الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} هذا ابتداء خطاب للمؤمنين للتحريض على الجهاد في سبيل الله، بطريقة العتاب على التباطئ بإجابة دعوة النفير إلى الجهاد، والمقصود بذلك غزوة تبوك. قال ابن عطية: «لا اختلاف بين العلماء في أنّ هذه الآية نزلت عتاباً على تخلّف مَن تخلّف عن غزوة تبوك، إذ تخلّف عنها قبائل ورجال من المؤمنين والمنافقون» فالكلام متّصل بقوله: {وقاتلوا المشركين كافة} [التوبة: 36] وبقوله {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله فذوقوا ما كنتم تكنزون} [التوبة: 29 35] كما أشرنا إليه في تفسير تلك الآيات. وهو خطاب للذين حصل منهم التثاقل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر المسلمين إلى تلك الغزوة، وكان ذلك في وقت حرّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، حين نضجت الثمار، وطابت الظلال، وكان المسلمون يومئذٍ في شدّة حاجة إلى الظهر والعُدّة. فلذلك سُمّيت غزوة العُسرة كما سيأتي في هذه السورة، فجلى رسولُ الله للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة عدوّهم، وأخبرهم بوجههِ الذي يريد، وكان قبل ذلك لا يريد غزوة إلاّ وَرَّى بما يوهم مكاناً غير المكان المقصود، فحصل لبعض المسلمين تثاقل، ومن بعضهم تخلّف، فوجه الله إليهم هذا الملام المعقّب بالوعيد. فإنّ نحن جرَينا على أنّ نزول السورة كان دفعة واحدة، وأنّه بعد غزوة تبوك، كما هو الأرجح، وهو قول جمهور المفسّرين، كان محمل هذه الآية أنّها عتاب على ما مضى وكانت {إذا} مستعملة ظرفاً للماضي، على خلاف غالب استعمالها، كقوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها} [الجمعة: 11] وقوله: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد} [التوبة: 92] الآية، فإنّ قوله: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله} [النساء: 75] صالح لإفادَة ذلك، وتحذيرٌ من العودة إليه، لأنّ قوله: {إلاَّ تنفروا} و{إلاّ تنصروه} و{انفروا خفافاً} مراد به ما يستقبل حين يُدعَون إلى غزوة أخرى، وسنبيّن ذلك مفصّلاً في مواضعه من الآيات. وإن جرينا على ما عَزاه ابن عطية إلى النقاش: أنّ قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} هي أول آية نزلت من سورة براءة، كانت الآية عتاباً على تكاسللٍ وتثاقللٍ ظهرا على بعض الناس، فكانت {إذا} ظرفاً للمستقبل، على ما هو الغالب فيها، وكان قوله: {إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً} [التوبة: 39] تحذيراً من ترك الخروج إلى غزوة تبوك، وهذا كلّه بعيد ممّا ثبت في «السيرة» وما ترجّح في نزول هذه السورة. و {مَا} في قوله: و{ما لكم} اسم استفهام إنكاري، والمعنى: أي شيء، و{لكم خبر عن الاستفهام أي: أي شيء ثَبت لكم. وإذا} ظرف تعلّق بمعنى الاستفهام الإنكاري على معنى: أنّ الإنكار حاصل في ذلك الزمان الذي قيل لهم فيه: انفروا، وليس مضمّناً معنى الشرط لأنّه ظرفُ مُضيّ. وجملة {اثاقلتم} في موضع الحال من ضمير الجماعة، وتلك الحالة هي محل الإنكار، أي: ما لكم متثاقلين. يقال: ما لكَ فعلت كذا، وما لك تَفعل كذا كقوله: {ما لكم لا تناصرون} [الصافات: 25]، وما لك فاعِلاً، كقوله: {فما لكم في المنافقين فئتين} [النساء: 88]. والنَّفْر: الخروج السريع من موضع إلى غيره لأمرٍ يحدث، وأكثر ما يطلق على الخروج إلى الحرب، ومصدره حينئذٍ النفير. وسبيل الله: الجهاد، سمّي بذلك لأنّه كالطريق الموصّل إلى الله، أي إلى رضاه. و {اثَّاقلتم} أصله تثاقلتم قلبت التاء المثنّاة ثاء مثلّثة لتقارب مخرجيهما طلباً للإدغام، واجتلبت همزة الوصل لإمكان تسكين الحرف الأول من الكلمة عند إدغامه. (والتثاقل) تكلّف الثقل، أي إظهار أنّه ثقيل لا يستطيع النهوض. والثِقَل حالة في الجسم تقتضي شدّة تطلّبه للنزول إلى أسفل، وعُسرَ انتقاله، وهو مستعمل هنا في البطء مجازاً مرسلاً، وفيه تعريض بأنّ بُطأهم ليس عن عجز، ولكنّه عن تعلّق بالإقامة في بلادهم وأموالهم. وعُدّي التثاقل ب {إلى} لأنّه ضمن معنى المَيل والإخلاد، كأنّه تثاقل يطلب فاعله الوصول إلى الأرض للقعود والسكون بها. والأرض ما يمشي عليه الناس. ومجموع قوله: {اثاقلتم إلى الأرض} تمثيل لحال الكارهين للغزو المتطلّبين للعُذر عن الجهاد كسلاً وجبناً بحال من يُطلب منه النهوض والخروج، فيقابل ذلك الطلب بالالتصاق بالأرض، والتمكّن من القعود، فيأبى النهوض فضلاً عن السير. وقوله: {إلى الأرض} كلام موجه بديع: لأنّ تباطؤهم عن الغزو، وتطلّبهم العذر، كان أعظم بواعثه رغبتهم البقاء في حوائطهم وثمارهم، حتّى جعل بعض المفسّرين معنى اثاقلتم إلى الأرض: ملتم إلى أرضكم ودياركم. والاستفهام في {أرضيتم بالحياة الدنيا} إنكاري توبيخي، إذ لا يليق ذلك بالمؤمنين. و {مِنْ} في {من الآخرة} للبدل: أي كيف ترضون بالحياة الدنيا بدلاً عن الآخرة. ومثل ذلك لا يُرضَى به والمراد بالحياة الدنيا، وبالآخرة: منافعهما، فإنّهم لمّا حاولوا التخلّف عن الجهاد قد آثروا الراحة في الدنيا على الثواب الحاصل للمجاهدين في الآخرة. واختير فعل {رَضيتم} دون نحو آثرتم أو فضّلتم: مبالغة في الإنكار، لأن فعل (رضي بكذا) يدلّ على انشراح النفس، ومنه قول أبي بكر الصديق في حديث الغار «فشرب حتّى رضيت». والمَتاع: اسم مصدر تمتّع، فهو الالتذاذ والتنعّم، كقوله: {متاعاً لكم ولأنعامكم} [عبس: 32] ووصفه ب {قليل} بمعنى ضعيف ودنيء استعير القليل للتافه. ويحتمل أن يكون المتاع هنا مراداً به الشيء المتمتّع به، من إطلاق المصدر على المفعول، كالخلق بمعنى المخلوق فالإخبار عنه بالقليل حقيقة. وحرف {في} من قوله: {في الآخرة} دالّ على معنى المقايسة، وقد جعلوا المقايسة من معاني {في} كما في «التسهيل» و«المغني»، واستشهدوا بهذه الآية أخذاً من «الكشاف» ولم يتكلّم على هذا المعنى شارحوهما ولا شارحو «الكشّاف»، وقد تكرّر نظيره في القرآن كقوله في سورة الرعد (26) {وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع}، وقوله في حديث مسلم ما الدنيا في الآخرة إلاّ كمثَل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليمّ فلينظر بم يرجع وهو في التحقيق (مِن) الظرفية المجازية: أي متاع الحياة الدنيا إذا أقحم في خيرات الآخرة كان قليلاً بالنسبة إلى كثرة خيرات الآخرة، فلزم أنّه ما ظهرت قلّته إلاّ عندما قيس بخيرات عظيمة ونسب إليها، فالتحقيق أنّ المقايسة معنى حاصل لاستعماللِ حرف الظرفية، وليس معنى موضوعاً له حرف (في). {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا والله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ} هذا وعيد وتهديد عقب به الملام السابق، لأنّ اللوم وقع على تثاقل حصل، ولمّا كان التثاقل مفضياً إلى التخلّف عن القتال، صرّح بالوعيد والتهديد أن يعودوا لمثل ذلك التثاقل، فهو متعلّق بالمستقبل كما هو مقتضَى أداة الشرط. فالجملة مستأنفة لغرض الإنكار بعد اللوم. فإن كان هذا وعيداً فقد اقتضى أنّ خروج المخاطبين إلى الجهاد الذي استنفرهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم قد وجب على أعيَانهم كلّهم بحيث لا يغني بعضهم عن بعض، أي تعيّن الوجوب عليهم، فيحتمل أن يكون التعيين بسبب تعيين الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم للخروج بسبب النفير العام، وأن يكون بسبب كثرة العدوّ الذي استُنفروا لقتاله، بحيث وجب خروج جميع القادرين من المسلمين لأنّ جيش العدوّ مثلَيْ عدد جيش الملسمين. وعن ابن عباس أنّ هذا الحكم منسوخ نسخه قوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} [التوبة: 122] فيكون الجهاد قد سبق له حكم فرض العين ثم نقل إلى فرض الكفاية. وهذا بناء على أنّ المراد بالعذاب الأليم في قوله: {يعذبكم عذاباً أليماً} هو عذاب الآخرة كما هو المعتاد في إطلاق العذاب ووصفِه بالأليم، وقيل: المراد بالعذاب الأليم عذاب الدنيا كقوله: {أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا} [التوبة: 52] فلا يكون في الآية حجّة على كون ذلك الجهاد واجباً على الأعيان، ولكنّ الله توعّدهم، إن لم يمتثلوا أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، بأن يصيبهم بعذاب في الدنيا، فيكون الكلام تهديداً لا وعيداً. وقد يرجح هذا الوجه بأنّه قرن بعواقب دنيوية في قوله: {ويستبدل قوماً غيركم}. والعقوبات الدنيوية مصائب تترتّب على إهمال أسباب النجاح وبخاصّة ترك الانتصاح بنصائح الرسول عليه الصلاة والسلام، كما أصابهم يوم أُحد، فالمقصود تهديدهم بأنّهم إن تقاعدوا عن النفير هاجمهم العدوّ في ديارهم فاستأصلوهم وأتى الله بقوم غيرهم. والأليم المؤلم، فهو فعيل مأخوذ من الرباعي على خلاف القياس كقوله تعالى: {تلك آيات الكتاب الحكيم} [لقمان: 2]، وقول عمرو بن معد يكرب: أمِنْ ريْحانَةَ الداعي السَّميع *** أي المُسمع. وكتب في المصاحف {إلا} من قوله: {إلا تنفروا} بهمزة بعدها لامْ ألف على كيفية النطق بها مدغمة، والقياسُ أن يكتب (إن لا) بنون بعد الهمزة ثم لام ألف. والضمير المسْتتر في {يعذبكم} عائد إلى الله لتقدّمه في قوله: {في سبيل الله} [التوبة: 38]. وتنكير {قوماً} للنوعية إذ لا تعيّن لهؤلاء القوم ضرورةَ أنّه معلَّقٌ على شرط عدم النفير وهم قد نَفَروا لمّا استُنفروا إلاّ عدداً غيرَ كثير وهم المخلّفون. و {يستبدل} يبدل، فالسين والتاء للتأكيد والبدل هو المأخوذ عوضاً كقوله: {ومن يتبدّل الكفر بالإيمان} [البقرة: 108] أي ويستبدل بكم غيركم. والضمير في {تضروه} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {يعذبكم} والواو للحال: أي يعذّبكم ويستبدل قوماً غيركم في حال أن لا تضرّوا الله شيئاً بقُعودكم، أي يصبكم الضرّ ولا يصب الذي استنفركم في سبيله ضرّ، فصار الكلام في قوة الحصر، كأنّه قيل: إلاّ تنفروا لا تضرّوا إلاّ أنفسكم. وجملة {والله على كل شيء قدير} تذييل للكلام لأنّه يحقّق مضمونَ لحاق الضرّ بهم لأنّه قدير عليهم في جملة كلّ شيء، وعدم لحاق الضرّ به لأنّه قدير على كلّ شيء فدخلت الأشياء التي من شأنها الضرّ.
{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)} {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِى الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا}. استئناف بياني لقوله: {ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير} [التوبة: 39] لأنّ نفي أن يكون قعودهم عن النفير مُضرّاً بالله ورسولِه، يثير في نفس السامع سؤالاً عن حصول النصر بدون نصير، فبيّن بأنّ الله ينصره كما نصره حين كان ثاني اثنين لا جيش معه، فالذي نصره حين كان ثاني اثنين قدير على نصره وهو في جيش عظيم، فتبيّن أنّ تقدير قعودهم عن النفير لا يضرّ الله شيئاً. والضمير المنصوب ب {تنصروه} عائِد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يتقدّم له ذكر، لأنّه واضح من المقام. وجملة {فقد نصره الله} جواب للشرط، جعلت جواباً له لأنّها دليل على معنى الجواب المقدَّر لِكونها في معنى العلّة للجواب المحذوف: فإنّ مضمون {فقد نصره الله} قد حصل في الماضي فلا يكون جواباً للشرط الموضوع للمستقبل، فالتقدير: إن لا تنصروه فهو غني عن نصرتكم بنصر الله إيّاه إذ قد نصره في حين لم يكن معه إلا واحد لا يكون به نصر فكما نصره يومئذٍ ينصره حين لا تنصرونه. وسيجيء في الكلام بيان هذا النصر بقوله: {فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها} الآية. ويتعلّق {إذ أخرجه} ب {نَصَره} أي زمنَ إخراج الكفارِ إيّاه، أي من مكة، والمراد خروجه مهاجراً. وأسند الإخراج إلى الذين كفروا لأنّهم تسببوا فيه بأن دبّروا لخروجه غير مرّة كما قال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} [الأنفال: 30]، وبأن آذوه وضايقوه في الدعوة إلى الدين، وضايقوا المسلمين بالأذى والمقاطعة، فتوفّرت أسباب خروجه ولكنّهم كانوا مع ذلك يتردّدون في تمكينه من الخروج خشية أن يظهر أمر الإسلام بين ظهراني قوم آخرين، فلذلك كانوا في آخر الأمر مصمّمين على منعه من الخروج، وأقاموا عليه من يرقبه وحاولوا الإرسال وراءه ليردّوه إليهم، وجعلوا لمن يظفر به جزاءً جَزلاً، كما جاء في حديث سُراقة بن جُعْشُم. كتب في المصاحف {إلاَّ} من قوله: {إلا تنصروه} بهمزة بعدها لام ألف، على كيفية النطق بها مدغمةً، والقياس أن تكتب (إنْ لا) بهمزة فنون فلام ألف لأنّهما حرفان: (إنْ) الشرطية و(لا) النافية، ولكنَّ رسم المصحف سنّة متبعة، ولم تكن للرسم في القرن الأول قواعد متّفق عليها، ومثل ذلك كتب {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض} في سورة الأنفال (73). وهم كتبوا قوله: {بل ران} في سورة المطففين (14) بلام بعد الباء وراء بعدها، ولم يكتبوها بباء وراء مشدّدة بعدها. وقد أثار رسم إلا تنصروه} بهذه الصورة في المصحف خشية تَوَهُّم مُتوهّم أنّ {إلاّ} هي حرف الاستثناء فقال ابن هشام في «مغني اللبيب»: «تنبيه ليس من أقسام (إلاّ)، (إلاّ) التي في نحو {إلا تنصروه فقد نصره الله} وإنّما هذه كلمتان (إن) الشرطية و(لا) النافية، ومن العجب أن ابن مالك على إمامته ذكرها في «شرح التسهيل» من أقسام إلاّ، ولم يتبعه الدماميني في شروحه الثلاثة على «المغني» ولا الشمني. وقال الشيخ محمد الرصاع في كتاب «الجامع الغريب لترتيب آي مغني اللبيب» «وقد رأيت لبعض أهل العصر المشارقة ممن اعتنى بشرح هذا الكتاب أي «التسهيل» أخذ يعتذر عن ابن مالك والانصاف أنّ فيه بعض الإشكال». وقال الشيخ محمد الأمير في تعليقه على «المغني» «ليس ما في «شرح التسهيل» نصّاً في ذلك وهو يُوهمه فإنّه عَرَّف المستثنى بالمخرَج ب (إلاّ) وقال «واحترزتُ عن (إلا) بمعنى إنْ لم ومثَّل بالآية، أي فلا إخراج فيها». وقلت عبارة متن «التسهيل» «المستثنى هو المخرج تحقيقاً أو تقديراً من مذكور أو متروك بإلا أو ما بمعناها»، ولم يعرّج شارحه المُرادي ولا شارحه الدماميني على كلامه الذي احترز به في شرحه ولم نقف على شرح ابن مالك على «تسهيله»، وعندي أنّ الذي دعا ابن مالك إلى هذا الاحتراز هو ما وقع للأزهري من قوله: «إلاّ تكون استثناءً وتكون حرف جزاء أصلها «إنْ لا» نقله صاحب «لسان العرب». وصدوره من مثله يستدعي التنبيه عليه. و {ثانيَ اثنين} حال من ضمير النصب في {أخرجه}، والثاني كلّ من به كان العدد اثنين فالثاني اسم فاعل أضيف إلى الاثنين على معنى {مِن}، أي ثانياً مِن اثنين، والاثنان هما النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر: بتواتر الخبر، وإجماع المسلمين كلّهم. ولكون الثاني معلوماً للسامعين كلّهم لم يحتج إلى ذكره، وأيضاً لأنّ المقصود تعظيم هذا النصر مع قلّة العدد. و {إذْ} التي في قوله: {إذ هما في الغار} بدل من {إذ} التي في قوله: {إذ أخرجه} فهو زمن واحد وقع فيه الإخراج، باعتبار الخروج، والكونُ في الغار. والتعريف في الغار للعهد، لغار يعلمه المخاطبون، وهو الذي اختفى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين خروجهما مهاجِريْن إلى المدينة، وهو غارٌ في جبل ثَوْر خارج مكة إلى جنوبيها، بينه وبين مكة نحو خمسة أميال، في طريق جبليّ. والغار الثقب في التراب أو الصخر. و {إذْ} المضافة إلى جملة {يقول} بدل من {إذ} المضافة إلى جملة {هما في الغار} بدل اشتمال. والصاحب هو {ثاني اثنين} وهو أبو بكر الصديق. ومعنى الصاحب: المتّصف بالصحبة، وهي المعية في غالب الأحوال، ومنه سمّيت الزوجة صاحبة، كما تقدّم في قوله تعالى: {ولم تكن له صاحبة} في سورة الأنعام (101). وهذا القول صدر من النبي لأبي بكر حين كانا مختفيين في غار ثور، فكان أبو بكر حزيناً إشفاقاً على النبي أن يشعر به المشركون، فيصيبوه بمضرّة، أو يرجعوه إلى مكة. والمعية هنا: معية الإعانة والعناية، كما حكى الله تعالى عن موسى وهارون: {قال لا تخافا إنني معكما} [طه: 46] وقوله {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم} [الأنفال: 12]. {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِىَ العليا والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. التفريع مؤذن بأنّ السكينة أنزلت عقب الحُلول في الغار، وأنّها من النصر، إذ هي نصر نفساني، وإنّما كان التأييد بجنود لم يروها نصراً جثمانياً. وليس يلزم أن يكون نزول السكينة عقب قوله: {لا تحزن إن الله معنا} بل إنّ قوله ذلك هو من آثار سكينة الله التي أنزلت عليه، وتلك السكينة هي مظهر من مظاهر نصر الله إيّاه، فيكون تقدير الكلام: فقد نصره الله فأنزل السكينة عليه وأيّده بجنود حين أخرجه الذين كفروا، وحِين كان في الغار، وحين قال لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا. فتلك الظروف الثلاثة متعلّقة بفعل {نصره} على الترتيب المتقدّم، وهي كالاعتراض بين المفرّع عنه والتفريع، وجاء نظم الكلام على هذا السبك البديع للمبادأة بالدلالة على أنّ النصر حصل في أزمان وأحوال ما كان النصر ليحصل في أمثالها لغيره لولا عناية الله به، وأنّ نصره كان معجزةً خارقاً للعادة. وبهذا البيان تندفع الحيرة التي حصلت للمفسّرين في معنى الآية، حتّى أغرب كثير منهم فأرجع الضمير المجرور من قوله: {فأنزل الله سكينته عليه} إلى أبي بكر، مع الجزم بأنّ الضمير المنصوب في {أيّده} راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنشأ تشتيت الضمائر، وانفكاك الأسلوب بذكر حالة أبي بكر، مع أنّ المقام لذكر ثباتتِ النبي صلى الله عليه وسلم وتأييد الله إيّاه، وما جاء ذكر أبي بكر إلاّ تبعاً لذكر ثبات النبي عليه الصلاة والسلام، وتلك الحيرة نشأت عن جعل {فأنزل الله} مفرّعاً على {إذ يقول لصاحبه لا تحزن} وألجأهم إلى تأويل قوله: {وأيده بجنود لم تروها} إنّها جنود الملائكة يوم بدر، وكلّ ذلك وقوف مع ظاهر ترتيب الجمل، مع الغفلة عن أسلوب النظم المقتضي تقديماً وتأخيراً. والسكينة: اطمئنان النفس عند الأحوال المخوفة، مشتقّة من السكون، وقد تقدّم ذكرها عند قوله تعالى: {فيه سكينة من ربكم} في سورة البقرة (248). والتأييد: التقوية والنصر، وهو مشتقّ من اسم اليَدِ، وقد تقدّم عند قوله تعالى {وأيدناه بروح القدس} في سورة البقرة (87). والجنود: جمع جند بمعنى الجيش، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فلما فصل طالوت بالجنود} في سورة البقرة (249)، وتقدّم آنفاً في هذه السورة. ثم جوز أن تكون جملة وأيده بجنود} معطوفة على جملة {فأنزل الله سكينته عليه} عطف تفسير فيكون المراد بالجنود الملائكة الذين ألقوا الحيرة في نفوس المشركين فصرفوهم عن استقصاء البحث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإكثار الطلب وراءهُ والترصّدِ له في الطرق المؤدّية والسبل الموصلة، لا سيما ومن الظاهر أنّه قصد يثرب مهاجَرَ أصحابه، ومدينة أنصاره، فكان سهلاً عليهم أن يرصدوا له طرق الوصول إلى المدينة. ويحتمل أن تكون معطوفة على جملة {أخرجه والتقدير: وإذ أيده بجنود لم تروها أي بالملائكة، ويوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، كما مر في قوله: {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها} [التوبة: 26]. (والكلمة) أصلها اللفظة من الكلام، ثم أطلقت على الأمر والشأن ونحوِ ذلك من كلّ ما يتحدّث به الناس ويخبر المرءُ به عن نفسه من شأنه، قال تعالى: {وجعلها كلمة باقية في عقبه} [الزخرف: 28] (أي أبقى التبرئ من الأصنام والتوحيد لله شأنَ عقبه وشعارهم) وقال {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات} [البقرة: 124] أي بأشياء من التكاليف كذبح ولده، واختتانه، وقال لمريم {إن الله يبشرك بكلمة منه} [آل عمران: 45] أي بأمر عجيب، أو بولد عجيب، وقال {وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً} [الأنعام: 115] أي أحكامه ووعوده ومنه قولهم: لا تُفرقْ بين كلمة المسلمين، أي بين أمرهم واتّفاقهم، وجَمع الله كلمة المسلمين، فكلمةُ الذين كفروا شأنهم وكيدهم وما دبروه من أنواع المكر. ومعنى السفلى الحقيرة لأنّ السُفل يكنّى به عن الحقارة، وعكسه قوله: {وكلمة الله هي العليا} فهي الدين وشأن رسوله والمؤمنين، وأشعر قوله: {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى} أنّ أمر المشركين كان بمظنّة القوة والشدّة لأنّهم أصحاب عدد كثير وفيهم أهل الرأي والذكاء، ولكنّهم لمّا شاقوا الله ورسوله خذلهم الله وقلب حالهم من علوّ إلى سفل. وجملة {وكلمة الله هي العليا} مستأنفة بمنزلة التذييل للكلام لأنّه لمّا أخبر عن كلمة الذين كفروا بأنّها صارت سفلى أفاد أنّ العَلاء انحصر في دين الله وشأنه. فضمير الفصل مفيد للقصر، ولذلك لم تعطف كلمة الله على كلمة الذين كفروا، إذ ليس المقصود إفادةَ جعل كلمة اللَّهِ عُليا، لما يُشعر به الجعل من إحداث الحالة، بل إفادةَ أنّ العَلاء ثابت لها ومقصور عليها، فكانت الجملة كالتذييل لجعل كلمة الذين كفروا سفلى. ومعنى جعلها كذلك: أنّه لمّا تصادمت الكلمتان وتناقضتا بطلت كلمة الذين كفروا واستقرّ ثبوت كلمة الله. وقرأ يعقوب، وحده {وكلمةَ الله} بنصب (كلمة) عطفاً على {كلمة الذين كفروا السفلى} فتكون كلمة الله عُليا بجعل الله وتقديره. وجملة {والله عزيز حكيم} تذييل لمضمون الجملتين: لأنّ العزيز لا يغلبه شيء، والحكيم لا يفوته مقصد، فلا جرم تكون كلمته العليا وكلمة ضدّه السفلى.
{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)} الخطاب للمؤمنين الذين سبق لومهم بقوله: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذ قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38]، فالنفير المأمور به ما يستقبل من الجهاد. وقد قدّمنا أنّ الاستنفار إلى غزوة تبوك كان عامَّاً لكلّ قادر على الغزو: لأنّها كانت في زمن مشقّة، وكان المغزُوُّ عدوّاً عظيماً، فالضمير في {انفروا} عام للذين استُنفروا فتثاقلوا، وإنّما استُنفِر القادرون، وكان الاستنفار على قدر حاجة الغزو، فلا يقتضي هذا الأمر توجّه وجوب النفير على كلّ مسلم في كلّ غزوة، ولا على المسلم العاجز لعمىً أو زَمانة أو مرض، وإنّما يجري العمل في كلّ غزوة على حسب ما يقتضيه حالها وما يصدر إليهم من نفير. وفي الحديث: " وإذا استنفرتم فانْفِروا " و {خفافا} جمع خفيف وهو صفة مشبّهة من الخفّة، وهي حالة للجسم تقتضي قلّة كمية أجزائه بالنسبة إلى أجسام أخرى متعارفة، فيكون سهْلَ التنقّل سهل الحمل. والثقال ضدّ ذلك. وتقدّم الثقل آنفاً عند قوله: {اثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38]. والخفاف والثقال هنا مستعاران لما يشابههما من أحوال الجيش وعلائقهم، فالخفّة تستعار للإسراع إلى الحرب، وكانوا يتمادحون بذلك لدلالتها على الشجاعة والنجدةِ، قال قُريط بن أنيف العنبري: قومٌ إذا الشرُّ أبدَى ناجِذَيْه لهم *** طَاروا إليه زَرَافَات ووُحدانا فالثقل الذي يناسب هذا هو الثبات في القتال كما في قول أبي الطيب: ثِقال إذا لاقَوْا خِفاف إذا دُعوا *** وتستعار الخفّة لقلّة العدد، والثقلُ لكثرة عدد الجيش كما في قول قُريط: «زَرافات ووُحدانا». وتستعار الخفّة لتكرير الهجوم على الأعداء، والثقل للتثبّت في الهجوم. وتستعار الخفّة لقلّة الأزوَاد أو قلّة السلاح، والثقل لضدّ ذلك. وتستعار الخفّة لقلّة العيال، والثقل لضدّ ذلك وتستعار الخفّة للركوب لأنّ الراكب أخفّ سيراً، والثقل للمشي على الأرجل وذلك في وقت القتال. قال النابغة: على عارفاتتٍ للطِّعان عوابِسٍ *** بهِنَّ كلوم بين داممٍ وجالب إذ استُنزلوا عنهنّ للضَّرب ارقلوا *** إلى الموت ارْقالَ الجمال المصَاعب وكلّ هذه المعاني صالحة للإرادة من الآية ولمّا وقع {خفافاً وثقالاً} حالاً من فاعل {انفروا}، كان محمل بعض معانيهما على أن تكون الحال مقدّرة والواو العاطفة لإحدى الصفتين على الأخرى للتقسيم، فهي بمعنى (أو)، والمقصود الأمر بالنفير في جميع الأحوال. والمجاهدة: المغالبة للعدوّ، وهي مشتقّة من الجُهد بضمّ الجيم أي بذل الاستطاعة في المغالبة، وهو حقيقة في المدافعة بالسلاح، فإطلاقه على بذل المال في الغزو من إنفاققٍ على الجيش واشتراءِ الكراع والسلاح، مجاز بعلاقة السببية. وقد أمر الله بكلا الأمرين فمن استطاعهما معاً وجبا عليه، ومن لم يستطع إلاّ واحداً منهما وجب عليه الذي استطاعه منهما. وتقديم الأموال على الأنفس هنا: لأنّ الجهاد بالأموال أقلّ حُضوراً بالذهن عند سماع الأمر بالجهاد، فكان ذكره أهمّ بعد ذكر الجهاد مجملاً. والإشارة ب {ذلكم} إلى الجهاد المستفاد من {وجاهدوا}. وإبهام {خير} لقصد توقّع خير الدنيا والآخرة من شعب كثيرة أهمها الاطمئنان من أن يغزوهم الروم ولذلك عُقب بقوله: {إن كنتم تعلمون} أي إن كنتم تعلمون ذلك الخير وشعبه. وفي اختيار فعل العلم دون الإيمان مثلاً للإشارة إلى أنّ من هذا الخير ما يخفى فيحتاج متطلّب تعيين شعبه إلى اعمال النظر والعلم.
{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)} استئناف لابتداء الكلام على حال المنافقين وغزوة تبوك حين تخلّفوا واستأذن كثير منهم في التخلّف واعتلُّوا بعلل كاذبة، وهو ناشئ عن قوله: {ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38]. وانتُقل من الخطاب إلى الغيبة لأنّ المتحدّث عنهم هنا بعض المتثاقلين لا محالة بدليل قوله بعد هذا {إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم} [التوبة: 45]. ومن هذه الآيات ابتدأ إشعار المنافقين بأنّ الله أطْلَع رسوله صلى الله عليه وسلم على دخائلهم. والعَرَض ما يعرض للناس من متاع الدنيا وتقدّم في قوله تعالى: {يأخذون عرض هذا الأدنى} في سورة الأعراف (169) وقوله: {تريدون عرض الدنيا} في سورة الأنفال (67) والمراد به الغنيمة. والقريب: الكائن على مسافة قصيرة، وهو هنا مجاز في السهْل حصولُه. وقاصدا} أي وَسطاً في المسافة غير بعيد. واسم كان محذوف دلّ عليه الخبر: أي لو كان العرض عرضاً قريباً، والسفر سفراً متوسّطاً، أو: لو كان ما تدعوهم إليه عَرضاً قريباً وسفراً. والشُّقة بضمّ الشين المسافة الطويلة. وتعدية {بعدت} بحرف (على) لتضمّنه معنى ثقلت، ولذلك حسن الجمع بين فعل {بعدت} وفاعله {الشقة} مع تقارب معنييهما، فكأنّه قيل: ولكن بعد منهم المكان لأنّه شُقّة، فثقل عليهم السفر، فجاء الكلام موجزاً. وقوله: {وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يؤذن بأنّ الآية نزلت قبل الرجوع من غزوة تبوك، فإنّ حلفهم إنّما كان بعد الرجوع وذلك حين استشعروا أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام ظانٌ كذبَهم في أعذارهم. والاستطاعة القدرة: أي لسنا مستطيعين الخروج، وهذا اعتذار منهم وتأكيد لاعتذارهم. وجملة لخرجنا معكم} جواب {لو}. والخروج الانتقال من المقرّ إلى مكان آخر قريب أو بعيد ويعدّى إلى المكان المقصود ب (إلى)، وإلى المكان المتروك ب (مِن)، وشاع إطلاق الخروج على السفر للغزو. وتقييده بالمعية إشعار بأنّ أمر الغزو لا يهمّهم ابتداءً، وأنّهم إنّما يخرجون لو خرجوا إجابة لاستنفار النبي صلى الله عليه وسلم خروج الناصر لغيره، تقول العرب: خرج بنو فلان وخرج معهم بنو فلان، إذا كانوا قاصدين نصرهم. وجملة {يهلكون أنفسهم} حال، أي يحلفون مُهلكين أنفسهم، أي موقعينَها في الهُلْك. والهُلْك: الفناء والموتُ، ويطلق على الأضرار الجسيمة وهو المُناسب هنا، أي يتسبّبون في ضرّ أنفسهم بالأيمان الكاذبة، وهو ضرّ الدنيا وعذاب الآخرة. وفي هذه الآية دلالة على أنّ تعمد اليمين الفاجرة يفضي إلى الهلاك، ويؤيّده ما رواه البخاري في كتاب الديات من خبر الهذليين الذين حلفوا أيمان القسامة في زمن عُمر، وتعمّدوا الكذب، فأصابهم مطر فدخلوا غاراً في جبل فانهجم عَليهم الغار فماتوا جميعاً. وجملة {والله يعلم إنهم لكاذبون} حال، أي هم يفعلون ذلك في حال عدم جدواه عليهم، لأنّ الله يعلم كذبهم، أي ويُطلِع رسوله على كذبهم، فما جنوا من الحلف إلاّ هلاك أنفسهم. وجملة {إنهم لكاذبون} سدّت مسدّ مفعولي {يعلم.
{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)} استأذن فريق من المنافقين النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخلّفوا عن الغزوة، منهم عبد الله بنُ أبَيْ ابن سَلُول، والجِدّ بن قَيس، ورفاعة بن التابوت، وكانوا تسعة وثلاثين واعتذروا بأعذار كاذبة وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لمن استأذنه حملا للناس على الصدق، إذ كان ظاهر حالهم الإيمان، وعلماً بأنّ المعتذرين إذا ألجئوا إلى الخروج لا يغنون شيئاً، كما قال تعالى: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً} [التوبة: 47] فعاتب الله نبيئه صلى الله عليه وسلم في أنْ أذن لهم، لأنّه لو لم يأذن لهم لقعدوا، فيكون ذلك دليلاً للنبيء صلى الله عليه وسلم على نفاقهم وكذبهم في دعوى الإيمان، كما قال الله تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم} [محمد: 30]. والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لأنّه غرض أنف. وافتتاح العتاب بالإعلام بالعفو إكرام عظيم، ولطافة شريفة، فأخبره بالعفو قبل أن يباشره بالعِتاب. وفي هذا الافتتاح كناية عن خفّة موجِب العتاب لأنّه بمنزلة أن يقال: ما كان ينبغي، وتسمية الصفح عن ذلك عَفْواً ناظر إلى مغزى قول أهل الحقيقة: حسنات الأبرار سيّئاتُ المقرَّبين. وألقي إليه العتاب بصيغة الاستفهام عن العلّة إيماء إلى أنّه ما أذن لهم إلاّ لسبب تَأوَّلَه ورجَا منه الصلاح على الجلمة بحيث يُسْأل عن مثله في استعمال السؤال من سائل يطلب العلم وهذا من صيغ التلطّف في الإنكار أو اللوم، بأن يظهر المنكِر نفسه كالسائِل عن العلّة التي خفيت عليه، ثم أعقبه بأنّ ترك الإذن كان أجدر بتبيين حالهم، وهو غرض آخر لم يتعلّق به قصد النبي صلى الله عليه وسلم وحذف متعلِّق {أذنت} لظهوره من السياق، أي لم أذنت لهم في القعود والتخلف. و {حتَّى} غاية لفعل {أذنت} لأنّه لما وقع في حيز الاستفهام الإنكاري كان في حكم المنفي فالمعنى: لا مقتضيَ للإذن لهم إلى أن يتبيّن الصادق من الكاذب. وفي زيادة {لك} بعد قوله: {يتبين} زيادة ملاطفة بأنّ العتاب ما كان إلاّ عن تفريط في شيء يعود نفعه إليه، والمراد بالذين صدقوا: الصادقون في إيمانهم، وبالكافرين الكاذبين فيما أظهروه من الإيمان، وهم المنافقون. فالمراد بالذين صدقوا المؤمنون.
{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)} هذه الجملة واقعة موقع البيان لجملة {حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} [التوبة: 43]. وموقع التعليل لجملة {لم أذنت لهم} [التوبة: 43] أو هي استئناف بياني لما تثيره جملة {حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} [التوبة: 43] والاعتبارات متقاربة ومآلها واحد. والمعنى: إنّ شأن المؤمنين الذين استنفروا أن لا يستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلّف عن الجهاد، فأمّا أهل الأعذار: كالعُمي، فهم لا يستنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمّا الذين تخلّفوا من المؤمنين فقد تخلّفوا ولم يستأذنوا في التخلّف، لأنّهم كانوا على نية اللحاق بالجيش بعد خروجه. والاستئذان: طلب الإذن، أي في إباحة عمل وترك ضدّه، لأنّ شأن الإباحة أن تقتضي التخيير بين أحد أمرين متضادّين. والاستئذان يُعدّى ب (في). فقوله: {أن يجاهدوا} في محلّ جرّ ب (في) المحذوفة، وحذف الجارّ مع {أنْ} مطّرد شائع. ولمّا كان الاستئذان يستلزم شيئين متضادّين، كما قلنا، جازَ أن يقال: استأذنتُ في كذا واستأذنت في ترك كذا. وإنّما يُذكر غالباً مع فعل الاستئذان الأمر الذي يَرغَب المستأذنُ الإذنَ فيه دون ضدّه وإن كان ذكر كليهما صحيحاً. ولمّا كانَ شأن المؤمنين الرغبة في الجهاد كان المذكور مع استئذان المؤمنين، في الآية أن يجاهدوا دون أن لا يجاهدوا، إذ لا يليق بالمؤمنين الاستئذان في ترك الجهاد، فإذا انتفى أن يستأذنوا في أن يجاهدوا ثبت أنّهم يجاهدون دون استئذان، وهذا من لطائف بلاغة هذه الآية التي لم يعرّج عليها المفسّرون وتكلّفوا في إقامة نظم الآية. وجملة {والله عليم بالمتقين} معترضة لفائدة التنبيه على أنّ الله مطّلع على أسرار المؤمنين إذ هم المراد بالمتّقين كما تقدّم في قوله في سورة البقرة (2، 3) {هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب.}
{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)} الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً نشأ عن تبرئة المؤمنين من أن يستأذنوا في الجهاد: ببيان الذين شأنهم الاستئذان في هذا الشأن، وأنّهم الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر في باطن أمرهم لأنّ انتفاء إيمانهم ينفي رجاءهم في ثواب الجهاد، فلذلك لا يُعرضون أنفسهم له. وأفادت {إنما} القصر. ولمّا كان القصر يفيد مُفاد خبرين بإثبات شيء ونفي ضدّه كانت صيغة القصر هنا دالّة باعتبار أحدِ مُفَادَيها على تأكيد جملة {لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر} [التوبة: 44] وقد كانت مغنية عن الجملة المؤكّدة لولا أنّ المراد من تقديم تلك الجملة التنويه بفضيلة المؤمنين، فالكلام إطناب لقصد التنويه، والتنويه من مقامات الإطناب. وحُذف متعلِّق {يستأذنك} هنا لظهوره ممّا قبله ممّا يؤذِن به فعل الاستئذان في قوله: {لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا} [التوبة: 44] والتقدير: إنّما يستأذنك الذين لا يؤمنون في أن لا يجاهدوا، ولذلك حذف متعلّق يستأذنك هنا. والسامع البليغ يقدر لكلّ كلام ما يناسب إرادة المتكلّم البليغ، وكلّ على منواله ينسج. وعَطف {وارتابت قلوبهم} على الصلة وهي {لا يؤمنون بالله واليوم الآخر} يدل على أنّ المراد بالارتياب الإرتياب في ظهور أمر النبي صلى الله عليه وسلم فلأجل ذلك الارتياب كانوا ذوي وجهين معه فأظهروا الإسلام لئلا يفوتهم ما يحصل للمسلمين من العز والنفع، على تقدير ظهور أمر الإسلام، وأبطنوا الكفر حفاظاً على دينهم الفاسد وعلى صلتهم بأهل ملّتهم، كما قال الله تعالى فيهم: {الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين} [النساء: 141]. ولعلّ أعظم ارتيابهم كان في عاقبة غزوة تبوك لأنّهم لكفرهم ما كانوا يقدّرون أنّ المسلمين يغلبون الروم، هذا هو الوجه في تفسير قوله: {وارتابت قلوبهم} كما آذن به قوله: {فهم في ريبهم يترددون}. وجيء في قوله: {لا يؤمنون} بصيغة المضارع للدلالة على تجدّد نفي إيمانهم، وفي {وارتابت قلوبهم} بصيغة الماضي للدلالة على قدم ذلك الارتياب ورسوخه فلذلك كان أثره استمرار انتفاء إيمانهم، ولما كان الارتياب ملازماً لانتفاء الإيمان كان في الكلام شبه الاحتباك إذ يَصير بمنزلة أن يقال: الذين لم يؤمنوا ولا يؤمنون وارتابت وترتاب قلوبهم. وفرّع قوله: {فهم في ريبهم يترددون} على {وارتابت قلوبهم} تفريع المسبب على السبب: لأنّ الارتياب هو الشكّ في الأمر بسبب التردّد في تحصيله، فلتردّدهم لم يصارحوا النبي صلى الله عليه وسلم بالعصيان لاستنفاره، ولم يمتثلوا له فسلكوا مسلكاً يصلح للأمرين، وهو مسلك الاستئذان في القعود، فالاستئذان مسبّب على التردّد، والتّردد مسبّب على الارتياب وقد دلّ هذا على أنّ المقصود من صلة الموصول في قوله: {الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر}. هو قوله: {وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون}. لأنّه المنتج لانحصار الاستئذان فيهم. و {في ريبهم} ظرف مستقِرّ، خبر عن ضمير الجماعة، والظرفية مجازية مفيدة إحاطة الريب بهم، أي تمكّنه من نفوسهم، وليس قوله: {في ريبهم} متعلّقاً ب {يترددون}. والتردّد حقيقته ذهابٌ ورجوع متكرر إلى محلّ واحد، وهو هنا تمثيل لحال المتحيّر بين الفعل وعدمه بحال الماشي والراجععِ. وقريب منه قولهم: يُقدّم رِجْلاً ويؤخر أخرى. والمعنى: أنّهم لم يعزموا على الخروج إلى الغزو. وفي هذه الآية تصريح للمنافقين بأنّهم كافرون، وأنّ الله أطْلع رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين على كفرهم، لأنّ أمر استئذانهم في التخلّف قد عرفه الناس.
{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)} عطف على جملة {فهم في ريبهم يترددون} [التوبة: 45] لأنّ معنى المعطوف عليها: أنّهم لم يريدوا الخروج إلى الغزو، وهذا استدلال على عدم إرادتهم الخروج إذ لو أرادوه لأعدّوا له عُدّته. وهذا تكذيب لزعمهم أنّهم تهيّأوا للغزو ثم عرضت لهم الأعذار فاستأذنوا في القعود لأنّ عدم إعدادهم العُدّة للجهاد دلّ على انتفاء إرادتهم الخروج إلى الغزو. والعُدّة بضم العين: ما يُحتاج إليه من الأشياء، كالسلاح للمحارب، والزاد للمسافر، مشتقّة من الإعداد وهو التهيئة. والخروج تقدّم آنفاً. والاستدراك في قوله: {ولكن كره الله انبعاثهم} استدراك على ما دلّ عليه شرط {لو} من فرض إرادتهم الخروج تأكيد الانتفاء وقوعه بإثبات ضدّه، وعبّر عن ضدّ الخروج بتثبيط الله إياهم لأنّه في السبب الإلهي ضدّ الخروج فعبّر به عن مسبّبه، واستعمال الاستدراك كذلك بعد {لو} استعمال معروف في كلامهم كقول أبَيّ بن سُلْمَى الضَّبِّي: فلو طار ذُو حافرٍ قَبْلَها *** لطارتْ ولكِنَّه لم يَطِرْ وقول الغَطَمَّششِ الضبي: أخِلاَّيَ لو غَيْرُ الحِمام أصابكم *** عَتِبْتُ ولكن ما على الموت مَعْتَب إلاَّ أنّ استدراك ضدّ الشرط في الآية كان بذكر ما يساوي الضدّ: وهو تثبيط الله إيّاهم، توفيراً لفائدة الاستدراك ببيان سبب الأمر المستدَرك، وجعل هذا السبب مفرّعاً على علّته: وهي أنّ الله كره انبعاثهم، فصيغ الاستدراك بذكر علّته اهتماماً بها، وتنبيهاً على أنّ عدم إرادتهم الخروج كان حرماناً من الله إيّاهم، وعناية بالمسلمين فجاء الكلام بنسج بديع وحصل التأكيد مع فوائد زائدة. وكراهة الله انبعاثهم مفسّرة في الآية بعدها بقوله: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا} [التوبة: 47]. والانبعاث: مطاوع بعثَه إذا أرسله. والتثبيط: إزالة العزم. وتثبيط الله إيّاهم: أن خلق فيهم الكسل وضعف العزيمة على الغزو. والقعود: مستعمل في ترك الغزو تشبيهاً للترك بالجلوس. والقول: الذي في {وقيل اقعدوا} قول أمر التكوين: أي كُوّن فيهم القعود عن الغزو. وزيادة قوله: {مع القاعدين} مذمّة لهم: لأنّ القاعدين هم الذين شأنهم القعود عن الغزو، وهم الضعفاء من صبيان ونساء كالعُمي والزمنى.
{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)} استئناف بياني لجملة {كره الله انبعاثهم فثبطهم} [التوبة: 46] لبيان الحكمة من كراهية الله انبعاثَهم، وهي إرادة الله سلامة المسلمين من أضرار وجود هؤلاء بينهم، لأنّهم كانوا يضمرون المكر للمسلمين فيخرجون مرغمين، ولا فائدة في جيش يغزو بدون اعتقاد أنّه على الحقّ، وتعدية فعل (الخروج) بفي شائعة في الخروج مع الجيش. والزيادة: التوفير. وحذف مفعول {زادوكم} لدلالة الخروج عليه، أي ما زادوكم قوة أو شيئاً ممّا تفيد زيادته في الغزو نصراً على العدوّ، ثم استُثني من المفعول المحذوف الخبالُ على طريقة التهكّم بتأكيد الشيء بما يشبه ضده فإنّ الخبال في الحرب بعض من عدم الزيادة في قوة الجيش، بل هو أشدّ عدماً للزيادة، ولكنّه ادّعي أنّه من نوع الزيادة في فوائد الحرب، وأنّه يجب استثناؤه من ذلك النفي، على طريقة التهكّم. والخبال: الفساد، وتفكّك الشيء الملتحم الملتئم، فأطلق هنا على اضطراب الجيش واختلال نظامه. وحقيقة {أوضعوا} أسرعوا سير الرِّكاب. يقال: وضع البعيرُ وضعاً، إذا أسرع ويقال: أوضعتُ بعيري، أي سيّرته سيراً سريعاً. وهذا الفعل مختصّ بسير الإبل فلذلك يُنزَّل فعل أوضع منزلة القاصر لأنّ مفعوله معلوم من مادّة فعله. وهو هنا تمثيل لحالة المنافقين حين يبذلون جهدهم لإيقاع التخاذل والخوف بين رجال الجيش، وإلقاء الأخبار الكاذبة عن قوّة العدوّ، بحال من يُجهد بعيره بالسير لإبلاغ خبر مهمّ أو إيصال تجارة لسوق، وقريب من هذا التمثيل قوله تعالى: {فجاسوا خلال الديار} [الإسراء: 5] وقوله: {وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان} [المائدة: 62]. وأصله قولهم: يسعى لكذا، إلاّ أنّه لمّا شاع إطلاق السعي في الحرص على الشيء خفيت ملاحظة تمثيل الحالة عند إطلاقه لكثرة الاستعمال فلذلك اختير هنا ذكر الإيضاع لعزّة هذا المعنى، ولما فيه من الصلاحية لتفكيك الهيئة بأن يُشبه الفاتنون بالرَّكب، ووسائلُ الفتنة بالرواحل. وفي ذكر {خلالكم} ما يصلح لتشبيه استقرائهم الجماعات والأفراد بتغلغل الرواحل في خلال الطرق والشعاب. والخلال: جمع خَلَل بالتحريك. وهو الفرجة بين شيئين واستعير هنا لمعنى بينَكم تشبيهاً لجماعات الجيش بالأجزاء المتفرّقة. وكتب كلمة {ولاَ أوضعوا} في المصحف بألف بعد همزة أوضعوا التي في اللام ألف بحيث وقع بعد اللام ألفان فأشبهت اللامُ ألف لا النافية لفعل {أوضعوا} ولا ينطق بالألف الثانية في القراءة فلا يقع التباس في ألفاظ الآية. قال الزجاج: وإنّما وقعوا في ذلك لأنّ الفتحة في العبرانية وكثير من الألسنة تكتب ألفاً. وتبعه الزمخشري، وقال ابن عطية: «يحتمل أن تُمطل حركة اللام فتحدث ألف بين اللام والهمزة التي من أوضع، وقيل: ذلك لخشونة هجاء الأوّلين»، يعني لعدم تهذيب الرسم عند الأقدمين من العرب. قال الزمخشري: ومثلَ ذلك كتبوا {لا اذبحنّه} في سورة النمل (21) قلت: وكتبوا {لأعذّبنه} [النمل: 21] بلام ألف لا غير وهي بلصق كلمة {أوْ لأذبحنّه} [النمل: 21]، ولا في نحو {وإذاً لاتخذوك خليلاً} [الإسراء: 73] فلا أراهم كتبوا ألفاً بعد اللام ألف فيما كتبوها فيه إلاّ لمقصد، ولعلّهم أرادوا التنبيه على أنّ الهمزة مفتوحة وعلى أنّها همزة قطع. وجملة {يبغونكم الفتنة} في موضع الحال من ضمير {ولو أرادوا الخروج} [التوبة: 46] العائد على الذين لا يؤمنون بالله في قوله تعالى: {إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر} [التوبة: 45] المرادِ بهم المنافقون كما تقدّم. وبغى يتعدّى إلى مفعول واحد لأنّه بمعنى طلب، وتقدّم في قوله تعالى: {أفغير دين الله يبغون} في سورة آل عمران (83). وعدّي يبغونكم} إلى ضمير المخاطبين هنا على طريقة نزع الخافض، وأصله يبغون لكم الفتنة. وهو استعمال شائع في فعل بغي بمعنى طلب. والفتنة: اختلال الأمور وفساد الرأي، وتقدّمت في قوله: {وحسبوا أن لا تكون فتنة} في سورة المائدة (71). وقوله: وفيكم سماعون لهم} أي في جماعة المسلمين، أي من بين المسلمين {سماعون لهم} فيجوز أن يكون هؤلاء السماعون مسلمين يصدقون ما يسمعونه من المنافقين. ويجوز أن يكون السماعون منافقين مبثوثين بين المسلمين. وهذه الجملة اعتراض للتنبيه على أنّ بغيهم الفتنةَ أشدّ خطراً على المسلمين لأنّ في المسلمين فريقاً تنطلي عليهم حيلهم، وهؤلاء هم سذج المسلمين الذين يعجبون من أخبارهم ويتأثّرون ولا يبلُغون إلى تمييز التمويهات والمكائد عن الصدق والحقّ. وجاء {سماعون} بصيغة المبالغة للدلالة على أنّ استماعهم تامّ وهو الاستماع الذي يقارنه اعتقاد ما يُسمع كقوله: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين} [المائدة: 41] وعن الحسن، ومجاهد، وابن زيد: معنى {سماعون لهم}، أي جواسيس يستمعون الأخبار وينقلونها إليهم، وقال قتادة وجهور المفسّرين: معناه وفيكم من يقبل منهم قولهم ويطيعهم، قال النحاس الاغلب أن معنى سماع يسمع الكلام ومثله {سماعون للكذب} [المائدة: 41]. وأمّا من يَقبل ما يسمعه فلا يكاد يقال فيه إلاّ سَامع مثل قائِل. وجيء بحرف (في) من قوله: {وفيكم سماعون لهم} الدالّ على الظرفية دون حرف (من) فلم يقل ومنكم سمّاعون لهم أو ومنهم سماعون، لئلا يتوهّم تخصيص السماعين بجماعة من أحد الفريقين دون الآخر لأنّ المقصود أنّ السماعين لهم فريقان فريق من المؤمنين وفريق من المنافقين أنفسهم مبثوثون بين المؤمنين لإلقاء الأراجيف والفتنة وهم الأكثر فكان اجتلاب حرف (في) إيفاء بحقّ هذا الإيجاز البديع ولأنّ ذلك هو الملائم لمحملي لفظ {سماعون} فقد حصلت به فائدتان. وجملة {والله عليم بالظالمين} تذييل قصد منه إعلام المسلمين بأنّ الله يعلم أحوال المنافقين الظالمين ليكونوا منهم على حذر، وليتوسّموا فيهم ما وسمهم القرآن به، وليعلموا أنّ الاستماع لهم هو ضرب من الظلم. والظلم هنا الكفر والشرك {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13].
{لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)} الجملة تعليل لقوله: {يبغونكم الفتنة} [التوبة: 47] لأنّها دليل بأنّ ذلك ديدن لهم من قبل، إذ ابتغوا الفتنة للمسلمين وذلك يومَ أحد إذ انخزل عبد الله بن أبي ابنُ سلول ومن معه من المنافقين بعد أن وصلوا إلى أحد، وكانوا ثُلث الجيش قصدوا إلقاء الخوف في نفوس المسلمين حين يرون انخزال بعض جيشهم وقال ابن جريج: الذين ابتغوا الفتنة اثنا عشر رجلاً من المنافقين، وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتِكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم و {قلّبوا} بتشديد اللام مضاعف قلب المخفف، والمضاعفة للدلالة على قوة الفعل. * فيجوز أن يكون من قلَب الشيء إذا تأمل باطنه وظاهره ليطّلع على دقائق صفاته فتكون المبالغة راجعة إلى الكمّ أي كثرة التقليب، أي ترددوا آراءهم وأعملوا المكائد والحيل للإضرار بالنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. ويجوز أن يكون {قلبوا} من قلب بمعنى فتّش وبحث، استعير التقليب للبحث والتفتيش لمشابهة التفتيش للتقليب في الإحاطة بحال الشيء كقوله تعالى: {فأصبح يقلب كفيه} [الكهف: 42] فيكون المعنى، أنّهم بحثوا وتجسَّسوا للاطّلاع على شأن المسلمين وإخبار العدوّ به. واللام في قوله: {لك} على هذين الوجهين لام العلّة، أي لأجلك وهو مجمل يبيّنهُ قوله: {لقد ابتغوا الفتنة من قبل} [التوبة: 48]. فالمعنى اتّبعوا فتنة تظهر منك، أي في أحوالك وفي أحوال المسلمين. ويجوز أن يكون {قلبوا} مبالغة في قَلَب الأمر إذا أخفى ما كان ظاهراً منه وأبدَى ما كان خفيّاً، كقولهم: قَلب له ظهر المِجَن. وتعديته باللام في قوله {لك} ظاهرة. و {الأمور} جمع أمر، وهو اسم مبهم مثل شيء كما في قول الموصلي: ولكن مقاديرٌ جرتْ وأمور *** والألف واللام فيه للجنس، أي أموراً تعرفون بعضها ولا تعرفون بعضاً. و {حتى} غاية لتقليبهم الأمور. ومجِيء الحقّ حصوله واستقراره والمراد بذلك زوال ضعف المسلمين وانكشاف أمر المنافقين. والمراد بظهور أمر الله نصر المسلمين بفتح مكة ودخول الناس في الدين أفواجاً وذلك يكرهه المنافقون. الظهور والغلبة والنصر. و {أمر الله} دينه، أي فلمّا جاء الحقّ وظهر أمر الله علموا أنّ فتنتهم لا تضرّ المسلمين، فلذلك لم يروا فائدة في الخروج معهم إلى غزوة تبوك فاعتذروا عن الخروج من أول الأمر.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)} نزلت في بعض المنافقين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلّف عن تبوك ولم يُبدوا عذراً يمنعهم من الغزو، ولكنّهم صرّحوا بأنّ الخروج إلى الغزو يفتنهم لمحبّة أموالهم وأهليهم، ففضح الله أمرهم بأنّهم منافقون: لأن ضمير الجمع المجرور عائد إلى {الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر} [التوبة: 45]، وقيل: قال جماعة منهم: ائذن لنا لأنّا قاعدون أذنت لنا أم لم تأذَنْ فأذَنْ لنا لئلا نقع في المعصية. وهذا من أكبر الوقاحة لأنّ الإذن في هذه الحالة كَلا إذننٍ، ولعلّهم قالوا ذلك لعلمهم برفق النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: إنّ الجِدّ بن قيس قال: يا رسول الله لقد علم الناس أنّي مُسْتَهْتَر بالنساء فإنّي إذا رأيت نساء بني الأصفر افتتنت بهنّ فأذَنْ لي في التخلّف ولا تفتنّي وأنا أعينك بمالي، فأذن لهم. ولعلّ كلَّ ذلك كان. والإتيان بأداة الاستفتاح في جملة {ألا في الفتنة سقطوا} للتنبيه على ما بعدها من عجيب حالهم إذ عاملهم الله بنقيض مقصودهم فهم احترزوا عن فتنة فوقعوا في الفتنة. فالتعريف في الفتنة ليس تعريف العهد إذ لا معهود هنا، ولكنّه تعريف الجنس المؤذن بكمال المعرّف في جنسه، أي في الفتنة العظيمة سقطوا، فأيُّ وجه فرض في المراد من الفتنة حين قال قائلهم {ولا تفتنى} كان ما وقَع فيه أشدَّ ممّا تفصَّى منه، فإن أراد فتنة الدين فهو واقع في أعظم الفتنة بالشرك والنفاق، وإن أراد فتنة سوء السمعة بالتخلّف فقد وقع في أعظم بافتضاح أمر نفاقهم، وإنْ أراد فتنة النكد بفراق الأهل والمال فقد وقع في أعظم نكد بكونه ملعوناً مبغوضاً للناس. وتقدّم بيان {الفتنة} قريباً. والسقوط مستعمل مجازاً في الكَون فجأة على وجه الاستعارة: شُبّه ذلك الكون بالسقوط في عدم التهيّؤ له وفي المفاجأة باعتبار أنّهم حصلوا في الفتنة في حال أمنهم من الوقوع فيها، فهم كالساقط في هُوّة على حيننِ ظَنّ أنّه ماش في طريق سهل ومن كلام العرب «على الخبير سقطتَ». وتقديم المجرور على عامله، للاهتمام به لأنّه المقصود من الجملة. وهذه الجملة تسير مَسرى المثَل. وجملة {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} معترضة والواو اعتراضية، أي وقعوا في الفتنة المفضية إلى الكفر. والكفر يستحقّ جهنّم. وإحاطة جهنّم مراد منها عدم إفلاتهم منها، فالإحاطة كناية عن عدم الإفلات. والمراد بالكافرين: جميع الكافرين فيشمل المتحدّث عنهم لثبوت كفرهم بقوله: {إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر} [التوبة: 45]. ووجه العدول عن الإتيان بضميرهم إلى الإتيان بالاسم الظاهر في قوله: {لمحيطة بالكافرين} إثبات إحاطة جهنّم بهم بطريق شبيه بالاستدلال، لأنّ شمول الاسم الكلي لبعض جزئياته أشهر أنواع الاستدلال.
{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)} تتنزل هذه الجملة منزلة البيان لجملة {إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون} [التوبة: 45]، وما بين الجملتين استدلال على كذبهم في ما اعتذروا به وأظهروا الاستيذان لأجله، وبُيِّن هنا أن تردّدهم هو أنّهم يخشون ظهور أمر المسلمين، فلذلك لا يصارحونهم بالإعراض ويودّون خيبة المؤمنين، فلذلك لا يحبّون الخروج معهم. والحسنة: الحَادثة التي تحسُن لمن حلَّت به واعترتْه. والمراد بها هنا النصر والغنيمة. والمصيبة مشتقّة من أصاب بمعنى حَلَّ ونال وصادف، وخصت المصيبة في اللغة بالحادثة التي تعتري الإنسان فتسُوءه وتُحزنه. ولذلك عبّر عنها بالسيئة في قوله تعالى، في سورة آل عمران (120): {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها} والمراد بها الهزيمة في الموضعين، وقد تقدّم ذلك في قوله تعالى: {ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة} في سورة الأعراف (95). وقولهم: قد أخذنا أمرنا من قبل} ابتهاج منهم بمصادفة أعمالهم ما فيه سلامتهم فيزعمون أنّ يقظَتهم وحزمهم قد صادفا المحَز، إذ احتاطوا له قبل الوقوع في الضرّ. والأخذُ حقيقته التناول، وهو هنا مستعار للاستعداد والتلافي. والأمر الحال المهمّ صاحبه، أي: قد استعددنا لما يهمّنا فلم نقع في المصِيبة. والتولّي حقيقته الرجوع، وتقدم في قوله تعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض} في سورة البقرة (205). وهو هنا تمثيل لحالهم في تخلّصهم من المصيبة، التي قد كانت تحل بهم لو خرجوا مع المسلمين، بحال من أشرفوا على خطر ثم سلموا منه ورجعوا فارحين مسرورين بسلامتهم وبإصابة أعدائهم.
{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)} تلقين جواب لقولهم: {قد أخذنا أمرنا من قبل} [التوبة: 50] المنبئ عن فرحهم بما ينال المسلمين من مصيبة بإثبات عدم اكتراث المسلمين بالمصيبة وانتفاء حزنهم عليها لأنهم يعلمون أن ما أصابهم ما كان إلاّ بتقدير الله لمصلحة المسلمين في ذلك، فهو نفع محض كما تدلّ عليه تعدية فعل {كتب} باللام المؤذنة بأنّه كتب ذلك لنفعهم وموقع هذا الجواب هو أن العدوّ يفرح بمصاب عدوّه لأنّه ينكد عدوّه ويُحزنه، فإذا علموا أنّ النبي لا يحزَن لما أصابه زال فرحهم. وفيه تعليم للمسلمين التخلق بهذا الخلق: وهو أن لا يحزنوا لما يصيبهم لئلا يهنو وتذهب قوتهم، كما قال تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله} [آل عمران: 139، 140]. وأن يرضوا بما قدر الله لهم ويرجوا رضى ربّهم لأنهم واثقون بأنّ الله يريد نصر دينه. وجملة {هو مولانا} في موضع الحال من اسم الجلالة، أو معترضة أي لا يصيبنا إلا ما قدره الله لنا، ولنا الرجاء بأنّه لا يكتب لنا إلا ما فيه خيرنا العَاجل أو الآجل، لأن المولى لا يرضى لمولاه الخزي. وجملة {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} يجوز أن تكون معطوفة على جملة {قل} فهي من كلام الله تعالى خبراً في معنى الأمر، أي قل ذلك ولا تتوكّلوا إلا على الله دون نصرة هؤلاء، أي اعتمدوا على فضله عليكم. ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {لن يصيبنا} أي قل ذلك لهم، وقل لهم إن المؤمنين لا يتوكّلون إلا على الله، أي يؤمنون بأنّه مؤيّدهم، وليس تأييدهم بإعانتكم، وتفصيل هذا الإجمال في الجملة التي بعدها. والفاء الداخلة على {فليتوكل المؤمنون} فاء تدلّ على محذوف مفرّع عليه اقتضاه تقديم المعمول، أي على الله فليتوكّل المؤمنون.
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)} تتنزّل هذه الجملة منزلة البيان لِما تضمّنته جملة {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا} [التوبة: 51] الآية، ولذلك لم تعطف عليها، والمبيّن هو إجمالُ {ما كتب الله لنا هو مولانا} [التوبة: 51] كما تقدّم. والمعنى لا تنتظرون من حالنا إلاّ حسنة عاجلة أو حسنة آجلة فأمّا نحن فننتظر من حالكم أن يعذبكم الله في الآخرة بعذاب النار، أو في الدنيا بعذاب على غير أيدينا من عذاب الله في الدنيا: كالجوع والخوف، أو بعذاببٍ بأيدينا، وهو عذاب القتل، إذا أذن الله بحربكم، كما في قوله: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم} [الأحزاب: 60] الآية. والاستفهام مستعمل في النفي بقرينة الاستثناء. ومعنى الكلام توبيخ لهم وتخطئة لتربّصهم لأنّهم يتربّصون بالمسلمين أن يقتلوا، ويغفلون عن احتمال أن ينصروا فكان المعنى: لا تتربّصون بنا إلا أن نقتل أو نغلِب وذلك إحدى الحسنين. والتربص: انتظار حصول شيء مرغوب حصوله، وأكثر استعماله. أن يكون انتظارَ حصول شيء لغير المنتظِر (بكسر الظاء) ولذلك كثرت تعدية فعل التربّص بالباء لأن المتربّص ينتظر شيئاً مصاحباً لآخرِ هو الذي لأجله الانتظار. وأمّا قوله: {والمطلقات يتربّصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] فقد نزلت {أنفسهن} منزلة المغاير للمبالغة في وجوب التربّص، ولذلك قال في «الكشّاف»: «في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربّص وزيادة بعث». وقد تقدم ذلك هنالك، وأمّا قوله: {للذين يؤلون من نسائهم تربّص أربعة أشهر} [البقرة: 226] فهو على أصل الاستعمال لأنّه تربّص بأزواجهم. وجملة {ونحن نتربص بكم} معطوفة على جملة الاستفهام عَطف الخبر على الإنشاء: بل على خبر في صورة الإنشاء، فهي من مقول القول وليس فيها معنى الاستفهام. والمعنى: وجود البون بين الفريقين في عاقبة الحرب في حالي الغلبة والهزيمة. وجعلت جملة {ونحن نتربص} اسميةً فلم يقل ونتربّص بكم بخلاف الجملة المعطوف عليها: لإفادة تقوية التربّص، وكناية عن تقوية حصول المتربَّص لأن تقوية التربّص تفيد قوة الرجاء في حصول المتربَّص فتفيد قوّة حصوله وهو المكنّى عنه. وتفرّع على جملة {هل تربصون بنا} جملة {فتربصوا إنا معكم متربصون} لأنّه إذا كان تربّص كلّ من الفريقين مسفراً عن إحدى الحالتين المذكورتين كان فريق المؤمنين أرضى الفريقين بالمتَّربِّصين لأنّ فيهما نفعه وضرّ عدوّه. والأمر في قوله: {تربّصوا} للتحْضيض المجازي المفيد قلّة الإكتراث بتربّصهم كقول طَريف بن تميم العنبري: فتوسَّمُوني إنَّني أنَا ذلكُم *** شَاكِي سِلاحي في الحوادث مُعْلَم وجملة {إنا معكم متربصون} تهديد للمخاطبين والمعية هنا: معية في التّربص، أو في زمانه، وفصلت هذه الجملة عن التي قبلها لأنّها كالعلّة للحضّ.
{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)} ابتداء كلام هو جواب عن قول بعض المستأذنين منهم في التخلّف «وأنا أعينك بمالي». روي أنّ قائل ذلك هو الجدّ بن قيس، أحد بني سَلِمة، الذي نزل فيه قوله تعالى: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني} [التوبة: 49] كما تقدّم، وكان منافقا. وكأنّهم قالوا ذلك مع شدّة شُحِّهم لأنّهم ظنّوا أنّ ذلك يرضي النبي صلى الله عليه وسلم عن قعودهم عن الجهاد. وقوله: {طوعاً أو كرهاً} أي بمال تبذلونه عوضاً عن الغزو، أو بمال تنفقونه طوعاً مع خروجكم إلى الغزو، فقوله: {طوعاً} إدماج لتعميم أحوال الإنفاق في عدم القبول فإنّهم لا ينفقون إلاّ كرهاً لقوله تعالى بعد هذا: {ولا ينفقون إلا وهم كارهون} [التوبة: 54]. والأمر في {أنفقوا} للتسوية أي: أنفقوا أو لا تنفقوا، كما دلّت عليه {أوْ} في قوله {طوعاً أو كرهاً} وهو في معنى الخبر الشرطيّ لأنّه في قوة أن يقال: لن يتقبّل منكم إن أنفقتم طوعاً أو أنفقتم كَرهاً، ألا ترى أنّه قد يَجيء بعد أمثاله الشرطُ في معناه كقوله تعالى: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80]. والكَره أشدّ الإلزام، وبينه وبين الطوع مراتب تعلم إرادتها بالأوْلى، وانتصب {طوعاً أو كرهاً} على النيابة عن المفعول المطلق بتقدير: إنفاقَ طَوع أو إنفاقَ كَره. ونائت فاعل يتقبّل: هو {منكم} أي لا يتقبّل منكم شيء وليس المقدّرُ الإنفاقَ المأخوذَ من {أنفقوا} بل المقصود العموم. وجملة {إنكم كنتم قوماً فاسقين} في موضع العلّة لنفي التقبّل، ولذلك وقعت فيها (إنَّ) المفيدة لِمعنى فاء التعليل، لأنّ الكافر لا يتقبّل منه عمل البرّ. والمراد بالفاسقين: الكافرون، ولذلك أعقب بقوله: {وما منعهم أن تُقبل منهم نفقاتهم إلاّ أنّهم كفروا بالله وبرسوله} [التوبة: 54]. وإنّما اختير وصف الفاسقين دون الكافرين لأنّهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فكانوا كالمائِلين عن الإسلام إلى الكفر. والمقصود من هذا تأييسهم من الانتفاع بما بذلوه من أموالهم، فلعلّهم كانوا يحسبون أنّ الإنفاق في الغزو ينفعهم على تقدير صدق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا من شكّهم في أمر الدين، فتوهّموا أنّهم يعملون أعمالاً تنفع المسلمين يجدونها عند الحشر على فرض ظهور صدق الرسول. ويَبقون على دينهم فلا يتعرّضون للمهالك في الغزو ولا للمشاق، وهذا من سوء نظر أهل الضلالة كما حكى الله تعالى عن بعضهم: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولداً} [مريم: 77] إذْ حسب أنّه يحشر يوم البعث بحالته التي كان فيها في الحياة إذا صَدَق إخبار الرسول بالبعث.
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)} عطف على جملة {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فاسقين} [التوبة: 53] لأنّ هذا بيان للتعليل لعدم قبول نفقاتهم بزيادة ذكر سببين آخريْن مانعين من قبول أعمالهم هما من آثار الكفر والفسوق. وهما: أنّهم لا يأتون الصلاة إلاّ وهم كسالى، وأنّهم لا ينفقون إلاّ وهم كارهون. والكفر وإن كان وحده كافياً في عدم القبول، إلاّ أنْ ذكر هذين السببين إشارة إلى تمكّن الكفر من قلوبهم وإلى مذمّتهم بالنفاق الدالّ على الجبن والتردّد. فذكر الكفر بيان لذكر الفسوق، وذكر التكاسل عن الصلاة لإظهار أنّهم متهاونون بأعظم عبادة فكيف يكون إنفاقهم عن إخلاص ورغبة. وذكر الكراهية في الإنفاق لإظهار عدم الإخلاص في هذه الخصلة المتحدّث عنها. وقرأ حمزة والكسائي: {أن يُقبل منهم} بالمثناة التحتية لأنّ جمع غير المؤنّث الحقيقي يجوز فيه التذكير وضدّه.
{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} تفريع على مذمّة حالهم في أموالهم، وأن وفرة أموالهم لا توجب لهم طُمَأنِينَة بال، بإعلام المسلمين أنّ ما يرون بعض هؤلاء المنافقين فيه من متاع الحياة الدنيا لا ينبغي أن يكون محلّ إعجاب المؤمنين، وأن يحسبوا المنافقين قد نالوا شيئاً من الحظّ العاجل ببيان أنّ ذلك سبب في عذابهم في الدنيا. فالخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد تعليم الأمّة. ومعنى هذه الآية: أنّ الله كشف سرّاً من أسرار نفوس المنافقين بأنّه خلق في نفوسهم شحّاً وحرصاً على المال وفتنة بتوفيره والإشفاق من ضياعه، فجعلهم بسبب ذلك في عناء وعذاب من جرّاء أموالهم، فهم في كَبَد من جمعها. وفي خوف عليها من النقصان، وفي ألم من إنفاق ما يلجئهم الحال إلى إنفاقه منها، فقد أراد الله تعذيبهم في الدنيا بما الشأن أن يكون سبب نعيم وراحة، وتمّ مراده. وهذا من أشدّ العقوبات الدنيوية وهذا شأن البخلاء وأهل الشحّ مطلقاً، إلاّ أنّ المؤمنين منهم لهم مسلاة عن الرزايا بما يرجون من الثواب على الإنفاق أو على الصبر. ثم يجوز أن يكون هذا الخلق قد جبلهم الله عليه من وقت وجودهم فيكون ذلك من جملة بواعث كفرهم ونفاقهم، إذ الخلق السيّء يدعو بعضه بعضاً، فإنّ الكفر خُلق سيّء فلا عجب أن تنساق إليه نفس البخيل الشحيح، والنفاق يبعث عليه الخلقُ السيّء من الجُبن والبخل، ليتقّي صاحبه المخاطر، وكذلك الشأن في أولادهم إذ كانوا في فتنة من الخوف على إيمان بعض أولادهم، وعلى خلاف بينهم وبين بعض أولادهم الموفّقين إلى الإسلام: مثل حنظلة: ابن أبي عامر الملقّببِ غَسيلَ الملائكة، وعبد الله بننِ عبدِ الله بننِ أُبي فكان ذلك من تعذيب أبويهما. ولكون ذكر الأولاد كالتكملة هنا لزيادة بيان عدم انتفاعهم بكلّ ما هو مظنّة أن ينتفع به الناس، عُطف الأولاد بإعادة حرف النفي بَعْد العاطف، إيماء إلى أنّ ذكرهم كالتكملة والاستطراد. واللام في {ليعذّبهم} للتعليل: تعلّقت بفعل الإرادة للدلالة على أنّ المراد حكمة وعلّة فتغني عن مفعول الإرادة، وأصل فعل الإرادة أن يعدَّى بنفسه كقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185] ويعدّى غالباً باللام كما في هذه الآية وقوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم} في سورة النساء (26) وقول كُثيّرِ: أريدُ لأنْسَى حُبَّها فكأنما *** تَمَثَّلُ لِي ليلَى بكلّ مكان وربما عَدَّوه باللام وكَي مبالغةً في التعليل كقول قيس بن عُبادة: أردتُ لكيما يعلمَ الناس أنّها *** سراويلُ قيس والوفُود شهود وهذه اللام كثير وقوعها بعد مادة الإرادة ومادة الأمر. وبعضُ القرّاء سمّاها (لام أنْ) بفتح الهمزة وتقدم عند قوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم} في سورة النساء (26). فقوله: في الحياة الدنيا} متعلّق ب {يعذبهم} ومحاولة التقديم والتأخير تعسّف وعطف {وتزهق} على {ليعذبهم} باعتبار كونه أراده الله لهم عندما رزقهم الأموال والأولاد فيعلم منه: أنّه أراد موتهم على الكفر، فيستغرق التعذيبُ بأموالهم وأولادهم حياتَهم كلّها، لأنّهم لو آمنوا في جزء من آخر حياتهم لحصل لهم في ذلك الزمن انتفاع ما بأموالهم ولو مع الشحّ. وجملة: {وهم كافرون} في موضع الحال من الضمير المضاف إليه لأنّه إذا زهقت النفس في حال الكفر فقد مات كافراً. والإعجاب استحسان مشوب باستغراب وسرور من المرئي قال تعالى: {ولو أعجبك كثرة الخبيث} [المائدة: 100] أي استحسنت مرأى وفرة عدده. و (الزهوق) الخروج بشدّة وضيق، وقد شاع ذكره في خروج الروح من الجسد، وسيأتي مثل هذه الآية في هذه السورة.
{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)} هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من أخبار أهل النفاق. وضمائر الجمع عائدة إليهم، قصد منها إبطال ما يموّهون به على المسلمين من تأكيد كونهم مؤمنين بالقَسم على أنّهم من المؤمنين. فمعنى: {إنهم لمنكم} أي بعض من المخاطبين ولمّا كان المخاطبون مؤمنين، كانَ التبعيض على اعتبار اتّصافهم بالإيمان، بقرينة القَسَم لأنّهم توجّسوا شكّ المؤمنين في أنّهم مثلهم. والفَرَق: الخوف الشديد. واختيار صيغة المضارع في قوله: {ويحلفون} وقوله: {يفرقون} للدلالة على التجدّد وأنّ ذلك دأبهم. ومقتضى الاستدراك: أن يكون المستدرك أنّهم ليسوا منكم، أي كافرون، فحُذف المستدرك استغناء بأداة الإستدراك، وذُكر ما هو كالجواب عن ظاهر حالهم من الإيمان بأنّه تظاهر باطل وبأنّ الذي دعاهم إلى التظاهر بالإيمان في حال كفرهم: هم أنّهم يفرَقون من المؤمنين، فحصل إيجاز بديع في الكلام إذ استغني بالمذكور عن جملتين محذوفتين. وحذف متعلّق {يفرقون} لظهوره، أي يخافون من عداوة المسلمين لهم وقتالهم إياهم أو إخراجهم، كما قال تعالى: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً} [الأحزاب: 60، 61]. وقوله: {وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون كلام موجه لصلاحيته لأن يكون معناه أيضاً وما هم منكم ولكنّهم قوم متّصفون بصفة الجُبن، والمؤمنون من صفتهم الشجاعة والعزّة، فالذين يفرقون لا يكونون من المؤمنين، وفي معنى هذا قوله تعالى: {قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} [هود: 46] وقول مساور بن هند في ذمّ بني أسد: زَعَمتُم أنَّ إخوتكم قُريش *** لهم إلْفٌ وليس لكم إلاف أولئك أومِنُوا جُوعاً وخوفاً *** وقد جَاعَتْ بنو أسد وخافوا فيكون توجيهاً بالثناء على المؤمنين، وربما كانت الآية المذكورة عقبها أوفق بهذا المعنى. وفي هذه الآية دلالة على أنّ اختلاف الخُلق مانع من المواصلة والموافقة.
{لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)} بيان لجملة: {ولكنهم قوم يفرقون} [التوبة: 56]. والمَلجأ: مكان اللَّجإ، وهو الإيواء والاعتصام. والمغارات: جمع مغارة، وهي الغار المتّسع الذي يستطيع الإنسان الولوج فيه، ولذلك اشتقّ لها المفعل: الدالّ على مكان الفعل، من غَارَ الشيء إذا دخل في الأرض. والمُدَّخَل مُفْتَعَل اسم مكان للإدّخال الذي هو افتعال من الدخول. قلبت تاء الافتعال دالاً لوقوعها بعد الدال، كما أبدلت في ادَّان، وبذلك قرأه الجمهور. وقرأ يعقوب وحده {أو مدخلاً} بفتح الميم وسكون الدال اسم مكان من دخل. ومعنى {لولوا إليه} لانصرفوا إلى أحد المذكورات وأصل ولَّى أعرض ولمّا كان الإعراض يقتضي جهتين: جهة يُنصرف عنها، وجهة يُنصرف إليها، كانت تعديته بأحد الحرفين تعيّن المراد. والجموح: حقيقته النفور، واستعمل هنا تمثيلاً للسرعة مع الخوف. والمعنى: أنهم لخوفهم من الخروج إلى الغزو لو وجدوا مكاناً ممّا يختفي فيه المختفي فلا يشعر به الناس لقصدوه مسرعين خشية أن يعزم عليهم الخروج إلى الغزو.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)} عرف المنافقون بالشحّ كما قال الله تعالى: {أشحة عليكم} [الأحزاب: 19] وقال {أشحة على الخير} [الأحزاب: 19] ومن شحّهم أنّهم يودّون أنّ الصدقات توزع عليهم فإذا رأوها تُوزّع على غيرهم طعنوا في إعطائها بمطاعن يُلقونها في أحاديثهم، ويظهرون أنّهم يغارون على مستحقّيها، ويشمئزّون من صرفها في غير أهلها، وإنّما يرومون بذلك أن تقصر عليهم. روي أنّ أبا الجَوَّاظ، من المنافقين، طَعَن في أن أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أمواللِ الصدقات بعضَ ضعفاء الأعراب رعاء الغنم، إعانة لهم، وتأليفاً لقلوبهم، فقال: ما هذا بالعدل أن يضع صدقاتكم في رعاء الغنم، وقد أمر أن يقسمها في الفقراء والمساكين، وقد روي أنّه شافه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي سعيد الخدري: أنّها نزلت في ذي الخويصرة التميمي الذي قال للنبيء صلى الله عليه وسلم اعدل، وكان ذلك في قسمة ذهب جاء من اليمن سنة تسع، فلعل السبب تكرّر، وقد كان ذو الخويصرة من المنافقين من الأعراب. واللّمز القدح والتعييب، مضارعه من باب يضرب، وبه قرأ الجمهور، ومن باب ينصرُ، وبه قرأ يعقوب وحده. وأدخلت {في} على الصدقات، وإنّما اللمز في توزيعها لا في ذواتها: لأنّ الاستعمال يدلّ على المراد، فهذا من إسناد الحكم إلى الأعيان والمراد أحوالها. ثم إنّ قوله: {فإن أعطوا منها رضوا} يحتمل: أنّ المراد ظاهر الضمير أن يعود على المذكور، أي إن أعطي اللامزون، أي إنّ الطاعنين يطمعون أن يأخذوا من أموال الصدقات بوجه هدية وإعانة، فيكون ذلك من بلوغهم الغاية في الحرص والطمع، ويحتمل أنّ الضمير راجع إلى ما رجع إليه ضمير {منهم} أي: فإن أعطي المنافقون رضي اللاَّمزون، وإن أعطي غيرهم سخطوا، فالمعنى أنّهم يرومون أن لا تقسم الصدقات إلاّ على فقرائهم ولذلك كره أبو الجَواظ أن يعطى الأعراب من الصدقات. ولم يُذكر متعلّق {رضوا}، لأنّ المراد صاروا راضين، أي عنك. ودلّت {إذا} الفجائية على أنّ سخطهم أمر يفاجئ العاقل حين يشهده لأنّه يكون في غير مظنّة سخط، وشأن الأمور المفاجئة أن تكون غريبة في بابها.
|