الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)
.الاقتضاب: وأما الاقتضاب فهو الذي أشرنا إليه في صدر هذا النوع، وهو: قطع الكلام واستئناف كلام آخر غيره، بلا علاقة تكون بينه وبينه.فمن ذلك ما يقرب من التخلص، وهو فصل الخطاب، والذي أجمع عليه المحققون من علماء البيان أنه أما بعد لأن المتكلم يفتتح كلامه في كل أمر ذي شأن بذكر الله وتحميده، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه فصل بينه وبين ذكر الله تعالى بقوله أما بعد ومن الفصل الذي هو أحسن من الوصل لفظه هذا وهي علاقة وكيدة بين الخروج من كلام إلى كلام آخر غيره، كقوله تعالى: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب جنات عدن مفتحة لهم الأبواب} ألا ترى إلى ما ذكر قبل: {هذا ذكر} من ذكر من الأنبياء عليهم السلام، وأراد أن يذكر على عقبه بابا آخر غيره، وهو ذكر أهل الجنة وأهلها، فقال: {هذا ذكر} ثم قال: {وإن للمتقين لحسن مآب} ثم لما أتم ذكر أهل الجنة وأراد أن يعقبه بذكر أهل النار قال: {هذا وإن للطاغين لشر مآب} وذلك من فصل الخطاب الذي هو ألطف موقعا من التخلص.وقد وردت لفظة هذا في الشعر إلا أن ورودها فيه قليل بالنسبة إلى الكلام المنثور، فمن ذلك قول الشاعر المعروف بالخباز البلدي في قصيدة أولها:هذه الأبيات حسنة، وخروجها من شدق هذا الرجل الخباز عجيب، ولو جاءت في شعر أبي نواس لزانت ديوانه.والاقتضاب الوارد في الشعر كثير لا يحصى والتخلص بالنسبة إليه قطرة من بحر، ولا يكاد يوجد التخلص في شعر الشاعر المجيد إلا قليلا بالنسبة إلى المقتضب من شعره.فمن الاقتضاب قول أبي نواس في قصيدته النونية التي أولها: وهذه القصيدة هي عين شعره والملاحة للعيون، وهي تنزل منه منزلة الألف لا منزلة النون، إلا أنه لم يكمل حسنها بالتخلص من الغزل إلى المديح، بل اقتضبه اقتضابا، فبينا هو يصف الخمر ويقول: حتى قال: فأكثر مدائح أبي نواس مقتضبة هكذا، والتخلص غير ممكن في كل الأحوال، وهو من مستصعبات علم البيان.ومن هذا الباب الذي نحن بصدد ذكره قول البحتري في قصيدته المشهورة بالجودة التي مدح بها الفتح بن خاقان وذكر لقاءه الأسد وقتله إياه، وأولها: وهي من أمهات شعره، ومع ذلك لم يوفق فيها للتخلص من الغزل إلى المديح، فإنه بينما هو في تغزله وهو يقول: حتى قال في أثر ذلك: فخرج إلى المديح بغير وصلة ولا سبب.وكذلك قوله في قصيدته المشهورة بالجودة التي مدح بها الفتح بن خاقان أيضا، وذكر نجاته عند انخساف الجسر به، وقد أغرب فيها كل الإغراب، وأحسن كل الإحسان وأولها: فبينا هو في غزلها حتى قال: فخرج إلى المديح مقتضابا له، لا متعلقا به، وأمثال هذا في شعره كثير. .النوع الرابع والعشرون: في التناسب بين المعاني: وينقسم إلى ثلاثة أقسام:.القسم الأول: في المطابقة: وهذا النوع يسمى البديع أيضا، وهو في المعاني ضد التجنيس في الألفاظ، لأن التجنيس هو أن يتحد اللفظ مع اختلاف المعنى، وهذا هو أن يكون المعنيان ضدين.وقد أجمع أرباب هذه الصناعة على أن المطابقة في الكلام هي الجمع بين الشيء وضده، كالسواد والبياض، والليل والنهار.وخالفهم في ذلك قدامة بن جعفر الكاتب فقال: المطابقة إيراد لفظين متساويين في البناء والصيغة مختلفين في المعنى.وهذا الذي ذكره هو التجنيس بعينه غير أن الأسماء لا مشاحة فيها، إلا إذا كانت مشتقة.ولننظر نحن في ذلك، وهو أن نكشف عن أصل المطابقة في وضع اللغة، وقد وجدنا الطباق في اللغة من طابق البعير في سيره، إذا وضع رجله موضع يده، وهذا يؤيد ما ذكره قدامة، لأن اليد غير الرجل، لا ضدها، والموضع الذي يقعان فيه واحد، وكذلك المعنيان يكونان مختلفين واللفظ الذي يجمعهما واحد، فقدامة سمى هذا النوع من الكلام مطابقا، حيث كان الاسم مشتقا مما سمي به، وذلك مناسب وواقع في موقعه، إلا أنه جعل للتجنيس اسما آخر، وهو المطابقة، ولا بأس به، إلا إن كان مثله بالضدين، كالسواد والبياض، فإنه يكون قد خالف الأصل الذي أصله بالمثال الذي مثله.وأما غيره من أرباب هذا الصناعة فإنهم سموا هذا الضرب من الكلام مطابقا لغير اشتقاق ولا مناسبة بينه وبين مسماه، هذا الظاهر لنا من هذا القول، إلا أن يكونوا قد علموا لذلك مناسبة لطيفة لم نعلمها نحن.ولنرجع إلى ذكر هذا القسم من التأليف وإيضاح حقيقته، فنقول: الأليق من حيث المعنى أن يسمى هذا النوع المقابلة، لأنه لا يخلو الحال فيه من وجهين: إما أن يقابل الشيء بضده، أو يقابل بما ليس ضده، وليس لنا وجه ثالث.فأما الأول وهو مقابلة الشيء بضده كالسواد والبياض، وما جرى مجراهما فإنه ينقسم قسمين: أحدهما مقابلة في اللفظ والمعنى والآخر مقابلة في المعنى دون اللفظ.أما المقابلة في اللفظ والمعنى كقوله تعالى: {فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا} فقابل بين الضحك والبكاء والقليل والكثير، وكذلك قوله تعالى: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} وهذا من أحسن ما يجيء في هذا الباب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير المال عين ساهرة لعين نائمة» ومن الحسن المطبوع الذي ليس بمتكلف قول علي رضي الله عنه لعثمان رضي الله عنه: إن الحق ثقيل مريء والباطل خفيف وبيء، وأنت رجل إن صدقت سخطت، وإن كذبت رضيت، فقابل الحق بالباطل، والثقيل المريء بالخفيف الوبيء، والصدق بالكذب، والسخط بالرضا، وهذه خمس مقابلات في هذه الكلمات القصار.وكذلك ورد قوله رضي الله عنه: لما قال الخوارج: لا حكم إلا لله تعالى هذه كلمة حق أريد بها باطل.وقال الحجاج بن يوسف لسعيد بن جبير رضي الله عنه وقد أحضره بين يديه ليقتله، فقال له: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير، قال: بل أنت شقي بن كسير، وقد كان الحجاج من الفصحاء المعدودين، وفي كلامه هذا مطابقة حسنة، فإنه نقل الاسمين إلى ضدهما، فقال في سعيد: شقي، وفي جبير: كسير.وهذا النوع من الكلام لم تختص به اللغة العربية دون غيرها من اللغات.ومما وجدته في لغة الفرس أنه لما مات قباذ أحد ملوكهم قال وزيره: حركنا بسكونه.وأول كتاب الفصول لأبقراط في الطب قوله: العمر قصير، والصناعة طويلة. وهذا الكتاب على لغة اليونان.ومن كلامي في هذا الباب ما كتبته في صدر مكتوب إلى بعض الإخوان، وهو: صدر هذا الكتاب عن قلب مقيم وجسد سائر، وصبر مليم وجزع عاذر، وخاطر أدهشته لوعة الفراق فليس بخاطر.وكذلك كتبت إلى بعض الإخوان أيضا، فقلت: صدر هذا الكتاب عن قلب مأنوس بلقائه وطرف مستوحش لفراقه، فهذا مروع بكآبة إظلامه، وهذا ممتنع ببهجة إشراقه، غير أن لقاء القلوب لقاء عنيت بمثله خواطر الأفكار، وتتناجى به من وراء الأستار، وذلك أخو الطيف الملم في المنام، الذي يموه بلقاء الأرواح على لقاء الأجسام.ومن هذا النوع ما ذكرته في كتاب أصف المسير من دمشق إلى الموصل على طريق المناظر، فقلت من جملته: ثم نزلت أرض الخابور فغربت الأرواح وشرقت الجسوم، وحصل الإعدام من المسار والإنزال من الهموم، وطالبتني النفس بالعود والقدرة مفلسة، وأويت إلى ظل الآمال والآمال مشمسة.ومن ذلك ما ذكرته في جملة كتاب إلى بعض الإخوان، وعرضت فيه بذكر جماعة من أهل الأدب، فقلت: وهم مسؤلون ألا ينسوني في نادي فضلهم الذي هو منبع الآمال، وملتقط اللآل فوجوه ألفاظه مشرقة بأيدي الأقلام المتسودة، وقلوب معانيه مستنبطة بنار الخواطر المتوقدة، والواغل إليه يسكر من خمرته التي تنبه العقول من إغفائها، ولا يشربها أحد غير أكفائها.وهذه الفصول المذكورة لا خفاء بما تضمنته من محاسن المقابلة.ومما ورد من هذا النوع شعرا قول جرير:وهكذا ورد قول الفرزدق: فقابل بين الغدر والوفاء، وبين التيقظ والنوم، وفي البيت الأول معنى يسأل عنه.وكذلك ورد قول بعضهم، وقد أكثر أبو تمام من هذا في شعره فأحسن في موضع وأساء في موضع، فمن إحسانه قوله: وكذلك قال من هذه القصيدة أيضا: وعلى هذا النهج ورد قوله: ومن هذا الأسلوب قوله أيضا: وعلى هذا النحو ورد قوله: وقد جاء لأبي نواس ذلك فقال: فقابل بين الأضداد: من الجحود والإقرار، والعفو والسخط، والقرب والبعد.وعلى نحو من ذلك ورد قول علي بن جبلة في أبي دلف العجلي وهو: وكذلك قوله أيضا: ومما جاء من هذا القسم قول البحتري: ومن أحسن ما ورد له في هذا الباب قوله: وعلى هذا النهج ورد قوله: وأما أبو الطيب المتنبي فإنه استعمل هذا النوع قليلا في شعره، فمن ذلك قوله: وكذلك قوله: ومما استعذبته من قوله في هذا الباب: ومما جاء من هذا الباب: وهذا تحته معنى يسأل عنه غير المقابلة.وذهب بعض أهل العلم إلى أن المراد بالبنفسج والشقائق هو عارض الرجل وخد المرأة، لأن من العادة أن يشبه العارض بالبنفسج.وهذا قول غير سائغ، لأن العارض إنما يشبه بالبنفسج عند أول ظهوره فإذا طر وظهرت خضرته في ابتداء سن الشباب شبه بالبنفسج، لأنه يكون بين الأخضر والأسود، وليس في الشعر ما يدل على أن المودع شابا قد طر عارضه، والذي يقتضيه المعنى أن المرأة قامت للوداع فمزقت خمارها ولطمت خدها، فجمعت بين أثر اللطم، وهو شبيه بالبنفسج، وبين لون الخد، وهو شبيه الشقائق، وفرقت بين خمارها وبين وجهها بالتمزيق ولها وموجدة على الوداع، هذا هو معنى البيت لا ما ذهب إليه هذا الرجل.وأما المقابلة في المعنى دون اللفظ في الأضداد فمما جاء منه قول المقنع الكندي من شعراء الحماسة: فقوله تتابع لي غنى بمعنى قوله كثر مالي فهو إذا مقابلة من جهة المعنى، لا من جهة اللفظ، لأن حقيقة الأضداد اللفظية إنما هي في المفردات من الألفاظ، نحو: قام وقعد، وحل وعقد، وقل وكثر، فإن القيام ضد القعود، والحل ضد العقد، والقليل ضد الكثير، فإذا ترك المفرد من الألفاظ وتوصل إلى مقابلته بلفظ مركب كان ذلك مقابلة من جهة المعنى، لا من جهة اللفظ كقول هذا الشاعر تتابع لي غنى في معنى كثر مالي، وهذه مقابلة معنوية، لا لفظية، فاعرف ذلك.وأما مقابلة الشيء بما ليس بضده فهي ضربان: أحدهما ألا يكون مثلا، والآخر أن يكون مثلا.فالضرب الأول يتفرع إلى فرعين: .الأول: ما كان بين المقابل والمقابل نوع مناسبة وتقارب: كقول قريط بن أنيف:فقابل الظلم بالمغفرة، وليس ضدا لها، وإنما هو ضد العدل، إلا أنه لما كانت المغفرة قريبة من العدل حسنت المقابلة بينها وبين الظلم.وعلى هذا جاء قوله تعالى: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} فإن الرحمة ليست ضدا للشدة، وإنما ضد الشدة اللين، إلا أنه لما كانت الرحمة من مسببات اللين حسنت المقابلة بينها وبين الشدة.وكذلك ورد قوله تعالى: {إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل} فإن المصيبة سيئة، لأن كل مصيبة سيئة، وليس كل سيئة مصيبة، فالتقابل هاهنا من جهة العام والخاص.الفرع الثاني: ما كان بين المقابل والمقابل به بعد، وذاك مما لا يحسن استعماله، كقول أم النحيف، وهو سعد بن قرط، وقد تزوج امرأة كانت نهته عنها، فقالت من أبيات تذمها فيها: فقولها: بمذمومة الأخلاق واسعة الحر من المقابلة البعيدة، بل الأولى أن كانت قالت بضيقة الأخلاق واسعة الحر حتى تصح المقابلة.وهذا مما يدل على أن العربي غير مهتد إلى استعمال ذلك بصنعته، وإنما يجيء منه ما يجيء بطبعه، لا بتكلفه وإذا أخطأ فإنه لا يعلم الخطأ، ولا يشعر به، والدليل على ذلك أنه لو أبدلت لفظة مذمومة بلفظة ضيقة لصح الوزن، وحصلت المقابلة، وإنما يعذر من يعذر في ترك المقابلة في مثل هذا المقام إذا كان الوزن لا يواتيه.وأما المحدثون من الشعراء فإنهم اعتنوا بذلك خلاف ما كانت العرب عليه، لا جرم أنهم أشد ملامة من العرب.فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي: فإن المقابلة الصحيحة بين المحب والمبغض، لا بين المحب والمجرم، وليست متوسطة أيضاً حتى يقرب الحال فيها، وإنما هي بعيدة، فإنه ليس كل من أجرم إليك كان مبغضا لك.ومما يتصل بهذا الضرب ضرب من الكلام يسمى المواخاة بين المعاني، والمواخاة بين المباني وكان ينبغي أن نعقد له بابا مفردا لكنا لما رأيناه ينظر إلى التقابل من وجه وصلناه به.أما المواخاة بين المعاني فهو: أن يذكر المعنى مع أخيه لا مع الأجنبي، مثاله أن تذكر وصفا من الأوصاف وتقرنه بما يقرب منه ويلتئم به، فإن ذكرته مع ما يبعد منه كان ذلك قدحا في الصناعة وإن كان جائزا.فمن ذلك قول الكميت: فإن الدال يذكره مع الغنج وما أشبهه، والشنب يذكر مع اللعس وما أشبهه، وهذا موضع يغلط فيه أرباب النظم والنثر كثيرا، وهو مظنة الغلظ، لأنه يحتاج إلى ثاقب فكرة وحذق بحيث توضع المعاني مع أخواتها، لا مع الأجنبي منها.وقرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج أنه اجتمع نصيب والكميت وذو الرمة، فأنشد الكميت أم هل ظعائن البيت فقعد نصيب واحدة، فقال له الكميت: ماذا تحصي؟ قال: خطأك، فإنك تباعدت في القول، أين الدال من الشنب؟ ألا قلت كما قال ذو الرمة. ورأيت أبا نواس يقع في ذلك كثيرا، كقوله في وصف الديك: فإنه ذكر الظهر وقرنه بذكر الجد، وهذا لا يناسب هذا، لأن الظهر من جملة الخلق، والجد من النسب، وكان ينبغي أن يذكر مع الظهر ما يقرب منه ويواخيه أيضا.وكذلك أخطأ أبو نواس في قوله: فإن ذكر الحوض مع زمزم والصفا والمحصب غير مناسب، وإنما يذكر الحوض مع الصراط والميزان وما جرى مجراهما، وأما زمزم والصفا، والمحصب فيذكر معها الركن والحطيم، وما جرى مجراهما.وعلى هذا الأسلوب ورد قوله أيضا: فالبيت الثاني لا مقارنة بين صدره وعجزه، وأين شم الريحان من الأينق بالأكوار؟ وكان ينبغي له أن يقول: شم الريحان أحسن من شم الشيح والقيصوم، وركوب الفتيات الرود أحسن من ركوب الأينق بالأكوار، وكله هذا لا يتفطن لوضعه في مواضعه في كل الأوقات، وقد كان يغلب علي السهو في بعض الأحوال حتى أسلك هذه الطريق في وضع المعاني مع غير أنسابها وأقاربها، ثم إني كنت أتأمل ما صنعته بعد حين فأصلح ما سهوت عنه.وأما الواخاة بين المباني فإنه يتعلق بمباني الألفاظ.فمن ذلك قول أبي تمام في وصف الرماح: وهذا البيت من أبيات أبي تمام الأفراد، غير أن فيه نظرا، وهو قوله العرب والروم ثم قال العاشق، ولو صح أن يقول العشاق لكان أحسن، إذ كانت الأوصاف تجري على سنن واحد، وكذلك قوله سمرتها وزرقتها ثم قال القضفا، وكان ينبغي أن يقول: قضفها أو دقتها.وعلى هذا ورد قول مسلم بن الوليد: والأحسن أن يقال: السهل والوعر، أو السهول والأوعار، ليكون البناء اللفظي واحدا: أي أن يكون اللفظان واردين على صيغة الجمع أو الإفراد، ولا يكون أحدهما مجموعا والآخر مفردا.وكذلك ورد قول أبي نواس في الخمر: فجمع وأفرد في معنى واحد، وهو أنه قال: النظراء مجموعا ثم قال المثل مفردا، وكان الأحسن أن يقول: النظير والمثل، أو النظراء والأمثال.وعلى ذلك ورد قوله أيضا، والإنكار يتوجه فيه أكثر من الأول، وهو: وموضع الإنكار هاهنا أنه قال: آجالا ورزقا وكان ينبغي أن يقول: أرزاقا، أو أن يقول: آجلا ورزقا، وقد زاده إنكارا أنه جمع بين الأجل فقال آجالا والإنسان ليس له إلا أجل واحد، ولو قال أجلا وأرزاقا لما عيب، لأن الأجل واحد والأرزاق كثيرة، لاختلاف ضروبها وأجناسها.وإذا أنصفنا في هذا الموقع وجدنا الناثر مطالبا به دون الناظم، لمكان إمكانه من التصرف.وقد كنا أرى هذا الضرب من الكلام واجبا في الاستعمال، وأنه لا يحسن المحيد عنه، حتى مر بي في القرآن الكريم ما يخالفه، كقوله تعالى في سورة النحل: {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل} ولو كان الأحسن لزوم البناء اللفظي على سنن واحد لجمع اليمين كما جمع الشمال أو أفرد الشمال كما أفرد اليمين، وكذلك ورد قوله تعالى: {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم وأولئك هم الغافلون} فجمع القلوب والأبصار وأفرد السمع، وكذلك ورد قوله تعالى: {حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم} فذكر السمع بلفظ الإفراد وذكر الأبصار والجلود بلفظ الجمع، وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة هكذا، ولو كان هذا معتبرا في الاستعمال لورد في كلام الله تعالى الذي هو أفصح من كل الكلام، والأخذ في مقام الفصاحة والبلاغة إنما يكون منه، والمعول عليه، وما ينبغي أن يقاس على هذا قوله تعالى: {وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين} وربما قيل: إن هذه الآية اشتملت على تثنية وجمع وإفراد، وظن أنها من هذا الباب، وليس كذلك: لأنها مشتملة على خطاب موسى وهارون عليهما السلام أولاً في اتخاذ المساجد لقومهما، ثم ثنى الخطاب لهما ولقومهما جميعا، ثم أفرد موسى عليه السلام ببشارة المؤمنين، لأنه صاحب الرسالة.
|