الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***
{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)} «نوح» عليه السلام هو نوح بن لامك، وقد مر ذكره وذكر عمره صلى الله عليه وسلم، وصرف نوح مع عجمته وتعريفه لخفته وسكون الوسط من حروفه، وقوله: {أن أنذر قومك} يحتمل أن تكون {أن}: مفسرة لا موضع لها من الإعراب، ويحتمل أن يكون التقدير «بأن أنذر قومك» وهي على هذا في موضع نصب عند قوم من النحاة، وفي موضع خفض عند آخرين، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «إلى قومه أنذر قومك» دون {أن}، والعذاب الذي توعدوا به: يحتمل أن يكون عذاب الدنيا وهو الأظهر والأليق بما يأتي بعد، ويحتمل أن يكون عذاب الآخرة. وقرأ جمهور السبعة: «أنُ اعبدوا»، بضم النون من «أن» إتباعاً لضمة الباء وتركاً لمراعاة الحائل لخفة السكون، فهو كأن ليس ثم حائل. وقرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو، وفي رواية عبد الوارث «أنِ اعبدوا»، بكسر النون وهذا هو الأصل في التقاء الساكنين من كلمتين. و{يغفر} جواب الأمر وقوله تعالى: {من ذنوبكم} قال قوم {من} زائدة، وهذا نحو كوفي، وأما الخليل وسيبويه فلا يجوز عندهم زيادتها في الواجب، وقال قوم: هي لبيان الجنس، وهذا ضعيف لأنه ليس هنا جنس يبين، وقال آخرون هي بمعنى «عن». وهذا غير معروف في أحكام «من»، وقال آخرون: هي لابتداء الغاية وهذا قول يتجه كأنه يقول يبتدئ الغفران من هذه الذنوب العظام التي لهم. وقال آخرون: هي للتبعيض، وهذا عندي أبين الأقوال، وذلك أنه لو قال: «يغفر لكم ذنوبكم» لعم هذا اللفظ ما تقدم من الذنوب وما تأخر عن إيمانهم، والإسلام إنما يجبُّ ما قبله، فهي بعض من ذنوبهم، فالمعنى يغفر لكم ذنوبكم، وقال بعض المفسرين: أراد {يغفر لكم من ذنوبكم} المهم الموبق الكبير لأنه أهم عليهم، وبه ربما كان اليأس عن الله قد وقع لهم وهذا قول مضمنه أن {من} للتبعيض والله تعالى الموفق. وقرأ أبو عمرو: {يغفر لكم} بالإدغام، ولا يجيز ذلك الخليل وسيبويه، لأن الراء حرف مكرر، فإذا أدغم في اللام ذهب التكرير واختل المسموع. وقوله تعالى: {ويؤخركم إلى أجل مسمى} مما تعلق المعتزلة به في قولهم: إن للإنسان أجلين، وذلك أنهم قالوا: لو كان واحداً محدوداً لما صح التأخير، إن كان الحد قد بلغ ولا المعاجلة إن كان الحد لم يبلغ. قال القاضي أبو محمد: وليس لهم في الآية تعلق، لأن المعنى أن نوحاً عليه السلام، لم يعلم هل هم ممن يؤخر أو ممن يعاجل؟ ولا قال لهم: إنكم تؤخرون عن أجل قد حان لكم، لكن قد سبق في الأزل أنهم إما ممن قضى لهم بالإيمان والتأخير وإما ممن قضي عليه بالكفر والمعاجلة، فكأن نوحاً عليه السلام قال لهم: آمنوا يبين لكم أنكم ممن قضي لهم بالإيمان والتأخير، وإن بقيتم فسيبين لكم أنكم ممن قضي عليه بالكفر والمعاجلة ثم تشدد هذا المعنى ولاح بقوله: {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر}. وقد حكى مكي القول بالأجلين ولم يقدره قدره، وجواب {لم}، مقدر يقتضيه اللفظ كأنه قال: فما كان أحزمكم أو أسرعكم إلى التوبة {لو كنتم تعلمون}.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)} هذه المقالة قالها نوح عليه السلام بعد أن طال عمره وتحقق اليأس عن قومه، وقوله: {ليلاً ونهاراً} عبارة عن استمرار دعائه، وأنه لم ين فيه قط، ويروى عن قتادة أن نوحاً عليه السلام كان يجيئه الرجل من قومه بابنه فيقول: احذر هذا الرجل فإن أبي حذرني إياه، ويقول له إنه مجنون. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: «دعائيَ إلا» بالهمز وفتح الياء، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: «دعايْ» بسكون الياء دون همز، وروى شبل عن ابن كثير: بنصب الياء دون همز مثل هداي، وقرأ عاصم أيضاً وسلام ويعقوب: بهمز وياء ساكنة. وقوله: {وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم} معناه: ليؤمنوا فيكون ذلك سبب الغفران. وقوله تعالى: {جعلوا أصابعهم في آذانهم} يحتمل أن يكون حقيقة، ويحتمل أن يكون عبارة عن إعراضهم، وشدة رفضهم لأقواله، وكذلك قوله: {استغشوا ثيابهم} معناه: جعلوها أغشية على رؤوسهم، والإصرار الثبوت على معتقد ما، وأكثر استعماله في الذنوب، ثم كرر عليه السلام صفة دعائه لهم بياناً وتأكيداً وجهاراً يريد علانية في المحافل، والإسرار ما كان من دعاء الأفراد بينه وبينهم على انفراد، وهذا غاية الجد. وقوله تعالى: {استغفروا ربكم يرسل السماء} يقتضي أن الاستغفار سبب لنزول المطر في كل أمة. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه استسقى بالناس فلم يزد على أن استغفر ساعة ثم انصرف فقال له قوم: ما رأيناك استسقيت يا أمير المؤمنين، فقال: والله لقد استنزلت المطر بمجادح السماء، ثم قرأ الآية، وسقى رضي الله عنه، وشكى رجل إلى الحسن الجرب فقال له: استغفر الله، وشكى إليه آخر الفقر، فقال: استغفر إليه، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً، فقال له استغفر الله، فقيل له في ذلك، فنزع بهذه الآية. قال القاضي أبو محمد: والاستغفار الذي أحال عليه الحسن ليس هو عندي لفظ الاستغفار فقط، بل الإخلاص والصدق في الأعمال والأقوال، فكذلك كان استغفار عمر رضي الله عنه، وروي أن قوم نوح كانوا قد أصابهم قحوط وأزمة، فلذلك بدأهم في وعده بأمر المطر ثم ثنى بالأموال والبنين. قال قتادة: لأنهم كانوا أهل حب للدنيا وتعظيم لأمرها فاستدعاهم إلى الآخرة من الطريق التي يحبونها، و«مدرار»: مفعال من الدر، كمذكار ومئناث، وهذا البناء لا تلحقه التأنيث.
{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)} وعدهم بالأموال والبنين والجنات والأنهار لمكان حبهم للدنيا، واختلف الناس في معنى قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً} فقال أبو عبيدة وغيره: {ترجون} معناه تخافون، ومنه قول الشاعر [أبو ذؤيب الهذلي]: [الطويل] إذا لسعته النحل لم يرج لسعها *** وحالفها في بيت نوب عواسل قالوا والوقار: العظمة والسلطان، فكأن الكلام على هذا وعيد وتخويف، وقال بعض العلماء {ترجون} على بابها في الرجاء وكأنه قال: ما لكم لا تعجلون رجاءكم لله وتلقاءه وقاراً، ويكون على هذا التاويل منهم كأنه يقول: تؤدة منكم وتمكناً في النظر لأن الكفر مضمنه الخفة والطيش وركوب الرأس، وقوله تعالى: {وقد خلقكم أطواراً} قال ابن عباس ومجاهد: هي إشارة إلى التدريج الذي للإنسان في بطن أمه من النطفة والعلقة والمضغة، وقال جماعة من أهل التأويل هي إشارة إلى العبرة في اختلاف ألوان الناس وخلقهم وخلقهم ومللهم، والأطوار: الأحوال المختلفة. ومنه قول النابغة: [البسيط] فإن أفاق فقد طارت عمايته *** والمرء يخلق طوراً بعد أطوار وقرأ «ألم تروا» وقرأ «ألم يروا» على فعل الغائب و{طباقاً} قيل هو مصدر أي مطابقة أي جعل كل واحدة طبقاً للأخرى ونحو قول امرئ القيس: [الرمل] طبق الأرض تجري وتدر *** وقيل هو جمع طبق، وهو نعت لسبع، وقرأ ابن أبي عبلة، «طباقٍ» بالخفض على النعت ل {سموات}، وقوله تعالى: {وجعل القمر فيهن} ساغ ذلك لأن القمر من حيث هو في إحداها فهو في الجميع، ويروى أن القمر في السماء الدنيا، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن العباس: إن الشمس والقمر أقفارهما إلى الأرض وإقبال نورهما وارتفاعه في السماء، وهو الذي تقتضيه لفظة السراج، وقيل إن الشمس في السماء الخامسة، وقيل في الرابعة، وقال عبد الله بن عمر: هي في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابعة. وقوله تعالى: {أنبتكم من الأرض نباتاً} استعارة من حيث أخذ آدم عليه السلام من الأرض ثم صار الجميع {نباتاً} منه، وقوله تعالى: {نباتاً} مصدر جار على غير المصدر، التقدير فنبتم {نباتاً}، والإعادة فيها: هي بالدفن فيها الذي هو عرف البشر، والإخراج: هو البعث يوم القيامة لموقف العرض والجزاء، وقوله تعالى: {بساطاً} يقتضي ظاهره أن الأرض بسيطة كروية واعتقاد أحد الأمرين غير قادح في نفسه اللهم إلا أن يتركب على القول بالكروية نظر فاسد، وأما اعتقاد كونها بسيطة فهو ظاهر كتاب الله تعالى، وهو الذي لا يلحق عنه فساد البتة. واستدل ابن مجاهد على صحة ذلك بماء البحر المحيط بالمعمور، فقال: لو كانت الأرض كروية لما استقر الماء عليها. والسبل: الطرق والفجاج: الواسعة.
{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)} المعنى فلما لم يطيعوا ويئس نوح من إيمانهم قال نوح: {رب إنهم عصوني} واتبعوا أشرافهم وغواتهم، فعبر عنهم بأن أموالهم وأولادهم زادتهم {خساراً} أي خسراناً، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ونافع في رواية خارجة عنه «ووُلْده» بضم الواو وسكون اللام، وهي قراءة ابن الزبير والحسن والأعرج والنخعي ومجاهد، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر «ووَلَده» بفتح اللام والواو وهما بمعنى واحد كبُخْل وبَخَل وهي قراءة أبي عبد الرحمن والحسن وأبي رجاء وابن وثاب وأبي جعفر وشيبة، وقرأ «ووِلده» بكسر الواو والجحدري وزر والحسن وقتادة وابن أبي إسحاق وطلحة، وقال أبو عمرو: «وُلْد» بضم الواو وسكون اللام العشيرة والقوم، وقال أبو حاتم يمكن أن يكون الوُلد بضم الواو جمع الولد وذلك كخشب وخشب، وقد قال حسان بن ثابت: [الكامل] ما بكر آمنة المبارك بكرها *** من ولد محصنة بسعد الأسعد وقرأ جمهور الناس: «كبّاراً» بشد الباء وهو بناء مبالغة، نحو حسان. قال عيسى: وهي لغة يمانية وعليها قول الشاعر [أبو صدقة الدبيري]: [الكامل] والمرء يلحقه بفتيان الندى *** خلق الكريم وليس بالوضّاء بضم الواو، وقرأ ابن محيصن وعيسى ابن عمر «كبار» بتخفيف الباء وهو بناء مبالغة إلا أنه دون الأول، وقرأ ابن محيصن فيما روى عنه أبو الأخريط وهب بن واضح بكسر الكاف، وقال ابن الأنباري جمع كبير فكأنه جعل المكر مكان ذنوب أفاعل ونحوه. وقوله تعالى: {وقالوا لا تذرن آلهتكم} إخبار عن توصيهم بأصنامهم على العموم، وما كان منها مشهور المكانة، وما كان منها يختص بواحد واحد من الناس، ثم أخذوا ينصون على المشهور من الأصنام، وهذه الأصنام روي أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صدر الدنيا، فلما ماتوا صورهم أهل ذلك العصر من الحجر، وقالوا: ننظر إليها فنذكر أفعالهم فهلك ذلك الجيل وكثر تعظيم الآخر لتلك الحجارة، ثم كذلك حتى عبدت ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها، وقيل بل الأسماء فقط إلى قبائل من العرب، فكانت «ودّ» في كلب بدومة الجندل، وكانت «سواع» في هذيل، وكانت {يغوث} في مراد، وكانت {يعوق} في همذان، وكانت «نسر» في ذي الكلاع من حمير. وقرأ نافع وحده ورويت عن عاصم بضم الواو. وقرأ الباقون والأعمش والحسن وطلحة وشيبة وأبو جعفر: بخلاف عن الثلاثة «وَداً» بفتح الواو، وقال الشاعر: [البسيط] حياك ود فإنا لا يحل لنا *** لهو النساء وإن الدين قد عزما فيقال إنه أراد بذلك الصنم، وقال آخر [الحطيئة]: [الطويل] فحياك ود ما هداك لفتية *** وخوص بأعلى ذي فضالة هجد يروى البيتان بضم الواو، وقرأ الأعمش: «ولا يغوثاً ويعوقاً» بالصرف، وذلك وهم، لأن التعريف لازم ووزن الفعل. وقوله: {وقد أضلوا كثيراً} هو إخبار نوح عنهم وهو منقطع مما حكاه عنهم. والمعنى وقد أضل هؤلاء القائلون كثيراً من الناس الأتباع والعوام، ثم دعا عليهم إلى الله تعالى بأن لا يزيدهم إلا ضلالاً، وذكر {الظالمين} لتعم الدعوة الدعوة كل من جرى مجراهم. وقال الحسن في كتاب النقاش: أراد بقوله {وقد أضلوا}، الأصنام المذكورة وعبر عنها بضمير من يعقل من حيث يعاملها جمهور أهلها معاملة من يعقل، ويسند إليها أفعال العقل. وقوله تعالى: {مما خطيئاتهم} ابتداء إخبار من الله تعالى لمحمد عليه السلام، أي أن دعوة نوح أجيبت فآل أمرهم إلى هذا، و«ما» الظاهرة: في قوله {مما} زائدة فكأنه قال: من خطيئاتهم أغرقوا وهي لابتداء الغاية، وقرأ «مما خطيئتهم» على الإفراد الجحدري والحسن، وقرأ أبو عمرو وحده والحسن وعيسى والأعرج وقتادة بخلاف عنهم «مما خطاياهم» على تكسير الجمع. وقال: {فأدخلوا ناراً} يعني جهنم، وعير عن ذلك بفعل الماضي من حيث الأمر متحقق. وقيل أراد عرضهم على النار غدواً وعشياً عبر عنهم بالإدخال. وقوله: {فلم يجدوا} أي لم يجد المغرقون أحداً سوى الله ينصرهم ويصرف عنهم بأس الله تعالى.
{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)} روى محمد بن كعب والربيع وابن زيد، أن نوحاً عليه السلام لم يدع بهذه الدعوة إلا بعد أخرج الله تعالى كل مؤمن من أصلابهم وأعقم أرحام النساء قبل العذاب بسبعين سنة، قال قتادة: وبعد أن أوحى الله تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن. وقد كان قبل ذلك طامعاً حدباً عليهم. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم «أنه ربما ضربه ناس منهم أحياناً حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». و{ديَّاراً} أصله ديواراً وهو فِيعَال من الدوران أي من يجيء ويذهب يقال منه دوار وزنه فيعال أصله ديوار، وهذا كالقوام والقيام. وقرأ جمهور الناس: «ولوالدَي» وقرأ أبي بن كعب «ولأبوي»، وقرأ سعيد بن جبير «ولوالدِي» بكسر الدال يخص أباه بالدعوة. وقال ابن عباس: لم يكفر بنوح ما بينه وبين آدم عليه السلام، وقرأ يحيى بن يعمر والجحدري: «ولولَديَّ» بفتح اللام وشد الياء المفتوحة وهي قراءة النخعي يخص بالدعاء ابنيه، وبيته: المسجد فيما قال ابن عباس وجمهور المفسرين. وقال ابن عباس أيضاً: بيته: شريعته ودينه استعار لها بيتاً كما يقال: قبة الإسلام، وفسطاط الدين. وقيل أراد سفينته، وقيل داره. وقوله: {للمؤمنين والمؤمنات} تعميم بالدعاء لمؤمني كل أمة، وقال بعض العلماء: إن الذي استجاب لنوح عليه السلام فأغرق بدعوته أهل الأرض الكفار لجدير أن يستجيب له فيرحم بدعوته المؤمنين. و: «التبار» الهلاك وذهاب الرسم، وقرأ حفص عن عاصم وهشام وأبو قرة عن نافع: «بيتيَ» بتحريك الياء، وقرأ الباقون بسكونها.
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)} قرأ جمهور الناس «قل أوحي إلي» من أوحى يوحي. وقرأ أبو أُناس جوية بن عائذ: «قل أوحى إلي»، من وحى يحي ووحى وأوحى، بمعنى واحد، وقال العجاج: «وحى لها القرار فاستقرت». وقرأ أيضاً جوية فيما روى عنه الكسائي، «قل أحي» أبدلت الواو همزة كما أبدلوها في وسادة وإسادة، وغير ذلك وكذلك قرأ ابن أبي عبلة، وحكى الطبري عن عاصم أنه كان يكسر كل ألف في السورة من «أن» و«إن» إلا قوله تعالى: {وأن المساجد لله} [الجن: 18]. وحكي عن أبي عمرو أنه يكسر من أولها إلى قوله {وإن لو استقاموا على الطريقة} [الجن: 16] فإنه كان يفتح همزة وما بعدها إلى آخر السورة. فعلى ما حكي يلزم أن تكون الهمزة مكسورة في قوله «إنه استمع»، وليس ما ذكر بثابت. وذكر أبو علي الفارسي أن ابن كثير وأبا عمرو فتحا أربعة أحرف من السورة وكسرا غير ذلك {أنه استمع}، {وإن لو استقاموا} [الجن: 16]، {وإن المساجد} [الجن: 18]، {وإنه لما قام} [الجن: 19]، وأن نافعاً وعاصماً في رواية أبي بكر والمفضل وافقا في الثلاثة وكسرا {وإنه لما قام} [الجن: 19] مع سائر ما في السورة. وذكر أن ابن عامر وحمزة والكسائي كانوا يقرأون كل ما في السورة بالفتح إلا ما جاء بعد قول أو فاء جزاء، وكذلك حفص عن عاصم، فترتب إجماع القراء على فتح الألف من {أنه استمع} و«أن لو استقاموا» «وأن المساجد». وذكر الزهراوي عن علقمة أنه كان يفتح الألف في السورة كلها. واختلف الناس في الفتح من هذه الألفات وفي الكسر اختلافاً كثيراً يطول ذكره وحصره وتقصي معانيه. قال أبو حاتم: أما الفتح فعلى {أوحي}، فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله. وأما الكسر فحكاية وابتداء وبعد القول. وهؤلاء النفر من الجن هم الذين صادفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ببطن نخلة في صلاة الصبح وهو يريد عكاظ. وقد تقدم قصصهم في سورة الأحقاف في تفسير قوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن} [الأحقاف: 29]. وقول الجن: {إنا سمعنا} الآيات، هو خطاب منهم لقومهم الذين ولوا إليهم منذرين، و{قرآناً عجباً} معناه ذا عجب، لأن العجب مصدر يقع من سامع القرآن لبراعته وفصاحته ومضمناته، وليس نفس القرآن هو العجب. وقرأ جمهور الناس «إلى الرُّشْد» بضم الراء وسكون الشين. وقرأ عيسى الثقفي «إلى الرَّشَد» بفتح الراء والشين. وقرأ عيسى «إلى الرُّشد» ومن كسر الألف من قوله «وإنه تعالى» فعلى القطع ويعطف الجملة على قوله {إنا سمعنا}، ومن فتح الألف من قوله «وأنه تعالى» اختلفوا في تأويل ذلك، فقال بعضهم هي عطف على {إنه استمع}، فيجيء على هذا قوله {تعالى} مما أمر أن يقول إنه أوحي إليه وليس يكون من كلام الجن، وفي هذا قلق. وقال بعضهم بل هي عطف على الضمير في {به} فكأنه يقول فآمنا به وبأنه تعالى. وهذا القول ليس في المعنى، لكن فيه من جهة النحو العطف على الضمير المخفوض دون إعادة الخافض وذلك لا يحسن. وقرأ جمهور الناس «جدُّ ربنا» بفتح الجيم وضم الدال وإضافته إلى الرب، وقال جمهور المفسرين معناه عظمته. وروي عن أنس أنه قال: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران، جد في أعيننا أي عظم. وقال أنس بن مالك والحسن: {جد ربنا} معناه، فهذا هو من الجد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا ينفع ذا الجد منك الجد»، وقال مجاهد: ذكره كله متجه لأن الجد هو حظ المجدود من الخيرات والأوصاف الجميلة، فجد الله تعالى هو الحظ الأكمل من السلطان الباهر والصفات العلية والعظمة، ومن هذا قول اليهودي حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة: «يا بني قيلة هذا جدكم الذي تنتظرون» أي حظكم من الخيرات وبختكم. وقال علي بن الحسين رضي الله عنه وأبو جعفر الباقر وابنه جعفر والربيع بن أنس ليس لله جد، وهذه مقالة قوم جهلة من الجن، جعلوا الله جداً أبا أب. قال كثير من المفسرين هذا قول ضعيف. وقوله: {ولن نشرك بربنا أحداً} يدفعه، وكونهم فيما روي على شريعة متقدمة وفهمهم للقرآن. وقرأ محمد بن السميفع اليماني «جِد ربنا» وهو من الجد والنفع. وقرأ عكرمة «جَدٌّ ربُّنا» بفتح الجيم وضم الدال وتنوينه ورفع الرب كأنه يقول تعالى عظيم هو ربنا ف «ربنا» بدل والجد العظيم في اللغة. وقرأ حميد بن قيس «جُد ربنا» بضم الجيم. ومعناه ربنا العظيم حكاه سيبويه وبإضافته إلى الرب فكأنه قال عظيم، وهذه إضافة تجديد يوقع النحاة هذا الاسم إذا أضيفت الصفة إلى الموصوف، كما تقول جاءني كريم زيد تريد زيداً الكريم ويجري مجرى هذا عند بعضهم. قول المتنبي [البسيط] عظيم الملك في المقل *** أراد الملك العظيم قال بعض النحاة، وهذا المثال يعترض بأنه أضاف إلى جنس فيه العظيم والحقير، وقرأ عكرمة أيضاً «جَداً ربُّنا» بفتح الجيم والدال وتنوينها ورفع الرب ونصب «جداً» على التمييز كما تقول تفقأت شحماً وتصببت عرقاً، وقرأ قتادة «جِداً ربُّنا» بكسر الجيم ورفع الباء وشد الدال، فنصب جداً على الحال ومعناه تعالى حقيقة ومتمكناً. وهذا معنى غير الأول، وقرأ أبو الدرداء «تعالى ذكر ربنا»، وروي عنه «تعالى جلال ربنا». وقوله تعالى: {وإنه كان يقول} لا خلاف أن هذا من قول الجن، وكسر الألف فيه أبين وفتحها لا وجه له إلا اتباع العطف على الضمير. كأنهم قالوا الآن بأن {سفيهنا} كان قوله {شططاً}. والسفيه المذكور قال جميع المفسرين هو إبليس لعنه الله. وقال آخرون هو اسم جنس لكل سفيه منهم. ولا محالة أن إبليس صدر في السفهاء وهذا القول أحسن. والشطط: التعدي وتجاوز الحد بقول أو فعل ومنه قول الأعشى: [البسيط] أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط *** كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل وقوله تعالى: {وإنا ظننا} هو كلام أولئك النفر لا يحتمل غير ذلك، وكسر الألف فيه أبين. والمعنى: إنا كنا نظن قبل إيماننا أن الأقوال التي تسمع من إبليس وغواة الجن والإنس في جهة الآلهة وما يتعلق بذلك حق وليست بكذب، لأنا كنا نظن بهم أنهم لا يكذبون على الله ولا يرضون ذلك. وقرأ جمهور الناس «تقول». وقرأ الحسن والجحدري وابن أبي بكرة ويعقوب «تَقوَّلَ» بفتح القاف والواو وشد الواو، والتقول خاص بالكذب، والقول عام له وللصدق، ولكن قولهم {كذباً} يرد القول هنا معنى التقول.
{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)} هذه الألف من {أنه} كان مما اختلف في فتحها وكسرها والكسر أوجه. والمعنى في الآية ما كانت العرب تفعله في أسفارها وتعزبها في الرعي وغيره، فإن جمهور المفسرين رووا أن الرجل كان إذا أراد المبيت أو الحلول في واد، صاح بأعلى صوته يا عزيز هذا الوادي، إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك فيعتقد بذلك أن الجني الذي بالوادي يمنعه ويحميه، فروي أن الجن كانت عند ذلك تقول: ما نملك لكم ولأنفسنا من الله شيئاً. قال مقاتل: أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن ثم بنو حنيفة ثم فشا ذلك في العرب. وروي عن قتادة أن الجن لذلك كانت تحتقر بني آدم وتزدريهم لما ترى من جهلهم، فكانوا يزيدونهم مخافة ويتعرضون للتخيل لهم بمنتهى طاقاتهم ويغوونهم في إرادتهم لما رأوا رقة أحلامهم، فهذا هو الرهق الذي زادته الجن ببني آدم. وقال مجاهد والنخعي وعبيد بن عمير: بنو آدم زادوا الجن {رهقاً} وهي الجرأة والانتخاء عليهم والطغيان وغشيان المحارم والإعجاب، لأنهم قالوا سدنا الجن والإنس، وقد فسر قوم الرهق بالإثم وأنشد الطبري في ذلك بيت الأعشى: [البسيط] لا شيء ينفعني من دون رؤيتها *** لا يشتفي وامق ما لم يصب رهقا قال معناه ما لم يغش محرماً فالمعنى زادت الإنس والجن مأثماً لأنهم عظموهم فزادوهم استحلالاً لمحارم الله. وقوله {وأنهم ظنوا كما ظننتم} يريد به بني آدم الكفار. وقوله {كما ظننتم}، مخاطبة لقومهم من الجن. وقولهم {أن لن يبعث الله أحداً}، يحتمل معنيين أحدهما: بعث الحشر من القبور والآخر بعث آدمي رسولاً. و{أن} في قوله {أن لن} مخففة من «أن» الثقيلة وهي تسد مسد المفعولين. وذكر المهدوي تأويلاً أن المعنى وأن الجن ظنوا كما ظننتم أيها الإنس فهي مخاطبة من الله تعالى. وقولهم {وأنا لمسنا} قال معناه التمسنا ويظهر بمقتضى كلام العرب أنها استعارة لتجربتهم أمرها وتعرضهم لها فسمي ذلك لمساً إذ كان اللمس غاية غرضهم ونحو هذا قول المتنبي: [الطويل] تعد القرى والمس بنا الجيش لمسة *** نبادرْ إلى ما تشتهي يدك اليمنى فعبر عن صدم الجيش بالجيش وحربه باللمس، وهذا كما تقول المس فلاناً في أمر كذا، أي جرب مذهبه فيه، و{ملئت} إما أن يكون في موضع المفعول الثاني ل «وجدنا»، وإما أن يقصر الفعل على مفعول واحد ويكون {ملئت} في موضع الحال، وكان الأعرج يقرأ «مليت» لا يهمز، والشهب: كواكب الرجم، والحرس: يحتمل أن يريد الرمي بالشهب. وكرر المعنى بلفظ مختلف، ويحتمل أن يريد الملائكة، و{مقاعد} جمع مقعد، وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة قعود الجن أنهم كانوا واحداً فوق واحد، فمتى أحرق الأعلى طلع الذي تحته مكانه، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان ويزيدون معها ثم يزيد الكهان بالكلمة مائة كذبة، وقوله: {فمن يستمع الآن} الآية قطع على أن كل من استمع الآن أحرقه شهاب. فليس هنا بعد سمع، إنما الإحراق عند الاستماع، وهذا يقتضي أن الرجم كان في الجاهلية. ولكنه لم يكن يستأصل وكان الحرس ولكنه لم يكن شديداً، فلما جاء الإسلام اشتد الأمر حتى لم يكن فيه ولا يسير سماحة، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقد رأى كوكباً راجماً: «ماذا كنتم تقولون لهذا في الجاهلية؟» قالوا كنا نقول: ولد ملك، مات ملك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الأمر كذلك،» ثم وصف صورة قعود الجن «. وقد قال عوف بن الجزع وهو جاهلي: [الكامل] فانقض كالدري يتبعه *** نقع يثورُ تخاله طنبا وهذا في أشعارهم كثير، و{رصداً} نعت لشهاب ووصفه بالمصدر، وقوله: {وأنّا لا ندري أشرّ أريد بمن في الأرض} الآية، معناه لا ندري أيؤمن الناس بهذا النبي فيرشدون، أم يكفرون به فينزل بهم الشر.
{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} وقولهم {ومنا دون ذلك}، أي غير الصالحين كأنه قال: ومنا قوم أو فرقة دون صالحين، وهي لفظة تقع أحياناً موقع غير. والطرائق: السير المختلفة، والقدد كذلك هي الأشياء المخالفة، كأنه قد قدّ بعضها من بعض وفصل. قال ابن عباس وعكرمة وقتادة: {طرائق قدداً} أهواء مختلفة. قال غيره فرق مختلفون. قال الكميت: [البسيط] جمعت بالرأي منهم كل رافضة *** إذ هم طرائق في أهوائهم قدد وقولهم {وأنّا ظننا أن لن نعجز} الظن هنا بمعنى العلم. وهذا إخبار منهم عن حالهم بعد إيمانهم بما سمعوا من محمد صلى الله عليه وسلم، و{الهدى}، يريد القرآن، سموه هدى من حيث هو سبب الهدى، والبخس: النقص، والرهق: تحميل ما لا يطاق وما يثقل من الأنكاد ويقرح. قال ابن عباس: البخس: نقص الحسنات، والرهق: الزيادة في السيئات. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب «فلا يخف» بالجزم دون ألف، وقسم الله تعالى بعد ذلك حال الناس في الآخرة على نحو ما قسم قائل الجن، فقوله: {وأنّا منا المسلمون ومنا القاسطون} والقاسط: الظالم، قاله مجاهد وقتادة والناس، ومنه قول الشاعر: [الكامل] قوم همُ قتلوا ابن هند عنوة *** عمراً وهم قسطوا على النعمان والمقسط: العادل، وإنما هذا التقسيم ليذكر حال الطريقين من النجاة والهلكة، ويرغب في الإسلام من لم يدخل فيه، فالوجه أن يكون {فمن أسلم}، مخاطبة من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويؤيده ما بعده من الآيات، و{تحروا}: معناه طلبوا باجتهادهم، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها». وقوله تعالى: {لجهنم حطباً} نظير قوله تعالى: {وقودها الناس والحجارة} [البقرة: 24، التحريم: 6].
{وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)} الضمير في قوله {استقاموا} قال أبو مجلز والفراء والربيع بن أنس وزيد ابن أسلم والضحاك بخلاف عنه: الضمير عائد على قوله {من أسلم} [الجن: 14]، و{الطريقة} طريقة الكفر، لو كفر من أسلم من الناس {لأسقيناهم} إملاء لهم واستدراجاً. وقال قتادة وابن جبير وابن عباس ومجاهد الضمير عائد على «القاسطين». والمعنى على طريقة الإسلام والحق لأنعمنا عليهم، وهذا المعنى نحو قوله: {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم} [المائدة: 65]، وقوله {لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} [المائدة: 66]. وهذا قول أبين لأن استعارة الاستقامة للكفر قلقة. وقرأ الأعمش وابن وثاب «وأن لوُ» بضم الواو. وقال أبو الفتح هذا تشبيه بواو الجماعة اشتروا الضلالة، والماء الغدق: هو الماء الكثير. وقرأ جمهور الناس «غدَقاً» بفتح الدال، وقرأ عاصم في رواية الأعشى عنه بكسرها. وقوله تعالى: {لنفتنهم} إن كان المسلمون فمعناه لنختبرهم، وإن كان القاسطون فمعناه لنمتحنهم ونستدرجهم، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حيث يكون الماء فثم المال، وحيث يكون المال فثم الفتنة، ونزع بهذه الآية، وقال الحسن وابن المسيب وجماعة من التابعين: كانت الصحابة سامعين مطيعين، فلما فتحت كنوز كسرى وقيصر وثب بعثمان فقتل وثارت الفتن. و{يسلكه} معناه يدخله، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح الياء أي «يسلكه» الله، وقرأ بعض التابعين «يُسلكه» بضم الياء من أسلك وهما بمعنى، وقرأ باقي السبعة «نسلكه» بنون العظمة، وقرأ ابن جبير «نُسلِكه» بنون مضمومة ولام مكسورة. و{صعداً} معناه شاقاً، تقول فلان في صعد من أمره أي في مشقة، وهذا أمر يتصعدني، وقال عمر: ما تصعدني شيء كما تصعدني خطبة النكاح، وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس: صعد جبل في النار، وقرأ قوم «صُعُوداً» بضم الصاد والعين، وقرأ الجمهور بفتح الصاد والعين، وقرأ ابن عباس والحسن بضم الصاد وفتح العين، وقال الحسن: معناه لا راحة فيه، ومن فتح الألف من {أن المساجد لله} جعلها عطفاً على قوله {قل أوحي إلي أنه} [الجن: 1]، ذكره سيبويه، و{المساجد} قيل أراد بها البيوت التي هي للعبادة والصلاة في كل ملة. وقال الحسن: أراد كل موضع سجد فيه كان مخصوصاً لذلك أو لم يكن، إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة. وروي أن هذه الآية نزلت بسبب تغلب قريش على الكعبة، حينئذ فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم: المواضع كلها لله فاعبده حيث كان وقال ابن عطاء: {المساجد}: الآراب التي يسجد عليها، واحدها مسجد بفتح الجيم، وقال سعيد بن جبير: نزلت الآية لأن الجن قالت يا رسول الله: كيف نشهد الصلاة معك على نأينا عنك: فنزلت الآية يخاطبهم بها على معنى أن عبادتكم حيث كنتم مقبولة. وقال الخليل بن أحمد: معنى الآية، ولأن {المساجد لله فلا تدعوا} أي لهذا السبب، وكذلك عنده {لإيلاف قريش} [قريش: 1] {فليعبدوا} [قريش: 3] وكذلك عنده {وأن هذه أمتكم أمة} [الأنبياء: 92، المؤمنون: 52]. و{المساجد} المخصوصة بينة التمكن في كونها لله تعالى فيصح أن تفرد للصلاة والدعاء وقراءة العلم، وكل ما هو خالص لله تعالى، وأن لا يتحدث بها في أمور الدنيا. ولا يتخذ طريقاً، ولا يجعل فيها لغير الله نصيب، ولقد قعدت للقضاء بين المسلمين في المسجد الجامع بالمرية مدة، ثم رأيت فيه من سوء المتخاصمين وأيمانهم وفجور الخصام وعائلته ودخول النسوان ما رأيت تنزيه البيت عنه فقطعت القعود للأحكام فيه. وقوله عز وجل: {وأنه لما قام عبد الله} يحتمل أن يكون خطاباً من الله تعالى، ويحتمل أن يكون إخباراً عن الجن، وقرأ بعض القراء على ما تقدم «وأنه» يفتح الألف، وهذا عطف على قوله {أنه استمع} [الجن: 1]، والعبد على هذه القراءة قال قوم: هو نوح، والضمير في {كادوا} لكفار قومه، وقال آخرون، هو محمد، والضمير في {كادوا} للجن. المعنى أنهم {كادوا} يتقصفون عليه لاستماع القرآن، وقرأ آخرون منهم «وإنه لما قام» بكسر الألف، والعبد محمد عليه السلام، والضمير في {كادوا} يحتمل أن يكون للجن على المعنى الذي ذكرناه، ويحتمل أن يكون لكفار قومه وللعرب في اجتماعهم على رد أمره، ولا يتجه أن يكون العبد نوحاً إلا على تحامل في تأويل نسق الآية، وقال ابن جبير: معنى الآية، إنما قول الجن لقومهم يحكون، والعبد محمد صلى الله عليه وسلم. والضمير في {كادوا} لأصحابه الذين يطوعون له ويقتدون به في الصلاة، فهم عليه لبد. واللبد الجماعات شبهت بالشيء المتلبد بعضه فوق بعض، ومنه قول عبد بن مناف بن ربع: [البسيط] صافوا بستة أبيات وأربعة *** حتى كأن عليهم جانياً لبدا يريد الجراد سماه جانياً لأنه يجني كل شيء، ويروى جابياً بالباء لأنه يجبي الأشياء بأكله، وقرأ جمهور السبعة وابن عباس: «لِبداً» بكسر اللام جمع لِبدة، وقال ابن عباس: أعواناً. وقرأ ابن عامر بخلاف عنه وابن مجاهد وابن محيصن: «لُبَداً» بضم اللام وتخفيف الباء المفتوحة وهو جمع أيضاً. وروي عن الجحدري: «لُبُدا» بضم اللام والباء. وقرأ أبو رجاء: «لِبداً» بكسر اللام، وهو جمع لا بد فإن قدرنا الضمير للجن فتقصفهم عليه لاستماع الذكر، وهذا تأويل الحسن وقتادة و{أدعو} معناه أعبده، وقرأ جمهور السبعة وعلي بن أبي طالب: «قال إنما»، وهذه قراءة تؤيد أن العبد نوح، وقرأ عاصم وحمزة بخلاف عنه: «قال إنما» وهذه تؤيد بأنه محمد عليه السلام وإن كان الاحتمال باقياً من كليهما. واختلف القراء في فتح الياء من {ربي} وفي سكونها. ثم أمر تعالى محمداً نبيه عليه السلام بالتبري من القدرة وأنه لا يملك لأحد {ضراً ولا رشداً}، بل الأمر كله لله. وقرأ الأعرج «رُشُداً» بضم الراء والشين، وقرأ أبيّ بن كعب «لكم غياً ولا رشداً». وقولهم {من دونه} أي من عند سواه. و«الملتحد»: الملجأ الذي يمال إليه ويُركَن، ومنه الإلحاد الميل، ومنه اللحد الذي يمال به إلى أحد شقي القبر.
{إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)} اختلف الناس في تأويل قوله {إلا بلاغاً}: فقال الحسن ما معناه أنه استثناء منقطع، والمعنى لن يجيرني من الله أحد {إلا بلاغاً}، فإني إن بلغت رحمني بذلك، والإجارة: للبلاغ مستعارة إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته، وقال بعض النحاة على هذا المعنى هو استثناء متصل. والمعنى لن أجد ملتحداً {إلا بلاغاً}، أي شيئاً أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع، فيجبرني الله. وقال قتادة: التقدير لا أملك {إلا بلاغاً} إليكم، فأما الإيمان أو الكفر فلا أملكه. وقال بعض المتأولين {إلا} بتقدير الانفصال، و«إن» شرط و«لا» نافية كأنه يقول: ولن أجد ملتحداً إن لم أبلغ من الله ورسالته، و{من} في قوله {من الله} لابتداء الغاية. وقوله تعالى: {ومن يعص الله} يريد الكفر بدليل الخلود المذكور. وقرأ طلحة وابن مصرف، «فإن له» على معنى فجزاؤه أن له، وقوله {حتى إذا رأوا}، ساق الفعل في صيغة الماضي تحقيقاً لوقوعه. وقوله تعالى: {من أضعف} يحتمل أن تكون {مَن} في موضع رفع على الاستفهام والابتداء و{أضعف} خبرها، ويحتمل أن تكون في موضع نصب ب {سيعلمون}، و{أضعف} خبر لابتداء مضمر، ثم أمره تعالى بالتبري من معرفة الغيب في وقت عذابهم الذي وعدوا به، والأمد: المدة والغاية، و{عالم} يحتمل أن يكون بدلاً من {ربي} [الجن: 20] ويحتمل أن يكون خبر ابتداء مضمر على القطع، وقرأ السدي: «عالم الغيب» على الفعل الماضي ونصب الباء، وقرأ الحسن: «فلا يَظهَر» بفتح الياء والهاء «أحدٌ» بالرفع. وقوله تعالى: {إلا من ارتضى من رسول} معناه فإنه يظهره على ما شاء مما هو قليل من كثير، ثم يبث تعالى حول ذلك الملك الرسول حفظة {رصداً} لإبليس وحزبه من الجن والإنس، وقوله تعالى: {ليعلم} قال قتادة معناه {ليعلم} محمد أن الرسل {قد أبلغوا رسالات ربهم} وحفظوا ومنع منهم. وقال سعيد بن جبير: معناه يعلم محمد أن الملائكة الحفظة، الرصد النازلين بين يديه جبريل وخلفه {قد أبلغوا رسالات ربهم}. وقال مجاهد {ليعلم} من كذب وأشرك أن الرسل قد بلغت. قال القاضي أبو محمد: وهذا العلم لا يقع لهم إلا في الآخرة، وقيل معناه {ليعلم} الله رسالته مبلغة خارجة إلى الوجود لأن علمه بكل شيء قد تقدم، وقرأ الجمهور: «ليَعلم» بفتح الياء أي الله تعالى. وقرأ ابن عباس: «ليُعلم» بضم الياء، وقرأ أبو حيوة: «رسالة ربهم» على التوحيد، وقرأ ابن أبي عبلة: «وأحيط» على ما لم يسم فاعله، وقوله تعالى: {وأحصى كل شيء} معناه كل شيء معدود، وقوله تعالى: {ليعلم} الآية، مضمنه أنه تعالى قد علم ذلك، فعلى هذا الفعل المضمر انعطف {وأحاط}، {وأحصى} والله المرشد للصواب بمنه.
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)} قوله تعالى: {يا أيها المزمل} نداء للنبي صلى الله عليه وسلم، واختلف الناس لمَ نودي بهذا، فقالت عائشة والنخعي وجماعة: لأنه كان وقت نزول الآية متزملاً بكساء، والتزمل: الالتفاف في الثياب بضم وتشمير، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل] كأن أبانا في أفانين ودقة *** كبير أناس في بجاد مزمل أي ملفوف، وخفض مزمل في هذا البيت هو على الجوار، وإنما هو نعت لكبير، فهو عليه السلام على قول هؤلاء، إنما دعي بهيئة في لباسه. وقال قتادة، كان تزمل في ثيابه للصلاة واستعد فنودي على معنى يا أيها المستعد للعبادة المتزمل لها، وهذا القول مدح له صلى الله عليه وسلم. وقال عكرمة معناه: {يا أيها المزمل} للنبوءة وأعبائها، أي المتشمر المجدّ. وقال جمهور المفسرين والزهري بما في البخاري من أنه عليه السلام لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة فقال: زملوني زملوني: فنزلت {يا أيها المدثر} [المدثر: 1]، وعلى هذا نزلت {يا أيها المزمل}. وفي مصحف ابن مسعود وأبي بن كعب «يا أيها المتزمل». وقرأ بعض السلف «يا أيها المزَمَّل» بفتح الزاي وتخفيفها وفتح الميم وشدها، والمعنى الذي زمله أهله أو زمل للنبوءة. وقرأ عكرمة «يا أيها المزمِّل» بكسر الميم المشددة وتخفيف الزاي أي المزمل نفسه، واختلف الناس في هذا الأمر بقيام الليل كيف كان؟ فقال جمهور أهل العلم: هو أمر على جهة الندب مذ كان لم يفرض قط، ويؤيد هذا: الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة في رمضان خلف حصير احتجره فصلى وصلى بصلاته ناس ثم كثروا من الليلة القابلة ثم غص المسجد بهم في الثالثة أو الرابعة فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فحصبوا بابه فخرج مغضباً وقال: «إني إنما تركت الخروج لأني خفت أن يفرض عليكم». وقيل إنه لم يكلمهم إلا بعد الصبح. وقال آخرون: كان فرضاً في وقت نزول هذه الآية. واختلف هؤلاء فقال بعضهم: كان فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وبقي كذلك حتى توفي عليه السلام، وقيل: بل نسخ عنه ولم يمت إلا والقيام تطوع، وقال بعضهم: كان فرضاً على الجميع ودام الأمر على ما قال سعيد بن جبير عشر سنين، وقالت عائشة وابن عباس دام عاماً، وروي عنها أيضاً ثمانية أشهر ثم رحمهم الله تعالى. فنزلت: {إن ربك يعلم أنك تقوم} [المزمل: 20] فخفف عنهم. وقال قتادة بقي عاماً أو عامين. وقرأ أبو السمال «قمُ الليل» بضم الميم لاجتماع الساكنين، والكسر في كلام العرب أكثر كما قرأ الناس، وقوله تعالى: {نصفه} يحتمل أن يكون بدلاً من قوله {قليلاً}، وكيف ما تقلب المعنى، فإنه أمر بقيام نصف الليل أو أكثر شيء أو أقل شيء، فالأكثر عند العلماء لا يزيد على الثلثين، والأقل لا ينحط عن الثلث ويقوي هذا حديث ابن عباس في بيت ميمونة قال: فلما انتصف الليل أو قبله بقليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلزم على هذا الذي ذكرناه أن يكون نصف الليل قد وقع عليه الوصف بقليل، وقد يحتمل عندي قوله {إلا قليلاً}، أن يكون استثناء من القيام، فيجعل الليل اسم جنس، ثم قال {إلا قليلاً}، أي الليالي التي تخل بقيامها عند العذر البين. وهذا النظر يحسن مع القول مع الندب جداً. وقد تكلم الجرجاني رحمه الله في نظمه في هذه الآية بتطويل وتدقيق غير مفيد أكثره غير صحيح. وقرأ الجمهور: «أوُ انقص» بضم الواو، وقرأ الحسن وعاصم وحمزة بكسر الواو، وقرأ عيسى بالوجهين، والضمير في {منه} و{عليه} عائدان على النصف، وقوله تعالى: {ورتل القرآن} معناه في اللغة تمهل وفرق بين الحروف لتبين. والمقصد أن يجد الفكر فسحة للنظر وفهم المعاني، وبذلك يرق القلب ويفيض عليه النور والرحمة. قال ابن كيسان: المراد تفهمه تالياً له ومنه الثغر الرتل الذي بينه فسخ وفتوح. وروي أن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بينة مترسلة لو شاء أحد أن يعد الحروف لعدها. والقول الثقيل: هو القرآن. واختلف الناس لم سماه {ثقيلاً}، فقالت جماعة من المفسرين: لما كان يحل في رسول الله من ثقل الجسم حتى أنه كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته بركت به، وحتى كادت فخذه أن ترض فخذ زيد بن ثابت رحمه الله. وقال أبو العالية والقرطبي: بل سماه {ثقيلاً} لثقله على الكفار والمنافقين بإعجازه ووعيده ونحو ذلك. وقال حذاق العلماء: معناه ثقيل المعاني من الأمر بالطاعات والتكاليف الشرعية من الجهاد ومزاولة الأعمال الصالحة دائمة، قال الحسن: إن الهذ خفيف ولكن العمل ثقيل. وقوله تعالى: {إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً}، قال ابن جبير وابن زيد هي لفظة حبشية نشأ الرجل إذا قام من الليل، ف {ناشئة} على هذا، جمع ناشئ، أي قائم، و{أشد وطئاً} معناه ثبوتاً واستقلالاً بالقيام، {وأقوم قيلاً}، أي بخلو أفكارهم وإقبالهم على ما يقرأونه. وقال ابن عمر وأنس بن مالك وعلي بن الحسين: {ناشئة الليل} ما بين المغرب والعشاء، وقالت عائشة ومجاهد: القيام بعد النوم، ومن قام أول الليل قبل النوم فلم يقم ناشئة، وقال ابن جبير وابن زيد وجماعة: {ناشئة الليل} ساعاته كلها لأنها تنشأ شيئاً بعد شيء. وقال أبو مجلز وابن عباس وابن الزبير والحسن: ما كان بعد العشاء فهو {ناشئة}، وما كان قبلها فليس ب {ناشئة}، قال ابن عباس: كانت صلاتهم أول الليل فهي {أشد وطئاً} أي أجدر أن يحصوا ما فرض الله عليكم من القيام لأن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ؟ وقال الكسائي: {ناشئة الليل} أوله، وقال ابن عباس وابن الزبير: الليل كله {ناشئة} و{أشد وطئاً}، على هذا يحتمل أن يكون أشد ثبوتاً فيكون نسب الثبوت إليها من حيث هو القائم فيها. ويحتمل أن يريد أنها صعبة القيام لمنعها النوم كما قال «اللهم اشدد وطأتك على مضر» فذكرها تعالى بالصعوبة ليعلم عظم الأجر فيها كما وعد على الوضوء على المكاره والمشي في الظلام إلى المساجد ونحوه. وقرأ الجمهور: «وَطْئاً» بفتح الواو وسكون الطاء، وقرأ أبو عمرو ومجاهد وابن الزبير وابن عباس: «وطاء» على وزن فعال، والمعنى موافقة لأنه يخلو البال من أشغال النهار وأشغابه، فيوافق قلب المرء لسانه، وفكره عبارته فهذه مواطأة صحيحة، وبهذا المعنى فسر اللفظ مجاهد وغيره، وقرأ قتادة في رواية حسين: «وِطاء» بكسر الواو وسكون الطاء والهمزة مقصورة، وقرأ أنس «وأصوب قيلاً»، فقيل له إنما هو {أقوم}، فقال: أقوم وأصوب وأهيأ واحد. وقوله تعالى: {إن لك في النهار سبحاً طويلاً} أي تصرفاً وتردداً في أمورك كما يتردد السابح في الماء. ومنه سمي الفرس سابحاً لتثنيه واضطرابه، وقال قوم من أهل العلم إنما معنى الآية التنبيه على أنه إن فات حزب الليل بنوم أو عذر فليخلف بالنهار فإن فيه {سبحاً طويلاً}، وقرأ يحيى بن يعمر وعكرمة: «سبخاً طويلاً» بالخاء منقوطة، ومعناه خفة لك من التكاليف، والتسبيخ التخفيف، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا تسبخي عنه» لعائشة في السارق الذي سرقها، فكانت تدعو عليه، معناه لا تخففي عنه. قال أبو حاتم: فسر يحيى السبح بالنوم. وقال سهل: {واذكر اسم ربك} يراد اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتك، {وتبتل} معناه: انقطع من كل شيء إلا منه وأفرغ إليه. قال زيد بن أسلم: التبتل رفض الدنيا ومنه تبتل الحبل، وقولهم في الهبات ونحوها بتلة، ومنه البتول، و{تبتيلاً} مصدر على غير المصدر، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر: «ربِّ المشرق» بالخفض على البدل من {ربك}، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم: «ربُّ» على القطع أي هو رب أو على الابتداء والخبر {لا إله إلا هو}. وقرأ ابن عباس وأصحاب عبد الله: «رب المشارق والمغارب» بالجمع. والوكيل: القائم بالأمر الذي يوكل إليه الأشياء، وقوله تعالى: {واصبر على ما يقولون} الآية، قيل هي موادعة منسوخة بآية السيف، والمراد بالآية قريش. وقال بعض العلماء: قوله {واهجرهم هجراً جميلاً} منسوخ، وأما الصبر على ما يقولون فقد يتوجه أحياناً ويبقى حكمه، وفيما يتوجه من الهجر الجميل من المسلمين، قال أبو الدرداء: إنا لنكشر في وجوه قوم وإن قلوبنا لتقليهم. والقول الأول أظهر لأن الآية إنما هي في كفر قريش وردهم رسالته وإعلائهم بذلك لا يمكن أن يكون الحكم في هذه المعاني باقياً.
{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)} قوله تعالى: {وذرني والمكذبين} وعيد لهم، ولم يتعرض احد لمنعه منهم، لكنه إبلاغ بمعنى لا تشغل بهم فكراً، وكلهم إليّ. و{النعمة} غضارة العيش وكثرة المال. والمشار إليهم كفار قريش أصحاب إلا مدة يسيرة نحو عام وليس الأمر كذلك، والتقدير الذي يعضده الدليل من إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتضي أن بين الأمرين نحو العشرة الأعوام، ولكن ذلك قليل أمهلوه، و{لدينا} بمنزلة عندنا، و«الأنكال» جمع نكل، وهو القيد من الحديد، ويروى أنها قيود سود من نار، و«الطعام ذو الغصة»، شجرة الزقوم قاله مجاهد وغيره، وقيل شوك من نار وتعترض في حلوقهم لا تخرج ولا تنزل قاله ابن عباس، وكل مطعوم هنالك فهو ذو غصة، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فصعق، والعامل في قوله {يوم ترجف}، الفعل الذي تضمنه قوله {إن لدينا}، وهو استقرار أو ثبوت، والرجفان: الاهتزاز والاضطراب من فزع وهول، و«المهيل» اللين الرخو الذي يذهب بالريح ويجيء مهيلة. والأصل مهيول استثقلت الضمة على الياء فسكنت واجتمع ساكنان فحذفت الواو وكسرت الهاء بسبب الياء. وقوله تعالى: {إنا أرسلنا إليكم} الآية خطاب للعالم، لكن المواجهون قريش، وقوله {شاهداً عليكم} نحو قوله {وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41]، وتمثيله لهم أمرهم بفرعون وعيد كأنه يقول: فحالهم من العذاب والعقاب إن كفروا سائرة إلى مثل حال فرعون، وقوله تعالى: {فعصى فرعون الرسول} يريد موسى عليه السلام، والألف واللام للعهد. والوبيل: الشديد الرديء العقبى، ويقال: كلأ وبيل ومستوبل إذا كان ضاراً لما يرعاه. وقوله تعالى: {فكيف تتقون} معناه تجعلون لأنفسكم، و{يوماً} مفعول ب {تتقون}، وقيل هو مفعول ب {كفرتم} على أن يجعله بمنزلة جحدتم، ف {تتقون} على هذا من التقوى، أي {تتقون} عقاب الله {يوم}، و{يجعل} يصح أن يكون مسنداً إلى اسم الله تعالى، ويصح أن يكون مسنداً إلى اليوم. وقوله تعالى: {الولدان شيباً} يريد صغار الأطفال، وقال قوم هذه حقيقة تشيب رؤوسهم من شدة الهول كما قد ترى الشيب في الدنيا من الهم المفرط كهول البحر ونحوه. وقال آخرون من المتأولين: هو تجوز وإبلاغ في وصف هول ذلك اليوم. وواحد {الولدان} وليد، وواحد الشيب أشيب. وقوله تعالى: {السماء منفطر به} قيل هذا على النسب أي ذات انفطار كامرأة حائض وطالق، وقيل السماء تذكر وتؤنث، وينشد في التذكير: [الوافر] فلو رفع السماء إليه قوماً *** لحقنا بالسماء مع السحاب وقيل من حيث لم يكن تأنيثها حقيقياً، جاز أن تسقط علامة التأنيث لها، وقيل لم يرد اللفظ قصد السماء بعينها وإنما أراد ما علا من مخلوقات الله كأنه قصد السقف فذكر على هذا المعنى، قاله منذر بن سعيد وأبو عبيدة معمر والكسائي: و{الانفطار} التصدع والانشقاق على غير نظام، بقصد، والضمير في {به} قال المنذر وغيره: هو عائد على اليوم، وقال مجاهد: هو عائد على الله تعالى، وهذا نظير قوله {يوم تشقق السماء بالغمام} [الفرقان: 25] الذي هو ظل يأتي الله فيها. والمعنى يأتي أمره وقدرته، وكذلك هنا {منفطر به} أي بأمره وسلطانه، والضمير في قوله {وعده} ظاهر أنه لله تعالى. ويحتمل أن يكون لليوم لأنه يضاف إليه من حيث هو منه.
{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)} الإشارة ب {هذه} يحتمل أن تكون إلى ما ذكر من الأنكال والجحيم والأخذ الوبيل ونحوه. ويحتمل أن تكون إلى السورة بأجمعها ويحتمل أن تكون إلى القرآن، أي أن هذه الأقوال المنصوصة، فيه، {تذكرة}، والتذكرة مصدر كالذكر. وقوله تعالى: {فمن شاء} الآية، ليس معناه إباحة الأمر وضده، بل يتضمن معنى الوعد والوعيد. والسبيل هنا: سبيل الخير والطاعة. وقوله تعالى: {إن ربك يعلم} الآية نزلت تخفيفاً لما كان استمر استعماله من قيام الليل إما على الوجوب أو على الندب حسب الخلاف الذي ذكرناه، ومعنى الآية: أن الله تعالى يعلم أنك تقوم أنت وغيرك من أمتك قياماً مختلفاً فيه، مرة يكثر ومرة يقل، ومرة أدنى من الثلثين، ومرة أدنى من الثلث، وذلك لعدم تحصيل البشر لمقادير الزمن مع عدم النوم، وتقدير الزمان حقيقة إنما هو لله تعالى، وأما البشر فلا يحصي ذلك فتاب الله عليهم، أي رجع بهم من الثقل إلى الجنة وأمرهم بقراءة {ما تيسر}، ونحو هذا يعطي عبارة الفراء ومنذر فإنهما قالا {تحصوه} تحفظوه، وهذا التأويل هو على قراءة من قرأ «ونصفِه وثلثِ» بالخفض عطفاً على الثلثين، وهي قراءة أبي عمرو ونافع وابن عامر. وأما من قرأ «ونصفَه وثلثَه» بالنصب عطفاً على {أدنى} وهي قراءة باقي السبعة، فالمعنى عنده آخر، وذلك أن الله تعالى قرر أنهم يقدرون الزمان على نحو ما أمر به في قوله {نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه} [المزمل: 3-4]، فلم يبق إلا أن يكون قوله {لن تحصوه} لن تستطيعوا قيامه لكثرته وشدته فخفف الله عنكم فضلاً منه لا لقلة جهلهم بالتقدير وإحصاء الوقت، ونحو هذا تعطي عبارة الحسن وابن جبير {تحصوه} تطيعوه، وقرأ جمهور القراء والناس «وثلُثه» بضم اللام، وقرأ ابن كثير في رواية شبل عنه: «وثلْثه» بسكون اللام. وقوله تعالى: {فاقرأوا ما تيسر من القرآن} إباحة، هذا قول الجمهور، وقال ابن جبير وجماعة هو فرض لا بد منه ولو خمسين آية، وقال الحسن وابن سيرين قيام الليل فرض، ولو قدر حلب شاة، إلا أن الحسن قال: من قرأ مائة آية لم يحاجه القرآن، واستحسن هذا جماعة من العلماء، قال بعضهم: والركعتان بعد العتمة مع الوتر مدخلتان في حكم امتثال هذا الأمر، ومن زاد زاده الله ثواباً. و{أن} في قوله تعالى: {علم أن} مخففة من الثقيلة. والتقدير أنه يكون، فجاءت السين عوضاً من المحذوف، وكذلك جاءت لا في قول أبي محجن: [الطويل] ولا تدفنني بالفلاة فإنني *** أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها والضرب في الأرض: هو السفر للتجارة، وضرب الأرض هو المشي للتبرز والغائط. فذكر الله تعالى أعذار بني آدم التي هي حائلة بينهم وبين قيام الليل وهي المرض والسفر في تجارة أو غزو، فخفف عنه القيام لها. وفي هذه الآية فضيلة الضرب في الأرض بل تجارة وسوق لها مع سفر الجهاد، وقال عبد الله بن عمر: أحب الموت إليَّ بعد القتل في سبيل الله أن أموت بين شعبتي رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله، ثم كرر الأمر. بقراءة ما تيسر منه تأكيداً و{الصلاة} و{الزكاة} هما المفروضتان، ومن قال إن القيام بالليل غير واجب قال معنى الآية خذوا من هذا الثقل بما تيسر وحافظوا على فرائضكم، ومن قال إن شيئاً من القيام واجب قال: قرنه الله بالفرائض لأنه فرض. وإقراض الله تعالى: هو إسلاف العمل الصالح عنده. وقرأ جمهور الناس «هو خيراً» على أن يكون هو فصلاً، وقرأ محمد بن السميفع وأبو السمال «هو خيرُ» بالرفع على أن يكون {هو} ابتداء، و«خير» خبره والجملة تسد مسد المفعول الثاني ل {تجدوه}. ثم أمر تعالى بالاستغفار وأوجب لنفسه صفة الغفران لا إله غيره، قال بعض العلماء فالاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه الآية ومن قوله تعالى: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات: 17]. قال القاضي أبو محمد: وعهدت أبي رحمه الله يستغفر إثر كل مكتوبة ثلاثاً بعقب السلام ويأثر في ذلك حديثاً، فكأن هذا الاستغفار من التقصير وتفلت الفكر أثناء الصلاة، وكان السلف الصالح يصلون إلى طلوع الفجر ثم يجلسون للاستغفار إلى صلاة الصبح. نجز تفسير سورة «المزمل» بحمد الله وعونه وصلى الله على محمد وآله.
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)} اختلف القراء في {المدثر} على نحو ما ذكرناه في {المزمل} [المزمل: 1]، وفي حرف أبيّ بن كعب {المدثر} ومعناه المتدثر بثيابه، و«الدثار»، ما يتغطى الإنسان به من الثياب، واختلف الناس لم ناداه ب {المدثر}، فقال جمهور المفسرين بما ورد في البخاري من أنه لما فرغ من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والأرض فرعب منه ورجع إلى خديجة فقال: زملوني زملوني نزلت {يا أيها المدثر}، وقال النخعي وقتادة وعائشة نودي وهو في حال تدثر فدعي بحال من أحواله. وروي أنه كان يدثر في قطيفة. وقال آخرون: معناه أيها النائم. وقال عكرمة معناه {يا أيها المدثر} للنبوة وأثقالها، واختلف الناس في أول ما نزل من كتاب الله تعالى فقال جابر بن عبد الله وأبو سلمة والنخعي ومجاهد هو {يا أيها المدثر} الآيات. وقال الزهري والجمهور هو {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق: 1] وهذا هو الأصح. وحديث صدر كتاب البخاري نص في ذلك. وقوله تعالى: {قم فأنذر} بعثة عامة إلى جميع الخلق. قال قتادة، المعنى أنذر عذاب الله ووقائعه بالأمم، وقوله تعالى: {وربك فكبر} معناه عظمه بالعبادة وبث شرعه. وروي عن أبي هريرة أن بعض المؤمنين قال: بم نفتتح صلاتنا؟ فنزلت {وربك فكبر}. واختلف المتأولون في معنى قوله {وثيابك فطهر}، فقال ابن سيرين وابن زيد بن أسلم والشافعي وجماعة: هو أمر بتطهير الثياب حقيقة، وذهب الشافعي وغيره من هذه الآية إلى وجوب غسل النجاسات من الثياب، وقال الجمهور: هذه الألفاظ استعارة في تنقية الأفعال والنفس والعرض، وهذا كما تقول فلان طاهر الثوب، ويقال للفاجر دنس الثوب، ومنه قول الشاعر [غيلان بن سلمة الثقفي]: [الطويل] وإني بحمد الله لا ثوب فاجر *** لبست ولا من خزية أتقنع وقال الآخر: [الرجز] لاهم إن عامر ابن جهم *** أوذم حجّاً في ثياب دهم أي دنسه. وقال ابن عباس والضحاك وغيره، المعنى لا تلبسها على غدرة ولا فجور، وقال ابن عباس: المعنى لا تلبسها من مكسب خبيث، وقال النخعي: المعنى طهرها من الذنوب، وهذا كله معنى قريب بعضه من بعض، وقال طاوس: المعنى قصرها وشمرها، فذلك طهرة للثياب. وقرأ جمهور الناس «والرِّجز» بكسر الراء، وقرأ حفص عن عاصم والحسن ومجاهد وأبو جعفر وشيبة وأبو عبد الرحمن والنخعي وابن وثاب وقتادة وابن أبي إسحاق والأعرج: و«الرُّجز» بضم الراء. فقيل هما بمعنى يراد بهما الأصنام والأوثان، وقيل هما لمعنيين الكسر للنتن والتقابض وفجور الكفار والضم لصنمين: «إساف ونائلة»، قاله قتادة. وقيل للأصنام عموماً، قاله مجاهد وعكرمة والزهري. وقال ابن عباس {الرجز} السخط، فالمعنى اهجر ما يؤدي إليه ويوجبه، وقال الحسن: كل معصية رجز، وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية بالأوثان. واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: {ولا تمنن تستكثر}. فقال ابن عباس وجماعة معه: لا تعط عطاء لتعطى أكثر منه، فكأنه من قولهم، من إذا أعطى، قال الضحاك، وهذا خاص بالنبي عليه السلام، ومباح لأمته لكن لا أجر لهم فيه. قال مكي: وهذا معنى قوله تعالى: {وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله} [الروم: 39]، وهذا معنى أجنبي من معنى هذه السورة. وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال: {ولا تمنن تستكثر} لا تقل دعوت فلم أجب وروى قتادة أن المعنى لا تدل بعملك، ففي هذا التأويل تحريض على الجد وتخويف، وقال ابن زيد: معناه {ولا تمنن} على الناس بنبوءتك {تستكثر} بأجر أو بكسب تطلبه منهم. وقال الحسن بن أبي الحسن: معناه {ولا تمنن} على الله بجدك {تستكثر} أعمالك ويقع لك بها إعجاب، فهذه كلها من المن الذي هو تعديد اليد وذكرها. وقال مجاهد: معناه ولا تضعف {تستكثر} ما حملناك من أعباء الرسالة وتستكثر من الخير، فهذه من قولهم حبل منين أي ضعيف، وفي قراءة ابن مسعود: «ولا تمنن أن تستكثر»، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «تستكثرْ» بجزم الراء، وذلك كأنه قال لا تستكثر، وقرأ الأعمش: «تستكثرَ» بنصب الراء، وذلك على تقدير أن مضمرة وضعف أبو حاتم الجزم، وقرأ ابن أبي عبلة: «ولا تمنن فتستكثرْ» بالفاء العاطفة والجزم، وقرأ أبو السمال: «ولا تمنّ» بنون واحدة مشددة. {ولربك فاصبر}، أي لوجه ربك وطلب رضاه كما تقول فعلت لله تعالى، والمعنى على الأدنى من الكفار وعلى العبادة وعن السهوات وعلى تكاليف النبوة، قال ابن زيد وعلى حرب الأحمر والأسود لقد حمل أمراً عظيماً. و{الناقور} الذي ينفخ فيه وهو الصور، قاله ابن عباس وعكرمة. وقال خفاف بن ندبة: [الوافر] إذا ناقورهم يوماً تبدى *** أجاب الناس من غرب وشرق وهو فاعول من النقر، وقال أبو حباب: أمنا زرارة بن أوفى فلما بلغ في الناقور خر ميتاً. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقمه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر بالنفخ» ففزع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: كيف نقول يا رسول الله؟ قال: «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا». و{يوم عسير} معناه في عسر في الأمور الجارية على الكفار فوصف اليوم بالعسر لكونه ظرف زمان له. وكذلك تجيء صفته باليسر. وقرأ الحسن «عسر» بغير ياء.
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} قوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيداً} وعيد محض، المعنى أنا أكفي عقابه وشأنه كله. ولا خلاف بين المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، فروي أنه كان يلقب الوحيد، أي لأنه لا نظير له في ماله وشرفه في بيته، فذكر الوحيد في الآية في جملة النعمة التي أعطي وإن لم يثبت هذا، فقوله تعالى: {خلقت وحيداً} معناه منفرداً قليلاً ذليلاً، فجعلت له المال والبنين، فجار ذكر الوحدة مقدمة حسن معها وقوع المال والبنين، وقيل المعنى خلقته وحدي لم يشركني فيه أحد، ف {وحيداً} حال من التاء في {خلقت}، والمال الممدود: قال مجاهد وابن جبير هو ألف دينار، وقال سفيان: بلغني أنه أربعة آلاف دينار وقاله قتادة، وقيل: عشرة آلاف دينار، فهذا مد في العدد، وقال النعمان بن بشير هي الأرض لأنها مدت، وقال عمر بن الخطاب: المال الممدود الربع المستغل مشاهرة، فهو مد في الزمان لا ينقطع، و{شهوداً} معناه حضوراً متلاحقين، قال مجاهد وقتادة: كان له عشرة من الولد، وقال ابن جبير: ثلاثة عشر، والتمهيد: التوطئة والتهيئة، قال سفيان: المعنى بسطت له العيش بسطاً. وقوله تعالى: {ثم يطمع أن أزيد} وصفه بجشع الوليد وعتبة في الازدياد من الدنيا، وقوله تعالى: {كلا} زجر ورد على أمنية هذا المذكور، ثم أخبر عنه أنه كان معانداً مخالفاً لآيات الله وعبره، يقال بعير عنود للذي يمشي مخالفاً للإبل. ويحتمل أن يريد بالآيات آيات القرآن وهو الأصح في التأويل سبب كلام الوليد في القرآن بأنه سحر، و«أرهقه» معناه أكلفه بمشقة وعسر، و{صعوداً}: عقبة في جهنم، روى ذلك أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم كلما وضع عليها شيء من الإنسان ذاب، والصعود في اللغة: العقبة الشاقة. وقوله تعالى مخبراً عن الوليد {إنه فكر وقدر} الآية، روى جمهور المفسرين أن الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه، ثم سمع كذلك مراراً حتى كاد أن يقارب الإسلام، ودخل إلى أبي بكر الصديق مراراً، فجاءه أبو جهل فقال: يا وليد، أشعرت أن قريشاً قد ذمتك بدخولك إلى ابن أبي قحافة وزعمت أنك إنما تقصد أن تأكل طعامه، فقد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في هذا الكلام قولاً يرضيهم، ففتنه أبو جهل فافتتن، وقال: افعل ذلك ثم فكر فيما عسى أن يقول في القرآن، فقال: أقول شعر ما هو بشعر، أقول هو كاهن؟ ما هو بكاهن، أقول هو {سحر يؤثر} هو قول البشر، أي لبس منزل من عند الله قال أكثر المفسرين، فقوله تعالى: {فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر} هو دعاء عليه وتقبيح لحاله أي أنه ممن يستحق ذلك. وروي عن الزهري وجماعة غيره أو الوليد حاج أبا جهل وجماعة من قريش في أمر القرآن وقال: والله إن له لحلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لحياة وإنه ليحطم ما تحته وإنه ليعلو ولا يعلى ونحو هذا من الكلام فخالفوه فقالوا له: هو شعر، فقال والله ما هو بشعر، ولقد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه، قالوا: فهو كاهن، قال والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان وزمزمتهم، قالوا: هو مجنون، قال: والله ما هو بمجنون، ولقد رأينا المجنون وخنقه، قالوا: هو سحر، قال أما هذا فيشبه أنه سحر ويقول أقوال نفسه. قال القاضي أبو محمد: فيحتمل قوله تعالى: {فقتل كيف قدر} أن يكون دعاء عليه على معنى تقبيح حاله، ويحتمل أن يكون دعاء مقتضاه استحسان منزعه الأول ومدحه القرآن، وفي نفيه الشعر والكهانة والجنون عنه فيجري هذا مجرى قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جندل بن سهيل: «ويل أمه مسعر حرب»، ومجرى قول عبد الملك بن مروان: قاتل الله كثيراً كأنه رآنا حين قال كذا، وهذا معنى مشهور في كلام العرب، ثم وصف تعالى إدباره واستكباره وأنه ضل عند ذلك وكفر، وإذا قلنا إن ذلك دعاء على مستحسن فعله فيجيء قوله تعالى: {ثم نظر}، معناه نظر فيما احتج به القرآن فرأى ما فيه من علو مرتبة محمد عليه السلام ف {عبس} لذلك {وبسر} أي قطب وقبض ما بين عينيه وأربد وجهه حسداً له فأدبر واستكبر، أي ارتكس في ضلاله وزال إقباله أولاً ليهتدي ولحقته الكبرياء، وقال هذا سحر، و{يؤثر} معناه يروى ويحمل، أي يحمله محمد عن غيره، وعلى التأويل أن الدعاء عليه دعاء على مستقبح فعله يجيء قوله {ثم نظر} معناه معاداً بعينه لأن {فكر وقدر} يقتضيه لكنه إخبار بترديده النظر في الأمر، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الوليد فقال له: «انظر وفكر فلما فكر قال ما تقدم».
{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)} {سقر} هو الدرك السادس من جهنم على ما روي، و{أصليه} معناه أجعله فيها مباشراً لنارها، وقوله تعالى: {وما أدراك ما سقر} هو على معنى التعجب من عظم أمرها وعذابها ثم بين ذلك بقوله {لا تبقي ولا تذر} المعنى: {لا تبقي} على من ألقي فيها، {ولا تذر} غاية من العذاب إلا وصلته إليها، وقوله تعالى: {لواحة للبشر}، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو رزين وجمهور الناس: معناه، مغيرة للبشرات، محرقة للجلود مسودة لها، و«البشر» جمع بشرة، وتقول العرب: لاحت النار الشيء إذا أحرقته وسودته، وقال الشاعر [الأعشى]: [الخفيف] لاحة الصيف والغيار وإشفا *** ق على سقبة كقوس الضال وأنشد أبو عبيدة: [الرجز] يا بنت عمي لاحني الهواجر *** وقال الحسن وابن كيسان: {لواحة} بناء مبالغة من لاح يلوح إذا ظهر، والمعنى أنها تظهر للناس وهم البشر من مسيرة خمسمائة عام، وذلك لعظمها وهولها وزفيرها. وقرأ عطية العوفي «لواحةً» بالنصب، وقوله تعالى: {عليها تسعة عشر} ابتداء وخبره مقدم في المجرور، ولا خلاف بين العلماء أنهم خزنة جهنم المحيطون بأمرها الذين إليهم جماع أمر زبانيتها، وقد قال بعض الناس: إنهم على عدد حروف بسم الله الرحمن الرحيم لأن بها تقووا، وروي أن قريشاً لما سمعت هذا كثر إلغاطهم فيه وقالوا: لو كان هذا حقاً، فإن هذا العدد قليل، فقال أبو جهل: هؤلاء تسعة عشر، وأنتم الدهم، أفيعجز عشرة منا عن رجل منهم، وقال ابو الأشدي الجمحي: أنا أجهضهم على النار، إلى غير هذا من أقوالهم السخيفة، فنزلت في أبي جهل: {أولى لك فأولى} [القيامة: 34-35] الآية، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن شبل «تسعْة عشر» بسكون العين، وذلك لتوالي الحركات، وقرأ أنس بن مالك وأبو حيوة «تسعةُ عشر» برفع التاء، وروي عن أنس بن مالك أنه قرأ «تسعة أعشر»، وضعفها أبو حاتم، وقوله تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} تبيين لفساد أقوال قريش، أي إن جعلناهم خلقاً لا قبل لأحد من الناس بهم وجعلنا عدتهم هذا القدر فتنة للكفار ليقع منهم من التعاطي والطمع في المبالغة ما وقع و{ليستيقن} أهل الكتاب: التوراة والإنجيل أن هذا القرآن من عند الله، إذ هم يجدوه هذه العدة في كتبهم المنزلة التي لم يقرأها محمد صلى الله عليه وسلم ولا هو من أهلها، ولكن كتابه يصدق ما بين يديه من كتب الأنبياء إذ جميع ذلك حق يتعاضد منزل من عند الله، قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد وغيرهم، وبورود الحقائق من عند الله عز وجل يزداد كل ذي إيمان إيماناً ويزول الريب عن المصدقين من أهل الكتاب ومن المؤمنين، وقوله تعالى: {وليقول الذين في قلوبهم مرض} الآية، نوع من الفتنة لهذا الصنف المنافق أو الكافر، أي جاروا وضلوا ولم يهتدوا لقصد الحق فجعلوا يستفهم بعضهم بعضاً عن مراد الله تعالى بهذا المثل استبعاداً أن يكون هذا من عند الله، قال الحسين بن الفضل: السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق فإنما المرض في هذه الآية الاضطراب وضعف الإيمان.
{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)} قوله تعالى: {كذلك يضل الله من يشاء} أي بهذه الصفة وهذا الرّين على القلوب يضل، ثم أخبر تعالى أنه {يهدي من يشاء} من المؤمنين لما ورد بذلك لعلمهم بالقدرة ووقوف عقولهم على كنه سلطان الله تعالى، فهم موقنون متصورون صحة ما أخبرت به الأنبياء وكتب الله تعالى، ثم قال: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} إعلاماً بأن الأمر فوق ما يتوهم وأن الخبر إنما هو عن بعض القدرة لا عن كلها، والسماء كلها عامرة بأنواع من الملائكة كلهم في عبادة متصلة وخشوع دائم وطاعة لا فترة في شيء من ذلك ولا دقيقة واحدة. وقوله تعالى: {وما هي إلا ذكرى للبشر} قال مجاهد الضمير في قوله {وما هي} للنار المذكورة، أي يذكرها البشر فيخافونها فيطيعون الله تعالى. وقال بعض الحذاق: قوله تعالى: {ما هي}، يراد بها الحال والمخاطبة والنذارة، قال الثعلبي: وقيل {وما هي}، يراد نار الدنيا، أي إن هذه تذكرة للبشر بنار الآخرة، وقوله عز وجل: {كلا} رد على الكافرين وأنواع الطاغين على الحق، ثم أقسم ب {القمر}، تخصيص تشريف وتنبيه على النظر في عجائبه وقدرة الله تعالى في حركاته المختلفة التي هي مع كثرتها واختلافها علىنظام واحد لا يختل، وكذلك هو القسم ب {الليل} وب {الصبح}، فيعود التعظيم في آخر الفكرة وتحصيل المعرفة إلى الله تعالى مالك الكل وقوام الوجود ونور السماء والأرض، لا إله إلا هو العزيز القهار. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «إذ أدَبَر» بفتح الدال والباء، وهي قراءة ابن عباس وابن المسيب وابن الزبير ومجاهد وعطاء ويحيى بن يعمر وأبي جعفر وشيبة وأبي الزناد وقتادة وعمر بن عبد العزيز والحسن وطلحة. وقرأ نافع وحمزة وحفص عن عاصم، «إذا أدْبر» بسكون الدال وبفعل رباعي، وهي قراءة سعيد بن جبير وأبي عبد الرحمن والحسن بخلاف عنهم والأعرج وأبي شيخ وابن محيصن وابن سيرين، قال يونس بن حبيب: «دبر» معناه انقضى و«أدبر» معناه تولى. وفي مصحف ابن مسعود وأبيّ بن كعب «إذ أدَبر» بفتح الدال وألف وبفعل رباعي وهي قراءة الحسن وأبي رزين وأبي رجاء ويحيى بن يعمر. وسأل مجاهد ابن عباس عن دبر الليل فتركه حتى إذا سمع المنادي الأول للصبح قال له: يا مجاهد، هذا حين دبر الليل، وقال قتادة: دبر الليل ولى. قال الشاعر [الأصمعي]: [الكامل] وأبي الذي ترك الملوك وجمعهم *** بهضاب هامدة كأمس الدابر والعرب تقول في كلامها كأمس المدبر، قال أبو علي الفارسي: فالقراءتان جميعاً حسنتان و«أسفر الصبح» أضاء وانتشر ضوءه قبل طلوع الشمس بكثير والإسفار رتب أول ووسط وآخر، ومن هذه اللفظة السَّفر، والسفر بفتح السين، والسفير وسفرت المرأة عن وجهها كلها ترجع إلى معنى الظهور والانجلاء، وقرأ عيسى بن الفضيل وابن السميفع: «إذا اسفر»، فكأن المعنى طرح الظلمة عن وجهه وضعفها أبو حاتم، وقوله تعالى: {إنها لإحدى الكبر} قال قتادة وأبو رزين وغيره: الضمير لجهنم، ويحتمل أن يكون الضمير للنذارة، وأمر الآخرة فهو للحال والقصة، وتكون هذه الآية مثل قوله عز وجل {قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون} [ص: 68]، و{الكبر}، جمع كبيرة، وقرأ جمهور القراء «لإحدى» بهمزة في ألف إحدى، وروي عن ابن كثير أنه قرأ «لاحدى» دون همزة، وهي قراءة نصر بن عاصم، قال أبو علي: التخفيف في {لإحدى الكبر}، أن تجعل الهمزة فيها بين بين، فأما حذف الهمزة فليس بقياس وقد جاء حذفها. قال أبو الأسود الدؤلي: [الكامل] يا أبا المغيرة رب أمر معضل *** فرجته بالنكر مني والدّها وأنشد ثعلب: [الكامل] إن لم أقاتل فالبسوني برقعا *** وفتخات في اليدين أربعا وقوله تعالى: {نذيراً للبشر} قال الحسن بن أبي الحسن: لا نذير إذ هي من النار. وهذا القول يقتضي أن {نذيراً} حال من الضمير في {إنها}. أو من قوله {لإحدى}، وكذلك أيضاً على الاحتمال في أن تكون {إنها} يراد بها قصة الآخرة وحال العالم، وقال أبو رزين: الله جل ذكره هو النذير، فهذا القول يقتضي أن {نذيراً} معمول الفعل تقديره: ليس نذيراً للبشر أو ادعوا نذيراً للبشر، وقال ابن زيد محمد عليه السلام هو النذير: فهذا القول يقتضي أن {نذيراً} معمول لفعل. وهذا اختيار الخليل في هذه الآية ذكره الثعلبي قال: ولذلك يوصف به المؤنث، وقرأ ابن أبي عبلة «نذيرٌ» بالرفع على إضمار هو، وقوله تعالى: {لمن يشاء منكم أن يتقدم أو يتأخر}، قال الحسن هو وعيد نحو قوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]، وقوله تعالى: {ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين} [الحجر: 24]. قال القاضي أبو محمد: هو بيان في النذارة وإعلام أن كل أحد يسلك طريق الهدى والحق إذا حقق النظر، اي هو بعينه يتأخر عن هذه الرتبة بغفلته وسوء نظره ثم قوي هذا المعنى بقوله: {كل نفس بما كسبت رهينة} إذ ألزم بهذا القول أن المقصر مرتهن بسوء عمله. وقال الضحاك: المعنى كل نفس حقت عليها كلمة العذاب، ولا يرتهن تعالى أحداً من أهل الجنة إن شاء الله، والهاء في {رهينة} للمبالغة، أو على تأنيث اللفظ لا على معنى الإنسان وقوله تعالى: {إلا أصحاب اليمين} استثناء ظاهر الانفصال، وتقديره لكن أصحاب اليمين، وذلك لأنهم لم يكتسبوا ما هم به مرتهنون، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: {أصحاب اليمين} في هذه الآية، أطفال المسلمين، وقال ابن عباس: هم الملائكة، وقال الضحاك: هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى، وقال الحسن وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون وليسوا بمرتهنين، ثم ذكر تعالى حال {أصحاب اليمين} وأنهم في جنات يسأل بعضهم بعضاً عمن غاب من معارفه، فإذا علموا أنهم مجرمون في النار، قالوا لهم أو قالت الملائكة: {ما سلككم في سقر}؟ وسلك معناه: أدخل، ومنه قول أبي وجزة السعدي: حتى سلكن الشوى منهن في مسك *** من نسل جوابة الآفاق مهداج {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)} هذا هو اعتراف الكفار على أنفسهم وفي نفي الصلاة يدخل الإيمان بالله والمعرفة به والخشوع والعبادة. والصلاة تنتظم على عظم الدين وأوامر الله تعالى وواجبات العقائد، وإطعام المساكين ينتظم الصدقة فرضاً وطواعية، وكل إجمال ندبت إليه الشريعة بقول أو فعل والخوض {مع الخائضين} عرفه في الباطل، قال قتادة: المعنى كلما غوى غاو غووا معه، والتكذيب {بيوم الدين} كفر صراح وجهل بالله تعالى، و{اليقين} معناه عندي صحة ما كانوا يكذبون به من الرجوع إلى الله تعالى والدار الآخرة، وقال المفسرون: {اليقين} الموت، وذلك عندي هنا متعقب لأن نفس الموت يقين عند الكافر وهو حي، فإنما {اليقين} الذي عنوا في هذه الآية الشيء الذي كانوا يكذبون به وهم أحياء في الدنيا فتيقنوه بعد الموت. وإنما يتفسر اليقين بالموت في قوله تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر: 99]. ثم أخبر تعالى أن {شفاعة الشافعين} لا تنفعهم فتقرر من ذلك أن ثم شافعين، وفي صحة هذا المعنى أحاديث: قال صلى الله عليه وسلم: «يشفع الملائكة ثم النبيون ثم العلماء ثم الشهداء ثم الصالحون، ثم يقول الله تعالى: شفع عبادي وبقيت شفاعة أرحم الراحمين، فلا يبقى في النار من كان له إيمان»، وروى الحسن أن الله تعالى يدخل الجنة بشفاعة رجل من هذه الأمة مثل ربيعة ومضر وفي رواية أبي قلابة أكثر من بني تميم، وقال الحسن كنا نتحدث أن الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته، ثم قال عز وجل: {فما لهم عن التذكرة معرضين} أي والحال المنتظرة هي هذه الموصوفة، وقوله تعالى في صفة الكفار المعرضين بتول واجتهاد في نفور {كأنهم حمر مستنفرة} إثبات لجهالتهم لأن الحمر من جاهل الحيوان جداً، وقرأ الأعمش: «حمْر» بإسكان الميم، وفي حرف ابن مسعود «حمر نافرة»، وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم: «مستنفَرة» بفتح الفاء، وقرأ الباقون بكسرها، واختلف عن نافع وعن الحسن والأعرج ومجاهد، فأما فتح الفاء فمعناها استنفرها فزعها من القسورة، وأما كسر الفاء فعلى أن نفر واستنفر بمعنى واحد مثل عجب واستعجب وسخر واستسخر فكأنها نفرت هي، ويقوي ذلك قوله تعالى {فرت} وبذلك رجح أبو علي قراءة كسر الفاء، واختلف المفسرون في معنى القسورة فقال ابن عباس وأبو موسى الأشعري وقتادة وعكرمة: «القسورة» الرماة، وقال ابن عباس أيضاً وأبو هريرة وجمهور من اللغويين: «القسورة» الأسد، ومنه قول الشاعر: [الرجز] مضمر تحذره الأبطال *** كأنه القسورة الرئبال وقال ابن جبير: «القسورة»: رجال القنص، وقاله ابن عباس أيضاً، وقيل: «القسورة» ركز الناس، وقيل: «القسورة» الرجال الشداد، قال لبيد: إذا ما هتفنا هتفة في ندينا *** أتانا الرجال العاندون القساور وقال ثعلب: «القسورة» سواد أول الليل خاصة لآخره أو اللفظة مأخوذة من القسر الذي هو الغلبة والقهر، وقوله تعالى: {بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة} معناه من هؤلاء المعارضين، أي يريد كل إنسان منهم أن ينزل عليه كتاب من الله، وكان هذا من قول عبد الله بن أبي أمية وغيره. وروي أن بعضهم قال إن كان يكتب في صحف ما يعمل كل إنسان فلتعرض ذلك الصحف علينا فنزلت الآية، و{منشرة}: معناه منشورة غير مطوية، وقرأ سعيد بن جبير «صحْفاً» بسكون الحاء وهي لغة يمانية، وقرأ: «منْشرة» بسكون النون وتخفيف الشين، وهذا على أن يشبه نشرت الثوب بأنشر الله الميت إذا لطى كالموت، وقد عكس التيمي التشبيه في قوله: [الكامل] ردت صنائعه عليه حياته *** فكأنه من نشرها منشور ولا يقال في الميت يحيى منشور إلا على تشبيه بالثوب وأما محفوظ اللغة فنشرت الصحيفة وأنشر الله الميت، وقد جاء عنهم نشر الله الميت، وقوله تعالى: {كلا} رد على إرادتهم أي ليس الأمر كذلك، ثم قال: {بل لا يخافون الآخرة} المعنى هذه العلة والسبب في إعراضهم فكان جهلهم بالآخرة سبب امتناعهم للهدى حتى هلكوا، وقرأ أبو حيوة: «تخافون» بالتاء من فوق رويت عن ابن عامر، ثم أعاد الرد والزجر بقوله تعالى: {كلا} وأخبر أن هذا القول والبيان وهذه المحاورة بجملتها {تذكرة}، {فمن شاء} وفقه الله تعالى لذلك ذكر معاده فعمل له، ثم أخبر تعالى أن ذكر الإنسان معاده وجريه إلى فلاحه إنما هو كله بمشيئة الله تعالى وليس يكون شيء إلاّ بها، وقرأ نافع وأهل المدينة وسلام ويعقوب: «تذكرون» بالتاء من فوق، وقرأ أبو جعفر وعاصم وأبو عمرو والأعمش وطلحة وابن كثير وعيسى والأعرج: «يذكرون» بالياء من تحت، وروي عن أبي جعفر بالتاء من فوق وشد الذال كأنه تتذكرون فأدغم، وقوله تعالى: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} خبر جزم معناه: أن الله تعالى أهل بصفاته العلى ونعمه التي لا تحصى ونقمه التي لا تدفع لأن يتقى ويطاع ويحذر عصيانه وخلاف أمره، وأنه بفضله وكرمه أهل أن يغفر لعباده إذا اتقوه، وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية فقال: «يقول ربكم جلت قدرته وعظمته: أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله غيري ومن اتقى أن يجعل معي إلهاً غيري فأنا أغفر له،» وقال قتادة: معنى الآية هو أهل أن تتقى محارمه وأهل أن يغفر الذنوب. نجز تفسير سورة المدثر والحمد لله كثيراً.
|