الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والثاني من جهة المَعْنَى: وذلك أنَّ العَطْفَ على الصِّلَةَ يؤدِّي أن سَبَبَ تَرْكِ التَّعرُّض لهم تَرْكُهُم القتالَ ونَهْيُهُم عنه، وهذا سَبَبٌ قريب، والعَطْفُ على الصِّفَة يؤدي إلى أنَّ سَبَبَ تركِ التعرُّضِ لهم، وصُولُهم إلى قَوْم كافِّين عن القِتَال، وهذا سببٌ بعيدٌ، وإذا دَارَ الأمرُ بين سَبَبٍ قريب وآخر بعيدٍ، فاعْتِبَارُ القرِيبِ أوْلَى.والجمهورُ على إثبات {أو}، وفي مُصْحَفِ أبَيٍّ: {جاءوكم} من غير {أوْ}، وخَرَّجها الزَّمَخْشَرِيُّ على أحَدِ أرْبَعة أوْجُه:إمَّا البيان لـ {يصلون}، أو البَدَلِ منه، أو الصِّفة لقَوْم بعد صِفَة، أو الاستئنافِ.قال أبو حيان: «وهي وجوهٌ مُحْتَمَلَةٌ وفي بعضها ضعفٌ، وهو البيانُ والبدلُ؛ لأن البيانَ لا يَكُون في الأفْعَالِ؛ ولأن البدل لا يتأتَّى لكونه ليس إيَّاه، ولا بعضه، ولا مُشْتَمِلًا عليه». انتهى، ويحتاج الجَوَابُ عنه إلى تأمُّلٍ ونظرٍ.قوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} فيه سبعة أوجُه:أحدها: أنه لا مَحَلَّ لهذه الجُمْلَة، بل جِيءَ بها للدُّعاء عليهم بضيق صُدُورهم عن القَتَالِ، وهذا مَنْقثولٌ عن المُبَرِّد، إلاَّ أنَّ الفَارسِيَّ رضدَّ عيله بأنا مَأمُورون بأنْ نَدْعُوَ على الكُفَّارِ بإلقاءِ العَدَاوَة بينهم، فَنَقُولُ: «اللَّهُم أوْقِعِ العَدَاوَةَ بين الكُفَّار» لكن يكُونُ قوله: {أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ} نفيًا لما اقْتَضَاهُ دعاءُ المُسْلِمين عليهم.وقد أجَابَ عن هذا الردِّ بعضُ النَّاس؛ فقال بن عضطِيَّة: يُخَرَّجُ قولُ المُبَرِّد على أن الدُّعَاء عليهم بألاَّ يقاتلوا المُسْلِمِين تعجيزٌ لَهُم، والدعاءُ عَلَيْهم بألاَّ يقاتلوا قومهم تَحْقيرٌ لَهُمْ، أي: هُمْ أقلُّ وأحْقَرُ ومُسْتَغْنى عَنْهُم، كما تقول إذا أردت هذا المَعْنَى: لا جعل الله فُلانًا عليَّ ولا مَعِي بمعنى: أسْتَغْنِي عنه وأستَقِلُّ دونَه.وأجاب غيرُه بأنَّه يجُوزَ أن يكونَ سُؤالًا لقومهم، على أنَّ قوله: {قومهم} قد يُحْتمل أن يُعَبَّر به عَمَّنْ لَيْسُوا منهم، بل عن مُعاديهم.الثاني: أنَّ {حصرت} حالٌ من فاعل {جاءوكم} وإذا وَقَعت الحَالُ فعلًا مَاضِيًا ففيها خلافٌ: هل يَحْتاج إلى اقْتِرانه بـ {قَدْ} والراجِحُ عدمُ الاحْتِياج؛ لكثرة ما جاء منه، فَعَلى هذا لا تُضْمَرُ {قد} قَبْلَ {حصرت}، ومَنِ اشْتَرَط ذلك، قَدَّرها هنا.والثالث: أنَّ {حصرت} صفةٌ لحَالٍ محذوفةٍ، تقديرُه: أو جاءُوكم قومًا حَصِرَتْ صُدُورُهُم رجالًا حصرت صُدُورهم، فنصب لأنَّه صفة مَوْصُوف مَنْصُوب على الحال، إلاَّ أنه حذف المَوْصُوف المنْتَصب على الحَالِ، وأقيمت صِفته مَقَامَه وسَمَّاها أبو البقاء حالًا مُوَطِّئَة، وهَذَا الوجُه يُعْزَى للمُبرِّد أيضًا.الرابع: أن يَكُون في مَحَلِّ جَرِّ صفةً لِقَوْم بعد صِفَة، و{أو جاءوكم} مُعْتَرِضٌ.قال أبُو البَقَاءِ: يَدُلُّ عليه قِرَاءةُ مَنْ أسْقَط {أو} وهو أبَيٌّ، كذا نَقَلَهُ عنه أبو حيَّان والذي في إعْرَابِه إسقاطُ {أو جاءُوكم} جميعه، وهذا نَصُّه قال: أحَدُهُما: هو جَرٌّ صِفَةً لقومِ، وما بَيْنَهُمَا صفة أيضًا، و{جاءوكم} هذا نَصُّه، وهو أوفق لهذا الوَجْهِ.الخامس: أن يكون بدلًا من {جاءوكم} بدلَ اشْتِمَال؛ لأن المَجِيء مشتمِلٌ على الحَصْر وغيره، نَقَلَه أبو حيان عن أبي البقاء أيضًا.السادس: أنه حبرٌ بعد خَبَر، وهذه عِبَارة الزَّجَّاج، يعني: أنها جملة مُسْتَأنفَة، أخْبر بها عن ضِيق صُدُورِ هَؤلاَء عن القِتَال بعد الإخْبَار عَنْهُم بما تَقَدَّم.قال ابن عطية بعد حِكَاية قولِ الزَّجَّاج: يُفَرَّق بين الحَالِ وبين خَبَرٍ مستأنفٍ في قولك: {جاء زَيْد رَكِبَ الفَرَسَ} أنك إذا أرَدْتَ الحَالَ بقولك: {ركب الفَرَس} قدَّرْتَ {قد}، وإن أرَدْت خَبَرًا بعد خَبَر، لم تَحْتَجْ إلى تقدِيرها.السَّابع: أنه جَوَاب شَرْطِ مُقَدَّر، تقديره: إن جاءُوكُن حصرت صدورهم، وهو رأي الجُرجَانِيِّ، وفيه ضَعْفٌ؛ لعدم لدَّلاَلة على ذَلِك.وقرأ الجُمْهُور: {حصرت} فعلًا ماضيًا، وقرأ الحَسَن، وقتادة، ويعقوب: {حصرة} نَصْبًا على الحَالِ بوزن «نبقة»، وهي تؤيِّد كونَ {حصرت} حالًا، ونقلها المَهْدَوِي عن عَاصِمٍ في رواية حَفْص، ورُوي عن الحَسَن أيضًا: {حصرات} و{حاصرات}.وهاتان القراءتان تَحْتَمِلان أن تكُونَ {حصرات} و{حاصرات} نَصْبًا على الحال، أو جَرًّا على الصِّفَة لـ {قوم}؛ لأنَّ جَمْع المُؤنَّث السَّالمِ يستوي جَرُّه ونَصْبُه، إلا أنَّ فيهما ضَعْفًا؛ من حيث إنَّ الوَصْفَ الرَّافع لظاهرٍ الفَصيحُ فيه أن يُوَحد كالفِعْلِ، أو يُجمَعَ جَمْعَ تَكْسِير ويَقِلُّ جمعُه تَصْحِيحًا، تقول: مررت بِقومٍ ذاهب جَوَاريهم، أو قيام جواريهم، ويَقِلُّ: «قائِمَاتٍ جَوَاريهم».وقرئ: «حصرةٌ» بالرفع على أنه خَبَر مُقَدَّم، و«صدورهم» مبتدأ، والجُملَة حال أيضًا. وقال أبو البقاء: «وإن كان قد قُرِئ: {حصرة} بالرَّفْع، فعلى أنَّه خَبَر، و{صدورهم}، مُبْتَدأ، والجُمْلَةُ حال».قوله: {أن يقاتلوكم} أصلُه: عن أنْ: فلمَّا حُذِف حَرْف الجَرِّ، جرى الخِلاف المَشْهُور، أهي في مَحَلِّ جَرٍّ أو نَصْب؟ والحَصْرُ: الضِّيق، وأصلُه في المكان، ثم تُوُسِّع فيه [فأطْلِق على حَصْر القَوْل: وهو الضيق في الكلام على المُتَكلِّم والحصر: المكتوم] قال: [الكامل]
قوله: {فلقاتلوكم} اللام جَوَاب {لو} على التَّكْرِيرِ أو البَدَلِيَّة، تقديره: ولَوْ شَاءَ الله لِسَلَّطَهُم عليكم، ولو شَاءَ الله لَقَاتَلُوكُم.وقال ابن عطيّة: هي لامُ المُحَاذَاة والازْدِوَاجِ بِمَثَابَة الأولَى، لو لم تَكن الأولى كنت تقول: {لقاتلوكم}. وهي تَسْمِيةٌ غريبة، وقد سَبَقَهُ إليها مَكِّي، والجُمْهُور على: {فلقاتلوكم} من المُفاعَلة. ومُجَاهِد، وجماعة: {فلقتَّلوكم} ثُلاثيًا، والحَسَن والجَحْدَري: {فلقتَّلوكم} بالتَّشديد.قوله: {فإن اعتزلوكم} أي: فإن لم يتعرضوا لكم لقتالكم، وألْقُوا إليْكُم السَّلَم، أي: الانقياد والاستسلام وقرأ الجَحْدَرِي: {السَّلْمَ} بفتح السِّين وسُكُون اللام، وقرأ الحسن بِكَسْر السِّين وسكون اللام {فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} أي: طريقًا بالقَتْل والقِتَالِ.قوله: {لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} {لكم} متعلِّق بـ {جعل}، و{سبيلًا} مَفْعُولُ {جعل}، و{عليهم} حالٌ من {سبيلا}؛ لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها، ويجُوز أن تكونَ {جعل} بمعنى «صير»، فيكون {سبيلا} مَفْعُولًا أوّلَ، و{عليهم} مَفْعُولٌ ثانٍ قُدِّم. اهـ. بتصرف.
|