الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال عروة بن الزبير حرّفت النصارى الإنجيل فأدخلوا فيه ما ليس منه وكان الذي غيّر ذلك أربعة نفر لوقاس ومرقوس ويحنس ومتيوس، وبقي قيس على الحق وعلى الإستقامة والإقتصاد فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس.عبد اللّه بن يوسف بن أحمد، محمد بن حامد بن محمد التميمي الحسن بن الهيثم السمري، عبد اللّه بن محمد، يحيى بن الحمامي، نصير عن زياد الطائي عن الصلت الدهان عن حامية بن رئاب عن سلمان قال: قرأت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذلك بإن منهم قسيسين ورهبانًا فاقرأ في ذلك بأن منهم صديقين ورهبانًا والرهبان العبّاد وهم أصحاب الصوامع وأخذهم راهب مثل فارس وفرسان، وراكب وركبان، وقد يكون واحدًا وجمعه رهابين، مثل قربان وقرابين، وجردان وجرادين، وأنشد في الواحد: وأنشد في الجمع: وهو من قول القائل: رهب اللّه أي خافه، يرهبه رهبة ورهبًا ورهبانًا {وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} لا يتكبرون عن الإيمان والإذعان للحق. اهـ.
والترهب التعبد في الصومعة، قال الراغب: الرهبانية الغلوُّ في تحمل التعبد من فرط الخوف، والتنكير لإفادة الكثرة، ولابد من اعتبارها في القسيسين أيضًا، إذ هي التي تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنين، فإن اتصاف أفرادٍ كثيرة لجنسٍ بخصلةٍ مظِنةٌ لاتصاف الجنس بها، وإلا فمن اليهود أيضًا قوم مهتدون، ألا يُرى إلى عبد اللَّه بن سلام وأضرابه، قال تعالى: {مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءايات الله ءانَاء اليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} الخ، لكنهم لما لم يكونوا في الكثرة كالذين من النصارى لم يتعدَّ حكمُهم إلى جنس اليهود {وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عطف على «أن منهم»، أي وبأنهم لا يستكبرون عن قبول الحق إذا فهموه، ويتواضعون ولا يتكبرون كاليهود، وهذه الخَصلةُ شاملة لجميع أفراد الجنس فسببيّتُها لأقربيّتهم مودةً للمؤمنين واضحة، وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمودٌ وإن كان ذلك من كافر. اهـ.
وإنّما كان وجود القسّيسين والرهبان بينهم سببًا في اقتراب مودّتهم من المؤمنين لما هو معروف بين العرب من حُسن أخلاق القسّيسين والرهبان وتواضعهم وتسامحهم.وكانوا منتشرين في جهات كثيرة من بلاد العرب يعمّرون الأديرة والصَوامع والبِيع، وأكثرهم من عرب الشام الذين بلغَتْهم دعوة النصرانية على طريق الروم، فقد عرفهم العرب بالزهد ومسالمة الناس وكثر ذلك في كلام شعرائهم.قال النابغة: فوجود هؤلاء فيهم وكونهم رؤساء دينهم ممّا يكون سببًا في صلاح أخلاق أهل ملّتهم.والاستكبار: السين والتاء فيه للمبالغة.وهو يطلق على التكبّر والتعاظم، ويطلق على المكابرة وكراهية الحقّ، وهما متلازمان.فالمراد من قوله: {لا يستكبرون} أنَّهم متواضعون منصفون.وضمير {وأنّهم لا يستكبرون} يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير {بأنّ منهم}، أي وأنّ الذين قالوا إنّا نصارى لا يستكبرون، فيكون قد أثبت التواضع لجميع أهل ملّة النصرانية في ذلك العصر.وقد كان نصارى العرب متحلِّينَ بمكارم من الأخلاق.قال النابغة يمدح آل النعمان الغساني وكانوا متنصّرين: وظاهر قوله: {الّذين قالوا إنّا نصارى} أنّ هذا الخُلُق وصف للنصارى كلّهم من حيث إنّهم نصارى فيتعيّن أن يحمل الموصول على العموم العُرفي، وهم نصارى العرب، فإنّ اتّباعهم النصرانية على ضعفهم فيها ضَمّ إلى مكارم أخلاقهم العربية مكارمَ أخلاق دينية، كما كان عليه زهير ولبيد ووَرقة بنُ نوفل وأضرابهم.وضمير {وأنّهم لا يستكبرون} عائد إلى {قسّيسين ورهبانًا} لأنّه أقرب في الذكر، وهذا تشعر به إعادة قوله: {وأنّهم}، ليكون إيماء إلى تغيير الأسلوب في معاد الضمير، وتَكون ضمائر الجمع من قوله: {وإذا سَمعوا إلى قوله فأثابهم الله} [المائدة: 83- 85] تابعة لضمير {وأنّهم لا يستكبرون}.وقرينة صرف الضمائر المتشابهة إلى مَعَادَين هي سياق الكلام.ومثله وارد في الضمائر كقوله تعالى: {وعَمَرُوها أكْثَرَ ممَّا عَمَرُوها} [الروم: 9].فضمير الرفع في {عمروها} الأول عائد إلى غير ضمير الرفع في عمروها الثاني.وكقول عبّاس بن مرداس: يريد بضمير «أحرزوا» جماعة المشركين، وبضمير «جمَّعوا» جماعة المسلمين.ويعضّد هذا ما ذكره الطبري والواحدي وكثير من المفسّرين عن ابن عبّاس ومجاهد وغيرهما: أنّ المعنيّ في هذه الآية ثمانية من نصارى الشام كانوا في بلاد الحبشة وأتوا المدينة مع اثنين وستّين راهِبًا من الحبشة مصاحبين للمسلمين الذين رجعوا من هجرتهم بالحبشة وسمعوا القرآن وأسلموا.وهم: بَحِيرا الراهب، وإدريس، وأشرف، وأبرهة، وثمامة، وقثم، ودريد، وأيمن، أي مِمَّن يحسنون العربية ليتمكّنوا من فهم القرآن عند سماعه.وهذا الوفد ورد إلى المدينة مع الذين عادوا من مهاجرة الحبشة، سنة سبع فكانت الإشارة إليهم في هذه الآية تذكيرًا بفضلهم.وهي من آخر ما نزل ولم يعرف قوم معيّنون من النصارى أسلموا في زمن الرسول. اهـ.
|