الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)} {إذ} ظرف متعلق بقوله: {فاستجاب لكم أني ممدكم بألففٍ من الملائكة مردفين} [الأنفال: 9]. وجعل الخطاب هنا للنبيء صلى الله عليه وسلم تلطفاً به، إذ كانت هذه الآية في تفصيل عمل الملائكة يوم بدر، وما خاطبهم الله به فكان توجيه الخطاب بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولى لأنه أحق من يعلم مثل هذا العلم ويحصل العلم للمسلمين تبعاً له، وأن الذي يهم المسلمين من ذلك هو نصر الملائكة إياهم وقد حصل الإعلام بذلك من آية {إذ تستغيثون ربكم} [الأنفال: 9] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول من استغاث الله، ولذلك عرف الله هنا باسم الرب وإضافته إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ليوافق أسلوب {إذ تستغيثون ربكم} [الأنفال: 9] ولما فيه من التنويه بقدر نبيه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه فعل ذلك لطفاً به ورفعاً لشأنه. والوحي إلى الملائكة المرسلين: إما بطريق إلقاء هذا الأمر في نفوسهم بتكوين خاص، وإما بإبلاغهم ذلك بواسطة. و {أنّي معكم} قيل هو في تأويل مصدر وذلك المصدر مفعول يوحي، أي يوحي إليهم ثبوتَ معيّتِه لهم، فيكون المصدر، منصوباً على المفعول به ليوحي، بهذا التأويل وقيل على تقدير باء الجر. وأنت على ذُكْر مما قدمناه قريباً في قوله تعالى: {أني ممدكم بألففٍ من الملائكة} [الأنفال: 9] من تحقيق أن تكون (أن) المفتوحة الهمزةِ المشددة النوننِ مفيدة معنى (أنْ) التفسيرية، إذا وقعت معمولة لما فيه معنى القول دون حروفه. والمعية حقيقتها هنا مستحيلة فتحمل على اللائِقة بالله تعالى أعني المعية المجازية، فقد يَكون معناها توجه عنايته إليهم وتيسير العمل لهم، وقد تكرر إطلاق (مع) بمثل هذا في القرآن كقوله: {وهْو مَعكم أينما كنتم} [الحديد: 4]. وإيحاء الله إلى الملائكة بهذا مقصود منه تشريفهم وتشريف العمل الذي سيكلفون به، لأن المعية تؤذن إجمالاً بوجود شيء يستدعي المصاحبة، فكان قوله لهم: {أني معكم} مقدمة للتكليف بعمل شريف ولذلك يذكْر ما تتعلق به المعية لأنه سيعلم من بقية الكلام، أي أني معكم في عملكم الذي أكفلكم به. ومن هنا ظهر موقع فَاء الترتيب في قوله: {فثبتوا الذين آمنوا} من حيث ما دل عليه {أني معكم} من التهيئة لتلقي التكليف بعمل عظيم وإنما كان هذا العمل بهذه المثابة لأنه إبدال للحقائق الثابتة باقتلاعها ووضع أضدادها لأنه يجعل الجبن شجاعة، والخوف إقداماً والهلع ثباتاً، في جانب المؤمنين، ويجعل العزة رعباً في قلوب المشركين، ويقطع أعناقهم وأيديهم بدون سَبب من أسباب القطع المعتادة فكانت الأعمال التي عُهد للملائكة عملُها خوارقَ عادات. والتثبيت هنا مجاز في إزالة الاضطراب النفساني مما ينشأ عن الخوف ومن عدم استقرار الرأي واطمئنانه. وعُرف المثبتُون بالموصول لما تومئ إليه صلة {آمنوا} من كون إيمانهم هو الباعث على هذه العناية، فتكون الملائكة بعناية المؤمنين لأجل وصف الإيمان. وتثبيت المؤمنين إيقاع ظن في نفوسهم بأنهم منصورون ويسمى ذلك إلهاماً وتثبيتاً، لأنه إرشاد إلى ما يطابق الواقع، وإزالة للاضطراب الشيطاني، وإنما يكون خيراً إذا كان جارياً على ما يحبه الله تعالى بحيث لا يكون خاطراً كاذباً، وإلاّ صار غروراً، فتشجيع الخائف حيث يريد الله منه الشجاعة خاطر ملكي وتشجيعه حيث ينبغي أن يتوقى ويخاف خاطر شيطاني ووسوسة، لأنه تضليل عن الواقع وتخذيل. ولم يسند إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا إلى الملائكة بل أسنده الله إلى نفسه وحده بقوله: {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعْب} لأن أولئك الملائكة المخاطبين كانوا ملائكة نصر وتأييد فلا يليق بقواهم إلقاء الرعب، لأن الرعب خاطر شيطاني ذميم، فجعله الله في قلوب الذين كفروا بواسطة أخرى غير الملائكة. وأسند إلقاء الرعْب في قلوب الذين كفروا إلى الله على طريقةٌ الإجمال دون بيان لكيفية إلقائه، وكل ما يقع في العالم هو من تقدير الله على حسب إرادته، وأشار ذلك إلى أنه رعب شديد قدره الله على كيفية خارقة للعادة، فإن خوارق العادات قد تصدر من القُوى الشيطانية بإذن الله وهو ما يسمى في اصطلاح المتكلمين بالإهانة وبالاستدراج، ولا حاجة إلى قصد تحقير الشيطان بإلقاء الرعب في قلوب المشركين كما قصد تشريف الملائكة، لأن إلقاء الرعب في قلوب المشركين يعود بالفائدة على المسلمين، فهو مبارك أيضاً، وإنما كان إلقاء الرعْب في قلوب المشركين خارقَ عادة، لأن أسباب ضده قائمة، وهي وفرة عددهم وعُددهم وإقدامُهم على الخروج إلى المسلمين، وحرصهم على حماية أموالهم التي جاءت بها العير. فجملة: {سألقي في قلوب الذين كفروا} مستأنفة استئنافاً ابتدائياً إخباراً لهم بما يقتضي التخفيف عليهم في العمل الذي كلفهم الله به بأن الله كفاهم تخذيل الكافرين بعمل آخر غير الذي كَلف الملائكة بعمله، فليست جملة {سألقي} مفسرة لمعنى {أني معكم}. ولم يقل سنلقي لئلا يتوهم أن للملائكة المخاطبين سبباً في إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا كما علمتَ آنفاً. وتفريع {فاضربوا فوق الأعناق} على جملة: {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} المفرعة هنا أيضاً على جملة: {فثبتوا الذين آمنوا} في المعنى، يؤذن بما اقتضته جملة {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} من تخفيف عمل الملائكة عليهم بعض التخفيف الذي دل عليه إجمالاً قوله: {أني معكم} كما تقدم {فوق الأعناق} على الظرفية لاضْربوا. و {الأعناق} أعناق المشركين وهو بيّن من السياق، واللام فيه والمراد بعض الجنس بالقرينة للجنس أو عوض عن المضاف إليه بقرينة قوله بعد: {واضْربوا منهم كل بنان}. والبنان اسم جمع بَنَانَة وهي الأصبع وقيل طرف الأصبع، وإضافة (كل) إليه لاستغراق أصحابها. وإنما خصت الأعناق والبنان لأن ضرب الأعناق إتلاف لأجساد المشركين وضرب البنان، يبطل صلاحية المضروب للقتال، لأن تناول السلاح إنما يكون بالأصابع، ومن ثَم كثر في كلامهم الاستغناء بذكر ما تتناوله اليد أو ما تتناوله الأصابع، عن ذكر السيف، قال النابغة: وأن تلادي أن نظرت وشِكّتي *** ومُهري وما ضَمَّتْ إليّ الأنامل يعني سيفه، وقال أبو الغول الطهوي: فدت نفسي وما ملكتْ يميني *** فوارسَ صُدِّقت فيهم ظنوني يريد السيف ومثل ذلك كثير في كلامهم فضرب البنان يحصل به تعطيل عمل اليد فإذا ضُربت اليد كلها فذلك أجدر. وضرب الملائكة يجوز أن يكون مباشرة بتكوين قطع الأعناق والأصابع بواسطة فعل الملائكة على كيفية خارقة للعادة وقد ورد في بعض الآثار عن بعض الصحابة ما يشهد لهذا المعنى، فإسناد الضرب حقيقة. ويجوز أن يكون بتسديد ضربات المسلمين وتوجيه المشركين إلى جهاتها، فإسناد الضرب إلى الملائكة مجاز عقلي لأنهم سببه، وقد قيل: الأمر بالضرب للمسلمين، وهو بعيد، لأن السورة نزلت بعد انكشاف الملحمة. وجملة: {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} تعليل لأن الباء في قوله {بأنهم} باء السببية فهي تفيد معنى التعليل ولهذا فُصلت الجملة. والمخاطب بهذه الجملة: إما الملائكة، فتكون من جملة الموحى به إليهم إطْلاعاً لهم على حكمة فعل الله تعالى. لزيادة تقريبهم، ولا يريبك إفراد كاف الخطاب في اسم الإشارة لأن الأصل في الكاف مع اسم الإشارة الإفراد والتذكير، وإجراؤها على حسب حال المخاطب بالإشارة جائز وليس بالمتعين، وإما من تبلغهم الآية من المشركين الأحياء بعد يوم بدر، ولذا فالجملة معترضة للتحذير من الاستمرار على مشاقة الله ورسوله. والقول في إفراد الكاف هُو هُو إذ الخطاب لغير معين والمراد نوع خاص، ويجوز أن يكون المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمشار إليه ما أمروا به من ضرب الأعناق وقطع البنان. وإفراد اسم الإشارة بتأويله بالمذكور، وتقدم غير مرة. والمشاقة العداوة بعصيان وعناد، مشتقة من الشّق بكسر الشين وهو الجانب، هو اسم بمعنى المشقوق أي المفرق، ولما كان المخالف والمعادي يكون متباعداً عن عدوه فقد جعل كأنه في شق آخر، أي ناحية أخرى، والتصريح بسبب الانتقام تعريض للمؤمنين ليستزيدوا من طاعة الله ورسوله، فإن المشيئة لما كانت سبب هذا العقاب العظيم فيوشك ما هو مخالفة للرسول بدون مشاقة أن يُوقع في عذاب دون ذلك، وخليق بأن يكون ضدها وهو الطاعة موجباً للخير. وجملة: {ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب} تذييل يعم كل من يشاقق الله ويعم أصناف العقائد. والمراد من قوله: {فإن الله شديد العقاب} الكناية عن عقاب المشاقين وبذلك يظهر الارتباط بين الجزاء وبين الشرط باعتبار لازم الخبر وهو الكناية عن تعلق مضمون ذلك الخبر بمن حصل منه مضمون الشرط، كقول عنترة: إن تُغْدِ في، دونِي القناع فإنني *** طَبُّ بأخذ الفارس المستلْئمِ يريد فأني لا يخفى عليَّ من يستر وجهه مني وأني أتوسّمه وأعرفه.
{ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)} الخطاب في {ذلكم فذوقوه} للمشركين الذين قُتلوا، والذين قطعت بنانهم أي يقال لهم هذا الكلام حيث تُضرب أعناقهم وبنانهم بأن يُلْقى في نفوسهم حينما يصابون إن أصابتهم كانت لمشاقتهم الله ورسوله، فإنهم كانوا يسمعون توعد الله إياهم بالعذاب والبطش كقوله: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} [الدخان: 16] وقوله: {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصُدون عن المسجد الحرام} [الأنفال: 34] ونحو ذلك وكانوا لا يخلُون من اختلاج الشك نفوسهم، فإذا رأوا القتل الذي لم يألفوه، ورأى الواحد منهم نفسه مضروباً بالسيف، ضرباً لا يستطيع له دفاعاً، علم أن وعيد الله تحقق فيه، فجاش في نفسه أن ذلك لمشاقته الله ورسوله، ولعلهم كانوا يرون إصابات تصيبهم من غير مَرْئي، فجملة: {ذلكم فذوقوه} مقول قول محذوف تقديره: قائلين، هو حالَ من ضمير {فاضربوا فوق الأعناق} [الأنفال: 12]. واسم الإشارة راجع إلى الضرب المأخوذ من قوله: {فاضربوا فوق الأعناق وأضربوا منهم كل بنان} [الأنفال: 12] وهو مبتدأ وخبره محذوف، فإما أن يقدر ذلك هو العقاب الموعود، وإما أن يكون مما دل عليْه قوله: {بأنهم شاقوا الله ورسوله} [الأنفال: 13] فالتقدير ذلك بأنكم شاققتم الله ورسوله. وتفريع {فذوقوه} على جملة: {ذلكم} بما قدر فيها تفريع للشّماتة على تحقيق الوعيد، فصيغة الأمر مستعملة في الشماتة والإهانة، وموقع {فذوقوه} اعتراض بين الجملة والمعطوف في قوله: {وأن للكافرين}، والاعتراضُ يكون بالفاء كما في قول النابغة: ضِباببِ بني الطّوَالة فاعلميه *** ولا يَغْرُرْك نأيي واغترابي قالواوفي قوله: {وأن للكافرين عذاب النار} للعطف على المقول فهو من جملة القول، والتعريفُ في {الكافرين} للاستغراق وهو تذييل. والمعنى: ذلكم، أي ضرب الأعناق، عقاب الدنيا، وأن لكم عذاب النار في الآخرة مع جميع الكافرين، والذوق مجاز في الإحساس والعلاقةُ الإطلاق. وقوله: {وأن للكافرين عذاب النار} عطف على الخبر المحذوف أي ذلكم العذاب وأن عذاب النارِ لجميع الكافرين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)} لمّا ذكَّرَ الله المسلمين بما أيدهم يوم بدر بالملائكة والنصر من عنده، وأكرمهم بأن نصرهم على المشركين الذين كانوا أشد منهم وأكثر عدَداً وعُدداً، وأعقبه بأن أعلمهم أن ذلك شأنه مع الكافرين به اعترض في خلال ذلك بتحذيرهم من الوهن والقرار، فالجملة معترضة بين جملة: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم} [الأنفال: 12] وبين جملة {فلم تقتلوهم} [الأنفال: 17] الآية وفي هذا تدريب للمسلمين على الشجاعة والإقدام والثبات عند اللقاء، وهي خطة محمودة عند العرب لم يزدها الإسلام إلاّ تقوية، قال الحُصين بن الحُمَام: تأَخَرْتُ أستبقي الحياةَ فلم أجد لنفسي *** حياةً مثلَ أنْ أتَقَدَّما وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في قتال بدر، ولعل مراد هذا القائل أن حكمها نزل يوم بدر ثم أثبتت في سورة الأنفال النازلة بعد الملحمة، أو أراد أنها نزلت قبل الآيات التي صدّرت بها سورة الأنفال ثم رتبت في التلاوة في مكانها هذا، والصحيح أنها نزلتْ بعد وقعة بدر كما سيأتي. واللقاء غلب استعماله في كلامهم على مناجزة العدو في الحرب. فالجملة استئناف ابتدائي، والمناسبة واضحة، وسيأتي عند قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثْبُتُوا} في هذه السورة (45)، وأصل اللقاء أنه الحضور لدى الغير. والزحْف أصله مصدر زَحَف من باب منع، إذا انبعث من مكانه متنقلاً على مقعدته يجررِ جيله كما يزحف الصبي. ثم أطلق على مشي المقاتل إلي عدوه في ساحة القتال زَحفٌ؛ لأنه يدنو إلى العدو باحتراس وترصد فرصة، فكأنه يزحف إليه. ويطلق الزحف على الجيش الدهْم، أي الكثير عددِ الرجال، لأنه لكثرة الناس فيه يثقل تنقله فوصف بالمصدر، ثم غلب إطلاقه حتى صار معنى من معاني الزحف ويجمع على زُحوف. وقد اختلفت طرق المفسرين في تفسير المراد من لفظ زحفاً} في هذه الآية فمنهم من فسره بالمعنى المصدري أي المشي في الحرْب وجلعه وصفاً لتلاحم الجيشين عند القتال، لأن المقاتلين يدبون إلى أقرانهم دبيباً، ومنهم من فسره بمعنى الجيش الدهْم الكثير العدد، وجعله وصفاً لذات الجيش. وعلى كلا التقديرين فهو: إما حال من ضمير {لقيتم} وإما من {الذين كفروا}، فعلى التفسير الأول هو نهي عن الانصراف من القتال فراراً إذا التحم الجيشان، سواء جَعلتَ زحفاً حالاً من ضمير {لقيتم} أو من {الذين كفروا}، لأن مشي أحد الجيشين يستلزم مشي الآخر. وعلى التفسير الثاني فإن جعل حالاً من ضمير لقيتم كان نهياً عن الفرار إذا كان المسلمون جيشاً كثيراً، ومفهومه أنهم إذا كانوا قلة فلا نهي، وهذا المفهوم مجمل يبينه قوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون إلى مع الصابرين} [الأنفال: 65، 66]، وإن جعل حالاً من {الذين كفروا} كان المعنى إذا لقيتموهم وهم كثيرون فلا تفروا، فيفيد النهي عن الفرار إذا كان الكفار قلة بفحوى الخطاب، ويؤول إلى معنى لا تُولوهم الأدبار في كل حال. وهذه الآية عند جمهور أهل العلم نزلت بعد انقضاء وقعة بدر، وهو القول الذي لا ينبغي التردد في صحته كما تقدم آنفاً، فإن هذه السورة نزلت بسبب الاختلاف في أنفال الجيش من أهل بدر عند قسمة مغانم بدر، وما هذه الآية إلاّ جزء من هذه السورة فحكم هذه الآية شَرْع شرعه الله على المسلمين بسبب تلك الغزوة لتوقع حدوث غزوات يكون جيش المسلمين فيها قليلاً كما كان يومَ بدر، فنهاهم الله عن التقهقر إذا لاقوا العدو. فأما يوم بدر فلم يكن حُكم مشروع في هذا الشأن، فإن المسلمين وقعوا في الحرب بغتة وتولى الله نصرهم. وحكم هذه الآية باق غير منسوخ عند جمهور أهل العلم، وروي هذا عن ابن عباس، وبه قال مالك، والشافعي، وجمهور أهل العلم، لكنهم جعلوا عموم هذه الآية مخصوصاً بآية {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً إلى قوله بإذن الله} (الأنفال: 65، 66. (والوجه في الاستدلال أن هذه الآية اشتملت على صيغ عموم في قوله: {ومَن يولهم يومئدٍ دبره} إلى قوله {فقد باء بغضب من الله} وهي من جانب آخر مطلقة في حالة اللقاء من قوله: {إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً} فتكون آيات {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين إلى قوله يغلبوا ألفين} [الأنفال: 65، 66] مخصصة لعموم هاته الآية بمقدار العدد ومقيدة لإطلاقها اللقاء بقيد حالة ذلك العدد، وروي عن أبي سعيد الخدري، وعطاء، والحسن، ونافع، وقتادة، والضحاك: أن هذه الآية نزلت قبل وقعة بدر، وقالوا إن حكمها نسخ بآية الضعفاء آية {إن يكن منكم عشرون صابرون} [الأنفال: 65] الآية وبهذا قال أبو حنيفة، ومآل القولين واحد بالنسبة لما بعد يَوم بدر، ولذلك لم يختلفوا في فقه هذه الآية إلاّ ما روي عن عطاء كما سيأتي، والصحيح هو الأول كما يقتضيه سياق انتظام آي السورة، ولو صح قول أصحاب الرأي الثاني للزم أن تكون هذه الآية قد نزلت قبل الشروع في القتال يوم بدر ثم نزلت سورة الأنفال فألحقت الآية بها، وهذا ما لم يقله أحد من أصحاب الأثر. وذهب فريق ثالث: إلى أن قوله تعالى: {فلا تولوهم الأدبار} الآية محكم عام في الأزمان، لا يخصص بيوم بدر ولا بغيره، ولا يخص بعدد دون عدد، ونسب ابنُ الفرس، عن النحاس، إلى عطاء بن أبي رباح، وقال ابن الفرس قال أبو بكر بن العربي هو الصحيح لأنه ظاهر القرآن والحديث، ولم يذكر أين قال ابن العربي ذلك، وأنا لم أقف عليه. ولم يستقر من عمل جيوش المسلمين، في غزواتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع الأمراء الصالحين في زمن الخلفاء الراشدين، ما ينضبط به مدى الإذن أو المنع من الفرار، وقد انكشف المسلمون يوم أُحُد فعنفهم الله تعالى بقوله: {إن الذين تولوا منكم يومَ التقي الجمْعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم} [آل عمران: 155] وما عفا عنهم إلاّ بعد أن استحقوا الإثم، ولما انكشفوا عند لقاء هوازن يوم حنين عنفهم الله بقوله: {ثم ولّيتم مدبرين} إلى قوله {ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفورٌ رحيمٌ} في سورة براءة (25 27) وذِكر التوبة يقتضي سبق الإثم. ومعنى {فلا تولوهم الأدبار} لا توجهوا إليهم أدباركم، يقال: ولي وجهه فلاناً إذا أقبل عليه بوجهه ومنه قوله تعالى: {فوَل وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة: 144] فيعدى فعل ولّى إلى مفعولين بسبب التضعيف، (ومجرده وَلِيَ) إذا جعل شيئاً والياً أي قريباً فيكون ولّى المضاعف مثل قرب المضاعف، فهذا نظم هذا التركيب. و (الأدبار) جمع دُبر، وهو ضدّ قُبُل الشيء وجهه، وما يَتوجه إليك منه عند إقباله على شيء وجعلِه أمامه، ودبره ظهره وما تراه منه حين انصرافه وجعله إياك وراءه، ومنه يقال استقبل واستدبر وأقبل وأدبر، فمعنى توليتهم الأدبار صرف الأدبار إليهم، أي الرجوع عن استقبالهم، وتولية الأدبار كناية عن الفرار من العدو بقرينة ذكره في سياق لقاء العدو، فهو مستعمل في لازم معناه مع بعض المعنى الأصلي، وإلاّ فإن صرف الظهر إلى العدو بعد النصر لا بد منه وهو الانصراف إلى المعسكر، إذ لا يفهم أحد النهي عن إدارة الوجه عن العدو، وإلاّ للزم أن يبقى الناس مستقبلين جيش عدوهم، فلذلك تعين أن المفاد من قوله: {فلا تولوهم الأدبار} النهي عن الفرار قبل النصر أو القتل. وعبر عن حين الزحف بلفظ اليوم في قوله {يومئذ} أي يوم الزحف أي يولهم يوم الزحف دُبره أي حين الزحف. ومن ثم استثني منه حالة التحرف لأجل الحيلة الحربية والانحياز إلى فِئَة من الجيش للاستنجاد بها أو لإنجادها. والمستثنى يجوز أن يكون ذاتاً مستثنى من الموصول في قوله {ومن يولهم} والتقدير: إلاّ رَجلاً مُتحرفاً لقتال، فحذف الموصوف وبقيت الصفة، ويجوز أن يكون المستثنى حالة من عموم الأحوال دل عليها الاستثناء أي إلاّ في حال تحرفه لقتال. و (التحرف) الانصراف إلى الحَرْف، وهو المكان البعيد عن وسطه فالتحرف مزايلة المكان المستقر فيه والعدولُ إلى أحد جوانبه، وهو يستدعي تولية الظهر لذلك المكان بمعنى الفرار منه. واللام للتعليل أي إلاّ في حال تحرف أي مجانبة لأجل القتال، أي لأجل أعماله إن كان المراد بالقتال الاسم، أو لأجل إعادة المقاتلة إن كان المراد بالقتال المصدر، وتنكير قتال يرجح الوجه الثاني، فالمراد بهذا التحرف ما يعبر عنه بالفَرّ لأجل الكرّ فإن الحرب كرّ وفرّ، وقال عمرو بن معديكرب: ولقد أجمَعُ رِجليَّ بها *** حذَر الموت وإني لفرور ولقد أعْطِفها كارهة *** حينَ للنفس من الموت هَرِير كل ما ذلك مني خُلُق *** وبكللٍ أنا في الروْع جدير والتحيز طلب الحَيْز فَيْعِل من الحَوْز، فأصل إحدى ياءيْه الواو، فلما اجتمعت الواو والياء وكانت السابقة ساكنة قلبت الواوُ ياء وأدغمت الياء في الياء، ثم اشتقوا منه تَحَيّز، فوزنه تَفَيْعَل وهو مختار صاحب «الكشاف» جرياً على القياس بقدر الإمكان، وجوّز التفتازاني أن يَكون وزنه تَفَعّل بناء على اعتباره مشتقاً من الكلمة الواقع فيها الإبدال والإدغامُ وهي الحَيز، ونظّره بقولهم: «تَدَيُّر» بمعنى الإقامة في الدار، فإن الدار مشتقة من الدوران ولذلك جُمعت على دُور، إلاّ أنه لما كثر في جمعها دِيَار ودِيرَة عوملت معاملة ما عينه ياء، فقالوا من ذلك تَدَيّرَ بمعنى أقام في الدار وهو تَفعّل من الدار، واحتَج بكلام ابن جني والمرزوقي في «شرح الحماسة»، يعني ما قال ابن جني في «شرح الحماسة» عند قول جابر بن حريش: إِذْ لا تخاف حُدُوجُنا قذْفَ النّوى *** قبلَ الفساد إِقامةً وتديرا التدير تفَعُّل من الدار وقياسه تدور إلاّ أنه لما كثر استعمالهم ديار أَنِسوا بالياء ووجدوا جانبها أوطا حسّاً وألين مسّاً فاجتروا عليها فقالوا تدير» وما قال المرزوقي «الأصل في تَدَير الواو ولكنهم بنوه على دِيَارِ لإلفِهم له بكثرة تردده في كلامهم». فمعنى {متحيزاً إلى فئة} أن يكون رجع القهقرى ليلتحق بطائفة من أصحابه فيتقوى بهم. والفِئَة الجماعة من الناس، وقد تقدم في سورة البقرة (249) في قوله: {كم من فئةٍ قليلةَ} وتطلق على مؤخرة الجيش لأنها يفيء إليها مَن يحتاج إلى إصلاح أمره أو مَن عَرض له ما يَمنعه من القتال من مرض أو جراحة أو يستنجد بهم، فهو تولَ لمقصد القتال، وليس المراد أن ينحاز إلى جماعة مستريحين لأن ذلك من الفرار، ويدخل في معنى التحيز إلى الفئة الرجوع إلى مقر أمير الجيش للاستنجاد بفئة أخرى، وكذلك القفول إلى مقر أمير المِصر الذي وجه الجيش للاستمداد بجيش آخر إذا رأى أميرُ الجيش ذلك من المصلحة كما فعل المسلمون في فتح إفريقية وغيره في زمن الخلفاء، ولما انهزم أبو عبيد بن مسعود الثقفي يوم الجسر بالقادسية، وقتل هو ومن معه من المسلمين، قال عمر بن الخطاب: هلاّ تَحيّز إليّ فأنا فِئتُهْ. وباء} رجع. والمعنى أن الله غضب عليه في رجوعه ذلك فهو قد رجع ملابساً لغضب الله تعالى عليه. ومناسبة (باء) هنا أنه يشير إلى أن سبب الغضب عليه هو ذلك البَوْء الذي باءه. وهذا غضب الله عليه في الدنيا المستحق الذم وغيره مما عسى أن يحرمه عناية الله تعالى في الدنيا، ثم يترتب عليه المصير إلى عذاب جهنم، وهذا يدل على أن توليه الظهر إلى المشركين كبيرة عظيمة. فالآية دالة على تحريم التولي عن مقابلة العدو حين الزحف. والذي أرى في فقه هذه الآية أن ظاهر الآية هو تحريم التولي على آحادهم وجماعتهم إذا التقوا مع أعدائهم في ملاحم القتال والمجالدة، بحيث إن المسلمين إذا توجهوا إلى قتال المشركين أو إذا نزل المشركون لمقاتلتهم وعزموا على المقاتلة فإذا التقى الجيشان للقتال وجب على المسلمين الثبات والصبر للقتال، ولو كانوا أقل من جيش المشركين، فإمّا أن ينتصروا، وإمّا أن يتشهدوا، وعلى هذا فللمسلمين النظر قبل اللقاء هل هم بحيث يستطيعون الثبات وجهه أولاً، فإن وقت المجالدة يضيق عن التدبير، فعلى الجيش النظر في عَدده وعُدده ونسبة ذلك من جيش عدوهم، فإذا أزمعوا الزحف وجب عليهم الثبات، وكذلك يكون شأنهم في مدة نزولهم بدار العدو، فإذا رأوا للعدو نجدة أو ازدياد قوة نظروا في أمرهم هل يثبتون لقتاله أو ينصرفون بإذن أميرهم، فإمّا أن يأمرهم بالكف عن متابعة ذلك العدو، وإمّا أن يأمرهم بالاستنجاد والعودة إلى قتال العدو كما صنع المسلمون في غزوة إفريقية الأولى، وهذا هو الذي يشهد له قوله تعالى: {إذا لقيتم فئة فاثبُتوا} [الأنفال: 45] وما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قام في الناس فقال: " يأيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " ولعل حكمة ذلك أن يمضي المسلمون في نصر الدين. وعلى هذا الوجه يكون لأمير الجيش، إذا رأى المصلحة في الانجلاء عن دار العدو وترككِ قتالهم، أن يغادر دار الحرب ويرجع إلى مقره، إذا أمن أن يلحق به العدو، وكان له من القوة ما يستطيع به دفاعهم إذا لحقوا به، فذلك لا يسمى تولية أدبار، بل هو رأي ومصلحة، وهذا عندي هو محمل ما رَوَى أبو داود والترمذي، عن عبد الله بن عمر: أنه كان في سرية بعثها النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فحاصَ الناسُ حَيْصة فكنت فيمن حَاص فلما برزنا قلنا كيف نصنع إذا دخلنا المدينة وقد فررنا من الزحف وبُؤنا بالغضب ثم قلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان لنا توبة أقمنا، وإن كان غير ذلك ذهبنا قال «فجلسنا لرسول الله قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا نحن الفرارون، فأقبل إلينا فقال لا بل أنتم العكّارون (أي الذين يكُرون يعني أن فراركم من قبيل الفرّ للكر، يقال للرجل إذا ولّى عن الحرب ثم كرّ راجعاً إليها عَكرَ أوْ اعتكر) وأنا فئة المسلمين» يَتأول لهم أن فرارهم من قبيل قوله تعالى: {أو متحيزاً إلى فئة} قال ابن عمر {فدنونا فقبلنا يده} فيفهم منه أن فرار ابن عمر وأصحابه لم يكن في وقت مجالدتهم المشركين، ولكنه كان انسلالاً لينحازوا إلى المدينة فتلك فِئَتُهم. وإنما حرم الله الفرار في وقت مناجزة المشركين ومجالدتهم وهو وقت اللقاء؛ لأن الفرار حينئذٍ يوقع في الهزيمة الشنيعة والتقتيل، وذلك أن الله أوجب على المسلمين قتال المشركين فإذا أقدم المسلمون على القتال لم يكن نصرهم إلا بصبرهم وتأييد الله إياهم، فلو انكشفوا بالفرار لأعمل المشركون الرماح في ظهورهم فاستأصلوهم، فلذلك أمرهم الله ورسوله بالصبر والثبات، فيكون ما في هذه الآية هو حكم الصبر عند اللقاء، وبهذا يكون التقييد بحال الزحف للإحتراز عن اللقاء في غير تلك الحالة. وأما آية {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} [الأنفال: 65] فقد بينت حكم العَدد الذين عليهم طلب جهاد المشركين بنسبة عددهم إلى عدد المشركين، ولعل هذا مراد ابن العربي من قوله: {لأنه ظاهر الكتاب والحديث} فيما نقله ابن الفرس.
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)} فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ}. الأظهر أن الفاء فصيحة ناشئة عن جملة: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم} [الأنفال: 12] تفصح عن مقدر قبلها شرط أو غيره والأكثر أن يكون شرطاً فتكون رابطة لجوابه، والتقدير هنا إذا علمتم أن الله أوحى إلى الملائكة بضرب أعناق المشركين وقَطْع إيديهم فلَمْ تقتلوهم أنتم ولكن الله قتلهم أي فقد تبين أنكم لم تقتلوهم أنتم، وإلى هذا يشير كلام صاحب «الكشاف» هنا وتبعه صاحب «المفتاح» في آخر باب النهي. ويجوز أن تكون الفاء عاطفة على جملة: {يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذي كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار} [الأنفال: 15] أي يتفرع على النهي عن أن تولوا المشركين الأدبار تنبيهكم إلى أن الله هو الذي دفع المشركين عنكم وأنتم أقل منهم عَددا وعُدة، والتفريع بالفاء تفريع العلة على المعلول، فإن كون قتل المشركين ورميهم حاصلاً من الله لأمن المسلمين يفيد تعليلاً وتوجيهاً لنهيهم عن أن يولوهم الأدبار. ولأَمْرهم الصبر والثبات وهو تعريض بضمان تأييد الله إياهم إن امتثلوا لقوله: {واصبروا إن الله مع الصابرين} [الأنفال: 46] فإنهم إذا امتثلوا ما أمرهم الله كان الله ناصرهم، وذلك يؤكد الوعيد على تولية الأدبار، لأنه يقطع عذر المتولين والفارين، ولذلك قال الله تعالى في وقعة أحد: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمْعاننِ إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} [آل عمران: 155]. وإذ قد تضمنت الجملة إخباراً عن حالة أفعال فعلها المخاطبون، كان المقصود اعلامهم بنفي ما يظنونه من أن حصول قتل المشركين يوم بدر كان بأسباب ضَرب سيوف المسلمين، فأنباهم أن تلك السيوف ما كان يحق لها أن تؤثر ذلك التأثير المصيب المطرد العام الذي حل بإبطال ذوي شجاعة، وذوي شوكة وشِكّة، وإنما كان ضرب سيوف المسلمين صورياً، أكرم الله المسلمين بمقارنته فعلَ الله تعالى الخارقَ للعادة، فالمنفي هو الضرب الكائنُ سببَ القتل في العادة، وبذلك كان القتل الحاصل يومئذٍ معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم وكرامة لأصحابه، وليس المنفي تأثير الضرب في نفس الأمر بناء على القضاء والقدر، لأنه لو كان ذلك لم يكن للقتل الحاصل يوم بدر مزية على أي قتل يقع بالحق أو بالباطل، في جاهلية أو إسلام، وذلك سياق الآية الذي هو تكريم المسلمين وتعليل نهيهم عن الفرار إذا لقوا. وليس السياق لتعليم العقيدة الحق. وأصل الخبر المنفي أن يدل على انتفاء صدور المسند عن المسند إليه، لا أن يدل على انتفاء وقوع المسند أصلاً فلذلك صح النفي في قوله: {فلم تقتلوهم} مع كون القتل حاصلاً، وإنما المنفي كونه صادراً عن أسبابهم. ووجه الاستدراك المفاد ب {لكن} أن الخبر نفى أن يكون القتل الواقع صادراً عن المخاطبين فكانَ السامعُ بحيث يتطلب أكان القتلُ حقيقة أم هو دون القتل، ومَن كان فاعلاً له، فاحتيج إلى الاستدراك بقوله: {ولكن الله قتلهم}. وقدم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله: {ولكن الله قتلهم} دون أن يقال ولكن قتلهم الله، لمجرد الاهتمام لا الاختصاص، لأن نفي اعتقاد المخاطبين أنهم القاتلون قد حصل من جملة النفي، فصار المخاطبون متطلبين لمعرفة فاعل قتل المشركين فكان مهمّاً عندهم تعجيل العلم به. استطراد بذكر تأييد إلهي آخرَ لم يُجر له ذكر في الكلام السابق، وهو إشارة إلى ما ذكره المفسرون وابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن حرّض المؤمنين على القتال يوم بدر أتاه جبريل فقال خذ قُبْضة من تراب فارمهم بها فأخذ حفنة من الحصاء فاستقبل بها المشركين ثم قال: «شاهت الوجوه» ثم نفحهم بها ثم أمر أصحابه فقال: شُدوا فكانت الهزيمة على المشركين، وقال غيره لم يبق مشرك إلا أصابه شيء من الحصا في عينيه فشغل بعينيه فانهزموا، فلكون الرمي قصة مشهورة بينهم حذف مفعول الرمي في المواضع الثلاثة، وهذا أصح الروايات، والمراد بالرمي رمي الحصباء في وجوه المشركين يوم بدر، وفيه روايات أخرى لا تناسب مهيع السورة، فالخطاب في قوله: {رميت} للنبيء صلى الله عليه وسلم والرمي حقيقته إلقاء شيء أمسكتْه اليد، ويطلق الرمي على الإصابة بسوء من فِعل أو قول كما في قول النابغة: رمَى الله في تلك الأكففِ الكَوانع *** أي أصابها بما يُشلها وقول جميل: رمَى الله في عيني بُثينة بالقذى *** وفي الغُر من أنيابها بالقوازح وقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} [النور: 6] فيجوز أن يكون {رميتَ} الأول وقولَه: {ولكن الله رمى} مستعملين في معناهما المجازي أي وما أصبت أعينَهم بالقذى ولكن الله أصابها به لأنها إصابة خارقة للعادة فهي معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم وكرامة لأهل بدر فنفيت عن الرمي المعتاد وأسندت إلى الله لأنها بتقدير خفي من الله، ويكون قوله: {إذ رميت} مستعملاً في معناه الحقيقي، وفي «القرطبي» عن ثعلب أن المعنى وما رميتَ الفزع والرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء فانهزموا، وفيه عن أبي عبيدة أن (رميتَ) الأول والثاني، و(رمى) مستعملة في معانيها الحقيقية، وهو ما درج عليه جمهور المفسرين وجعلوا المنفي هو الرمي الحقيقي والمثبت في قوله: {إذ رميت} هو الرمي المجازي وجعله السكاكي من الحقيقة والمجاز العقليين فجعل ما رميت نفياً للرمي الحقيقي وجعل (إذ رميت) للرمي المجازي. وقوله: {إذ رميت} زيادة تقييد للرمي وأنه الرمي المعروف المشهور، وإنما احتيج إليه في هذا الخبر ولم يؤت بمثله في قوله: {فلم تَقتلوهم} لأن القتل لما كانت له أسباب كثيرة كان اختصاص سيوف المسلمين بتأثيره غير مشاهد، وكان من المعلوم أن الموت قد يحصل من غير فعل فاعل غيرِ الله، لم يكن نفي ذلك التأثير، وإسناد حصوله إلى مجرد فعل الله محتاجاً إلى التأكيد بخلاف كون رمي الحصى الحاصل بيد الرسول صلى الله عليه وسلم حاصلاً منه، فإن ذلك أمر مشاهد لا يقبل الاحتمال، فاحتيج في نفيه إلى التأكيد إبطالاً لاحتمال المجاز في النفي بأن يُحمل على نفي رمي كامل، فإن العرب قد ينفون الفعل ومرادهم نفي كماله حتى قد يَجمعون بين الشيء وإثباته أو نفي ضده بهذا الاعتبار، كقول عباس بن مرداس: فلم أعْطَ شيئاً ولم أمْنع *** أي شيئاً مجدياً، فدل قوله: {إذ رميت} على أن المراد بالنفي في قوله: {وما رميت} هو الرمي بمعنى أثره وحصول المقصود منه، وليس المراد نفي وقوع الرمي مثل المراد في قوله: {فلم تقتلوهم} لأن الرمي واقع من يد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المراد نفي تأثيره، فإن المقصود من ذلك الرمي إصابة عيون أهل جيش المشركين وما كان ذلك بالذي يحصل برمي اليد، لأن أثر رمي البشر لا يبلغ أثره مبلغ تلك الرمية، فلما ظهر من أثرها ما عم الجيش كلهم، عُلم انتفاء أن تكون تلك الرمية مدفوعة بيد مخلوق، ولكنها مدفوعة بقدرة الخالق الخارجة عن الحد المتعارف، وأن المراد بإثبات الرمي في قوله: {ولكن الله رمى} كالقول في {ولكن الله قتلهم}. وقرأ نافع والجمهور {ولكن} بتشديد النون في الموضعين وقرأه ابن عامر، وحمزة، والكسائي بسكون النون فيهما. عطف على محذوف يؤذن به قوله: {فلم تقتلوهم} الآية وقوله {وما رميت} الآية. فإن قتلهم المشركين وإصابة أعينهم كانا الغرض هزم المشركين فهو العلة الأصلية، وله علة أخرى وهي أن يبلي الله المؤمنين بلاءً حسناً أي يعطيهم عطاءً حسناً يشكرونه عليه، فيظهر ما يدل عن قيامهم بشكره مما تختبر به طويتهم لمن لا يعرفها، وهذا العطاء هو النصر والغنيمة في الدنيا والجنةُ في الآخرة. وأعلم أن أصل مادة هذا الفعل هي البلاء وجاء منه الإبلاء بالهمز وتصريفُ هذا الفعل أغفله الراغب في «المفردات» ومن رأيتُ من المفسرين، وهو مضارع أبلاه إذا أحسن إليه مشتق من البلاء والبلوى الذي أصله الاختيار ثم أطلق على إصابة أحد أحداً بشيء يظهر به مقدار تأثره، والغالب أن الإصابة بشرّ، ثم توسع فيه فأطلق على ما يشمل الإصابة بخير قال تعالى: {ونبلُوكم بالشر والخير فتنةً} [الأنبياء: 35] وهو إطلاق كنائي وشاع ذلك الإطلاق الكنائي حتى صار بمنزلة المعنى الصريح، وبقي الفعل المجرد صالحاً للإصابة بالشر والخير، واستعملوا أبلاه مهموز أي أصابةُ بخير قال ابن قتيبة: «يقال من الخير أبليته إبلاء ومن الشر بلوته أبلوه بلاءً». قلت: جعلوا الهمزة فيه دالة على الإزالة أي إزالة البلاء الذي غلب في إصابة الشر ولهذا قال تعالى: {بلاء حسناً} وهو مفعول مطلق لفعل يُبليَ موكد له، لأن فعل يبلي دال على بلاء حسن وضمير {منه} عائد إلى اسم الجلالة و(من) الابتداء المجازي لتشريف ذلك الإبلاء ويجوز عود الضمير إلى المذكور من القتل والرمي ويكون (من) للتعليل والسببية. وقوله: {إن الله سميع عليم} تذييل للكلام و(إن) هذا مقيدة للتعليل والربط أي فعل ذلك لأنه سميع عليم، فقد سمع دعاء المؤمنين واستغاثتهم وعلم أنهم لعنايته ونصره فقبل دعاءهم ونصرهم.
{ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)} الإشارة ب {ذلكم} إلى البلاء الحسن وهذه الإشارة لمجرد تأكيد المقصود من البلاء الحسن وأن ذلك البلاء علة للتوهين. واسم الإشارة يفتتح به الكلام لمقاصد يجمعها التنبيه على أهمية ما يرد بعده كقوله تعالى: {هذا وإن للطاغين لشر مئابٍ} [ص: 55] ويجيء في الكلام الوارد تعليلاً كقوله تعالى: {ذلك بما قدمت أيديكم} [الأنفال: 51]. وعليه فاسم الإشارة هنا مبتدأ حذف خبره وعطف عليه جملة: {وأن الله موهن كيد الكافرين}. وقوله: {وأن الله} بفتح همزة (أن)، فما بعدها في تأويل مصدر، مجرور بلام التعليل محذوفة، والتقدير ولتوهين كيد الكافرين. ويجوز أن تكون الإشارة ب {ذلكم} إلى الأمرين، وهو ما اقتضاه قوله: {وما رميتَ إذ رميتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] من تعليل الرمي بخذل المشركين وهزمهم وإبلاء المؤمنين البلاء الحسن. وإفراد اسم الإشارة مع كون المشار إليه اثنين على تأويل المشار إليه بالمذكور كما تقدم في نظيره في سورة البقرة. و {كيد الكافرين} هو قصدهم الإضرار بالمسلمين في صورة ليست ظاهرها بمضرة، وذلك أن جيش المشركين الذين جاءوا لإنقاذ العِير لمّا علموا بنجاة عيرهم، وظنوا خيبة المسلمين الذين خرجوا في طلبها، أبوا أن يرجعوا إلى مكة، وأقاموا على بدر لينحروا ويشربوا الخمر ويضربوا الدفوف فرحاً وافتخاراً بنجاة عيرهم، وليس ذلك لمجرد اللهو، ولكن ليتسامع العرب فيتساءلوا عن سبب ذلك فيخبروا بأنهم غلبوا المسلمين فيصرفهم ذلك عن إتباع الإسلام، فأراد الله توهينهم بهزمهم تلك الهزيمة الشنعاء فهو موهن كيدهم في الحال وتقدم تفسير، الكيد عند قوله تعالى: {وأملي لهم إن كيدي متينٌ} في سورة [الأعراف: 183]. وقرأ نافع وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، {مُوَهِّنٌ} بفتح الواو وبتشديد الهاء وبالتنوين ونصب {كيدَ}، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف، ويعقوب، {مُوهِنٌ} بتسكين الواو وتخفيف الهاء ونصب {كيد} والمعنى على القراءتين سواء، وقرأ حفص عن عاصم بإضافة {مُوهِنٌ} إلى {كيد}، والمعنى وهي إضافة لفظية مساوية للتنكير.
{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)} جمهور المفسرين جعلوا الخطاب موجهاً إلى المشركين، فيكون الكلام اعتراضاً خوطب به المشركون في خلال خطبات المسلمين بمناسبة قوله: {ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين} [الأنفال: 18] والخطاب التفات من طريق الغيبة الذي اقتضاه قوله: {وأن الله موهن كيد الكافرين} [الأنفال: 18] وذكر المفسرون في سبب نزولها أن أبا جهل وأصحابه لما أزمعوا الخروج إلى بدر استنصروا الله تجاه الكعبة، وأنهم قبل أن يشرعوا في القتال يومَ بدر استنصروا الله أيضاً وقالوا ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه، فخوطبوا بأن قد جاءهم الفتح على سبيل التهكم أي الفتح الذي هو نصر المسلمين عليهم. وإنما كان تهكماً لأن في معنى {جاءكم الفتح} استعارة المجيء للحصول عندهم تشبيهاً بمجيء المُنجد لأن جعل الفتح جاءيا إياهم. يقتضي أن النصر كان في جانبهم ولمنفعتهم، والواقع يخالف ذلك، فعُلم أن الخبر مستعمل في التهكم بقرينة مخالفته الواقع بمسمع المخاطبين ومرآهم. وحَمل ابن عطية فعل {جاءكم} على معنى: فقد تبين لكم النصر ورأيتموه أنه عليكم لا لكم، وعلى هذا يكون المجيء بمعنى الظهور: مثل {وجاء ربك} [الفجر: 22] ومثل {جاء الحق وزهق الباطل} [الإسراء: 81] ولا يكون في الكلام تهكم. وصيغ {تستفتحوا} بصيغة المضارع مع أن الفعل مضى لقصد استحضار الحالة من تكريرهم الدعاء بالنصر على المسلمين، وبذلك تظهر مناسبة عطف {وإن تنتهوا فهو خير لكم} إلى قوله {وأن الله مع المؤمنين} أي تنتهوا عن كفركم بعد ظهور الحق في جانب المسلمين. وعطف الوعيدُ على ذلك بقوله: {وإن تَعُودوا نعد} أي: إن تعودوا إلى العناد والقتال نعد، أي نعد إلى هزمكم كما فعلنا بكم يوم بدر. ثم أيْأسهم من الانتصار في المستقبل كله بقوله: {ولن تُغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت} أي لا تنفعكم جماعتكم على كثرتها كما لم تغن عنكم يوم بدر، فإن المشركين كانوا يومئذٍ واثقين بالنصر على المسلمين لِكثرة عَددهم وعُدَدهم. والظاهر أن جملة: {إن تعودوا} معطوفة على جملة الجزاء وهي: {فقد جاءكم الفتح}. و {لو} اتصالية أي {لن} تغني عنكم في حال من الأحوال ولو كانت في حال كثرة على فئةِ أعدَائِكم، وصاحب الحال المقترنة ب (لو) الاتصالية قد يكون متصفاً بمضمونها، وقد يَكون متصفاً بنقيضه، فإن كان المراد من العَود في قوله: {وإن تعودوا} العود إلى طلب النصر للمُحق فالمعنى واضح، وإن كان المراد منه العود إلى محاربة المسلمين فقد يشكل بأن المشركين انتصروا على المسلمين يومَ أُحُد فلم يتحقق معنى نَعُد ولا موقع لجملة: {ولن تغني عنكم فئتكم} فإن فئتهم أغنت عنهم يوم أُحُد. والجواب عن هذا إشكال أن الشرط لم يكن بأداة شرط مما يفيد العموم مثل (مَهْما) فلا يُبطله تخلف حصول مضمون الجزاء عن حصول الشرط في مرة، أو نقول إن الله قضى للمسلمين بالنصر يوم اُحُد، ونصرهم وعلم المشركون أنهم قد غُلبوا ثم دارت الهزيمة على المسلمين؛ لأنهم لم يمتثلوا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرَحوا عن الموضع الذي أمرهم أن لا يبرحوا عنه طلباً للغنيمة فعوقبوا بالهزيمة كما قال: {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله} [آل عمران: 166] وقال {إن الذين تَولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} وقد مضى ذلك في سورة [آل عمران: 155]، وبعدُ ففي هذا الوعيد بشارة أن النصر الحاسم سيكون للمسلمين وهو نصر يوم فتح مكة. وجملة: وأن الله مع المؤمنين} على هذا التفسير زيادة في تأييس المشركين من النصر، وتنويه بفضل المؤمنين بأن النصر الذي انتصروه هو من الله لا بأسبابهم فإنهم دون المشركين عدداً وعُدة. ومن المفسرين من جعل الخطاب بهذه الآية للمسلمين، ونسب إلى أُبيّ بن كعب وعطاء، لكون خطاب المشركين بعد الهجرة قد صار نادراً، لأنهم أصبحوا بُعداء عن سماع القرآن، فتكون الجملة مستأنفة استينافاً بيانياً فإنهم لما ذُكروا باستجابة دعائهم بقوله: {إذ تستغيثون ربكم} [الأنفال: 9] الآيات، وأمروا بالثبات للمشركين، وذكروا بنصر الله تعالى إياهم يوم بدر بقوله: {فلم تقتلوهم إلى قوله مُوهن كيد الكافرين} [الأنفال: 17، 18] كان ذلك كله يثير سؤالاً يختلج في نفوسهم أن يقولوا أيكون كذلك شأننا كلما جاهدنا أم هذه مزية لوقعة بدر، فكانت هذه الآية مفيدة جواب هذا التساؤل. فالمعنى: إن تستنصروا في المستقبل قوله فقد جاءكم الفتح، والتعبير بالفعل الماضي في جواب الشرط للتنبيه على تحقيق وقوعه، ويَكون قوله {فقد جاءكم الفتح} دليلاً على كلام محذوف، والتقدير: إن تستنصروا في المستقبل ننصركم فقد نصرناكم يوم بدر. والاستفتاح على هذا التفسير كناية عن الخروج للجهاد، لأن ذلك يستلزم طلب النصر ومعنى {وإن تنتهوا فهو خير لكم} أي إن تمسكوا عن الجهاد حيث لا يتعين فهو أي الإمساك، خير لكم لتستجمعوا قوتكم وأعدادكم، فأنتم في حال الجهاد منتصرون، وفي حال السلم قائمون بأمر الدين وتدبير شؤونكم الصالحة، فيكون كقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تمنّوا لقاء العدو، وقيل المراد وإن تنتهوا عن التشاجر في أمر الغنيمة أو عن التفاخر بانتصاركم يوم بدر فهو خير لكم من وقوعه. وأما قوله: {وإن تعودوا نعد} على هذا التفسير فهو إن تعودوا إلى طلب النصر نعد فننصركم أي لا يُنقص ذلك من عطائنا كما قال زهير: سألنا فأعطيتكم وعدنا فعُدْتُم *** ومن أكثر التَسآل يوماً سيُحرم يُعلّمهم الله صدق التوجه إليه، ويكون موقع {ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً} زيادة تقرير لمضمون {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} وقوله: {وإن تعودوا نعد} أي لا تعتمدوا إلاّ على نصر الله. فموقع قوله: {ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً} بمنزلة التعليل لتعليق مجيء الفتح على أن {تستفتحوا} المشعر بأن النصر غير مضمون الحصول إلاّ إذا استنصروا بالله تعالى وجملَه {ولو كثرت} في موضع الحال، و{لو} اتصالية، وصاحب الحال متصف بضد مضمونها، أي: ولو كثرت فكيف وفئتكم قليلة، وعلى هذا الوجه يكون في قوله: {وأن الله مع المؤمنين} إظهار في مقام الإضمار، لأن مقتضى الظاهر أن يقال: وإن الله معكم، فعدل إلى الاسم الظاهر للإيماء إلى أن سبب عناية الله بهم هو إيمانهم. فهذان تفسيران للآية والوجدان يكون كلاهما مراداً. والفتح حقيقته إزالة شيء مجعول حَاجزاً دون شيء آخر، حفظاً له من الضياع أو الافتكاك والسرقة، فالجدار حاجز، والباب حاجز، والسد حاجز، والصندوق حاجز، والعِدل تجعل فيه الثياب والمتاع حاجز، فإذا أزيل الحاجز أو فرج فيه فرجة يسلك منها إلى المحجوز سميت تلك الإزالة فتحاً، وذلك هو المعنى الحقيقي، إذ هو المعنى الذي لا يخلو عن اعتباره جميع استعمال مادة الفتح وهو بهذا المعنى يستعار لإعطاء الشيء العزيز النوال استعارةً مفردةً أو تمثيلية وقد تقدم عند قوله تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء} [الأنعام: 44] وقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات} الآية في سورة [الأعراف: 96] فالاستفتاح هنا طلب الفتح أي النصر، والمعنى إن تستنصروا الله فقد جاءكم النصر. وكثر إطلاق الفتح على حلول قوم بأرض أو بلدِ غيرهم في حرب أو غارة، وعلى النصر، وعلى الحُكْم، وعلى معان أُخر، على وجه المجاز أو الكناية وقوله: وأن الله مع المؤمنين} وقرأه نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، بفتح همزة {أن} على تقدير لام التعليل عطفاً على قوله: {وأن الله موهن كيد الكافرين} [الأنفال: 18] وقرأه الباقون بكسر الهمزة، فهو تذييل للآية في معنى التعليل، لأن التذييل لما فيه من العموم يصلح لإفادة تعليل المذيّل، لأنه بمنزلة المقدمة الكبرى للمقدمة الصغرى.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} لما أراهم الله آيات لطفه وعنايته بهم، ورأوا فوائِد امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى بدر، وقد كانوا كارهين الخروج، أعقب ذلك بأنْ أمَرَهم بطاعة الله ورسوله شكراً على نعمة النصر، واعتباراً بأن ما يأمرهم به خيرٌ عواقبه، وحذرهم من مخالفة أمر الله ورسول صلى الله عليه وسلم وفي هذا رجوع إلى الأمر بالطاعة الذي افتتحت به السورة في قوله: {وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} [الأنفال: 1] رجوع الخطيب إلى مقدمة كلامه ودليلهِ ليأخذها بعد الاستدلال في صورة نتيجة أسفر عنها احتجاجُه، لأن مطلوب القياس هو عين النتيجة، فإنه لما ابتدأ فأمرهم بطاعة الله ورسوله بقوله: {وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} [الأنفال: 1] في سياق ترجيح ما أمرهم به الرسول عليه الصلاة والسلام على ما تهواه أنفسهم، وضرب لهم مثلاً لذلك بحادثة كراهتهم الخروج إلى بدر في بدء الأمر ومجادلتهم للرغبة في عدمه، ثم حادثة اختيارهم لقاء العير دون لقاء النفير خشية الهزيمة، وما نجم عن طاعتهم الرسول عليه الصلاة والسلام ومخالفتهم هواهم ذلك من النصر العظيم والغُنم الوفير لهم مع نزارة الرزء، ومن التأييد المبين للرسول صلى الله عليه وسلم والتأسيسسِ لإقرار دينه {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل} [الأنفال: 7، 8] وكيف أمدهم الله بالنصر العجيب لمّا أطاعوه وانخلعوا عن هواهم، وكيف هزَم المشركين؛ لأنهم شاقوا الله ورسوله، والمشاقة ضد الطاعة تعريضاً للمسلمين بوجوب التبرؤ مما فيه شائبة عصيان الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أمرهم بأمر شديد على النفوس ألا وهو {إِذَا لقيتم الذين كفروا زحْفاً فلا تولوهم الأدبار} [الأنفال: 15] وأظهر لهم ما كان من عجيب النصر لما ثبتوا كما أمرهم الله {فلَمْ تقتلوهم ولكن الله قتلهم} [الأنفال: 17]، وضمن لهم النصر إن هم أطاعوا الله ورسوله وطلبوا من الله النصر، أعقب ذلك بإعادة أمرهم بأن يطيعوا الله ورسوله ولا يتولوا عنه، فذلكة للمقصود من الموعظة الواقعة بطولها عقب قوله: {وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} [الأنفال: 1] وذلك كله يقتضي فصل الجملة عما قبلها، ولذلك افتتحت ب {يا أيها الذين آمنوا}. وافتتاح الخطاب بالنداء للاهتمام بما سيُلقى إلى المخاطبين قصداً لإحضار الذهن لوعي ما سيقال لهم، فنزّل الحاضر منزلة البعيد، فطلب حضوره بحرف النداء الموضوع لطلب الإقبال. والتعريف بالموصولية في قوله: {يا أيها الذين آمنوا} للتنبيه على أن الموصوفين بهذه الصلة من شأنهم أن يتقبلوا ما سيؤمرون به، وأنه كما كان الشرك مسبباً لمشاقة لله ورسوله في قوله: {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} [الأنفال: 13]، فخليق بالإيمان أن يكون باعثاً على طاعة الله ورسوله، فقوله هنا: {يأيها الذين آمنوا} يساوي قوله في الآية المردود إليها: {إن كنتم مؤمنين} [الأنفال: 1]، مع الإشارة هنا إلى تحقق وصف الإيمان فيهم وأن إفراغه في صورة الشرط في الآية السابقة ما قصد منه إلاّ شحذ العزائم، وبذلك انتظم هذا الأسلوب البديع في المحاورة من أول السورة إلى هنا انتظاماً بديعاً معجزاً. والطاعة امتثال الأمر والنهي. والتولي الانصراف، وتقدم آنفاً، وهو مستعار هنا للمخالفة والعصيان. وإفرادُ الضمير المجرور ب (عن) لأنه راجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إذ هذا المناسب للتولي بحسب الحقيقة. فإفراد الضمير هنا يشبه ترشيح الاستعارة، وقد علم أن النهي عن التولي عن الرسول نهي عن الإعراض عن أمر الله لقوله: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [الأعراف: 80] وأصل {تَولوا} تَتَولوا بتاءين حذفت إحداهما تخفيفاً. وجملة: {وأنتم تسمعون} في موضع الحال من ضمير {تولوا} والمقصود من هذه الحال تشويه التولي المنهي عنه، فإن العصيان مع توفر أسباب الطاعة أشد منه في حين انخرَام بعضها. فالمراد بالسمع هنا حقيقته أي في حال لا يعوزكم ترك التولي بمعنى الإعراض وذلك لأن فائدة السمع العمل بالمسموع، فمن سمع الحق ولم يعمل به فهو الذي لا يسمع سواء في عدم الانتفاع بذلك المسموع، ولما كان الأمر بالطاعة كلام يطاع ظهر موقع {وأنتم تسمعون} فلما كان الكلام الصادر من الله ورسوله من شأنه أن يقبله أهل العقول كان مجرد سماعه مقتضياً عدم التولي عنه، ضمن تولى عنه بعد أن سمعه فأمر عجب ثم زاد في تشويه التولي عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحذير من التشبه بفئة ذميمة يقولون للرسول عليه الصلاة والسلام: سمعنا، وهم لا يصدقونه ولا يعملون بما يأمرهم وينهاهم. و (إن) للتمثيل والتنظير في الحسَن والقبيح أثراً عظيماً في حث النفس على التشبه أو التجنب، وهذا كقوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً} [الأنفال: 47] وسيأتي وأصحاب هذه الصلة معروفون عند المؤمنين بمشاهدتهم، وبإخبار القرآن عنهم، فقد عرفوا ذلك من المشركين من قبل، قال تعالى: {وإذا تتلى عليهم آيتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا} [الأنفال: 31] وقال: {ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة} [الأنعام: 25]، وعن ابن عباس أن المراد بهم نفر من قريش، وهم بنو عبد الدار بن قصي، كانوا يقولون: نحن صم بكم عما جاء به محمد، فلم يسلم منهم إلاّ رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة، وبقيتهم قتلوا جميعاً في أُحُد، وكانوا أصحاب اللواء في الجاهلية، ولكن هؤلاء لم يقولوا سمعنا بل قالوا: نحن صم بكم، فلا يصح أن يكونوا هم المرادَ بهذه الآية بل المراد طوائف من المشركين، وقيل: المراد بهم اليهود، وقد عرفوا بهذه المقالة، واجهوا بها النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {ويقولون سمعنا وعصينا} [النساء: 46] وقيل: أريد المنافقون قال تعالى: {ويقولون طاعةٌ فإذا برزوا من عندك بيّتَ طائفةٌ منهم غير الذي تقول} [النساء: 81] وإنما يقولون سمعنا لقصد إيهام الانتفاع بما سمعوا، لأن السمع يكنى به عن الانتفاع بالسموع وهو مضمون ما حكي عنهم من قولهم {طاعة} ولذلك نفي عنهم السمع بهذا المعنى بقوله: {وهم لا يسمعون} أي لا ينتفعون بما سمعوه، فالمعنى هو معنى السمع الذي أرادوه بقولهم: {سمعنا} وهو إيهامهم أنهم مطيعون، فالواو في قوله: {وهم لا يسمعون} واو الحال. وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للاهتمام به ليتقرر مفهومه في ذهن السامع فيرسخ اتصافه بمفهوم المسند، وهو انتفاء السمع عنهم، على أن المقصود الأهم من قوله: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} هو التعريض بأهل هذه الصلة من الكافرين أو المنافقين لا خشية وقوع المؤمنين في مثل ذلك. وصيغ فعل {لا يسمعون} بصيغة المضارع لإفادة أنهم مستمرون على عدم السمع، فلذلك لم يقل وهم لم يسمعوا. وجملة: {إن شر الدواب عند الله الصُم البكم الذين لا يعقلون} معترضة، وسَوقها في هذا الموضع تعريض بالذين {قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} بأنهم يشبهون دواب صماء بكماء. والتعريض قد يكون كناية وليس من أصنافها فإن بينه وبين الكناية عموماً وخصوصاً وجهياً، لأن التعريض كلام أريد به لازم مدلوله، وأما الكناية فهي لفظ مفرد يراد به لازم معناه إما الحقيقي كقوله تعالى: {وأمرت لأن أكون أول المسلمين} [الزمر: 12]، وإما المجازي نحو قولهم للجواد: جبان الكلب إذا لم يكن له كلب، فأما التعريض فليس إرادة لازم معنى لفظ مفرد ولا لازم معنى تركيب، وإنما هو إرادة لنطق المتكلم بكلامه، قال في «الكشاف» عند قوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النساء} في سورة [البقرة: 235] التعريض أن تذكر شيئاً يدل به على شيء لم تذكره يريد أن تذكر كلاماً دالاً كما يقول المحتاج لغيره جئت لأسلم عليك. قلت: ومن أمثلة التعريض قول القائل حين يسمع رجلاً يسب مسلماً أو يضربه: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، فكذلك قوله تعالى: {إن شر الدوابّ عند الله الصم البكم} لم يرد به لازم معنى ألفاظ ولا لازم معنى الكلام، ولكن أريد به لازم النطق به في ذلك المكان بدون مقتض للإخبار من حقيقة ولا مجاز ولا تمثيل. والفرق بين التعريض وبين ضرب المثل: أن ضرب المثل ذكر كلام يدل على تشبيه هيئة مضربه بهيئة مورده، والتعريض ليس فيه تشبيه هيئة بهيئة. فالتعريض كلام مستعمل في حقيقته أو مجازه، ويحصل به قصد التعريض من قرينة سوقه فالتعريض من مستتبعات التراكيب. وهذه الآية تعريض بتشبيههم بالدواب، فإن الدواب ضعيفة الإدراك، فإذا كانت صماء كانت مثلاً في انتفاء الإدراك، وإذا كانت مع ذلك بكماً انعدم منها ما انعدم منها ما يعرف به صاحبها ما بها، فانضم عدم الإفهام إلى عدم الفهم، فقوله: {الصم البكم} خبرَاننِ عن الدواب بمعناهما الحقيقي، وقوله: {الذين لا يعقلون} خبر ثالث، وهذا عدول عن التشبيه إلى التوصيف لأن {الذين} مما يناسب المشبّهين إذ هو اسم موصول بصيغة جمع العقلاء وهذا تخلص إلى أحوال المشبهين كما تخلص طرفة في قوله: خذول تُراعي رَبْرباً بخميلة *** تَنَاول أطراف البرير وترتدي وتبسم عن ألْمى كأنّ منوّراً *** توسط حرُ الرمل دعص له نَدِي و{شر} اسم تفضيل، وأصله «أشر» فحذفت همزته تخفياً كما حذفت همزة خير كقوله تعالى: {قل هل أنبئكم بشرٍ من ذلك مثوبةً عند الله} [المائدة: 60] الآية. والمراد بالدواب معناه الحقيقي، وظاهر أن الدابة الصمّاء البكماء أخسّ الدواب. {عند الله} قيد أريد به زيادة تحقيق كونهم، أشر الدواب بأن ذلك مقرر في علم الله، وليس مجرد اصطلاح ادعائي، أي هذه هي الحقيقة في تفاضل الأنواع لا في تسامح العرف والاصطلاح، فالعُرف يُعد الإنسان أكمل من البهائم، والحقيقة تفصل حالات الإنسان فالإنسان المنتفع بمواهبه فيما يُبلغه إلى الكمال هو بحق أفضل من العُجم، والإنسان الذي دَلّى بنفسه إلى حَضيض تعطيل انتفاعه بمواهبه السامية يصير أحط من العجماوات. والمشبهون بالصم البكم هم الذين قالوا {سمعنا وهم لا يسمعون}، شبهوا بالصم في عدم الانتفاع بما سمعوا لأنه مما يكفي سماعه في قبوله والعمل به وشبهوا بالبكم في انقطاع الحجة والعجز عن رد ما جاءهم به القرآن فهمُ ما قبلوا ولا أظهروا عذراً عن عدم قبوله. ولما وصفهم بانتهاء قبول المعقولات والعجز عن النطق بالحجة أتبعه بانتفاء العقل عنهم أي عقل النظر والتأمل بله عقل التقبل، وقد وصف بهذه الأوصاف في القرآن كل من المشركين والمنافقين في مواضع كثيرة. ولعل ما روي عن ابن عباس من قوله إن الآية نزلت في نفر من بني عبد الدار كما تقدم آنفاً إنما عنى بهم نزول قوله تعالى: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} لأنهم الذين قالوا مقالة تقرب مما جاء في الآية. وجملة: {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم} يجوز أن تكون معطوفة على جملة: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم} الخ باعتبار أن الدواب مشبه به الذين قالوا {سمعنا وهم لا يسمعون} ويجوز أن تكون معطوفة على شبه الجملة في قوله: {كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} وقد سكت المفسرون عن موقع إعراب هذه الجملة وهو دقيق والمعنى أن جبلتهم لا تقبل دعوة الخير والهداية والكمال، فلذلك انتفى عنهم الانتفاع بما يسمعون من الحكمة والموعظة والإرشاد، فكانوا كالصم، وانتفى عنهم أن تصدر منهم الدعوة إلى الخير والكلام بما يفيد كمالاً نفسانياً فكانوا كالبكم، فالمعنى: لو علم الله في نفوسهم قابلية لتلقي الخير لتعلقت إرادته بخلق نفوذ الحق في نفوسهم لأن تعلق الإرادة يجري على وَفق التعلم، ولكنهم انتفت قابلية الخير عن جبلتهم التي جبلوا عليها فلم تنفذ دعوة الخير من أسماعهم إلى تعقلهم، أي بحيث لا يدخل الهدى إلى نفوسهم إلاّ بما يُقلب قلوبهم من لطف إلاّ هي بنحو اختراق أنوار نبوية إلى قلوبهم. و {لو} حرف شرط يقتضي انتفاء مضمون جملة الشرط وانتفاء مضمون جملة الجزاء لأجل انتفاء مضمون الشرط والاستدلالَ بانتفاء الجزاء على تحقق انتفاء الشرط. و (في) للظرفية المجازية التي هي في معنى الملابسة، ومن لطائفها هنا أنها تعبر عن ملابسه باطنية. ولما كان (لو) حرفاً يفيد امْتناع حصول جوابه بسبب حصول شرطه، كان أصل معنى {لوْ علم الله فيهم خيراً لأسمعهم} ولو كان في إدراكهم خير يعلمه الله لقبِلوا هديه ولكنهم لا خير في جبلة مداركهم فلا يعلم الله فيهم خيراً، فلذلك لم ينتفعوا بكلام الله فهُم كمن لا يسمع. فوقعت الكناية عن عدم استعداد مداركهم للخير، بعلم الله عدمَ الخير فيهم. ووقع تشبيه عدم انتفاعهم بفهم آيات القرآن بعدم إسماع الله إياهم، لأن الآيات كلام الله فإذا لم يقبلوها فكأن الله لم يُسمعهم كلامه فالمراد انتفاء الخير الجبلي عنهم، وهو القابلية للخير، ومعلوم أن انتفاء علم الله بشيء يساوي علمَه بعدمه لأن علم الله لا يختلف عن شيء. فصار معنى {لو علم الله فيهم خيراً} لو كان في نفوسهم خير، وعُبر عن قبولهم الخير المسموع وانفعاللِ نفوسهم به بإسماع الله إياهم ما يُبلغهم الرسول عليه الصلاة والسلام من القرآن والمواعظ، فالمراد انتفاء الخير الانفعالي عنهم وهو التخلّق والامتثال لِما يسمعونه من الخير. وحاصل المعنى: لو جبلهم الله على قبول الخير لَجَعَلَهم يسمعون أي يعملون بما يدخل أصماخهم من الدعوة إلى الخير. فالكلام استدلال بانتفاء فرد من أفراد جنس الخير. وذلك هو فرد الانتفاع بالمسموع الحق، على انتفاء جنس الخير من نفوسهم، فمناط الاستدلال هو إجراء أمرهم على المألوف من حكمة الله في خلق أجناسسِ الصفات وأشخاصها، وإن كان ذلك لا يخرج عن قدرة الله تعالى لو شاء أن يُجري أمرهم على غير المعتاد من أمثالهم. وبهذا تعلم أن كل من لم يؤمن من المشركين حتى مات على الشرك فقد انتفت مخالطة الخير نفسَه، وكل من آمن منهم فهو في وقت عناده وتصميمه على العناد قد انتفت مخالطة الخير نفسه ولكن الخير يلمع عليه، حتى إذا استولى نور الخير في نفسه على ظلمة كفره ألقى الله في نفسه الخيرَ فأصبح قابلاً للإرشاد والهدى، فحق عليه أنه قد علم الله فيه خيراً حينئذٍ فأسمعه. فمثَل ذلك مثل أبي سفيان، إذ كان فيما قبلَ ليلة فتح مكة قائِد أهل الشرك فلما اقترب من جيش الفتح وأُدخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلاّ الله، قال أبو سفيان: «لقد علمت أن لو كان معه إله آخر لقد أغنى عَني شيئاً» ثم قال له الرسول عليه الصلاة والسلام: " وأن تشهد أني رسول الله " فقال: أمّا هذه ففي القلب منها شيء» فلم يكمل حينئذٍ إسماع الله إياه، ثم تمّ في نفسه الخير فلم يلبث أن أسلم فأصبح من خيرة المسلمين. وجملة: {ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} معطوفة على جملة: {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم} أي لأفهمهم ما يسمعون وهو ارتقاء في الأخبار عنهم بانتفاء قابلية الاهتداء عن نفوسهم في أصل جبلتهم. فإنهم لما أخبر عنهم بانتفاء تعلمهم الحكمة والهدى فلذلك انتفى عنهم الاهتداء، ارتقى بالإخبار في هذا المعنى بأنهم لو قبلوا فهم الموعظة والحكمة فيما يسمعونه من القرآن وكلام النبوة لغلب ما في نفوسهم من التخلق بالباطل على ما خالطها من إدراك الخير، فحال ذلك التخلق بينهم وبين العمل بما علموا، فتولوا وأعرضوا. وهذا الحال المستقر في نفوس المشركين متفاوت القوة، وبمقدار تفاوته وبلوغه نهايته تكون مدة دوامهم على الشرك، فإذا انتهى إلى أجله الذي وضعه الله في نفوسهم وكان انتهاؤه قبل انتهاء أجل الحياة استطاع الواحد منهم الانتفاع بما يُلقى إليه فاهتدى، وعلى ذلك حال الذين اهتدوا منهم إلى الإسلام بعد التريّث على الكفر زمناً متفاوت الطول والقصر. وأعلم أن ليس عطف جملة: {ولو أسمعهم لتولوا} على جملة: {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم} بمقصود منه تفرعُ الثانية على الأولى تفرعُ القضايا بعضها على بعض في تركيب القياس، لأن ذلك لا يجيء في القياس الاستثنائي ولا أنه من تفريع النتيجة على المقدمات لأن تفريع الأقيسة بتلك الطريقة التي تشبه التفريع بالفاء ليس أسلوباً عربياً، فالجملتان في هذه الآية كل واحدة منهما مستقلة عن الأخرى، ولا تَجمع بينهما إلاّ مناسبة المعنى والغرض، فليس اقتران هاتين الجملتين هنا بمنزلة اقتران قولهم لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجوداً، ولو كان النهار موجوداً لدرجت الدواجن، فإنه قد ينتج: لو كانت الشمس طالعة لدرجت الدواجن، بواسطة تدرج اللزُومات في ذهن المحجوج تقريباً لفهمه، فإن ذلك بمنزلة التصريح بنتيحة ثم جعل تلك النتيجة الحاصلةِ مقدمةَ قياس ثان فتُطوى النتيجة لظهورها اختصاراً، وهذا ليس بأسلوب عربي إنما الأسلوب العربي في إقامة الدليل بالشرطية أن يقتصر على مقدّم وتال، ثم يُستدرَك عليه بالاستنتاج بذكر نقيض المقدم كقول أبَي بننِ سُلمى بن ربيعة يصف فرسه: ولو طار ذُو حافر قبلها *** لطارت ولكنه لم يطر وقول المعري: ولو دامتْ الدولات كانوا كغيرهم *** رعايا ولكنْ ما لهُنّ دوام أو بذكر مساوي نقيض المقدم كقول عَمرو بن معديكرب: فلَوْ أن قومي أنطقَتْني رماحُهم *** نَطقْتُ ولكن الرماحَ أجَرتِ فإن إجرار اللسان يمنع نطقه، فكان في معنى ولكن الرماح تُنطقني. والأكثر أنهم يستغنون عن هذا الاستدراك لظهور الاستنتاج من مجرد ذكر الشرط والجزاء. واعلم أن (لو) الواقعة في هذه الجملة الثانية من قبيل (لو) المشتهرة بين النحاة بلو الصهَيْبية (بسبب وقوع التمثيل بها بينهم بقول عمر بن الخطاب: «نعْم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» وذلك أن تستعمل (لو) لقصد الدلالة على أن مضمون الجزاء مستمر الوجود في جميع الأزمنة والأحوال عند المتكلم، فيأتي بجملة الشرط حينئذٍ متضمنة الحالة التي هي مظنة أن يتخلف مضمونُ عند حصلها الجزاء لو كان ذلك مما يحتمل التخلف، فقوله: «لو لم يخف الله لم يعصمه» المقصود منه انتفاء العصيان في جميع الأزمنة والأحوال حتى في حال أمنِه من غضب الله، فليس المراد أنه خاف فعصى، ولكن المراد أنه لو فرض عدم خوفه لما عصى، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {ولو أن ما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحرُ يَمُده من بعده سبعة أبحر ما نَفِدت كلماتُ الله} [لقمان: 27] فالمقصود عدم انتهاء كلمات الله حتى في حالة ما لو كُتبت بماء البحر كله وجعلت لها أعوادُ الشجر كله أقلاماً، لا أن كلمات الله تنفدْ إن لم تكن الأشجار أقلاماً والأبحر مداداً، وكذا قوله تعالى: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيءٍ قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلاّ أن يشاء الله} [الأنعام: 111] ليس المعنى لكن لم ننزل عليهم الملائكة ولا كلمهم الموتى ولا حشرنا عليهم كل شيء فآمنوا بل المعنى أن إيمانهم منتف في جميع الأحوال حتى في هذه الحالة التي شأنها أن لا ينتفي عندها الإيمان. وفي هذا الاستعمال يضعف معنى الامتناع الموضوعة له (لو) وتصير (لو) في مجرد الاستلزام على طريقة مستعملة المجاز المرسل وستجيء زيادة في استعمال (لو) الصهيبية عند قوله تعالى: {ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد} في هذه السورة [42]. فهكذا تقرير التلازم في قوله تعالى هنا: {ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} ليس المعنى على أنه لم يسمعهم فلم يتَولوا، لأن توليهم ثابت، بل المعنى على أنهم يتولون حتى في حالة ما لو سمعهم الله الإسماع المخصوص، وهو إسماع الإفهام، فكيف إذا لم يسمعوه. وجملة: {وهم معرضون} حال من ضمير تولوا وهي مبينة للمراد من التولي وهو معناه المجازي وصوغ هذه الجملة بصيغة الجملة الاسمية للدلالة على تمكن إعراضهم أي إعراضاً لا قبول بعده، وهذا يفيد أن من التولي ما يعقبه إقبال، وهو تولي الذين تولوا ثم أسلموا بعد ذلك مثل مصعب بن عمير.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}. إعادة لمضمون قوله: {يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله ورسوله} [الأنفال: 20] الذي هو بمنزلة النتيجة من الدليل أو مقصد الخطبة من مقدمتها كما تقدم هنالك. فافتتاح السورة كان بالأمر بالطاعة والتقوى، ثم بيان أن حق المؤمنين الكُمّل أن يخافوا الله ويطيعوه ويمتثلوا أمره وإن كانوا كارهين، وضرب لهم مثلاً بكَراهتهم الخروج إلى بدر، ثم بكراهتهم لقاء النفير وأوقفهم على ما اجتنوه من بركات الامتثال وكيف أيدهم الله بنصره ونصب لهم عليه أمارة الوعد بإمداد الملائكة؛ لتطمئن قلوبهم بالنصر وما لطف بهم من الأحوال، وجعل ذلك كله إقناعاً لهم بوجوب الثبات في وجه المشركين عند الزحف ثم عاد إلى الأمر بالطاعة وحذرهم من أحوال الذين يقولون سمعنا وهم لا يسمعون، وأعقب ذلك بالأمر بالاستجابة للرسول إذا دعاهم إلى شيء، فإن في دعوته إياهم إحياء لنفوسهم وأعلمهم أن الله يكسب قلوبهم بتلك الاستجابة قوى قدسية. واختير في تعريفهم، عند النداء، وصفُ الإيمان ليوميء إلى التعليل كما تقدم في الآيات من قبل، أي أن الإيمان هو الذي يقتضي أن يثقوا بعناية الله بهم فيمتثلوا أمره إذا دعاهم. والاستجابة: الإجابة، فالسين والتاء فيها للتأكيد، وقد غلب استعمال الاستجابة في إجابة طلب معيّن أو في الأعم، فأما الإجابة فهي إجابة لنداء وغلب أن يُعدى باللام إذا اقترن بالسين والتاء، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {فاستجاب لهم ربهم} في [آل عمران: 195]. (وإعادة حرف بعد واو العطف في قوله: {وللرسول} للإشارة إلى استقلال المجرور بالتعلق بفعل الاستجابة، تنبيهاً على أن استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم أعم من استجابة الله لأن الاستجابة لله لا تكون إلاّ بمعنى المجاز وهو الطاعة بخلاف الاستجابة للرسول عليه الصلاة والسلام فإنها بالمعنى الأعم الشامل للحقيقة وهو استجابة ندائِه، وللمجاز وهو الطاعة فأريد أمرهم بالاستجابة للرسول بالمعنيين كلما صدرت منه دعوة تقتضي أحدهما. ألا ترى أنه لم يُعَد ذكر اللام في الموقع الذي كانت فيه الاستجابة لله والرسول صلى الله عليه وسلم بمعنى واحد، وهو الطاعة، وذلك قوله تعالى: {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح} [آل عمران: 172] فإنها الطاعة للأمر باللحاق بجيش قريش في حمراء الأسد بعد الانصراف من أُحد، فهي استجابة لدعوة معينة. وإفراد ضمير {دعاكم} لأن الدعاء من فعل الرسول مباشرة، كما أفرد الضمير في قوله: {ولا تَولوا عنه} [الأنفال: 20] وقد تقدم آنفاً. وليس قوله: {إذا دعاكم لما يحييكم} قيْداً للأمر باستجابة، ولكنه تنبيه على أن دعاءه إياهم لا يكون إلاّ إلى ما فيه خير لهم وإحياء لأنفسهم. واللام في {لما يحييكم} لام التعليل أي دعاكم لأجل ما هو سبب حياتكم الروحية. والإحياء تكوين الحياة في الجسد، والحياة قوة بها يكون الإدراك والتحرك بالاختيار ويُستعار الإحياء تبعاً لاستعارة الحياة للصفة أو القوة التي بها كمال موصوفها فيما يراد منه مثل حياة الأرض بالإنبات وحياة العقل بالعلم وسداد الرأي، وضدها الموت في المعاني الحقيقية والمجازية، قال تعالى: {أمواتٌ غير أحياء} [النحل: 21] {أوَ من كان ميتاً فأحييناه} وقد تقدم في سورة [الأنعام: 122]. والإحياء والإماتة تكوين الحياة والموت. وتستعار الحياة والإحياء لبقاء الحياة واستبقائها بدفع العوادي عنها {ولكم في القصاص حياة} [البقرة: 179] {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً} [المائدة: 32]. والإحياء هذا مستعار لما يشبه إحياء الميت، وهو إعطاء الإنسان ما به كمال الإنسان، فيعم كل ما به ذلك الكمالُ من إنارة العقول بالاعتقاد الصحيح والخُلق الكريم، والدلالة على الأعمال الصالحة وإصلاح الفرد والمجتمع، وما يتقوم به ذلك من الخلال الشريفة العظيمة، فالشجاعة حياة للنفس، والاستقلال حياة، والحرية حياة، واستقامة أحوال العيش حياة. ولما كان دعاءُ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخلوا عن إفادة شيء من معاني هذه الحياة أمَر الله الأمة بالاستجابة له، فالآية تقتضي الأمر بالامتثال لما يدعو إليه الرسول سواء دعَا حقيقة بطلب القدوم، أم طلَب عمَلاً من الأعمال، فلذلك لم يكن قيدُ {لما يحييكم} مقصوداً لتقييد الدعوة ببعض الأحوال بل هو قيد كاشف، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدعوهم إلاّ وفي حضورهم لديْه حياةٌ لهم، ويكشف عن هذا المعنى في قيد {لما يحييكم} ما رواه أهل الصحيح عن أبي سعيد بننِ المُعَلى، قال: كنتُ أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ثم أتيتُه فقلت يا رسول الله إني كنتُ أصلي فقال: ألم يقل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم} ثم قال: ألا أعلمك صورة الحديث في فضل فاتحة الكتاب، فوقْفُه على قوله: {إذا دعاكم} يدل على أن {لِما يحييكم} قيدٌ كاشف وفي «جامع الترمذي» عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أبيّ بن كعب فقال: يا أبيّ وهو يصلي فالتفت أبَيّ ولم يجبه وصلى أبيّ فخفف ثم انصرف إلى رسول الله فقال: السلامُ عليك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليك السلام ما منَعك يا أبيّ أن تجيبني إذْ دعوتك فقال: يا رسول الله إني كنت في الصلاة فقال: أفلم تجد فيما أوحي إلي أن استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم قال: بَلَى ولا أعود إن شاء الله» الحديثَ بمثل حديث أبي سعيد بن المعلى قال ابن عطية: وهو مروي أيضاً من طريق مالك بن أنس (يريد حديث أبيّ بن كعب وهو عند مالك حضر منه عند الترمذي) قال ابن عطية وروي أنه وقع نحوُه مع حذيفة بن اليمان في غزوة الخندق، فتكون عدة قضايا متماثلة ولا شك أن القصد منها التنبيهُ على هذه الخصوصية لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم مقتضى ارتباط نظم الكلام يوجب أن يكون مضمونُ هذه الجملة مرتبطاً بمضمون الجملة التي قبلها فيكون عطفها عليها عطف التكملة على ما تُكمّلُه، والجملتان مجعولتان آية واحدة في المصحف. وافتتحت الجملة باعلموا؛ للاهتمام بما تتضمنه وحث المخاطبين على التأمل فيما بعدَه، وذلك من أساليب الكلام البليغ أن يفتتح بعض الجمل المشتملة على خبر أوْ طلببِ فهم باعْلم أو تَعَلمْ لَفتاً لذهن المخاطب. وفيه تعريض غالباً بغفلة المخاطب عن أمر مهم فمن المعروف أن المخبر أو الطالب ما يريد إلاّ علمَ المخاطب فالتصريح بالفعل الدال على طلب العلم مقصود للاهتمام، قال تعالى: {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفورٌ رحيمٌ} [المائدة: 196] وقال {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعبٌ ولهوٌ} [الحديد: 20] الآية وقال في الآية، بعد هذه {واعلموا أن الله شديد العقاب} [الأنفال: 25] وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي مسعود الأنصاري وقد رآه يضرب عبداً له «أعلم أبَا مسعود اعْلَم أبا مسعود: أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام» وقد يفتتحون بتَعَلّم أو تَعَلَمَنَّ قال زهير: قلتُ تعلَّمْ أن للصيد غرة *** وإلاّ تُضَيِّعْها فإِنك قاتلُه وقال زياد بن سَيّار: تَعلّمْ شفاء النفس قَهرُ عدوها *** فبالغْ بلطف في التحيُّل والمكر وقال بشر بن أبي خازم: وإلاّ فاعلموا أنّا وأنتُم *** بُغاةٌ ما بَقينا في شقاق و{أن} بعد هذا الفعل مفتوحة الهمزة حيثما وقعت، والمصدر المؤول يسُدّ مسدّ مفعولي عَلم مع إفادة (أن) التأكيد. والحَوْل، ويقال الحُؤُل: منع شيء اتصالاً بين شيئين أو أشياء قال تعالى: {وحالَ بينهما المَوج} [هود: 43]. وإسناد الحول إلى الله مجاز عقلي لأن الله منزه عن المكان، والمعنى يحولُ شأنٌ من شؤون صفاتِه، وهو تعلق صفة العلم بالإطلاع على ما يضمره المرء أو تعلق صفة القدرة بتنفيذ ما عزم عليه المرءُ أو بصرفه عن فعله، وليس المرادُ بالقلب هنا البضعة الصنوبرية المستقرة في باطن الصدر، وهي الآلة التي تدفع الدم إلى عروق الجسم، بل المراد عقل المرء وعزْمه، وهو إطلاق شائع في العربية. فلما كان مضمون هذه الجملة تكملة لمضمون الجملة التي قبلها يجوز أن يكون المعنى: واعلموا أن علم الله يخلُص بين المرء وعقله خُلوص الحائِللِ بين شيئين فإنه يكون شديد الاتصال بكليهما. والمراد ب {المرء} عمله وتصرفاته الجسمانية. فالمعنى: أن الله يعلم عزم المرء ونِيّته قبل أن تنفعل بعزمه جوارحُه، فشبه علم الله بذلك بالحائِل بين شيئين في كونه أشد اتصالاً بالمحول عنه من أقرب الأشياء إليه على نحو قوله تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد. وجيء بصيغة المضارع يحول} للدلالة على أن ذلك يتجدد ويستمر، وهذا في معنى قوله تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} [ق: 16] قاله قتادة. والمقصود من هذا تحذير المؤمنين من كل خاطر يخطر في النفوس: من التراخي في الاستجابة إلى دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم والتنصل منها، أو التستر في مخالفته، وهو معنى قوله: {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} [البقرة: 235]. وبهذا يظهر وقع قوله: {وأنه إليه تحشرون} عقبه فكان ما قبله تحذيراً وكان هو تهديداً وفي «الكشاف»، و«ابن عطية»: قيل إن المراد الحث على المبادرة بالامتثال وعدم إرجاء ذلك إلى وقت آخر خشية أن تعترض المرءَ موانع من تنفيذ عزمه على الطاعة أي فيكون الكلام على حذف مضاف تقديره: إن أجَل الله يحول بين المرء وقلبه، أي بين عمله وعزمه قال تعالى: {وأنْفقوا ممّا رزقناكم من قبل أن يأتي أحدَكم الموتُ} [المنافقون: 10] الآية. وهنالك أقوال أخرى للمفسرين يحتملها اللفظ ولا يساعد عليها ارتباط الكلام والذي حملنا على تفسير الآية بهذا دون ما عداه أن ليس في جملة: {أن الله يحول بين المرء وقلبه} إلاّ تعلق شأن من شؤون الله بالمرء وقلبه أي جثمانه وعقله دون شيء آخر خارج عنهما، مثل دعوة الإيمان ودعوة الكفر، وأن كلمة {بين} تقتضي شيئين فما يكون تحول إلاّ إلى أحدهما لا إلى أمر آخر خارج عنهما كالطبائِع، فإن ذلك تحويل وليس حُؤلاً. وجملة: {وأنه إليه تحشرون} عطف على {أن الله يحول بين المرء وقلبه} والضمير الواقع اسم (أن) ضمير اسم الجلالة، وليس ضمير الشأن لعدم مناسبته، ولإجراء أسلوب الكلام على أسلوب قوله: {أن الله يحول} الخ. وتقديم متعلق {تُحشرون} عليه لإفادة الاختصاص أي: إليه إلى غيره تحشرون، وهذا الاختصاص للكناية عن انعدام ملجإٍ أو مَخْبَإٍ تلتجئون إليه من الحشر إلى الله فكني عن انتفاء المكان بانتفاء محشورٍ إليْه غير الله بأبدع أسلوب، وليس الاختصاص لرد اعتقادٍ، لأن المخاطبين بذلك هم المؤمنون، فلا مقتضى لقصر الحشر على الكون إلى الله بالنسبة إليهم.
|