنيا، ورجح الطبري هذا واحتج له بقوله بعد ذلك {حتى إذا جاءتهم رسلنا} أي عند انقضاء ذلك فكان معنى الآية على هذا التأويل أولئك يتمتعون ويتصرفون من الدنيا بقدر ما كتب لهم حتى إذا جاءتهم رسلنا لموتهم، وهذا تأويل جماعة من مجيء الرسل للتوفي، وعلى هذا يترتب ترجيح الطبري الذي تقدم، وقالت فرقة {رسلنا} يريد بهم ملائكة العذاب يوم القيامة، و{يتوفونهم} معناه يستوفونهم عدداً في السوق إلى جهنم. قال القاضي أبو محمد: ويترتب هذا التأويل مع التأويلات المتقدمة في قوله: {نصيبهم من الكتاب} لأن «النصيب» على تلك التأويلات إنما ينالهم في الآخرة، وقد قضى مجيء رسل الموت، وقوله حكاية عن الرسل {أين ما كنتم تدعون} استفهام تقرير وتوبيخ وتوقيف على خزى وهو إشارة إلى الأصنام والأوثان وكل ما عبد من دون الله و{تدعون} معناه تعبدون وتؤملون، وقولهم {ضلوا} معناه هلكوا وتلفوا وفقدوا. ثم ابتدأ الخبر عن المشركين بقوله: {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} وهذه الآية وما شاكلها تعارض في الظاهر قوله تعالى حكاية عنهم {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 123] واجتماعهما إما أن يكون في طوائف مختلفة أو في أوقات مختلفة يقولون في حال كذا وحال كذا.
{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)} هذه حكاية ما يقول الله لهم يوم القيامة بوساطة ملائكة العذاب وعبر عن يقول. ب {قال} لتحقق وقوع ذلك وصدق القصة، وهذا كثير، وقوله: {في أمم} متعلق ب {ادخلوا}، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره كائنين أو ثابتين في أمم، فيكون في موضع الحال من الضمير في {ادخلوا} وقيل {في} بمعنى مع، وقيل هي على بابها وهو أصوب، وقوله {قد خلت} صفة ل {أمم} وقوله: {في النار} يصح تعلقه ب {ادخلوا} يصح أن يتعلق ب {أمم} أي في أمم ثابتة أو مستقرة، ويصح تعلقه بالذكر الذي في {خلت} ومعنى {قد خلت} على هذا التعلق أي قد تقدمت ومضى عليها الزمن وعرفها فيما تطاول من الآباد، وقد تستعمل وإن لم يطل الوقت إذ أصلها فيمن مات من الناس أي صاروا إلى خلاء من الأرض، وعلى التعليقين الأولين لقوله {في النار} فإنما {خلت} حكاية عن حال الدنيا أي ادخلوا في النار في جملة الأمم السالفة لكم في الدنيا الكافرة، وقد ذكر الجن لأنهم أعرق في الكفر، وإبليس أصل الضلال والإغواء، وهذه الآية نص في أن كفرة الجن في النار، والذي يقتضيه النظر أن مؤمنيهم في الجنة لأنهم عقلاء مكلفون مبعوث إليهم آمنوا وصدقوا، وقد بوب البخاري رحمه الله- باب في ذكر الجن وثوابهم وعقابهم- وذكر عبد الجليل أن مؤمني الجن يكونون تراباً كالبهائم، وذكر في ذلك حديث مجهولاً وما أراه يصح، والله أعلم. والأخوة في هذه الآية أخوة الملة والشريعة. قال السدي: يتلاعن آخرها وأولها، و{اداركوا} معناه تلاحقوا ووزنه تفاعلوا أصله تداركوا أدغم فجلبت ألف الوصل، وقرأ أبوعمرو «إداركوا» بقطع ألف الوصل، قال أبو الفتح: هذا مشكل ولا يسوغ أن يقطعها ارتجالاً فذلك إنما يجيء شاذاً في ضرورة الشعر في الاسم أيضاً لكنه وقف مثل وقفة المستذكر ثم ابتدأ فقطع، وقرأ مجاهد بقطع الألف وسكون الدال «ادْركوا» بفتح الراء وبحذف الألف بعد الدال بمعنى أدرك بعضهم بعضاً، وقرأ حميد «أُدرِكوا» بضم الهمزة وكسر الراء أي أدخلوا في إدراكها، وقال مكي في قراءة مجاهد إنها «ادَّارَكوا» بشد الدال المفتوحة وفتح الراء، قال: وأصله إذ تركوا وزنها افتعلوا، وقرأ ابن مسعود والأعمش «تداركوا» ورويت عن أبي عمرو، وقرأ الجمهور «حتى إذا اداركوا» بحذف ألف «إذا» لالتقاء الساكنين. وقوله تعالى: {قالت أخراهم لأولاهم} معناه قالت الأمة الأخيرة التي وجدت ضلالات مقررة وسنناً كاذبة مستعملة للأولى التي شرعت ذلك وافترت على الله وسلكت سبيل الضلال ابتداء، ربنا هؤلاء طرقوا طرق الضلال وسببوا ضلالنا فآتهم عذاباً مضاعفاً أي ثانياً زائداً على عذابنا إذ هم كافرون ومسببون كفرنا وتقول ضاعفت كذا إذا جعلته مثل الأول، واللام في قوله {لأولادهم} كأنها لام سبب إذ القول إنما هو للرب، ثم قال عز وجل مخبراً لهم {لكل ضعف} أي العذاب مشدد على الأول والآخر ولكن لا تعلمون أي المقادير وصور التضعيف، وهذا رد لكلام هؤلاء، إذ ليس لهم كرامة فيظهر إسعافهم. وأما المعنى الذي دعوا فيه فظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه حاصل وأن كل من سن كفراً أو معصية فعليه كفل من جهة كل من عمل بذلك بعده، ومنه حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «ما من داع دعا إلى ضلالة إلا كان عليه وزره ووزر من اتبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً» الحديث، ذكره الليث بن سعد من آخر الجزء الرابع من حديثه، وذكره مالك في الموطأ غير مسند موصل، ومنه قوله «ما تقتل نسمة ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها»، أما أن هؤلاء عينوا في جميع السبعة غير عاصم في رواية أبي بكر «ولكن لا تعلمون» بالتاء ويحتمل ذلك أن يكون مخاطبة لمحمد وأمته، وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر «ولكن لا يعلمون»، وروى حفص عن عاصم مثل قراءة الجماعة، وهذه مخاطبة لأمة محمد وإخبار عن الأمة الأخيرة التي طلبت أن يشدد العذاب على أولاها، ويحتمل أن يكون خبراً عن الطائفتين حملاً على لفظة «كل»، أي لا يعلم أحد منهم قدر ما أعد لهم من عذاب الله. وقوله عز وجل: {وقالت أولاهم لأخراهم} الآية، المعنى وقالت الأمة الأولى المبتدعة للأمة الأخيرة المتبعة أنتم لا فضل لكم علينا ولم تزدجروا حين جاءتكم النذر والرسل، بل دمتم في كفركم وتركتم النظر واستوت حالنا وحالكم فذوقوا العذاب باجترامكم، هذا قول السدي وأبي مجلز وغيرهما، فقوله فذوقوا على هذا من كلام الأمة المتقدمة للأمة المتأخرة، وقيل قوله {فذوقوا} هو من كلام الله عز وجل لجميعهم، وقال مجاهد ومعنى قوله {من فضل} أي «من» التخفيف. قال القاضي أبو محمد: معناه أنه لما قال الله {لكل ضعف} قال الأولون للآخرين لم تبلغوا أملاً في أن يكون عذابكم أخف من عذابنا ولا فضلتم بالإسعاف والنص عليه.
{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)} هذه الآية عامة في جميع الكفرة قديمهم وحديثهم، وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر «لا تُفتَّح» بضم التاء الأولى وتشديد الثانية، وقرأ أبو عمرو «تُفْتَح» بضم التاء وسكون الفاء وتخفيف الثانية، وقرأ حمزة والكسائي «يفتح» بالياء من أسفل وتخفيف التاء، وقرأ أبو حيوة وأبو إبراهيم «يفَتّح» بالياء وفتح الفاء وشد التاء، ومعنى الآية لا يرتفع لهم عمل ولا روح ولا دعاء، فهي عامة في نفي ما يوجب للمؤمنين بالله تعالى، قاله ابن عباس وغيره، وذكر الطبري في كيفية قبض روح المؤمن والكافر آثاراً اختصرتها إذ ليست بلازمة في الآية، وللين أسانيدها أيضاً، ثم نفى الله عز وجل عنهم دخول الجنة وعلق كونه بكون محال لا يكون، وهو أن يدخل الجمل في ثقب الإبرى حيث يدخل الخيط، و{الجمل} كما عهد وال {سم} كما عهد، وقرأ جمهور المسلمين: «الجمل»، واحد الجمال، وقال الحسن هو الجمل الذي يقوم بالمديد ومرة لما أكثروا عليه قال هو الأشتر وهو الجمل بالفارسية، ومرة قال هو الجمل ولد الناقة وقاله ابن مسعود. قال القاضي أبو محمد: وهذه عبارة تدل على حرج السائل لارتياب السائلين لا شك باللفظة من أجل القراءات المختلفة، وذكر الطبري عن مجاهد عن ابن مسعود أنه كان يقرأ: «حتى يلج الجمل الأصفر»، وقرأ أبو السمال «الجمْل» بسكون الميم وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد وابن جبير الشعبي ومالك بن الشخير وأبو رجاء: «الجُمّل» بضم الجيم وتشديد الميم وهو حبل السفينة، وقرأ سالم الأفطس وابن خير وابن عامر أيضاً: «الجُمْل» بتخفيف الميم من الجمل وقالوا هو حبل السفن، وروى الكسائي أن الذي روى تثقيل الميم عن ابن عباس كان أعجمياً فشدد الميم لعجمته. قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لكثرة أصحاب ابن عباس على القراءة المذكورة وقرأ سعيد بن جبير فيما روى عنه: «الجُمْل» بضم الجيم وسكون الميم، وقرأ ابن عباس أيضاً: «الجُمُل» بضم الجيم والميم، و«السم»: الثقب من الإبرة وغيرها يقال سَم وسِم بفتح السين وكسرها وضمها، وقرأ الجمهور بفتح السين، وقرأ ابن سيرين بضمها، وقرأ أبو حيوة بضمها وبكسرها، وروي عنه الوجهان، و{الخياط} والمخيط الإبرة، وقرأ ابن مسعود: «في سم المِخْيَط» بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء، وقرأ طلحة «في سم المَخيط» بفتح الميم، وكذلك أبى على هذه الصفة وبمثل هذا الحتم وغيره يجزى الكفرة وأهل الجرائم على الله تعالى. وقوله تعالى: {لهم من جهنم مهاد} الآية، المعنى أن جهنم فراش لهم ومسكن ومضجع يتمهدونه وهي لهم غواش جمع غاشية وهي ما يغشى الإنسان أي يغطيه ويستره من جهة فوق، قال الضحاك «المهاد» الفراش، و«الغواشي» اللحف ودخل التنوين في {غواش} عند سيبويه لنقصانه عن بناء مفاعل فلما زال البناء المانع من الصرف بأن حذفت الياء حذفاً لا للالتقاء بل كما حذفت من قوله {والليل إذا يسر} [الفجر: 4] و{ذلك ما كنا نبغ} [الكهف: 64] ومن قول الشاعر: [زهير] ولأنت تفري ما خلقت وبع *** ض القوم يخلق ثم لا يفر زال الامتناع، وهذا كقولهم ذلذل بالتنوين وهم يريدون: الذلاذل لما زال البناء، قال الزجاج: والتنوين في {غواش} عند سيبويه عوض من الياء المنقوصة ورد أبو علي ان يكون هذا هو مذهب سيبويه، ويجوز الوقوف ب «يا» وبغير «يا» والاختيار بغير «يا». وقوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} الآية، هذه آية وعد مخبرة أن جميع المؤمنين هم أصحاب الجنة ولهم الخلد فيها، ثم اعترض أثناء القول بعقب الصفة، التي شرطها في المؤمنين باعتراض يخفف الشرط ويرجى في رحمة الله ويعلم أن دينه يسر وهذه الآية نص في أن الشريعة لا يتقرر من تكاليفها شيء لا يطاق، وقد تقدم القول في جواز تكليف ما لا يطاق وفي وقوعه بمغن عن الإعادة، و«الوسع» معناه الطاقة وهو القدر الذي يتسع له قدر البشر.
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} هذا إخبار من الله عز وجل أنه ينقي قلوب ساكني الجنة من الغل والحقد، وذلك أن صاحب الغل متعذب به ولا عذاب في الجنة، وورد في الحديث «الغل على باب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين». قال القاضي أبو محمد: ومعنى هذا الحديث إذا حمل على حقيقته، أن الله عز وجل يخلق جوهراً يجعله حيث يرى كمبارك الإبل، لأن الغل عرض لا يقول بنفسه، وإن قيل إن هذه استعارة وعبر عن سقوطه عن نفوسهم فهذه الألفاظ على جهة التمثيل كما تقول فلان إذا دخل على الأمير ترك نخوته بالباب ملقاة فله وجه، والأول أصوب وأجرى مع الشرع في أشياء كثيرة، مثل قوله يؤتى بالموت يوم القيامة كأنه كبش فيذبح وغير ذلك، وروى الحسن عن علي بن أبي طالب قال: فينا والله أهل بدر نزلت {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين} [الحجر: 47] وروي عنه أيضاً أنه قال: فينا والله نزلت {ونزعنا ما في صدورهم من غل}، وذكر قتادة: أن علياً قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم {ونزعنا ما في صدورهم من غل}. قال القاضي أبو محمد: وهذا هو المعنى الصحيح، فإن الآية عامة في أهل الجنة، و«الغل» الحقد والإحنة الخفية في النفس وجمعه غلال ومنه الغلول أخذ في خفاء ومنه الانغلال في الشيء، ومنه المغل بالأمانة، ومنه قول علقمة بن عبدة: سلاءة كعصا الهندي غل لها *** ذو فيئة من نوى قران معجوم وقوله: {من تحتهم الأنهار} بين لأن ما كان لاطئاً بالأرض فهو تحت ما كان منتصباً آخذاً في سماء، و{هدانا} بمعنى أرشدنا، والإشاره بهذا تتجه أن تكون إلى الإيمان والأعمال الصالحة المؤدية إلى القرآن، وقرأ ابن عامر وحده «ما كنا لنهتدي» بسقوط الواو من قوله: {وما كنا}، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام، قال أبو علي: وجه سقوط الواو أن الكلام متصل مرتبط بما قبله، ولما رأوا تصديق ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى وعاينوا إنجاز المواعيد قالوا: {لقد جاءت رسل ربنا بالحق} فقضوا بأن ذلك حق قضاه من يحس وكانوا في الدنيا يقضون بأن ذلك حق قضاه من يستدل {ونودوا} أي قيل لهم بصياح، وهذا النداء، من قبل الله عز وجل، و{أن} يحتمل أن تكون مفسرة لمعنى النداء بمعنى أي، ويحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة وفيها ضمير مستتر تقديره أنه تلكم الجنة، ونحو هذا قول الأعشى: [البسيط] في فتية كسيوف الهند قد علموا *** أن هالك كل من يحفى وينتعل تقديره أنه هالك، ومنه قول الآخر: [الوافر] أكاشره ويعلم أنْ كلانا *** على ما ساء صاحبه حريصُ و {تلكم الجنة} ابتداء وصفة و{أورثتموها} الخبر و{تلكم} إشارة فيها غيبة فإما لأنهم كانوا وعدوا بها في الدنيا فالإشارة إلى تلك، أي تلكم هذه الجنة، وحذفت هذه، وإما قبل أن يدخلوها وإما بعد الدخول وهم مجتمعون في موضع منها، فكل غائب عن منزله، وقوله: {بما كنتم تعملون} لا على طريق وجوب ذلك على الله، لكن بقرينة رحمته وتغمده، والأعمال أمارة من الله وطريق إلى قوة الرجاء، ودخول الجنة إنما هو بمجرد رحمة الله تعالى، والقسم فيها على قدر العمل، و«أورثتم» مشيرة إلى الأقسام، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «أورثتموها» وكذلك الزخرف، وقرأ أبو عمر وحمزة والكسائي «أورتموها» بإدغام الثاء في التاء وكذلك في الزخرف.
{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45)} هذا إخبار من الله عز وجل عما يكون منهم، وعبر عن معان مستقبلة بصيغة ماضية وهذا حسن فيما يحقق وقوعه، وهذا النداء من أهل الجنة لأهل النار تقريع وتوبيخ وزيادة في الكرب وهو بأن يشرفوا عليهم ويخلق الإدراك في الأسماع والأبصار، وقرأ جمهور الناس «نعَم» بفتح العين، وقرأ الكسائي «نعِم» بكسر العين ورويت عن عمر بن الخطاب وعن النبي صلى الله عليه وسلم وقرأها ابن وثاب والأعمش قال الأخفش هما لغتان، ولم يحك سيبويه الكسر، وقال: «نعم» عدة وتصديق أي مرة هذا ومرة هذا، وفي كتاب أبي حاتم عن الكسائي عن شيخ من ولد الزبير قال: ما كنت أسمع أشياخ قريش يقولون: إلا «نعِم» بكسر العين ثم فقدتها بعده، وفيه عن قتادة عن رجل من خثعم قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت تزعم أنك نبي:؟ قال: «نعِم» بكسر العين، وفيه عن أبي عثمان النهدي قال: سأل عمر عن شيء فقالوا نعم، فقال عمر: النعم الإبل والشاء، وقولوا «نعِم» بكسر العين. قال أبو حاتم: وهذه اللغة لا تعرف اليوم بالحرمين، وقوله {فأذن مؤذن بينهم} الآية؛ قال أبو علي الفارسي والطبري وغيرهما: «أذن مؤذن» بمعنى أعلم معلم، قال سيبويه: أذنت إعلام بتصويت، وقرأ ابن كثير في رواية قنبل ونافع وأبو عمر وعاصم «أنْ لعنةُ الله» بتخفيف «أنْ» من الثقيلة ورفع اللعنة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وابن كثير في رواية البزي وشبل «أنّ لعنةَ» بتثقيل «أنّ» ونصب اللعنة، وكلهم قرأ التي في النور {أنّ لعنة الله} [النور: 7] و{أنّ غضب الله} [النور: 9] بتشديد النون غير نافع فإنه قرأهما «أنْ لعنة الله وأنْ غضب» مخففتين، وروى عصمة عن الأعمش «مؤذن بينهم إن» بكسر الألف على إضمار قال. قال القاضي أبو محمد: لما كان الأذان قولاً، و«الظالمون» في هذه الآية: الكافرون، ثم ابتدأ صفتهم بأفعالهم في الدنيا ليكون علامة أن أهل هذه الصفة هم المراد يوم القيامة بقوله {أن لعنة الله على الظالمين} و{يصدون} معناه يعرضون، و«السبيل» الطريق والمنهج ويذكر ويؤنث وتأنيثها أكثر، {ويبغونها} معناه: يطلبونها أو يطلبون لها، فإن قدرت يطلبونها ف {عوجاً} نصب على الحال، ويصح أن يكون من الضمير العائد على السبيل أي معوجه، ويصح أن يكون من ضمير الجماعة في {يبغونها} أي معوجين، وإن قدرت {يبغونها} يطلبون لها وهو ظاهر تأويل الطبري رحمه الله ف {عوجاً} مفعول بيبغون، والعِوج بكسر العين في الأمور والمعاني، والعَوج بفتح العين في الأجرام والمتنصبات.
{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)} الضمير في قوله {وبينهما} عائد على الجنة والنار، ويحتمل على الجمعين إذا يتضمنهما قوله تعالى: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} [الأعراف: 44]، و«الحجاب»: هو السور الذي ذكره عز وجل في قوله: {فضرب بينهم بسور له باب} [الحديد: 13] قاله ابن عباس، وقاله مجاهد: {الأعراف} حجاب بين الجنة والنار، وقال ابن عباس أيضاً هو تل بين الجنة والنار، وذكر الزهراوي حديثاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحداً جبل يحبنا ونحبه، وإنه يقوم يوم القيامة يمثل بين الجنة والنار يحتبس عليه أقوام يعرفون كلاً بسيماهم هم إن شاء الله من أهل الجنة»، وذكر حديثاً آخر عن صفوان بن سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحداً على ركن من أركان الجنة» و{الأعراف} جمع عرف وهو المرتفع من الأرض. ومنه قول الشاعر: [الرجز] كل كناز لحمه نياف *** كالجمل الموفي على الأعراف ومنه قول الشماخ: [الطويل] فظلت بأعراف تعالى كأنها *** رماح نحاها وجهة الريح راكز ومنه عرف الفرس وعرف الديك لعلوهما، وقال السدي سمي الأعراف أعرافاً لأن أصحابه يعرفون الناس. قال القاضي أبو محمد: وهذه عجمة وإنما المراد على أعراف ذلك الحجاب أعاليه، وقوله: {رجال} قال أبو مجلز لاحق بن حميد: هم الملائكة، ولفظة {رجال} مستعارة لهم لما كانوا في تماثيل رجال قال: وهم ذكور ليسوا بإناث. قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وقد سمى الله رجالاً في الجن، وقال الجمهور: هم رجال من البشر، ثم اختلفوا فقال مجاهد: هم قوم صالحون فقهاء علماء، وحكى الزهراوي أنهم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم وهم كل أمة، وقاله الزجاج وقال قوم: هم أنبياء، وقال المهدوي: هم الشهداء، وقال شرحبيل بن سعد: هم المستشهدون في سبيل الله الذين خرجوا عصاة لآبائهم، وذكر الطبري في ذلك حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه تعادل عقوقهم واستشهادهم وقال ابن مسعود والشعبي وحذيفة بن اليمان وابن عباس وابن جبير والضحاك: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. قال القاضي أبو محمد: وقع في مسند خيثمة بن سليمان في آخر الجزء الخامس عشر حديث عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة دخل الجنة ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار، قيل يا رسول الله فمن استوت حسناته وسيئاته؟ قال أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون»، وقال حذيفة بن اليمان أيضاً: هم قوم أبطأت بهم صغارهم إلى آخر الناس. قال القاضي أبو محمد: واللازم من الآية أن على أعراف ذلك السور أو على مواضع مرتفعة عن الفريقين حيث شاء الله تعالى رجالاً من أهل الجنة، يتأخر دخولهم ويقع لهم ما وصف من الاعتبار في الفريقين. و {يعرفون كلاً بسيماهم} أي بعلامتهم وهي بياض الوجوه وحسنها في أهل الجنة، وسوادها وقبحها في أهل النار إلى غير ذلك في حيز هؤلاء وحيز هؤلاء، والسيما العلامة وهو من وسم، وفيه قلب، يقال سيما مقصور وسيما ممدود وسيمياء بكسر الميم وزيادة ياء فوزنها فعلاً مع كونها من وسم، وقيل هي من سوم إذا علم فوزنها على هذا فعلاً، ونداؤهم أصحاب الجنة يحتمل أن يكون وأصحاب الجنة لم يدخلوها بعد فيكون أيضاً قوله {لم يدخلوها وهم يطمعون} محتملاً أن يعنى به أهل الجنة وهو تأويل أبي مجلز إذ جعل أصحاب الأعراف ملائكة، ومحتملاً أن يعنى به أهل الأعراف، ويحتمل أن يكون نداؤهم أهل الجنة بالسلام وهم قد دخلوها، فلا يحتمل حينئذ قوله: {لم يدخلوها وهم يطمعون} إلا أهل الأعراف فقط، وهو تأويل السدي وقتادة وابن مسعود والحسن، وقال: والله ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لخير أراده بهم. قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الأظهر الأليق ولا نظر لأحد مع قول النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: {وهم يطمعون} هي جملة مقطوعة، أخبر أنهم لم يدخلوها وهم طامعون بدخولها فكأن الجملة حال من الضمير في {نادوا}، وقرأ أبو رقيش النحوي «لم يدخلوها وهم طامعون» وقرأ إياد بن لقيط «وهم ساخطون»، وذكر بعض الناس قولاً وهو أن يقدر قوله {وهم يطمعون} في موضع الحال من ضمير الجماعة في {يدخلوها}، ويكون المعنى لم يدخلوها في حال طمع بها بل كانوا في حال يأس وخوف لكنهم عمهم عفو الله عز وجل، وقال ابن مسعود: إنما طمع أصحاب الأعراف لأن النور الذي كان في أيديهم لم يطفأ جين يطفأ كل ما بأيدي المنافقين. والضمير في قوله {أبصارهم} عائد على أصحاب الأعراف، فهم يسلمون على أصحاب الجنة وإذا نظروا إلى النار وأهلها دعوا الله في التخليص منها، قاله ابن عباس وجماعة من العلماء وقال أبو مجلز الضمير لأهل الجنة وهم لم يدخلوها بعد، وقوله: {صرفت} معطية ما هنالك من هول المطلع، وقوله: {رجالاً} يريد من أهل النار، ويحتمل أن يكون هذا النداء وأهل النار في النار، فتكون معرفتهم بعلامات معرفة بأنهم أولئك الذين عرفوا الدنيا، ويحتمل أن يكون هذا النداء وهم يحملون إلى النار، فتكون السيما التي عرفوا بها أنهم أهل النار تسويد الوجوه وتشويه الخلق، وقال أبو مجلز الملائكة تنادي رجالاً في النار، وقال غيره بل الآدميون ينادون أهل النار، وقيل: إن {ما} في قوله: {ما أغنى} استفهام بمعنى التقرير والتوبيخ، وقيل {ما} نافية والأول أصوب، و{جمعكم} لفظ يعم جموع الأجناد والخول وجمع المال لأن المراد بالرجال أنهم جبارون ملوك يقررون يوم القيامة على معنى الإهانة والخزي، و{ما} الثانية: مصدرية، وقرأت فرقة «تستكثرون» بالثاء مثلثة من الكثرة.
|